######OpenITI# #META# المؤلف: محمد الغزالي #META# bkid: 36039 #META# Shamela_short_metadata_record: #META# الكتاب : تأملات في الدين والحياة ¶ المؤلف : محمد الغزالي ¶ الناشر : دار نهضة مصر ¶ الطبعة : الأولي ¶ ملاحظة: [هذا الكتاب من كتب المستودع بموقع المكتبة الشاملة] #META# ملاحظة: [هذا الكتاب من كتب المستودع بموقع المكتبة الشاملة] #META# auth: محمد الغزالي #META# الناشر: دار نهضة مصر #META# Lng: محمد الغزالي السقا #META# الطبعة: الأولي #META# max: 212 #META# bk: تأملات في الدين والحياة #META# authinf: محمد الغزالي (1335 - 1416هـ، 1917 - 1996م). ¶ محمد الغزالي، عالم ومفكر إسلامي مصري كبير، ولد بمحافظة البحيرة بمصر. حفظ القرآن الكريم في كُتّاب القرية. التحق بكلية أصول الدين في جامعة الأزهر سنة 1937م وتخرج فيها سنة 1941م متخصصًا في مجال الدعوة، كما حصل على درجة التخصص في التدريس من كلية اللغة العربية عام 1943م. عمل في وزارة الأوقاف المصرية وتدرج فيها إلى أن عين وكيلاً أول للوزارة، كما عمل محاضرًا في مجال الدعوة وأصول الدين في جامعة الأزهر وجامعة أم القرى في مكة المكرمة. كان له دور كبير في نشر الوعي الإسلامي في أجهزة الإعلام في العديد من الدول العربية كالمملكة العربية السعودية وقطر والكويت والجزائر. وله الفضل في تطوير كلية الشريعة في قطر وإنشاء جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية بقسنطينة في الجزائر. تصدى لتيارات الغزو الفكري في العالم الإسلامي. ومن مؤلفاته: فقه السيرة؛ الإسلام والأوضاع الاقتصادية؛ دفاع عن العقيدة والشريعة؛ نظرات من القرآن؛ هموم داعية، بالإضافة إلى مئات المقالات في كثير من صحف العالم الإسلامي. حاز جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1409هـ، 1989م. ¶ نقلا عن ¶ الموسوعة العربية العالمية http://www.mawsoah.net #META# ndata: بسم الله5E886057لى سواء. #META# bkord: 10172 #META# archive: 23 #META# الكتاب: تأملات في الدين والحياة #META# authno: 486 #META# ad: 1416 #META# idx: 1 #META# comp: 1 #META# higrid: 1416 #META# cat: بحوث ومسائل - مرقم آليا #META# iso: تاملات في الدين والحياه #META# DownloadSource: Abū Yaʿqūb's Shamela database #META# DownloadDate: 2017? #META# ConversionDate: 2020-10-01 #META#Header#End# ### | CHECK [تأملات في الدين والحياة] # بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة لم أكن أتخيل فى طفولتى ولا يفاعتى أننى ~~سأكون يومآ ما داعية إلى الدين. وما حسبت ولا حسب القريبون منى أننى أصلح ~~للعمل فى هذا الميدان الذى تواضع الناس على ترشيح أقوام معينين له، يمتازون ~~بطراز خاص من الخلق والسلوك، ويضفى المجتمع عليهم تقاليد دقيقة تتحكم فى ~~بيئاتهم وهيئاتهم... وسائر مناحى حياتهم. إننى لا أطيق التزمت، ولو تكلفته ~~ما أحسنته! وأحب أن أسترسل مع سجيتى فى أخذ الأ مور وتركها، وقلما أكترث ~~للتقاليد الموضوعة... والمفروض أن اللازمة الأولى فى رجال الدين- كما ~~يسمون- أنهم أهل توقر وسكون. وأنا أجنح إلى المرح عن رغبة عميقة، وأتلمس ~~الجوانب الضاحكة فى كل شىء، وأود لو استطعت أن أعيش هاشآ باشآ... والمفروض ~~أن الناس يتوقعون من أمثالنا تواصل الأحزان، وإطراق الكآبة، وحتى يكون ~~تذكيره بالآخرة، وإنذاره العصاة بالنار، متفقآ مع مخايل الجد والعبوس التى ~~لا تفارق وجهه أبدآ!! ثم إنى شعبى فى تصرفى، لو كنت ملكآ لأبيت إلا ~~الانتظام فى سلك الأخوة المطلقة مع الجماهير الدنيا، أخدمهم ويخدموننى على ~~سواء! وقد فكر أحد الفراشين أن يزوجنى ابنته، يحسبنى غير متزوج! وضحكت ~~مسرورآ، لأن الرجل لم يلمح فى نفسى أثارة من كبرياء تصده عنى أو تصدنى عنه، ~~برغم ما يفرضه الناس بيننا من تفاوت شاسع فى الطبقات!! ولماذا أمضى فى شرح ~~نفسى؟ وماذا يعنى القراء من ذلك؟ الذى يهم أن مؤهلات "رجل الدين " الذى ~~يمشى رويدا ، وينحصر فى حدود حكمة من المراسم، ويشرف من قمته على الناس، ~~ويرسل يده لتقبلها العامة.. إلى آخر كل ذلك كان وما زال بعيدا عنى. وقد ~~تكون الأيام غيرت منى، والتجارب القاسية علمتنى ، فجعلتنى وأنا الضحوك ~~المبتهج- أغوص فى بحار من الأكدار، أو أتحرى موضع قدمى وأنا أسير بين الناس، # ص _004 PageV01P001 ~~كأنما أحاذر شراكآ منصوبة، أو أصعر خدى.. علم الله لا عن كبر- بل إحجامآ عن ~~قبول الدنية ورفضآ لهضم الحقوق! وما اضطررت إليه من عمل ينافى طبعى، فإن ~~مرده طبيعة ms001 الأحوال التى أحيا فيها، وليس ألبتة من طبيعة الرسالة التي ~~أؤديها بعد ما صرت إلى ما خطه القدر لى، أى رجلآ من الدعاة إلى الله! وهمزة ~~وصل بين الأرض والسماء! . وقد استبان لى بعد ما درست الدين عن بصر وعلى ~~مكث، أن الخصال التى تردنى فى وهم الناس عنه، هى أصدق المرشحات لحمل ~~تعاليمه والوصول بالبشرية إلى أهدافه! وعلمت بعد اختبار صحيح للرجال ~~الملتصقين بالدين من رسميين وشعبيين، وللرجال المبتعدين في الدين من ملحدين ~~ومتهمين، صدق ما قاله النبى صلوات الله عليه وسلامه: "رب كاسية في الدنيا ~~عارية يوم القيامة". إن العصاة الضارعين أدنى إلى الله من الزهاد المدلين، ~~وإن الرجل الذى يشبه الطفل فى مسالكه أقرب إلى فطرة الله من أولئك الذين ~~أحاطوا أشخاصهم بهالات من التصنع الدقيق لما يفعلون ويتركون. ولا ريب أنه- ~~بعيدا عن دائرة الدين- يوجد قطعان من الناس نزلوا إلى درك سحيق من الفساد، ~~كبارهم وحوش، وصغارهم ذباب... ووظيفة الأنبياء الأولين - ومن خلفهم فى ~~القيام على رسالتهم- بذل الجهد فى تقويم هؤلاء، وإسداء النصح لهم، ~~والحيلولة بينهم وبين موارد الشر، التى يتهاوون إليها بغرائزهم. وهذا أجل ~~عمل يمنحه إنسان إنسانا. وما يستطيعه فى هذه الحياة إلا الأقلون، بل إن ~~الطاقة الروحية الدافقة التى تسكب من نقائها على القلوب الملوثة فتغسلها من ~~أدرانها ، وترفعها عن حضيضها ، ليست متاحة لمن ابتغاها من الناس، ولكن ~~القدر يصطفى لذلك مواهب وكفايات فريدة (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه ~~يعدلون). وأين الديانون الذين يريدون للحياة صوابها إذا فقدت صوابها؟ إنهم ~~قليلون جدا. ص _005 PageV01P002 ~~والناس يحتسبون فى حملة الوحى الداعين إلى الله: أن غرائز الحياة ماتت فى ~~دمائهم، وأن تجردهم لما عرفوا به يتقاضاهم ذلك!. وهذا خطأ، فإن الواجب فى ~~حق هؤلاء أن يكون ما عند الله أرجح فى نفوسهم من غرائز الحياة كلها، ومعنى ~~ذلك أن حظهم من الدنيا قد يكون أكبر فى حقيقته من حظوظ غيرهم، ولكنه مهما ~~كبر يتضاءل أمام ما فى نفس الرجل المؤمن من حب للخير ms002، وتضحية فى سبيله! ~~والتقى حقآ هو الرجل الذى أوتى من علو الهمة وطول الباع ما يمكنه من تملك ~~الدنيا... ثم هو قد أوتى إلى جانب ذلك من صدق اليقين واحترام الحق والنزوع ~~إلى الكمال ما يجعله يزدرى ذلك كله فى ساعة فداء وتضحية! وقد اختلطت بفئات ~~شتى تنتسب إلى الدين فراعنى أن هذا الصنف- كما قلت- عزيز المنال. هناك ~~جمهور ضخم من العامة سليم الصدر صريح الهدف يشترك مع الملأ الأعلى فى نقاء ~~صحيفته واستقامة سريرته. وهناك نفر من المرشدين مشموا فى آثار النبوة ~~وصدقوا الله جهادهم ومحضوه عملهم.. بيد أنه كما ظهر قديمآ أنبياء كذبة يوجد ~~متاجرون بالدعوة إلى الله مصابون فى عقولهم أو ضمائرهم بلوثات عكرت رونق ~~الدين، وأفسدت شئون الحياة. وقد يسبق الوهم إلى أنى أقصد فقط طوائف ~~المحترفين المعروفين... ولئن كان هؤلاء ممن نعنيهم... إنهم ليسوا الخطر ~~كله... فلنذكر فى معرض الزراية عشرات من الرجال المدنيين أخفقوا فى أعمالهم ~~وانهزموا فى ساحتها... ثم، كما يتحول اللص العاجز إلى واحد من رجال الشرطة، ~~يتحول أولئك المهزمون إلى مبشرين بالدين، ويزحمون "الجمعيات " الدينية ~~ليحرسوا الإيمان! وكان أولى بهم- لو عقلوا - أن يخدموا الدين إتقان الأعمال ~~التى توفروا عليها وتخصصوا فيها... لا أن يخدموه بالخطب والمظاهرات، فإن ~~بلاء الدين بدأ يوم تحول طقوسا وتلاوات، وانقطع عن ملاحقة العمران، ~~والهيمنة على البواعث والغايات فى أعمال الإنسان. فى هذا الكتاب صور ~~وخواطر، وبحوث ولفتات، لا يجمعها فى نسق مؤتلف إلا هذا PageV01P003 ~~العنوان العام "تأملات فى الدين والحياة "، وقد كتبت أكثرها منذ أعوام. ~~وربما كانت فى وضعها الجديد قد تجردت من الملابسات التى أوحت بها، إلا أن ~~ذلك ص _006 # لا يغض من قيمتها، فقد عالجت أمورا لا تزال تستحق المزيد من النقد ~~والنظر! وخير ما فيها أنها عرضت الدين على الناس نابضا بالحياة والحركة، ~~ونشدت للحياة ضوابط الإيمان والتقى. وعهد الناس بالدين أنه طريق إلى البلى. ~~وبالدنيا أنها لا تنضج وتشتهى إلا بعيدة عن وحيه وهداه.. " من هذه التأملات ~~ألفت عدة كتب ms003 قرأها الناس بحوثا مستقلة بعد ما طالعوها مقالات مبعثرة. وقد ~~يلحظ القراء تشابها فيما سيجدونه هنا من فكر طوال أو قصار، وبين ما ظهر ~~لغيرى من رسائل ومؤلفات. ربما كان اتحاد الطريق والوجهة سر هذا التلاقى ، ~~وذلك ما أرجحه! وأيا ما كان الأمر، فإن هذه الأفكار من الناحية الفنية، ~~والتاريخية قد نشرت قبل أن يبدو غيرها فى ميدان الأدب بأمد طويل، عندما كنت ~~أحرر مجلة الإخوان المسلمين... على أن الإسلام، من حيث هو دين، ليس وصف ~~معالمه حكرا لأحد. والمثوبة التى يرتجيها المؤمنون، لا يعرف من سوف يظفر ~~بها، السابقون أم اللاحقون؟ محمد الغزالي ص _007 PageV01P004 ~~سياسية الحرية والكفاح . ثمن واحد... لبضائع مختلفة: إن الشجاعة قد تكلف ~~صاحبها فقدان حياته، فهل الجبن يقى صاحبه شر المهالك؟ كلا. فالذين يموتون ~~فى ميادين الحياة وهم يولون الأدبار أضعاف الذين يموتون وهم يقتحمون ~~الأخطار...؟ وللمجد ثمنه الغالى الذى يتطوع الإنسان بدفعه، ولكن الهوان لا ~~يعفى صاحبه من ضريبة يدفعها وهو كاره حقير. ومن ثم فالأمة التى تضن ببنيها ~~فى ساحة الجهاد تفقدهم أيام السلم. والتى لا تقدم للحرية أبطالا يقتلون وهم ~~سادة كرام، تقدم للعبودية رجالا يشنقون وهم سفلة لئام. وهكذا من لم يسهر ~~نفسه للتعليم أياما، أسهره الجهل أعواما، ولو حسبنا ما فقده الشرق تحت وطأة ~~الجهل والفقر والمرض لوجدناه أضعاف ما فقده الغرب وهو يبحث عن العلم والغنى ~~والصحة!! وما دام الشىء وضده يكلفان الكثير فلماذا نرضى بالحقير ولا نطمع ~~فى الخطير؟ ألا ما أجمل قول الشاعر: إذا ما كنت فى أمر مروم فلا تقنع ~~بمادون النجوم! فطعم الموت فى أمر حقير كطعم الموت فى أمر عظيم والذين ~~يحسبون البذل فى سبيل الله مغرما يستحق الرثاء، والموت فى سبيل الله تضحية ~~تستحق العزاء، هم قوم ليسوا من الدين فى شىء، ولا من الدنيا فى شىء. وحق ~~على هؤلاء أن يدفنوا وهم أحياء، وأن يرقدوا فى مهاد الذل لا ليستريحوا، ~~ولكن لتستجاب فيهم دعوة خالد بن الوليد: "لا نامت أعين الجبناء". إن اللصوص ms004 ~~عندما يقومون بمغامراتهم الجريئة للسلب والنهب لا يأخذون من الموت أمانا، ~~ولا ينالون من الحظ ضمانا، بل يقدمون وهم يعرفون أن القتل والعذاب لهم ص _008 PageV01P005 ~~بالمرصد. ومع ذلك لا يهابون. فكيف الحال إذا تشجع اللصوص وخاف أصحاب الحقوق ~~المهددة وساورتهم الهواجس على أموالهم وأولادهم؟ كيف الحال إذا أقبلت الدول ~~الضاربة الغاصبة، وأدبرت الدولة المضروبة المغصوبة؟! كيف الحال إذا ضحى ~~أصحاب العدوان ونكص أصحاب الإيمان؟! إن القرآن يخاطب المؤمنين فى صراحة ~~مبينا لهم أن المغارم قسمة عادلة بين المؤمنين والكافرين جميعا فى ميادين ~~الكفاح والبقاء. فأيما امرئ نكص على عقبيه مهزوما فقد سقط من عين الله!! ~~يقول القرآن لأصحاب الحق (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله). ويقول: ~~(ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون) فهل ~~يفر من الألم والجرح والتعب، والكدح فى سبيل الله إلا مجرم دنىء. (ومن ~~يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ~~ومأواه جهنم وبئس المصير) عندما تمشت مصر مع قواعد الشرف والنجدة والأخوة ~~وقررت أن تحمل السلاح لإنقاذ الأرض المقدسة من إخوان القردة الذين يريدون ~~انتهابها ، تذاكر الناس أن البرلمان قرر بضعة ملايين من الجنيهات، وأن جيش ~~مصر سيواجه فى فلسطين أقواما أولى بأس شديد!! قلت ليس فى شىء من هذا ما ~~يتعاظم الناس فعله. فإن مصر وحدها تنفق 60 مليونا من الجنيهات على الدخان. ~~تلك الحماقة التى تحرق بين الأصابع والشفاه، على غير فائدة. فهل كلفنا ~~ميدان الشرف نصف ما كلفنا ميدان الترف؟ كلا.. ذاك فى المال، أما فى الرجال ~~فكم سنقدم من الشهداء الأبرار فداء لعقيدتنا وكرامتنا؟ إن ضحايا هذا الجهاد ~~النبيل- إن صحت تسميتهم ضحايا- لن يبلغوا أبدا نصف ما قدمته هذه البلاد ~~لأوبئة الحمى أو الكوليرا فى عام واحد. وشتان بين موت وموت!! ص _009 PageV01P006 ~~فلنحمل مواثيق الكرامة بعزة وشمم.. ولنأخذ سبيلنا الفذة فى طليعة الأمم!. ~~ولندفع الثمن فى سبيل الله طوعا وإلا دفعناه فى سبيل الشيطان على رغمنا، ثم ms005 ~~لا أجر لنا. (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا ~~تمتعون إلا قليلا * قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد ~~بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا). . ضريبة الدم والمال: ~~الرجل الذى يعيش لنفسه فقط، لا ينتفع به وطن، ولا تعتز به عقيدة ولا ينتصر ~~به دين. ولا قيمة لإنسان يكرس حياته لإشباع شهواته وقضاء لباناته فإذا فرغ ~~منها لم يهتم لشىء ولم يبال بعدها بمفقود أو موجود! مثل هذا المخلوق لا ~~يساوى فى ميزان الإسلام شيئا. ولا يستحق فى الدنيا نصرا ولا فى الآخرة ~~آجرا. لا قيمة للإنسان إلا إذا آمن بربه ودينه. ولا قيمة لهذا الإيمان إلا ~~إذا أرخص الإنسان فى سبيله النفس والمال. وقد بين لنا القرآن الكريم أن ~~الرجل! قد يحب أن يعيش آمنا فى سربه، وادعا بين ذويه وأهله، سعيدا فى ~~تجارته، أو مطمئنا فى وظيفته، مستقرا فى بيته ومستريحا بين أولاده وزوجته. ~~بيد أنه إذا دعا الداعى إلى الحرب وقرعت الآذان صيحات الجهاد فيجب أن ينسى ~~الإنسان هذا كله. وأن يذهل عنه فلا يفكر إلا فى نصرة ربه وحماية دينه ~~وإنقاذ آله ووطنه... وإلا فإن الإسلام منه برىء: (قل إن كان آباؤكم ~~وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون ~~كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا ~~حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين). والأمة التى تستثقل ~~أعباء الكفاح وتتضايق من مطالب الجهاد إنما تحفر لنفسها قبرها وتكتب على ~~بنيها ذلا لا ينتهى آخر الدهر! ص _010 PageV01P007 ~~وما ساد المسلمون إلا يوم أن قهروا نوازع الخوف، وقتلوا بواعث القعود، ~~وعرفتهم ميادين الموت أبطالا يردون الغمرات ويركبون الصعاب. وما طمع ~~الطامعون فيهم إلا يوم أن أخلدوا إلى الأرض، وأحبوا معيشة السلم، وكرهوا أن ~~يدفعوا ضرائب الدم والمال. وهى ضرائب لابد منها لحماية الحق وصيانة الشرف، ~~ولا بد منها لمنع الحرب وتأييد السلام، إن كرهنا ms006 الحرب وأحببنا السلام... ~~إن كثيرا من المسلمين يحبون أن يعيشوا معيشة الراحة والهدوء والاستكانة ~~برغم ما يهدد بلادهم من أخطار، وما يكتنف مستقبلهم من ظلمات، وحسبهم من ~~الدنيا أن يبحثوا عن الطعام والكسوة، فإذا وجدوا من ذلك ما يسد المعدة ~~ويوارى السوأة فقد وجدوا أصول الحياة، واستغنوا عن فضولها! وتلك لعمرى أحقر ~~حياة وأذلها، وما يليق ذلك بأمة كريمة على نفسها، بله أمة كريمة على الله ~~أورثها كتابه وكلفها أن تعمل به وأن تدعو الناس إليه! ألم يسمع هؤلاء أنباء ~~الحروب العظيمة التى دارت رحاها فى الغرب؟ ألم يروا ضروب البسالة وألوان ~~التضحية التى كان يبذلها كل فريق؟ ألم يروا كيف أن جنودا تنتحر ولا تستسلم ~~للأسر، وأن فرقا من الفدائيين كانت تقف حياتها على المهمات القاتلة، فهم ~~يدفعون أرواحهم ثمنا لها، فى غير وجل أو تردد. فأى حياة ترجوها الشعوب ~~الخوارة والكسول إلى جانب هؤلاء؟ وأى نصر يطلبه أهل الحق إذا أغلوا حياتهم ~~على حين يرخص أهل الباطل أنفسهم فى سبيل ما يطلبون؟ وإذا ضننا على القه ~~بضريبة الدم والمال، فما طمعنا فى نصرته أو أملنا فى جنته، وهو القائل: (إن ~~الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل ~~الله فيقتلون ويقتلون). إن الإسلام دين فداء ودين استشهاد. عرفه كذلك ~~أسلافنا الأمجاد فأحرقوا أعصابهم وعظامهم فى سبيل الله، لا يبالون بالموت! ~~كيف وهو الذى يطلبون، وفيه ص _011 PageV01P008 ~~يرغبون؟ فكان هذا الشعور الغامر هو الدعامة المكينة التى بنوا عليها ~~تاريخهم، وسجلوا فيه صحائف خلودهم، فعاش من عاش سعيدا، ومات من مات شهيدا. ~~أما الرجل الذى ينصرف إلى الدنيا ويترك دينه ينهزم فى كل ميدان فلن ينال ~~خير الدنيا ولن يذوق حلاوة الإيمان، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم " لن ~~يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين " . . ~~بالنفس والنفيس: عن شداد بن الهاد: أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله عليه ~~وسلم فآمن به ثم قال له: أهاجر معك؟- وكان من ms007 الأعراب البدو- فأوصى به ~~النبى كل صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه وضمه إلى جنده... فكانت غزاة انتصر ~~فيها المسلمون وغنم النبى فيها شيئا، فقسمه على من معه وأرسل إلى الأعرابى ~~نصيبه! فلما وصل إلى الأعرابى قال: ما هذا؟ قال: حظك من الغنيمة قسمته لك! ~~قال: ما على هذا اتبعتك! ولكن اتبعتك على أن أرمى بسهم إلى ههنا- وأشار إلى ~~حلقه بيده- فأموت، فأدخل الجنة. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : إن ~~تصدق الله يصدقك. ثم نهضوا فى قتال العدو.. وما لبثوا إلا قليلا حتى جىء ~~بالأعرابي محمولا وقد أصابه سهم فى حلقه حيث أشار بيده!! قال النبى صلى ~~الله عليه وسلم : أهو هو؟؟ قالوا: نعم. قال: صدق الله، فصدقه! ثم كفن فى ~~جبة النبى صلى الله عليه وسلم: ثم قدمه فصلى عليه. فكان مما ظهر من صلاته ~~على الأعرابي القتيل: "اللهم: هذا عبدك خرج فهاجر فى سبيلك. فقتل شهيدا. ~~وأنا على ذلك شهيد " !!. . دين الحق والقوة: يخرج الجندى من وطنه حيث يعيش ~~هادئا آمنا، إلى ساحة الميدان حيث يحمل من الأعباء ويتحمل من المخاطر ما ~~يحتاج إلى بأس شديد وعزم جديد. وقد قدر الإسلام هذه المشقات حق قدرها، ~~وتكفل الله عز وجل لها بأضعاف أجرها . ص _012 PageV01P009 ~~فى الميدان الرحيب، تهب الرياح السافية، وتهيج العواصف العاتية، وتمتلئ ~~صدور المجاهدين بالغبار، وتتراكم على ملامحهم وملابسهم وأقدامهم سحب ~~التراب. هذا كله لا ينساه الله للمجاهد المخلص الصبور. فقد جاء عن النبى ~~صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في جوف عبد: غبار في سبيل الله ودخان جهنم ~~" "ما من رجل يغبر وجهه في سبيل الله إلا آمنه دخان النار يوم القيامة. وما ~~من رجل تغبر قدماه في سبيل الله إلا آمن الله قدمه من النار يوم القيامة " ~~. وعندما يلقى الليل على الكون أستاره. وينتدب من الجند من يقوم بحراسة ~~المعسكر، ومراقبة الأعداء. فإن يقظة الجندى الساهر على حياة إخوانه، ~~والتفاته لكل حركة، واكتشافه لكل ريبة، إنما هو ضرب من العبادة والتهجد ~~يزيد ms008 على الصوم والصلاة. وتلك أيضا حسنة تدخر للمؤمن عند الله: "عينان لا ~~تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرص في سبيل الله " والجندى ~~فى الميدان يتعرض للقتل، كما يعرض أعداء الله له، ويقع فى مآزق ضيقة، ~~ويواجه أزمات معنتة ، وتهيج فى نفسه مشاعر القلق، ويخاف تارة على نفسه، ~~وتارة على من معه. والذى يواجه الموت فى كل ساعة لا يستغرب منه أن تتوتر ~~أعصابه وأن يقشعر إهابه. لكن حساب هذه العاطفة المتوجسة لا يضيع عند الله ~~أبدا، كما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما خالط قلب امرئ ~~رهج وجل فى سبيل الله إلا حرم الله عليه النار" وليست حياة المجاهد فى ~~ميادين القتال هى الحياة الرتيبة التى ألفناها، ولا معيشته هى المعيشة ~~السهلة المريحة التى عرفناها، فإن التعب عنصر مشترك فى كل ساعة من ~~ساعاته... عليه أن ينتظر تأخر ضروراته عن موعدها، وأن يتحمل فراغ البطن، ~~وجفاف الحلق، وطول السهر، وكثرة السفر، وحدوث المفاجآت، ووقوع المضايقات. ~~غير أن شيئا من هذا لا يجوز أن يخذل مؤمنا عن الجهاد، ولا أن يؤخره عن أداء ~~الواجب المكتوب عليه لنصرة الله ورسوله: ص _013 PageV01P010 ~~(ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا ~~يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل ~~الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به ~~عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ~~ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون). ~~والمغارم والمصارع والجروح الخفيفة أو الغائرة، أمور معتادة فى الحرب، فلا ~~يجوز أن نجزع لها أو نتراجع تحت وطأتها. وما يصيبنا من هذه الأحداث هو ~~شهادة نلقى الله بها، ووجوهنا نضرة، ونفوسنا مستبشرة. "من جرح جرحا في سبيل ~~الله، أو نكب نكبة، فإنها تجئ يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها الزعفران، ~~وريحها ريح ms009 المسك ". وفى الوقت الذى تشهد فيه على الفجار جوارحهم بما ~~اقترفوا من آثام تكون جروح المجاهدين دلائل ناطقة بما تحملوا فى ذات الله ~~وما بذلوا فى سبيل الله. إن الإسلام لا ينشئ الحرب إنشاء، إنما يلجأ إليها ~~إلجاء. والمحرج يدفع عن نفسه كيف يشاء، ويثير الحفائظ، ويستصرخ الهمم، ~~ويحشد الجهود، ويستنفد آخر ما لدى المؤمنين من طاقة وحول، ليمهد لنفسه ~~ويزيح العقبات من طريقه ولذلك يقول الله لنبيه: (فقاتل في سبيل الله لا ~~تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد ~~بأسا وأشد تنكيلا). فلا غرو أن يجعل الله فترة الجهاد كلها سلسلة حسنات ~~لصاحبها حتى يتعلم المسلمون الاستقتال فى رفع رايتهم وتدعيم مكانتهم، وحتى ~~تكون حياتهم إعدادا واستعدادا، لا ينتهيان حتى ينتهى الليل والنهار، فلا ~~يضن أحد بنفقة، أو يبخل بجهد، أو ينكل عن تضحية. وكل غال فى سبيل إعلاء ~~الحق يهون. ص _014 PageV01P011 ~~ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ساهرة يوم حنين، فأطنبوا فى ~~السير حتى كان عشية، فحضرت صلاة الظهر فجاء فارس، وقال: يا رسول الله.. إنى ~~انطلقت بين أيديكم حتى طلعت فوق بعض الجبال، فإذا أنا بهوازن على بكرة ~~أبيهم- بظعنهم ونسائهم ونعمهم- اجتمعوا إلى حنين. فتبسم الرسول صلى الله ~~عليه وسلم قائلا: تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله!! ثم قال: من يحرسنا ~~الليلة؟ فقال أحد الفرسان: أنا. يا رسول الله. قال: اركب، فركب فرسه وجاء ~~إلى الرسول مستعدا. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: استقبل هذا الشعب ~~حتى تكون فى أعلاه، ولا تغرن من قبلك الليلة- أى لا يخدعك أحد من العدو- ~~فلما أصبحنا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال: ~~هل أحسستم بفارسكم؟ قالوا: لا، ما شعرنا به.. فثوب بالصلاة! فجعل الرسول ~~صلى الله عليه وسلم يصلى وهو يتلفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته وسلم قال: ~~ابشروا.. فقد جاء فارسكم! فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر فى الشعب ms010 الكثيف، ~~فإذا به قد جاء حتى وقف بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: إنى انطلقت ~~حتى كنت فى أعلى هذا الشعب حيث أمرتني يا رسول الله، فلما أصبحت استكشفت ~~الشعبين كليهما، فنظرت فلم أر أحدا. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم. هل ~~نزلت الليلة؟ قال: لا.. إلا مصليا أو قاضى حاجة، فقال له الرسول صلى الله ~~عليه وسلم: "قد أوجبت- أى لنفسك الجنة- فلا عليك ألا تعمل عملا بعدها"!! ص _015 PageV01P012 ~~* الشرق الأوسط .. بين حركات الأحرار وسياسة العبيد إن سياسة الظلام تكتب ~~خاتمتها مؤامرات الظلام!... عندما ترامت إلينا الأنباء بأن القدر الغالب خط ~~للملك عبد الله مصيره المشئوم، رجعت أنا لنفسى أستحيى فيها ذكريات قريبة..! ~~كنت بين اللاجئين إلى المنطقة المصرية من فلسطين، وكنت أتسمع أنباء القرى ~~المهجورة، وحنين الأهل المطرودين من ربوعها. ورأيت يوما رجلا كبير السن، ~~مقطب الجبين، على صفحة وجهه غيوم، يبدو أنها لا تريد أن تنقشع، واستدرجته ~~في الحديث، فعلمت أنه من أهل "اللد" وأن ابنه قتل فى الحرب... ثم هز رأسه ~~آسفا وهو يقول: لقد رأيت بنفسى حادثة المسجد!! قلت: وما حادثة المسجد؟ قال: ~~لما خاننا الملك عبد الله وأمر جيشه بتسليم اللد والرملة لليهود. فوجئنا ~~بمصفحات العدو تقتحم مدينتنا، وانهارت مقاومتنا تحت وطأة اليأس والعجز، ~~وانحاز بضع مئات من الرجال والشباب إلى أحد المساجد ينتظرون النجدة!.. من ~~الوهم! قال الرجل: وكنت هاربا فى بيتى القريب من المسجد فسمعت ضجة فزع، ~~خلال طلقات لا تنتهى من المدافع الرشاشة ورأيت المسجد يتحول إلى مقبرة أو ~~مجزرة. وفى الحرب- يا سيدى- لا تترك الجثث طويلا، حتى لا يسبب عفنها ~~الأخطار للجيش المنتصر.. فما هى إلا لحظات حتى رأيت البنزين يصب على رفات ~~المئات من القتلى العرب و... تحول الصبا والفتوة إلى... رماد تشم منه رائحة ~~الشواء! وسكت الرجل... وتكلمت دموعه!. هاجت هذه الذكريات كلها فى نفسى ، ~~وأنا أسمع محطة الإذاعة تنعى الملك عبد الله، عاهل العروبة والإسلام، وسليل ~~أسرة بنى هاشم الكرام، وعميد بيت النبى عليه ms011 الصلاة والسلام، حامى حمى ~~الدين، وناصر قضية فلسطين... إلى آخر ما ألف الناس سماعه من نفاق ودجل ~~عندما يهلك عظيم من عظماء هذه الأيام. لقد اغتيل "رازمارا "، فى إيران، ~~"والنقراشى" فى مصر، "وعبد الله " فى الأردن، واغتيل كثير من الحكام الذين ~~آزروا إنجلترا على حساب وطنهم الجريح... ولهذه PageV01P013 ~~الاغتيالات عندى دلالة سيئة مؤسفة! إنها قد تدل على حماسة أفراد، بيد أنها ~~دليل كذلك على بلادة الشعوب وخمولها! ص _016 # وقد تستغرب هذا الوصف، ولكن المقارنة المجردة تشهد له وتنطق بصدقه. إن ~~الملك عبد الله ألغى البرلمان الأردنى بمجلسيه: النواب والشيوخ، وسكت الشعب ~~وهو يرى مستقبله المبهم، تلعب به أيد لا أمانة لها. أما "لويس السادس عشر" ~~ملك فرنسا، فما ان أراد أن يتنكر للنظام الدستورى، ويلؤم مع الشعب المطالب ~~به، حتى ألقى الشعب القبض عليه وقدمه للمحاكمة، فلما ثبتت عليه جريمة ~~الخيانة للشعب وحقوقه، وضع عنقه تحت السكين، فاجتثته واجتثت معه المظالم ~~المتوقعة. وهكذا قال! القضاء كلمته، ولم يحاول فرد هناك أن يغتال الملك ~~خفية. أما الشرق المسكين فإن أوزار الاستعمار الداخلى والخارجى تنوء ~~بكلكلها عليه وهو يتأوه فى صمت. ووددت لو لم يقتل الملك عبد الله غيلة، وأن ~~يقدم أمام محكمة شعبية، تتولى حسابه حسابا دقيقا. على تصرفاته التى يزعم ~~أعداؤه أنها سببت قتل ألوف من العرب والمسلمين، ومن الجيش المصرى المكافح ~~لتحرير فلسطين. ويوم يقول القضاء العادل كلمته فتستريح ضمائر الأحرار، ~~ويغسل من بلاد الإسلام عار أى عار. . طواغيت: لا يسر قلبى شىء مثل أن أرى ~~اختفاء الجبارين وفراغ أيديهم من أسباب البطش ووسائل الغلبة والقهر وانكشاف ~~مواهبهم بعد زوال الحكم وزوال ما يضفيه الحكم على ذويه من مواهب فارغة!. ~~وعلة هذه العاطفة شعورى العميق بحاجة الشعوب الشرقية إلى حكومات لا تعطيها ~~حقوقها فحسب، بل حكومات تسرف فى ذلك حد تدليل الشعب وإشعاره النهاية القصوى ~~فى الحرية والسماحة، فإن الحكومات المستبدة القاسية، المستهينة بالدماء ~~المستبيحة للحريات، هى فى الحقيقة الجسر الممهد الوحيد الذى يعبر عليه ~~الإذلال الأجنبى والاستعمار الخارجى ms012 ليجد أمامه ظهورا أوجعتها سياط الإذلال ~~الداخلى فأصبحت ذيولا ورؤوسا مرنت على الانحناء فأصبحت خفيضة منكسرة! إن PageV01P014 ~~دماء الشعوب غالية، فالويل لمن يرخصها من الحكام، والويل لمن يفرط فيها من ~~المحكومين، وعلى دعاة النهضات الشرقية المعاصرة أن يفقهوا هذه الحقيقة، وأن ~~يفقهوا فيها الأجيال القادمة، لقد مضى- ولعله إلى غير رجعة- العصر الذى كان ص _017 # الحكام فيه يوطدون سلطانهم بالدماء الغزيرة دون أن يخشوا حسابا ولا ~~عقابا. وفى سقوط النقراشى باشا درس لمن يستفيدون من الدروس القاسية. هذا ~~رجل توالت أخطاؤه وتوالى السكوت عنها، حتى إذا حاول بالدماء أن يطيل أجل ~~حكمه قصم الشعب أجله ونفضت الأيدى من التراب الذى أهالته على الضحايا لتهيل ~~التراب كذلك على نوع من الحكم بغيض. إن النفس البارد الذى حاول إطفاء ~~الشعلة الأولى لا يحمل وزر إخمادها وحدها فحسب، ولكنه يبوء بإثمها وإثم ~~الجماهير التى كانت ستشتعل بها، وإثم الأمة المكبوتة العاطفة التى تريد أن ~~ينفجر مرجلها ليكوى بنيرانه الغاصبين ويدخل الرهبة فى أفئدة المعتدين. وكم ~~أود أن تشعر الحكومات السابقة واللاحقة شعورا له بواعثه الصادقة أن بقاءهم ~~فى الحكم عارية من الشعب، إن شاء سكت عنها فبقوا، وإن شاء استردها فسقطوا، ~~وأن الشعب هو الذى يؤدب حكامه المخطئين وليس هو الذى يتلقى لطمات الجبارين ~~المتسلطين. . ألقاب: كتب السلطان سليمان القانونى- خليفة المسلمين فى عهده- ~~إلى ملك فرنسا الرسالة الآتية، وكان الملك الفرنسى قد أرسل يستنجد به ~~لهزائم أصابته فى حروبه. ونحن نورد مقتطفات من نص الرسالة، ثم نعقب عليها ~~ببيان وجهة نظر الدين فيما جاء فيها. لنطهر الدين من لوثات بعض من حكموا ~~باسمه، فإن الشرق- وأغلب نهضاته على الدين- بحاجة إلى دروس متتابعة فى فقه ~~الحكم وإلزام الحكام حدودهم المشروعة، وهذا بعض ما جاء فى هذه الرسالة: ~~"سلطان السلاطين، وملك الملوك، ومانح الأكاليل لملوك العالم ظل الله على ~~الأرض، باشاده، سلطان البحر الأبيض والأسود، وبلاد الرومللى والأناضول ~~وقرصان وأرزوم وديار بكر وكردستان PageV01P015 ~~وأذربيجان والعجم ودمشق وحلب ومصر ومكة والمدينة والقدس وسائر بلاد ms013 العرب ~~واليمن وإيالات شتى فتحها سلفاؤنا العظام وأجدادنا الفخام بقواتهم الظافرة ~~وكثير من البلاد التى أخضعتها عظمتى الملوكية بسيفى الساطع ص _018 # أنا ابن السلطان سليم بن السلطان بايزيد شاه السلطان سليمان خان أكتب ~~إليك يا فرنسيس حاكم بلاد فرنسا، أن الكتاب الذى طرحته أمام سدتى الملوكية ~~ملجأ الملوك على يد فرنكيان المستحق لثقتك، والألفاظ الشفاهية التى حملها ~~إلى قد علمت منها أن العدو مستحكم من مملكتك حتى صرت له أسيرا، وتطلب ~~إنقاذك، فجميع ما قلته عرض على أعتاب كرسى عظمتى التى هى ملجأ العالم وقد ~~فهصت شرحه وأحاط . علمى الشريف به... " إلخ. هذا مطلع الرسالة التى نريد ~~التعليق عليها، أرأيت إلى ما تضمنته من ألقاب الجلال والرفعة والتسامى، إنه ~~هو الذى سنقف عنده لنقول حكم الله فيه! فإننا إذا أبصرنا مواضع الخطأ فى ~~الماضى عرفنا كيف نتجنب الانزلاق إليها فى المستقبل. هذه الرسالة لم تملها ~~روح الإسلام، بل سطرت حروفها مظاهر الجبروت التى أحاطت بالحكام فى القرون ~~الأولى! وبذل الإسلام جهود الجبابرة ليجرد أدوات الحكم منها، ويعلم الأمم ~~كيف تتمرد بين الحين والحين عليها. وليس للسلطان سليمان ولا لغيره من ~~الحكام أن يضيفوا إلى أسمائهم هذه المجموعة الفريدة من الألقاب المفتعلة ~~والأوصاف التى أخذ أكثرها من الصفات الإلهية المقدسة، وقد ورد عن الرسول ~~صلى الله عليه وسلم أنه- لما بلغته ألقاب كسرى ملك فارس- وصف صاحبها بأنه ~~أخنع رجل عند الله! وعندما كانت سلطة الحق الإلهى المزعوم تسند الحكام شرقا ~~وغربا، كان أبو بكر الخليفة الأول للإسلام يقول: "أيها الناس، قد وليت ~~عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتم خيرا فأعينونى ، وإن رأيتم شرا فقومونى". هذه ~~الديمقراطية الواضحة جعلت عمر- مقوض الإمبراطوريات الشامخة- يسمى نفسه أمير ~~المؤمنين فقط ويرغب عن كل إضافة أخرى تعطى اسمه فضل PageV01P016 ~~جبروت على الناس! وهذا التجرد من ألقاب القداسة ومظاهر الأبهة قصد به ~~الإسلام أن يجعل من الحاكم رجلا يؤخذ منه ويرد عليه، وتنقد تصرفاته كلها ~~فما كان منها صوابا أقر، وما كان منها خطأ رد عليه ms014 ولا كرامة، أما وصف أى ~~إنسان من البشر بأنه "ظل الله فى أرضه " فوصف عجيب حقا! ص _019 # إن كان يراد به تمثيل العدالة الإلهية فى الأرض، فإن الرجل فى أسرته، ~~والعمدة فى قريته، والمأمور فى مركزه، والمدير فى مدينته، كلهم ظلال الله ~~فى الأرض. وفي هذا التعبير ضرب من الشعر والخيال مقصود، أما إن كان ظل الله ~~فى الأرض رجلا يمثل الألوهية بين الناس، فهو يفعل ما يشاء، ويستعبد من ~~يشاء، ويتخذ الحكم ذريعة لهذه السيادة السقيمة، فإن هذا الظل يجب أن يتقلص. ~~فليس الناس عبيدا إلا لرب واحد: (أإله مع الله تعالى الله عما يشركون). وقد ~~تلقب سلاطين الأتراك بما شاءوا من أمارات الجاه وشارات المجد ولم يخجلوا من ~~الاتصاف بأنهم ظلال الله فى الأرض- كما ترى فى هذه الرسالة- مع أن تاريخ ~~الاستبداد السياسى يحفظ فى طياته صورا مخزية لهذه الظلال المريبة، ويوحى ~~بأن هذه الظلال كانت لمردة وشياطين!! إن صلة الحاكم بالته لا تزيد عن صلته ~~جل وعلا بأى عبد من عباده، وقد روى أن رجلا جاء إلى أبى بكر يناديه: يا ~~خليفة الله! فغضب أبو بكر ولم ير نفسه أهلا لهذه الإضافة الخطيرة، مع أن ~~الخلافة عن الله أقرب إلى الحقيقة الإنسانية العامة من- ظل الله- التى ~~ينحلها الحكام المستبدون لأنفسهم! إذ أن البشر جميعا استخلفهم الله مثلا ~~لعمارة الأرض وتنظيم شئونها! وقد استكثر أبو بكر على نفسه هذه الصفة خشية ~~أن ترمز إلى معنى من معانى القداسة المكذوبة وهو أعرف الناس بأن الحاكم رجل ~~من الشعب، اختاره عن رضا ليتولى أمره. وأنه إذا شاء أبقاه وإذا شاء أقصاه، ~~وأن الشعب يملك عليه كل شىء ولا يملك هو للشعب أى شىء. أما نظرية العصور ~~المظلمة فى فهم الحكم والحكام فقد رفضها الدين رفضا حاسما، PageV01P017 ~~ولكن هذا لم يمنع بعض السلاطين أن يعيدوا خرافة الحكم الفردى ، وأن ينعتوا ~~أنفسهم بما قرأت من نعوت لا يقرها الدين. * * * * . حقيقة الألقاب الألقاب ~~العلمية الدالة على مدى نصيب صاحبها من الثقافة ms015، والألقاب العسكرية الدالة ~~على مدى استعداد صاحبها للكفاح، والألقاب الإدارية الدالة على قدرة ص _020 # صاحبها فى التنظيم والتوزيع.. هذه كلها ألقاب لا يرى الإسلام فى حملها ~~حرجا لأنها ألقاب العمل والكفاية. وكل إنسان يكلف أن يكون عاملا وكفئا، "ما ~~الألقاب الفارغة من هذه المعانى فهى التى اعتبرها الدين شارات نبل مكذوب ~~وعظمة جوفاء. وقد نهى نبى الإسلام أن يقول السيد لخادمه يا عبدى، أو أن ~~يقول الخادم لسيده: يا ربى، أو أن يناديه بأى لفظ فيه ضعة العبيد أمام ~~مولاهم الأعلى، فإن الناس- على اختلاف أقدارهم- أخوة على أية حال. وفراعين ~~مصر القدماء اعتبروا أنفسهم من سلالة الآلهة ليفرضوا على الشعب إرادة لا ~~يعقب عليها، فانظر كيف يقول شوقى فى المقارنة بين العصر القديم والعصر ~~الحديث فى قصيدته التى يخاطب بها توت عنخ آمون: "فؤاد" أعز بالدستور دنيا ~~وأعظم منك بالإسلام دينا ذلك لأن الدساتير كفلت حقوق الإنسان، وأمنت حريات ~~الشعوب، ووازنت بين السلطات المختلفة مما يصون المصلحة العامة. والدول التى ~~نضجت كرامتها السياسية ألغت الألقاب تاما، أو أبقتها لتشهد بعينها كيف زال ~~عنها سلطانها القد يم، ف "لوردات " إنجلترا يحكم عليهم "مستر" فلا يشعرون ~~بغضاضة ، ولا يشعر نحوهم بإذلال وكره. أما فى الشرق فلا تزال الألقاب تحكم ~~على الناس بالهوان وتحكم على أصحابها بالغرور. ومن الواجب فك آصارها ومحو ~~آثارها. ورحم الله شوقى إذ يقول: ومن خدع السياسة أن تغروا بألقاب الإمارة ~~وهى رق وكم صيد بدا لك من ذليل كما مالت من المصلوب عنق * * * . من تاريخ ~~الكبراء: مديح الحكام والتغنى بمآثرهم يشغل قسما ضخما من صحائف الأدب ~~العربى ويعد سلم الارتقاء الأول PageV01P018 ~~للشعراء الذين يريدون الشهرة والظهور. وتمدح الأمراء ليس سنة إسلامية، بل ~~تقاليد الإسلام فى ذلك تتبع بالنقد والتمحيص فإن كانت عدلا وخيرا أيدت ~~بالعون الصحيح لا بالملق الكاذب، وإن ص _021 # كانت جورا وشرودا فندت بالقول الصريح والرأى النصيح، وهذا ضرب من الجهاد ~~الأدبى والشجاعة المعنوية، لا قيام للحق إلا بهما. وقد روى أن وفدا جاء إلي ms016 ~~النبى صلى الله عليه وسلم يقول له: "أنت سيدنا"، فقال لهم: "السيد الله " ~~فقالوا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا، فقال: "قولوا قولكم، أو بعض قولكم، ولا ~~يستجرينكم الشيطان ". وروى كذلك: أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بأن يحثى ~~التراب فى وجوه المداحين. ومع ذلك فإن سجلات الأدب القديم تضم بين جوانبها ~~صورا لرجال استووا على الأرائك الفخمة بين أيديهم السعاة والحجاب والسيافة، ~~يدلف إليهم شاعر ذرب اللسان، لا يزال يهتف بالقول، ويصرخ بالنظم، ويهيم فى ~~أودية الخيال، وينسب إلى ممدوحه فنونا من المواهب تسلكه مع أبطال الأساطير، ~~ثم ترمى إلى هذا الدجال بدرة من الذهب، ينصرف بها ثمنا حراما لأكاذيبه. ~~وتشيع بعدئذ بين الناس قالة السوء التى ألفها على أنها مدح لأحد الساسة أو ~~القادة، ويسدل حجاب كثيف على حقائق الحياة التى يعيش فيها الولاة وتعيش ~~فيها الشعوب وينتهى الأمر! وتتكرر هذه المأساة كما تتكرر مناظر ألف ليلة ~~وهى تقص أخبار الزمان، أو كما تتكرر مواقف عنترة وهو ينازل الفرسان، إلا أن ~~هذا الإيغال فى الخيال استيقظت بعده الأمة الإسلامية على طبول الأعداء تجوس ~~خلال الديار وتهدم آخر ما بقى من البناء المنهار! من أين كان يدفع الأمراء ~~والحكام هذه الأعطية السخية ألوفا من الدنانير تتبعها ألوف، إنه من مال ~~الشعب.. والشعوب لا تدفع المال فى أبهة شخص وزخارفه فهذا ما يمنعه العقل ~~والنقل. لكن المترفين من الحكام الأولين أبوا إلا أن يعيشوا فى هذا المحظور ~~وإلا أن يحيطوا أنفسهم بالأفاكين الذين حبسوا أفكارهم، PageV01P019 ~~ووقفوا جهودهم على تدعيم سلطان الجبابرة، وتجاهل أحوال الأم، وبلغ العهر ~~بأحد هؤلاء المتملقين أن يقول لخليفة فاطمى: ما شئت لا ما شاءت الأقدار ~~فاحكم فأنت الواحد القهار فهل ستسمح شعوب الشرق يا ترى بعودة هذه الحال؟ ~~وهل ستسمع للأفاكين من حملة الأقلام وهم يمهدون لها؟ ص _022 # وما دمنا فى حديث الملق والزلفى للرؤساء والكبراء، فلا يجوز أن ننسى ~~ظاهرة شنيعة لوحظت على فريق من كبار شيوخ الدين. فإن إطراءهم للحكام ~~ومسارعتهم المريبة إلى تهنئتهم فى ms017 كل مناسبة، وتعزيتهم فى كل مصيبة بأسلوب ~~يكتبه الأرقاء والأتباع، ويتنزه عنه الرجال الأحرار. هذه الظاهرة التى تدل ~~على داء عياء بالقلوب، قد غضت من شأن الدين ومنزلته لدى العامة. وقد تذاكر ~~الناس أن شيخا كبيرا من جلة العلماء- كما يقولون- كان فى المرض الذى يسقط ~~عنه الصلاة، لا ينسى أداء مراسم الوثنية السياسية على حين كان الدكتور طه ~~حسين وموقفه من الدين معروف يتكلم بحذر ويرسل مدائحه بقدر!! هذا فى الوقت ~~الذى شطبت فيه ميزانية الأزهر. وأرسل المال سيلا غدقا إلى وزارة المعارف ~~التى يشرف عليها "طه حسين " وإذا كان سكوت العلماء عن فسق الحكام جريمة، ~~فإن تمدح العلماء للحكام الفسقة كفران مبين. والمثل العالى لشيوخ الأزهر ~~القائمين بحق الله ورسوله نأخذه من مسلك الشيخ "محمد عبده ". فعندما كان ~~عبيد الولاء للأتراك يخونون الإسلام ويساندون الظلم، انضم هذا الشيخ الجليل ~~إلى الشعب مطالبا بدستور يقيد سلطة الحكم الفردى ويضغطها فى حدود ما شرع ~~الله. وقاد الثورة التى اشتعلت لذلك ولاقى من جرائها ما لاقى. وإننا لنقرأ ~~ما كتب الشيخ "محمد عبده " فى نقد الأوضاع المعاصرة، ثم نقرأ ما يهرف به ~~مخرفة الشيوخ فى وصف أحوالنا الحاضرة فنجد العجب العجاب، ونحس أننا هبطنا ~~من القمة إلى القاع. وفى شهر يونيو سنة 1902 أقيمت بعض الاحتفالات لمناسبة ~~الذكرى المئوية على تأسيس محمد على الدولة المصرية، فكتب PageV01P020 ~~الشيخ "محمد عبده " فى الجزء الخامس من المجلد الخامس من المنار الصادر فى ~~7 يونيه سنة 1902 تحت عنوان "آثار محمد على فى مصر": لغط الناس هذه الأيام ~~فى محمد على... وما له من الآثار فى مصر والأفضال على أهلها، وأكثرت ~~الجرائد من الخوض فى ذلك، والله أعلم ماذا بعث المادح على الإطراء، وماذا ~~حمل القادح على الهجاء . غير أنه لم يبحث! باحث فى حالة مصر التى وجدها ~~عليها محمد على وما كانت تصير البلاد إليه لو بقيت، وما نشأ من محوها ~~واستبدال غيرها بها على يد ص _023 PageV01P021 ~~محمد على.. أقول الآن شيئا فى ذلك ينتفع به من ms018 عساه أن ينتفع.. ويندفع به ~~من الوهم ما ربما يندفع.. ما الذى صنعه محمد على؟ لم يستطع أن يحيى. ولكن ~~استطاع أن يميت. كان معظم قوة الجيش معه.. وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة، ~~فأخذ يستعين بالجيش وبمن يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه، ثم ~~يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولا وأعانه على الخصم الزائل، ~~فيمحقه وهكذا حتى إذا سحقت الأحزاب القوية، وجه عنايته إلى رؤساء البيوت ~~الرفيعة. فلم يدع فيها رأسا يستقر فيه ضمير "أنا"... واتخذ من المحافظة على ~~الأمن سبيلا لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارا حتى فسد بأس ~~الأهلين وزالت ملكة الشجاعة فيهم. وأجهز على ما بقى فى البلاد من حياة فى ~~أنفس بعض أفرادها فلم يبق فى البلاد رأسا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه أو ~~نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه. أخذ يرفع الأسافل.. ويعليهم فى ~~البلاد والقرى كأنه يحن لشبه فيه ورثه عن أصله الكريم (!) حتى انحط الكرام ~~وساد اللئام، ولم يبق فى البلاد إلا آلات له يستعملها فى جباية الأموال ~~وجمع العساكر بأية طريقة، فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأى ~~وعزيمة واستقلال نفس. ليصير البلاد المصرية جميعها إقطاعا واحدا له ~~ولأولاده بعد إقطاعات كانت لأمراء عدة. ماذا صنع بعد ذلك؟ اشرأبت نفسه لأن ~~يكون ملكا غير تابع للسلطان العثمانى، فجعل من العدة لذلك أن يستعين ~~بالأجانب من الأوربيين، فأوسع لهم في المجاملة، وزاد لهم فى الامتياز، حتى ~~صار كل صعلوك منهم لا يملك قوت يومه ملكا من الملوك فى بلادنا، يفعل ما ~~يشاء ولا يسئل عما يفعل، وصغرت نفوس الأهالي بين أيدى الأجانب بقوة الحاكم، ~~وتمتع الأجنبى بحقوق الوطنى التى حرم منها، وانقلب الوطنى غريبا فى داره ~~غير مطمئن فى قراره فاجتمع على سكان البلاد المصرية ذلان.. ذل ضربته ~~الحكومة الاستبدادية المطلقة.. وذل سامهم الأجنبى إياه ليصل PageV01P022 ~~إلى ما يريده منهم.. غير واقف عند حد أو مردود إلى شريعة. لا يستحى ms019 بعض ~~الأحداث من أن يقول: إن محمد على جعل من جدران سلطانه بناء من الدين.. أى ~~دين كان دعامة للسلطان محمد على؟ دين التحصيل؟ دين الكرباج..؟ دين من لا ~~دين له إلا ما يهواه ويريده..؟ وإلا فليقل لنا أحد من الناس.. أى عمل من ~~أعماله ظهرت فيه رائحة للدين الإسلامى الجليل؟ ص _024 # لا أظن أن أحدا يرتاب- بعد عرض تاريخ محمد على- على بصيرته أن هذا الرجل ~~كان تاجرا زارعا، وجنديا باسلا، ومستبدا ماهرا، ولكنه كان لمصر قاهرا.. ~~ولحياتها الحقيقية معدما.. وكل ما نراه الآن فيها مما يسمى حياة فهو من أثر ~~غيره، متعنا الله بخيره، وحمانا من شره، والسلام. * * * شرق جديد: توزعت ~~أطماع الاستعمار أكثر أمم الشرق، وسقطت شعوبه فريسة سهلة أو غنيمة باردة فى ~~مخالب الغرب الحديث، وتفتحت أعيننا- نحن أبناء الجيل الحاضر- فإذا بميزان ~~العالم يميل عن مستواه العادل، وإذا بكفتنا تطيش فى نواح شتى، وإذا ~~بالمغانم تتجه إليهم سيلا دافقا، والمغارم تتجه إلينا موجا خانقا، حتى وهم ~~جمهور كبير من أبنائنا أننا خلقنا لنكون فى المنزلة الثانية أبدا وأن منزلة ~~الشرق من الغرب هى منزلة التابع من المتبوع. وهذا خطأ واضح يهدمه التاريخ ~~من أساسه. والذين وقعوا فيه معذورون لأن عمر الإنسان قصير إلى جانب عمر ~~الدنيا، وما يشهده من حوادثها ليس إلا فصلا ضئيلا من رواية طويلة الفصول، ~~ضاربة فى أغوار الماضى البعيد، وقد شهد النظارة فى هذا العصر فصلا أخذ ~~الغرب فيه بخناق الشرق، وجثم على صدره وارتفعت الستارة أمامهم عن هذا ~~المشهد المثير، وتكررت صوره لأعينهم المذهولة بروعة المفاجأة، فحسبوا أن ~~الرواية كلها هذا الفصل الواحد، وأن التاريخ كله هذه الحقبة الميتة، وأن ~~الشرق كله هذا المشهد المخزى ، وأن الغرب كله هذا الخصم المتوثب العنيف. ~~ولو أعدنا عرض الشريط التاريخى لبضعة قرون خلت لوجدنا وراء سواحل "المانش " PageV01P023 # قبائل السكسون الإنجليز يشتغلون بصيد السمك ولوجدنا تحتهم قليلا قبائل ~~الغالة الفرنسيين يشتغلون بمطاردة الخنازير، ولوجدنا الشرق فى هذه الآونة ~~يموج بمظاهر العمران البشرى الحافل بالنشاط ms020 والمقدرة. ولسنا نبغى من سوق ~~هذا الكلام إلا أن نبدد الخرافة الشائعة من جراء قيام الغرب الآن بدور ~~الحاكم، والشرق بدور المحكوم، فما كان من طبيعة هذا أن يحكم ولا من طبيعة ~~هذا أن يحكم. ولكنها أسباب النهوض والتعثر تجتمع هنا وهناك فتؤدى نتائجها ~~الحاسمة، وقد مر على الغرب حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، وعانت شعوبه ص _025 PageV01P024 ~~من ضوائق الاستعمار الداخلى والخارجى مثل ما نعانى الآن أو أشد، ودخلت فى ~~أطوار من التجارب المرة حتى حصلت على ما حصلت عليه من حريات وحقوق!. وها ~~نحن أولاء نستأنف سعينا اللاغب، لا لنذل الغرب كما استذلنا! بل لنبنى عالما ~~جديدا من الأمم المتكافئة فى دمائها وحقوقها، والمتساوية فى سيادتها ~~وكرامتها.. وسيأبى تجار الحروب وطغاة الاستعمار أن يخضعوا لهذا المنطق ~~الحكيم.. ويستكثرون علينا أن نعيش فى بلادنا أحرارا، ثم يستخدمون وسائل ~~التفوق التى أتيحت لهم لردنا إلى الوراء كلما خطونا إلى الأمام. والطريقة ~~الوحيدة التى يتعين علينا الأخذ بها، أن نوسع آفاق اليقظة العقلية ~~والاجتماعية عندنا، حتى لا يجد الاستعمار لنفسه مكانا بيننا، فإن الاستعمار ~~يقوم على عملية حسابية يسيرة، إذا كانت أرباحه من بلد ما أكثر من خسائره ~~بقى فيه، وإذا كانت خسائره أكثر من أرباحه فر منه!! ويوم تصاب الأمم ~~الغربية بنكسة اقتصادية من بقائها فى الشرق تنسحب منه فى لمح البصر. وخامات ~~الشرق الوفيرة، ومنابعه البكر، وتجارته الواسعة، نكبتها الغفوة العقلية ~~والفوضى الاجتماعية فشلت أيدى أهلها من الانتفاع بها، وحولت مجراها الغنى ~~ليصب بعيدا عنها. وعسكرت جيوش الاحتلال لتمنع بوادر الصحو المادى والأدبى ~~من أن تمهد للوطنيين طريق العودة إلى حكم بلادهم ومنع اللصوصية العالمية من ~~ابتزاز مواردها!. وعلينا أن نستميت- إذا شئنا الحياة- فى التمسك بهذه ~~اليقظة العقلية والاجتماعية، وفى إلحاق ما يمكن إلحاقه من الخسائر المادية ~~والأدبية بالمعتدين على حاضرنا ومستقبلنا، وبهذا يقصر أجل الاستعمار ~~الغاشم. ويتقلص ظله إلى الأبد من أوطاننا. إن المستعمرين إذا ضحكوا فى ~~بلادنا كثيرا وبكوا قليلا، فلن يخرجوا أبدا، أما إذا ms021 تجشموا من الضحايا ~~وتكبدوا من الخسائر ما يجعلهم يبكون كثيرا ويضحكون قليلا، فسينزحون عند أول ~~فرصة سانحة. وكيف السبيل إلى ذلك؟ أهى المظاهرات الهازلة، أو الثورات PageV01P025 ~~الفاشلة؟ كلا!. الأمر أعمق من ذلك وأخطر فإن أحوال الشرق النفسية ~~والاجتماعية والاقتصادية والحكومية تحتاج إلى تغيير شامل لتتم اليقظة التى ~~أشرنا إليها آنفا. وليس هذا التغيير سهلا فإن الأيدى الحمراء وحدها هى التى ~~تصنعه! الأيدى التى عناها الشاعر يوم قال: وللحرية الحمراء باب بكل يد ~~مضرجة يدق ص _026 # * من سنن الحياة: رب زارع لحاصد فى هذه الحياة!. وعندما يمعن المرء النظر ~~فى أحداث التاريخ يروعه مقدار ما يترك السابقون لللاحقين، وما يجنى الأخلاف ~~من أعمال الأسلاف، يستوى فى ذلك الخير والشر والماديات والمعنويات، ويبدو ~~أن الإنسان يولد وهو يحمل أثقالا من تبعات آبائه، كما يولد ليقتطف الكثير ~~من ثمرات جهودهم ونتائج أعمالهم. هناك رجال يستشهدون فى الدعوة إلى الله ~~ومحاربة الفتنة، ويحوطون غرس الإيمان فى هذه الدنيا بسياج من عظامهم ~~ودمائهم. وهناك أحفاد يوجدون ليرثوا الإيمان سهلا لا ينغصه اضطهاد ولا ~~يطارده إلحاد!. وهناك أبطال جاهدوا الظلم طوال حياتهم، وخطوا بأنفسهم مصارع ~~الجبارين، وحفروا بأيديهم قبور المتكبرين، ولم يدع لهم هذا الجهاد المتواصل ~~فرصة يستريحون فيها ساعة فى نهار. وهناك لهؤلاء أولاد ورثوا الوطن محررا، ~~والعدل مقررا، والدنيا مقبلة لا مدبرة، والمستقبل باسما لا غائما!. وكم من ~~طغاة أذلوا الشعوب وداسوا حقوقها. فلما استيقظت الشعوب لتؤدبهم.. لم تجدهم ~~لأنهم بادوا ووجدت مكانهم أبناءهم.. فقتلتهم بمظالم الآباء ومظالمهم ~~المنتظرة ! تلك طبيعة الحياة فرضت على الناس فرضا. وليت كل من زرع بنفسه ~~حصد بنفسه، ولكن سنة الوجود على غير ما نهوى، والتركات التى يزجيها الأولون ~~للآخرين تبقى فى أعناق من يطوقونها ما داموا راضين بها مقيمين عليها، ألم ~~تر أن القرآن عئر اليهود المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم بما اقترف ~~أجدادهم المعاصرون لموسى؟. فمن استطاع الفكاك من مخلفات السابقين الآثمة ~~فلا يتكاسل عن النجدة... ومن PageV01P026 ~~استطاع الانتفاع بآثارهم الطيبة فهو خير ساقه القدر إليه ms022، وقبيح أن يكون ~~المرء ممن عناهم الشاعر الحكيم: رب بان لهادم، وجموع لمشت، ومحسن لمخس ص _027 # * الأسباب والمسببات؟ جمهور المسلمين يرتاب فى هذه الحقيقة المقررة ~~ارتيابا شديدا، حقيقة ارتباط الأسباب بالمسببات ووقوع النتائج عقب انتظام ~~المقدمات، وتصور العامة يتسع لإدراك أن أسباب الهزيمة قد تتوافر كلها ثم لا ~~تقع الهزيمة! وأن النصر قد يتم هكذا اتفاقا من غير دواع سابقة!. وحجتهم فى ~~ذلك أن الأمور بإرادة الله، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ومعنى ~~هذا الكلام فى هذا السياق أن إرادة الله وقدرته تتعلقان بالمستحيل! ولم يقل ~~بهذا عاقل ولا نطق بهذا عالم من علماء المسلمين. إن عموم الإرادة مخصوص بما ~~يوافق الحكمة وإطلاق المشيئة مقيد بما وضع الله لهذا العالم من أنظمة ~~وقوانين، ومن العبث أن نطالب السماء بين الحين والحين أن تفعل ما لا يجوز ~~فعله أو تتدخل فى شئون العالم بما يحيل نظمه فوضى واتساقه اختلالا. وعلينا ~~أن نعرف للأمور مداخلها الصحيحة وأن نأتى البيوت من أبوابها، وقد جعل الله ~~عز وجل لإرادته العليا مفاتيح معينة ثم ألقاها بين أيدى الإنسان، فمن أراد ~~النبات فمفاتحه الزراعة، ومن أراد النسل فمفاتحه الزواج. وهكذا يوجد لكل ~~هدف منشود سبب مقصود. وقد تكون للغاية الواحدة عدة طرق، فيجب الأخذ بها ~~جميعا، إذ يكون السبب الموصل من اقترانها كلها. وقد تكون النتيجة المطلوبة ~~قائمة على جملة أسباب بعضها فى يدنا فلابد من فعله، وبعضها خارج عن طوقنا ~~فهو متروك لله، كتقلبات الجو مثلا للزراعة، وما أشبه ذلك. إن ارتباط ~~الأسباب بالمسببات حقيقة، يعتبر إغفالها حمقا فى التفكير، وخطلا فى ~~التدبير. وقد تأخر المسلمون فى ميادين شتى لأنهم لم يفقهوا هذه الحقيقة ~~التى ترتكز عليها شئون الحياة ويدور محورها أبدا. وقد ذكر القرآن كلمة ~~الأسباب حين أراد النتائج إشعارا بالتلازم الثابت PageV01P027 ~~بين الأمرين فقال: (أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في ~~الأسباب). ص _028 # ومعنى الآية: جاء فى الرد على المشركين حين استكثروا الرسالة على النبى ~~محمد ms023 صلى الله عليه وسلم ، وتعاظمهم أن تتخطاهم العناية- وفيهم السادة ~~والقادة- إلى الرجل الخالى من سطوة الحكم وثروة الغنى. فقال القرآن لهم: إن ~~استطعتم الاغتصاب من خزائن الرحمة، أو التحكم فى آفاق الملكوت، لتحولوا ~~النبوة منه إليكم فافعلوا: (أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري ~~بل لما يذوقوا عذاب * أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب * أم لهم ملك ~~السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب). أى الموصلة إلى ما يشهون ~~من تقسيم رحمة الله، ولذا جاء فى آية أخرى: (أهم يقسمون رحمة ربك) وهذا ~~التعبير الدقيق حاكم فى أن الأسباب لا تنفك عن نتائجها. * * * * . رجال ~~المبادئ: من الناس من إذا نزل به ضيم لم يعرف لنفسه عملا إلا مدافعة هذا ~~الضيم بكافة ما بيده من وسائل، لا يبالى أتجدى هذه الوسائل أم لا تجدى؟ ~~أينتصر بعدها أم يهزم؟ أيقول الناس عنه عاقل أم متهور؟ فهو إما أن يحيا كما ~~يشاء أو.. لا.. فالموت مستقر حسن لمن فاته فى الدنيا المستقر الحسن. ويمثل ~~نفسية هؤلاء الرجال قول الشاعر: سأغسل عنى العار بالسيف جالبا على قضاء ~~الله ما كان جالبا وأذهل عن دارى وأجعل هدمها لعرضى من باقى المذمة حاجبا! ~~ثم يقول هذا الفارس الأبى مبينا عن أسلوب الأحرار فى مواجهة الشدائد ~~واستقتالهم فى رد العدوان وقمع الطغيان: إذا هم لم تردع عزيمة همه ولم يأت ~~ما يأتى من الأمر هائبا إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب ~~جانبا ولم يستشر فى رأيه غير نفسه ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا ص _029 PageV01P028 ~~وهناك رجال من صنف آخر، يقيسون نتائج عملهم بمقدار ما يتمخض عنه من ربح أو ~~خسارة، ويفكر قبل الاشتباك فى أية معركة، هل سترجح كفتها له أو تدور ~~دائرتها عليه؟ ثم يتخذ بعد قراره بالهجوم أو الفرار وبمقارعة الموت الرضوخ ~~للعار. وانظر إلى الشعر السابق من نفس جياشة بالإقدام كيف نبع؟ ثم انظر إلى ~~شعر آخر يصور نفسية أخرى: الله يعلم ما ms024 تركت قتالهم حتى علوا فرسى بأشقر ~~مزبد وشممت ريح الموت من تلقائهم فى مأزق والخيل لم تتبدد وعلمت أنى إن ~~أقاتل واحدا أقتل ولا يضرر عدوى مشهدى فصددت عنهم والأحبة دونهم طمعا لهم ~~بلقاء يوم مرصد! وقد أحسن الشاعر فى الاعتذار عن فراره، ولكن أترى هذا منطق ~~أنسى بن النضر حين ضمه موقف فى غزوة أحد كموقف هذا المقاتل؟ فلما شم ريح ~~الموت لم يدر بخلده هذا المنطق! بل قال: إني أشم ريح الجنة من وراء أحد !! ~~ومات مقبلا لا مدبرا، مفتخرا لا معتذرا.. وما أحوج المسلمين إلى رجال من ~~الصنف الأول يحيون للمبادئ وحدها، وتأوى الفضائل العليا من نفوسهم إلى ركن ~~ركين. إن فخار الإنسانية فى تاريخها الطويل بمثل هؤلاء الرجال الذين لا ~~تلتوى طباعهم مع سياسة المنفعة، ولا يطيقوا السير مع ألاعيب السياسات وما ~~تنطوى عليه من مكر واحتيال. ص _030 PageV01P029 ~~* إلغاء المعاهدات.. على ضوء الشريعة الإسلامية ا- ما حكم الله فى قوم ~~بيننا وبينهم عهد نبذوه ونقضوه، هل يجوز لنا أن ننبذ عهدهم؟ 2- ما حكم الله ~~فيمن يتجسس لحساب العدو، أو يعاونه معاونة مادية أو أدبية، هل يجب قتله؟ 3- ~~إذا قامت حرب بيننا وبين عدو دخل أرضنا، هل الجهاد فرض عين على كل مواطن ~~ذكر، أو أنثى، أو مسلم أو غيره؟ 4- إذا كان فى هذه الحالة معنا قوم معاهدون ~~وشككنا فى نواياهم، هل فى القبض عليهم تعد لحدود الله؟ محمد أبو الحسن نوفل ~~(مدرس بمدرسة دسوق) * * * * إن وفاء الإسلام بالعهود بلغ حدا من الدقة ~~والسمو لم تعرفه إلى اليوم أرقى المؤسسات الدولية، وأحدث الدساتير ~~العالمية. ولسنا الآن بصدد سوق الدلائل الشاهدة لذلك، ولكن مسلك الإسلام فى ~~معاملة أعدائه يتضمن صورا من الوفاء الكريم يجب أن ننوه بها وأن نواجه وجوه ~~المكابرين بما يترقرق فيها من سماحة ونبل.. كان اليهود لا يرون للعقود ~~والمعاهدات حرمة إذا أبرمت بينهم وبين مخالفيهم فى الدين، ويستبيحون أكل ~~الحقوق المقررة لغيرهم، لا لشيء إلا لأنهم ليسوا بيهود، فأنكر الإسلام هذه ~~المعاملة الخسيسة، وشرع ms025 الوفاء العام للناس جميعا، لا فرق بين ملة وملة: ~~(ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا ~~يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين ~~سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون * بلى من أوفى بعهده واتقى فإن ~~الله يحب المتقين). وسار الإسلام على هذه القاعدة وهو يتعقب الرذائل، ويطهر ~~الأرض من الظلم والفسوق والعصيان. فلما أعلن على النفاق حربا شعواء، ~~واستثار همم المسلمين ليقاتلوا المنافقين- وهم جبهة واحدة- وعندما أوصى بأن ~~لا تأخذهم هوادة فى منابذتهم بالخصومة ومصارحتهم بالبغضاء، قال: ص _031 PageV01P030 ~~(فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من ~~أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا). ثم كشف عن خبيئة نفوسهم وحقيقة ~~موقفهم من الدعوة إلى الله، ورغبتهم الكامنة فى أن تطوى الأرض ظلمات الكفر ~~والضلال. وعلى بينة من هذه النيات الخبيثة قال: (ودوا لو تكفرون كما كفروا ~~فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا ~~فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا). (إلا الذين ~~يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو ~~يقاتلوا قومهم). بل إن الإسلام يؤخر التناصر الثابت بحق الأخوة المشترك فى ~~الدين، ويقدم عليه المعاهدات المعقودة، ولو مع قوم كافرين! وفى هذا يقول ~~الله تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى ~~يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ~~ميثاق والله بما تعملون بصير). ويبدو أن هذه المعاملة الفاضلة القائمة على ~~رعاية العهود والمبالغة فى احترامها بدأت من جانب واحد فقط، أما الجانب ~~الآخر فقد أظهر الموافقة والقبول، وأضمر التربص والكيد، ريثما تواتيه ~~الفرصة المناسبة ليعلن غدره ويوقع مكره. فهو يستمسك بالوفاء ما دام ضعيفا، ~~ويحرص عليه ما ظل يستفيد منه، فإذا أحس بالدفء والقوة تحرك ليلدغ، وبسط يده ~~وفمه بالأذى. وقد ظل ms026 المسلمون الأولون حينا من الدهر يتعلقون بمثاليتهم، ~~ويحاولون الإبقاء على عهودهم مع مخالفيهم فى الدين، من اليهود والنصارى ~~والمشركين، بيد أن هذه المحاولات ضاعت سدى، فقد نقض يهود المدينة معاهدتهم ~~مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ظنوا الفرصة سنحت للقضاء على ~~المسلمين فى معركة الأحزاب كما نقض المشركون عهد "الحديبية "مع أن بنوده ~~كانت لمصلحتهم. ص _032 PageV01P031 ~~وعدا بعض أمراء الشام على رسول للنبى صلى الله عليه وسلم فقتلوه! واستبان ~~من اطراد الحوادث أن المسلمين يعاملون رجالا من نوع لا شرف لديه ولا وفاء، ~~فأصبح لزاما عليهم أن يعدلوا مسلكهم، وأن يحسموا عهودا لم يحترمها منذ ~~أبرمت إلا طرف واحد ! وفى ضوء هذه الملابسات نزلت سورة براءة، وفيها تسمع ~~دمدمة الآيات ومن ورائها قعقعة السلاح: (براءة من الله ورسوله إلى الذين ~~عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي ~~الله وأن الله مخزي الكافرين). وفى هذه السورة أعلن- فى جلاء- أن المعاهدات ~~السابقة قد ألغيت، وأن ألاعيب المشركين الكثيرة قد وضع لها حد أخير! ~~والإنسان يستمع إلى الآيات التى تضمنت "حيثيات " هذا الإلغاء، فيجد فيها ~~دلائل الغضب من مسالك المشركين النابية، وتقريعا شديدا على مخالفاتهم ~~الماضية، ونصا حاسما على أن الوفاء لا موضع له إلا مع أهل الوفاء فحسب، ومن ~~ثم قيد القرآن هذا النقض العام ليوفر الأمن والسلام مع من حسنت سيرتهم، ~~وصدقت كلمتهم، فقال : (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ~~ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب ~~المتقين). ثم تفيض الآيات فى سرد أسباب النقض وضرورات الإلغاء التى أنهت ~~هذه المعاهدات فتقول: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا ~~الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله ~~يحب المتقين * كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم ~~بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون). ص _0 ص PageV01P032 ~~ثم يؤكد مشاعر الحقد المضطرمة فى هذه النفوس الغادرة: (لا يرقبون في ms027 مؤمن ~~إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون). ويرسم القرآن بعد ذلك الطريق لمعاملة ~~أمثال أولئك القوم، فيضرب السيئة بالسيئة، ويعالج الغدر بالقصاص: (وإن ~~نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا ~~أيمان لهم لعلهم ينتهون). وفى تحريض المسلمين على قتال هؤلاء الناكثين ~~لتطهر الأرض من رجسهم،وتخلص الحياة من عبثهم، يقول الله: (ألا تقاتلون قوما ~~نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق ~~أن تخشوه إن كنتم مؤمنين * قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم ~~عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ). إن الإسلام على قدر ~~تنويهه بالمواثيق، وتشديده فى المحافظة عليها، يصب نقمته على المتلاعبين ~~بها والمستغلين لها، ويعتبرهم دواب تضرب بالسياط، لا بشرا يقادون " من ~~ضمائرهم، ويأمر أن تكال الضربات لهم على نحو يثير الرعب فى غيرهم، حتى يكون ~~التنكيل بهم عبرة لمن يلهو لهوهم ويحنث حنثهم: (إن شر الدواب عند الله ~~الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة ~~وهم لا يتقون * فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون * ~~وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين). ~~وقد قررت الحكومة المصرية أن تلغى معاهدة سنة 1936 للأسباب التى جعلت ~~المسلمين الأوائل يلغون معاهداتهم مع اليهود والمشركين، بل الأمر فى حالتنا ~~أشد نكرا ص _034 PageV01P033 ~~وأبعد أثرا فالمعاهدة المنقوضة اليوم لا تعدو فى حقيقتها أن تكون ميثاقا ~~يعطى اللص الحق فى سكنى البيت الذى سطا عليه، والتجول فى غرفاته وردهاته ~~كيف يشاء، فهى معاهدة باطلة أصلا، وتحليل الحرام لا يقره دين ولا عقل! وقد ~~احتل الإنجليز هذا الوادى لسلب خيراته، ونهب أقواته، وتعويق نهضته، ووأد ~~حريته. ومنذ سبعين سنة وأهله يسعون حثيثا لاسترجاع حقوقهم المغصوبة، وقد ~~خضبوا بالدم كل خطوة استطاعوا أن يثبوها إلى الأمام! ذلك أن الإنجليز كانوا ~~يبذلون جهودا متتابعة للدفع بالبلاد إلى الوراء حتى تتخلف عن ركب الحضارة، ~~وتحيا على ما يشتهى أولئك ms028 الإنجليز حياة الرقيق الأذلين فى بلد لا يرفع ~~رأسه، ولا يكرم نفسه! فكيف تضفى على هذه الحال الشائنة صفة قانونية؟ وكيف ~~يقوم تشريع لحماية السلع المسروقة وتسخير الأم الحرة؟ ثم كيف يتوقع أن ~~يستكين الإسلام لهذا الضيم؟ أو يرضى أبناؤه بهذه السبة؟؟ إن الجهاد إلى ~~الرمق الأخير فريضة ماضية إلى قيام الساعة حتى يقذف بهؤلاء الإنجليز إلى ~~الأمواج التى رمت بهم على شواطئنا أو يلقوا المصير الذى يلقاه كل معتد ~~استهوته المغامرات الطائشة، فدفع روحه فيها ثمنا! وقد بين القرآن الكريم أن ~~موالاة المعتدين وإيثار صداقتهم والشذوذ عن رأى (الجماعة) فى كفاحهم، ~~وتقديم أى لون من ألوان المساعدة لهم، أو التجسس لحسابهم، والعمل لمصلحتهم، ~~أو السعى لمصالحتهم.. بين القرآن أن ذلك كله ارتداد عن الإسلام ومروق من ~~الملة، وفى هذا يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود ~~والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا ~~يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى ~~أن تصيبنا دائرة). وهذا القول تصوير صادق لدعاة الهزيمة، وأولى الريبة فى ~~مستقبل كل كفاح يدور بين الحق والباطل، فتخوفهم من الهزيمة يبيح لهم ~~الاتصال بالعدو ليأمنوا على أنفسهم، ويؤمنوا على حياتهم، PageV01P034 ~~وقد اتفقت قوانين العالم كله على عد هذا المسلك خيانة عظمى، وجعلت العقوبة ~~له القتل. ص _035 # وكذلك صنع الإسلام، وصح عن النبى صلى الله عليه وسلم في أنه أمر بقتل ~~المرتدين والجواسيس. والمسلمون فى هذا الزمن مقبلون على عصر طويل من ~~التضحيات والمغارم لينظفوا الوطن الإسلامى الكبير من بقايا الجاهلية ~~الحديثة التى انحدرت إلى ديارهم ونكست ألويتهم، ولا ريب أن ذلك يتقاضانا من ~~تساند القوى وتراص الصفوف جهدا شاقآ، فأيما محاولة لإحداث ثغرة، أو إيقاع ~~فرقة يستفيد منها عدو الله وعدونا، فهى جريمة نكراء فى حق (الجماعة)، ~~وكفران بالله ورسوله. والحكم بالقتل فى هذه الحالات لا ينطوى على شىء من ~~القسوة، بل هو استئصال لشأفة الخونة، وتأمين لظهور المجاهدين، وثأر لشرف ~~الإسلام وكرامة ms029 المسلمين. لقد تحددت الأوضاع بيننا وبين خصومنا، فهناك غرب ~~صليبى مسلح اقتحم البلاد، واستذل العباد، وهنا شرق إسلامى أعلن فى حزم أنه ~~لن يقبل الدنية، أو يخضع للهوان، فحق على كل مسلم أن ينزل على منطق الإيمان ~~الذى رسمه القرآن : (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد ~~الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم). فكيف ~~والإنجليز وقرناؤهم من المستعمرين هم قتلة الآباء والأبناء ومشردو الإخوان ~~والعشيرة؟ إن موالاتهم جرم مضاعف يستتبع عقوبة مزدوجة، ومن ثم فالكاتب الذى ~~يعطف عليهم بكلمة، والعامل الذى يؤدى لهم خدمة، والفلاح الذى يسدى إليهم ~~نفعا، والحاكم الذى يتيح لهم عونا.. كل أولئك منسلخ من تعاليم الدين، مندرج ~~فى غمار المرتدين والمنافقين! والنفير مع كتائب الجهاد إذا فصلت عن البلاد ~~وضربت فى سبيل الله تبغي إصلاح فاسد، أو تأديب معتد، أو قمع مستبد، يعد فى ~~نظر الإسلام واجبا كفائيا تقوم به الأمة فى جملتها ولا يرتبط بواحد معين من ~~بنيها.. وقد أباح الإسلام أن يخرج النسوة المسلمات مع الجيش المسلم إذا شئن ~~التطوع فى هذا الغرض PageV01P035 ~~النبيل. ص _036 # أخرج مسلم فى صحيحه عن أم عطية رضى الله عنها قالت: "غزوت مع النبى صلى ~~الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم فى رحالهم، أصنع الطعام، وأداوى الجرحى، ~~وأقوم على المرضى". وأرسل ابن عباس إلى نجدة بن عامر الحرورى يقول له: ~~"كتبت تسألنى: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وقد كان ~~يغزو بهن فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة، وأما سهم فلم يضرب لهن أى أنه ~~كان يعطيهن مكافات على عملهن دون السهم الذى فرض للمجاهدين من الرجال. ~~وتطوع الجنسين فى هذا الضرب من القتال ليس بواجب عينى، ولكن الجنسين معا ~~يجب عليهما الاشتراك فى مقاتلة العدو وبذل كل ما لديهما من طاقة إذا أغار ~~هذا العدو على البلاد وتهدد كيانها واستباح حماها. وقد نص الفقهاء عامة، ~~على أن الدفاع فى هذه الحالات فى عنق كل فرد، رجل أو ms030 امرأة، سيد أو خادم، ~~كبير أو صغير! على أن فنون القتال التى تمخض عنها هذا الجيل، وما طرأ على ~~العلاقة بين الرجل والمرأة!من اضطراب أحدثته حضارة الغرب- التى لا دين لها- ~~يجعلنا نحدد الدائرة التى يمكن للمرأة المسلمة أن تجاهد فيها لنصرة دينها ~~وحماية وطنها، وخصوصا فى جو لا تقام فيه حدود الله، ولا تصان فيه أعراض ~~الأسر، ولا تشل فيه أيدى الفسقة! وعندى أنه- إلى أن يسود الحكم الإسلامى- ~~ينبغى أن تخلف المرأة رجلها بخير، فإن كان زوجا طمأنته على أداء واجبه، أو ~~كان ابنا أو أخا حرضته على النهوض بمقتضيات الرجولة الحقة والإيمان ~~الصحيح... وهذا حسبها من جهاد فى هذه الأيام الكالحات... فإذا فقدت عزيزا ~~عليها فى ميدان التضحية والفداء ثم صبرت واحتسبت، فهى شريكتة فى المثوبة ~~وحسن العقبى عند الله. ثم إن لدينا "ألوفا" من الشباب "العاطلين "! فحتى ~~تستنفد أغراض الجهاد هذا العدد الضخم من الشباب القوى الفارغ نفكر فى ~~استجلاب النساء لرد الأعداء! أما المعاهدون الذين يساكنوننا هذا الوطن، ~~ويشاطروننا مصائبه وأفراحه، فإن حقوقهم PageV01P036 ~~المقررة لا موضع لخدشها ولا للتحدث فيها، والوفاء لهم من أسباب النصر ~~المنشود! أخرج الإمام مالك عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: ما ختر قوم ~~بالعهد إلا سلط الله تعالى عليهم العدو! ص _037 # وأخرج أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء الصحابة عن آبائهم: أن ~~رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ظلم معاهدا، أو انتقصه حقة أو كلفة ~~فوق طاقته، أو أخذ منة شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجة يوم القيامة". وأخرج ~~البخارى فى صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال: لي سول الله صلى الله عليه ~~وسلم "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، إن ريحها يوجد من مسيرة أربعين ~~عاما". وفى رواية النسائى: "من قتل قتيلا من أهل الذمة... ". ونحن نلفت ~~النظر إلى أن المستعمرين من إنجليز وأمريكان وفرنسيين هم أبعد الناس عن ~~عيسى وتعاليمه، وأكفر الناس بإنجيله ووصاياه! ولكنهم عندما يغزون ms031 بلادنا ~~تتملكهم فجأة حمى التعصب الصليبى القديم، ثم يزعمون أنهم يحمون القلة ~~الدينية فى بلادنا ضد ما يفترونه من عدوان محتمل!! وهذه صفاقة لا تستغرب من ~~لصوص وفدوا للقتل والفساد فى الأرض! ولا يساويها فى القحة إلا أن يرسلوا ~~جنودهم محتلين ثم يطالبوننا بحماية أرواحهم... كأن القافلة السائرة مسئولة ~~أن تحمى أرواح من يقطع عليها الطريق!! ولقد أصبحت حماية الممتلكات الأجنبية ~~والأقليات الدينية خرافة سمجة من خرافات الاستعمار المفضوح! فإن بلاد ~~الإسلام ليست البلاد التى تصادر فيها عقيدة، أو تستباص! فيها حرمة! وقد حدث ~~فى إبان اشتباكنا مع اليهود فى فلسطين أن بعض اليهود القاطنين بمصر ظهرت ~~عليهم أعراض الخيانة، وحاولوا أن يطعنوا من الخلف وطنا طالما أواهم وأحسن ~~إليهم، وقد اعتقل كثير من أولئك الغادرين، وإذا كنا أخطأنا فى شىء، فهو ~~أننا تركنا أولئك يفلتون إلى إسرائيل ليحملوا السلاح يوما فى وجوهنا.. وأيا ~~ما كان الأمر، فإن المسلم الذى يهدد قضايا بلاده العامة يضرب على يده، PageV01P037 ~~وتصادر حريته، فغيره من أهل الكتاب لن يقل عنه، وليس فى حبس هؤلاء وأولئك ~~تعد على حدود الله . ص _038 # * غصن باسق فى شجرة الخلود فى وحشة الليل، وسورة الغدر، ويقظة الجريمة، ~~كان الباطل بما طبع عليه من غرور، وما جبل عليه من قسوة، وما مرد عليه من ~~لؤم، كان مستخفيا ينساب فى أحياء القاهرة الغافلة يجمع سلاحه، ويبث عيونه، ~~ويسوق أذنابه من الكبار والصغار ويعد عدته لكى يغتال حسن البنا.. مرشد ~~الإخوان المسلمين. وليس قتل الصديقين والصالحين فى هذه الدنيا بالأمر ~~الصعب! إن القدر أذن بأن يعدو الرعاع قديما على أنبياء الله، فذبحوا وهم ~~يحملون أعباء الدعوة، أفكثير على في تلقفوا هذه الأعباء قبل أن تسقط على ~~الأرض أن يردوا هذا المورد؟ ومن طلب عظيما خاطر بعظيمته. ومن هوان الدنيا ~~على الله أن ترك كلاب المترفين فيها تشبع من المترفين، وأن ترك حملة الوحى ~~فيها يهونون... مع الوحى! لا بأس. سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ~~يقول: اللهم آتنى أفضل ما ms032 أتيته عبادك الصالحين!!. فقال له: "إذن يعقر ~~جوادك ويراق دمك "، حتى الجواد يقتل مع صاحبه... لقد أصابه من الشهادة مسها ~~القانى! ولو كان مربوطا بعربة بضاعة لعاش دهرا. وكذلك أبى ربك أن يسترجع ~~إليه المختارين من عباده- بعد ما أدوا رسالتهم فى الحياة- وهم وافرون ~~آمنون، نعم أبى أن يتركوا هذه الحياة سالمين من طعناتها الفاجرة. وجراحاتها ~~الغادرة. فمزق علج من المجوس أحشاء عمر. وعدا مأفون غر على حياة علي. وقتل ~~يزيد الماجن سبط الرسول الحسين. وتآمرت دولة الأوغاد على قتل حسن البنا. ~~ولن تزال سلسلة الشهداء تطول حلقة حلقة ما بقى فى الدنيا صراع بين الضياء ~~والظلام. عفاء على دار رحلت لغيرها فليس بها للصالحين معرج كدأب على فى ~~المواطن قبله أبى حسن والغصن من حيث يخرج لقد قتل حسن البنا يوم قتل ~~والعالم كله أهون شىء فى ناظريه! ص _039 PageV01P038 ~~ماذا خرقت الرصاصات الأثيمة من بدن هذا الرجل؟ خرقت جسدا أضنته العبادة ~~الخاشعة، وبراه طول القيام والسجود. خرقت جسدا غبرته الأسفار المتواصلة فى ~~سبيل الله، وغضنت جبينه الرحلات المتلاحقة إلى أقاصى البلاد، رحلات طالما ~~عرفته المنابر فيها وهو يسوق الجماهير بصوته الرهيب إلى الله، ويحشدهم ~~ألوفا ألوفا فى ساحة الإسلام! لقد عاد القرآن غضا طريا على لسانه. وبدت ~~وراثة النبوة ظاهرة فى شمائله. ووقف هذا الرجل الفذ صخرة عاتية انحسرت فى ~~سفحها أمواج المادية الطاغية. وإلى جانبه طلائع الجيل الجديد الذى أفعم ~~قلبه حبا للإسلام واستمساكا به. وعرفت "أوروبا" البغى أى خطر على بقائها فى ~~الشرق إذا بقى هذا الرجل الجليل. فأوحت إلى زبانيتها... فإذا الإخوان فى ~~المعتقلات. وإذا إمامهم شهيد مدرج! فى دمه الزكى! ماذا خرقت الرصاصات من ~~جسد هذا الرجل؟ خرقت العفاف الأبى المستكبر على الشهوات، المستعلى على ~~نزوات الشباب الجامحة. لقد عاش على ظهر الأرض أربعين عاما لم يبت فى فراشه ~~الوثير منها إلا ليالى معدودة، ولم تره أسرته فيها إلا لحظات محدودة. ~~والعمر كله بعد ذلك سياحة لإرساء دعائم الربانية، وتوطيد أركان الإسلام، فى ~~عصر ms033 غفل فيه المسلمون، واستيقظ فيه الاستعمار، ومن ورائه التعصب الصليبى ، ~~والعدوان الصهيونى ، والسيل الأ حمر! فكان حسن البنا العملاق الذى ناوش ~~أولئك جميعا حتى أقض مضاجعهم. وهدد فى هذه الديار أمانيهم. لقد عرفت التجرد ~~للمبدأ فى حياة هذا الرجل. وعرفت التمسك به إلى الرمق الأخير فى مماته. ~~وعرفت خسة الغدر يوم قدم رفات الشهيد هدية للمترفين والناعمين. قدم- من ~~قبل- دم على مهرا لامرأة. عجبا لهذه الدنيا وتبا لكبرائها! وارحمتاه لضحايا ~~الإيمان فى كل عصر ومصر! أكذلك يقتل الراشد المرشد؟؟ ص _040 PageV01P039 ~~ودعا أيها الحفيان ذاك الشخص إن الوداع أيسر زاد واغسلاه بالدمع إن كان ~~طهرا وادفناه بين الحشا والفؤاد وخذا الأكفان من ورق المصحف كبرا عن أنفس ~~الأبراد أسف غير نافع واجتهاد لا يؤدى إلى غناء اجتهاد * * * * الفدائيون: ~~"إن أغبط آوليائى عندى لمؤمن خفيف الحاذ ، ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه ~~وأطاعه في السر، وكان غامضا فى الناس لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه ~~كفافا فصبر على ذلك".. ثم نقر- النبى صلى الله عليه وسلم- بيده فقال: "عجلت ~~منيته، قلت بواكيه ، قل تراثه". هذا الحديث وصف جليل لرجال الدعوات الذين ~~يعيشون لها ويفنون فيها، الرجال الذين يظهرون فى آفاق الحياة كما تظهر ~~الشهب المنقضة فى جنح الظلام، ما أن تلتمع حتى تنطفئ! إنها فى سرعتها ~~الخاطفة- وهى تشق إهاب الليل- تستنفد حياتها وحرارتها فى انطلاقها وحركتها. ~~وكذلك رجال الدعوات يذيبون قواهم وشبابهم فى أداء رسالتهم ويسكبون دمائهم ~~ويحرقون أعصابهم لتتألق بها الرسالات التى يعملون لها... فتتحول بهم إلى ~~سيل جارف ويتحولون بعدها إلى رفات هامد، هذا سبيل الفدائية المحفور فى ~~تاريخ البشر منذ الأزل. وقد كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ~~الفدائى الأول لدعوته الكبيرة، خوف فى الله ما لم يخف أحد، وأوذى فى الله ~~ما لم يؤذ أحد، ووقف مشاعره وجهوده وآماله وأحزانه وأفراحه على إنجاح ~~رسالته، ثم سل من هذه الدنيا كما تسل الشعرة من العجين، فلم يمسسه شىء من ~~كبرها أو جاهها أو ms034 راحتها، بل لقد سرت عدوى هذه التضحية إلى أسرته فلم ترث ~~منه شيئا إلا البلاء والتشريد. وإن هذا النبى الكريم ليحدثنا أن أغبط ~~أوليائه عنده أقربهم إلى مسلكه وأشبههم به فى تفديته وتضحيته: خفة فى ~~تكاليف المعيشة، وزهادة فى ترف الحياة. إدمان على الصلاة، وجنوح إلى ~~العبادة، ونزوع إلى الإخلاص، ورغبة عن الشهوة، واحتقار ص _041 PageV01P040 ~~للمظاهر. إقبال على العمل وإيثار للخفى منه على الظاهر المكشوف، وصبر على ~~لأواء الحياة حتى تنقضى. هذه معالم العيش الذى يجب أن ينكمش فى حدوده ~~الفدائيون. ما لهم وللمطامع والملذات؟ ما لهم وللرياء وحب الظهور؟ إن ~~الجندى المجهول يرى فى الغموض والبساطة أفضل جو يعمل فيه وينتج. فإذا بدا ~~فى الأفق ما يريب وأحس بالخطر على رسالته طارإلى أداء واجبه لا يلوى على ~~شىء.. ولذا نقر النبى صلى الله عليه وسلم ثلاث نقرات. وإن القلب ليخفق ~~إجلالا، وإن الرأس لينحنى إكبارا مع هذه الدقات الواعية المحصية. عجلت ~~منيته! يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول! هكذا مضت سنة ~~الرجولة تعلم ذويها ألا نكوص ولا إحجام! قلت بواكيه..! ولم يقله البكاء على ~~أولئك النفر الكرام من حملة الدعوات؟ ألئن الجهاد غربهم عن أوطانهم فماتوا ~~بعيدا عن الأقربين ، كسيد الشهداء حمزة؟ سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ~~الباكين بعد غزوة أحد على ذويهم فقال: "لكن حمزة لا بواكى له" أم لأن ~~البكاء عليهم كان جريمة يقذف بمرتكبيها فى ظلمات السجون، كما حدث فى مصرع ~~الشهيد حسن البنا ؟ أم لأن رجال الإسلام كرههم عبيد الحياة فهم لا يحسون ~~لفقدهم أسفا؟! قلى يكون ذلك، أو يكون الأمر أخفى مما نعلم. قل تراثه..! وهل ~~لأصحاب المثل وأصحاب المبادئ العالية تراث يخلفونه؟ إنهم وما ملكوا وقود ~~دعواتهم. وفداء أفكارهم. يا حملة المشاعل وسط العواصف الهوج. هذا هو ~~النهج.. فاسلكوه. ص _042 PageV01P041 ~~* مناسر اللصوصية العالمية غاظنى أن تعترف الأمم المتحدة بإسرائيل فور ~~إنشائها. وغاظنى أن تصر على إهدار حق العرب برغم تفانيهم فى استرداده. إن ~~هذه المؤسسة العالمية لا شرف لها. - والناس ms035 يعرفون عن دول أوروبا أنها أقصت ~~كل أثارة للشرف والخلق فى علاقاتها السياسية بأم الشرق. وأن الحضارة ~~الغربية قد أسقطت جملة مكانة الضمير الإنسانى ، سواء فيما يدور بينها من ~~منازعات أم فيما يدور بينها وبين غيرها من مشاكل وخصومات. والسياسة ~~الأوروبية هى صاحبة مبدأ "الويل للمغلوب " ومبدأ "الغاية تبرر الواسطة " ~~ومبدأ "المعاهدات قصاصات ورق ". ونحن نعرف أن إنجلترا حلفت بشرفها سبعين ~~مرة وحنثت كذلك سبعين مرة! ونعرف أن إنجلترا فى ذلك تمثل النفسية العامة ~~لدول الغرب، فليست خيرا ولا شرا من فرنسا أو إيطاليا... أو أمريكا!! بيد أن ~~الأمر فى نظرنا قد وصل إلى حد يستحق التسجيل فقد تخون المرأة شرفها، وتقترف ~~إثمها، فى تستر وخفاء، فتكون فى تسترها واستخفائها معترفة بأن للفضيلة ~~منزلة تلزم رعايتها، ولو من الناحية الشكلية. أما إذا فتحت محلا للدعارة ~~واشتغلت به مومسا فمعنى ذلك أنها قد باعت نفسها للشيطان! والدول الأوروبية ~~التى لوثت تاريخ العالم بغدرها وخيانتها قد مضت فى طريق شائنة، وفى ~~المؤسسات التى أقامتها لتنظيم العلائق العامة تحولت الجلسات والمفاوضات إلى ~~أسواق تباع فيها الذمم. بل تحولت إلى مزايدات علنية خسيسة تقدم فيها ~~الأصوات لمن يدفع أكبر ثمن. أمس باعت الهند صوتها بمليون طن من الحبوب ~~قدمتها لها أمريكا. وأول من أمس باعت الدول اللاتينية أصواتها لليهود بثمن ~~بخس. ومنذ أيام أصدرت محكمة العدل الدولية حكما لصالح إنجلترا فى قضية لا ~~يجوز أن تنظرها لأنها ليست من اختصاصها، والمضحك أن هذه المؤسسات التى ~~تديرها دول ص _043 PageV01P042 ~~أوروبا للدعارة السياسية لا تزال تحمل الأسماء والعناوين واللافتات التى ~~تمثل كل ألوان الغش التجارى. فالتخريب بالجملة اسمه استعمار. والدول التى ~~يراد أكلها توضع تحت الوصاية. والأحكام الجائرة المضللة تستصدر من محكمة ~~العدل، والمجلس الذى جبن لشدة خوفه أن يقول كلمة حق فى وجه ظالم اسمه مجلس ~~الأمن، والأمم التى تتهاوش تهاوش الكلاب المسعورة تسمى الأمم المتحدة. ولا ~~غرو فالحضارة الأوروبية متخصصة فى هذا اللون من الكذب. وقد سقطت همتها ~~الخلقية فبدلا من أن تجاهد هواها ms036 اعتبرت الهوى شريعة وسارت بإيعاز من ~~وساوسه إلى ما تشتهى... وهى تريد أن تسير الدنيا كلها معها فى هذا المضمار ~~الملوث. إن هذه المؤسسات العالمية أصبحت لا رجاء فيها لأوسع الناس أملا. ~~فلنهجرها إلى غير رجعة، ولنبذل جهودنا لإصلاح أحوالنا في بلادنا نفسها ~~وتحويلها إلى ميادين للكفاح ضد الاحتلال الداخلى والخارجى جميعا. فهذا وحده ~~طريق الكادحين الناجحين. أما السمسرة الدبلوماسية فى "بورصة" مجلس الأمن ~~فعمل باطل ابتدعه اليهود ليلعبوا بالفضائل ويقامروا بمستقبل الشعوب. ص _044 PageV01P043 ~~ذكريات من الريف غريب.. أبيت فين؟ سرى إلى نفسى الهدوء الخيم على أرجاء ~~القرية الموشكة على الجوع، فانسابت أفكارى فى مجراها العميق هادئة هى ~~الأخرى. وأحس رفيقى بأن حبل الصمت قد طال أكثر مما ينبغى فسألنى بلطف: ماذا ~~بك؟ فأجبته باسما: لا شىء غير أن المرء إذا انتقل من الضجيج المضاعف فى ~~المدينة إلى السكون المضاعف فى القرية، شعر كأنه يهبط فى هاوية من الصمت لا ~~قرارلها، ثم ألست ترى هذه الآفاق المغبرة تستقبل المساء القادم البطىء؟ إن ~~هذه الغبرة نضحت على القرية من المتربة التى تعيش فيها أبدا. قال لى صديقى- ~~محاولا الفرار بى من هذه الأفكار الكئيبة-: دعك من هذه الخيالات، ولا تنس ~~أن فلانا ينتظر حيث تواعدنا على اللقاء جميعا عند شاطئ "النيل ". إن مجلسنا ~~هناك حافل بالأحاديث الشائقة وإن كانت أرضه مفروشة بالحشائش الجافة وحدها! ~~ويممنا شطر المجلس العتيد، وإذا بالطريق إليه يعترضها مستنقع راكد من هذه ~~المستنقعات التى يصنعها رشح الفيضان، وتتخلف فيها مياه المطر، فتوقفت كارها ~~واستأنفت صمتى الأول، ثم أرسلت الطرف إلى الشاطئ الآخر للبحيرة الضحلة، ~~ودرت به حول حدودها، ولكنى لم أتبين من معالمها إلا القليل، إنه ليل أشد ~~سوادا من أفئدة المجرمين توارت فى طياته هذه الدور المبعثرة بما ضمت من ~~إنسان وحيوان، وكأنها ألفت وحشته المريبة، فما تخلعها عن جدرانها البالية ~~فى ليل أو نهار، وقرع أدنى صوت غناء ينبعث من بعيد، غناء صبية يسمرون ~~ويلعبون غير أن ألحان غنائهم كانت تشق حجاب الليل، وتخترق صمته ms037 كما يشق ~~الخنجر الحاد الأديم الحى. واختلج فؤادى اختلاجا عنيفا، إذ كانت نبرات ~~غنائهم تكتنفها الكآبة وتغزو المشاعر بمزيج من الحسرة والتفجع! ما هذا؟. ~~وأعرت انتباهى للصدى المتماوج مع هبات النسيم على صفحة المستنقع واستطاعت ~~أذناى أن تلتقطا من أبيات المقطوعة التى يغنيها الأطفال هذا البيت الحزين: ص _045 PageV01P044 ~~ياليل! ياليل! ياليل غريب! أبيت فين؟ قلت لرفيقى فى لهفة: ما هذا الكلام يا ~~أخى؟ من هذا الغريب؟ وما هذا المبيت؟ وما الذى جمع الأولاد على هذا النشيد ~~الحزين؟ قال صاحبى- وقد سره أن يجد مجالأ للحديث يطرد به وطأة الصمت-: إن ~~هذا الغناء نشيد القرية الدائم، ومرتلوه هم الصبية الفعلة من الفلاحين ~~الفقراء، إنهم يرحلون إلى التفاتيش الكبرى بالمئات للعمل فيها، وهم يتزودون ~~لهذه الترحيلات المضنية مما ثقل حمله ورخص ثمنه خبز جاف وجبن وملح، فإذا ~~ملئوا بطونهم من هذه الأطعمة، كرعوا من قنوات الرى ما تفيض به من الماء ~~العكر، حتى إذا آواهم الليل وجدوا فى إسطبلات الخيل متسعا يضم أجسامهم ~~المتعبة، وهم بين مهاد الغبراء ولحاف الأجواء يطلقون حناجرهم بما سمعت من ~~غناء. فى حين كان صاحبى يتكلم عاد الصدى السارى يقرع آذانى، بل يقرع أبواب ~~قلبى، ويثير كوامن الحنان والأسى فيه! الغناء الكئيب يناجى الليل مرة أخرى: ~~ياليل! ياليل! ياليل غريب! أبيت فين؟ حيران! ما بارتاح يوم والراحة تيجى ~~منين؟ فقلت- وأنا أهمس إلى نفسى-: يا أولادى لستم غرباء، إنه وطن آبائكم ~~وأجدادكم، ومن حقكم أن تبيتوا فيه ناعمين. لعن الله من ظلمكم وجعل طفولتكم ~~تنبت فى هذا الهوان!. إن أمثالكم يحيون وادعين فى أمم الأرض الأخرى لا ~~تشردهم إلا الحروب والغارات الطارئة. أما أنتم فمشردون أطفالا ومشردون ~~رجالا! فى غير حرب ولا ضرب، إلا حرب الأوضاع الظالمة وضرب المجتمع الغشوم! ~~فقال رفيقى- ولعله استحمقنى-: بماذا تهمس؟ فأسرعت إلى إجابته: لا شىء. ~~واستطردت: وكيف يعودون من هذه الترحيلة؟ فقال: أتذكر الأوبئة التى تصيب ~~الدواجن فى البيوت والدواب فى الحقول؟ إن هذه من تلك. طعام حقير وعمل من ~~قبل ms038 الشروق إلى ما بعد الغروب، وأسواط المراقبين القاسين تلهب ظهر من ~~يتوانى فى أداء الواجب، بل قد تلسع المشتغل حتى لا يفكر فى الكسل! وأجور ~~ضئيلة يأكل نصفها السماسرة. وأيام متطاولة على هذا النحو PageV01P045 ~~العصيب مما يجعل الأولاد المحرومين من أحضان آبائهم يشعرون بالغربة، فهم ~~يبتون الليل شكواهم الصارخة، ثم يعودون ص _046 # إما إلي القبور واما إلي الدور . فإذا ساورتهم أحداث الماضى فى حاضرهم ~~المنكود نزعوا إلى الغناء، كما سمعت. فقلت: كم يجنح هذا الشعب إلى الغناء ~~الحزين ينفس فيه عن آلامه المكظومة، وكم سمعت أبناء الوجهين القبلى والبحرى ~~يطلقون حناجرهم زرافات ووحدانا، يطلبون لدى "المجهول " ما لم يجدوه لدى ~~"الواقع " لكنهم لا يجدون شيئا! إلا إذا كان هؤلاء الأطفال الغرباء فى ~~وطنهم قد وجدوا المبيت الذى يلتمسون! وعادت أمواج الظلام تحمل غناء ~~المظلومين المتواثبين على شاطئ المستنقع: ياليل! ياليل! ياليل غريب! أبيت ~~فين؟ ياما أرخص الإنسان يتهان ورا قرشين ياليل! ياليل! ياليل غريب! أبيت ~~فين؟ وأمى وأبوى الاثنين يبكوا بدمع العين ص _047 PageV01P046 ~~2 أديان مستغفلة قال صاحبى فى ضيق: أحسب أن المجلس الذى ينتظرنا قد التأم ~~الآن شمله، ولعلنا وحدنا الذين تأخرنا. وإذا كان حضرة العمدة لن يطيل ~~عتابنا، فإن فضيلة الشيخ المأذون سيحاسبنا على خلف الموعد. وعلى ذكر الشيخ ~~هل تعرف أنى سمعته أمس يقول: إن الغناء حرام! فقلت مقاطعا: قبحك الله ~~وقبحه! وهل سألتك عن رأيه فى شىء؟ خذ بنا أقرب الطرق إلى ما نبغى... وسرنا ~~نذرع الطريق بخطوات فساح، واسترسل الصديق المخلص يقص على ما أجهل من أحوال ~~البلد وأخبار أهله، فلما قاربنا غايتنا طالعتنا دقات طبل مزعج، وضوضاء ~~مبهمة مختلطة، ونظرت إلى صاحبى فرأيت علائم الكدر مرسومة على وجهه وهو ~~يتمتم: هذه حفلة زار ستؤذينا بضجتها! فقلت له: فى بيت من هذه الحفلة؟ قال: ~~فى بيت فلان! قلت: يا عجبا! إن فلانا هذا رجل عاقل فماذا دهاه؟. قال: إنه ~~مات من زمان! وقد مات ابنه منذ عدة أشهر. مسكين هذا الابن المنكود الحظ! ~~لقد ذهب لأول ms039 مرة فى حياته مع ترحيلة من هذه "التراحيل " التى يتغرب فيها ~~الأطفال صغارا، ثم عاد منها فلم يقض مع أمه عدة أسابيع حتى سمعنا نبأ ~~وفاته.- فقلت: وبقيت الأم الثكلى وحدها؟- قال: نعم! وعرفت فى قرارة نفسى سر ~~الزار فى هذا البيت المنكوب: إن أعصاب الزوجة تصدعت لفقد زوجها. فلما شب ~~ولدها عن الطوق، وبدأ يحمل تكاليف المعيشة، ويسعى ليعول نفسه وأمه، بدأت ~~الأم يعاودها الأمل فى الحياة! و!إذا بهذا الأمل ينطفئ، ويثوى فى مقبرة ضمت ~~رفات ولدها بعد رفات بعلها، فاعتراها من تواصل الأحزان، وضنك المعايش، ما ~~جعلها تتشنج وتترنح، فلم يعرف أقرباؤها إلا موسيقى الزار، يداوون بها ~~المرأة التى خالطها الشيطان، وما مسها فى الحقيقة إلا شيطان المآسى ~~والكربات. لعنه الله... مشيت مطرق الرأس، وئيد الخطا، ثم صحوت على صوت ~~رفيقى يقول: إن الشيخ مأذون الشرع أفتى بأن الزار حرام، وسيحدثك كثيرا فى ~~المجلس عن مضار هذه البدعة. فقلت له- وقد صممت على شىء-: اسمع، لن PageV01P047 ~~أستطيع الوفاء بموعد الليلة. فاذهب واعتذر عنى لحضرة العمدة ولحضرة الشيخ ~~مأذون الشرع ولسائر الرفاق!. ص _048 # وفى صبيحة الغد، أرسل إلى العمدة يستنبئنى لم تخلفت؟. ويدعوننى إلى تناول ~~الغداء مع رفاق الأمس على مائدته الكريمة. وفى الموعد المحدد كنت تجاه ~~مائدة حافلة، ترف عليها بشاشة النعمة، وتنعقد فوقها روائح شتى من الأطباق ~~المنضودة، والأطعمة الممدودة، وعلى أطراف الخوان أزهار ورياحين تعبث بها ~~أصابع الرجال الجالسين فى قلة اكتراث، المتهيئين للأكل والثرثرة فحسب. فلما ~~ضمنى المجلس العابث بمرحه، الصاخب بضحكه، استشعرت التناقض الواضح، بين ما ~~رأيت وما أرى، وتذكرت الأسى الشائع فى جو القرية، والصارخ بمعانى الحرمان ~~فى حياة أولئك الفلاحين المساكين، وبرز أمام عينى شبح الشقاء الجاثم فى ~~صدورهم، فأعدت النظر إلى الوجوه المبعثرة حولى، ورأيت أسارير منفرجة، ~~وملامح طافحة بالبشر، ثم قال العمدة بلهجته الآمرة: يا ولد، افتح الراديو، ~~نريد أن نسمع. وإن كان الشيخ المأذون سيتضايق لأنه يكره الغناء! فأرسل ~~المأذون جشاء طويلا ثم قال: إن الشرع الشريف هو ms040 الذى ينهى عنه أليس كذلك ~~يا.. وقبل أن يوجه الحديث إلى كان المستمعون الكرام وعلى رأسهم صاحب الحفلة ~~المضياف يتبادلون الضحك العالى، وهم يكرعون من أنس المجلس، ومتاع الحياة، ~~وصفاء العيش، ما يستطيعون من ذلك كله!! وصوت الراديو ينطلق فى الجو السكران ~~بما فيه ومن فيه قائلا: اوع تزعل ثانية صحتك بالدنيا! وأحس "مأذون الشرع " ~~بالحرج، فقال لى مستنجدا: أليس كذلك؟ أنت ممثل الدين بيننا فتكلم باسم ~~الدين. فقلت ساخرا: كان للدين سفراء يمثلونه عند رجال الدنيا. أما اليوم ~~فعند رجال الدنيا أقوام يمثلون باسم الدين! لكنهم للأسف يمثلون أدوارا ~~هازلة! فقال الرجل: إنى أسأل عن حكم الشرع الشريف. فقلت: تسأل عن حكمه فى ~~أشياء قد. تخدش أظافره. أما الأشياء التى تدق عنقه وتستأصل من الأفئدة ~~جذوره، فلا تسأل PageV01P048 ~~عنها، ولا يسأل عنها أحد! وهذه الفوضى الاجتماعية التى طغت على بلادنا، ~~وعبثت فيها بكل المقررات الدينية والعقلية، وطحنت قلوب الجماهير المعذبة، ~~ألا يستفتى فيها الدين يوما ما ليقول حكمه الحق؟ ثم قمت فى غضب وأغلقت ~~الراديو، فحبست صوت المرح المهتاج عن القوم المرحين، وتبرم العمدة بهذه ~~الحركة وضاق المأذون بما سبقها من كلام، فانصرفت وفى مشاعرى غليان مكتوم. ص _049 # لقد أيقنت أن هناك عوامل مدبرة، تدفع الناس إلى الجدل الطويل فى مسائل ~~الدين الصغرى، لتصرفهم عن ملاحظة المشاكل الخطيرة التى يتعرضون لها فى ~~دينهم ودنياهم، حتى خيل إلى أن الاشتغال بهذا السفساف طابور خامس للإلحاد ~~والفجور والبغى فى الأرض. ولقد وظفنى القدر فى الوعظ والنصيحة والإفتاء، ~~فما أعجب ما رأيت ووعيت. " أقول للناس: سلونى فى الجد، فيسألوننى فى الهزل، ~~أريد أن تستفتونى فى المبكيات، فلا أجدهم عندى إلا للاستفتاء فى المضحكات. ~~وهم- ولا أدرى لم؟ يسألون عن حكم الحل والحرمة فى لقمة خبز، ولكنهم يرفضون ~~أن يسألونى عن الحكم نفسه فى قطعة أرض، لأن اختصاصى- وقد يكون اختصاصى ~~الدين- لا يتعدى القروش وآلاف القروش إلى الأفدنة وآلاف الأفدنة!. فإذا ~~كانت الحادثة سرقة من جيب أو اختلاسا من بيت وجدت الفتوى ms041 بقطع اليد ماثلة. ~~أما السرقات الكبرى حيث لا تتوافر الشروط الشكلية للجريمة فلا قطع ولا ~~انقطاع، ولينعم بذلك بالا من يعنيهم الأمر! إن هناك شعوبا مسروقة تحت ~~الشمس، وطوائف مغصوبة فى وضح النهار. وإن الله تعالى ليرقب من عليائه كيف ~~يعمل الدين لإحقاق!ا الحق وإزهاق الباطل. دخلت فاطمة زوجة عمر بن عبد ~~العزيز يوما عليه وهو جالس فى مصلاه، واضعا خده على يده، ودموعه تسيل على ~~خديه فقالت: ما لك؟ قال: ويحك يا فاطمة، قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، ~~فتفكرت فى الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعارى المجهود، واليتيم ~~المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب PageV01P049 ~~والأسير، والشيخ الكبير، وذى العيال الكثير والمال القليل، وأشباههم فى ~~أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربى عز وجل سيسألنى عنهم يوم القيامة، ~~وأن خصمى دونهم محمد صلى الله عليه وسلم فخشيت أن لا يثبت لى حجة عند ~~خصومته فرحمت نفسى.. فبكيت. ص _050 # 3 رقيق الأرض... كيف يموت! * ثمن النخيل: لاحت لعينى النخلات الباسقات، ~~المنبعثة من فناء الدار! ورأيت طلعها النضيد متدليا على عراجينها لما يحمر ~~بعد. فخطوت إلى الأمام فى تؤدة، غير أن أفكارى كانت تدور على نفسها لا يعقد ~~بينها نظام ترى كيف سأجد الرجل الراقد فى فراشه منذ أسابيع؟ إن مرضه استنفد ~~ما لديه من مال! ثم تضاحكت فى مرارة وأنا أقول: مال؟ وأى مال يمتلكه هذا ~~المسكين الذى يشق طريقه فى الحياة شبرا شبرا، ويعارك فى ميدان لا يجد فى ~~أرضه ولا فى سمائه ولا فيما بينهما إلا التنكر والعدوان. وها قد سقط مريضا ~~كما يسقط الجندى الباسل فى معركة لا شرف فيها ولا إباء ولا نجدة! ورجعت ~~بصرى إلى النخلات الباسقة وقد اقتربت منى كثيرا، بعد قليل سأكون عند ~~مغارسها! فى صحن الدار التعسة، وإلى جانب رب الدار الثاوى فيها بين الحياة ~~والموت!! وولجت حارة ضيقة، ثم وقفت على وصيد مهجور، وقرعت الباب بلطف، ~~فارتفع صوت يقول لى: تفضل. صوت اجتهد صاحبه أن يعطيه شيئا من القوة، لا ms042 قوة ~~الجسم! فإن الجسم متخاذل سقيم، ولكنها قوة النفس التى تعتبر عواد المريض ~~ضيوفا يجب أن يقابلوا بترحاب وبشاشة، مهما بلغ من غض الزمن وإقتار اليد! ~~ودخلت متصنعا الابتسام والتفاؤل. وجلست على الحصير إلى جواره أسئله ~~وأداعبه، بيد أن هذا التمثيل المتكلف لم يخف من جوانب الحقيقة الكريهة ~~شيئا! فقد كان الرجل الممدد يعانى آلاما مبرحة ولم تكن علته من داء واحد بل ~~تظاهرت عليه أمراض عديدة نبتت كلها أو جلها من سوء التغذية، وطول الإرهاق، ~~وفساد الحياة، وظلم البيئة، وتركته هذه الأمراض كأمثاله من الفلاحين ~~البائسين خشن الجلد، PageV01P050 ~~مغضن الجبين، مشوه الملامح، لا تكاد تضربه نزلة برد حتى يستسلم لها. كأنه ~~ابن سبعين سنة لا شاب لا يتجاوز بعد الثلاثين!! وهمس المريض يقول: لقد ~~ذهبوا بى أمس إلى الطبيب.. ص _051 # قلت: وماذا قال لك؟ قال: أخذ الأجر وكتب لى دواء ذهب أخى الصغير ~~لاستحضاره من البندر. قلت: وكم كلفك ذلك كله؟ قال: مائة وثلاثون قرشا! وكأن ~~الرجل لمح فى سؤالى استفسارا آخر عن مصدر هذا المال الذى هبط عليه فجأة ~~وحالته كما أعلم- فقال: جاء أحد تجار الفاكهة واشترى منى ثمار النخيل عند ~~نضجها وأعطانى هذا المبلغ من الثمن. فرفعت عينى إلى النخيل السامقة ، ~~والمريض يتابع حديثه المتقطع فى إعياء وحزن قائلا: كنت أرجو أن أشترى ~~بثمنها غذاء للأولاد لا دواء لى. وسكتنا جميعا وأنا أسائل نفسى أكان غارس ~~هذه النخيل يعلم أن أولاده ستدركهم هذه التعاسة فى ظلها؟؟ لكنه كفلاحى مصر ~~جميعا يعملون للعمل وحده. عليهم التعب ولغيرهم الربح... وقرع الباب ودخل ~~الأخ الصغير يحمل فى يده لفافة صغيرة فضضناها عن حبوب وأقراص وزجاجات نظر ~~إليها المريض نظرة أمل ونظرت إليها وأنا موقن بأن ثمرات النخيل قد تقاسم ~~ربحها طبيب وصيدلى! ماذا تصنع هذه الحبوب والسوائل فى علاج رجل علته طول ~~الجوع وطول الجهد؟ لقد تلفت أجهزته وأعضاؤه لطول ما جرعت الماء الملوث، ~~وأكلت الطعام التافه، وطحنتها وطأة العمل فى الحر والقر، فسئمت الكلى ~~والكبد والمعدة هذه الحال ms043 وتوقفت عن العمل، فهل ستكرهها إلى العودة فى ~~مجراها هذه السوائل التافهة؟ لا أظن! وإن كان المريض قد اشتراها بثمار ~~نخلاته جميعا!... واستأذنت إلى عودة قريبة... * * * * بين الدين والدنيا: ~~وبعد أيام قلائل كنت فى الغرفة الكئيبة أتفرس فى ملامح الرجل المسجى على ~~فراشه يتلوى ويشتكى، وسمعته يتمتم، أن الدواء الغالى لم يرد إليه شيئا من ~~صحته المفقودة! وزراعته فى حقله معطلة لا تجد من يعنى بها. قلت له: لا ~~تجزع، ولا تضاعف أحمال الهموم على كاهلك، PageV01P051 ~~وعسى أن يعقب هذه الأزمة فرج قريب. فقال لى- وأنفاسه لاهثة وجبينه المغضن ~~يرشح بالعرق وينضح بالجهد-: ص _052 # لقد يئست تماما من حالتى، ولقد بعت محصول العام فى ثمن الدواء فلم ~~ينفعنى. وضاقت الدنيا بى كما ترى، وبقى شىء واحد تقدمه لى من عند الله. ~~قلت: ماهو؟ قال: تكتب لى آيات من المصحف فى تعويذة مطهرة! فلعلها تشفى ~~سقامى. فهززت رأسى فى أسف يكاد يفطر فؤادى. قلت: أتحسب أن هذا ما يقدمه ~~الله لك فى حالتك هذه يا صديقى؟ إذن لهانت الأديان كلها إن كان هذا مبلغ ما ~~تسعفك به!! لقد أكل أبناء الدنيا اللئام ما زرعت فى حقلك وما غرس أجدادك فى ~~بيتك وأعقبوك هذا المرض اللعين، أفتحسب أن الدين يقيك هذا السوء بالتمائم ~~والرقى؟ إن التعاويذ لجسدك الضاوى كأقراص الدواء لبطنك الخاوى لا تفيد شيئا ~~ألبتة!. بيد أن المريض المتعلق بخيط الأمل ذهل عن هذا الكلام فلم يع منه ~~شيئا وعاود إلحاحه! ماذا أقول له؟ إن آيات الله المنزلة على أنبيائه كلهم ~~لا تصلح بتعليقها إنما تصلح بتطبيقها. وما ذهب هذا الرجل إلا ضحية مجتمع ~~منافق، يتظاهر بتقديس الوحى واحترام صحائفه، فى الوقت الذى يسير فيه على ~~سنن من الإلحاد والجهالة واللؤم... وهذا الشرق الذى نعيش فيه له نقائض ~~خانقة. إن الحاكم فى قصره قد يستمع إلى آيات القرآن فيهز لها رأسه تأثرا، ~~ويغمض عينيه تخشعا، فى الوقت الذى يمضى فيه أوراقا تحمل للناس أقبح المظالم ~~وتوقع بهم أشنع المآثم !! وقد تجد ms044 الثرى من هؤلاء المترفين يحتفى بعلماء ~~الدين، ويخف لاستقبالهم وإكرامهم فى الوقت الذى لا يحبس فيه فقط حقوق ~~الفقراء فى ماله بل يغتال حقوق العمال فى أرضه. إن عقليتهم المريضة أخذت ~~الدين تمائم وهمهمات وأدعية فلم يزدهم الدين إلا مرضا، ولم تزدهم تعاليمه ~~إلا رجسا، وتطهير هؤلاء جميعا لن يتم إلا بتطهير الأرض منهم. وحانت منى ~~التفاتة إلى المريض الباسط يده فى ضراعة فإذا به قد لحقته غشية من غشيات ~~المرض، فقمت عنه بعد أن PageV01P052 ~~دعوت أخاه الصغير للعناية به. ولست أدرى كيف سيعنى به؟ ص _053 # * فى عداد المجاهيل؟! فى المساء عرفت أن الرجل مات، فأيقنت أن الموت ~~أحيانا يكون طبيبا رحيما حاسما لأعصى الآلام على العلاج. فلما ذهبت إلى ~~البيت الثاكل سمعت أنينا مكتوما ورأيت وحشة بادية. وفوجئت بالجثة محمولة ~~على أعناق نفر من الرجال القلائل الذين يمتون إلى الفقيد بصلة القرابة أو ~~الجوار. وما هى إلا ساعات حتى كان الرجال قد فرغوا من عملهم، ورأيتهم فى ~~جلابيبهم الزرق يعودون منكسرة قلوبهم مكلومة أفئدتهم، يتبادلون كلمات ~~العزاء والتصبر! قلت لنفسى: أهكذا تنتهى حياة رجل قضى عمره فى الكفاح ~~والعمل؟ لكأنها جنازة شقى حكم عليه بالإعدام، ومنعت الحكومة الاحتفال ~~بموته! ما أقل المعزين والمشيعين! وما أهون وقع النعى على آذان الناس! وما ~~أقل اكتراثهم له! لقد عاش الرجل فى صمت ومات فى صمت فلم يبكه إلا القليل! ~~بلي! بكته السماء التى طالما نظر إليها شاكيا، والأرض التى طالما انحنى ~~عليها مقاسيا! وبكاه حقله الذى طالما حول ما فيه من طين إلى ورد ورياحين! ~~وبكته النخيل التى غرسها أجداده فلم يستفد منها أجداد ولا أحفاد... وأقبل ~~الليل على أسرة صغيرة تبكى ربها الذاهب. وتنظر إلى مستقبلها نظرة باردة، ~~إنه لن يكون أسوأ من ماضيها على أية حال. لقد ذهب رجلهم فى عداد المجاهيل ~~من ألوف الفلاحين الذين يبريهم العمل ويقتلهم الجحود، ويتنكر لهم سادة ~~الأرض، فلا يجدون الراحة المنشودة إلا فى بطن الثرى بعد عذاب طويل. وفى ~~أوبتى سمعت ناعى الأموات ms045 فى القرية يصرخ بصوت عال، كأنه نذير حرب! فقلت: ~~لعل أودية الموت استقبلت طارقا جديدا، وصح ما توهمته يظهر أن الموت أنشب ~~أظافره فى صيد دسم، فإن الاسم المنعى إلى الناس اسم رجل من علية القوم، ~~أعرفه جبارا عنيدا من الملاك الجبابرة فى هذه الناحية فقلت: لعل القدر شاء ~~أن يفسر لنا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم- وقد مر أمامه بجنازة- فقال: PageV01P053 # "مستريح ومستراح منه. قالوا: يا رسول الله، ما المستريح. وما المستراح منه؟ ~~قال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا ووصبها، والفاجر يستريح منه العباد ~~والبلاد والشجر والدواب.. ". ص _054 # أجل.. لقد وضع الموت حدا لآلام صاحبى الفلاح الفقير. أما هذا الوجيه الذى ~~هلك فى هذه القرية البائسة، القرية التى استهلك أهلها قبل أن يقصمه القدر، ~~فقد استراح منه حقا كل شىء.. من العباد والبلاد، والشجر والدواب. * * * * ~~موت.. وموت: وطلع الصباح فكان يوما مثيرا فى حياة القرية بما ضم من مناظر ~~كثيرة لم يألفها الريفيون! حضر الباشا صهر الوجيه الهالك، وصاحب المقاطعة ~~المترامية الأطراف، وسيد أولئك الفلاحين الذين يعملون له ولا يرونه، واقتضت ~~عظمته وتقاليد الأسرة أن تكون الجنازة مظاهرة كبرى يحشد فيها أعيان القرى ~~المجاورة، وتزدحم فيها الجماهير المشدوهة، ويشتغل فيها أصحاب الجلابيب ~~الزرق بخدمة الوفود المتتابعة، لقد نسوا فى غمرة الحادث الجديد زميلهم الذى ~~كان منذ حين قريب بين أكفهم يهيلون عليه التراب فى سكون وريبة. وما فكر ~~أحدهم قط فى أن يقارنوا بين موت وموت! وأنى لهم ذلك وهم لم يفكروا ساعة أو ~~يقارنوا بين حياة وحياة! حياة السادة وحياة الرقيق... حياة الناعمين وحياة ~~الكادحين! إن طول ما ألفوا الهوان واستكانوا له، أوقع فى روعهم أن الدنيا ~~هكذا قسمة ضيزى وشقاء مقيم! ثم جاء المساء وكنت أسير الهوينى فى حارات ~~القرية الهامدة، فأبصرت سرادقا فخما تقع فى جوفه وأمامه الثريات البراقة، ~~وينبعث منه صوت المذياع القوى. والفلاحون يتهامسون بعبارات لم أتبينها... ~~من يدرى؟ ربما كانوا يتناجون بسيرة الفقيد السيئة، وما خلف بينهم من مظالم، ~~وما قدم ms046 لنفسه من آثام! وارتفع صوت القارئ فى السرادق يحيى ليالى المآتم، ~~فتلا هذه الآيات: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ~~ولا فسادا والعاقبة للمتقين * من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء PageV01P054 ~~بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون). وخيل إلى- ~~وأنا أسمع على البعد- أن الباشا الكبير كان يستمع إلى هذه الآيات فى تخشع ~~وتحزن ظاهرين!. * * * ص _055 # من أحلام المصلحين * مشروع القانون الإسلامي رقم 1: بعد الاطلاع على ~~المادة رقم 149 من الدستور، التى تنص على أن دين الدولة الرسمى هو الإسلام ~~. ومن حيث أن الإسلام يوصى بجعل منزلة أى شخص فى الهيئة الاجتماعية راجعة ~~إلى ما يقدمه لنفسه وأمته من جهد مادى وأدبى. وفى ذلك يقول القرآن الكريم: ~~(ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون). ومن حيث إن الدين ~~يطلب لكل عمل حسن، جزاءه المكافئ له ويستنكر أن يحسن أى عامل ثم ينال جزاء ~~سيئا، كما قال الله عز وجل: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان). ومن حيث أن ~~التقصير فى العمل يوجب إهدار كرامة الشخص المادية والأدبية على ما جاء فى ~~الحديث الشريف "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ". ومن حيث أن إبقاء ~~الأموال فى أيدى المتعطلين يفتح أبواب الفساد ويجر إلى المحرمات التى نهى ~~الإسلام عنها. ومن حيث أن حرمان العاملين من أجزيتهم المستحقة يهون من قيم ~~الأعمال، ويشل مصالح الأمة. ومن حيث أن الإسلام يعتبر من أوليات العدالة ~~التى يدعو إليها تطهير المجتمعات من هذه الفوضى. وبالاستناد إلى القواعد ~~المقررة فى أصول الفقه، من أن كل ما يؤدى إلى الواجب فهو واجب، وكل ما يؤدى ~~إلى الحرام فهو حرام. ص _056 PageV01P055 ~~أمرنا بما هو آت: - يصادر لحساب الدولة ما يزيد على مائة فدان من جميع ~~التفاتيش والإقطاعات والعزب التى يستغلها الأفراد لحسابهم الخاص. - يحرر ~~رقيق الأرض ويملكون من المزارع ما يوازيا جهودهم المبذولة. - يشغل الملاك ~~السابقون فيما يصلحون له من أعمال، ويعطون ما يستحقونه من أجور. - تساهم ~~الدولة ms047 بأكثر من النصف فى تملك جميع الشركات الاقتصادية العامة وإدارتها. - ~~يوضع كادر متقارب الفئات للعمال ورؤسائهم وأعضاء المجالس الإدارية للشركات. ~~- كل من ثبت عليه استغلال عامل زراعى أو صناعى يعاقب بالجلد والسجن وتصادر ~~الأموال التى استولى عليها. - يعمل بهذا القانون من تاريخ نشره بالجريدة ~~الرسمية. ترى؟ هل تصدق الأحلام؟؟ ص _057 PageV01P056 ~~فى صميم السيرة * معالم النبوة: كما يرصد علماء الفلك من أرضهم القريبة ~~أجرام السماء العالية، وكواكبها القاصية. وكما يستطيعون بآلاتهم الصغيرة ~~ووسائلهم القصيرة، أن يعطوا فكرة عن أبعادها وأحجامها وأشعتها وداراتها... ~~كذلك نرصد نحن أصحاب النفوس المحدودة والمواهب المعتادة- معالم النبوة ~~المحمدية فى أفقها السامى، ثم نتحدث عن أشعتها الهادية، وأمجادها الرفيعة، ~~وآثارها الخالدة، كما يتحدث السائرون فى النهار عن ضحوة الشمس، أو السائرون ~~بالليل عن ضياء البدر، أو حديث الأذهان الكليلة عن العبقريات المدهمة، ~~والأقدار الهزيلة عن الأقدار المعلمة. ولن نمثل للناس من معالم النبوة إلا ~~أطرافا يسيرة، ومهما اجتهدنا فى تصويرها فلن نعدو قول البوصيرى: إنما مثلوا ~~صفاتك للناس كما مثل النجوم الماء! لقد مضت قرون طوال على ظهور محمد صلى ~~الله عليه وسلم فى التاريخ. ولكن الآثار الغائرة والأحداث العميقة التى ~~خلفها من بعده لا تزال قائمة ولن تزال كذلك. فالأمة التى صنعها بيديه، ~~والرسالة التى أوحيت إليه، هى أشرف مواريث الإنسانية طرا. وسيموج العالم ~~بعضه فى بعض، وتصطرع مذاهب وآراء، وتتفانى شعوب وأجيال، ويبقى بعد ذلك دين ~~محمد العظيم، يبقى الربوة العاصمة من الغرق فى هذا الطوفان الفوار. وسيبحث ~~العالم كله عن الحق والسلام والعدالة. ومهما أجهد نفسه فلن يجد إلى ذلك ~~سبيلا، إلا إذا عرف الطريق إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فمشى على سنته، ~~واستقام على هديه، واستظل بلوائه، وألقى إليه السلم..!! أجل، لقد قطعت ~~الإنسانية ثلاثة عشر قرنا أو يزيد بعد رسالة محمد تنفي، وخطت الحضارة ~~أشواطا فسيحة إلى الأمام، واطردت سنة التطور فى كل شىء. وقد يقال: ماذا ~~يصنع دين، أو ماذا تصنع الأديان جملة، وقد جاءت فى العصور الوسطى ونحن الآن ~~فى ms048 عصور أخرى؟ ص _058 PageV01P057 ~~وهذا تساؤل يمليه الجهل بطبيعة الإسلام الحنيف! ذلك أن الإسلام دين ~~الحقيقة، والحقيقة لا تتغير وإن تغيرت الأزمنة والأمكنة. وما هو ثابت فى ~~نفسه يستوي فى ضرورة العلم به، أن يكون عند بدء الخلق أو عند قيام الساعة.. ~~والإسلام جملة من الحقائق التى تتعلق بالعقيدة، وبالفكر، وبصلات الناس ~~بعضهم ببعض، أو صلاتهم جميعا بالخالق جل وعلا. ولو أن دينا نزل إلى الناس ~~فى هذه الأعصارأكنت تحسبه ينقض مبدأ التوحيد فى العقيدة. أو مبدأ الأخوة فى ~~المجتمع؟ أو مبدأ التعارف بين الأمم؟ أو قانون العدالة فى الأحكام، ~~والفضيلة فى الأخلاق؟ أو الصلاح النفسى الذى لا ضمان له بين عامة الناس إلا ~~بضروب العبادات وصور الطاعات؟ أو تحسبه يعترف بضراوة الشهوة بين الأفراد، ~~وضراوة القوة بين الأمم؟ كلا كلا! فلو أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء ~~الإنسانية فى أمسها القريب أو يومها الحاضر، أو لو أن عشرات النبيين ~~انطلقوا من بعده بين المدائن والقرى مبشرين ومنذرين، ما عدوا حدود القرآن ~~فى هديهم، ولا تجاوزوا حلوله السمحة فى المشاكل التى تعترضهم. فإن هذا ~~الدين جعل الله فيه خلاصة للأديان السابقة، وغناء عن الشرائع اللاحقة. وإن ~~محمد صلى الله عليه وسلم! صاحب الرسالة العظمى هو أمل العالم فى يومه وغده. ~~وكتابه هو الدواء الفذ لما أصاب العالم من دوار، ولما اعترى خطواته من ~~عثار. (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله ~~بإذنه وسراجا منيرا * وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا * ولا تطع ~~الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا). * * * ~~ومن معالم النبوة ظهور محمد صلى الله عليه وسلم برسالته هذه، فى تلك البقعة ~~بعينها من صحراء الجزيرة، فأنت لا تعجب للزهرة النابتة فى الرياض الزاهرة ~~والحدائق النضرة، ولكنك تعجب لها أشد العجب عندما تراها مستوية على ساقها ~~فى صميم الصحراء القاحلة، وفى مهب الرياح السافية. فكيف PageV01P058 ~~والأمر ليس زهرة واحدة ولا زهرات؟ بل هو كما قال القرآن: (كزرع أخرج شطأه ~~فآزره ms049 فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع). ص _059 # وهكذا تجدد للفكر الإنسانى شبابه بعد بلى وانحلال، وعادت للحضارة ~~الإنسانية قوتها بعد ركود واضمحلال. ومن أين أتتها هذه الأمداد الوافدة ~~بالحياة؟ من الصحراء التى لم تزدهر فيها قبل معرفة، والتى كان ينتظر منها ~~أن تستورد المعارف من جاراتها العريقة فى الحضارة، لا أن تقوم هى بالتصدير ~~والإمداد! وما انعكست الآية فى قوانين الأرض إلا لأن الله عز وجل أراد أن ~~يحدث آية من لدنه. فلما اتصل جدب الصحراء بوحى السماء تحول إلى خصب ونماء. ~~فانطلق محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه !فى مشارق الأرض ومغاربها هداة ~~مرشدين، وبناة مجددين. (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما ~~الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي ~~إلى صراط مستقيم). وقد استمر نزول القرآن بضعا وعشرين سنة، كان أوله تمهيدا ~~لآخره، وكان آخره تصديقا لأوله. وتعتبر تعاليم الإسلام وحدة متماسكة لا ~~يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. والإسلام الذى بشر به الرسول صلى ~~الله عليه وسلم هو نفسه الذى دعا إليه خلفاؤه رضوان الله عليهم. وإنما نقول ~~هذا الكلام لنقرر به فرقا بين الرسالات الأرضية التى صنعها الناس لأنفسهم، ~~وبين الرسالة السماوية المنزلة من عند الله. فالديمقراطية التى نادى بها ~~الفرنسيون، مثلا، لم تكن لها حقيقة متميزة يوم كان الثوار الفرنسيون يهتفون ~~لها. وقد وضعت لها دساتير كثيرة، كانت كثرتها مثار سخرية لاذعة. وقد قتل ~~الثوار قادتهم، وانتهت ثورتهم بإمبراطورية سفاكة طاغية. ثم عادت مرة أخرى ~~جمهورية تشرع من دساتير الديمقراطية ما تراه صحيحا اليوم لتعود إلى نقضه ~~غدا!! ص _060 PageV01P059 ~~والشيوعية التى نادى بها "ماركس " هى شىء آخر غير الذى طبقه "لينين "، وما ~~طبقه لينين شىء آخر غير الذى نفذه "ستالين ". ولسنا ندرى ما يحمل الغد فى ~~طياته من أطوار جديدة لها. وذلك أمر لا يستغرب فيما يصنع الناس لأنفسهم من ~~نظم. إذ أنهم يخطئون ثم يكتشفون أغلاطهم فيداوونها بخطأ آخر. أما ما يشرع ms050 ~~الله لخلقه فهو منتهى الحكمة والرحمة. وفيه العصمة من التجارب المريرة. ومن ~~ثم كانت الرسالة الإسلامية، فى بداية الوحى وختامه، عقدا يسلكه نظام واحد، ~~وينتهج خطة واحدة، وغاية واحدة. وهى كذلك أبد فى كل عصر ومصر! وما نعنى ~~بهذا مقارنة بين الإسلام وغيره من النظم، ولا بين نبى الإسلام وغيره من ~~قادة الفكر، فالإسلام ونبيه الكريم فوق هذا. وشتان بين السفوح والقمم!! ألم ~~تر أن السيف يزرى بقدره إذا قيل هذا السيف أمضى من العصا ولكنها معالم ~~النبوة وشارات الصدق، تتألق فى معدنها النقى، فتملأ نفوسنا غبطة ويقينا، ~~كلما مرت السنوات وتجددت الذكريات . ص _061 PageV01P060 ~~عيد ميلاد أحمد بين ميلاد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وميلاد موسى ~~عليه السلام تشابه قريب، يرجع إلى أن الحق تبارك وتعالى حين يصطنع عبدآ ~~لنفسه، ينشئه تنشئة لا أثر فيها لتوجيه الناس، ولا محل فيها لرعاية أحد من ~~الأقربين أو الأبعدين، ولا حاجة فيها لتدخل العباد ما دام الأمر- من قبل ~~ومن بعد- يخص السيد وحده! . ولقد فقدت أم موسى وليدها، هى لما تنته من آثار ~~وضعه. فهل فقد موسى عطف الوجود حين بدل من صدر أمه صدر الأمواج الهائجة ~~المائجة، بعد أن ألقى التابوت بوديعته الغالية فى ثبج اليم الطامى؟ لا، لأن ~~الله- الذى تخفق اللجج بتسبيحه- كان قد تكفل بكل شىء عندما قال: (وأوحينا ~~إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني ~~إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين). وكذلك كان حال محمد صلى الله عليه ~~وسلم فى بحر الحياة، ولئن كانت معجزة موسى فى طفولته محسوسة لقد كانت معجزة ~~محمد صلى الله عليه وسلم- كشأن رسالته- لطيفة معقولة. مات أبوه الشاب ولم ~~تسعد عيناه برؤية أعظم طفل دفعت به أرحام الأمهات إلى أن يرث الله الأرض ~~ومن عليها. وبرز "اليتيم " العبقرى إلى الوجود، وقد فقد حنان أبيه، ولكنه ~~لم يفقد حنان ربه! وماتت أمه فى الطريق بين مكة والمدينة، فأسرعت أم أيمن ~~لتحتضن طفلا لم ms051 يتجاوز الخامسة من عمره. طفلا فقد أبويه كليهما، ولكن حظه ~~من رحمة الله يربو ويتضاعف كلما تقدم العمر. ومات جده وآواه عمه إليه، وكان ~~رجلا فقيرا نبيلا، فكان على اليتيم الفريد أن يعمل مع عمه ليعيش، فتراه فى ~~العاشرة من سنه يسافر ويتاجر ويكدح. حتى إذا رآه أحد الرهبان، وقد نضح ~~إشراق روحه على قسمات وجهه، أدرك أن أمورا فى مستقبل الحياة الإنسانية ~~ستقضى على يدى هذا الشاب، فهو يتساءل عنه وعن والده ثم يتمتم: ما ينبغى أن ~~يكون أبو هذا حيا! ص _062 PageV01P061 ~~وهب يا صاحبى أن أباه كان حيا ماذا كان يفعل له؟ لقد كان يعقوب حيآ، وأبى ~~الله إلا أن ينترع يوسف من بين أحضانه، وبدلا من أن يتربى فى بيت النبوة ~~درج بين مفاتن القصور، وظلمات السجون، وأحاط به من لا يعينون على خير، بل ~~من يغرون بالشر ويدفعون إليه دفعا، فماذا كان مستقبل يوسف الصديق؟ كان لهب ~~الشقاء الذى صادفه حرارة أنضجت بذور الشرف فى كيانه الخاص، فإذا نفسه تتفتق ~~عن إيمان وشرف، وعفاف وصدق. هى العناصر التى زوده بها القدر وهو جنين. ~~والرجال الذين تصطفيهم العناية العليا يصنعون على هذا الغرار، فليس آباؤهم ~~غارسى شمائل العظمة فى طبائعهم بالتربية والتكلف، بل إن آباءهم لا يصنعون ~~شيئا. وما ضر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يولد يتيما. وصدق الراهب الذى ~~قال: ما ينبغى أن يكون أبو هذا حيا. إن الذى قال لموسى : (ولتصنع على عيني) ~~قال لأخيه الأكبر محمد صلى الله عليه وسلم : (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ~~وسبح بحمد ربك حين تقوم * ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم). * * * * هذا ~~العلم معجزة... سل نفسك: من ألهم الأمى رسالة تفخر العقول الذكية بالفقه ~~فيها، وتؤلف فى شرح دقائقها وبيان وجوه حكمتها وغرائب أسرارها، مكتبات فيها ~~ألوف من الرسائل والمجلدات. مكتبات يعدو على إحداها زمن جاهل يلقى بأسفارها ~~إلى النهر فإذا طاف الماء الصافى تسود من فرط المداد! مكتبات لا تزال مدائن ~~العالم الكبرى تقتنيها وتحرص عليها! تتضافر كلها ms052 على ماذا؟ على خدمة ~~الرسالة التى بعث بها النبى الأمى الذى لم يدخل مدرسة، ولم يجلس إلى أستاذ ~~فى جامعة! ولكنه هو الذى شاد دور العلم، ووضع حجر الأساس فى الجامعات بما ~~خلف من ثروة عقلية تطلع مع الشمس وتبقى على الآباد: ص _063 PageV01P062 ~~(وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون * بل ~~هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون). ~~ما هى روافد هذا العلم، وأين يجد الناس منابعه فى هذه الأرض؟؟. أكانت أفكار ~~التوحيد تنبت بين أوثان الجزيرة وأحجارها؟. . أم كانت آيات العدل تقتبس من ~~غطرسة الأكاسرة المجوس؟. أم تعلم محمد صلى الله عليه وسلم!! الرحمة التى ~~بعث بها من قلوب اليهود القاسية؟. ووضع أصول الوحدة من اختلاف الكنائس ~~المسيحية وانقساماتها؟. ثم هب أن محمدا صلى الله عليه وسلم!! استوحى أصول ~~دينه العظيم من الأرض لا من السماء. ماذا يستتبعه هذا الفرض مما يصادم ~~العقل والواقع؟. النتيجة الغريبة هى أن قرآنا بشريا استطاع أن يقوم بدعوة ~~لتوحيد الله فى أسلوب من القول والتوجيه لم تستطعه كتب السماء نفسها. وأنه ~~خدم الدين بما لم يفعله رب الدين نفسه. أفهذا منطق؟ أفهذا الدين من وضع ~~محمد صلى الله عليه وسلم!!؟ (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ~~وما كنت من الشاهدين * ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ~~ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين * وما كنت بجانب ~~الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك ~~لعلهم يتذكرون). * * * * وهذه العبادة ! ويقف أمثالنا من البشر حيارى إزاء ~~هذه العبادة التي تصل سواد الليل ببياض النهار جدا ودأبا. يكبر للصلاة، ~~ويستفتح وإذا أبواب السماء تتفتح لنبى يقرأ فى الركعة الواحدة عشرات ~~الصفحات من كتاب الله. ص _064 PageV01P063 ~~فإذا خر ساجدا حسبته زوجه قبض من طول ما لبث، وهو يقول فى ذلة وتواضع: ~~سبحان ذى الجبروت والملكوت والعظمة! ويقول خادمه: كنت أجلس ms053 إلى بابه فلا ~~يزال يسبح حتى أمل وتغلبنى عيناى. وكان النبى صلى الله عليه وسلم يصوم حتى ~~يقول الناس: ما يفطر، فإذا طوى الناس بطونهم على حجر طوى بطنه على حجرين!. ~~وذهب ليحج فخرج على رحل رث وقطيفة خلقة لا تسوى أربعة دراهم ثم قال: اللهم ~~حجة لا رياء فيها ولا سمعة. حتى إذا حضره الموت كان يستفيق من سكراته ليوصى ~~بتقسيم عدة دريهمات جاءته، على الفقراء والمساكين! وهذا النمط من العبادة ~~المتصلة الحلقات لم يخب له ضياء منذ أن تنزل الوحى لأول مرة: (اقرأ باسم ~~ربك الذي خلق). وظل ينهمر أكثر من عشرين عاما إلى أن أمر بتوديع الحياة ~~الدنيا والتهيؤ للرفيق الأعلى: (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس ~~يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)... حتى ~~لكأنما نسق الله له مراحل حياته العظمى، وقرن انتظامها، بدوران الفلك من ~~المشرق إلى المغرب، فليس يعروها توقف ولا اضطراب!! كيف وقد قيل له: (فاصبر ~~على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل ~~فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى). * * * * الجاه المادى والأدبى: نحن لا ~~نستدل بالزهادة على النبوة، فكم فى الدنيا من زهاد ليسوا بأنبياء ولا ~~أولياء. إنما موضع العبرة فى حياة سيد البشر أنه لم يحاول مرة واحدة أن ~~يثبت لنفسه شيئا من الجاه المادى أو الأدبى. ص _065 PageV01P064 ~~ولم يؤثر عنه قول أو عمل يومئ إلى هذه الناحية، والعظماء النفسانيون فى ذلك ~~غير العظماء الربانيين. الأولون يريدون أن يفرضوا نفوسهم عباقرة ممتازين، ~~وليس يضر الواحد منهم أن يصادر فى رزقه، ولكنه لا يقر له قرار إذا خدش ~~امتيازه أو استهين بعبقريته. إنه لا يفرط أبدا فى حقوقه، بل يرد عنه جحود ~~أعدائه بكل ما أوتى من قوة، ولا يحزنه أبدا- وهو يقمع كيدهم- أن يراهم ~~أمامه صرعى. أما الأنبياء، أما سيد الأنبياء، فهل ترى سمة الاعتداد بالنفسى ~~واحتقار الأعداء والسطوة الأدبية فى مثل ما يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم ms054 ~~فى كتابه: (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب). (ما كنت تدري ما الكتاب ولا ~~الإيمان). (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين). (ولولا ~~فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما ~~يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان ~~فضل الله عليك عظيما). وشاء الله أن يكافئ هذا النبى الكريم الذى برئ من ~~طلب الجاه الأدبى فأضفى عليه حللا من المجد لا تبلى: شرح له صدره، ورفع له ~~ذكره، وأعلى له قدره، و... ومع ذلك فهناك ضروب من الزهد المادى ، هى فى ~~روعتها آية على النبوة، وإلا فكيف تفسر إباء الرسول صلى الله عليه وسلم أن ~~يوسع على زوجاته من متاع الدنيا الحلال وتنزل آيات التخيير: (إن كنتن تردن ~~الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا). إن الزاهد قد ~~يرتضى الشظف لذات نفسه، أما أن يفرضه على بيته وقرناء حياته، فذاك مثار ~~العبرة. ص _066 PageV01P065 ~~بل الأقسى من ذلك والأدعى إلى العظة، موقفه من ابنته فاطمة وزوجها على، فقد ~~ظلت فاطمة تطحن على الرحى حتى تورمت يداها، وظل على يسقى بالقربة حتى اشتكى ~~صدره. فلما سمعا بقدوم سبى على المدينة أرسل على زوجه تطلب خادما من أبيها. ~~ولكنها استحيت أن تسأله وعادت إلى زوجها الذى هب يعلن الشكوى، فكان جواب ~~الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم من ~~الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، ألا أخبركما بخير من ذلك؟ تسبحان الله ~~وتحمدانه دبر كل صلاة.... " * * * * تربية قادة: ولقد استمع إلى هدايات ~~الرسول صلى الله عليه وسلم أقوام صحبوه، وحملوا معه عبء دعوته، وشاركوه ~~تكاليفها من جهد وتضحية. إن سيرة هؤلاء الأصحاب من بعده معجزة تضاف إلى ~~معجزاته. وآية تضم إلى آياته ، إنهم عرفوه على ضوء العقيدة الجامعة والهدف ~~الكبير وأحبوه حبا انطبع فى شغاف القلوب، وأحسوا كأن الله اصطفاهم لصحبة ~~نبيه كى يكونوا من بعده سدنة رسالته وحملتها إلى ms055 الآفاق. ولقد صدقوا ما ~~عاهدوا الله عليه، فوجد الإسلام فى قلوبهم وأيديهم كهفه، ووجد الكفر فى ~~يقظتهم وسيوفهم حتفه. ولكم سعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو فى مرضه ~~الأخير- عندما أطل من نافذة بيته فرأى الأصحاب الأبرار منتظمين فى صفوف ~~الصلاة... لقد أشرق وجهه كأنه ورقة مصحف بعد أن أيقن أنه ترك آثارا لن تزول ~~وربى نفوسا لا تحول... أجل، هذه الأسماء اللماعة فى تاريخ الإسلام ما كان ~~يقدر لها أن تكون شيئا مذكورا لولا الدعوة التى قام بها سيد الدعاة، ودعم ~~بها قوى الخير على ظهر الأرض. ص _067 PageV01P066 ~~عاطفة...!!! قال لى أحد الصالحين: إننا نحيى ربنا جل شأنه ونحن جلوس فى ~~صلواتنا أليس كذلك؟ قلت: نعم، عقب الركوع والسجود، نهمس وأيدينا على الركب: ~~التحيات لله. قال: ثم نتوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالسلام بصيغة ~~الخاطب الحاضر، نقول- وكأن الكلام لشخص قريب منا-: السلام عليك أيها النبى ~~ورحمة الله وبركاته...!! قلت: أجل، كذلك نفعل، على بعد المكان والزمان ~~بيننا وبين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال: إن السلام أفرغ فى تلك ~~الصيغة قصدا، لأن النبى صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون حيا فى ضمير كل ~~مؤمن، يجب أن ينتصب له مثال مرموق فى وعى المسلم اليقظ تتحقق فيه ملامح ~~الصورة الذاهبة! وهل تؤخذ الأسوة الواجبة إلا من هذا الاستحضار الدائم؟ لقد ~~مرت أعصار على موت الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن القيم الرفيعة التى ~~تجسدت فيه، نماذج العبودية لله، والجهاد فى سبيله، والحنو على خلقه، وصور ~~الكمال البشرى فى العفاف والعدل والإيثار والمرحمة. تلك كلها معان لم تمت، ~~وإنما خلدت فى كيان هذا النبى محمد صلى الله عليه وسلم. والمسلم عندما يقول ~~فى صلواته: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته إنما يقترب من إمامه ~~الأعظم الذى أمره الله أن يتأسى به، وأن يسعى فى ركابه: (لقد كان لكم في ~~رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا). * * ~~* واسترسل الرجل ms056 الصالح فى عاطفته المهتاجة، وأخذ يشرح لى ما يعنى قال: إن ~~الشمس فى رائعة النهار لا تعتبر غائبة عن بصير، وتستطيع كل مرآة مجلوة ~~الصفحة أن تعكس صورة لقرصها أو لهالتها، أو لأشعتها، ومحمد صلى الله عليه ~~وسلم فى عالم اليقين والخلق، شمس لا ينكر لها بريق، ولا يغيم لها ضوء. ص _068 PageV01P067 ~~والمهم أن يكون لك فؤاد مصقول يستطيع استقبال هذا النور فى حناياه، ~~والاستهداء به فى دروب الحياة. إن القدوة الطيبة تقوم على استحضار المثل ~~الأعلى فى الذهن، ومحاولة السير على غراره فى الخارج. والائتناس الدائم ~~بهذا المثل الأعلى هو الذى يلهج الألسنة بعد تحية الله تبارك وتعالى ~~بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام حضور لا سلام غيبة، ومن ثم ~~كان كل مصل يقول: "السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، السلام ~~علينا وعلى عباد الله الصالحين ". ومحمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم ~~معقد الحقائق التى يصلح بها العالم من أزله إلى أبده، والتعاليم التى جاء ~~بها لا يستغنى عنها الأولون والآخرون إلا إذا استغنت الأكوان عن نظام ~~الجاذبية وسائر السنن العامة. واضطراب الحياة إنما يرجع إلى تجاهل الهدايات ~~التى جاء بها النبيون، والتى أتمها وأجملها هذا النبى الخاتم. وما يثوب ~~الناس إلى رشدهم إلا يوم يحتفون بهذه الرسالة وصاحبها، ويعرفون حكم الله عن ~~طريقه. وكان حقا على العالم كله أن يصدق بهذه البعثة العامة، ولكن العالم ~~تنكر لها وتطاول على رجلها الكبير. وعندى أن الشفاعة العظمى- التى جاءت ~~السنن بثبوتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم- لا تعدو أن تكون لونا من ~~تأديب البشر كافة على موقفهم السابق من نبى الإسلام، فإن رسول أى عظيم ~~يستحق من التوقير والإعزاز بقدر ما لمرسله من مكانة، والرجل الذى أرسله رب ~~العالمين كان يجب أن يلقى من التكرمة ما يرفع ذكره، ويعلى شأنه، غير أن ~~أكثر الناس تواصوا بالصد عنه وجحد دعوته، ورغبوا عن الحق الذى معه، وبخسوا ~~قيمته، ثم تتابعت الأجيال، والخلف فى أغلب بقاع الأرض ms057 يتوارثون عن سلفهم ~~هذا التكذيب الشنيع!! ولو نظرت فى هذه الألوف المؤلفة من الكنائس والمعابد ~~لوجدت داخلها أجهزة منظمة دوارة تعمل فى غير ملل لصرف الناس عن الإسلام ~~ونسبة أقبح النعوت إلى نبيه المبرأ الشريف... وكأن الله تبارك اسمه PageV01P068 ~~شاء أن يعرف هذه الأمم مدى ما كانت فيه من غباوة، وأن يذيقها شيئا من مرارة ~~الجريمة التى ارتكبتها، فهو فى ساحة العرض الشامل لأصناف ص _069 # الخلائق، يحشر سكان القارات الخمس على مر القرون، يحشرهم فى صعيد واحد، ~~ثم يكشف الغطاء عن عيونهم، وإذا هم يتبينون فداحة جهلهم بالله الكبير ~~المتعال، ويتبينون شناعة خصامهم لإمام رسله..!! وهنا يموج بعضهم فى بعض، ~~ويضطربون فى حيرة مفزعة لا يرجى منها خلاص، وتتحرك جموعهم إلى كل نبى سمعوا ~~باسمه فى العالم الذى انتهى، يناشدونه أن يسأل الله لهم الرحمة، ولكن ~~النبيين كلهم يرفضون التصدى لهذا المطلب، ويعود أهل القارات الخمس متراكضين ~~إلى الرجل الذى طالما قيل لهم أنه كذاب! إنهم يحسون الآن عن يقين أنهم ~~أخطأوا فى حقه، وأنهم يوم صدوا عنه كانوا يخسرون أنفسهم وأهليهم!!!. ~~الشفاعة العظمى- فى نظرى- موقف يحاكم فيه التاريخ البشرى كله، ليعترف أن ~~انصرافه عن الإسلام كان مشاقة لله، وعداء لأحب أوليائه، وأصدق دعاته... وما ~~أعجب أن تجد الإنسانية نفسها فى حرج يوشك أن يقضى عليها، ثم تعلم فجأة أن ~~التنفيس عن كرباتها ربما تم باللجوء إلى الرجل الذى عاشت دهورا، وهى تروى ~~عنه الأكاذيب وتنسب إليه الأساطير... والتجاء أهل الأرض إلى محمد صلى الله ~~عليه وسلم فى تلك الساعة العصيبة، ولجوءه إلى الله يطلب مغفرته للعبيد ~~الأغرار، ذلك- فى ظنى- هو المقام المحمود. المقام الذى نسأله لمحمد صلى ~~الله عليه وسلم عقب كل أذان يتردد صداه فى مهاب الريح، فيستجيب له قوم، ~~وينصرف عنه آخرون "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا ~~محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذى وعدته ". قلت: إن محمدا ~~فى عالم العقائد والحقائق شمس نفاحة ، لكن العميان كثير. وقد مكث هذا ~~الرسول ms058 النبيل يصدع بأمر الله، وينقذ الناس من أهوائهم ومظالمهم، ثم ذهب ~~إلى الرفيق الأعلى تاركا فينا تراثه الجليل من كتاب وسنة... فليتعلم PageV01P069 ~~الدعاة من حياة سيد الدعاة أن أجر الحق المبذول لا يعجل فى الدنيا، وأن ~~للمقام المحمود موعدا فى غير هذه الدار، يتعلق به وحده الدعاة الأبرار. ص _070 # عظمة الرسول فى شخصيته * أنوار النبوة: . على حداثة عهدى بدراسة السنة ~~المطهرة، كانت تستوقفنى عبارات طريفة لنقاد الحديث، أولئك الرجال الأذكياء ~~الذين صانوا تراث النبوة عن أن تتزيد فيه الأهواء، فقد كانوا إذا ما رأوا ~~حديثا دخيلا، يكشفون زيفه ثم يقولون عنه: إنه لا تلوح عليه أنوار النبوة!! ~~كنت أبتسم ابتسامة ريبة وأنا أطالع هذه العبارة. حتى مرت على سنوات طوال ~~وأنا مكب على قراءة السنة الكريمة أنتقل بين صحائف شتى من آدابها المشرقة، ~~وتوجيهاتها الحية، وعظاتها النفاذة. وأجيل الطرف فى آفاق لا نهاية ~~لرحابتها، ولا شائبة فى رفعتها، ولا حد لسنائها وسموها. فلما عدت إلى نفسى ~~بعد هذه الرحلة الطويلة. كان عقلى وقلبى يتسابقان إلى الإقرار بأن على ~~معامل السنة الصحيحة أنوارا لم تزل تتألق على مر القرون، ولم تزل تحمل من ~~نفس صاحبها طابع الهدى وعمق الأثر، ولم يزل يرف عليها من صادف الوحى ندى ~~يفيض بالحياة ويهز الأفئدة. ولم تزل كنوز خير وفير، وبر مذخور، لمن شاء ذلك ~~كله. ليس هذا ما ننوه به، فكم فى آثار الزعماء من تعاليم نقية الجوهر رائعة ~~الرونق، ولكنها مع ذلك تعاليم فقط. أما آثار السنة فهى تعاليم وتربية معا. ~~فيها ما يقنع العقل ويشبع العاطفة. تحسى عندما تطالع صحائفها أنك فى حضرة ~~جليس صالح يؤثر فيك وتتأثر ويداخلك تهيب وجلال، إذ تحس إحساس الولد نحو ~~الوالد، والتلميذ نحو الأستاذ، والجندى نحو القائد، والعامى نحو الفيلسوف. ~~وذلك إحساس قاهر تتفتح له أقطار النفس طوعا أو كرها. قد أقف أمام السنة، ~~وفى القلب جمود وعليه غشاء، فما هى إلا سويعات حتى يتصل بى تيار الشخصية ~~التى أودعت بعض عظمتها فى أحاديثها، فإذا القلب ms059 يزكو والنفس تطيب، وإذا ~~أنوار النبوة تسلط أشعتها من خلال الغيب فتمحو PageV01P070 ~~ظلمات بعضها فوق بعض. ص _071 # أجل.. إن ذلك فعل النفوس الكبيرة هيهات أن ينال من مضائه بعد الزمن. ولقد ~~واجه آثاره من قريب أقوام آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فالتفوا ~~بصاحب الدعوة الأولى التفاف الكواكب حول أشدها قوة وأعظمها سنى. فهل ننتظم ~~فى دورة هذا الفلك نحن الآخرين؟ من يدرى؟! لعلنا لا نخلد إلى الأرض مع ~~أهوائنا. على أن لنا طموحا إن لم تواته الأسباب المحض، فقد يواتيه فضل ~~الله، وفى جانب الله لا تتوقف عواطف الرجاء. * * * * سر العظمة: لله عز وجل ~~رسل كثير قاموا بواجب الدعوة إليه، وتوارثوا كابرا عن كابر هداية الخلق ~~ونصرة الحق، فأنقذوا الناس من أنفسهم وعرفوهم إلى ربهم. ولكن محمدا صلى ~~الله عليه وسلم كان بشخصيته، وطبيعة رسالته، إمام الأنبياء، وكان بحق سيد ~~الدعاة إلى الله. فما سر هذه العظمة؟ وبم كان هذا الفضل المبين؟ السر فى ~~هذا أن محمدا الرسول كلف أن يغرس فى قلوب من حوله إيمانا لا تستخدم فى غرسه ~~إلا الوسائل المقدورة لطاقة البشر. وقد استطاع ذلك من غير أن تتبدل الأرض ~~غير الأرض. على عكس ما حدث على عهد موسى مثلا، إذ رفع الطور فوق رؤوس الناس ~~ليؤمنوا بالله ويعطوا على ذلك الموثق! (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم ~~الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون). وكما كان نبينا ~~بين أتباعه بشرا رسولا، فقد كان كذلك مع أعدائه، لم تسخر ضدهم قوى السماء ~~على كثرة ما لحقه منهم من إيذاء. على عكس ما حدث لموسى فقد نكل الله ~~بأعدائه تنكيلا قاهرا، إذ مسخهم قردة وخنازير: ص _072 PageV01P071 ~~(ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين * ~~فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين). وليس يفهم من ذلك ~~أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت خلوا من الخوارق. لا، فإن النبوات ~~قائمة على أن تقترن بالخوارق فى الكثير من مظاهرها ms060. إنما المهم أن تأسيس ~~اليقين فى قلوب الموقنين، واستئصال العدوان من نفوس المعتدين، كان العامل ~~الفعال فيه بشرا اكتملت فى خلقه وخفقه عناصر الكمال الإنسانى، وانتهت إلى ~~شخصيته أمجاد الفطرة البشرية الناصعة، فكان أتباعه من أعمق الناس حبا له، ~~لأنه أهل لكل حب. وكان أعداؤه من أشد الناس تهيبا له، لأنهم يدركون أن ~~أمامهم بطولة يعز تناولها ويصعب الكيد لها. وكان هو فى محبته للمؤمنين برا ~~ودودا تنبثق من فؤاده النبيل عواطف جياشة لا ينضب معينها، ولا يتعكر صفوها. ~~اتسعت للسابقين واللاحقين من أمته، من رآهم ومن لم يرهم. سمعه أصحابه يقول: ~~"وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! ص _073 PageV01P072 ~~قال: أنتم أصحابي ، إخواننا الذين لم يأتوا بعد ". فأى حب هذا الذى يمتد مع ~~العصور المستقبلة ليرتبط بقلوب بنيها فى ضمير الغيب. أما أعداؤه فحسبك من ~~نقاء صدره أن ابن أبى- الذى طعن الرسول صلى الله عليه وسلم فى شرفه وافترى ~~الإفك على أهله- كفن يوم مات فى قميص الرسول !!. وأن النبى صلى الله عليه ~~وسلم السمح لم يرفض الاستغفار له حتى أمر بالكف عنه... * * * * هذه الرسالة ~~الإسلامية: ذاك أمر يتصل بشخصية الداعية الموفق الأريب الذى تخيرته العناية ~~لحماية الأمانة العظمى (الله أعلم حيث يجعل رسالته). وهناك أمر آخر يتصل ~~بطبيعة الرسالة الإسلامية نفسها، فقد شاء الله أن يكون كتابها مسك الختام، ~~وأن تغلق من بعده أبواب السماء، فلن ينزل ملك بوحى، ولن ينزل من الملأ ~~الأعلى نبأ. وعلى الناس من كل جنس ولون أن يستمعوا فى هذا القرآن إلى ~~الكلمة الأخيرة من هدى الرحمن: (لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن ~~أكثر الناس لا يعلمون). هذه الرسالة إذن باقية مع الزمن ما بقى الزمن، ~~فصاحبها نبى الخلود. وإذا علمت أنها استوعبت كل ما فى الرسالات الأولى من ~~أصول ثابتة بعد أن نفت عنها خرافات الجهلة من الأتباع، وأكاذيب الدجالين من ~~رجال الدين، علمت أن الإسلام فى جوهره النقى دين الأزل والأبد، وأن نبى ~~الإسلام ms061 هو إمام الأنبياء، وحامل لواء الحق من بداية أمره إلى نهاية ~~مستقره... ولئن كان نبى القرآن عربيا بحكم المولد واللسان. إنه ليس وقفا ~~على أمة دون أمة. من حيث التعاليم والتشاريع وميراثه ملك الناس جميعا على ~~سواء. وحق القيام على دعوته يجب على كل من تبلغه آياتها: (وأوحي إلي هذا ~~القرآن لأنذركم به ومن بلغ). ص _074 PageV01P073 ~~فإذا افتخرت أمة بأن النبى منها فلتفتخر الأمم جميعا بأن النبى لها: (وما ~~أرسلناك إلا رحمة للعالمين). ومن الخطأ أن نظن فى عموم الرسالة وخلودها ~~تحكما فى عقليات الأجيال، وتجاهلا لأحوال الأمم وظروفها المتجددة، ووقفا ~~لحركات التطور الإنسانى نحو الكمال. " فإن تعميم نبوة محمد صلى الله عليه ~~وسلم وتخليدها لم يقصد به إلا المحافظة على ذلك كله لخير الإنسان وحده. فإن ~~الإسلام أوضح الحقائق الأساسية فى علاقة الإنسان بالله وبالناس وبالكون، ~~وربطها بهدى الفطرة وضياء العقل. فإن كانت ثمت قيود مفروضة أو صور مرسومة ~~حددها الإسلام، فلكيلا تجمح الفطرة ويستحمق العقل ويخرج الإنسان على نفسه. ~~إن الإسلام دين الإنسانية الخالصة، ونبى الإسلام أحق من نلجأ إليه هذه ~~الإنسانية لتأوى فى كنفه إلى الإيمان والأمان: (أم تسألهم خرجا فخراج ربك ~~خير وهو خير الرازقين * وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم * وإن الذين لا ~~يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون). * * * * عبدا رسولا: تحمل أعباء الحياة ~~على اشتداد وطأتها واسوداده صورتها مع بقاء القلب موفور الثقة، والعقل ~~مؤتلق الذكاء، أمر لا يستطيعه إلا القليلون. ذلك أن كآبة المنظر فى الأهل ~~والمال تلقى على النفس ظلالا محزنة، وتترك فى الفكر شرودا يقصر به عن ~~المساهمة فى الحياة العامة بقسط معقول. فكيف إذا كان الرجل مكلفا أن ينشئ ~~الحياة، ويغير الطبائع، ويؤدى رسالة تغير مجرى التاريخ؟ إنه يريد أن يؤمن ~~حياته الخاصة حتى يطيق تحمل أعبائها مع أعباء الناس وقد رأينا من الأنبياء ~~من طلب ذلك وعنى به، فكان سليمان ملكا رسولا: ص _075 PageV01P074 ~~نبى فهو عدل حيث يقضى وملك فهو يفعل ما يشاء إلا أن نبينا رزق من سعة ~~الطاقة على ms062 حمل الأعباء الخاصة والعامة الشىء الكثير، فلقى أعنت ما يلقاه ~~المجاهدون من آلام، وأدى مع ذلك أعظم وأوسع ما أداه النبيون من رسالات... ~~وقد كان لرقة مشاعره يحس بوخز الآلام إحساسا مضاعفا، وتلك ضريبة العظمة ~~البالغة، شاء الله أن يفرضها عليه وحده، وليس يستطيع أداءها إلا عظيم مثله. ~~روى أنه قال لجبريل: والذى بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سفة من دقيق ولا كف ~~من سويق! فأنزل الله أحد ملائكته يقول له: إن الله سمع ما ذكرت فبعثنى إليك ~~بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرنى أن أعرض عليك أن أسير معك جبال تهامة ذهبا ~~وفضة وزمردا وياقوتا. فإن شئت كنت نبيا ملكا ، وإن شئت كنت نبيا عبدا. فقال ~~الرسول صلى الله عليه وسلم: بل نبيا عبدا. ولقد آثر ذلك ولم يزل ضجيج ~~المشركين يدوى حوله طالبين إليه أن يكون ملكا غنيا، مستنكرين عليه أن يكون ~~عبدا رسولا. (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا ~~أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل ~~منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا). ولكن ما قيمة هذه الصيحات ~~الخافتة، وكيف ينتظر من بضعة نفر أو بضع قبائل أن يقفوا أطوار رسالة أعدت ~~لأقطار الأرض قطرا قطرا، ولأجيالها جيلا جيلا. لقد امتد الشعاع الباهر ~~وتمزقت من حوله الغيوم. وها نحن أولاء بعد قرون طوال نسير فى ضوئه ونمشى ~~على هديه. أو أننا نستطيع ذلك إن شئنا، فلم تزل رسالة الإسلام وضاحة ~~الشعاع، تنعى على المنتسبين إليها أن يكونوا من سقط المتاع... ص _076 PageV01P075 ~~الهجرة عقيدة.. وتضحية.. وحب.. وفداء مكث الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة ~~عشر عاما فى مكة يدعو إلى الله على بصيرة، ويهدى الناس إلى الحق فى تؤدة ~~ومهل، ويفك أغلال القرون الأولى، ليرد على البشر كرامتهم المفقودة. وما ~~كرامة البشر إلا كرامة الفطرة السليمة، والقلب المستنير، والعقل الرشيد. ~~وكان الرسول صلى الله عليه وسلم فى دعايته لدينه، سهلا واضحا مطمئنا إلى ~~نصاعة الحق الذى ms063 شرفه الله به، فهو لا يطلب من الناس إلا أن يمكنوه من شىء ~~واحد. أن يتركوه يلقى ما معه بين أيديهم. وأن يسلطوا عليه أفكارهم وحدها! ~~فإما قبلوه بعد، وإما رفضوه. وهو لم يجنح فى سبيل الانتصار لدينه إلى ~~أساليب الدعاية الملتوية، ولم يتكلف فى تأليف أنصاره أو رد خصومه، وسائل ~~الإغراء والإغواء، فإن ذلك ليس شرفا للدعوات المعتادة، فما بالك بدعوة أودع ~~الله فى تعاليمها عناصر الديانات السابقة، وأودع فى قواعدها حاجات العصور ~~المتلاحقة؟ لا جرم أنها أسمى مكانا من أن تقوم إلا على الحق وحده. وأين ~~يستطيع الناس ميز الحق من الباطل؟ فى جو الحرية النقى من شوائب الضغط ~~والقسوة والاستبداد. فى هذا الجو تتنازع المبادئ، وتتدافع المذاهب، ولكن ~~النتيجة محتومة . (.. فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في ~~الأرض ..). والأغبياء والطغاة يكرهون أبدا حرية الرأى، لأنهم يعيشون فى ~~ظلال الجدران التى تسجن وراءها كرامة البشر النفسية والفكرية. وطالما قال ~~الرسول صلى الله عليه وسلم للمشركين : (لكم دينكم ولي دين). فأبوا إلا أن ~~يقولوا له: لنا ديننا وليس لك دينك! ص _077 PageV01P076 ~~ومن ثم سلطت القوة الجائرة لمحاولة إسكات الألسنة التى تجهر بالقرآن- ~~والقرآن هو يومئذ صحافة المسلمين التى تنطق باسمهم وتنافح عنهم- واتبعت ~~الطرائق الصبيانية للتشويش عليه وفض الناس عنه: (وقال الذين كفروا لا ~~تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)!. وكذلك سلطت الفتنة القاهرة ~~على المستضعفين من المؤمنين، فشرد من شرد، وقتل من قتل، وشعر المؤمنون ~~الباقون على عقيدتهم، بالمغارم الفادحة التى تحل بهم، ولكنهم صبروا على ~~المكاره إيمانا واحتسابا، وتطلعا إلى ما عند الله. هل كان القرآن جديرا ~~بهذه المواجهة العنيفة التى قوبل بها؟ لقد كان شديد الحملة على خصومه حقا، ~~مبينا فى تزييفه لأباطيلهم، ولكنه سلك فى ذلك سبيل القوة الممزوجة بالنبل. ~~والرجل النبيل إذا صرع خصمه لم يتركه على الأرض متعثرا فى أذيال هزيمته، بل ~~يسرع إلى الأخذ بيده قبل أن يستولى عليه شعور الخزى والمعرة فى سقطته. ~~وهكذا فعل القرآن بأعدائه ms064، فهو يلفت نظرهم إلى ضلالهم، ويضع أيديهم على ~~أخطائهم، ثم يأبى- أدبا وتكرما- أن يقول- فى شماتة- للضال: إنك ضال، أو ~~للمخطئ إنك مخطئ والآخر مصيب: (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله ~~وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين * قل لا تسألون عما أجرمنا ولا ~~نسأل عما تعملون). على أن هذا كله لم يرق فى نظر قوم يأبون الاعتراف بطرق ~~الإقناع والاقتناع، ويجمعون إلى جريمة الكفر، جريمة الصد عن سبيل الله، ~~فكانت خاتمة ثلاثة عشر عاما فى الدعوة إلى الله أن تشاور رؤساء قريش فى نفى ~~الداعى أو حبسه أو قتله! ثم يستقر رأيهم على أن يقتلوه بطريقة يهدر فيها ~~دمه ويضيع بها ثأره. * * * * هجرة بدين لا فرار من موت: وأصبح أهل مكة وهم ~~يرقبون صوت الناعى- أخزاه الله- ليبشر دولة اللؤم والغدر والطغيان، أن ~~عدوها الألد قد لقى حتفه قبل أن يوردها حتفها، وهيهات، لقد خرج ص _078 PageV01P077 ~~محمد صلى الله عليه وسلم لم يمسسه سوء، فإن الله العلى القدير لا يترك ~~الحقائق العظمى تذهب قبل أن تأخذ مداها، وقبل أن تترك على تاريخ الأرض ~~طابعها العميق. والدين الذى بعث به إمام الأنبياء هو أبو الحقائق العظمى ~~وأمها، فهو باق وأسباب حياته باقية معه مادامت السموات والأرض. نعم لقد ~~أخرج محمد صلى الله عليه وسلم ليكمل الله به الرسالة التى لم تكن قد استوفت ~~بعد جملة حقائقها، وعلم الطغاة الذين ألجأوه إلى الهجرة مدى الخطر المبيت ~~لهم، وشعروا من الهواجس المنبعثة من أعماق نفوسهم، أن الدائرة سوف تدور ~~قريبا عليهم. لقد هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ومن ~~قبله هاجر أكثر المسلمين، فهل كانت هذه الهجرة تهربأ من لقاء الموت؟ كلا، ~~يدلك على ذلك أن هؤلاء المهاجرين كانوا وقود الغزوات والمعارك الكبرى التى ~~دارت رحاها لهدم كل السلطات المستبدة، عربية كانت أو غير عربية، ولم يؤثر ~~عن مهاجر أنه تردد فى مواطن الموت لحظة. إذن لم كانت؟ كانت لأن الإسلام فى ~~هذه ms065 الفترة من تاريخه، يتطلب أن يعيش له وأن يحيا من أجله كل فرد من ~~أبنائه، فضلا عن الرجل الأول فيه محمد صلى الله عليه وسلم. كان الإسلام ~~يفرض عليهم أان يعيشوا من أجله حتى يكونوا له على ظهر الأرض أمة راسخة ~~البناء، ودولة سامقة اللواء. فإذا استقامت للدين الجديد أمته ودولته، سفكت ~~لحياطتها الدماء. وقدم للدفاع عنها الفداء!! لقد كانت حياة كل مسلم قذى فى ~~عين الكفر والكافرين، فضلا عن حياة المسلم الأول صلى الله عليه وسلم إذن ~~فليتمسك المسلمون بحياتهم حتى يغرسوا نبت التوحيد فى أرض الجزيرة وفيما ~~حولها، ولا عليهم بعد إذ غرسوه، أن يرووه بدمائهم. فما كانت الهجرة فرارا ~~ولكنها كانت انتصارا، وكذلك سماها القرآن الكريم: (إلا تنصروه فقد نصره ~~الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا ~~تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود PageV01P078 ~~لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز ~~حكيم). ص _079 # * لماذا أرخوا بالهجرة؟ إن المسلمين اعتبروا الهجرة بداية تاريخهم فى ~~الحياة، ولم يعدوا ميلاد نبيهم ولا مبعثه مبدأ لذلك التاريخ الحافل البعيد. ~~ولم يكن هذا التصرف إلا فقها منهم فى دينهم، وبصرا نافذا فى معرفة حقيقته ~~وتقديس روحه، فالهجرة- سفرا من مكة إلى المدينة- حادث لا يذكر ولا يقدر. ~~فكم فى الدنيا من أسفار أطول أمدا وأبعد شقة من هذا السفر القاصد. إنما ~~روعة الهجرة أنها عقيدة وتضحية وفداء وكفاح، وإصرار غريب على مغاضبة الدنيا ~~الثائرة الحاقدة! والتذرع بالوسائل التى فى مقدور البشر مغالبتها، فإما موت ~~كريم وإما نصر كريم. هذه الحفنة من المؤمنين الذين خط الشيب رؤوس قادتهم، ~~والذين عانوا آلام الغربة الروحية، والقلة المادية سنين عددا فما وهنوا ولا ~~استكانوا، بل خلفوا فى اللحظة الأخيرة دورهم وأموالهم ونزحوا عنها. هؤلاء ~~المؤمنون الأبطال، هم الذين أعطوا الهجرة بأعمالهم الخالدة روح الخلود، ~~وعلموا الحياة كيف ترجح المبادئ بكل ما توزن به من مآرب أو متاعب، وكيف ~~تتخطى ms066 كل ما يعوقها من صعاب. (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في ~~سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم). ولو أدرك المسلمون من ~~التاريخ بالهجرة هذا المعنى السامى، ما اضطربت أحوالهم هذا الاضطراب ~~المؤسف، فلا هم الذين حرصوا على الحياة لدينهم فى أية بقعة من بقاع الأرض، ~~ولا هم الذين ماتوا دون أن ينال أعداؤهم منهم ما نالوا: (ولو أنا كتبنا ~~عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو ~~أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا). ص _080 PageV01P079 ~~* مبادئ لابد منها: مبادئ الإيمان فى الساعات الحرجة والأوقات العصيبة ~~تجدها عندما يقول أبو بكر: نظرت إلى أقدام المشركين- ونحن فى الغار وهم على ~~رؤوسنا- فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فقال صلى ~~الله عليه وسلم: "يا أبا بكر.. ما ظنك باثنين الله ثالثهما" . ومبدأ ~~التضحية الواجبة تلمسه فى مبيت "على" على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم ~~قرير العين، وهو موقن بأن السيوف توشك أن تخالط صاحب الفراش وتمزق لحمه ~~وعظمه. وعظمة الحب الكريم وتقدير المصلحة العامة، وافتداؤها بالنفس، تراها ~~فيما يروونه من أن أبا بكر حين انطلق مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ~~الغار، جعل تارة يمشى بين يديه وتارة يمشى خلفه! فقال له الرسول صلى الله ~~عليه وسلم ما لك يا أبا بكر؟ فقال: أذكر الطلب فأمشى خلفك، وأذكر الرصد ~~فأمشى أمامك، فلما انتهيا إلى الغار، قال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ ~~الغار، فدخل، فاستبرأه ، ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل وأبو بكر يقول ~~له: "إن أقتل فأنا رجل واحد من المسلمين، وإن قتلت هلكت هذه الأمة". إن ~~الهجرة حقيقة بأن تكون علما على الإسلام، لأنها كانت بما حدث فيها وبين ~~يديها وخلفها، المظهر العملى الصحيح للإسلام، مظهر العقيدة والتضحية، ~~والحب، والفداء. لكننا- للأسف- نسينا الهجرة، بل أهملنا التأريخ بها فى ~~حياتنا، لأننا نسينا الجهاد، وما يذكر به. ص _081 PageV01P080 ~~أيام فى ms067 الصحراء تعالت الشمس، وتقلصت ظلال الدور الجاثمة فى بطحاء أم ~~القرى، واستطار الحرور من وهج الظهيرة، فاستخفت الوجوه من لفحه. ولف مكة مع ~~هذه الهدأة المفروضة، سكون اللغوب من كفاح الدعوة التى بدأ أصحابها يتخذون ~~مسلكا جديدا فى خصومة أعدائها، كما بدأ أعداؤها ينتهجون خطة جديدة فى ~~العدوان على أصحابها. وكان هذا السكون المترامى على مضارب الخيام ومساكن ~~الحضر يوارى تحته نيات هائلة وآمالا بعيدة. وضغطت أشعة الشمس على صدر ~~الرمال ضغطة محت عوامل البرد والسلام، وأرسلت الحرارة التى تهيج العزم ~~والتصميم وتثير دم النضال القوى الدافق. وفجأة ظهر شخص رائع السمت، تصبغ ~~ملامح وجهه مسحة ساحرة! وكان يتحدر فى سيره لا تكاد تلفت انتباهه هذه ~~الطبيعة المشتعلة المتراكضة اللهب فوق طيات الثرى. لقد كان مستغرقا فى فكر ~~عميق! وكان يتجه فى صلابة نحو كثيب أحمر تقوم إلى جانبه دار طالما انبعث من ~~جوفها صوت يرتل القرآن ترتيلا تهتز له الأفئدة! كانت تلك الدار المؤمنة دار ~~أبى بكر!. واستشرفت السماء والأرض لطلعة القادم المهيب، وإذا قائل يقول: ~~هذا رسول الله متقنعا. إنه لم يكن يأتينا فى مثل هذه الساعة. فوثب أبو بكر ~~يهتف: "فداء له أبى وأمى، والله ما جاء به هذه الساعة إلا أمر ذو بال ". ~~واقتربت الخطوات الوئيدة ثم استقبل أبو بكر الزائر الكريم صلوات الله عليه ~~وسلامه. * * * * دليل كافر..! - أخرج من يكون عندك! - إنما هم أهلى يا رسول ~~الله؟ ص _082 PageV01P081 ~~- فإنى قد أذن لى فى الخروج! - الصحبة إذن بأبى أنت وأمى؟ - نعم يا أبا ~~بكر! - فخذ إحدى راحلتى هاتين؟ - بالثمن إذن! ونهضت عائشة وأسماء تهيئان ~~الجهاز وتصنعان الزاد وتضعانه فى جرابه، ومزقت أسماء قطعة من نطاقها، ~~وأوثقت به فم الجراب حتى يحفظ ما فيه، وانطلق أكرم صاحبين إلى جبل ثور ~~فكمنا فيه ثلاث ليال! كانت قريش خلالها تذرع السبل والمنافذ، وتبث العيون ~~والأرصاد، وتكاد توصد الفجاج على الذاهب والآيب فلا يتحرك أحد إلا بقدر، ~~ولكن هيهات! وكان عبد الله بن أبى بكر غلاما شابا ذا ثقافة ولقانة ms068، يبيت ~~عند الغار، ثم يدلج بسحر تاركا المهاجرين العظيمين، فيصبح مع قريش كأنه ~~مقيم بينهم، فكانت أخبار المطاردين واتجاهاتهم تصل إلى أهل الغار كل مساء، ~~يعيها الشاب الذكى، حتى إذا جن الليل، واختلط الظلام أخذ طريقه خفية إلى ~~الغار فأفضى بها. وفى صبيحة اليوم الموعود كانت الراحلتان مناختين استعدادا ~~للسفرة البعيدة، يقودهما دليل ماهر خبير بدروب الصحراء ومتاهاتها ومشابهها. ~~هذا الدليل وإن كان رجلا كافرا، لما يزل على دين قريش، لكنه استؤمن على سر ~~فكان ثقة، وعلى وعد فكان وفيا وعلى عمل عظيم فكان عند الظن به!. * * * * إن ~~الله معنا: قال أبو بكر: أسرينا ليلتنا حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق ~~فلا يمر فيه أحد، وظللنا نمشى حتى لاحت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه ~~الشمس بعد، فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة وقصدت ناحية من الظل، فسويت مكانا ~~ينام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: نم يا ~~رسول الله، وأنا أرقب ما حولنا! وإذا راع مقبل على الصخرة فى عنيزات له ~~يريد منها الذى أردنا، فقلت له: لمن أنت يا غلام؟. فقال: لرجل من هنالك. ص _083 PageV01P082 ~~- أفى عنزك لبن؟ - نعم. - أفتحلب لى؟ - نعم! فأخذ شاة فقلت: أنفض الضرع من ~~التراب والقذى، ففعل وحلب فى قعب معه كثبة من لبن، فأتيت النبى صلى الله ~~عليه وسلم، وهو نائم، فكرهت أن أوقظه، فوقفت حتى استيقظ فصببت على اللبن من ~~الماء حتى برد أسفله وقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قال: ألم ~~يأن الرحيل؟ فارتحلنا بعد ما زالت الشمس واستتلينا نطوى مراحل الطريق، فإذا ~~نحن ندخل فى أرض غليظة صلبة ما إن استوينا عليها حتى أحسست بخطر داهم يدنو ~~رويدا رويدا من ورائنا، فقلت: يا رسول الله: أتينا وسيحاط بنا، أترى هذا ~~الفارس الذى يتبعنا؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله ~~معنا. ثم دعا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فارتطمت يدا فرسه إلى بطنها ~~وخر راكبها على ms069 وجهه بعد أن ساخت فى الأرض قوائمها، ولكنه لم يلبث أن قام ~~بين دهشة الحادث الذى أصابه وسورة الطمع الذى خرج به، فزجر فرسه يريد حملها ~~على المضى فعجزت تماما ، فترجل ونادى مستأمنا: لقد علمت أنه نالنى منكما ~~شىء فاتركانى وادعيا لى. والله لكما أن أرد عنكما الطلب! فدعا له الرسول ~~صلى الله عليه وسلم، فقفل راجعا لا يلقى أحدا إلا قال له: حسبك لقد كفيتك ~~ماهنا. وسار أبو بكر وقد أثلج فؤاده أن رأى كيف صار الطالب مطلوبا! وتذكر ~~عندما كان فى الغار، فأصاخ إلى خفق أقدام المشركين وهم ينقبون ويفتشون، ~~وتسكين الرسول صلى الله عليه وسلم لروعه عند ذاك. * * * * فى الطريق: كانت ~~النجوم تطلع فترسل نورها الباهت على الأديم الأعفر المنبسط، وموجات النسيم ~~البارد تخفق من كل مهب فلا يردها بناء قائم. وثم ساريان يضربان فى الفلاة ~~ترمق أعينهما نجوم السماء وترد صدورهما خفق الرياح.. على أحدهما جلال ~~النبوة، وعلى الآخر جمال اليقين. فإذا انقشع الليل رأت الشمس الرجلين ~~كليهما ميممين ص _084 PageV01P083 ~~إلى غايتهما من نهاية الطريق، ترمضهما وقدة الجو، وسطوة العدوان، وهوام ~~الأرض من إنسان وحيوان، فلا يسقط ذلك كله إلا عند أقدام الأينق التى تستحث ~~الخطو إلى يثرب تحدوها آى القرآن من صاحب الوحى، ومن صاحبه الأمين. ومرت ~~الأيام وهما ماضيان فى سبيلهما، وشاء الله أن تقع فى أثناء السير مفارقة ~~طريفة، فقد أقبلت من الشام قافلة فيها الزبير، وركب من المسلمين جاءوا ~~بتجارة كبيرة. فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا ~~بيضا!! * * * * يا معشر العرب: وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلى ~~الله عليه وسلم من مكة. فكانوا يعدون كل صباح إلى الحرة فينتظرونه حتى ~~يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى ~~بيوتهم أوفى رجل من اليهود على ظهر أطم عال يبحث عن شيء له، فأبصر رسول الله ~~صلى الله عليه وسلم وصاحبه يتقاذفهما السراب اللامع على مدى الطرف فلم ~~يتمالك أن صرخ: يا معشر العرب ms070 هذا جدكم.. الذى تنتظرون، فثار المسلمون إلى ~~السلاح، وسالوا بظهر الحرة حتى التقوا بصاحب الرسالة العظمى، فقام أبو بكر ~~للناس وجلس الرسول صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى ~~الله عليه وسلم يحيى أبا بكر!! حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه ~~وسلم فأقبل أبو بكر عليه يظلله بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه ~~وسلم عند ذلك!! وسعدت المدينة بالقادم الذى كتب لها الخلود، وسجل بها معنى ~~الوفاء فى الحياة والممات. ص _085 PageV01P084 ~~الهجرة فكرة لا رحلة قد يكون الشىء الواحد عملا شاقا مضنيا. أو لعبا مريحا ~~مسليا، وهو لا يتغير فى مظهره وإن تغيرت بواعثه وملابساته!! فصيد السمك ~~رياضة مرحة يلهو بها بعض المترفين الناعمين، وهو كذلك حرفة يرتزق من ~~مكابدتها ألوف العمال الكادحين! والرحلة من قطر إلى قطر قد تكون سفرا قريبا ~~أو بعيدا للاسترواح والتنعم، وإنفاق الفائض المخزون من الوقت والمال، وقد ~~تكون كذلك مشيا فى مناكب الأرض لتحصيل علم، أو تقريب رزق، أو فرارا من شر ~~محظور إلى خير منظور. والهجرة التى يحتفل المسلمون بها، ويجددون ذكرياتها، ~~ويكبرون أصحابها، هى فى مظهرها سفر من مكة إلى المدينة يقطع فيه الإنسان ~~نحو أربعمائة ميل فى طريق وعرة موحشة. ولكن الهجرة- كما عرفنا- لم تكرم ~~لأنها سفر- فما أكثر المسافرين قديما وحديثا بين مكة والمدينة. وما أكثر ~~الذين يقطعون مسافات أبعد فى آماد أطول وأشق. بل لقد حدث على عهد النبى صلى ~~الله عليه وسلم نفسه أن رجلا كانت له فى المدينة عشيقة يهواها، فلما رأى ~~طريق الأبطال يزدحم بالفدائيين من حملة العقائد وهم يتركون البلد الذى ~~اضطهد دينهم فيه، يبغون فى مهجرهم أمانا لإيمانهم ومتنفسا ليقينهم، مشى ~~العاشق الولهان بينهم يبغى المدينة كذلك معهم! وشتان بين هذا وذاك، هذه ~~خطوات القلب المؤمن تتحرك فى الحياة فتتحرك فى ركابها الثقة الغالية ~~والتضحية النبيلة. أما تلك فخطوات الشهوة الصغيرة تتحرك بصاحبها فلا تفرق ~~بينها وبين خطوات الدابة التى حملته. ورب قاعد فى ms071 بلده أشرف نفسا من هذا ~~المهاجر التافه. ص _086 PageV01P085 ~~وقد كان تعليق النبوة على هذا السفر: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ~~ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله! فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت ~~هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". ولما كثر ~~أدعياء الإسلام والإيمان والهجرة، واختلطت المظاهر التى يصطنعونها ليعدوا ~~مسلمين مؤمنين مهاجرين، مع أن حقيقتهم دون ما يزعمون، وضع النبى صلى الله ~~عليه وسلم العلامات . المميزة الحاسمة لهذه الإدعاءات فقال: "المسلم من سلم ~~المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ~~والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ". وهكذا ربط حقائق الإيمان بأصول النفس، ~~وأهدر ما عدا ذلك من عناوين. فإلى المحتفلين بالهجرة من رجال الأحزاب ، ~~وكذبة الكتاب، وجماهير العامة، نوجه هذه الآداب. * * * * أشد الناس بلاء: ~~قيمة الزمن فى عمر أى نبى ، غير قيمته فى عمرأى فرد من البشر. نحن تضيع ~~علينا أكثر أيامنا سدى ، بين جد قليل، ولهو كثير، وسرور واقع، أو سرور ~~مرجو. أما الأنبياء فأيامهم يتقسمها الإجهاد، وتزحمها المتاعب، ولا تبقى ~~منها الأعباء المترادفة متسعا لحظوظ النفس فى هذه الدنيا. ونبينا محمد صلى ~~الله عليه وسلم صاحب الرسالة العظمى، هو بلا ريب شيخ الأنبياء فى هذا ~~المعنى. جعل الله حياته قبل البعثة إعدادا للبعثة العامة التى تنتظره. وكان ~~من مستلزمات هذا الإعداد، أن يعيش فريدا يتيما قليل المال، غريبا بنفسه ~~وفكره عن البيئة الصاخبة التى نبت فيها، تاجرا يكدح ليكون رزقه من عمل يده، ~~قبل أن يكون رزقه تحت ظل رمحه. فلما أرسل إليه وصدع بأمر الله، واجه دسائس ~~الضمير الوثنى المشرك الذى لم يبال أن يحارب الرسول بكل سلاح، ثم دسائس ~~الضمير اليهودى ، الذى لم يبال فى سبيل النكاية بالدين الجديد، أن يزعم، بل ~~أن يحكم، بأن وثنية قريش أفضل من توحيد محمد صلى الله عليه وسلم! ويزيد ~~بذلك فى تألب عباد الأصنام على أتباع القرآن PageV01P086 ~~الذى طالما مجد موسى وكتاب موسى. ص _087 # ثم ms072 يمكث الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين عامآ يستمع إلى صوت ~~الوحى، وما ظنك بالجهد الذى يناله من الوحى؟ لقد كان يأتيه فى اليوم البارد ~~فيتركه وجبينه يتصبب عرقا. وكان أحيانا يطن فى أذنيه كصلصلة الجرس فيتوتر ~~منه جسمه وتثقل أطرافه. وهذا الوحى هو أساس عمله ودعوته. ثم هذه الغزوات ~~العسكرية بعد الغزوات العقلية الواسعة التى سبقتها. حتى إذا استتب الأمر ~~وبدأت الجهود المضنية تؤتى ثمرها يتنزل الروح الأمين ليخبر النبى صلى الله ~~عليه وسلم أن رسالته على ظهر الأرض قد تمت، وأن الملأ الأعلى ينتظرون ~~مقدمه، ويلقى عليه قول الله عز وجل: (إذا جاء نصر الله والفتح , ورأيت ~~الناس يدخلون فى دين الله أفواجا, فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا ! ~~(1). كان لى صديق ذكى قضى صدر شبابه مدارسة للعلم وتحصيلا وجاز امتحاناته ~~الكثيرة عقبة من بعد عقبة، فلما انتهى بنجاح من أعباء الدراسات ~~والامتحانات، اختطفه الموت دون أن يرى ثمرة كده، ذاك الصديق الحبيب، هو مثل ~~على ضالته لصاحب الرسالة العظمى صلى الله عليه وسلم. فما أن رأى بواكير ~~نجاحه فى جهاده الطويل، حتى حال الموت بينه وبينها، كأنما يريد القدر أن ~~تكون حياته للغرس والتعب فقط، ثم يولى تاركا للناس الخير والقطاف. * * * * ~~فى الطريق إلى يثرب: ترك النبى مكة إلى المدينة وعمره ثلاث وخمسون سنة، ولا ~~ريب أن حالته النفسية كانت تموج بعواطف بعيدة الغور، وذكريات عزيزة جياشة، ~~فيها من الحب بقدر ما فيها من الأسى. هذه البلدة نشأ فيها طفلا محفوفا ~~بعناية الله، ثم شابا مطهرا مرقوما بالتجلة والوقار من الرجال والنساء، ثم ~~رجلا لا ترقى إلى سيرته ريبة ولا تعلق بخلقه ظنة ، ثم نبيا يحلم على ~~الجهال، ويدفع السيئة بالتى هى أحسن. وها هو ذا بعد أن خط الشيب رأسه، يخرج ~~من موطنه، يتنكر له الأقرباء والغرباء، وتبث فى طريقه الأرصاد، وتوضع ~~المكافآت لمن يسفك دمه! PageV01P087 # ص _088 # أتكون هذه خاتمة حياته الحافلة بمكة، أم تراه سيرجع إليها كرة أخرى؟ وهل ~~سيترك أهل مكة نكيرهم ms073 عليه، ويؤمنونه على دينه؟. ويختلج فى نفسه الأمل ~~العذب، هل سيعود إلى مكة؟ وهنا يتنزل الوحى : (إن الذي فرض عليك القرآن ~~لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين ). ولكن ~~الجبارين الذين أقاموا بمكة يكفرون ويكرهون الناس على الكفر، ماذا يكون ~~حاله معهم، أو ماذا يكون مصيرهم؟. وهنا ينزل الوحى مرة أخرى : (وكأين من ~~قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم). ولقد صدق ~~الله وعده، فخط لجبارى مكة مصارعهم الواحد بعد الآخر، ومن بقى منهم حيا، ~~فقد بقى ليوقع صك التسليم النهائى، وليعيش فى ظل العفو العام الذى أعلنه ~~الرسول عليه الصلاة والسلام بعد أن رجع إلى مكة رجعة عزيزة، تذكر له آخر ~~الدهر، أنه كان عظيما يوم أخرج، عظيما يوم عاد. * * * * منطق العقيدة: ~~تنتصر العقائد بين الناس بعد ما تنتصر فى نفوس أصحابها. هذه حقيقة يجب أن ~~يعرفها حملة المبادئ. وأن يطمئن إليها نقلة المثل العليا إلى الناس. فإذا ~~حدث أن وازن الإنسان بين عقيدته ونفسه فرجحت نفسه، أو بين عقيدته وماله، ~~فرجح ماله، أو بين عقيدته ومتعه الخاصة، فرجحت متعه الخاصة، فمعنى ذلك أن ~~العقيدة أهون لدى صاحبها من كل ما يملك أو يهوى. وسوف يبيعها فى أولى ~~مساومة ويتخلى عنها. فى أول صدام!. أما إذا غالى الإنسان بعقيدته، فسفك ~~دونها دمه، وبذل قبلها ماله، وضحى فى سبيلها براحة البدن، وسكرة اللذة، ~~وطيب العيش، فقد صدق فى إيمانه، ووفى لعقيدته، ونجح فى محنته، وكسب النصر ~~لدينه، والخير لنفسه معا. ص _089 PageV01P088 ~~تأخرت أستبقى الحياة فلم أجد لنفسى حياة مثل أن أتقدما وذلك المعنى الرائع ~~هو الذى ملأ نفوس المؤمنين قبل الهجرة، فلما دخلوا مع العالم كله فى "معركة ~~المصحف " بدأت الخسائر تنزل بهم متلاحقة، وظلوا مروعين فى أنفسهم وأهليهم ~~بضعة عشر عاما، وكانت دورهم وأموالهم بمكة آخر ما نزلوا عنه فى سماحة ~~ورضا.. دون أن يفرطوا فى ذرة من إيمانهم، أو يقبلوا الدنية فى دينهم، أو ~~يميلوا قليلا ms074 مع تيار الكفر المناوئ لهم، حتى لقد فهم المشركون أن ارتداد ~~الشمس فى مدارها أقرب إلى الوقوع من ارتداد مسلم عن دينه. لقد انتصرت ~~العقيدة فى نفوس هذه الفئة المكافحة انتصارا حاسما، وفداها أهلها بكل غال ~~وثمين، فلم يبق إلا أن تأخذ جزاءها الحق، وأن ترفرف أعلامها بين الناس ~~أجمعين، وأن تنحنى لها الهامات إجلالا وإكبارا. ولو كانت هامات الخصوم ~~والمكابرين. إن هذه الحقيقة- انتصار العقائد فى نفوس أصحابها- تكملها حقيقة ~~أخرى، وهى أن أهل الخير، إن فاتهم تأييد أهل الأرض بعد ما يبذلون كل ما ~~لديهم من طاقة، فلن تخذلهم فى كفاحهم المقدس قوى السماء! وذلك سر التحدى فى ~~قول الله تعالى للناس : (إلا تنصروه فقد نصره الله). أجل. فما كان الله ~~ليذر المخلصين من عباده دون أن يشرفهم بالنصر الموعود. بيد أن للقدر الأعلى ~~أسلوبا فى سوق النصر يعلو على مستوى العقول، فما تقول فى أمر ظاهره هزيمة ~~وفرار، وباطنه تأييد وانتصار؟ لقد كانت الهجرة خاتمة سيئة لجهاد طويل فى ~~مكة هكذا بدا للسطحيين من الناس ولكن القدر العزيز جعل من هذه النهاية ~~المحزنة نقطة التحول فى تاريخ الدعوة الإسلامية كلها، وبداية الفوز المكين، ~~والغلب الساحق.. ذلك أسلوب القدر الحكيم! لا يزال يتكرر مع الزمن! شر فى ~~باطنه خير، وقتل فى أعقابه حياة، وتراجع يتبعه التقدم والانطلاق. ص _090 PageV01P089 ~~لماذا حورب؟ كان لدى المشركين أكثر من سبب لعداوة الإسلام والتجهم لرسالته ~~ومخاصمة أتباعه، ولسنا نظن الاقتناع بصلاحية الوثنية والاطمئنان إلى ما ~~فيها من جهالة وخرافة، أحد هذا الأسباب. بل إننا نستبعد ذلك من رجال ~~اشتغلوا بشئون التجارة، وطوفوا فى آفاق الدنيا، واستعرضوا الآراء والأفكار، ~~وقاموا برحلات عظيمة الأثر فى رفع المستوى العقلى... ثم استمعوا بعد ذلك ~~لمحاجة القرآن وأسلوبه الناصع فى عرض الدعوة وبسط آياتها... أترى أولئك ~~النفر من قادة قريش وساستها كانوا يتعصبون للأصنام ضد الإسلام عن فقه ~~واعتقاد؟ إن سر التكذيب والخصومة أبعد من ذلك. إن التعصب لهذه الحجارة ~~المعبودة لم يكن إلا ستارا للحرص على المنافع ms075 المبذولة فى ظلها، والشهوات ~~المنطلقة برضاها، والسيادة المقرونة باسمها. إنه حرص أصحاب الأوضاع القائمة ~~على ما يستفيدون منه، ويرون ضياعه ضياع مجدهم وسقوط منزلتهم. والدعوة إلى ~~الإسلام لم تكن دعوة لهدم الأصنام فقط، بل لهدم الرجال الذين ربطوا ~~كبرياءهم ومصالحهم ببقائها، وهاجت فى نفوسهم مشاعر الحقد والغطرسة ضد من ~~يهاجمها، ونظروا إلى الدعوة الجديدة ورجالها من زاوية خاصة! زاوية المنافسة ~~والاستكثار والاستنكار... وانظر إلى هؤلاء المشركين يكشفون عن عواطفهم ~~الدفينة وأسباب تكذيبهم لصاحب الرسالة العظيم فيصيحون: (وقالوا إن نتبع ~~الهدى معك نتخطف من أرضنا ...). (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من ~~القريتين عظيم). (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل ~~الله ...). ص _091 PageV01P090 ~~(أأنزل عليه الذكر من بيننا ..). ماذا ترى فى هذا التساؤل والاعتراض. ألست ~~تسمع فيه صراخ الهوى والأثرة ضد الحق المبين، لا لشىء فى هذا الحق غير ~~الحسد لمن جاء به، والشعور بأن انتصار الحق سوف يقوض دولة الظلم، ويزلزل ~~عظماءها، ويتخطفهم من أرضهم، ويمحو كافة ما لهم من امتيازات باطلة؟؟ ذاك سر ~~كراهية الجبارين والطغاة للإسلام ودعوته الجليلة فى كل زمان ومكان. إن ~~فرعون لما توقح على موسى وألب حاشيته ضد رسل الله لم يكن يعلم من نفسه أنه ~~إله، وما كان أتباعه يحسبون أنفسهم عبيده الذين خلقهم من عدم... إنه الكبر ~~والاستعلاء. (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا). وإنه ليستنهض ~~الهمم فى مقاتلة عباد الله بهذا الأسلوب العاتى المغرور: (فأرسل فرعون في ~~المدائن حاشرين * إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا لجميع ~~حاذرون). أترى فى هذا الأمر الفرعونى إلا السفه والجبروت؟ أترى فيه أثارة ~~لعقل أو حق...؟ كلا. فى هذا الطريق الجائر مشت العلاقة بين رسل الله إلى ~~الناس، وبين حراس الضلالة والفوضى بين الناس. ما أن يدور النقاش على هذا ~~النحو الذى رأيت حتى يضيق المبطلون بما يسمعون، ثم يبدأ النفى والاضطهاد، ~~وتبدأ الهجرة والفرار. (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو ~~لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم ms076 لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من ~~بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد). ص _092 PageV01P091 ~~إن الخبراء بأحوال المجتمعات الفاسدة يعرفون بفطرتهم ما سيلقاه مصلحوها من ~~عناء. وقد كان ورقة بن نوفل صادق الحدس عندما قدر أن مكة سوف تتمرد على ~~رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأبى مقامه فيها، وجاش فى نفسه حب النجدة ~~والانتصار للحق المستضعف، فقال: ليتنى فيها جذعا إذ يخرجك قومك. فتساءل ~~النبى صلى الله عليه وسلم دهشا : "أو مخرجى هم.. "؟! إنه تساؤل الرجل ~~الشريف، البعيد عن خواطر الشر ووساوس السوء. لا يمر بفؤاده السمح ظل ~~للعدوان فهو لا يفترضه فى غيره! ثم هو بأمانته ومروءته وطيد المنزلة بين ~~الناس، فما الذى يؤلب الناس عليه ويحملهم على إخراجه؟ بيد أن ورقة يؤكد ما ~~يقول: "ما أتى رجل قومه بمثل ما جئت به إلا أخرجوه، ولئن يدركنى يومك أنصرك ~~نصرا مؤزرا ". وقد حدث ما توقعه ورقة، بل تمخضت الأحداث عن عدوان أشد. فلم ~~يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، بل وضعت الجوائز المغرية لمن يأتى ~~به حيا أو ميتا بعد ما أخفقت المؤامرة المبيتة على سفك دمه! إن كبرياء ~~السادة، وملق الأتباع، يضع أمام المصلحين عقبات جساما دون تحطيمها جهاد ~~وجلاد، وينبغى أن يتهيأوا لذلك حتى لا تروعهم المفاجأة وما أحسن قول ~~المتنبى : عرفنا الليالى قبل ما صنعت بنا فلما دهتنا لم تزدنا بها علما إن ~~العداوة بين التوحيد والشرك بدأت عنيفة جدا، برغم أن النبى صلى الله عليه ~~وسلم حاول جاهدا أن يلطف من حدتها، وأن يتجنب مضاعفاتها، وأن يضفى من فضله ~~ونبله على ما حوله، فهو يصل من قطعه، ويعطى من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، ~~ويصابر السفهاء، ويلين للمشاغبين. لكن ذلك كله لم يجد فتيلا مع من اتخذ ~~إلهه هواه...! وهكذا أثبت تاريخ "العنجهية الوثنية" أن ترويضها مستحيل. وأن ~~تلطف الأنبياء معها لم يزدها إلا ضراوة، وأن وحشيتها لا علاج لها إلا تقليم ~~الأظافر وتحطيم الأنياب، وأنها لو استطاعت سفك الدم الحرام قتلت، ولو ~~استطاعت كبت ms077 الحريات فعلت. لا يثنيها شيء أبدا. PageV01P092 # والعداوة الأزلية الأبدية بين المحقين والمبطلين ليست مما يأسف الإنسان له ~~أو يستوحش منه ما دام يحمل عليها حملا. بل لقد كان الرجال أصحاب المبادئ ~~يفخرون بها ويرونها آية الصدق والاستقامة. ص _093 # أصحاب الرسالات الرجل صاحب الرسالة يعيش لفكرته ويعيش فى فكرته..! فحياته ~~فكرة مجسمة تتحرك بين الناس، تحاول أبدا أن تفرض على الدنيا نفسها، وأن ~~تغرس فى حاضر الإنسانية جذرها ليمتد على مر الأيام والليالى فروعا متشابكة ~~تظلل المستقبل وتتغلغل فيه... ومن ثم تبدأ الدعوات والنهضات الكبرى برجل ~~واحد، هو- فى بداية أمره- أمة وحده. أمة يتخيل حقيقتها فى رأسه، ويحمس ~~ضرورتها فى دمه، ويبشر بها فى كلامه، ويحمل أثقالها على كاهله. ولا يزال ~~يجمع الرجل على الرجل، ويضم البيت إلى البيت، ويرسم المبدأ والوسيلة ~~والهدف، وينفخ من روحه فيمن حوله.. فإذا الأمة التى كان يتخيلها وحده قد ~~أصبحت حقيقة واقعة تطلع الشمس عليها، ويعترف الناس بها، ويسجل التاريخ ~~قيامها. وهكذا بلغ النبيون رسالات ربهم، وصنعوا بأيديهم الأم التى انتقلت ~~بها الإنسانية من طور إلى طور. وهكذا فعل العظماء من قادة الفكر الناضج، ~~وأصحاب المذاهب الفعالة والتيارات العقلية الكاسحة. إن أحدهم يضع "تصميم " ~~المجتمع الذى ينشده كما يرسم المهندس على الورق تصميم القصر الذى يريده... ~~ثم لا يزال يرفع القواعد، ويشيد الشرفات، ويستحث الفعلة، ويستكمل الأدوات، ~~حتى يستوى البناء قائما شامخا، عليه من روح منشئه طابع وبرهان. وإن أحدهم ~~ليقول الكلمة فى الإبانة عن دعوته فتتلقفها النفوس والعصور تلقف الأرض ~~الخصبة للحبة التى أودع الله فيها سر النماء والازدهار.. فإذا هذه الكلمة ~~المرسلة تنشئ رجالا وتخلق أبطالا. بل تنشئ أجيالا وتزلزل جبالا. وإن أحدهم ~~ليولد وفى الدنيا دول قائمة، وآراء سائدة، وتقاليد مقررة، وجماهير تحيا على ~~ذلك وتموت، كأنها فقاعات الموج، تظهر وتختفى. لا وزن لها ولا غناء.. فإذا PageV01P093 ~~الدنيا ص _094 # تميد تحت قدمى صاحب الرسالة الناشئ وهو ينظر إلى الأوهام السائدة، ~~والممالك القائمة، والأحزاب المتألبة، ثم يبتسم فى قلة اكتراث ويقول قولة ms078 ~~النبى العظيم قبيل موقعة حنين. وقد وصفت له تجمعات أعدائه وعدتهم: "تلك ~~غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله "!! * * * أولى صفات صاحب الرسالة أنه يؤمن ~~بنفسه، ويكفر بخصومه، ويغالى بفكرته، ويحقر ما عداها، ويزحزح غيره، ولا ~~يتزحزح ألبتة، وينزل الناس على رأيه إن استطاع، ولا ينزل على آرائهم أبدا. ~~ويثبت على شدة الكيد، ويصبر على مرارة الهزيمة، ويعيش فى وطن يعلى من دعوته ~~إن نبا به وطنه، ويدوس الأمجاد الزائفة والدنيا الزائلة، ويستهزئ بعروضها، ~~ولا تستخفه كثرة طلابها، ولا تفجعه قلة الزاهدين فيها. وفى حياة "محمد بن ~~عبد الله " النبى الذى أدب العروبة ليؤدب بها الأم، والذى قدم للحياة رسالة ~~لا تزال الإنسانية تتألق بها وتتأنق، وتشرف بها وتزدان.. فى حياة هذا النبى ~~النبيل مثل عليا يفزع إليها صاحب كل رسالة فاضلة عادلة ليرتوى منها إذا ~~صدى، ويسمد بها إذا شقى، وليقتبس منها دروسا مجدية فى طرائق الجهاد المضنى ~~عندما يتجرد الحق إلا من إشراقه، ويتشدد الباطل لكثرة عدته وعتاده..!! بدأ ~~هذا الرسول الكريم فوضع فواصل غليظة بين الحق الذى اهتدى إليه، وبين الباطل ~~الذى توارث الناس العمل به والاحتكام إليه. إنه من ناحية العدد قليل بنفسه ~~وإخوانه، وهؤلاء كثير بأنفسهم ونظمهم المألوفة وأفكارهم القديمة وأوضاعهم ~~العتيدة. فلابد إذن من قطع كل أمل فى أن يتفق معهم أو يخضع لهم. لقد سلك ~~نهجا غير الذى ألفوا، ولن يجمعه بهم طريق ما داموا على معتقداتهم الأولى. ~~(قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا ~~أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين). فى هذه ~~السورة تسمع صرخة الحق العنيد عندما يفترض أن الباطل سيلج فى غوايته. وأن ~~هذه اللجاجة PageV01P094 ~~لن تثنى لأصحاب الحق عزما، أو تقيد لهم قدما. وآيات هذه السورة ترمى إلى ~~مجاهرة الكافرين بهذه الحقيقة الرائعة، وهى أن كتيبة الله ص _095 # انطلقت لأداء رسالتها، وعرفت أنها متمردة على الأوضاع الباطلة، ثم هى ~~مسرورة بهذا التمرد، أنسة به، وأنه يزداد ms079 سرورها عندما يعلم الكفار ذلك، ~~وعندما يوقنون بأن الكتيبة المؤمنة قد بنت حاضرها ومستقبلها على ذلك، فلن ~~ترجع إلى الكفر حتى يلج الجمل فى سم الخياط.. والرسول العظيم فى هذه الخطة ~~يقتفى أثر جده إبراهيم لما نابذ قومه بالخصومة، ونجعل من أهله المؤمنين ~~حزبا يمثل الحق وينافح عنه. (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما ~~تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم ~~يرجعون). * * * على أن الصبر على أعباء الرسالة التى تدبر للإنسانية حدثا ~~ضخما، يعارضه من الناحية المقابلة صبر من الجامدين على موروثاتهم المقدسة ~~واستماتة فى الدفاع عنها. وهنا يدخل الفريقان فى مبارزة بالصبر أقسى وأنكى ~~من المبارزة بالسلاح، والفائز فيها أطول الفريقين إصرارا. وأشدهم تحملا، ~~وأكثرهم بذلا وأرضاهم بتقديم التضحيات الجسيمة، وأجرؤهم على اقتحام الأهوال ~~العظيمة. ولن يكتب النصر للإيمان إلا إذا توفرت هذه الشرائط كلها لأتباعه، ~~فإن الباطل سيسخر من الحق سخرية لاذعة طويلة اللسان: (وإذا رآ ك الذين ~~كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم ~~كافرون). وسيبدى الباطل أنه لم يأبه للصيحات التى تناولته، وأن هذا الحق ~~الجديد وأصحابه المغرورين به ليسوا إلا سحابة صيف عن قليل تنقشع، وأنها لم ~~تغير شيئا مما كان. ولن تستطيع ذلك.. ويقولون فى عناد: (وإذا رأوك إن ~~يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا * إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا ~~أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا). ص _096 PageV01P095 ~~وسوف يجنح الكفار إلى المال- وما أقوى سلطان المال- يستغلونه للرشوة وشراء ~~العقائد وتخريب الذمم، فإن عجزوا عن ذلك استغلوه فى إشعال حرب مهلكة لتأديب ~~الثائرين- كما يقولون- ولإعادة المياه إلى مجاريها! والعدل فى البيئات ~~الظالمة كالنور فى الليالى المظلمة، كالتوحيد فى الأم المشركة، كل ذلك خروج ~~عن المألوف. فهو ثورة تستنكر ويحارب أصحابها. وعلى الموسومين بأنهم ثوار أن ~~يصبروا على هذه التسمية وما تستلزمه من معاملات يفرضها ناموس الأوضاع ~~القديمة إلى أن يأذن الله بزوال ms080 هذه الأوضاع.. وقد كان الرسول الكبير صبارا ~~على مطالب رسالته، ناهضا بأعباء دعوته، وهو يعالج أمة فى أخلاقها وحشة ~~ورهبة، وكأنها ظلال للصحراء التى تسكنها من قديم. وفي كنف هذا الرسول تربى ~~جيل من البشر هيهات أن يوجد مثله بلاء ووفاء وتقديرا لقيم الرسالات ووزنا ~~للرجال بمعاييرها الصحيحة. إنه جيل لم ينكص أمام أى نوع من أنواع التضحية ~~طلب إليه.. ضحى بكل شىء لكى يسلم له دينه فحسب. خرج صهيب مهاجرا فاتبعه نفر ~~من مشركى قريش فنزل عن راحلته ونثل ما كان فى كنانته وقال: والله لا تصلون ~~إلى أو أرمى بكل سهم معى، ثم أضرب بسيفى ما بقى فى يدى.. وإن شئتم دللتكم ~~على مال دفنته بمكة! وخليتم سبيلى. فقالوا: دلنا! ففعل. فلما قدم على رسول ~~الله صلى الله عليه وسلم نزلت فيه هذه الآية: (ومن الناس من يشري نفسه ~~ابتغاء مرضات الله والله رء وف بالعباد). ومن عمل العقيدة العميقة فى النفس ~~أنها تهيج صاحبها حتى تجشمه فوق طاقته من عمل. فإن الله عز وجل عذر فى ~~الهجرة من لا يستطيعها من الشيوخ العجزة، ولكن شيخا مريضا من بنى ليث حدثته ~~قوة الإيمان فى نفسه، وأوحت إليه الرسالة الصادقة التى يعمل لها، أنه أهل ~~للهجرة، فقال: والله ما أنا ممن استثنى الله عز وجل وإنى لأجد حيلة . ولى ~~من المال ما يبلغنى المدينة وأبعد منها . والله لا أبيت بمكة، أخرجونى . ص _097 PageV01P096 ~~فخرجوا به يحملونه على سرير حتى جاوزوا قريبا من مكة، فبرحت به العلة وحضره ~~الموت. فضرب بيمينه على شماله- كهيئة المبايعة- ثم قال: اللهم هذه لك. وضرب ~~مرة أخرى وقال: وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايع رسولك.. ثم مات... وبلغ ~~خبره أصحاب رسول الله صلى الله عله وسلم، فتمنوا لو أن الرجل وافى المدينة! ~~فنزلت الآية: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد ~~وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما). إن الرجل صاحب الرسالة يؤثر فى ~~الحياة ولا يتأثر بها، ويوجه ms081 الأمة ولا يندرج مع تيارها. وكل عام يلوح ~~هلاله فى الأفق، يذكر المسلم الحر، بأن النفس والمال والأهل والوطن، فدى ~~للإيمان الصحيح، والإخلاص لله ورسوله. ص _098 PageV01P097 ~~المنقذ المجهول تمخضت متاعب المسلمين فى مكة عن الهجرة منها. فغادرها ~~الرسول صلى الله عله وسلم وصحابته إلى يثرب، وهناك استطاعوا بناء الأمة ~~التى يريدون، وإقامة الحكم الذى يبتغون. ولكن المسلمين- كبقية الأمم- لا ~~تنتهى أمامهم سلسلة المتاعب، بل لابد من أن يواجهوا شتى الصعاب التى شرعت ~~من أجلها فريضة الجهاد، وقررت عقيدة الكفاح. ولما كانت مراحل التاريخ ~~الفسيح لأية أمة تتراوح بين الضعف والقوة، والهبوط والرفعة، فقد لاحظ ~~العلماء أن الأمم- إبان ضعفها وذلتها، وتنكر حاضرها لها وسير أمورها على ~~غير ما تهوى- تؤمل أبدا أن يكون غدها أكرم وأعز، وترتقب فى هذا الغد الزعيم ~~الذى يحقق آمالها، ويبدد آلامها، ويدرك لها ثأرها من عداتها. وربما تطورت ~~هذه الأمنية التى تتنفس فيها الرغبات المكبوتة إلى عقيدة عميقة يصاحبها ~~الانتصار الطويل أو القصير! وليس يهمنا الحكم على هذه الملاحظة من الناحية ~~النفسية، ولا من الناحية التاريخية، إنما يهمنا أن يطمئن القراء إلى قيمتها ~~من الوجهة الإسلامية، فقد صح عن صاحب الرسالة العظمى إخباره: أن الله يرسل ~~لهذه الأمة كل قرن من يجدد لها أمرها! لست أقتنع بقصة المهدى المنتظر كما ~~يتصورها بعض المسلمين من أنه متربص فى محبسه من اثنى عشر قرنا ينتظر أن ~~يؤذن له فى الخروج فينطلق فى فجاج الأرض يملؤها عدلا كما ملئت جورا...!!! ~~إن هذا الاحتباس الغريب شىء يعز على التصديقات... ولكنى أرحب بفكرة المهدى ~~على أنه أى امرئ مسلم يغضب الله. ويغار على دينه وعباده. ويزدرى الضلال ~~السائد بين الخاصة والعامة. والركود الذى يوهن المسلمين ويسلط عليهم عدوهم. ~~فيقوم لله قومة مؤمن خالص القلب صادق الجهاد. ولا يزال ينفخ من روحه ~~المقدام فى أرواح من حوله حتى يجعل ريح الإسلام تهب بعد ذهاب وتنتشر فى ~~آفاق الأرض بعد طول غياب. ص _099 PageV01P098 ~~ومن ثم لا ينبغى أن يقنط المسلمون فيتركوا ms082 التفكير العملى فى شئونهم، فإن ~~الله يتعهدهم بين الحين والحين بمن يدفع نهضتهم إلى الأمام، وينفخ فيها من ~~روحه حتى لا يخبولها ضرام. وقد يقال إن هذا المعنى يدعوا إلى الكسل لا إلى ~~العمل! وهذا خطأ وقع فيه المسلمون لأنهم لم يحسنوا فهم كثير من العقائد ~~والتعاليم على وجهها الصحيح. ألا ترى أن عقيدة القدر كان يجب أن تترك فى كل ~~نفس آثار الشجاعة التى لا ترهب أحدا، والتضحية التى لا تبقى على شىء. ولكن ~~الحمقى جعلوها أساسا للنكوص والتواكل وسقوط الهمة. كذلك أراد الإسلام ألا ~~نستنيم لضيم، وألا نستكين لهوان، بل يجب أن يبقى الشعور بالظلم كمينا بين ~~الجوانح ينتظر العاصفة التى تلهبه، فيستطيع كل زعيم قوى المنهاج أن يستغله ~~وأن يوجهه. حتى إذا وجد هذا الشعور وتوافر معه التطلع إلى هذه القيادة ~~المنقذة المجددة من بين أصحاب المواهب النابغة، عاد ذلك كله على التاريخ ~~الإسلامى بالخير الجزيل. وتحضرنا قصيدة لابن الرومى يصف بها عدوان الحكومة ~~فى عهده، واضطهادها للمطالبين بتغيير "بنى العباس " فهو يتهددها قائلا: ~~وخلوا ولاة السوء منكم وغيهم فأحر بهم أن يغرقوا حيث لججوا نظار لكم أن ~~يرجع الحق راجع إلى أهله يوما فتشجوا كما شجوا على حين لا عذرى لمعتذريكم ~~ولا لكم من حجة الله مخرج ثم هو ينتظر مع المنتظرين هذا المنقذ المجهول، ~~ويصف الجيش الذى يكون على رأسه وصفا يستغرق نحو سبعة عشر بيتا من عيون ~~الشعر العربى تدلك على مبلغ هذا الأمل من القلوب وشدة تعلقها به. لعل لهم ~~فى منطوى الغيب ثائرا سيسمو لكم والصبح فى الليل مولج بجيش تضيق الأرض عن ~~زفراته له زجل ينعى الوحوش وهزمج فيدرك ثأر الله أنصار دينه ولله أوس آخرون ~~وخزرج ويقضى إمام الحق فيكم قضاءه تماما وما كل الحوامل تخدج ص _100 PageV01P099 ~~ثم تراه يشفق على الإسلام من تصرفات حكامه الحمقى فى ذلك العهد، ويحذرهم ~~عاقبة المضى فى هذه الطريق التى تتنكر لدين الله وأحكامه فيقول: وإنى على ~~الإسلام منكم لخائف بوائق شتى بابها الآن ms083 مرتج لعل قلوبا قد أطلتم غليلها ~~ستظفر منكم بالشفاء فتثلج ونحن مع تشجيعنا لهذه الفكرة، فى حدود ما أوضحنا، ~~نريد أن نذكر نوعا من الدجل أبى إلا أن يسايرها حتى كاد يذهب بجلالها ويمحو ~~آثارها. ذلك أن كثيرا من شيوخ الطرق أو قطاعها أعطوا أنفسهم لقب المهدى، ~~وارتدوا ملابس الزعامة الإسلامية، فانقلبوا فيها ممثلين ممقوتين، وانقلبت ~~أعمالهم مساخر لا آخر لها. وتلك من نكايات الزمن بمقدسات هذه الأمة فى ~~دينها ودنياها. إن أمتنا تتجدد كل قرن لتغالب عوامل الفناء، فلنواجه، نحن ~~المسلمين، مستقبلنا بقلب جديدة العزم، وعقول جديدة الفكر، ولننتظم فى صفوف ~~الحياة الراكضة لنكون أبدا طلائعها الأولى. إن كياننا راسخ تميد الجبال ولا ~~يميد! ونحن فى حراسة الحفظ الإلهى ما بقينا أبناء القرآن! فاحرصوا على ~~رسالتكم أيها الأخوة. من يدرى؟ لم لا يكون من بينكم هذا المنقذ الكريم. ~~هيا... ركضا إلى الله. * * * * القلة.. والضعف: حرم الإسلام على بنيه الذل، ~~كما حرم الخمر، وكما حرم سائر الفواحش والمناكر. وليس يغض من قيمة هذا ~~التحريم الحاسم أنك تجد أفرادا من المسلمين مخمورين لتعاطيهم المسكر، أو ~~أنك تجد شعوبا من المسلمين مظلومة "لتعاطيها" الذل وتخبطها فى سكرته !. ~~وتحريم الذل بعض ما أوحى بالهجرة إلى المدينة، ومن قبل المدينة إلى الحبشة، ~~ولم يكن الذين أقاموا بمكة إلى حين الهجرة العامة مستكينين إلى ضيم يراد ~~بهم. كلا! فقد كانت الكرامة الإسلامية مثلا فى الأنفة والترفع والاعتزاز، ~~وكانت المبادئ الإسلامية تجعل أصحابها فى الذروة من الروح المعنوية ~~الغلابة.، ولكن المسلمين كانوا قلة فى العدد، وقلة فى المظاهر المادية التى ~~لابد منها للانتصار المادى. ص _101 PageV01P100 ~~ومن ثم استضعفهم أعداؤهم حتى اضطروهم إلى التحول عن وطنهم، فتحولوا تحول ~~العزيز الذى يكره أن يكون ضعفه ذلا، وتحول الأبى الذى أعوزته أسباب النصر ~~فى ميدان فذهب يبحث عنها فى ميدان آخر، وتحول المصمم الذى قد يدور فى طريقه ~~مرة ومرة ولكن عينيه شاخصتان أبدأ إلى هدفهما الفريد!!. ولو كان المسلمون ~~فى مكة كثرة نسبية. أو كثرة ذاتية، لأصبح رأس ms084 أبى جهل تتلاعب به أقدام ~~صبيتهم. ولطاحت رؤوس تريد أن تفق المسلمين بجبروتها وسطوتها. وأن تطفئ نور ~~الله بجهالتها وغفلتها. أجل! فإن نقمة الإسلام على المستكبرين لا تعدلها ~~إلا نقمته على المستضعفين. وفى عصرنا هذا طرأت على المسلمين محن قاسية. ~~فمنذ سقطت خلافتهم الكبرى. وانتقض شمل الجميع. وعربدت القوى الساطية فى ~~أرجاء الإسلام وأهله. صحا نفر من المسلمين فوجدوا أنفسهم قلة فى دول صنعت ~~صناعة ليكون السلطان فيها بعيدا عن أيدى المسلمين. ووضع هذه القلة شائك. ~~فهى تهفو بروحها إلى الالتحاق بالكيان الضخم الذى سلخت عنه. ولكنها لا ~~تستطيع ذلك، ثم هى تحاول أن تقيم مجتمعا تبرز فيه ملامح الإسلام وتنفذ ~~شرائعه ولكنها لا تستطيع. وقد تحيا فى جو من الفتنة والإرهاب يستهدف إذابة ~~عقائدها. ومحو معالمها فماذا تصنع؟ إن العبء ثقيل على كل قلة إسلامية. فرضت ~~عليها الأقدار الاضطهاد والغربة. والرأى أن تبقى حيث هى إذا كانت كثرة ~~ذاتية، فإن الأمل أن يؤدى بقاؤها على دينها إلى توطن الإسلام فى تلك ~~المنطقة، وأن ترسخ فى ثراها شعائر التوحيد، من أذان وصلاة وتواص بالحق ~~والصبر. ومن يدرى لعلها تكون المفتاح لخير واسع يصيب بقية الأرجاء المحرومة ~~من أنوار الإيمان. أما إذا كانت قلة تخشى على نفسها أو على أعقابها التنصر ~~أو الارتداد إلى أية نحلة، فمن حقها، بل يجب عليها أن تنزح إلى دار ~~الإسلام، وأن تلحق بالجمهرة العظمى من المسلمين، كى تأمن على صلتها بربها. ص _102 PageV01P101 ~~ونحن نعتبر جماهير المسلمين فى روسيا وفى يوغوسلافيا كثرة ذاتية. وكذلك فى ~~الهند والصين.. وهم كثرة فى الحبشة وغانا وأوغندة وغيرها. ذلك، وقد وضع ~~الإسلام حدا للكثرة وللقلة التى تترتب على بيانها الأحكام الآنفة. فما ينقص ~~عن اثنى عشر ألفا يعتبرون قلة، وعلى هؤلاء القلائل أن يتركوا بلادهم إذا ما ~~اضطهدوا واعتدى عليهم، وفى أمثالهم تساق الآيات: (إن الذين توفاهم الملائكة ~~ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن ~~أرض الله واسعة فتهاجروا فيها). أما ما يربو على ms085 اثنى عشر ألفا فلن يهزم ~~اثنا عشر ألفا من قلة، فعلى أولئك أن يستقتلوا فى الدفاع عن دينهم وعن ~~وطنهم، وأن يتفانوا فى الحفاظ علي البقعة التى ارتفع فيها لواء القرآن، وفى ~~ذلك يساق الحديث: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا ~~.. " وليس هناك موقف بين عزة الكاثر وقلة الضعيف إلا موقف المسلمين اليوم ~~ذلك الموقف الذى يجب إرجاعه إلى واحدة من الحالتين السابقتين. * * * * علم ~~أم جهل: التصرفات التى تمليها البداهة كثيرة لا يتساءل عن عملها، بل يجب أن ~~يتعجب من تركها، لأن تركها جرى على غير السنن المألوف! وللإيمان الصحيح ~~تصرفات يجب أن تصدر عنه صدورا لا تكلف فيه ولا افتعال، لأنها أثره الذى لا ~~يتخلف ولا ينقطع. وقلما يجهل اتجاه المؤمن فى أية ناحية تعرض له لأنه قلبه ~~"يشير" دائما إلى جهة محدودة معروفة.. وإن لم يحددها له أحد أو يعرفها له ~~معلم: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم). وعلى ضوء ~~هذا الكلام تستطيع أن تعرف عمل كل مؤمن حق فى هذه الفترة من تاريخ الإسلام ~~السياسى. لأن عمله لا يشتبه ولا ينبهم. ص _103 PageV01P102 ~~فإذا انشغل بغيره فهو إما منافق لا إيمان له، وإما مغفل لا عقل له. وكلا ~~الرجلين لا نسأله عن دنيا، ولا نستفتيه فى دين!!. جاءنى أحد الناس يقول: ما ~~رأيك فى هذه المسألة التى اشتجر فيها السلف والخلف! قلت: لا أريد أن أعرفها ~~ولا أن أدلى برأى فيها! قال: كيف وقد خاضت فيها أقلام، وألفت رسائل، وقامت ~~جماعات، وشغلت المسلمين فى هذا العصر؟!. فقلت له: إن هذا هو المؤسف. لقد ~~شغلت المسلمين فى هذا العصر أمور تافهة جدا، لقد ألفت رسالة فى حكم ~~المسبحة، وهاجت أقلام فى حكم المحراب، وكونت جماعات لدفن الموتى كما كونت ~~جماعات لإحياء خلافاتهم العتيقة!. وربما لا أسىء الظن بقلوب هؤلاء، ولكنى ~~أشك فى عقولهم. قال لى: ولم هذا التحامل على البحوث العلمية المجردة؟!.. ~~قلت له: يا صاحبى، هل تتصور أن أحدا من مسلمى الصدر ms086 الأول يرى حال المسلمين ~~قبل الهجرة، أو عند إحاطة الأحزاب بالمدينة، ثم يستبيح لنفسه أن يثير عجاجة ~~البحث العلمى حول "مسألة المحيرة" في الحيض والنفاس، أو حول "المسألة ~~الحمارية" فى مشكلات الميراث، إن هذا سيبوء حتما بأحد الوصفين: النفاق أو ~~الحماقة..! إن أى علم يصرف المسلمين عن واقعهم، وإطالة الفكر فيه، والعمل ~~له. إنما هو جهل، فاعلم هذا جيدا... ص _104 PageV01P103 ~~الوطن الإسلامي الكبير إن المسلمين المعاصرين يواجهون الدنيا فى كبوة من ~~تاريخهم، وانفصال عن أنفسهم ورسالتهم، والظروف المفروضة عليهم جعلت بعضهم ~~ينكر بعضا، ويظن أنه جنس آخر يغا يره فى الشعور، والفكر، والسلوك، والهدف، ~~والألم، والأمل... وراية "القومية" التى ارتفعت على كل شلو من أشلاء هذا ~~الوطن الكبير الممزق ترمز إلى هذه الغربة القاحلة القاتلة، وتريد أن تمد ~~ظلالها على اليوم والأمس، كأن لم تربطنا على طول القرون رسالة الإسلام، ~~وأخوته، ووحدته الكبرى..!! إننا نريد أن نحارب بكل قوانا هذا الإحساس ~~المدمر.. نريد أن نرسم صورة الوطن الإسلامى فى مخطط يستوعب كل جزء من الأرض ~~تخفق عليه قدم مسلم. فهذا المجال الرحب لا غير هو وطننا... أخشى أن تترك ~~الأحوال العامة التى أصابت المسلمين أخيرا أثرا سيئا فى تفكير الأجيال ~~القادمة، فتشب وهى تحسب أن اختلاف الألوان على خريطة العالم الإسلامى يدل ~~على اختلاف طبيعى فى جوهر هذا الوطن الكبير، وفى شخصية من يعمرونه من أبناء ~~هذا الدين الحنيف! عندما كانت الشعوب الإسلامية أسرة واحدة تظلها راية ~~واحدة كان المسلمون أمة متعارفة متعاطفة، يحنو القريب على البعيد، ويهتم ~~بشئونه، ويستمع لندائه. فلما تغلب على بلادنا الغزو الصليبى الحديث مزقت ~~هذه الأمة شر ممزق، وغرق كل قبيل فى مشكلاته الخاصة فهو لا يدرى شيئا عن ~~أخيه، ولا يكترث له. ومضت السنون العجاف على تلك الحال المنكرة، ونبتت على ~~أنقاض الأمة الكبيرة أجيال معزولة مستوحشة، غذى الاستعمار عزلتها النفسية ~~والفكرية، فلو سئل المسلم فى وادى النيل عن أخيه فى وسط إفريقيا أو غربها ~~ما أجاب بشىء، بل لو قيل له لا يوجد ms087 مسلمون فى هذه البقاع لصدق!! ومن أدراه ~~وهو الذى تربى فى مدارس أنشأها الاستعمار لتفصم عراه بدينه وأمته وتاريخه. ص _105 PageV01P104 ~~وأنت خبير بأن هناك وحدة من صنع الله لا من صنع البشر تربط بين المسلمين ~~كافة من شطآن المحيط الهادى إلى شطآن المحيط الأطلسى، وأن حقيقة هذه الوحدة ~~تجعل مصور الخرائط الجغرافية يصبغها بلون واحد، ويجمعها فى نسق واحد. ويحقق ~~بذلك آية القرآن: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون). ولكن ~~لأمر ما تتقسم الألوان: السود والصفر على المجموعة الموحدة. ثم تشيع بين ~~الناس على هذا الشذوذ الذى بها!! والذى أقترحه أن ترسم خريطة الوطن ~~الإسلامى الكبير رسما موضحا بالنسب الصحيحة للسكان مذيلا بشروح موجزة عن ~~العواصم والبلدان، ثم نجتهد فى نشر هذه الخريطة فى حجرات الدور، وفصول ~~المدارس، وأمكنة العمل. وفى صدور الاحتفالات والمجتمعات... إلخ. وبذلك ~~نغالب النسيان أن يطغى، وروح الانفصال أن تسود، ونضع بذور الوحدة الكاملة ~~التى نرويها بأعمالنا وجهودنا، حتى تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها. هذا مظهر ~~شكلى من مظاهر إخلاصنا الواجب لديننا العظيم، ولكنه بعيد الأثر إذا حققناه. ~~* * * * لابد من أعداء: هل يستطيع امرؤ مهما بلغ من صفاء النفس، ورقة الخلق ~~أن يعيش فى هذه الحياة من غير أعداء يضيقون به، ويكيدون له؟ أظن ذلك لا ~~يحدث! نعم قد يوجد أشخاص يعيشون ويموتون من غير أعداء، ومن غير أصدقاء ~~كذلك، وهؤلاء وأمثالهم إنما يقضون أعمارهم فى الدنيا كالضيف العابر لا يهيئ ~~لنفسه قرارا، ولا يترك خلفه أثرا. وموقفهم بإزاء الأمور سلبى لا يحسب له ~~حساب. وقد قال شاعر جرىء لواحد من هؤلاء: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى ~~الفتى كيما يضر وينفعا!! ص _106 PageV01P105 ~~أما أصحاب المواهب الكبيرة، والرسالات الخطيرة، فيستحيل أن يخلو طريقهم من ~~الأعداء المتربصين. والخصوم الحاقدين الذين إن وجدوا خيرا دفنوه. أو لحظوا ~~شرا أذاعوه، وإن استطاعوا إدارة خصومتهم على غير قانون من خلق أو شرف فعلوا ~~غير مبالين. إذ لا هم لهم إلا إشباع نفوسهم المحرجة. وإرضاء ms088 صدورهم ~~الموغرة. وقديما كفر قوم بالله واليوم الآخر، لا لشىء إلا لأن قلوبهم أكلها ~~الغل الكامن فأصبحوا يحيون من غير قلوب!!. وفى هذا يقول الله عز وجل: ~~(وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا). وفى آية ~~أخرى يقول الله جل شأنه: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ~~يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا). إن لرسالات السماء أعداء موغلين فى ~~الخصام، لهم بيان حسن ومقالات مزخرفة، واغترار بالباطل، وتأميل فى نجاحه ~~وكسب المعركة به. وأعداء الإسلام من هذا القبيل لن ينقطعوا، ولن يهادنوا. ~~ترى أيغنى فى لقائهم الإحساس البارد، والقلب الفارغ، والابتسام المبذول؟. ~~(فلا تطع المكذبين * ودوا لو تدهن فيدهنون). والواجب ألا نتوجس من هذه ~~الخصومات، أو نعتبرها عقبات كئودا أو نتشاءم من الحياة، لأنها اتسعت لنذالة ~~الحاسدين والشانئين، بل الطريقة المثلى أن نأخذ من ذلك مددا ندعم به ~~أنفسنا، ونذكى به مشاعرنا ونحكم على ضوءه أمورنا، ويعجبنى فى ذلك قول ~~الشاعر: وقد زادنى حبا لنفسى أننى يغيض إلى كل امرىء غير طائل وأنى شقى ~~باللئام ولا يرى شقيا بهم إلا كريم الشمائل ثم لنمض بعدئذ إلى غايتنا ~~المرسومة، لا نفكر فى أعدائنا إلا يوم يعترضون سيرنا، ولا نتعرض لهم إلا ~~لكى نواصل هذا المسير إلى نهايته المنشودة. *** ص _107 PageV01P106 ~~نقد وتوجيه * التربية الجميلة: لم يفلح رجال الدين فى تكوين جيل من ~~المؤمنين ذوى العواطف الحارة والمشاعر المشبوبة، التى تتصل بالله عن حب ~~ورغبة وإعجاب، فقد كان جهدهم موجهآ إلى تخويف الناس من مبدع السماء، ~~وإفهامهم أن الوصف الأول الله عز وجل أنه جبار السموات والأرض، مرسل ~~الأقضية القاسية، والأحكام المعنتة، والأحوال التى لا تعرف حكمتها، ولا ~~تفقه علتها. وتعريف الناس بربهم على هذا النحو لا يكون عقيدة ناجحة، ولا ~~يؤسس أعمالا مثمرة، والأولى أن تربط قلوب الناس بالله عن طريق الحب لذاته. ~~والإعجاب بمجده، والإحساس بصنيعه، والاعتراف بمآثره... وقد كان الرسول ~~الكريم صلى الله عليه وسلم موصول الفؤاد بالله على هذا الأسلوب: إذا جاءت ms089 ~~بواكير المطر فى الشتاء تعرض لها بجسمه وثوبه وهو يقول: "هذا مطر حديث عهد ~~بربه ". وهى كلمة تنضح بما فى قلب صاحبها من شوق لربه وحبيبه. وإذا طلعت ~~بواكير الفاكهة قبلها، لأنها قريبة عهد بمن أبرزها، بديعة الألوان والطعوم ~~وسط حمأ مسنون. وعندما حضرته الوفاة هتف فى استبشار: "إلى الرفيق الأعلى". ~~وعلى هذا الغرار كان الرسول الكريم يربى أصحابه ويغرس فى قلوبهم بذرة الحب ~~المكين لربهم ولدينه العظيم. فآتى هذا الحب ثماره اليانعة. إقبالا على ~~الخير. وعزوفا عن الشر. وحماية للحق. وصبرا على المكاره. ورغبة فى التضحية. ~~ورصانة عند انهمار النعم فى السراء. وعند إدبارها فى الضراء. وهذه النتائج ~~كلها لا نصل إليها، ولا إلى بعضها، لو بنينا الإيمان على الخوف المبهم، ~~والرهبة الخفية. ص _108 PageV01P107 ~~ولا ننكر أن الدين الحنيف يقرن تعاليمه، فى أحيان شتى، بالترهيب وسوق النذر ~~وإيقاد الشرر، لكن هذه الشدة مواضعها المحددة عند تأديب النفس، وكظم ~~الشهوات، ومحاربة الجرائم... وليست الأساس الأول الناجع من طرق التربية ~~الصحيحة. . والقرآن الكريم يتألف النفوس ويطبعها على أن تعرف الله بما يرسل ~~من رحمات ويبث فى الأرض من بركات، ولذلك يطوى ذكر الشرور فلا يصرح بنسبتها ~~إلى الله، على حين يذكر الأفضال جلية النسبة فيقول: (وأنا لا ندري أشر أريد ~~بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا). فليعرف رجال الدين كيف يحببون الله ~~للناس، فإن طرائقهم الآن تنطوى على تنفير من دينه وإبعاد عنه. * * * * لو ~~يستريح الدين من هؤلاء: هناك أقوام يؤدون مظاهر العبادات أداء منظما، ~~ويحرصون على أن يعرفهم الناس بهذا حرصا شديدا، ولعلهم لا يؤدون هذه المراسم ~~إلا ليعرف الناس منهم هذا التعبد المريب!! ولهؤلاء أعمال أخرى يرتكبونها ~~سرا أو علنا، كلها محادة لله ورسوله، وخروج عن مبادئ الدين وآدابه، هم لا ~~يتركون هذه الأعمال لأنهم بنوا عليها حياتهم، وأقاموا عليها معايشهم، ~~ولكنهم إلى جانب ذلك لا يريدون أن يفرطوا فى أداء مظاهر العبادات وصور ~~الطاعات التى جاء بها الدين!! وهنا الداهية التى أحاذرها.. رأيت أحد هؤلاء ~~يصلى ms090 فتمنيت من أعماق قلبى لو ترك الصلاة وخرج من المسجد من غير ركوع ولا ~~سجود ولا محاولة للاتصال بالله؟ قلت: إن الآية انعكست مع هذا الشخص: إن ~~العبادة لا تطهره، ولكنه هو الذى يلوث العبادة؟ ص _109 PageV01P108 ~~وكما تمر المياه العذبة بالأرض السبخة الملحة فتخرج منها وقد فقدت عذوبتها ~~وحلاوتها ونقاءها، تمر العبادات بهذه الطبائع الخبيثة فتتكدر حقيقتها، ولا ~~تذهب كدرا، ويغير جوهرها ولا تذهب غيرا، وإذا أنت تقف أمام عبادة مثقلة ~~بأغراض صاحبها الصغير فلا يمكن أن ترتفع عن الأرض أبدأ!! تمنيت أن ينقطع ~~هؤلاء عن عبادتهم، لا لأنهم لا ينتفعون بها فحسب، ولكن لأنهم يخلقون جوا من ~~إساءة الظن بالعبادات كلها، ويجعلون الكثيرين يغضون من قيمتها وتأثيرها، ~~وتمنيت أن يقل علم هؤلاء بالدين حتى تقل ثرثرتهم بما يعرفون، ويتساوى جهلهم ~~وعبثهم، ولا ينخدع الناس بما يسمعون منهم!! سألنى بعض هؤلاء عن أمور فى ~~الدين فتجاهلت علمها وقلت فى نفسى: أحرمهم من التطاول بها فى المجالس ~~والخروج عليها بسوء العمل، وسأكتم هذا العلم عنهم كما قال القرآن فى ~~أمثالهم: (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على ~~رسوله والله عليم حكيم). ولكنهم، مع الأسف، سيجدون ما يطلبون، وسيبقى الدين ~~يعانى المتاعب من هؤلاء الدجالين. ص _110 PageV01P109 ~~التشريع الإسلامى.. فى متحف!! "أمر معالى وزير العدل بإنشاء متحف للمحاكم ~~الشرعية يضم الإشهادات والأحكام والحجج الشرعية المنبثة بين أدراج المحاكم ~~للمحافظة عليها، لما لها من القيمة التاريخية، وللوقوف على تطورات القضاء ~~الشرعى فى مصر". قرأت هذا النبأ ثم طويت الصحيفة عاجبا ساخطا. عهدنا ~~بالمتاحف أن تضم بين جدرانها آثارا مما ترك الأقدمون الذين طال عليهم ~~الأمد، ولفهم الموت فى أكفانه، ولكننا الآن أمام متحف تاريخى من نوع آخر، ~~هو متحف المحاكم الشرعية الملىء بالوثائق الخطيرة! إنه يدل على أن هناك، ~~لتلك المحاكم، ماضيا مجيدا كان القضاء الشرعى يتولى فيه شئون القضاء كلها ~~من شخصية ومدنية وجنائية. أليس هذا اكتشافا عظيما، ومفاجأة تستحق التسجيل؟ ~~بلى. فقد بعث من القدم ذكريات اختفت ms091 60 سنة! وليست 60 سنة قبل الميلاد أو ~~بعده، ولكنها 60 سنة من يوم الناس هذا- كانت قبلها المحاكم الشرعية هى كل ~~شيء، ثم جاء بعد ذلك الغزو الثقافى والحربى فأصبحت القوانين الوضعية هى التى ~~تعمل، وأصبح التشريع الإسلامى فى.. متحف يضارع متاحف الفراعنة البائدين!! ~~والأمر الذى نريد أن نقف لديه قليلا هو جهل كثير من الناس بحقيقة التشريع ~~الإسلامى، فهو إذا ذكر وثبت إلى رؤوسهم صور شوهاء عن قطع يد السارق، وجلد ~~الزانى، والسكير و... و... إلخ ، مع أن هذه الأحكام لا تأخذ من كتاب الفقه ~~الإسلامى الواسع إلا صحائف محدودات، ويبقى بعدئذ الفقه كله، أو الدين كله ~~مليئا بالنصوص والأصول التى تقيم الأمم ولا تقوم بغيرها الأمم.. هذه ~~الحماقة فى فهم التشريع الإسلامى هى التى جعلت بعضهم يسوق فى معرض الغرابة ~~والدهشة أنه وجدت فى متحف المحاكم الشرعية "وثيقة مكتوبة بصفة الأمر من ~~القاضى الشرعى يحظر فيها ذبح الأنثى من البقر إلا بإذن خاص من القاضى ، ~~وذلك محافظة على نسل الماشية كما تفعل وزارة الزراعة الآن، سواء بسواء". ص _111 PageV01P110 ~~ولعل الكثيرين كانوا يحسبون هذا التصرف مدنيا بحتا بل ربما ظنوه منقولا ~~نقلا حرفيا عن بعض "سلخانات باريس " وهذا من الأخطاء الفاضحة فى فهم طبيعة ~~التشريع الإسلامى التى ترد هذا التصرف وأمثاله إلى باب المصالح المرسلة ~~المعروف جيدا فى كتب الفقه القديمة. كذلك وجدت وثيقة حكم شرعى من قاضى ~~أسيوط خلاصتها "أن القاضى تلقى بلاغا عن حادثة معينة ثبت من التحقيق فيها ~~كذبها فحكم القاضى على مقدم البلاغ بعقوبة الحبس وتعويض مالى.. ". وهذه ~~القضية، كسابقتها، رجعت فيها المحكمة الشرعية إلى مصادرها فى الفتوى، فكان ~~حكمها مشابها لما نظنه الآن وليد التشريعات العصرية الحديثة وما هو إلا ~~الإسلام الحكيم يؤخذ منه كل إصلاح، ولا يحتاج أبناؤه إلى تسول الإصلاحات من ~~هنا ومن هناك. من البداهات أن نعرف أن النصوص الجزئية ليست هى جملة الفقه ~~الإسلامى الزاخر، بل إنه إلى جانب ذلك توجد الأصول الجامعة، والقواعد ~~العامة التى ترد إليها الحوادث المتجدد، وتعرف منها ms092 الأحكام التى لا تتقيد ~~بمكان ولا زمان. هذه المبادئ الكلية الثابتة فى الإسلام من أهم دعائمه ~~التشريعية، ومن أسباب صلاحيته الذاتية للعصور كلها، وهى التى تتيح للقاضى ~~استعمال القياس، والنظر إلى المصالح فيما يعرض له من شئون الناس، وهى منبع ~~النظريات القانونية التى تصاغ على ضوئها المواد، وتصدر المراسيم والقوانين. ~~وقد استند إليها الصحابة والتابعون منذ العصر الأول. وحبذا لو أضيف إلى ~~متحف المحاكم الشرعية الحكم الذى أصدره عمر بشق ترعة فى أرض مملوكة لأحد ~~المسلمين، وقد اعتمد فى حكمه على صاحب الأرض بأن ذلك لا يضره، على حين أنه ~~ينفع غيره من الناس، ومرجع الحكم فى ذلك إلى المصالح المرسلة!! وهى وغيرها ~~ليست إلا مجموعة من المبادئ المرنة أخذت أخذا من كتاب الله وسنة رسوله. وفى ~~مقدمة هذه المبادئ مثلا دفع الضرر. وسد الذرائع، ورفع الحرج. وترك الريبة. ~~وتقرير العدل. وسؤال أهل الذكر- أى الرجوع إلى PageV01P111 ~~المتخصصين- وتحقيق ص _112 # التعاون وإباحة المنافع. وتحديد سياسة الحكم، وتحديد طرائق التعزير. ~~وأنواع العقوبات.. إلخ. مما يبحث عنه فى مظانه. وتمشيا مع الفكرة التى أوحت ~~بهذا المتحف الفذ. وإنصافا لماضى هذه المحاكم. كان ينبغى أن يعرض الفقه ~~الإسلامى كله ودعائمه الأولى من كتاب وسنة.. ثم يقال فى ذلك... إنه للذكرى ~~والتاريخ!! إننا نتهيأ لعهد تشريعى جديد يوحد القضاء فى مصروفى غيرها من ~~الأقطار العربية والإسلامية. فهل نستفيد من إقامة هذا المتحف ما يدفعنا إلى ~~الوجهة الصائبة. وهل نتعرف منه قيمة القضاء الشرعى ومدى نجاحه فى معالجة ~~الأمور؟ وهل يردنا ذلك إلى المحافظة على المحاكم الشرعية بدلا من سلب ~~اختصاصها وتضييق محيطها؟ وأخيرا هل ندرك نفاسة مبادئنا القانونية وتمشيها ~~مع أزهر العصور فنأخذ بها ما عداها من قوانين؟ ص _113 PageV01P112 ~~تمارين علي الذل فى فترات الضعف التى أصابت التاريخ الإسلامى انقلبت أشياء ~~كثيرة عن طريق الخير المرسوم لها. فأصبحت قليلة الغناء. بل أصبحت مثار شر ~~لا ينتقص من خطره أنه شر تولد عن خير مدخول وطيبة مغفلة!! ومن أمثلة هذه ~~الأشياء المنقلبة على رأسها أن ms093 الدجالين من رجال الطرق الصوفية كانوا يربون ~~أتباعهم على التواضع بشتى الطرق المهينة. فإذا رأوا أنفة فى مسلك أحدهم. أو ~~دلائل عزة وترفع. جعلوا عليه مهمة حمل أحذية الجماعة. والمحافظة عليها. حتى ~~تنكسر نفسه. وينخفض رأسه وبذلك يكون مرشحا لعبادة الله كما يجب! ولم يدر ~~المغفلون أنهم يرشحونه أيضا ليكون عبدا للناس جميعا. وأن مثل هذا الكائن ~~الممسوخ هو أمل المستعمرين الذين يقيمون وجودهم على إذلال الأمم. وقتل ~~الشعور بالكرامة فى نفوس بنيها.. ثم هناك مكاتب تحفيظ القرآن التى طالما ~~قمعت نشاط الغلمان. وحبست حركاتهم المرحة. وتركت فى مشاعرهم عقدا مبهمة. ~~فإذا تخرجوا فيها كانوا من أحفظ الناس لألفاظ القرآن.. ومن أجهل الناس ~~بروحه ومعناه وسعة آفاقه وعظمة توجيهاته. وكانوا لعصا الفقيه هيابين، ولعصا ~~الحكام أهيب، ولعصا الأجانب أشد هيبة! ومن ثم تتحول الأشياء الملابسة ~~لشعائر الإسلام إلى عوامل تعين عليه، وتنال منه، أى إلى تمارين على الذل ~~الداخلى الذى يمهد الطريق تمهيدا تاما للذل الخارجى. فإذا ضممت إلى هذا ~~كلمات شائكة يقع عليها المطالعون لمثل كتاب الإحياء أو لغيره من كتب التصوف ~~مثل "اعلم أن المسلم لا يخلو من ذلة أو علة أو قلة"!! ومثل "إن جاءونا بعلم ~~الورق جئناهم بعلم الخرق!! " عرفت إلى أى هوة ننساق. ص _114 PageV01P113 ~~وهكذا يتضافر على هذه الأمة من أسباب الضعف العقلى والخلقى ما يقتل روح ~~الأمل والتوثب فيها! وقد يصل ذلك إلى كثير من الأحزاب والهيئات الدينية ~~القائمة، فيزيد الطين بلة، والداء استفحالا! أعجبنى من وزير كبير رفضه أن ~~يقبل يده أحد الموظفين. وكم أود أن يختفى تقبيل اليد وإحناء الهامة من ~~مجتمعاتنا، وبخاصة فى البيئات المنسوبة للدين، لأن ذلك إن دل على الحب ~~والتقدير فى حالة، فهو يدل على الذلة والزلفى فى ألف حالة!!. ص _115 PageV01P114 ~~الثعالب من البشر زعموا أن الثعلب أراد مرة أن يختطف عنقودا من العنب ~~فأعياه أمره وأحس بالعجز عنه، فارتد وهو يقول: إنه حامض! وتحقير الشىء الذى ~~لا يستطاع إدراكه شيمة الطبائع الخسيسة فى البشر. وهو الذى أوحى ms094 إلى ~~المشركين قديما أن يطعنوا فى المؤمنين، وأن يستهينوا بقيمة الدين الذى ~~اعتنقوه قائلين: (لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون ~~هذا إفك قديم) أى أنه عنب حامض! هذه الثعلبية متفشية بيننا تفشيا واسعا، ما ~~أن تبرز العمل العظيم حتي تجد نظرات البرود محيطة به، فإذا أثرت حديثا حوله ~~وجدت هذا يهز كتفيه استخفافا. وهذا يكاد يقول لك: إن كثرة مشاغلى هى التى ~~منعتنى عن أن أقوم بخير منه! وهذا يمسح جبهته الذكية ثم يتثاءب مؤثرا البعد ~~عن هذه التوافه!. ولولا أن عظائم الأمور تندفع بقوتها الذاتية لماتت فى هذه ~~الأجواء الخانقة. ليت شعرى ماذا يخسر الناس إذا أعطوا كل ذى فضل فضله؟ لا ~~شىء!! ولكن اضطراب مقاييس الكفاية عندنا أدى إلى فوضى فى التقدير تركت ~~طابعها فى أعمالنا وأخلاقنا. فالذين يحترمون الملبس الفخم لا يفتحون عيونهم ~~على غيره، والذين يخشعون للألقاب الضخمة لا يفتحون مسامعهم إلا لاسم بين ~~يديه لقب ومن ورائه لقب، والذين يركعون للمال لا يرمقون بالتجلة إلا رجلا ~~يتكلم معه دخله أو مرتبه حين يتكلم، وهكذا تتوارى الحقائق فى أكفان المظاهر ~~المادية الصغيرة! ونتيجة هذه الأخطاء المتعمدة أن كفايات كثيرة تميت فى هذه ~~البيئات الحاقدة، كما تموت الأزهار الغضة فى التربة الجدبة، لا تجد خصبا ~~يغذيها، ولا ريا ينميها. مع أننا فى الشرق الإسلامى بحاجة ماسة إلى مواهب ~~كل ذى موهبة ونبوغ، ونتيجة أخرى ص _116 PageV01P115 ~~لا تقل شرا: هى أن القاصرين والمقصرين يفسح لهم المجال الذى خلا من أصحابه ~~الجديرين به. والويل للأم التى يتقدم فيها أغبياؤها بالوسائط المفتعلة من ~~مال أو جاه، ويتأخر فيها أذكياؤها المضيعون. *** أجل.. البلد الذى يحارب ~~فيه الذكاء لا تقوم له قائمة، ولا تعلو له راية، فإن حق الذكاء أن يشجع ~~ويدفع إلى الأمام، لا أن يخذل ويوارى بريقه. وما لاحظت آنفا فى كثير من ~~المجتمعات والبيئات ظاهرة جديرة بالتنديد والازدراء، فما أسوأ الغض من ذوى ~~المواهب، وقلة الاكتراث بهم! وشر من ذلك أن يقلد الرجل فى ms095 عمل ثم تجحد ~~مكانته فيه، ويكون أول من جحدوه هم أول من تعلموا منه وقلدوه..! فى ميادين ~~العلم والأدب والفن، بل فى ميادين التمثيل والغناء واللهو واللعب، وجدت ~~رجالأ لهم فضل الرواد المكتشفين فى النواحى التى يعملون بها، ذللوا صعبها، ~~وقربوا بعيدها، واستأنسوا غريبها، وقدموا للجمهور الخير العظيم منها، وشعرت ~~الأفئدة بمدى جهدهم وإنتاجهم فيها، ثم ما هى إلا أيام حتى يتبعهم فى هذه ~~الميادين الممهدة - بفضلهم- أقوام أقل دراية، فيزاحمونهم بالمناكب، ويريدون ~~أن ينفردوا دونهم بالتقدير والتكريم. من قديم شعر المتنبى بأولئك المزاحمين ~~المهازيل فقال معلنا سخطه عليهم: أفى كل يوم تحت ضبنى شويعر ضعيف يقاوينى ~~قصيريطاول؟ لسانى منطقى صامت عنه عادل وقلبى بصمتى ضاحك منه هازل وما الكبر ~~دأبى فيهم غير أننى بغيض إلى الجاهل المتعاقل ثم هو يرى أن يحرم هؤلاء ~~المزاحمون مما يؤملون فيه من جوائز وأعطية، وأن يمنح هو الثمن على ما ~~يقولون من مدائح! ولذلك يقول لسيف الدولة: أجزنى إذا أنشدت شعرا، فإنما ~~بشعرى أتاك المادحون مرددا ودع كل صوت بعد صوتى فإننى أنا الطائر المحكى ~~والآخر الصدى! ص _117 PageV01P116 ~~وإذا كان لغمط الحقوق مجال بين الطامعين فى الدنيا والمتكالبين عليها ~~فينبغى أن يكون المتدينون أبعد الناس عن سوء التقدير وقلة الإنصاف، فإن أول ~~معالم المجتمع المتدين أنه لا يجحد فضلا ولا ينقص حقا، ومن هنا يخرج الرسول ~~صلى الله عليه وسلم من نطاق المؤمنين من مردوا على التنقص والنكران " ليس ~~منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعاملنا حقه والواقع أننا لو ~~حللنا البواعث التى تدفع إلى الاستهانة بالفضلاء، والتطاول على الأكفاء لما ~~وجدناها إلا المشاعر نفسها التى دفعت ابن آدم إلى قتل أخيه. والتى دفعت ~~إبليس إلى احتقار آدم، التى لا تزال تدفع كل مغموص فى عقله أو دينه إلى أن ~~يرفع خسيسته على حساب ذوى العقل والدين، أو ذوى المهارة والخطر. وهى مشاعر ~~لا قرار معها لإيمان فى قلب، ولا قرار معها لتدين فى مجتمع. ص _118 PageV01P117 ~~رجولة... ؟ ثبات الأخلاق على تقلب ms096 الزمن، واختلاف البأساء والضراء على ~~الإنسان دليل اكتمال نفسه ونضج شخصيته. ووفاء المرء لمن يعرف فى حالى الفقر ~~والغنى، ونبل موقفه مع من خالطوه أيام الخشونة والنعومة، أمارة لا تنقضى ~~على صفاء المعدن وكرم الطبيعة. وقد كان العرب يلاحظون السلوك الإنسانى فى ~~شتى الأحوال، ثم يحكمون بعدئذ للشخص أو عليه. يقول الشاعر لأحد هؤلاء ~~المتقلبين: فإن تكن الدنيا أنالتك ثروة فأصبحت ذا يسر وقد كنت ذا عسر لقد ~~كشف الإثراء عن مساويا من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر ويفاخر شاعر آخر بأن ~~ألوان العيش مهما صفت أو كلحت لم تكسر همته، ولم تهزم إرادته، ولم تبرزه ~~يوما صغير النفس أمام الناس: فإن تكن الأيام فينا تبدلت ببؤسى ونعمى ~~والحوادث تفعل فما لينت منا قناة صليبة ولا ذللتنا للتى ليس تجمل ولكن ~~رحلناها نفوسا كريمة تحمل مالا يستطاع فتحمل فكن رجلا رفيع الرأس كبير ~~النفس، ولا تقع فى الأحابيل التى تنصبها الدنيا للضعاف والمهازيل. (من ~~المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ~~وما بدلوا تبديلا). ص _119 PageV01P118 ~~العصبيات الحزبية والإسلام لم يزل التطلع إلى الرئاسة والتنازع على الإمارة ~~آفة الشرق قديما وحديثا بل لم تزل النكسة التى تقتل النهضات، والعقبة التى ~~تعوق الامتداد، ومهما توافرت الدواعى على توحيد الصفوف وجمع الكلمة فإن ~~أعراض الداء المتغلغل تتغلب على غيرها، وإذا أنت تمد بصرك فى أنحاء الشرق ~~الذليل فترى فى كل بلد- أسفر فيه الاستعمار أو احتجب- عددا كبيرا من ~~الأحزاب، وعددا أكبر من الهيئات والجماعات، يزعم أصحابها أنهم يعملون لغرض ~~واحد! ومع ذلك اختلفوا!! وبين هذه القوى المشتتة يضيع كل جهد، ويذهب كل ~~أمل، والعلة فى ذلك ترجع إلى شيوع الجهل والنفاق، فإن الأمة المتعلمة لا ~~تسمح للأدعياء أن يتقدموا، وإذا حاولوا ذلك قتلتهم قبل أن يقتلوها. وعندما ~~يخلو الميدان من هؤلاء يصفو الجو أمام الزعماء الحقيقيين فيستطيعون العمل ~~آمنين. ثم إن نفاق الأمة فى دينها يساوى فى خطره جهلها بشئون دنياها، بل قد ~~يزيد ms097، فإن إرشاد الدين فى وسائل الرئاسات وما إليها يقطع دابر الحزبية، وما ~~يتبعها من ميل للغرور، وحب للظهور، ويقى الأعم عواقب هذا الخبال. يوجب ~~الدين على الأمة أن تقدم للعمل أكفأ من عندها، وأن تلقى فى يده مقاليد ~~الأمور. فإن حدث- لأمر ما- أن تقدم غير الكفء فيجب على الأخيار والأذكياء ~~أن يعينوه بثاقب رأيهم وكفاءتهم لوجه الله، وألا يثيروا من خلفه الشغب. ~~وتدبر مسلك خالد مع أبى عبيدة ، وكيف تحول من قائد إلى جندى فى هدوء ويقين. ~~ثم يعتبر الإسلام مع فلك أن رياسة الرجل المكروه جريمة منه ومعصية يجب أن ~~يقلع عنها. فإذا حدث أن استقر أمر الأمة على قيادة رشيدة، وواجهت مصالحها ~~فى الداخل والخارج بوحدة شاملة، فليس يجوز ألبتة لأحد من الناس أن يصدع هذا ~~التجمع، والإسلام يتوعد بالنكال من يقترف هذه الفتنة. ويهدد بالقتل من يبدأ ~~محاولتها الأثيمة. ص _120 PageV01P119 ~~"من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه بالسيف ~~كائنا من كان ". ويوصى مع ذلك المرءوسين بأن يحتالوا على إصلاح الأمر، ~~وتحمل العبء وترك الثورة. (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة). ~~*** والإسلام يمرن المسلمين على فهم هذا الأمر فى المسجد فى كل صلاة، فإذا ~~تقدم للإمامة من لا يريده الناس لها بين الإسلام حكمه فجعل من بين من لا ~~تقبل صلاتهم: " من أم قوما وهم له كارهون ". ثم حث المصلين على ألا يعددوا ~~الجماعات، ويثيروا العداوات، وأن يتحملوا الأمر الواقع على علاته: "صلوا ~~خلف كل بر وفاجر". فهل يتأخر الأغبياء ابتغاء وجه الله ليفسحوا الطريق، وهل ~~يعين الأذكياء ابتغاء وجه الله ليقطعوا دابر الفرقة؟؟ إن الإسلام جعل تفرق ~~الأمة أحزابا من خصائص المجتمعات المشركة التى تجعل أهواءها آلهة.. ثم تحيا ~~لها وتتنارع عليها.. وقد كره لنا هذا المثل السوء: (ولا تكونوا من المشركين ~~* من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون). ص _121 PageV01P120 ~~علم عقيم...! فى أحيان كثيرة تكون مشكلات العلماء النفسية أعقد من مشكلات ~~الجهال العقلية، وتكون ms098 استجابة الرجل الساذج لدواعى الخير أدنى إلى التحقق ~~من استجابة العامل الحترف لأى فن من فنون الدين أو الدنيا، وليس فى ذلك من ~~تهوين لقيمة الإدراك العقلى والمعرفة النظرية، ولكن يجب أن نعلم أن استقامة ~~الفكر لا غناء لها إن لم تصحبها استقامة الضمير، وأن سلامة العقل لا خير ~~فيها إن لم تصحبها سلامة القلب، والإنسان الكامل هو الذى يأخذ قسطه من ~~طهارة النفس، كما يأخذ قسطه من شتى المعارف والعلوم. وقد عاب القرآن الكريم ~~هذا العلم العقيم، ونعى على أصحابه ما أصاب الإنسانية على أيديهم من أضرار ~~وأخطار، جعلت الناس يتنازعون على المآرب الصغيرة، ويذهلون عن المثل العليا. ~~(وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك ~~إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه ~~مريب). بل إن القرآن يعتبر أن أول ما أصاب العالم من خصام وفرقة إنما هو ~~بعض آثار هذا العلم المريب، العلم الذى لا ضمير معه ولا شرف. (كان الناس ~~أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم ~~بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما ~~جاءتهم البينات بغيا بينهم). فهل تعجب بعدئذ إذا رأيت الإسلام يسوى فى ~~دعوته إلى الحق بين معشر العلماء الحائرين، وبين الجماهير الجاهلة من ~~الأميين؟: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب ~~والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ). ص _122 PageV01P121 ~~إن العلم النظرى البحت سلاح يؤذى الناس. وما أجمل أن يستنير فؤاد الإنسان ~~بما استنارت به ناصيته، واتضحت به فكرته. وما أقبح أن تجد الرجل الذكى جامح ~~الغرائز كأنه حيوان. أو الرجل المتعلم مستطير الشرور كأنه شيطان. * * * * ~~منطق الحقد... الوسيلة الصحيحة لكسب أى سباق أن تقوى نفسك لا أن تعوق غيرك، ~~فإن استكمال أسباب النجاح فى كيانك الخاص هو الدعامة الأولى والأخيرة للغلب ~~الحقيقى. إن بعض الناس يظن أنه ms099 بجهده فى هدم الآخرين يبنى نفسه، وهذا خطأ، ~~فإن الضعيف لا يزول ضعفه بمحاولات فاشلة فى تجريح الأقوياء، ستبقى علته، ~~وتلصق به معرته، وتذهب جهوده هباء. عندما أقرأ فى الكتاب الكريم قصة ابنى ~~آدم اللذين قتل أحدهما أخاه ألمح فى مسلك الأخ المجرم صورة دقيقة للحقد ~~الأعمى، وبيانا لاتجاهاته المتناقضة فى فهم الحقائق، ثم ألمح كيف أن جوانب ~~الشر فى النفوس الصغيرة تظهر فيها بسرعة- كاملة ناضجة- على حين تبقى جوانب ~~الفهم والتدبر ناقصة غامضة تكاد لا تبين عن نفسها إلا بإشارات خرساء، ~~وحركات بكماء، فإذا ظهرت بعد طول التجارب، وتقدم العمر جاءت- مع الأسف- بعد ~~فوات الوقت. . هذان الأخوان تنافسا فى عمل، فأخفق أحدهما ونجح الآخر، فأصر ~~المخفق على أن يتخلص من آثار هزيمته، لا بمعاودة الكرة، واستئناف العمل فى ~~نشاط وأمل، وانتظار القبول عند الله مرة أخرى، بل بالتخلص من منافسه ~~واختصار الطريق والقضاء على حياة أخيه، فعلام الكد والجد فى ميدان المنافسة ~~المشروعة؟ فلما أحس أخوه منه بهذه النية الخبيئة حذره مغبتها: (لئن بسطت ~~إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين * ~~إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين). ص _123 PageV01P122 ~~ولكن الرجل الحاقد لا يفهم من الأمور إلا ما يمس أنانيته، ويهيج كراهيته ~~فحسب، ثم تضطرم أفكاره فى دائرة ضيقة من ذهن أتعبه الحقد، لا الفكر، وأضلته ~~الرغبة الملحة عن معالم الخير والروية، فإذا الجريمة النكراء تقع: (فطوعت ~~له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين). حتى إذا ما استكانت ثورة الشر، ~~ووجد المجرم نفسه وجها لوجه أمام ضحيته، عصفت رياح الفزع والندم بلبه ~~وقلبه، وهيهات، لابد من حمل التبعة! لكن المجرم الذى كان سريعا فى فهم ~~معانى الهزيمة، وأسباب الغيرة، ينقلب أغبى الأغبياء بعد ارتكاب جريمته، فهو ~~لا يدرى ما يفعل، ذلك لأن ارتكاب جريمة لا تجعل من الرجل المخفق رجلا ~~ناجحا، ولا من الرجل الخاسر رجلا رابحا، فأنت ترى الابن القاتل يمضى بفكره ms100 ~~المغلق حائرا ماذا يصنع: (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري ~~سوءة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي). ~~بلى إنه ندم الحاقد الذى أضرت غباوته بنفسه وبالناس. والعجب لامرئ يعرف كيف ~~يحسد ويقتل، قبل أن يحسن التصرف والفهم فى أتفه الأمور!! ص _124 PageV01P123 ~~حرب العصابات وحرب الحزازات يظهر أن الروح الاجتماعى فى الغرب أقوى وأشد ~~منه فيما بيننا، وأن شعور الفرد بكرامته الخاصة هناك جزء من شعوره بالكرامة ~~العامة لوطنه، وبالقيمة المعنوية للأمة التى ينتسب إليها. أما نحن فللنزعات ~~الفردية ولاتجاهاتها الجامحة سلطان علينا مطاع. وأقرب دليل على هذا المعنى ~~السىء أنك تنظر إلى آلاف القرى فتجد النزاع الحاد على "العمدية" لا تكاد ~~تخلو منه قرية، ولو أحصيت الحوادث الدامية التى يثيرها النزاع على تولى هذه ~~المناصب وأمثالها مما تخلقه الانتخابات المختلفة، لرأيت فى الأمر ما يدعو ~~إلى الدهشة. فإن التطلع إلى مظاهر الرياسة والأبهة يكلف الكثير ويستهلك ~~الكثير. دلالة التفكك أو السقوط فى هذه الحال أن الذين يتبرمون بسيادة ~~غيرهم عليهم لا يبالون ولا يأنفون من الخضوع الحقير للأجنبى النازح إليهم. ~~فربما ترى الرجل يثور على ابن عمه أو على مواطنه فى الحين الذى يتزلف فيه ~~لأحد الخواجات المرابين. وربما ترى الرجل يستسهل تقديم أبنائه فى معركة بين ~~أسرة وأسرة، على حين يضطرب ويتردد لو طلب إليه تقديمهم فى معركة من أجل ~~مستقبل أمته. وهل ظل الاستعمار الإنجليزى جاثما على صدر الوادى قرابة سبعين ~~سنة إلا لسقوط الأنفة الاجتماعية وكراهية الرجل أن يسوده رجل مثله فى الوقت ~~الذى يخضع فيه للعدو الدخيل؟ ولعل من آثار هذا التنافر، أو هذه الأنانية، ~~أن لدينا كفايات كثيرة لتولى شتى الأعمال، ولكن فقدان التعاون بينها يعطلها ~~جميعا، ويجعلها هباء منثورا. فما السبب فى ذلك؟ إن الأعم الأوروبية ~~المقهورة لا تفقد فى حرب العصابات- ضد غزاتها- ما نفقده نحن فى حرب ~~الحزازات، ومن العار أن تنهدم هيئة من الهيئات لأن فريقا من الأعضاء يضنون ~~بكرامتهم عن ms101 الخضوع لرياسة فلان، ولا يضنون بكرامتهم أن يعيش فى بلدهم ~~الشيطان. ص _125 PageV01P124 ~~مشاهدات هناك بعض الملاحظات على الطريقة التى يألفها فريق من التجار عندنا، ~~وتجرى عليها معاملاتهم، فنحن لا نميل إلى نظام الكلمة الواحدة فى البيع ~~والشراء، ونعتبره أجنبيا مع أنه أقرب ما يكون إلى روح الإسلام، بل أستطيع ~~أن أقول إن هذا النظام يتحتم الأخذ به للخروج من شر الخداع والتلاعب اللذين ~~ينطوى عليهما نظام المساومة الحرة، ويستسيغه من أجلها التجار الجشعون.. ثم ~~هناك الوقت: الوقت الغالى الذى يضيع هدرا فى ساعات طويلة من الأخذ والرد ~~يبدأ فيها السعر من مائة ويظل يهبط حتى يصل إلى الخمسين والأربعين. كان من ~~الممكن ان ينتفع التاجر والمشترى بوقتهما هذا فيما هو أجدى عليهما فى الدين ~~والدنيا ، وخصوصا نحن أبناء الدين الذى يحرم اللغو! ثم بالله ما موضع الزج ~~بالأدعية المأثورة والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا المجال ~~المادى الجاف ؟ إن هذا ابتذال لما يجب أن يصان ، وليس فيه إثارة من خشوع أو ~~قربة إلى الله . وأى أجر للصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم إذا كانت ~~إنشاء لبيع أو رفضا لثمن ؟ ومتى يهجر المسلمون هذه الثرثرة ؟ الحق إننا لم ~~نحسن التصرف فى نواحى دنيانا كما احسن غيرنا ، فخسرنا نحن حين ربحوا ، ثم ~~زدنا على ذلك أن مسخنا من ديننا ما يجب أن نغالى به ، وأن نحرص على صيانته ~~من عقائد وإيمان. * * * * * تكاليف الرجولة : لا شك أن وسائل التربية ~~العقيمة التى خضع لها الشرق الإسلامى فى العصور الأخيرة جعلت أبناءه لا ~~يعرفون تكاليف الرجولة الحق ، وإذا عرفوها لا يطيقونها ، ولا يصبرون على ~~لأوائها ، ولا يقومون كما ينبغى بأعبائها . مع أن البيئات الغربية جماهير ~~من الناس تعرف كيف تؤمل الأمل البعيد ، وكيف تسير إلى تحقيقه بعزم من حديد ~~، وكيف لا تنثنى وإن وقفت دونها الصعاب. ص _126 PageV01P125 ~~وعلة الرخاوة التى أفسدت المسلمين الآن أنهم يسيئون فهم دينهم ويكثرون من ~~التمنى على ربهم بالباطل. فالذى يصلى عدة ركعات يحسب نفسه من الواصلين ms102. ثم ~~على الزمان أن يتطامن عند أقدامه، وعلى الأمور أن تسعى إليه لا أن يسعى ~~إليها. وهكذا تنتظر الأمة النصر على الأيام. لا ببركة التضحية والإقدام. ~~ولكن ببركة الصلاة والصيام. وهيهات. هيهات. حتى نعرف حقيقة الدين. وطبيعة ~~الدنيا. * * * * بين النقص النفسى والعقلى؟ هناك أنصاف متدينين كما أن هناك ~~أنصاف متعلمين. والنقص الخطير الذى ينسب إلى هؤلاء لا تخفى نسبته إلى ~~أولئك، ومن الواجب أن نعالج هذه الجوانب الناقصة بما نستطيع من تربية ~~وتعليم، رعاية لمصلحة المجتمع العامة وأخذا بيده إلى الكمال المنشود! وأظهر ~~ما يؤخذ على نصف المتعلم اعتداده بالقليل الذى يعرفه، واستهانته بالكثير ~~الذى يجهله، وضيق نظره إلى الثقافة الإنسانية، فهو لا يسعى إلى الاستزادة ~~من سعتها، بعد إذ ظن نفسه قد أحاط بجملتها. وكثيرا ما يرتكب هؤلاء سلوك ~~الجهال غير مكترثين بما يوجه إليهم من نقد، لأنهم فى زعمهم متعلمون لا ~~يجوز القدح فى عملهم ومسلكهم. وأنصاف المتدينين كذلك يحطبون فى هذا الحبل ~~الملتوى العجيب! ويرتكبون من التصرفات ما يوقع المرء فى حيرة بالغة من ~~أمرهم، فهم يجيدون نصف دينهم ولا يتقون الله فى النصف الآخر! أما ثقتهم ~~بروعة ما يؤدون من أعمال، فحسبك أن الواحد منهم يصلى الركعات ثم ينتظر أن ~~يطير فى الجو وتطوى له الأرض أو تضطرب له قوانين الكون. وإذا مشت أصابعه ~~على حبات المسبحة وهو فى ديوانه أو فى دكانه فلا عليه أن تضطرب الأعمال ~~الأخرى، ولا أن تسير كيف شاءت مع نوازع الهوى والفوضى والتفريط. وإذا قرأ ~~وردا انتظر أن تصل البركة منه إلى أولاده المضيعين بدلا من أن تصل إليهم من ~~دروس التربية ومتاعب الحراسة والعناية. ص _127 # ولا عليه أن ينام هادئ البال منتظرا فى منامه الرؤيا الصالحة بعد ذلك. PageV01P126 # وهو ينظر إلى الناس من عل، يحصى سيئاتهم ويضخمها ويتنبأ بمقادير العقاب ~~التى ترصد لها فى الآخرة. # وهو يستمع إلى العلماء- إن استمع- ليأخذ ما يحلو له ويترك ما ينبو عنه ~~ذوقه المريض. وهم فى نظره لا يفضلونه بشىء طائل، إن ms103 سبقوه بالعلم فقد سبقهم ~~بالعمل، بل إنه ربما لا يفضل نفسه عليهم لأنه هكذا يتواضع الأتقياء...!!! ~~وأنصاف المتدينين مع كل دين كأنصاف المتعلمين فى كل أمة، كثرة غامرة وشر ~~يقابل غالبآ بالصمت، لأننا فى سبيل أن نحارب الجهل الفاضح نقبل نصف ~~المتعلم، وفى سبيل أن نحارب الفجور الوقح نقبل نصف المتدين. ولكننا نطمع أن ~~لا تضيع الحقائق فى ظل هذه الضرورات، وألا يتوارى قبح النقص الخلقى والعقلى ~~خلف سمات زائفة من التدين والمعرفة. # * * * # * متاعب الحياة: # إذا كنت قد أخطأت فى فهم طبيعة هذه الحياة فينبغى أن تبادر إلى تصحيح هذا ~~الخطأ- نظريا- قبل أن تكرهك الأحداث المفاجئة على تغييره- عمليا-. # ليست الحياة شيئا سهل المنال قليل الأعباء. ولكنها شىء صعب الإدراك كثير ~~العقد جم التكاليف. وإذا لم يوطن المرء نفسه على أن يكون شديد المتن أيد ~~الظهر. فهيهات أن يشق طريقه إلى غاية قريبة أو بعيدة. وقد أدرك الكثيرون ~~هذه الحقيقة وإن اختلفت مواقفهم منها بعد إدراكها، فالمتشائمون العابسون ~~يمدون أبصارهم إلى مباهج الحياة وهى مولية فانية، أو إلى مشكلاتها وهى ~~مقبلة هاجمة، ثم يقول قائلهم: # تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب فى ازياد! # والمكافحون الدائبون يرمقون ما فى هذه الدنيا من صراع متعاقب الأدوار ~~متصل الحلقات ويقدرون نصيب كل فرد من حراك هذه المعركة الثائرة، ثم يقول ~~قائلهم: # بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها تنال إلا على جسر من التعب # ص _128 PageV01P127 ~~وتكون الخلاصة أن هذه المتاعب هى وحدها سبيل التفاوت والتفاضل، ومحك ~~المبادئ والفضائل، وهى كذلك الأحجار التى يتعثر فيها الضعاف فيسقطون، ~~وينتهى عندها الأدعياء فيقفون: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر ~~والإقدام قتال والقرآن الكريم يعرف أبناءه صورة هذه الحياة على حقيقتها، ~~ويبصرهم بمتاعبها، ولا يهون من قيمتها، ويذكرهم بأن هذه المتاعب مفروضة- ~~بقدر مشترك- على الكافرين وعلى المؤمنين! لابد لكلا الفريقين من أن يتعب ~~ويكافح ويتحمل : (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون ~~في سبيل الطاغوت). فلا ناصر الكفر- كما ترى- مراح من ms104 أعبائه، ولا ناصر ~~الإيمان مراح من هذه الأعباء. فمن الحمق الفرار من متاعب الحياة، لأنها ~~ستلاحق من لا يواجهها وتفرض نفسها عليه طوعا أو كرها. قال لى صديق: إن ~~الاختيار الإلهى يصل إلى أن يوضع العنق تحت السكين فى انتظار الذبح. قلت ~~له: إذن ينبغى ألا يزيغ اليقين ولو تحت حد السكين!. قال: وفى ثباته يكون ~~الفرج العاجل. * * * إن الله عز وجل يحب أن يخذل الباطل بقوة أنصار الحق ~~وتضحياتهم، وأن ينصر الحق بما يسوقه أهله بين يديه من مغارم الدم والمال، ~~وعلى هذا القانون دارت المعركة من الأزل بين الحق والباطل! فالجهد البشرى ~~المبذول من كلا الفريقين هو الذى يقرر المصير ويحدد النهاية، ولا يحب القدر ~~أن يتدخل فى أدوار المعركة لمصلحة أحد الخصمين قبل أن يطبق عليهما قانونه ~~العتيد، وقبل أن يستنفد الكفاح المر من طرفيه المتصارعين آخر ما فى طاقتهما ~~من جهد، وآخر ما فى جعبتهما من صبر. ص _129 PageV01P128 ~~والمعجزات التى أيدت الأنبياء فى دعواتهم، ووضعت بذرة البقاء فى رسالاتهم ~~خضعت هى نفسها لهذا القانون. فالعصمة لا تنافى المحنة، وضمان السماء لا ~~يمنع ابتلاء الأرض، وقد كان الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، يواجه أخطار ~~الهجرة وينزل على قوانين الأسباب والمسببات عندما كان يتوارى نهارا ويسير ~~ليلا، وعندما كان يمحو من خلفه الآثار التى تدل على وجهته. ذلك كله فى ~~الوقت الذى أيده الله بجنود لم تروها، وبث فى طريقه من الخوارق ما نعرف وما ~~لا نعرف! ومن غفلة المؤمنين أن يتناسوا هذه الحقيقة وأن ينتظروا من قوانين ~~الوجود أن تحابيهم فى كفاح، أو أن تتملقهم لأنهم أصحاب صلاة وصيام! فإذا ~~احتدمت المعركة بين الحق والباطل حتى بلغت ذروتها، وقذف كل فريق بآخرما ~~لديه ليكسبها، فهناك ساعة حرجة يبلغ الباطل فيها آخر قوته، ويبلغ الحق فيها ~~أقصى محنته، والثبات فى هذه الساعة الشديدة هو نقطة التحول، والامتحان ~~الحاسم لإيمان المؤمنين يبدأ عندها. فإذا ثبت تحول كل شىء عندها لمصلحته. ~~وهنا يبدأ الحق طريقه صاعدا، ويبدأ الكفر طريقه نازلا ms105، وتقرر باسم الله ~~النهاية المرتقبة... وانظر كيف كان المهاجران قاب قوسين أو أدنى من الموت ~~فى الغار، وكيف كان إسماعيل قاب قوسين أو أدنى من الذبح، وكيف وصل الابتلاء ~~بموسى وقومه لما طارده فرعون وجنده: (فأتبعوهم مشرقين * فلما تراءى الجمعان ~~قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى ~~موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم ~~الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين). ألا فليؤد المسلمون واجبهم ثم ~~لينتظروا نصر الله. ألا فليواجهوا الأخطار والمخاوف، ثم ليرتقبوا الفوز. ~~أما قبل ذلك فليس فى الدنيا مكان للاهين واللاعبين. *** ص _130 # * فريقان..! PageV01P129 # فى طريق كل نهضة ترمق المستقبل بالأمل، وتغالب مصاعب الحاضر بشدة العزم ~~وطول العمل، تجد صنفين من الناس هم أبدا مثار فتنة ومصدر يأس. # فأما الصنف الأول فهم المعوقون الذين يتعرضون ببلادتهم كل حركة، ~~وبتشاؤمهم كل رجاء، فإذا رأوا مشروعا جيدا خلقوا فى وجهه الصعاب، وإذا رأوا ~~نية صادقة أثاروا حولها الريب، وإذا رأوا طليعة زاحفة وضعوا أمامها ~~العراقيل، كأن سرورهم لا يتم فى هذه الحياة إلا إذا سكبوا من برودهم على كل ~~حرارة فأطفأوا لهبها، واطمأنوا إلى ظلامها، لأنهم لا يحبون الخير، ولا ~~يطيقون أن يروا بوادره تنبت بين الآخرين. # ويأتى بعد هذا الصنف من المعوقين صنف المهرجين، وهم قوم يتفقون مع ~~زملائهم # فى خراب القلب من حب الخير وتمنى نجاحه. بيد أن لهم مسلكا ملتويا فى ~~التعبير عما فى ضمائرهم من شر... فهم فى صفوف العاملين يكثرون السواد، ~~ويملأون الجو هتافا وتصايحا، فإن يكن نصر كانوا أول المطالبين بحقوقهم فى ~~الغنيمة، وإن بدت نذر الكفاح بدأت صيحاتهم العالية تخفت. ونبراتهم الداوية ~~ترتعش. يدفعون غيرهم إلى الأمام بعنف، ثم يبحثون عن أماكنهم هناك... فى ~~مؤخرة الصفوف وقلوبهم تدق رعبا فى انتظار النتيجة... # وكثيرا ما يكون هؤلاء فى مناصب تغريهم بالتطاول والسفاهة على الجمهور النقى # من المؤمنين المخلصين. # وفى الصنفين جميعا يقول القرآن الكريم: # (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم ms106 إلينا ولا يأتون ~~البأس إلا قليلا * أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور ~~أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة ~~على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم). # وأمثال هؤلاء الناس يستطيعون أن يبرزوا على عجل فى أى ميدان. فليس أيسر ~~على المعوق والمهرج من الظهور، ما دامت وسائل التقدم لا تعنى أكثر من حنجرة ~~صياحة، ونفس ملحاح، وحياء قليل، وثبات ضئيل.. # ص _131 PageV01P130 ~~ولكن الميادين التى تحفل بهؤلاء هى ميادين الهزيمة، لا ميادين الشرف.. وعلى ~~كل مجتمع يريد أن يدعم أركانه، بل على كل صف يريد أن يحفظ كيانه أن ينفى ~~هذا الخبث عنه. فما ابتلى الشرق فى نهضاته الأخيرة إلا لأن المعوقين ~~والمهرجين وجدوا المجال لنفث سمومهم، بل وجدوا الفرصة لإقصاء العاملين ~~الصامتين، والشهداء المجهولين. * * * * فى الإصلاح: محاولة إصلاح الكبار ~~وتنشئتهم على أخلاق جديدة جهد ضائع، أو جهد أكبر كثيرا من نتائجه، فإن ~~الخلل العقلى عند هؤلاء يشبه الكسور التى التحمت على عاهة مستديمة أو تشويه ~~لازم، فليس هناك موضع لجراحات التجميل والتعديل، ولن يصلح العطار ما أفسد ~~الدهر. والجهد النافع حقا هو تلقف الناشئة وهى غضة الإهاب، بيضاء الصحيفة ~~ثم حياطتها بدروس العلم والتربية والتوجيه السديد حتى تشب على ما قدر لها ~~من نضج واكتمال. ولذلك لم أكترث كثيرا لما تبذله الحكومة من جهود تافهة أو ~~كبيرة لمحو الأمية. فما غناء ذلك؟ إن المقصود من التعليم ليس أن يخط ~~التلميذ حرفا أو يقرأ كلمة، بل إن القراءة والكتابة ليست إلا وسيلة للثقافة ~~التى تفتق الأذهان، وتنمى المواهب، ترفع النظر إلى حقيقة الوجود وتجعل ~~المرء يبنى نفسه بناء راسخا سامقا، ويصوغ فى الحياة أمله وعمله، على نور ~~وبصيرة.. وموضع هذا كله فى ربيع العمر لا خريفه. ولو أن الحكومة عنيت ~~بتكوين الجيل الجديد، وفتح آلاف الفصول له لكان ذلك أدنى إلى الرشد من فتح ~~الفصول لمحو الأمية بين الشيوخ والعجزة الذين لا جدوى من تعليمهم القراءة ~~والكتابة، لأنه لا جدوى من ms107 استغلال هذا التعليم فى تثقيفهم، وإحياء ما مات ~~من مواهبهم، أو تعديل ما وقر فى أذهانهم من أفكار نحو الحياة والمبادئ ~~والعقائد والأشخاص. إذا المرء أعيته المروءة ناشئا فمطلبها كهلا عليه شديد ص _132 PageV01P131 ~~إن الأجيال المدبرة لها تقاليدها التى شبت عليها، ولها أساليبها فى العيش، ~~وهى أساليب اختلطت بدمها فلا فكاك منها. ونقل هؤلاء إلى دعوة جديدة، وإلى ~~حضارة جديدة ضرب من المعجزات، وغاية ما يرجى منهم أن ينفذوا أمرا مجردا، ~~كما تنفذ السيارات أوامر المرور المحدودة بالوقوف أو الانطلاق، وهذه ~~الأوامر لا صلة لها بتعديل الطباخ والعقول. والشرق الإسلامى يحتاج فى نهضته ~~إلى نظام يشرف على رجال المستقبل من نعومة أظافرهم، وإلى استنبات سلالات ~~جديدة من الأجيال التى تترعرع بين أفياء المعرفة والتربية والثقافة ~~الواسعة. ذاك إن أردنا تكوينا صحيحا لأمة حية قوية. وإنه لمن الحزن أن ~~نعالج أمورنا من غير هذه السبيل. وإذا ارتبت فى هذه الحقيقة فسل من جربوا ~~معنا وعظ المسنين والمستضعفين من قعدة المساجد . * * * * نسبية! لا أدرى ~~أهى طبيعة فى وحدى أم فى غيرى من الناس كذلك؟ وعلى كل حال فهى طبيعة سيئة ~~يجب إصلاحها، وذلك أنى أحب إذا لم أدرك الشىء كله أن أتركه كله، وإذا وجدت ~~شيئا كثير الكمال قليل النقص كان شعورى بنقصه أضعاف شعورى بكماله. وقد ~~ينغصنى القذى من صديق، كما ينغصنى الأذى من عدو... ولا أذهب كثيرا فى سرد ~~الأمثال، فإن المهم لفت النظر إلى أن مثل هذا التطرف فى إدراك الأشياء ~~ومعالجتها يشق كثيرا، ويضايق صاحبه كما يضايق الناس منه، فضلا عن أنه مجاف ~~للحق والصواب. فإن شئون الحياة نسبية كلها، قلما يوجد فيها خير محض أو شر ~~محض، وطبائع الأشياء ومعادن الناس من طبائع هذه الأرض ومعادنها، فالذهب لا ~~يعثر عليه خالصا من الشوائب الرخيصة، لكنه على كل حال ذهب، والحديد لا يوجد ~~إلا مقرونا بشتى الأخلاط، ولكنه لا يرمى ولا يهمل بل ينقى وينتفع به، ~~ومعانى الحياة كمعادن الأرض لا يجوز أن ننتظر وجودها بين أيدينا مصفاة ms108 من ~~كل شائبة، مبرأة من كل عيب، بل سيقترن الخير بالشر، ويقترن الطيب ص _1 ص PageV01P132 ~~بالخبيث، وعلينا أن نأخذ من كل شىء خيره، ونجتنب على قدر الإمكان شره، ~~والإسلام ينظر إلى الأمور هذه النظرة الصادقة، فما غلب خيره شره أبيح، وما ~~غلب شره خيره حرم، وعلى هذا الأساس حرم الخمر والميسر. يسألونك عن الخمر ~~والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما). * * * * ~~ثلاثة بدل ثلاثة: يوجد عوض طيب عن الأشياء التى تتطلع إليها النفس ويحرمها ~~عليها الدين. وربما كان هذا العوض هو الأصل الذى تشتهيه النفس، ولكنها ~~أخطأت إليه الطريق فلم تحسن الوصول، أو أن الحلال والحرام تشابها عليها ~~فلما عرفت الحرام أولا جنحت إليه، ولو أنها اهتدت إلى الحلال أولا لوجدت ~~فيه متنفسها الطبيعى، وبغيتها المنشودة، ولعافت الحرام، وكرهت الخوض فيه. ~~إن الاتصال بالمرأة مثلا غريزة جياشة عارمة، والصورة التى تهدأ بها وتستقر ~~فيها واحدة فى حالتى الزنا والزواج. والدين يعترف بمظاهر هذه الغريزة من ~~إدراك وانفعال ونزوع، وغاية ما يتدخل فيه أنه يحدد الاتجاه السلوكى لها ~~ويجعله فى الزواج لا فى السفاح. وعلى هذا النحو يحرم الدين أمورا شتى ويحل ~~أمورا أخرى. الدين يحرم الكبر، فهل معنى ذلك أنه يكلف المرء بالهوان؟. لا. ~~فمن حق الإنسان أن يشعر بنفسه، وأن يتسامى بحقه، وأن يحافظ على كرامته على ~~أن يكون ذلك فى حدود العزة التى يصان بها الشخص، ولا يجرح بها الغير، ولا ~~يستهان فيها بأقدار الناس!. والدين يحرم الرياء، فهل معنى ذلك أن يجهل قدر ~~الإنسان أو يعرف معرفة خاطئة، أو تطمس مواهبه، أو توارى أعماله؟. لا. فإن ~~الله أعطى كل ذى حق حقه، وحفظ لكل ذى موهبة موهبته، وأمر أن ينزل الناس ~~منازلهم، وأن يقال ذوو المروءات عثراتهم. وجعل ذلك كله فى حدود الذكرى ~~الحسنة التى هى حق طبيعى لكل مؤمن ينبغى أن يدافع عنه وأن يستمسك به! ~~والذكرى الحسنة ص _134 PageV01P133 ~~فى الحياة والممات عوض عادل لا ريب فيه عن الرياء الحقير، وسبيلها الممهدة ms109 ~~إخلاص الرجل فى أداء واجباته، وابتعاده عن مواطن السوء وارتفاعه عن مواضع ~~الغفلة، وإدراكه بأن حسن الذكري ونباهة الشأن. نعم يسوقها الله عز وجل إلى ~~من شاء في عباده، وأنه إذا أحب شخصا أوحى إلى الملأ الأعلى فأحبوه، ثم يوضع ~~له القبول فى الأرض. واتباع الهوى يوجد بدله عوض طيب رحيب يقوم على تعرف ~~أنواع الحلال المباح، والتوسع فى استغلالها استغلالا لا تشعر النفس فيه ~~بالحرمان من طيبات الحياة، ولاتسأم فيه من اتباع أوامر الدين!. إذا علمت ~~بأن الدين بعيد عن الحرج، وبأن التزهد الفارغ فى أكثر متاع الدنيا لا دلالة ~~فيه على خير، علمت أن الله لم يكلف عباده ما يغلبهم، فلا ضرورة للكبر ~~والرياء والهوى ما دمنا سنجد ما نريد فيما شرع لنا من عزة النفس، والذكر ~~الحسن، وكفالة الحريات والرغبات والحقوق. * * * ص _135 PageV01P134 ~~على أعتاب الشهداء نحن الآن فى الأرض المقدسة وهذه قرية "دير البلح " التى ~~قصدنا إليها لنزور قبور الشهداء! وسمعت الدليل المرافق يضرب الرمال بقدمه ~~قائلا: هنا كانت لليهود مستعمرة. فى هذا الفضاء الذى تسير فيه آمنآ كانت ~~مدافع "كفار ديروم " تقذف الحمم وتثير الرعب، وتمد خطر الصهيونية إلى جنوب ~~فلسطين، وهنا بدأت أول معركة بين فتيان الإخوان المسلمين، وبين بنى إسرائيل ~~الذين احتضنتهم إنجلترا، وسلحتهم أمريكا، ومكن لهم الخونة من أمراء العرب. ~~* السجون والمنافى: فى هذه البقعة التقى اليقين الناضج الحر بالمطامع ~~الجريئة الوقاح. وقد انتهت الجولة الأولى على غير ما نبغى، إن اليهود الآن ~~على مدى سهم منا. وقد اجتثت الإخوان أصول هذه المستعمرة العاتية، وتركوها ~~قاعا صفصفا. ولكن هناك مئات من المستعمرات ظلت قائمة على أصولها تبث القلق ~~حولنا، وتطلق الغيوم على مستقبلنا. أما الإخوان الذين أحالوا جسومهم ألغاما ~~تنسف دعائم المكر، فقد سحبوا من الميدان لتمتلئ بهم السجون والمنافى! هكذا ~~صنعت بهم حكومة "مصر"... وها هى ذى بقية منهم لم تعد إلى مصر. لأنها ماتت ~~فى سبيل الله! لقد اختارتهم العناية الإلهية فأصبحوا شهداء. والشهادة فى ~~منطق المؤمنين منزلة يهنأ بها ويغبط ms110 عليها وليست مصيبة يساق من أجلها عزاء. ~~* * * * أرض الشهداء: ما هانت الدنيا فى عينى! ولا هنت فى عين نفسى مثل ما ~~شعرت ساعتئذ وأنا أخطو وئيدا أمام القبور المتراصة الهادئة فى ذلك الوادى ~~الصامت. إننى أمشى فى أرض الشهداء، فيجب أن أطأطئ الرأس إجلالا، وأن أتحدث ~~همسا، وأنا أدلف إليهم فى خشوع وأدب. فى مقابر الناس كنت دائما أشتم رائحة ~~البلى: أما هنا فلا أشتم إلا رواح الخلود!. ص _136 PageV01P135 ~~وما هذه الأزهار المنثورة، والأغصان المتهدلة، والأشجار الباسقة؟. ما أجمل ~~هذا الصنيع! أن تغرس حديقة زاهرة فوق قبور الشهداء وحولها... أترى هذا ~~الورد الأحمر قد ارتوى من دمائهم، وهذه العطور الفواحة قد نفحت من شمائلهم؟ ~~أم شاء الله أن يجعل أبصارنا تقع على هذا البستان النضير، ليعطينا فكرة ~~محدودة عن الجنة اليانعة الناعمة التى يمرح فيها شهداؤنا الأبرار، فكأن ~~الأديم الذى نسير عليه مرآة عكست ما تحتها من نعيم مقيم؟. إن الشهداء أعلى ~~مكانا من أوهامى القاصرة!... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب ~~إخوانكم جعل الله أرواحهم فى جوف طير خضر ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، ~~وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة فى ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ~~ومقيلهم قالوا: من يبلغ عنا إخواننا أنا أحياء فى الجنة نرزق، لئلا يزهدوا ~~فى الجهاد، ولا ينكلوا من الحرب؟ فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم. قال ~~فأنزل الله عز وجل: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء ~~عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله). * * * * مقاتل ~~الصهيونية: لقد انفتحت أبواب الفردوس لهذا المكان من الشرق الأوسط عدة ~~مرات: المرة الأولى يوم انطلق الصحابة الأولون يطوون أعلام الروم ويمدون ~~أشعة الإسلام. والمرة الثانية يوم انبعثت جيوش التحرير يقودها السلطان صلاح ~~الدين لمطاردة الصليبية الغازية، ورد فلولها المهزومة عن بيت المقدس. ثم ~~هذه المرة، فوسط صخور صماء من الإلحاد والفسوق، رشحت قطرات قليلة من ~~الإيمان الزكى، فإذا متطوعة الإخوان يعبرون الحدود التى صنعها الاستعمار ~~ليمزق ms111 أوصال الإسلام، ثم يندفعون باحثين عن مقاتل الصهيونية ليصرعوا بغيها، ~~ويكسروا شرها. ص _137 PageV01P136 ~~وانفرجت أبواب الفردوس لتستقبل وفد الشهداء الجدد. وهأنذا أقرأ أسماء ~~المصطفين الأبرار على شواهد القبور التى تخفى عنا أشخاصهم. نعم هأنذا ~~أقرأ... اسم من هذا؟ إنه فلان!!. ورجعتنى الذاكرة إلى أيام خلت، كان فيها ~~الشاب الصالح يجيئنى بالمسجد ليطلب منى أن ألقى عليهم درسا بشعبة الحى، كان ~~يعتبرنى أستاذه. أما اليوم، فقد تغيرت الأوضاع، وأصبحت أمام قبره التلميذ ~~الصغير... إنه سبق سبقا بعيدا... إلا أن يتفضل المولى القدير فأرد المصير ~~نفسه. * * * * جلال: إننا فى زمن كثر فيه الهرج، واشتعلت فيه الحروب، ~~وجمهور الضحايا لا يدرى لم قتل ولمن قتل؟ والجيوش الجرارة التى تعبئها ~~اليوم الشيوعية والرأسمالية تسوق الذبائح بين يديها لغير غرض أو لغرض خسيس، ~~وإذا كان القتال الذى بينهما إنما جرى لاستلاب حقوقنا، فما تظن وصف ضحاياه؟ ~~لص خرج للسطو فاخترمت بدنه رصاصة أزهقت روحه، فجثته على عرض الطريق ملقى ~~كجثة دابة نافقة! أولئك قتلى المستعمرين من كل جنس ولون. أما قتلانا، أما ~~الشهيد من رجالاتنا الأمجاد، فذاك مضى كما قيل: تردى ثياب الموت حمرا فما ~~أتى لها الليل إلا وهى من سندس خضر وأما درجته فكما وصف الله: (وإذا رأيت ~~ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا * عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من ~~فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا * إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا). إن ~~الشهيد رجل عرف كيف يعيش وكيف يموت. كان يمكن أن يكون بشرا صغيرا كسائر ~~البشر. أما بعد أن اتصل بالحقيقة العليا، وربط وجوده المحدود بالوجود ~~المطلق، ونسى نفسه حين ذكر ربه، وركل الأرض حين تطلع للسماء، وبصق على ~~الدنيا حين ص _138 PageV01P137 ~~عرضت عليه الآخرة.. أما بعد ذلك فقد أصبح يحلق فى كون آخر عليه من إجلال ~~الله وآلائه نضرة، وضياء وخلود. ذلك لفيف من شهدائنا فى "دير البلح " كانوا ~~أول دم زكى أريق فى هذه الديار، وكانوا مثلا خارقآ لحماسة العقيدة وحماية ~~الذمار. وتذكرت الوطن الذى جحد أولئك ms112 الأ بطال، وكيف يزخر اليوم بالمآسى ~~والكروب، تذكرت الأحزاب الطامعة فى الحكم، والتجار الناشدين للغلاء، ~~والموظفين الباحثين عن الترقيات، والطلاب المصروفين عن العلم، والشبان ~~المتعلقين بالأهواء... ثم رجعت البصر إلى القبور الحية القائمة أمامى.. ~~فأدركت أننى هنا يجب أن أرفع مستواى فى حضرة الأبطال، فما ينبغى أن يلم ~~خاطرى بهذه الصغائر التى داسوها من قديم، وتجاوزوها لمن تعلق همهم ~~بالدنايا، إننى هنا أمام الربانيين الذين عاشوا باليقين... حتى أتاهم ~~اليقين. * * * * شهداء فلسطين: ألا فليعلم السفهاء من الحكام أن الطاقة ~~الروحية المختزنة فى كتاب الله وسنة رسوله هى التى صنعت أولئك الرجال. فإذا ~~أصروا على التجهم للإسلام، وحاولوا بناء النهضة على غيره من الأفكار والنظم ~~فلن ينالوا خيرا أبدا. (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من ~~أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم). * وما هو بالهزل: من ~~الغفلة أن تظن الشىء الواحد يباع بأغلى الأثمان وأتفهها فى وقت واحد، فإذا ~~كانت القيمة الحقيقة لسلعة ما ألف جنيه، فإن الحصول عليها بقرش على طريق ~~البيع والشراء يعتبر مستحيلا!. وربما أمكن الحصول عليها بطريق السرقة أو ~~المقامرة أو الاختطاف أو ما أشبه ذلك، وإذا شاء صاحبها التبرع بها فله أن ~~يفعل بماله ما يشاء. ص _139 PageV01P138 ~~والمعروف من دلائل الشريعة أن لله جنة تعهد غراسها وحسن مهادها، وأعد فيها ~~ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. والمعروف أن الله لم ~~يجعل نيل هذه الجنة بالمجان، وأنه كذاك لم يطلب لها ثمنا تافها بل جعل ~~الحصول عليها بأغلى ما يمكن لامرىء أن يدفعه وهو نفسه وماله. (إن الله ~~اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله ~~فيقتلون ويقتلون). وجاء فى الحديث: " من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ~~ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ". ومع فداحة الثمن ~~المطلوب لهذا النعيم المقيم، فإن عوام المسلمين يتجاوزون خطره بطريقة ~~حمقاء. فما يدفع فيه الروح يريدون أن ms113 يدفعوا فيه قلامة ظفر، وحسب الواحد ~~منهم أن يجرى على لسانه دعاء مأثورا أو ذكرا واردا، لتطير به إلى الجنة ~~الموعودة ملائكة ذات أجنحة مثنى وثلاث ورباع. وفى غفران الذنوب يقول الله ~~تعالى: (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا ~~لأكفرن عنهم سيئاتهم). ولكن تكفير السيئات الذى سبقته هاتيك المقدمات ~~الجليلة ظل يتضاءل ويتضاءل، حتى أصبح الرجل المحصور وراء ركام من الخطايا ~~السود يستطيع الإفلات منها بتعويذة يهمهم بها فمه، وتختلج بها شفتاه... دون ~~وعى. ونحن لا نستكثر على فضل الله شيئا، ولكننا نحترم أصول الإسلام، ونراعى ~~قوانين الجزاء، ونضع النصوص فى مواضعها التى تتلاءم معها، ونحمى حقيقة ~~الدين من فوضى الأفهام القاصرة. وقديما عرض العلماء الراسخون لأحاديث ~~الذكر، وما اقترن بها من جزاء عريض فشرحوا المقصود بها. قال ابن بطال: ~~الفضائل الواردة فى التسبيح والتحميد ونحو ذلك، إنما هى لأهل الشرف والكمال ~~فى الدين، والطهارة من الحرام وغيره. فلا يظن ص _140 PageV01P139 ~~ظان أن من أدمن الذكر وأصر على ما شاء من شهواته، وانتهك دين الله وحرماته، ~~أنه يلتحق بالمطهرين المقدسين، ويبلغ منازل الكاملين.. بكلام أجراه على ~~لسمانه ليس معه تقوى ولا عمل صالح. قال صاحب فتح البارى- بعد ما نقل هذا ~~الكلام وأيده-: ويشهد له قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن ~~نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون). ~~ويرى القرطبى أن الذكر يختلف ثوابه باختلاف أحوال الذاكرين. وهذا حق، فمن ~~الناس من تكون الكلمات التى يرددها لسانه صدى عميقا لتأثر بالغ، وقلب مشرق، ~~ونفس أصفى من أن تمر بها خواطر السوء، بله أن تفعله. وعندما يكون الذكر ~~رمزا لليقين المستعلى على الدنيا ومثبطاتها، فهو أخو الجهاد الذى يضحى ~~بالدنيا فى سبيل الدين. والأجر المقترن به عندئذ لا شطط فيه ولا تجاوز. أما ~~أوهام العامة فيما يتصل بالثواب والعقاب، وظنهم أن هذا يرجى بالثمن البخس، ~~أو ذاك يخشى بالأمل القاعد، فخبط لا سند له من دين الله. ص _141 PageV01P140 ~~مظاهرة الحج الكبرى ms114 تواضع الناس على اعتبار المظاهرات الوطنية النبيلة ~~تقليدا حسنا، ورأوا فى احتشاد الجموع الغفيرة، وانطلاقها إلى هدف مرسوم، ~~وصياحها بكلمات معينة، رأوا فى ذلك ترجمة قوية عما يجيش بأنفسهم من آمال ~~ومطالب، وإذا كانت هذه المظاهرات إبانة صارخة عن روح الجماعة، فهى دافع ~~عميق الأثر فى مسلك الفرد، يقتل أسباب الضعف والتردد فى نفسه. وقد انتشرت ~~سنة المظاهرات فى الشرق والغرب، وانتظم فى مواكبها القادة والعلماء ~~والوزراء وأساتذة الجامعات الكبرى ورجال القضاء، فضلا عن الألوف المؤلفة من ~~الطلاب والعمال. وقد أحسست ببعض الأسرار التى ينشدها الإسلام من فريضة الحج ~~عندما أمر أتباعه بالانتظام فى أروج مظاهرة تسوق الأمم سوقا إلى البيت ~~العتيق، وتدعوهم أن ينطلقوا إليه رجالا وركبانا من كل فج عميق.. أحسست بأن ~~صوت الإيمان الذى كان يهمس فى نفسى قد بدأ يعلو رويدا رويدا، وأن خفوته قد ~~استحال إلى صراخ يهز جوانب القلب كما يهز بطون الأودية... كانت حناجرنا ~~تهتف بقوة- لا بموت فلان أو حياته- بل تهتف لله وحده، منيبة ملبية ذاكرة ~~شاكرة... والحياة الفاضلة والمثل العالية تكسب الكثير من ارتفاع العقائر ~~بهذا الهتاف الجليل، ولا تحسبن صداه ينتهى بانفضاض مواكب الحجيج وانقضاء ~~الأشهر المعلومات. كلا فعجيج الجماهير الحاشدة، تذكر الله حول المناسك ~~المقدسة يترك فى النفوس آثارا لا تنمحى، وإنه ليخيل إلى أن الحج- بهذا ~~الهتاف المفروض فى شعائره- يرتقى باليقين من معنى مستكن فى الضمير، إلى ~~مبدأ يتواصى الناس به ويجتمعون عليه، أو أنه يفتح البراعم المضمومة على ~~أزهارها ليصل بها إلى مرتبة الكمال والنضج، فإذا هى روح وريحان وجنة ~~نعيم... ويخيل إلى أن المناسك كلها أشكال غير مقصودة لذاتها، إنما قصدت ~~لذكر الله عندها، واستقراء الآيات النازلة فى الحج يشهد لذلك، ففى التعليل ~~لحكمة الحج يقول: ص _142 PageV01P141 ~~(وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ~~ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله...). ومن هنا حرم من الكلام ما يشغل عن ~~هذا الهدف: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج ms115 فلا رفث ولا فسوق ولا ~~جدال في الحج). وفى الوقفة الكبرى يقول: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله ~~عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم). وبعد أداء الأركان يقول: (فإذا ~~قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا). وفى الوقوف " بمنى ~~" يقول: (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه). ~~وفى ذبح الهدى يقول: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير ~~فاذكروا اسم الله عليها صواف). فذكر الله والهتاف باسمه غاية وعمل، ووسيلة ~~وهدف، وفى هذه المظاهرة التى جعلها الله ركنا فى الإسلام، وقرن بها من ~~الفوائد النفسية والخلقية ما لا يحصى... غير أن المسلمين لا يعرفون من حكم ~~الحج الفردية والاجتماعية إلا القليل التافه، وقد رمقمت ألوف الوافدين إلى ~~أم القرى ودار الهجرة، واندسست فى غمارهم وهم يحلون ويرحلون، ثم طويت القلب ~~على حسرات... * * * ص _143 PageV01P142 ~~كان المفروض أنه- كما تمر الجيوش الظافرة تحت أقواس النصر وتحيى قبور ~~الشهداء- تمر جماهير الحجيج بميدان الصفا والمروة، وتطوف حول الكعبة... ~~ولكن أين الساعون والطائفون؟؟ هؤلاء العامة الجهال القادمون من بلاد أكلها ~~الذل إلى بلاد أكلها الذل..! إن النبى صلى الله عليه وسلم نظر إلى الكعبة ~~ثم قال: "ما أجملك وأجمل ريحك وما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن عند الله أعظم ~~حرمة منك حرمة دمه وماله " أجل! إن حقوق الإنسان غالية، وهى عند الله أقدس ~~من كل شىء، أقدس من هذه الكعبة التى فرض على العباد التطواف حولها- لأنها ~~رمز توحيده. لكن المسلمين الطوافين حول هذه الكعبة جاءوا من بلاد أرخص شىء ~~فيها حقوق الإنسان، لأنها سقطت فى يد الأجانب الغاصبين، إلى بلاد أرخص شىء ~~فيها حقوق الإنسان أيضا، لأن الاستعمار الداخلى كالاستعمار الخارجى سواء ~~بسواء، فيما يفرض من ظلم ويلقى من ظلام. إن الأمم عندما تهون تمسخ ما لديها ~~من تعاليم. والحج اليوم سفر ولقب وضريبة يدفعها السذج أو المكرهون، ليرتزق ~~منها العاطلون، والحكام المترفون. ص _144 PageV01P143 ~~فرنسا.. تكرم الحجاج المسلمين قرأت منذ أيام أن المفوضية الفرنسية فى ms116 مصر ~~أقامت حفل شاى تكريما لكبار الحجاج المغاربة فى أثناء مرورهم عائدين إلى ~~أوطانهم، وكان فى مقدمة من حضروا هذا الحفل حاكم مراكش، وبعض الوزراء، ~~والقاضى المالكى وشيخ التيجانية، ومفتى الجزائر. وقد حضر هذه المأدبة ~~الممثلون السياسيون للدول الشرقية سوريا ولبنان وإيران.. إلخ.. ولقد شعرت- ~~والله- بشىء غير قليل من الخزى يستولى على نفسى وأنا أقرأ هذا النبأ، وأنظر ~~إلى الصورة المرسومة معه، وقد ظهر فيها الدبلوماسيون الفرنسيون وعلى وجوههم ~~ابتساماتهم الماكرة، وأحد الوزراء الحجاج وهو يرخى يديه إلى جنبيه فى هدوء ~~وأدب! وشعرت بأن فريضة الحج قد خدشت قداستها، وتمنيت لو لم يخرج هؤلاء ~~الناس لأدائها، ولو لم يعودوا من مناسكهم ليطعموا حلوى ربما كانت بعض ~~المسروقات المغتصبة من أوطانهم المسروقة، أو يشربوا شايا كان ينبغى أن ~~يذكرهم لونه الأحمر بالدماء التى سفكت هذا العام ظلما وعدوانا فى بلاد ~~المغرب وفى بلاد المشرق، وكان الفرنسيون الأبطال هم جزاريها العتاة. أنا ~~أدرك كل الإدراك أن الأمم الإسلامية منكوبة بأشخاص يضعون أيديهم فى أيدى ~~المستعمرين ويعاونونهم على إدراك مآربهم اللئيمة، ولكنى لا أفهم مطلقا أن ~~يصل التمكين لهذا التعاون إلى حد التلاعب المكشوف بالمناسبات الإسلامية ~~وفرائض الدين!! إن الحجاج المسلمين ليسوا كالحجاج الهندوس الذين تنساب ~~جحافلهم على شواطئ نهر الكنج ثم يعودون ليستظلوا بحماية الراية الإنجليزية. ~~إننا لسنا أشياع خرافة تحترم فى غيبة العقل وانحطاط الفكر، ونستحق- بهذه ~~الحال- أن نهون ونزدرى. ص _145 PageV01P144 ~~إننا أتباع دين يحترم الإنسان ويقدس حقوقه ويأمر بالقتال دونها. * * * ومن ~~المضحك المبكى أن يعود الحجاج العرب المسلمون ليكرم حجهم فى دار الدولة ~~التى تعمل دائبة على سلب الجنسية العربية وتحطيم الجامعة الإسلامية. إن ~~الأعمال لا قيمة لها إن لم يصاحبها الإيمان بالته والإخلاص لوجهه، والإيمان ~~والإخلاص لا يقترن بهما حج باركته فى بدايته ونهايته فرنسا ابنة الكنيسة ~~البكر. والممثلة ا!باقية للاستعمار الصليبى فى الأرض، بعد زوال إيطاليا من ~~عالم الاستعمار. ص _146 # ناس طيبون!! # جلس إلى الرجل يقص رؤياه التى كانت أضغاث أحلام، وتبوق جبهته وهو يحدثني ms117 ~~كيف قضى أول الليل فى الحضرة الصوفية التى تقيمها "طريقته " وكيف أن "الشيخ ~~" عاب على مريديه تقصيرهم فى العبادة، وذكر لهم أن هناك نسوة من أتباع ~~الطريقة بلغ بهن الصفاء أن رأين النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام... ~~وأنتم أيها الرجال لا تصلون إلى هذه المنزلة!! وهنا فتل الرجل شاربه، وقطب ~~جبينه، وفهمت منه أن هذا التقريع أثر فيه فنام وقام، ثم جاءنى برؤياه ~~الصالحة! قبل أن يخبر بها شيخه العظيم! # وقمت عن الرجل فإذا حلقة صغيرة تضم عددا من الرجال الذين يكثرون التردد ~~على المسجد أبوا إلا أن يشركونى فى حديثهم، فأخذت مكانى بينهم مضطرا ، ~~وسمعت أحدهم يقول- وهو يستأنف كلامه حريصا على أن يسمعنى وأن يمتعنى: لقد ~~كان الشيخ فلان يبنى دارا فى بلدة كذا فكان الغمام يظله فى حر الظهيرة! ~~وتلك بركة الإخلاص ورفعة الدرجة عند الله. # وقال جليس آخر بعد أن أمن على رأى زميله: ولقد دخل الشيخ فلان على جماعة ~~يغنون ويطربون فإذا آلات اللهو تنكسر فى أيديهم، وتخرس أصوات الغناء فى ~~حضرته!! وهل تعلمون أن الشيخ فلانا دعى إلى مأدبة الخديوى فذهب إلى هناك ~~وأمسك بأطباق الطعام يعصرها فإذا هى تقطر دما. # وهنا صاح الشيخ يقول: أنا لا آكل من دم العباد! PageV01P145 # ثم شرع أحد الجلوس يعلق فى تشاؤم وضيق: لقد فسدت الحال ورق الإيمان وضاع ~~الإخلاص و... وانشغل العلماء بالدنيا.. # ثم سكت قليلا يحسب أن فى الكلام تعريضا بى. # وهنا أنقذ الموقف جليس وقور يقول وهو يهز رأسه: # الفاتحة أن ينصر الله الإسلام!! وكدت أقرأ الفاتحة بنية أن الله ينقذ ~~الإسلام من هؤلاء. لولا أنى تذكرت فتوى عالم فاجمل بأن هذه بدعة فانصرفت ~~عنهم وأنا أحدث نفسى، إن الدين أصبح كالجنون. فنونا أى فنون! # * * * # ص _147 PageV01P146 ~~وعظ فى الهواء .. وقرآن للبيع اشتركت وزارة الشئون الاجتماعية، ووزارة ~~الصحة، ووزارة الأوقاف، وإدارة الأزهر، وعدة هيئات شعبية فى الاحتفال بذكرى ~~الحسين.. وقلت لنفسى: أذهب إلى الساحة المائجة لأسمع وأرى.. فلما ذهبت لم ~~أدر أأتهم نفسى أم ms118 أتهم الناس، كانت مكبرات الصوت مبثوثة هنا وهناك، ~~والأغانى الخليعة تذاع إلى جانب المحاضرات الدينية. أفتظن الجد كان يتميز ~~كثيرا عن الهزل؟ لا! إن تميز فى جوهره فما يتميز لدى جمهور السامعين ~~الذاهلين! إن صيحات الوعظ كانت تهز موجات الهواء ولكنها لم تهز جوانب ~~القلوب. واستوقفت نظرى أمور شتى فى خطب أولئك الواعظين. ما هذه الأحاديث ~~الشريفة التى تلقى فى الهواء بالعشرات؟، إنها الدرر التى كانت تنحدر من فم ~~الرسول صلى الله عليه وسلم يلقفها السامعون بمشاعر الإعزاز البالغ، ويعرف ~~صاحبها العظيم قيمتها فهو يقتصد فى إلقائها اقتصادا ، ويوجز فى أحاديثه حتى ~~لتحصى على الأصابع إحصاء. هذه الأحاديث كانت تلقى فى إسراف شديد... فى ~~الهواء! أو لقوم قلوبهم فى الهواء. ورأيت رجلا قارب الستين أو جاوزها، يدخل ~~فى دكان ليعرض على من فيه بضاعته، وما بضاعته؟ إنه الوحى الذى نزل به الروح ~~الأمين. هذا رجل أشيب يرتزق بالقرآن من قديم، وكان صاحب الدكان زاهدا فى ~~السماع فأعطى السائل قريشات وصرفه. وتبعت القارئ السائل بعين تكاد تطفر ~~دمعا، وقلب ملىء بالكآبة. وهل رأيت مواكب الصوفية المتتابعة فى هذه الساحة ~~الغاصة؟ ص _148 PageV01P147 ~~إن طبولها تدق لا لإعلان الحرب على الشيطان، بل لإعلان حرب الشيطان على دين ~~الرحمن! ورأيت يهوديا يرمق الموكب الصاخب بنظرات شزراء! فتضاءلت فى شخصى، ~~وأحسست بسهام الخزى تخترق فؤادى من كل صوب، ثم مرت الأعلام التى نقشت ~~جوانبها بأسماء الخلفاء الأربعة، ومن تحتها فلول من الفلاحين الأغبياء! ~~ووقفت فى مكانى أستعرض المارة كما يستعرض القائد المكسور جيشه المهزوم! ولم ~~أجد أفضل من أن أعود أدراجى تاركا لوزارات الشئون، والصحة، والأوقاف، ~~والأزهر عبء العمل المنتج فى ساحة الاحتفال المهيب! ص _149 PageV01P148 ~~مجرمو الحرب عندنا لا عندهم ! فى نهاية الحرب العالمية الثانية قرر الحلفاء ~~المنتصرون أن يشنقوا قادة ألمانيا وساستها، وقد نفذوا ما قرروا. ولن تبرح ~~ذاكرة التاريخ تعى صورا بشعة لأجساد تتأرجح فى الهواء، وعيون جاحظة، وشفاه ~~مزمومة، من حولها رجال: تشرشل، وترومان بارزو الأنياب، كالحو الملامح... ~~يتشفون لمصارع أعدائهم محلى ms119 هذا النحو.. ربما كان هذا انتقاما عادلا لآلاف ~~البلاد التى دمرت على ما فيها ومن فيها ولو مال ميزان الحظ وانهزم الحلفاء، ~~لكانت الأوضاع على عكس ما سجل التاريخ، وإذن لا نقلب الضحايا قتلة، ولذريت ~~أجساد القضاة فى الهواء بالتهم نفسها التى حاكموا بها غيرهم. وليس يهمنى ~~الآن أن أحدد بدقة أى الفريقين شر على العالم: الإنجليز أم الألمان؟ ولا أى ~~الرجلين أحق بالعقوبة: هتلر أم تشرشل؟ وإنما يهمنى أن أنحو باللائمة على ~~فريق آخر، هم فى نظرى مجرمو الحرب ومعرضو العالم كله للهلاك. إن الحروب ~~الأولى والأخيرة التى شملت الأرض وغيرت معالمها لم تشتعل نارها إلا لغرض ~~واحد لا ثانى له، هو استعمار الشرق، وتسخير ما به من إنسان وحيوان لخدمة ~~الرجل الأبيض الذى يسكن أوروبا وأمريكا! والمعارك التى ذبحت فيها أجيال من ~~البشر، وهى مظهر لتنازع الأقوياء أيهم ينفرد بالسيادة علينا والانتفاخ ~~بيننا؟ والحرب المتوقعة الآن بين شتى الجبهات المتربصة بالمال والسلاح لا ~~تعدو فى أهدافها ومبرراتها أبدأ هذا المعنى! إنه نزاع على أكلنا، إن هذه ~~الحيوانات تتهارش على افتراسنا، وعندما يفرغ بعضها من بعض يأتى الفريق ~~المنتصر وعلى فمه زهومة الدم المسفوح ليبدأ دوره معنا، نحن الذين نعد لمرح ~~الغالب وكبره! ص _150 PageV01P149 ~~إن ضعفنا هو الجريمة الكبرى التى توقع العالم فى أشد الكوارث، والذين ~~يعملون على إبقاء هذا الشرق مهيض الجناح دامى الجراح من سادته وقادته هم ~~مجرمو الحرب الحقيقيون. إن كل سياسة داخلية فى أى بلد شرقى تبقى الجماهير ~~فى هذا المستوى الفقير الحقير، هى فى جوهرها تقويض لسلام العالم أجمع، إلى ~~جانب ما تنطوى عليه من مظالم ولؤم وخسة تقع على الشعوب البائسة خاصة... # ولو عرف الإنجليز وغيرهم، ممن يبنون حياتهم على أنقاضنا، أننا من الإباء ~~والكرامة بحيث لا يستريح بيننا غاصب، ولا ينجو بحياته معتد أثيم لما فكر ~~كلب منهم أن يختال بيننا، بل أن يحتل شبرا من أرضنا.. # * * * # فلنجعل خطتنا الآن أن نقوى فى كل ناحية، وأن نجتث عوامل هذا الضعف الذى ~~أزرى ms120 بنا، وأن نطهر الطريق من الساسة الذين لا يتصوروننا إلا فقراء ~~حقراء... فإذا عز علينا أن نجعل هذا الشرق فى مستوى تنقطع دونه وساوس ~~الطامعين، فلنجعله مقابر.. أجل مقابر تضم رفاتنا ونحن هلكى تحت ترابه! فذاك ~~أولى بنا من أن نعيش موتى بين الأحياء.. وصدق إمام الأنبياء صلى الله عليه ~~وسلم إذ يقول فى مثل هذه الحال: "بطن الأرض! خير لكم من ظهرها". # * * * # * جهادنا. وجهادهم ! # ولساسة الشرق الأوسط أسلوب فى الجهاد كان له أبعد الأثر فى تضليل الشعوب ~~عن أهدافها، وإطالة أمد الاستعمار الجاثم على صدرها..! # هؤلاء الساسة لا يتوجهون إلى الأمم كى يثيروا فيها غرائز الكفاح، ويحيوا ~~مشاعر الأنفة والتمرد ويوثقوا الروابط بين شتى الطوائف، حتى تندفع إلى ~~مقاتلة عدوها صفا ملتئما يتحامل على نفسه إذا تعب، ويحمل جراحه إذا أصيب، ~~ويرعى ذرارى الضحايا إذا نكب، ولا بد فى كل ميدان يحتدم فيه الصراع من توقع ~~هذا كله وأكثر منه..! # لكن ساستنا ابتدعوا لونا من الجهاد لا شوكة فيه! ومنذ نصف قرن وهم قابعون ~~وراء المكاتب يرسلون التصريحات، ويلقون الخطب، ويقابلون المراسلين الأجانب ~~للإدلاء ببعض الأخبار والآمال!. # ص _151 PageV01P150 ~~وقد يسافرون إلى الخارج ليشتموا إنجلترا فى فرنسا أو فرنسا فى إنجلترا. # وقد يتنقلون فى جنبات البلاد ليسمعوا الهتاف باسمهم، أو لتنطلق المظاهرات ~~الصاخبة فى الشوارع صياحة بما تبغى من مطالب... والجيوش المحتلة ترمق هذه ~~المظاهرات وهى قريرة العين بما تسمع وترى. # وقد كان سعد زغلول والمدرسة التى تخرجت على يدية- وهى للأسف صاحبة الشأن ~~الأول فى مصر- مثلا فريدا لهذا النحو المتهافت من الجهاد الوطنى الفاشل. # إن الجهاد الناجح يعتمد على الإيمان. وهؤلاء أضعفوه بالإلحاد، ويعتمد على ~~التضحية وهؤلاء أفسدوه بالأثرة. # وطليعة المجاهدين هم الشباب، وقد تسابقت أحزاب الساسة العجزة إلى تعليق ~~هممهم بالوظائف والترقيات، وفتح عيونهم على مفاتن النسوة فجروا وراء ~~الشهوات!.. وهيهات أن تدرك أمة أمانيها- وهذه عدتها-! # لذلك كان ظهور الإخوان المسلمين وامتداد دعوتهم بريق أمل فى هذه الظلمات ~~المتكاثفة.. # لقد حزموا الهتاف للأشخاص أيا كانوا وجعلوا ms121 شعارهم الفريد: "الله أكبر ~~الله أكبر ولله الحمد" وهذا منطق سديد، فالذين يرفضون العبودية للأجانب لا ~~يحطمون قيودها ليلبسوها من جديد عبودية للكبراء فى الداخل، إنما تنشق ~~الحناجر بتحية الله وحده. أما البشر كافة فليس لهم من ذلك نصيب! # ولقد آثروا الآخرة ونعيمها إذا كان غيرهم يؤثر الدنيا ومتاعها، وهل يطلب ~~الاستشهاد ويعشق الموت فى سبيل الله إلا على هذا الأساس؟؟ # والآن يستشرى عدوان اللصوص الحمر ويقف جنودهم على أفواه السكك وبطون ~~الأودية يشتغلون بارتكاب حوادث السطو والنهب. # وينادى كل شىء فى هذا الوادى بضرورة المقاومة ورد العدوان.. # بيد أن الساسة الذين مرنوا على اعتبار الجهاد إلقاء خطب وسوق مظاهرات # لا يزالون على طريقتهم الأولى من الكفاح وهم قعود وراء المكاتب!!. # * * * # ص _152 # الحطيئة.. حين يشتغل بالدعوة إلى الناس PageV01P151 ~~الحطيئة شاعر هجاء بسط لسانه بالأذى فى أعراض المسلمين حتى عوقب بالسجن على ~~بذاءته. وولع الحطيئة بالشتم غريزة كامنة فيه تدفعه إلى التهجم الدائم، ~~كأنما به جوع إلى نهش الناس والتطاول على أقدارهم، فإذا هاجت فيه هذه ~~الطبيعة النابحة، ولم يجد من يسبه غدا على امرأته يقول لها: # أطوف ما أطوف ثم آوى إلى بيت قعيدته لكاع!! # فإذا فرت امرأته من وجهه، ولم يجد من يسبه عاد على نفسه فنظر إلى المرآة ~~ثم قال: # أرى لى وجها قبح الله خلقه فقبح من وجه وقبح صاحبه! # وعندى أن أصحاب هذه الطباع مرضى، وربما كانت طينتهم من النوع الكلبى الذى ~~إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث! # والناس أنواع، فيهم من يحمل بين جنبيه طبيعة الحمل الوادع، أو الثعلب ~~الماكر، # أو الأسد الهائج، أو الجمل المنقاد. # ولا حيلة لنا فى تغيير الطبائع المركوزة، وما نحاول شيئا يعز على أساطين ~~المربين.. # إلا أننا نقترح أن تسند الأعمال إلى أصحابها فى هذه الحياة على ما يلائم ~~شتى الأمزجة، فلا تسند شئون القتال إلا إلى الرجال الأسود. # وربما صح أن يعمل فى ميدان السياسة رجال لهم ختل الثعالب. # أما الدين فأحق من يشتغل به رجال لهم صفاء ms122 الملأ الأعلى وخلوصهم من ~~الشوائب والدنايا. # والداهية الدهياء أن يقف فى محاريب الدين رجال من.. من شكل الحطيئة، وأن ~~يتكلم بلسانه صنف من البشر إذا وقع الإنسان لسوء الحظ بينهم فكما يقع ~~الطارق الغريب أمام بيت لا أنيس فيه، ما أن يقرع الباب حتى يقضم رجله كلب ~~عقور. رأيت طائفة من حزب الحطيئة هذا يزعمون أنهم دعاة إلى الله.. # ص _153 PageV01P152 ~~(ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول). أولئك قوم ~~يتمنون وقوع الخطأ من الناس، حتى إذا زلت أقدامهم وثبوا على المخطئ، وظاهر ~~أمرهم الغضب لحدود الله، أما باطنه فالتنفيس عن رغبات الوحش الكامن فى ~~دمائهم، يريد أن ينبح المارة ويمزق أديمهم. علامة هؤلاء أن يضخموا التوافه ~~ويتاجرون بالخلافات ويتلمسوا للأبرياء العيوب والخلافات عند ذوى الأمزجة ~~المعتدلة والقلوب السليمة لا تثير حقدا. يرى أبو حنيفة أن القراءة وراء ~~الإمام حرام، ويرى الشافعى أن القراءة وراءه واجبة. ومع أن الأمر يتعلق ~~بأهم أركان الدين فما فسق أحدهما الآخر ولا أهاج عليه الدنيا.. لأن كلا ~~الإمامين رجل نظيف الطبع عالى الإيمان. أما حزب الحطيئة المشتغل بالدعوة ~~إلى الله فله مسلك آخر. كتبت مرة أقول: إن وجه المرأة ليس بعورة، وما قلته ~~ليس من عندى، بل هو نقل عن جمهور الأئمة. فإذا الرد السريع يقذفنى به صحافى ~~متدين (!) كأنه رجع صدى. وفيه: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب ~~التي في الصدور). فعرفت علة هذا الشتم، وهززت رأسى أسفا لأن الذين يمثلون ~~الإسلام فى مستوى سحيق دون ما يزعمون. إنها طبيعة الحطيئة هاجت أصحابها ~~للعن والطعن. وما كان محمد صلى الله عليه وسلم لعانا ولا طعانا، ولا فاحشا، ~~ولا بذيئا. وقرأت مرة عنوانا عن "الشيخ المسعور" وطالعت ما تحته، فإذا هو ~~هجاء مقذع للشيخ "على الغاياتى" المجاهد المسلم الطيب، ولمحت صورة الكاتب ~~من خلال سطوره النابحة وكأنما أفعى على ذنبه، ودلع لسانه، وتهيأ للعض، إنه ~~للأسف- يشتم الرجل باسم الدين. والويل للمسلمين.. يوم يشتغل الحطيئة ~~بالدعوة إلى الله. وقرأت فى إحدى المجلات ms123 الدينية (!) بحثا فى جواز الصلاة ~~على الأرض الفضاء، جاءت فيه هذه العبارات النابية ننقلها بنصها: ص _154 PageV01P153 ~~"من التنطع الممقوت لله ورسوله أن يخلع الزارع ثوبه ويفرشه على الأرض ~~ليصلى- والأرض أطهر بالشمس والهواء من ثوبه. وكذلك من التنطع الممقوت أن ~~ترى أمامك فراشا نظيفا فتتحرج من الصلاة عليه لأنه فى نظرك الأعمى (!) ~~ورأيك الجاهل (!) يداس بالنعال، فتراه متنجسا. وليست النجاسة فى هذا ~~الفراش. إنما النجاسة والقذارة فى رأسك الجاهل (!) الذى سكن فيه شيطان ~~الجهل بهدى الرسول (!) هذه الأفكار السخيفة المضادة لصريح السنة... ". قلت: ~~ما ذنب القارئ المسكين حتى توجه له هذه الحشود المترادفة من ألفاظ الشتم ~~والتجريح؟ وما النتيجة المحتومة من سوق الآراء العلمية بهذا الأسلوب ~~النابى؟ إن كان القارئ مؤيدا لهذا الرأى فما أغناه عن هذا الخطاب، وإن كان ~~معارضا له فهل هذا طريق إقناعه؟ ألا يستحق المسلم المعارض أن يعامل ~~بالحسنى، كما استحق ذلك أهل الكتاب من اليهود والنصارى فى قوله تعالى: (ولا ~~تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن). أهذه طبيعة الدعوة إلى الله؟ أم هى ~~طبيعة الحطيئة فى السباب والتهجم طفحت- للأسف- على لسان ذلك الداعية ~~المحترف. والغريب أن أصحاب هذه الأساليب رؤساء لجماعات دينية تجاهد لنصرة ~~الإسلام. وتريد لتمسك بيديها مفاتيح الجنة والنار. ص _155 # درس لزعمائنا! # قرأت هذا النبأ ثم تساءلت: ترى ماذا كان شعور زعمائنا ومتزعمينا حين مرت ~~عيونهم به وهمه!العون الأنباء الخارجية فى الصحف الكبرى؟؟ أما النبأ المثير ~~حقا فهو أن المندوب السوفيتى طلب أن يعقد مجلس الأمن يوم الجمعة المقدسة ~~لينظر فيما لديه من أعمال عاجلة، غير أن المندوب البرازيلى رفض هذا الطلب، ~~واعترض عليه قائلا: "لن تسمح لى عقيدتى الدينية التى أعتنقها وتعتنقها ~~بلادى بالاشتراك فى أى اجتماع يعقده المجلس فى يوم الجمعة الحزينة". # وعند ذلك سارع مندوبو الولايات المتحدة وبريطانيا وهولندا إلى القول بأنهم # لا يستطيعون حضور اجتماع يعقد فى ذلك اليوم!! PageV01P154 # ونحن لا نستغرب من رؤساء الأمم المسيحية أن يحترموا ذكرياتهم الدينية وأن ~~يهتموا بها، وإنما الذى نضع ms124 عليه أصابع الرؤساء السياسيين عندنا، ونحب أن ~~يلتفتوا إليه جيدا، هو موقفهم الواهى المريب بإزاء المناسبات الإسلامية، ~~وضيق إحساسهم بها!. # إننا إذ نسمع للزعماء العالميين خطبا تشبه أن تكون تبشيرية، لا نسمع ~~لزعمائنا حرفا فى وجهة النظر الإسلامية الواضحة. # وحين نرى السياسيين الأجانب لا يستحيون من تمجيد مقدساتهم الدينية، نرى ~~زعماءنا "علمانيين " يكاد موقفهم من الدين الذى ينتمون إليه يكون بعينه ~~موقفهم من الأديان التى لا ينتمون إليها. # وهذه فلسفة فى التوجيه العملى للأمم من أقبح الفلسفات. # إن الزعيم السياسى الذى يخلع ثوب تدينه ليوهم الناس أنه شخصية متحضرة ~~معتدلة، ليس فى الحقيقة الرجل الجدير بالكرامة الوطنية، ولا التقدير العام. # وزعماؤنا الذين من هذا النوع يجب أن يطردوا من ميادين العمل العظيم، ~~لأنهم لن يظفروا فيها بأى نجا!!. # أما الزعيم الذى لا يفارقه تدينه، والذى لا يملى عليه الانسحاب أو ~~الاحتجاج عندما يرى مساسا بدينه، فذلك هو الرجل الذى نحترمه والذى نشعر ~~بفرط الحاجة الماسة إليه. # ص _156 # التعاون... # المواهب الإنسانية النفيسة مختلفة ومتكاثرة، وقلما تجتمع فى رجل واحد، بل ~~إنها توجد موزعة بين الفئات الكثيرة من الناس، فإذا تكونت إحدى الجماعات، ~~وأحسن أعضاؤها التعاون فيما بينهم، كان كل منهم مكملا لنقص الآخر، وكانت كل ~~موهبة سنادا لأختها المغايرة لها، فكانت الجماعة منتجة موفقة! # أما إذا استغنى المرء عن غيره، وغالى بمواهبه المحدودة، واعتذر عن نقصه، ~~واستهان بمواهب غيره وتجهم لها فلن يصل ولن تصل معه الجماعة إلى مستوى عال ~~من النجاح المنشود! PageV01P155 # ولنا أن نذكر قصة الأعمى والمقعد التى قرأناها صغارا ونسينا تطبيقها كبارا، ~~المقعد رجل قوى البصر، ولكن أنى له الأقدام التى يمشى بها؟ والأعمى رجل قوى ~~الأقدام، ولكن أنى له البصر الذى يهتدى به؟ فإذا حمل هذا ذاك انتفع كلاهما ~~من الآخر وتعاونا على السير فى طريق الحياة!. # ومواهب الناس العقلية والنفسية تشبه كل الشبه هذه القصة الساذجة، فمن ~~الناس من له بصر بالأمور غير أنه يفقد قوة السعى إليها، ومن الناس من له ~~دأب على العمل غير ms125 أنه بحاجة إلى حسن التوجيه! # وتختلف المواهب وتختلف أنصبة الناس منها، والتعاون وحده هو سبيل الخير ~~الذى تلتقى فيه الجهود المبذولة، وتنتظر منه الثمرات المأمولة ، ولا سبيل سواه. # وسبب الفشل الذى تمنى به أحزابنا وجماعاتنا هو الذهول عن هذه الحقيقة ~~القريبة! هو تقدير الأعمى لقوة قدميه، وذهوله عن ضعف بصره، واحتقاره لأبصار ~~المبصرين!! وتقدير الكسيح لقوة عينيه، وذهوله عن ضعف قدميه، واحتقاره ~~لأقدام الآخرين!!. الشاعر يظن النهضة خيالا فقط، والخطيب يظنها حماسة فقط. ~~والعالم يظنها بحثا فقط، والاقتصادى يظنهامالا فقط، والواعظ يظنها صلاة فقط. # ومصر بشر من عدم تعاون أبنائها، وتساند ملكاتهم فى خدمتها. فمتى تذوب هذه ~~الأنانية لتحل محلها العقلية التعاونية المرنة؟ # ص _157 # من طبائع النفوس # هناك رجال يؤثرون الهزيمة المنطقية الصريحة على النصر الملتوى اللئيم! ~~ويوجهون سياستهم فى الحياة على هذه القاعدة اللازمة الدائمة! لا ترى أزمات ~~الدنيا منهم، إلا شخصية لها مبدأ واحد، وعقلية لها تفكير واحد، ولتكن ~~النتائج بعد ذلك ما تكون! وهم قد يستطيعون تحقيق أغراضهم لو غيروا قليلا من ~~اتجاه نفوسهم، واتجاه عقولهم، أو قد يستطيعون لو تغيروا قليلا أن يفوتوا ~~على خصومهم أهم أغراضهم، ومع ذلك يرفضون، فإما نصر يجىء وفق مبادئهم ~~النفسية واستقامتهم العقلية وأسلحتهم المرضية أو.. لا نصر! # فلا قيمة له إن جاء من غير هذه الطريق.. PageV01P156 # وفى طليعة هؤلاء الرجال على بن أبى طالب كرم الله وجهه، فقد كان منطقيا مع ~~نفسه على هذا النحو الدقيق، يسعى إلى النصر من سبيل الشرف والصراحة ولو ~~أدركه الجهد وغامت النتائج! ويكره هذا النصر من كل السبل الأخرى، بل يرفضه ~~وهو فى متناول يده!. # وتفصيل سيرته معروف. ونسوق على سبيل المثال منها موقفه عندما سبقه جند ~~الشام إلى الاستيلاء على الماء، وكان يستطيع تدويخهم عطشا بعد أن استولى ~~عليها منهم، ولكنه أبى ذلك وتركهم يستقون!! # وكان أعداؤه يعلمون أن طبيعته تأبى عليه حرمانهم من الماء وإن سبقوه هم ~~بالحرمان، ذلك أن عليا يكره النصر بهذا الثمن ويحتقر الحرب بهذا السلاح، ~~فإن طبيعة الفرسان ms126 ذوى التقاليد الكريمة، أن يبرز الواحد منهم لصاحبه فى ~~الساحة العادلة، فإذا زلقت قدمه لم يسارع إلى الإجهاز عليه بطعنة غادرة، بل ~~أعانه على الوقوف لينتصر عليه فى مبارزة شريفة، أو هى فى زماننا طبيعة ~~الرجال الرياضيين، لا يسجل لأحدهم الفوز فى مباراة ما، إلا إذا خضعت ~~لقوانين اللعب، واطمأن إليهم ضمير الحكم، ومن ثم رفض "على" النصر القريب ~~حول مواقع المياه، لأن عناصر الغلب الشريف لم تتوفر فى هذه المبارزة أو لأن ~~قوانين النزال لم تراع فى هذه المباراة، وإذا كان خصومه قد انتهكوها فإن ~~ذلك لا يبيح له انتهاكها!. # ص _158 PageV01P157 ~~ومن هؤلاء الرجال أنس بن النضر فقد أقبل- وهو واحد- على المشركين- وهم جيش- ~~مع أن النتيجة محققة، لأن الأمر عنده ليس أمر هزيمة أو نصر، ولكنه أمر رجل ~~قطع على نفسه عهدا فاستقام مع منطق نفسه الموقنة وحدها!! غير مكترث لمنطق ~~الحياة وسياسة النجاة- ولو إلى حين. ومن هؤلاء فى الجاهلية "كليب " سيد بنى ~~تغلب، قيل له: الرمح وراءك، فأبى أن يلتفت إليه حتى قتل به! لأن كليبا لا ~~يرى بأسا من أن يهزم فى معركة يكون قتله فيها غيلة، ولا يرى لعدوه شرفا فى ~~إدراك هذا النصر. وتلك نفوس تؤثر الهزيمة الشريفة، كما قلنا، على النصر ~~الخسيس!. على أنه تبقى بعد ذلك أسئلة شتى عن مدى نفع هؤلاء الرجال لأممهم، ~~وعن قيمة النجاح الذى تحظى به سياستهم فى عالم ملىء بالانتهازيين ~~والانتفاعيين؟؟ ومع رجال يدينون بأن الغاية تبرر الوسيلة؟؟ وفى تاريخ يضم ~~أصحاب المبادئ الجامدين عليها بالحمق، والعقم، وضعف النظر، وضيق الأفق؟؟ ~~ومهما كثرت هذه الأسئلة المتفهمة تارة والمتهكمة تارة أخرى، فإن أمثال ~~هؤلاء الرجال مدار لقوى الخير الذى لابد منه على ظهر الأرض، ومظهر ~~للإنسانية المتعالية بفضلها ونبلها على الأعراض والمغريات!. ص _159 PageV01P158 ~~زهد وزهد هناك أنواع من متع الحياة ومباهج العيش يرى الكثيرون. أن الزهد ~~فيها والتنزه عنها ضرب من قوة الإيمان وسمو الروح، ويحسبون مجاهدة النفس ~~حين تتطلع إليها أمرا يستلزمه الدين ويتطلبه اليقين ms127! وهذا وهم يجافى الصواب ~~فى أكثر الأحيان، ولا يجوز أن يكون عقبة أمام الشباب الذين يرغبون فى ~~الاستمساك بدينهم والانضواء تحت تعاليمه، فأكثر أنواع الزهد المعروفة لا ~~صلة لها بالدين أولا، ولا دلالة فيها على الفضل والكمال ثانيا، وما تعقبه ~~من انتكاسات نفسية عميقة كثيرا ما يضر بالدين والخلق، ولذلك يحذر العقلاء ~~آثارها الوخيمة. واخش الدسائس من جوع ومن شبع فرب مخمصة شرمن التخم ما قيمة ~~الزهد المادى في الأشياء؟ إن بطن الإنسان شبر ولو امتلأ إلى حد التخمة ما ~~كلف الحياة شيئا طائلا، والقيمة المادية للزهد المادى فى هذه الحالة تساوى ~~بضعة مليمات أو بضعة قروش، والشهوة الجنسية العاتية كم يتكلف المجتمع ~~الإنسانى لإطفائها؟ أيتكلف تقديم امرأة أو أكثر للرجل؟ يجب أن يتم ذلك إذن ~~فى صمت، ولا يعطى فوق قدره من الأهمية ومن ثم ساق القرآن الحكيم هذه ~~المساكة فى عرض الكلام عن مسألة أخرى أخذت صدر الحديث، وملكت ناصية السياق، ~~واعتبرت أصل الموضوع واعتبر الكلام فى أمر المرأة تابعا لها. (وإن خفتم ألا ~~تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ~~ألا تعدلوا فواحدة). إن أزمات العالم الكبرى، نفسية، واجتماعية، وسياسية، ~~لم تنشأ ولن تنشأ إلا من الأثرة المفرطة، والتحاسد الباغى، والكبرياء ~~المستبدة، وشهوات الظلم والرياء والاستعلاء، ومجاهدة هذه النوازع الخبيثة ~~هى الزهد الحقيقى الذى تصلح به الأرض! ص _160 # ولن تزيد الأرض شيئا إذا زهد بعض بنيها أو أبناؤها جميعا فى الاستمتاع ~~بنباتها وحيوانها وخيراتها المختلفة. ولهذا يستنكر القرآن مظاهر الزهد ~~المادى التافهة ولا يحترم بواعثها، ويرشد إلى ما يجب أن يزهد البشر فيه حقآ. PageV01P159 # (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين ~~آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون * ~~قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغيرالحق وأن ~~تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).وهل ~~قدمت ms128 البشرية ضحاياها الهائلة فى الحروب المتعاقبة إلا إشباعا لنزوات ~~الغرور والتسلط عند بعض الزعماء أو بعض القادة. وهل يفقد العالم الآن ~~توازنه السياسى وعدالته الاجتماعية إلا لما يسميه القرآن "البغى بغير الحق ~~" وهو أصدق تسمية للنيات الاستعمارية الكامنة فى محيط السياسة الدولية، ~~وللمظاهر الاستبدادية الباقية بين أم الشرق!. # ليست حظوظ النفس المادية موضع جدل طويل فى الدين، وفى حدود الحلال الطيب ~~سعة يمرح المرء فيها ولا تصادر رغائبه، ودعك من وساوس المتصوفين وكهانة ~~المتزهدين.. والشىء الذى ينبغى أن نجاهد أنفسنا عليه، وأن نعلمها الزهد ~~فيه: الفحش، واللؤم، والتعدى، والتحدى، وحب الظهور، وعمى الغرور، فمن هنا ~~تنكب المجتمعات وتضل السياسات!. # * إيضاح وتعقيب: # يبدو أن هذا الرأى خالف ما وقر فى الأذهان عن حقيقة الزهد! وقد جاءتنا ~~ثلاث رسائل تناقش الفكرة من ناحية الشكل والموضوع! نسجل ما ورد بها من ~~اعتراضات، ونقرنها بما لدينا من إجابات. # قال الأستاذ "محمد طلبه السعداوى": وددت أن يسمح سيدى الأستاذ بأن أذكره ~~أننا فى هذا البلد الذى اختلت فيه الموازين، واضطربت الأوضاع وانتفى ~~التجانس، وكثر فيه الشاكون من التخمة والشاكون من المخمصة، والذين ينامون ~~على الديباج، والذين يتوسدون الوحل، والذى يقتنون الذهب والفضة والخيل ~~المسومة والسيارات # ص _161 PageV01P160 ~~الفخمة، والذين يجرون أقدامهم جرآ فى سبيل لقمة العيش القفار، والذين يقضون ~~لياليهم الحمر على الكاس والطاس، وبين الأذرع البضة والصدور الناعمة، ~~والذين يقضون لياليهم على التأوهات والتوجعات والشكايات، بعد نهار طال ~~انحناؤهم فيه على الفؤوس واستنزفوا فيه دماءهم وعافيتهم عرقآ شربته الأرض ~~فأخرجته ذهبا نضارا يملأ جيوب المترفين الناعمين. فى هذا البلد المنكوب يا ~~سيدى لابد لنا من الصراخ، الصراخ القوى الذى يخرق الآذان والقلوب بضرورة ~~الزهد المادى، فنحن أحوج إليه من كل شىء آخر، واسمح لى أن أسألك يا سيدى: ~~هل صحيح أن هذه البارات والكباريهات، والسينمات، والسيارات، والطيارات ~~والسباحات، والبلاجات ومكيفات الهواء، وما ينحر كل يوم فى بيوت السادة ~~الأغنياء، وغير هذا من كل متع الجسم والعاطفة.. هل كل هذا لا يكلف سوى بضعة ~~مليمات أو ms129 قروش؟! وهل صحيح أن المجتمع لا يتكلف لإطفاء الشهوة العاتية سوى ~~تقديم امرأة أو أكثر؟! أو أن ذلك يكلف المجتمع الزوال والهدم والضياع، إذا ~~لم يتحصن البشر بالزهد والقناعة، وتعاليم الله وهدى رسوله الكريم. وهل غاب ~~عنا المجتمع الفرنسى الذى هدمته الإباحية وإشباع النفس والبطن والعاطفة ~~والشهوة؟ ثم ألا ترى يا سيدى أنك لا تستطيع أن تزهد الناس فى "شهوات الظلم ~~والكبرياء المستبدة والأثرة المفرطة والاستعلاء والرياء والقسوة" إلا إذا ~~ناديت باستئصال الداء من الجذور، فعلمت الناس، ودعوتهم إلى الزهد فى إشباع ~~النفس والبطن، وما يجره هذان من موبقات، فإذا استطاع الزهد النفسى والجسمى ~~أن يتغلغل فى الصدور والأجسام، هون علينا ذلك مئونة ما فوقهما من آثام ~~وشرور. ألا ترى معى يا سيدى أنه حرام أن يتمتع بزينة الله التى أخرج لعباده ~~والطيبات من الرزق فريق، وفريق يأكل الثرى من الظمأ والجوع والحرمان. وإنه ~~لخير لنا أن نجتذب الشباب بذلك النور الذي يشع فى صدور المؤمنين، وبتلك ~~الراحة والسكينة التى تفيض قلوب عباد الله PageV01P161 ~~الخالصين، وبالمتعة الخالصة واللذة العميقة السامية التى تغمر أرواح ~~الموحدين العاملين. خير لنا هذا من أن نغريهم بالتسامح فى انتهاب طيبات ~~الرزق، والكثرة من إخواننا يتعذبون ويألمون . ص _162 # كان هذا التعليق مفاجأة لى لم تقع فى حسبانى إلا أنى سررت بها، واتسع لها ~~صدرى بقدر ما اتسع لها فكرى، وأبادر القول مطمئنا الأخ الأديب بأنه يكاد لا ~~يوجد خلاف بيننا، فإن ما يهدف إليه فى كلمته لا يناقض ما أدعو إليه، ذلك ~~أنه لا علاقة بين الاستهانة بالزهد المادى وبين إقرار العدالة الاجتماعية ~~الواجبة هناك- كما يقول الأخ- الشاكون من التخمة والشاكون من المخمصة. ~~والعدالة الاجتماعية ليست فى تجويع الفريقين، ولكن تساق إليهما خيرات الأرض ~~على سواء، فإذا أمكن الجميع أن يأكلوا من خيرها وطيرها وفاكهتها، فذاك أفضل ~~من فومها وعدسها وبصلها. وهناك- كما يقول الأخ العزيز- الذين يركبون ~~السيارات الفخمة، والذين يجرون أقدامهم من الإعياء جرا، والذى أحبه أن ~~يستطيع الجميع الركوب، فليس للتدين ولا ms130 للعدل الاجتماعى أن يفرض المشى على ~~الجميع! # وهذه الأرض التى نعيش عليها لم تضج إلا من التظالم الاجتماعى القائم على ~~البغى والعدوان والجور والحرمان. وتلك خصال لا يختلف اثنان فى استنكارها ~~ومحاربتها، وقد أردت بكلمتى أن أبين سبيل التدين الصحيح، إذ أن أكثر الذين ~~ينتمون إلى الدين، ويحبون الإكثار من العبادة والزلفى إلى الله، يحسبون أن ~~التقشف والحرمان، ورثاثة الهيئة، وسوء المنظر فى الأهل والمال، والعيش على ~~هامش الدنيا، هو طريق الوصول وأس التقوى، ويهملون القضايا الإنسانية ~~الكبرى، والسعى لإقرار العدل الاجتماعى والسياسي، والجهاد المضنى لإدراك ~~ذلك وتحقيقه، وهذا الاضطراب العقلى أنكره القرآن: # (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن ~~لكم أم على الله تفترون). PageV01P162 # ومن ثم استهنت بالزهد المادى، فالزهد فى رغيف لا يساوى إلا مليمات،والزهد ~~فى متاع ما قد يساوى ثمنا ما قليلا أو كثيرا، ولكنه لن يكون خطيرا. # أما الزهد فى حب الظهور، والميل إلى التعاظم والافتئات على الغير، والزهد ~~فى سوء القول والعمل وغير ذلك، فهذا شىء لا يقدر بثمن، ولا تحتاج الإنسانية ~~إلا إليه، ولن تضج تربة الأرض الخصبة، ولا أنهارها العذبة بكثرة الآكلين ~~والشاربين. # ص _163 # (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من ~~فوقهم ومن تحت أرجلهم). وأخيرا فلا صلة بين ما قلته وبين البارات ~~والكباريهات و... و.... سائر المتع الحرام التى أقامها الشيطان لإغواء ~~الناس، فإنما أعنى المتع الحلال وحدها. وفيها سعة لمرح الغرائز الإنسانية ~~التى لا تكره التقيد بفضائل الدين وتقاليد الشرف والخلق. وليراجع الأخ ~~الكريم مرة أخرى ما كتبت ليعرف حقيقة ما قصدت. * * * وكتب الأستاذ "محمد ~~رشاد رفيق " يقول: إنك تهون من قيمة الزهد المادى وتقول: "إن الزهد فى رغيف ~~لا يساوى إلا مليمات، والزهد فى متاع ما قد يساوى ثمنا ما، قليلا أو كثيرا، ~~ولكنه لن يكون خطيرا". ربما كان الزهد المادى أقل قيمة من الزهد النفسى، ~~ولكن ألا ترى أن ذلك الزهد المادى يروض النفس ويعودها ms131 على الزهد المعنوى، ~~وأن الشخص الذى يقبل على المتاع الدنيوى لا يمكن أن يكون فى يوم ما زاهدا ~~زهدا نفسيا؟ ومن جهة أخرى ألا تظن أن الزهد النفسى، إذا تمكن من المسلم ~~فجعله يحتقر اللذات العاجلة، ويتعلق بما وعده الله من نعيم فى الجنة، سرعان ~~ما يؤدى به إلى أن يصبح زاهدا فى الماديات؟ لقد كان الرسول عليه الصلاة ~~والسلام مثلا أعلى للزهد المادى، وكذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم، فقد ~~كانوا يزهدون فى الماديات البسيطة رغم ضالة ثمنها وقلة خطرها، لأن ذلك ~~الزهد المادى يصقل نفوسهم، ويقوم شخصيتهم، ويجعلهم أقدر على تحمل أعباء ~~الجهاد فى سبيل القضايا الاجتماعية PageV01P163 ~~والإنسانية الكبرى التى أتيت على ذكرها. ليس الزهد المادى مضرا فى حد ذاته، ~~وإنما الضرر أن نجعله غاية ولا نجعله وسيلة، إذ يصبح الزهد فى هذه الحالة ~~عنوانا لليأس، وذلك ما كنا نراه فى العصور التى ضعف فيها الإسلام وخرج ~~الناس فيها على تعاليمه.. كنا نجد طائفة من الناس يستنكرون الشر ويكرهونه ~~ولكنهم كانوا أضعف من أن يقاوموه ويحاربوه لخور نفوسهم وقلة ص _164 # عزيمتهم، فكانوا يلجأون إلى اعتزال الدنيا والناس معتقدين أنهم بذلك ~~تخلصوا من المسئولية الكبرى التى فرضها الله على كل مسلم من أمر بالمعروف، ~~ونهى عن المنكر، وجهاد لإعلاء كلمة الله ونصر دينه. # والزهد المادى على حقيقته لا يتنافى مطلقآ مع السعى وراء الرزق، بل هو ~~يقضى بضرورة ذلك- فالزهد كما بينه الرسول عليه الصلاة والسلام هو أن نزهد ~~بعد أن نمتلك ويصبح لدينا المال الحلال والرزق الطيب. أما أن نزهد وأيدينا ~~خواء لا شىء فيها فهذا هو التظاهر الكاذب بالزهد. # المسلم الحق فى نظرى هو الذى يسعى أصدق السعى كى يحقق لنفسه أرقى معيشة، ~~ويظفر بما يستطيع الحصول عليه من الطيبات، حتى إذا أكل أو شرب أولبس فعل ~~ذلك لحفظ ذاته فقط، وحتى إذا ما أتى النساء فعل ذلك لحفظ نوعه وتحقيق سنة ~~الله، ولم يفعل هذا أو ذاك للظفر بمتعة فانية ولذة عاجلة، إذ المتعة واللذة ~~إنما ms132 هما المتعة الروحية واللذة المعنوية. # * * * # ليس عجيبا أن يثير ما كتبته عن الزهد المادى جوا من التساؤل والاعتراض، ~~فإن الإخوان ينتمون إلى دعوة تأخذ بنيها بالتربية النفسية، واهتمام الإخوان ~~بمناقشة الرأى الذى قررته يدل على أن الأمر مس من حياتهم العقلية جانبا ~~حساسا يقظا، وهذا لا ريب مدعاة للسرور والارتياح، وإتاحة للمزيد من الشرح ~~والإيضاح. PageV01P164 # ونعود إلي موضوعنا مرة أخرى فنقول: إن الزهد المادى قد يكون عن عدم الرغبة ~~فى الشىء، وقد يكون عن كبت الرغبة فى الشىء، والنوع الأول لا موضع فيه ~~لجهاد النفس ولا لكثرة الثواب، فالممعود الذى يكره الطعام لأنه لا يستطيع ~~الهضم، والحصور الذى يبتعد عن النساء لأنه لا يحفل بمتعتهن. هؤلاء جميعا ~~إذا اصطبغت حياتهم بمظاهر التقشف والتصوف فلا دلالة فى ذلك على خير كثير! ~~وأولى بأمثال هؤلاء أن يقبلوا على الفضائل الإيجابية وهى- بعد الزهد فى ~~الشهوات المعنوية- أساس الرقى الحق والتسامى الكريم، وعليها تنهض المجتمعات ~~وترشد وتسعد. # أما النوع الثانى من الزهد- الزقد عن قتل للرغبة وكبح لجماحها- فهو موضع ~~تفصيل لا يبعد فى نتائجه كثيرا عن النوع الأول، وذلك أن الكبت الدائم ~~للرغبات الكامنة فى # ص _165 # دم الإنسان نحو متاع الحياة الدنيا يعتبر رهبانية قاسية لم يقل بها ~~الإسلام، ولم يدفع إليها أبناءه، ولم ير فيها معانى السمو المزعومة ولا ~~حقائق الفضل المنشود. # وقد أثبتت بحوث علم النفس أن هذا الضرب من الكبت العنيف يعقبه انتكاس ~~مظلم مخيف! فإما تسربت الغرائز المحبوسة من وراء السدود القائمة وأخذت طرقا ~~خفية مجرمة، وإما تحطمت السدود بما وراءها من ضغط واندفع التيار شعاعا بلا ~~ضابط ولا قانون. فالزهد المادى هنا حماقة وشرود، وإلى هذا أشار البوصيرى: # واخش الدسائس من جوع ومن شبع فرب مخمصة شرمن التخم! # غير أن هناك كبتا مؤقتا يلجأ إليه الرجل حتما فى أحوال كثيرة من حياته، ~~يلجأ إليه المؤمن حين يعصم نفسه عن الحرام إذا نزعت إليه، ويلجأ إليه ~~المحتاج حين تتطلع النفس إلى الشىء فيردها العجز والحرمان! PageV01P165 # أما الزهد فى ms133 الحرام فهو من معاقد الإيمان يقينا، وأما العجز عن الحلال فقد ~~يفرضه القدر الذى فرض على الناس الشدائد والمصائب، وموقفنا من هذا النوع من ~~الكبت هو موقفنا من المصائب الطارئة، نصبر عليها إذا بلينا بها، ولا نشتاق ~~إليها إذا بعدت عنا. والزهد المادى هنا تشريع مؤقت لحال مؤقتة. وهناك زهد ~~مادى يأتى تبعا لحالات الاستغراق التى تملك على الإنسان مشاعره، وتصرف ~~أفكاره إلى جهة واحدة وفى غاية واحدة! # فالشخص الحزين يصاب بشىء من الزهد القاتم الذى يبعده عن كثير من الحلال ~~والطيبات، ويغنيه بالقليل من الضرورات، والمرتبط بعمل كبير أو المقبل على ~~امتحان خطير يشعر بنوع من الاكتفاء، وعزوف على المرح والتوسع. وقد يصمم ~~المرء على بلوغ هدف ما فلا يرحم صحته ولا يبالى أكان طريقه إلى هدفه مفروشا ~~بالورد أو مفروشا بالأشواك! # وهذه الحالات العارضة تتصل بكيان الإنسان المعنوى أكثر مما تتصل بكيانه ~~المادى، وقد تأثر الجسم فيها بالروح- لا العكسى- وهى نتيجة للزهد الأدبى ~~الذى فصلنا حقيقته آنفا، ونحن نتفق مع الأخ "محمد رشاد" فى هذا الرأى، أما ~~الدخول مع الجسم فى معركة مباشرة، فمن المحقق أن مثل هذه المعركة كثيرة ~~التكاليف قليلة الأرباح، وبخاصة إذا قصد هذا الزهد لذاته، أو فهم أنه من ~~جوهر الدين ولبابه، وهذا خطأ. # ص _166 # لقد رأى الرسول عليه الصلاة والسلام رجلا منتصبا فى الشمس فقال: "إن الله ~~عن تعذيب هذا نفسه لغنى" ولكن الدين الذى حرم على الرجل وقوفه فى الشمس على ~~هذا النحو أوجب على هذا الرجل وعلى غيره !ن ينفروا فى الشمس الحرقة، وأن ~~يجاهدوا فى سبيل الله فى وقدة الحر، وهدد المتخلفين عن هذا الواجب: # (قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون). # وفى هذه المبادئ قطع لدابر التصوف الأحمق، وبيان لطريق الجهاد المعقول! ~~وكذلك بينت السنة أن الدين ليس تحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولا احتقار ~~الجمال، ولا رقة الحال، ولا انكسار البال! PageV01P166 # وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا تعدو أن تكون تطبيقا عمليا ~~للمبادئ التى رسمها ms134 القرآن، وليتأكد الإخوان أن تكاليف الزهد الأدبى أشق ~~وأدق من تكاليف الزهد المادى، وما هان المسلمون إلا يوم أن كان الواحد منهم ~~ينظر إلى تفاحة فيقول لها- كما تذكر كتب التصوف-: موعدك الجنة!! # ولو أن الأحمق أكلها وأكل غيرها وغيرها ثم مات شبعان فى الميدان بدلا من ~~أن يموت جوعان فى البيت، لكان ذلك أجدى عليه وعلى الإسلام وعلى المسلمين. # * * * # وكتب الأستاذ "عبد الفتاح شهاب " يقول: "فسرت الزهد بأوسع معانيه فوسع ~~الزهد فى الراحة، بل فى الحياة بأسرها إيثارا للجهاد وإعلاء كلمة الله، غير ~~أنه آلمنى أن تقض مضاجع السلف الصالح إذ تقول: "ولو أن الأحمق أكلها وأكل ~~غيرها وغيرها ثم مات شبعان فى الميدان بدلا من أن يموت جوعان فى البيت لكان ~~ذلك أجدى عليه ". ألست معي فى أن الرسول صلوات الله عليه يقول: "ازهد في ما ~~في أيدي الناس يحبك الناس " فأى لوم توجهه إلى هذا التقى الورع الذى لو ~~أحسنا الظن به لقلنا أنه أراد بكلمته أن يحبب المريدين فيما هو أعز وأغلى ~~"الجنة وثمارها" فيسعوا لها ولا تلهيهم عنها أطايب الدنيا وفاكهتها. # ودعنا من حسن الظن فقد نقول: حسن الظن ورطة، ولنسىء الظن به فنقول: # أو ليس هو فردا تاقت نفسه إلى تفاحة ليس فى استطاعته شراؤها- وتعلم معى أن # ص _167 PageV01P167 ~~أحب شىء إلى الإنسان ما منع- ولكن الرجل كبت رغبته ومنى نفسه بنعيم مقيم، ~~ألم يكن هذا هو النوع الثانى من الزهد الذى تقول فضيلتك فيه: هو قتل للرغبة ~~وكبح لجماحها، ومنه الكبت المؤقت الذى يلجأ إليه الرجل حتما فى أحوال ~~كثيرة، يلجأ إليه المؤمن حين يعصم نفسه من الحرام إذا نزعت إليه، وكذلك ~~يلجأ إليه المحتاج حين تتطلع النفس إلى الشىء فيردها إلى العجز والحرمان ". ~~* * * * كلمة أخيرة: أقول: يروى أن الحسن البصرى أهديت إليه حلوى فاخرة، ~~فقسمها على أهل مجلسه، وأخذ كل جليس نصيبه إلا أحد المتصوفين الحاضرين فقد ~~رفض الحلوى قائلا: هذه نعمة جزيلة لا أستطيع القيام بشكرها. فقال له الحسن: ~~كل يا ms135 أحمق ففى الماء البارد نعمة لا تستطيع القيام بشكرها!!. وصاحب ~~التفاحة الذى ذكرنا خبره فى الخواطر السابقة هو زميل صاحب الحلوى فى مجلس ~~الحسن، وكلاهما مسلم يقبل منه الخير ويرد عليه الخطأ، ولا يحتج له بأنه من ~~السلف الصالحين. والإسلام قد حرم الخبائث وأحل الطيبات، وليس من الرأى أن ~~نضيق ما وسع الله على عباده، ولكن سداد الرأى أن يمكن الناس من أنعم الله، ~~وأن يرشدوا فحسب إلى أداء شكرها، والقيام بحقها. وعندما يرسخ اليقين فى ~~الأفئدة، وتهتز القلوب بعواطف الشكر للخالق الرازق، فلن تشكو المساجد من ~~قلة العباد، ولا الميادين من قلة المجاهدين. (ليس على الذين آمنوا وعملوا ~~الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا ~~وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين). هذا، ولنضع نصب أعيننا ~~الحكمة البالغة: "الاقتصاد فى السنة خير من الاجتهاد فى البدعة" فلنلزم ~~حدود ديننا فيما أحل وفيما حرم، وذاك أجدى علينا من فنون التصوف، وضروب ~~الحرمان، وصور العبادات المكذوبة. وما اختلق الناس شكلا جديدا للتدين إلا ~~هجروا أضعافه من حقائق الدين الصحيح. ومن ثم حاربت الدعوة ص _168 PageV01P168 ~~إلى الحرمان والتقشف والزهد الباطل، ليرجع للحق بهاؤه وصدقه، على أن الأمر ~~فى هذه الأيام هين. فالمتصوفون الرسميون ومن معهم متخمون، وممثلو الدين ~~الرسميون والشعبيون ليسوا بحاجة إلى من يهون لهم قيمة الزهد المادى! فقد ~~هونوه من زمن بعيد وهونوا معه الزهد الأدبى كذلك، وأكثرهم مترف لا يصرع ~~شهوة حسية ولا نفسية، وغير المترفين هم طوائف المحرومين الذين يمثلون كثرة ~~الشعب والذين يعيشون زاهدين برغم أنوفهم. وما دفعنى إلى كتابة: "زهد. وزهد" ~~إلا بيان الحقيقة أولا، وتمهيد الطريق أمام جمهرة الشباب الذى استهوتهم شتى ~~المبادئ، فحسبوا الدين أعمالا أخروية ميتة، تفرض على الناس أن يعيشوا ~~متزمتين هامدين لا تزدان حياتهم بأسباب الجمال والطموح والمتاع، وذلك خطأ ~~بعيد. إن الناس يظنون الذكاء ابن عم الإلحاد، والغنى ابن عم الدنيا! ~~والتجمل ابن عم التحلل! فما يكون الدين بعدئذ إلا مرادفا للبلى والتعفن ~~والغباء! وذاك ms136 ما أريد محوه من الأذهان. وفى الختام أرانى عاجزا عن شكر ~~الزملاء الكرام على جميل أدبهم، وشدة غيرتهم على شعائر الدين ومعالمه. ص _169 PageV01P169 ~~صور من الماضي * النعمان بن مقرن: كانت أنباء المعارك الدائرة فى الميدان ~~الشرقى "ميدان فارس" تثير قدرا كبيرا من الاهتمام والتحفز، ولم تكن ~~"المدينة" عاصمة الإسلام الناهض تجهل النتائج الخطيرة التى تتمخض عنها هذه ~~الملاحم الطاحنة، فقد صمم أمير المؤمنين على وضع حد حاسم لطغيان الأكاسرة ~~فى أرجاء ملكهم الرحيب، وساق فرقا إسلامية عديدة لتحقيق هذه الغاية ~~الكريمة. وكم شهدت رمال الجزيرة مئات الألوية وهى تخفق فوق الرجال الذين ~~نيطت بأعناقه!م هذه الرسالة، وكم صمتت وهادها ونجادها، ولفها السكون الرهيب ~~فى انتظار أنباء المجاهدين ساعة بعد ساعة. لقد أقدم العرب على عمل هائل، ~~وأعلنوا قوى الضلال كلها بالعداوة السافرة، فلم تمض أعوام قلائل على وفاة ~~نبى الإسلام حتى فتحت أمته جبهة للقتال، ثم جبهة أخرى، ثم تشعبت الميادين ~~واتسعت أمامها، لأن الباطل فى هذه الدنيا لا يستسلم أبدا حتى تتناوله ~~اللطمات القاسية الموجعة. وكذلك كان حال كسرى ومن معه... فإن آخر ما وصل ~~إلى عمر من أنباء يشير إلى أن انتصارات المسلمين الكثيرة لم تسحق رأس الكفر ~~بعد، ورغم الجهد العصيب الذى بذله المسلمون فى الاندفاع إلى الأمام فإن ~~خطتهم لم تنفذ بأكملها كما ينبغى. ودخل عمر المسجد، وأرسل بصره القوى فى ~~جنباته فلمح "النعمان" يصلى، وكانت رؤية النعمان كفيلة بأن يستقر رأى أمير ~~المؤمنين على القائد الذى سيكتب الفصل الحاسم لملك الأكاسرة، فما لبث أن ~~سار حتى جلس بجوار المصلى العظيم . وما إن فرغ النعمان من صلاته حتى بادره ~~قائلا: لقد انتدبتك لعمل!. واستمع النعمان لمشيئة أمير المؤمنين، ثم أجاب: ~~إن يكن جباية للضرائب فلا، وإن يكن جهادا فى سبيل الله فنعم.. فأظهر عمر ~~قراره.. إنه جهاد وأى جهاد، وما أصدق بصيرة الخليفة التى دلته على مثل هذا ~~الرجل، رجل ليست له نفسية كبار الموظفين فى هذه العصور من كل مترف يدمى ~~بنانه إمساك القلم ms137 ولا يحسن إلا التبطل ص _170 PageV01P170 ~~أو معالجة أتفه الأمور.. كلا! ليس ابن مقرن ممن يسارعون إلى مثل هذه ~~الأعمال، لأنه رجل مسلم، والرجال المسلمون يخفون بفطرة إيمانهم إلى العمل ~~والجلاد والاشتراك فى الحياة وتكاليفها. # * * * # وفى الساحة التى ارتوى ثراها بالدماء الغزيرة تولى النعمان إدارة ~~المعركة، وكان جيش العدو كثيف العدد، بادى اليقظة، عسير المنال. وحاول ~~أركان حرب النعمان يوما أن يحملوه على الإسراع فى منازلة العدو، ولكنه ~~خاطبهم: تريثوا حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر.. ذلك أن وهج ~~الظهيرة كان شديد اللفح، فما أن هبت طلائع الأصيل حتى صاح القائد المؤمن: ~~أيها الناس! إنى هاز لوائى ثلاثا، فأما أول هذه فليتوضأ كل جندى. وأما ~~الثانية فليعد سلاحه. وأما الثالثة فاحملوا ولا يلوين أحد على أحد، وإن قتل ~~النعمان، وإنى راغب إلى الله بدعوة، وأقسم على كل امرئ منكم- أن يؤمن ~~عليها- اللهم ارزق النعمان شهادة فى نصر عظيم وفتح على المسلمين. فأمن ~~القوم، ثم هز لواءه ثلاثا، وتقدم الرجل صفوف الغزاة فى زحف متتابع الحملات، ~~جياش بالإيمان والتضحية، قد رص القرآن بنيان أصحابه، فلم يقو على رد ~~عزائمهم كل ما حشد الأكاسرة من قوى مختلطة، واطرد اندفاع المسلمين فى نواحى ~~الميدان كلها، ثم أطبقت أجنحتهم على أعدائهم إطباقة عارمة كان معها النصر ~~الغالى، والفتح الكريم. # ولكن أين النعمان صاحب هذه الروح؟. لقد كان أول صريع!. وصادفه أحد جنوده ~~الأبطال وما زال به رمق، فاستحضر بسرعة أداوة ليغسل منها وجه الجريح ~~النبيل.. وإذ يعاود النعمان شعوره العازب من هول ما أصابه يسائل مسعفه: من أنت؟ # - معقل بن يسار. # ما فعل الله بالناس؟ # - فتح الله للمسلمين. # قال: الحمد لله كثيرا، اكتبوا بذلك إلى عمر، وفاضت نفسه. # كذلك كان مصرع واحد من صحابة محمد عليه الصلاة والسلام ، وممن تربوا فى ~~مدرسته القرآنية وصدقت فراسة عمر، ففى موقعة "نهاوند" كتب الفصل الختامى ~~لدولة الأكاسرة.. # ص _171 PageV01P171 ~~كتبه النعمان بن مقرن وجعل أول سطوره من دمه هو.. طواعية لا كراهية، ورغبة ~~فى ذات الله، لا ms138 فناء فى غاية صغيرة، وبعدا عن مواطن الرياء وأسبابه، فلم ~~يرغب فى عيش يستمتع فيه بثمار النصر، أو يظفر فيه بأحفال التكريم وأشباه ~~هذه المساخر. * * * وأذكر كلاما قرأته لمؤرخ معاصر يشير فيه إلى ندرة ~~القادة الذين يذكرون بلادهم وحدها فى ساعاتهم الأخيرة.. على حيزا نرى من ~~أمثال "ابن مقرن " فى تاريخ الإسلام كثرة بالغة.. فهل ينبغى أن تعى ذاكرتنا ~~من أبطال النمسا وفرنسا ما تغص به فى أثناء الدراسة.. ويبقى أبطالنا لا ~~تتوارث القرون أسماءهم الضخمة؟؟ يا شباب الإسلام.. من تاريخكم خذوا المثل. ~~إن لنا رجالا تتضاءل عند أقدامهم عمالقة التاريخ الأوروبى كله. ص _172 # لا يحج بعد العام مشرك # * صارت ذكريات: # الأيام الفزعة التى عاناها السابقون الأولون، والحوادث الهائلة التى ~~طالما روعت أصحاب هذه العقيدة العظيمة، وجموع القبائل المتألبة، وأشياع ~~الأحزاب الضالة المتحفزة، ودنيا المجرمين الذين شعروا بأن ليلهم سينجاب ~~ودولتهم ستذهب، وهذه الصحراء التى شخصت ذرات رمالها إلى أدوار الصراع ~~العجيب بين أتباع الزعيم الأكبر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، ~~وبين أتباع التحلل والإلحاد واختلاق النظم وافتراء المبادئ والابتعاد عن ~~الله. ومكة وما انفجرت به ثورة أهليها، والمدينة وما وجه إليها من حملات ~~حاشدة حاقدة تتراكض هذه المعانى فى ذهن راكب العضباء ما إن تهدأ حتى تثور، ~~وما أن تنتهى حتى تبدأ من جديد. PageV01P172 # وكيف لا تجيش شتى العواطف فى صدر راكب العضباء، وتنطلق من محابسها لا يلوى ~~عنانها شىء، وراكب الغضباء يدرع بطحاء الجزيرة صوب البيت العتيق، وهو يحمل ~~القرار الأخير فى تاريخ دعوته! إنه يحمل سورة براءة، السورة التى أعلنت ~~الحرب على كل الأحزاب المريبة، والتى حددت موقف الإسلام الحاسم من أعدائه، ~~والتى ثارت وسوف تظل ثائرة على كل عدوان يصيب المؤمنين، وكل غدر ينزل ~~بالمجاهدين. # والآن لقد تغير الأمر كله وسوف يعلم الناس قريبا. # وحث الراكب العظيم مطيته إلى البيت العتيق.. إلى البيت العتيق. # * * * # * أمير الحج.. وسفير الرسول: # صف أبو بكر الناس خلفه ثم استوى نحو القبلة وتهيأ للتكبير، وإذا انتباهه ~~يتجمع، وسمعه ms139 يصيح.. هذا صوت العضباء ناقة رسول الله عليه الصلاة والسلام ~~ترى! هل بدا للرسول عليه الصلاة والسلام أن يحج هذا العام؟ إذن فليرجئ أبو ~~بكر الشروع فى صلاته، فلعل النبى الكريم أن يكون إمام القوم فى هذا الصبح ~~الميمون. # واستدار أبو بكر ليستقبل القادم وإذا صاحب الناقة على بن أبى طالب، وليس ~~رسول الله عليه الصلاة والسلام فدهش أبو بكر وصاح: أمير أم سفير؟ # ص _173 # - بل سفير، جئت أتلو على الجموع الوافدة إلى البيت سورة براءة، ليبصر كل ~~مشرك طريقه بعد اليوم، هيهات أن تقر للطاغين عين، لقد صرح الشر واستبان ~~السر، لئن كانت شراذم الأعراب وبضعة الرؤساء الحمقى قد وجدوا بالأمس هوادة ~~من المسلمين ولينآ فاستعلت الغواية وطغى الباطل إن اليوم تؤدب سيوف الإسلام ~~النواصى الغبية، والأهواء الشرسة، وصيحة الحق لكارهيه هى: # (واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين). PageV01P173 # وتلك صيحة لن تفتأ تتردد آخر الدهر، وفى هذه الحجة الممهدة لحجة الوداع ~~فيما بعد كان أبو بكر يقف بمختلف المنازل فيعلم الناس مناسكهم ويعرفهم ~~شعائرهم، فإذا أتم إرشاده خلفه على بن أبى طالب فى موقفه، وأسمع الحجيج ~~قاطبة آى السورة التى نزعت من مطلعها رحمة الله بالجاحدين، وبين أنه بعد ~~أربعة أشهر ستطارد الوثنية من أرض الجزيرة. كان فى كل موقف جامع يتلو على ~~الناس هذه السورة، وكان أبو هريرة يمشى كذلك بين صفوف الحاج، يخترق خيامهم، ~~ويجوس خلال مضاربهم وهو يصرخ بأعلى صوته: "لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف ~~بالبيت عريان "، وكانت الكثبان الجاثمة والآفاق البعيدة تردد مع الصائح ~~هتافه، وتؤكد فى مقاطعه طلائع الفوز، وتسوق إلى أفئدة المشركين سحائب من ~~القنوط والهزيمة.. وظل أبو هريرة يهتف ويهتف. حتى بح صوته وخفت نبرته، فسكت. # * * * * # * لا يغرنك تقلب الذين كفروا: # لقد كان صاحب هذه السيادة المطلقة ينهى عن الصلاة فى البيت، وها هو ذا ~~يمنع طغاة الأمس عن التطواف به، وكانت هذه الكتيبة المؤمنة لا يأمن بنوها ~~على أنفسهم حتى ليوشك أن يتخطفهم الناس، ثم أصبحوا ms140- على ما رأيت- أصحاب ~~الكلمة الجريئة الحازمة، إنه العمل دته، ختامه أبدآ النصر الجميل: # (أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية ~~منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون). # * * * # ص _174 PageV01P174 ~~بيعة العقبة الكبرى * مؤامرة: كثيرا ما تمر بجماهير الناس أزمنة محرجة ~~يقعون فيها تحت ضغط طوائف من الطغاة المستبدين، ممن يملأون الأرض علوا ~~وفسادا، ويحاولون أن يفرضوا سلطتهم على الشعوب قسرا. وأحرار الفكر والعقيدة ~~فى أمثال هذه الأزمات العصيبة لا يخضعون لها مهما سيموا الخسف، ومهما ~~صودروا فى آرائهم وأشخاصهم! ولئن كممت أفواههم عن النطق العالى هيهات أن ~~تكمم ضمائرهم عن الغليان المكتوم، يتربصون به الفرص، ويدبرون له المؤامرات، ~~ويبيتون فى ظلام الليل ما أعياهم التصريح به فى وضح النهار، ثم ينقضون على ~~أعدائهم الغافلين انقضاض الثائر الذى أخذ أهبته لكل شىء فلن يترك لخصمه ~~منفذا! وقد كانت دخيلة المسلمين من أبناء يثرب تنطوى على أشياء كثيرة، وهم ~~يخرجون من مدينتهم صوب مكة فى موسم الحج الذى يضم الآلاف من المشركين ولا ~~يضم إلا القلائل من الموحدين. أولئك الذين آمنوا على وجل ولم ينج أكثرهم من ~~أسواط الفتنة التى تلهب الظهور! نعم خرج أبناء يثرب فى هذا العام، وفى ~~أفئدتهم عزم جديد على مغامرة كبرى يقومون بها فى سبيل الدين الذى اعتنقوه. ~~إن أصداء البيعة الأولى لا تزال ترن فى آذانهم، وحال صاحب الدعوة ومن معه ~~فى مكة لا ينفك يخامر مشاعرهم، والمستقبل المبهم لهذا الصراع العنيد بين ~~الدين المدبر والدين المقبل يشغل المؤمنين والكافرين جميعا! وإذا كانت سطوة ~~المتكبرين فى مكة قد آذت الكثير، فإن جرأة القادمين عليهم من الخزرج يجب أن ~~تفعل الكثير كذلك، وإذن فليفكر الأنصار فى استنقاذ الدعوة وصاحبها من هذا ~~البلد الظالم أهله إلى بلد آخر وإلى عهد آخر. * * * * الاجتماع : غصت مكة ~~بالحجيج على العهد بها فى كل عام. وتوقع العباس بن عبد المطلب أن تأتيه ~~أنباء ابن أخيه وهو يعرض نفسه على الوفود القادمة، فلا ms141 يلقى منها إلا ~~الردود ص _175 PageV01P175 ~~السليطة، ولكن العباس أحس بأن الحال هذه المرة تستدعى التفاته وتيقظه، فقد ~~لمح من بعيد حركة خفية تدور فى صفوف المسلمين. وتأخذ قدرا من انتباه الرسول ~~عليه الصلاة والسلام. ومع أنه لم يكن مؤمنا بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام ~~، فإنه كان مؤمنا بخلقه، وعارفا بأن ابن أخيه لن يتوانى فى عمل كل شىء يعود ~~على دعوته بالخير والنجاح، ولو غادر مكة وانضم إلى أى قبيل من العرب يعينه ~~على إدراك غايته، وها هو ذا يلمح بوادر ما يخشى! أن ابن أخيه سيجنح إلى خطة ~~جديدة تجعله هدفا لقريش ومن ورائها سائر العرب. ودفعته خشيته وشفقته إلى أن ~~يتعرف الأمر ويتتبع سيره! # وحان موعد اللقاء المضروب، فخرج العباس فى جنح الليل يمشى الهوينى نحو ~~العقبة. # كانت ليلة قمراء يوشك القمر أن يكون بدرا، وقد خيم على المكان صمت الترقب ~~والتحفز، وبين الحين والحين يسمع همس خافت، واقتراب أشخاص جدد إلى مكان ~~الاجتماع، وما أن يتم التعارف القصير حتى يأخذ كل موضعه فى هدوء. # فلما انقضى الهزيع الأول من الليل كان هناك نحو سبعين شخصا يلتفون حول ~~صاحب الرسالة العظمى الذى تسلل إليهم خفية كذلك، وتهيأ للاستماع إلى أخطر ~~قرار فى تاريخ الدعوة الإسلامية. وبعيدا عن مكة السامرة حول أوثانها، ~~الغارقة فى ضلالها وغلوائها، اجتمع أولئك النفر الكريم من مسلمى يثرب، ~~يتألق فى عيونهم بريق الحماسة الملتهبة، وتتأجج فى صدورهم عواطف التضحية ~~والمقاومة، ثم قطع حبل الصمت صوت العباس الجهورى يقول: "يا معشر الخزرج إن ~~محمدا منا حيث قد علمتم فى عز ومنعة، وقد أبى إلا الانقطاع إليكم، فإن كنتم ~~ترون أنكم تفون له بما دعوتموه إليه ومانعوه فأنتم وذلك، وإن كنتم ترون ~~أنكم مسلموه فمن الآن فدعوه ". # * * * # * مناقشات: PageV01P176 # واستمع الأنصار لهذه العبارة وما تنطوى عليه من علائم الوجل والتحدى، ثم ~~وجهوا خطابهم للعباس: قد سمعنا ما قلت، ثم قالوا: فتكلم يا رسول الله وخذ ~~لنفسك وربك ما أحببت. فقام الرسول عليه الصلاة والسلام وتلا آيات القرآن ms142 ~~ورغب فى الإسلام، واستثار الهمم للعمل له، والكفاح فى سبيله، واستوثق من ~~الانتصار لدعوته، والاستمساك بشخصه، والالتفاف حوله، واعتباره واحدا من ~~حرماتهم التى يدفعون # ص _176 # عنها إلى الموت، "تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم " فقام البراء ~~ابن معرور- أحد زعمائهم، فأخذ بيده وقال: والذى بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع ~~منه ذرارينا، فبايعنا - والله لنحن أهل الحرب! ولكن أبا الهيثم أحب كذلك أن ~~يستوثق لقومه بعد هذا التحالف الذى يبت فى مستقبلهم، وفى علائقهم بغيرهم، ~~فقال: يا رسول الله... إن بيننا وبين اليهود حبالا وإنا قاطعوها، فهل عسيت ~~إن أظهرك الله عز وجل أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ # فتبسم الرسول عليه الصلاة والسلام لهذا الاعتراض وقال: "بل الدم الدم، ~~والهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم، أسالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم، ~~أخرجوا إلى اثنى عشر نقيبآ أبايعهم يكونون على قومهم كفلاء". # غير أن العباس بن عبادة شاء أن يزيد الأمر وضوحا، وألا يترك سحر الموقف ~~يأخذ بالباب قومه فى غمرة من حماسة الإيمان وصمت الصحراء وهدأة الليل فقال ~~بصراحة: # يا معشر الخزرج.. هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ تبايعونه على حرب ~~الأحمر والأسود من الناس! فإن كنتم ترون أنه إذا نهكت أموالكم مصيبة ~~وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن فدعوه فهو والله خزى الدنيا والآخرة. ~~قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول ~~الله، قال: الجنة، قالوا: ابسط يديك!!. # * * * # * استعداد: PageV01P177 # أدرك العباس أن الأمر جد. فإن ابن أخيه بين أقوام تربطهم به من صلات ~~الإيمان ما يزيد على صلات النسب القريب والدم المشترك، وتبعت عيناه القوم ~~وهم ينصرفون من مجتمعهم ويعودون إلى رحالهم. فأيقن أن هذه الرحال سوف تضم ~~غدا رسول الله عليه الصلاة والسلام لا بين ربوع "منى" ولكن بين أنحاء "يثرب ~~" نفسها، وشعر بأن الدين الجديد قد دخل مرحلة انتقال خطيرة، وطلع الصباح ~~بعد هذه الليلة الرائعة، ويظهر أن غريزة الشعور بالخطر جعلت قريشا تشم ~~رائحته، وتتوجس خيفة من حدوث مؤامرة يكونون بعد قليل ضحيتها ms143، فذهب جماعة من ~~عظماء قريش إلى الخزرجين يتساءلون: هل حقا جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه ~~وتبايعونه على حربنا؟. # ص _177 PageV01P178 ~~قال المشركون من الخزرج: لا، وصمت المؤمنون! وقال التاريخ بلسان حاله ~~الساخر: سوف تعلمون. * * * * وفاء.. هذه بيعة أوحي بعقدها الإيمان الحى، ~~وظلت- من بعد- تجرى على منطقه الصادق أعوإما طوالا، بل ظلت توجه حياة ~~أصحابها وتؤثر فى مسلكهم حتى غادروا الحياة جميعا ما بين مجاهد متعب ومجاهد ~~شهيد!! عاهد الأنصار على حماية الدعوة وصاحبها، فهل غيرت السنون وأحداثها ~~فتيلا من ذلك العهد الذى قطعوه على أنفسهم بجوار مكة؟، وهى يومئذ موطن ألد ~~عداة الإسلام...؟! كلا.. لقد بذلوا دماءهم قطرة قطرة، وبذلوا أموالهم درهما ~~درهما، وفتحوا دورهم للنبى عليه الصلاة والسلام وصحبه المهاجرين معه، وغبرت ~~أقدامهم رمال الصحراء وهم ينافحون لحماية الدين الذى آمنو به، واستماتوا فى ~~إعلاء كلمته، حتى أن المسلمين لما هزموا أول الأمر فى موقعة حنين، وشعر ~~الرسول صلى الله عليه وسلم بالخطر، أمر العباس- وكان قد أسلم- فنادى: يا ~~معشر الأنصار.. يا أصحاب العقبة! لقد كانت هذه البيعة بعد عشرة أعوام كهف ~~الإسلام، وموئله الذى يفزع إليه عند الشدائد، ولقد أغنوا فى هذه الموقعة ما ~~لم تغن جماهير الأعراب المؤلفة قلوبهم، فلما وزعت الغنائم، وقسمت أعراض ~~الدنيا، نال أبناء الدنيا الكثير، وحرم الأنصار ما أفيض على غيرهم إفاضة، ~~ثم طيب خاطرهم من ذلك كله قول الرسول عليه الصلاة والسلام لهم: "أفلا ترضون ~~أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم، والذى نفسى ~~بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار ~~شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء ~~الأنصار". ص _178 PageV01P179 ~~ضمانة النصرفى هذا الإيمان اكتنفت الأحزاب آطام "يثرب " ولمعت عيون ~~الكافرين الوافدين من كل فج ببريق الإصرار على أن يستردوا من المسلمين ~~ثأرهم، وعلى أن يضربوا محمدا عليه الصلاة والسلام وأنصاره ضربة تطوى أعلام ~~هذا الدين الناهض، وانطلقت الخيل تهمهم حول حوافى الخندق المحفور فلا يردها ~~إلا الموت الجاثم ms144 فى قراره السحيق وامتدت الخيام حول لابتى المدينة تضرب ~~حصارها الخانق، وفى صدور أصحابها غل مكظوم، يود لو تنطبق هذه الجبال ~~الشامخة حول مهجر المسلمين المجاهدين فتسلبهم الروح المنطوية على الحياة ~~والجهاد معا! وفى داخل المدينة حال غريبة النقائض، فالإيمان المذخور فى هذه ~~القلوب الكريمة كان من شأنه أن يشيع الثقة فى جوانب النفس. وينتظر من خلال ~~الغيب بشائر النجاة المرجوة فى جوار الله، ولكن أنى هذا والواقع المفزع ~~يتربص بهم على مدى سهم، وجهاد الأعوام الطوال يوشك أن يأتى عليه هذا الحصاد ~~الشيطانى من مناجل قريش وحلفائها: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ ~~زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي ~~المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا). وفى هذه الساعة الحرجة، وجد الضعفاء من ~~مرضى القلوب جوا يتنفس فيه نفاقهم، ويتحرك فيه لؤمهم، وماذا عليهم إذا ~~استغلوا هذه المفارقة التى يعانى المسلمون شدتها ليضحكوا ملء أفواههم، ~~وليرسلوا النكات الساخرة من قوم كانوا إلى أمد قريب يتحدثون عن مبادئهم ~~التى ستسود الدنيا، وهم اليوم لا يأمن أحدهم أن يخرج من داره، بل هم- كما ~~يرجف المنافقون- سيكونون بعد أيام ما بين قتيل وأسير. واليهود؟ لقد نقضوا ~~معاهدة الصداقة فى هذه الفترة العصيبة، وسعى رسلهم إلى قريش يفاوضونهم فى ~~تدبير هجوم مشترك على أصدقاء الأمس.. وهكذا أحكم أعداء الله مؤامراتهم ~~وبيتوا وقيعتهم: ص _179 # (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين). # * * * PageV01P180 # وكان الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام فى هذه الأيام على ما يعهده أصحابه ~~رسوخا وسموا، عملت ذراعاه فى حفر الخندق وتهشيم صخره ورفع ثراه، واختلط ~~العرق المتصبب بالغبار الثائر من هذه الجهود المتواصلة، وكانت حناجر ~~المجاهدين ترتفع بين الحين والحين بغناء حماسى، تستريح على نشيده نفوسهم ~~المتعبة، ويتجدد على يقينه نشاطهم الدائب: # والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا # فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا # وحقا.. كانت حدود المدينة على من بها من المؤمنين أشبه بجدران المصيدة ~~ولكن فى وسط هذه الأمواج المقنطة كان فى المدينة رجال ms145 تتساقط هموم الدنيا ~~عند أقدامهم... # التفوا حول الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام ، ولا شىء فى قلوبهم إلا ~~العزم المبرم على مواصلة الكفاح معه، والسير فى أنحاء المدينة المهددة ~~يغالبون دعاية المترددين، ويبثون معانى الرجاء فى نفوس الناس، كأن لسان ~~حالهم ينطق: بأنه علينا أن نثبت قدر ما تطيقه قوى البشر، وعلى الله- بعد- ~~كشف الكربة وإزاحة الغمة: # (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ~~ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما). # أهى الوقيعة بين قريش واليهود، أم هو التفكك بين قبائل العرب تفككا جعل ~~صفوفهم لا ترغب فى إطالة الحصار؟ أم هو سوء الأحوال الجوية التى عاكست ~~الهاجمين من ريح وبرد؟ أم هى أشياء أخرى غير ذلك؟ قل ما شئت فى تعليل ~~الهزيمة التى نزلت بأعداء الإسلام فلطمت خيلهم، واقتلعت خيامهم، وأذلت ~~كبرياءهم، وردتهم خائبين، ولكنك مهما قلت فلن تصل إلى سبب عقلى يعتمد على ~~مقدمات مادية ظاهرة لهذا النصر الذى سيق إلى محمد عليه الصلاة والسلام ~~وأصحابه، وإنك تصيب صميم الحق إذا قلت إن هذه النعمة المسبغة على المسلمين ~~كانت تفضلا أعلى، ساقه الله الذى يذل من يشاء ويعز من يشاء، كانت نصرا آتاه ~~الله هذه الطائفة المصابرة # ص _180 PageV01P181 ~~المحتسبة الموقنة.. إن اليقين الإسلامى قد كفل من التماسك بين أبنائه ما ~~جعل بناءهم تهزه الحوادث هزا، ولكن لا تسقط منه لبنة، ولا تحدث فيه فجوة، ~~فبقى على هول الأحداث شامخا شاهقا يرتد عنه الطرف وهو حسير!. * * * ورجع ~~الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بيته ليخلع عنه درعه ويستجم قليلا بعد هذا ~~الجهاد الشاق، فألقى الله فى روعه أن جبريل لم يخلع درعه بعد، لقد سبقك إلى ~~ديار اليهود الغادرين يحاسبهم على ما قدموا، فعاد المسلمون كرة أخرى ~~يستأنفون الحرب والنضال، ولكنهم فى هذا الدور من المعركة مهاجمون محاصرون ~~بعد أن كانوا مدافعين محصورين: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا ~~خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ~~ظاهروهم من أهل الكتاب من ms146 صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون ~~وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله ~~على كل شيء قديرا). وبعد.. فإذا ظن أحد أن القوة المادية هى كل ما ينبغى أن ~~نحرص عليه ونسعى إليه، فلتكن له من هذه الموقعة عبرة.. إن المسلمين اليوم ~~بحاجة إلى الإيمان اليقظ قبل حاجتهم إلى أسباب الغلب المادى. ص _181 PageV01P182 ~~موقعة بدر * هذان خصمان اختصموا فى ربهم: ترمق الأعين سيرة النبى الكريم ~~وصحابته الأبرار لتقرأ فى صحائفها معالم الأسوة الحسنة، ولتلمح فى ثناياها ~~طرائق الجهاد المنطوى على أروع صور التضحية وأصدق مظاهر الكفاح، لا لمغنم ~~زائل، بل فى سبيل الله، وإعلاء لكلمته. وموقعة بدر- من بين أحداث السيرة ~~الحافلة- ما إن يطالع المرء أنباءها ويستعرض مقدماتها ونتائجها حتى يحس لها ~~منزلة خاصة، وحتى يدرك أن التاريخ أودع فى فصولها سرا تكتنفه الهيبة، وجعل ~~من أدوار القتال فيها، ومن الإعداد له ثم الانصراف عنه، موعظة خالدة لا ~~تفتأ تتجدد ذكراها ما بقى فى الدنيا صراع بين الظلام والنور. إن كتب السنة ~~أحصت الذين اشتركوا فى بدر من جند الحق وسجلت أسماءهم واحدا واحدا، فأصبح ~~كل اسم بهذه المنقبة التى لازمته خالدا تتناقله الأجيال المتعاقبة كما ~~تتناقل كلمة الحكمة العالية، أو كما تتناقل أحرف المثل السائر، ولكن لما ~~هذا؟ ولماذا تأخذ غزوة بدر ذلك الوصف المجيد وهذا الأثر البعيد؟ وكيف تكون ~~بدر موقعة حربية معدودة مع أنها لم يحتشد لها إلا بضع مئات من الناس؟ مئات ~~تعد على الأصابع! ولم تستغرق إلا يوما أو بعض يوم، على حين نجد تاريخ ~~الحياة فى ماضيها وحاضرها زاخرا بالوقائع التى تساق إليها الألوف المؤلفة، ~~والتى تظل دائرة الرحى الشهور الطوال، تعصف عليها ريح الموت آناء الليل ~~وأطراف النهار. فما تكون موقعة بدر إلى جانب هذه المواقع الطاحنة؟. لا شك ~~أن هذا كلام له بواعثه، بل له وجاهته عند من يقيسون الأشياء بأحجامها، وعند ~~من ينظرون فى الأمور إلى كمها لا إلى كيفها، بلى إننا نضع بدرا فى ms147 عداد هذه ~~المعارك الهائلة، وقد نرى كفتها ترجح بالكثير منها، وما ظنك بموقعة يكون ~~مصيرها هو الفاصل فى عبادة الله على هذه الأرض، هل ستبقى أم ستفنى؟ ويشعر ~~قائد المعركة هذه الحقيقة الحاسمة الخطيرة فهو يؤكدها بقوة. ص _182 PageV01P183 ~~روى أصحاب السيرة أنه "لما كان يوم بدر نظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ~~المشركين وهم نحو الألف، وإلى أصحابه رضى الله عنهم وهم ثلاثمائة وبضعة عشر ~~رجلا ثم استقبل القبلة ومد يده وجعل يهتف: اللهم آتنى ما وعدتنى، اللهم ~~أنجز لى ما وعدتنى، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تعبد فى ~~الأرضي " وما زال يهتف بربه مادا يده حتى سقط رداؤه عن منكبيه، وحتى نزل ~~الوحى مطمئنا له: (سيهزم الجمع ويولون الدبر). نعم.. وما ظنك بموقعة يكون ~~القتال فيها بداية لسلسلة من المعارك تشتعل نيرانها فى البر والبحر، ويحتدم ~~النزاع فيها بين الحق والباطل، وتهتم بخوضها والتعبئة لها أمم المشرق ~~والمغرب، هذه السلسلة من المعارك التى خاضها المسلمون- من بعد- فى فارس ~~والروم وفى الصين والأندلس.. لا تحسب أن الصلة بينها وبين بدر مقطوعة أو ~~ضعيفة، كلا.. إنها صلة النسب المتين بين الأصل ونتائجه أو بين الأب وذريته. ~~فكأن أول سيف شهر فى بدر إيذان بابتداء النضال المسلح بين الباطل المتكبر ~~والحق الذى يريد أن يقمعه، كلما انتهت معركة قامت أختها... ولذلك يقول على ~~بن أبى طالب: "أنا أول من يجثو للخصومة بين يدى الرحمن يوم القيامة، ذلك أن ~~الله يقول:(هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ~~يصب من فوق رؤوسهم الحميم).وهؤلاء الخصوم- كما تحدث أبو ذر- هم على وصحبه ~~الذين برزوا يوم بدر يجالدون بسيوفهم طائفة من أئمة الكفر فيقتلونهم جميعا، ~~ويفقدون أحدهم- عبيدة بن الحارث- ليسبقهم إلى الجنة، ثم يدركه بعد قليل ~~حمزة فى أحد، ثم يدركه بعد سنين على.. ثم تتتابع سلسلة الشهداء من أجناد ~~الحق رضوان الله عليهم أجمعين حتى قيام الساعة. * * * * أصابع القدر: موقف ~~الطرفين ms148 فى هذه المعركة يمثل التناقض الكامل، فإن المشركين قد خرجوا فى ~~تعبئة تامة، وفصلوا عن مكة وهم متأهبون لقتال عنيف. ومع انتهاء السبب الذى ص _183 PageV01P184 ~~خرجوا من أجله فإنهم أصروا على القتال الذى استعدوا له ووثقوا بنتيجته ~~ورغبوا أن يقرع آذان العرب نبؤه. أما المسلمين فقد كانوا يهاجمون طرق ~~التموين التى يعتمد عليها أهل مكة ويفرضون نوعآ من الحصار الحربى على ما ~~يستند إليه هؤلاء الطغاة من موارد غنية وهم قد خرجوا لاعتراض قافلة لا شوكة ~~لها، يعتبر الاستيلاء عليها غنيمة باردة، ولذلك لم يأخذوا الأهبة لقتال، ~~حتى فاجأتهم الحوادث بنجاة القافلة، وبمجىء صناديد قريش وأبطالها يتحدون ~~هؤلاء المعترضين، ولم يكن بد من قبول هذا التحدى وإلا ضاعت هيبة المسلمين، ~~وواجه النبى صلى الله عليه وسلم الموقف بما يتطلبه من إيمان وثقة، غيرأن ~~كثيرا من المسلمين تساءل وحاول التملص، إذ كيف يواجه هذا العدو الذى لم ~~يستعد له؟ (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * ~~يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون). عدم ~~التهيؤ ثم قلة العدد ثم سوء الموضع الذى وجد المسلمون أنفسهم فيه، فقد ~~نزلوا بكثيب أعفر، تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب. ونزلوا على غير ماء على ~~حين سبقهم المشركون إلى ماء بدر! ولكن القدر كان يدفع الأمور فى مجراها ~~الذى أعده إعدادا محكما، فها هو ذا قد جمع بين الفريقين على غير موعد: (ولو ~~تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا). وها هو ذا ~~يغرى كليهما بالآخر ويجعله يرى عدوه ضيئلا قليلا: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم ~~في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ~~ترجع الأمور). وها هو ذا يبعث الشيطان لينفخ روح الغرور فى أتباعه وليصيح ~~بينهم: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم). ص _184 PageV01P185 ~~أما فى معسكر المؤمنين فإن الأمور كانت تجرى بسرعة عجيبة، فقد قام ~~المهاجرون يتبايعون على الموت. وأحس الأنصار بأن الكلمة الفاصلة لهم ms149 فى خوض ~~هذه المعمعة، وإذا زعيمهم سعد بن معاذ يقول: "يا رسول الله.. قد آمنا بك ~~وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على هذا عهودنا ومواثيقنا، ~~على السمع والطاعة، فامض لما أردت! فوالذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا ~~البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا أحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا ~~وعدوك، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله عز وجل يريك منا ما ~~تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله ". # وهكذا جرفت موجة الإيمان عوامل التردد كافة، وأنست المسلمين ما بينهم ~~وبين عدوهم من فوارق مادية شاسعة. وأملوا فى الله نصره القريب. # ثم تبدل الحال، وأمطرت السماء، وتغير الجو، واستقى المسلمون واستراحوا من ~~عناء يومهم ونشطوا للقتال المنتظر بعد ما جمدت الرمال تحت أقدامهم: # (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب ~~عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام). # *** # * القتال: # وجاءت الساعة الرهيبة، ودار القتال، ومشى ملك الموت وئيدا يقط رقبة ~~الكفر، وتنجست الرمال العفراء بدم الطائفة التى طالما آذت الله ورسوله، ~~ووطئت أقدام المسلمين خدودا وجباها، طالما استنكرت أن تسجد لله رب ~~العالمين، وتحركت سواعدهم، تطيح بهامات طالما استخفت بحق الله، واستكبرت ~~على الإيمان والمؤمنين. يقول شاهد عيان لأبى لهب يخبره بما كان: "لا شىء يا ~~عماه! ما كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف ~~شاءوا... لقينا رجالا لا يتلقاهم شىء ولا يقوم لهم شىء". PageV01P186 # ووقف النبى صلى الله عليه وسلم على حافة بئر ضمت رفات جبابرة الأمس ينادى: ~~"يا أبا جهل، يا أبا العاص، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإنا وجدنا ما وعدنا ~~ربنا حقا ". ماذا جرى؟ وكيف انتهى القتال بهذه النتيجة الغريبة!؟ # ص _185 # الحقيقة التى يجب أن يلتفت إليها المسلمون اليوم أن النصر جاء للمسلمين ~~فى بدر لأنهم كانوا أجدر أناس به وأحوج الناس إليه. فمن الله عليهم وبسط ~~يده إليهم بثمراته الغالية. وللنصر فى كل حرب أسباب ms150 فعالة لا يد للبشر فيها ~~إلى جانب الأسباب التى لابد منها، فللحالة الجوية دخل عميق فى تصريف ~~المعارك، وقد شاهدنا كيف يقف البرد زحف الجيوش، وكيف تقف السحب هجوم ~~الطائرات، وكيف يؤثر هذا وذاك فى النهاية الحاسمة، وللحالة المعنوية أثر ~~قاهر، فروح الإصرار والعناد وامتلاء القلوب بالأمل والالتفات المحكم نحو ~~الغاية الواحدة، هذه لاشك، غير روح الانحلال والخوف وإساءة الظنون ~~بالمستقبل وظهور التخاذل والخيانات! وحالة الجو بيد الله وحده، وحالة ~~القلوب كذلك "القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن " أضف إلى ذلك فعل القدرة ~~العليا التى إذا تدخلت جعلت وميض السيف يخطف الأبصار وجعلت حده لا يخطئ ~~مجزا، ولا يغادر عنقا إلا فصله، وجعلت من طريقة التشكيل، واستغلال الفرص، ~~وتوجيه الهجوم، واختيار الوقت له.. إلى آخره، جعلت من ذلك كله السبيل ~~الفريدة للنصر العزيز، وقد وفر الحق لحزبه كل هذه الأسباب بعد ما أدوا ~~واجبهم كاملا: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله ~~رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم * ذلكم وأن الله موهن ~~كيد الكافرين). إن معركة بدر فرضتها الظروف على القيادة الإسلامية فرضا لم ~~يكن فى الحسبان، وشاء الله أن يجعل نتيجتها مكافأة رائعة لقوم ظلوا بضعة ~~عشر عاما مؤمنين مصابرين، وعقابا مريرا لقوم أبطرهم الطغيان، وأغراهم ~~بالعدوان: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم PageV01P187 ~~تشكرون). كان موقف المسلمين فى المدينة بحاجة إلى دعم وتقوية بعد ما تكاثرت ~~فق اليهود، ودسائس المنافقين، وماذا يصنع المهاجرون الغرباء عن موطنهم، ~~والأنصار الغرباء بعقيدتهم بين جماهير الأعراب المتألبين حولهم من أقصى ~~الجزيرة إلى أقصاها؟ لذلك جاء نصر بدر إنقاذا أى إنقاذ: (واذكروا إذ أنتم ~~قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ~~ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون). ص _186 # كان هذا الفوز دعما ماديا وأدبيا لكيان الأمة الإسلامية فى أول أمرها، ~~وكان المسلمون قد صابروا الأيام، وعالجوا الشدائد، وهم ثابتون على عقيدتهم ~~ماضون فى حمايتها، يقتحمون العقبات، ويواجهون الغمرات، فلما ضمتهم ms151 ساحة ~~القتال، وواجهوا أعداءهم على ما رأينا آنفا، نظر إليهم الرسول صلى الله ~~عليه وسلم نظرة عميقة ورق لهم قلبه الكبير. عن عبد الله بن عمرو قال: "خرج ~~رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فى ثلاثمائة وخمسة عشر رجلا من ~~أصحابه، فلما انتهى إليها قال: اللهم إنهم جياع فأشبعهم، اللهم إنهم حفاة ~~فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم " . ففتح الله لهم يوم بدر، فانقلبوا حين ~~انقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بحمل أو حملين واكتسوا وشبعوا. * * * لقد ~~أثلج هذا النصر أفئدتهم، ونزل على أنفسهم كما ينزل الشراب البارد الحلو بعد ~~ظمأ طال جفافه، ويبست منه الحلوق والأحشاء. وقد كان يوما له ما بعده... ص _187 PageV01P188 ~~قصة أسير مسلم سيق الأسرى إلى قصر الأمير، وكانت وجوههم ساهمة طبعها الحزن ~~بمعالمه الكئيبة، وكيف لا يألمون لهذا المصير السىء وهم يخترقون بلاد الروم ~~منكسرين لا منتصرين كما كانوا يأملون؟. ونظروا إلى زميلهم "واصل " الشاب ~~الفقيه الذى ترك دراسته بدمشق واكتتب فى هذه الغزاة الفاشلة. وكان "واصل " ~~يبدو غير مكترث بما حدث، فقد استمع إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم"ما ~~من سرية ترجع غانمة إلا تعجلت أكثر أجرها، وما من سرية تروع وتحرج إلا ~~استوفيت أجرها كله " ولكن "واصلا" كان مكتئبا لأمر واحد، فهو يعلم أن ~~الأمير بشيرا الذى يساقون إلى قصره كان مسلما ثم ارتد، وأن ثمن ردته هذه ~~الإمارة العريضة التى يتطاول فيها! واستعرض بشير الأسرى وكانوا ثلاثين، ~~سألهم عن دينهم، وجادلهم فى بعض عقائده، فلما جاء دور "واصل " أبى أن يرد ~~عليه بشىء فقال له: ما لك لا تجيبنى؟ فقال: لست مجيبك اليوم بشىء، فقال: ~~إنى سائلك غدا فأعد لى جوابا، وجاء الغد، وأدخل "واصل " على الأمير الذى ~~بادره الحديث بعد حمد الله والثناء عليه قائلا: عجبا لكم معشر العرب حيث ~~تكفرون بألوهية عيسى وتقولون: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ~~ثم قال له كن فيكون). وما يستوى عبد ورب..!! ورأى "واصل " أن يستأمن ms152 لنفسه ~~قبل أن يجيب، فاستوثق لحياته قدر ما يدافع عن عقيدته، فلما اطمأن قال ~~لمحدثه: أما حمدك الله وثناؤك عليه فقد أحسنت الصفة، وهذا مبلغ علمك ~~واستحكام رأيك، والله أعز وأجل مما وصفت، وأما ما ذكرت من صفة هذين الرجلين ~~عيسى وآدم فقد أسأت وأخطأت! ألم يكونا يأكلان ويشربان، ويبولان ويتغوطان، ~~وينامان ويستيقظان، ويفرحان ويحزنان؟. ص _188 PageV01P189 ~~قال بشير: بلى. قال واصل: فلما فرقت بينهما؟. قال: لأن لعيسى روحين اثنين، ~~روح يبرئ بها الأكمه والأبرص ويعلم الغيوب ويصنع بها المعجزات، وروح لما ~~ذكرت من أحوال الناس!. - روحان اثنان فى جسد واحد؟. قال بشير: نعم. قال ~~واصل: فهل كانت القوية منهما تعرف موضع الضعيفة. قاتلك الله! تعلم أو لا ~~تعلم.. ماذا تريد؟. أريد إن كانت تعلم فلماذا لا تطرد عنها قاذورات الضعف ~~البشرى وآفاته! وإن كانت لا تعلم فكيف يطلع الغيب من يجهل مجاوره فى جسد؟. ~~فسكت بشير. واستطرد واصل: برضا عيسى أم بسخطه قدستم الصليب؟. قال بشير: هذه ~~من تلك، ماذا تريد؟. فأجاب؟ إن كان بسخطه فما أنتم بعبيد يعطون ربهم ما ~~سأل، وإلا فبالله، كيف تعبدون ما لا يدفع عن نفسه العدوان؟ قال بشير: أراك ~~رجلا قد تعلمت الكلام فسآتيك بمن يخزيك الله على يديه. وأمر باستدعاء رجل ~~من علماء القسس ليجادل هذا الشيطان، فلما حضر القس قال له بشير: هذا العربى ~~له رأى وعقل وأجمل فى قومه وأحب أن يدخل ديننا! فأقبل القس على واصل يحتفى ~~به ويمتدحه، ثم قال: غدا أغطسك فى المعمودية غطسة تخرج منها كيوم ولدتك ~~أمك. قال واصل: فما هذه المعمودية؟ - ماء مقدس. - من قدسه؟. - أنا ~~والأساقفة من قبلى. - فهل كانت لكم ذنوب وخطايا؟ أم أنت وهم مبرءون من ~~النقص؟. - كلنا فعلنا الخطايا وليس هناك مبرأ إلا يسوع. - فكيف يقدس الماء ~~من لم يقدس نفسه؟. فحار القس ثم استدرك: إنها سنة عيسى بن مريم غطسه يوحنا ~~بالأردن، ثم مسح له رأسه ودعا له بالبركة!. ص _189 PageV01P190 ~~فقال واصل: واحتاج عيسى إلى تعميد يوحنا وأن يمسح له ms153 رأسه ويدعو له ~~بالبركة؟ فاعبدوا يوحنا إذن فهو خير لكم من عيسى. فسكت القس، واغتاظ بشير ~~وصاح به: قم! دعوتك لتنصره فإذا أنت قد أسلمت.. ونمى أمر الأسير الفقيه ~~ومحاوراته الطريفة إلى الملك وكبير بطارقته، فطلبه إليه وسأله: ما الذى ~~بلغنى عنك من انتقاصك لدينى ووقيعتك فيه؟ قال واصل: إنى لم أجد بدا من ~~الدفاع عن دينى! فتدخل كبير البطارقة محاولا بوقاره وهيمنته الروحية أن ~~ينهى هذا الامر، ونظر واصل فرأى تحت أردية الكهنوت جسدا متين البناء، عارم ~~القوة، فسأل الملك بغتة: هل للحبر الأعظم من زوجة وولد؟ وعرف الملك مثار ~~التساؤل فقال له: صه.. هذا أزكى وأطهر من أن يتصل بامرأة! أو يستمتع بجسد. ~~فقال "واصل " على الفور: تأخذكم الغيرة من نسبة المرأة إلى هذا وتزعمون أن ~~رب العالمين سكن جوف امرأة وعانى ضيق الرحم وظلمة البطن عجبا! تعبدون عيسى ~~لأنه لا أب له، فلم لا تضمون إليه آدم فيكون لكم إلهان. أو عبدتموه لأنه ~~أحيا الموتى؟ فعندكم فى الإنجيل أن حزقيل مر بميت فأحياه وتكلم معه، فضموه ~~كذلك إلى شركة الآلهة!. أو عبدتموه لأنه أراكم المعجزات؟ فهذا يوشع رد ~~الشمس إلى فلكها إذ كادت تغرب، أو عبدتموه لأنه عرج فى السموات ؟ فهؤلاء ~~ملائكة الله مع كل شخص أعداد يتناوبون بالليل والنهار، أو... فقاطعه ~~البطريق: اخسأ يا شيطان.. هذا التجديف أحل بك القتل! فقال: إنى أسير.. وثم ~~ورائى من إذا بلغه خبرى لم يمنعه مسلككم معى من أن يثأر لى... أيها الملك: ~~سل هؤلاء الأساقفة عن الأصنام التى فى كنائسكم هل تجدون لها فى الإنجيل ~~مبررا؟ فإن كانت فى الإنجيل فلا كلام لنا وإلا فما أشبهكم بالوثنيين. قال ~~الملك- وقد أخذته دهشة، وانجلت عن بصره غشاوة-: صدقت قد يعقل ما تقول! (إن ~~الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم * وتلك الأمثال ~~نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون). قال القس: هذا شيطان من PageV01P191 ~~شياطين العرب أخرجوه من حيث جاء، ولا تقطر من دمه قطرة فى بلادنا ms154 فتفسد ~~علينا ديننا. ص _190 # سعد بن أبي وقاص تمر بالأمم فترات كئيبة، يتولى الأمور فيها من لا قدم له ~~ولا سابقة، فتراه أميرا يسوس الناس ويوجه الأمور، وهو لا يملك من أنصبة ~~الكفاية والأمانة ما يجعله لذلك أهلا. على حين ترى أولى الرأى والحجا ~~منزوين غامضين لا يقدرون على شىء، ولا تستفيد أمتهم من عبقرياتهم شيئا. ~~ولعل ما يزيد الطين بلة فى هذه النقائض، أن ترى ذباب البشر يحفون بأولى ~~الحول والطول متملقين متمدحين ، وأن تراهم فى الوقت نفسه يتناولون الكبار ~~بألسنة حداد، مطبقين المثل القائل: "إن الدنيا إذا أقبلت على أحد أعارته ~~محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه ". ويا لله من تهاوى الجماهير ~~فى هذه العجائب!! إن للجماهير تصرفات تحنق الحليم، وآراء تبعد عن السداد، ~~وليس أدل على ذلك من أن أقواما من أهل الكوفة تطاولوا على مكانة سعد ~~فاتهموه... بأنه لا يحسن الصلاة! ليعزلوه عن الإمارة. سعد الذى اختاره عمر ~~ليكون على حد التعبير الحديث "القائد العام " للجبهة التى افتتحها المسلمون ~~شرقا لهدم فارس، وفارس يومئذ نصف ضلال الأرض، ونصف الدائرة الكافرة التى ~~حطم المسلمون الأولون أسوارها الهائلة، ثم انسابوا من ورائها فلم تردهم إلا ~~شواطئ البحار. سعد الذى رشح لإمارة المؤمنين فى العصر الذى لا يرشح فيه ~~لهذا المنصب الأجل مغمور أو ضعيف! والذى قاتل يوم أحد قتال المستبسلين حتى ~~جمع له الرسول صلى الله عليه وسلم بين والديه كليهما، وهو يقول له: "ارم ~~فداك أبى وأمى".. ذلك سعد الذى يستمع إلى أكاذيب خصومه فيجيب فى إيمان: ~~"إنى لأول العرب رمى بسهم فى سبيل الله! والله إنا كنا لنغزو مع رسول الله ~~صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ما ترعاه الغنم وما بنا أحد ذو ملق! ثم ~~أصبحت بنو أسد تعزرنى على الدين!! لقد خسرت إذن وضل عملى". ص _191 PageV01P192 ~~وحاشا لسعد، ولكنها مزالق كثير من الناس فى كل عصر لا ينجو منها العظماء، ~~ولو كانوا كابن أبى وقاص. # * * * # * إسلام سعد! # أسلم سعد فى ms155 السابقين الأولين من نقباء الدعوة الأولى وأركانها المكينة ~~فكان واحدا من هذه الطائفة التى رباها القرآن ومهدها الرسول صلى الله عليه ~~وسلم، والتى لم تزد السنون بنيها إلا وفاء وجهادا، حتى تنزل الوحى مشيدا ~~بكرامتهم وسابقتهم فى غير آية. يقول سعد: رأيت فى المنام قبل أن أسلم بثلاث ~~كأنى فى ظلمة لا أبصر شيئا، إذ أضاء لى قمر فاتبعته، فكأنى أنظر إلى من ~~سبقنى إلى "ذلك القمر، فأنظر إلى زيد بن حارثة، وعلى بن أبى طالب، وأبى ~~بكر، وكأنى أسألهم متى انتهيتم إلى هنا؟ قالوا: الساعة، ثم بلغنى أن رسول ~~الله ! يدعو إلى الإسلام مستخفيا، فلقيته فى شعب أجياد، وقد صلى العصر، ~~فأسلمت، فما تقدمنى أحد إلا هم. # وقد حاولت أم سعد أن ترجعه إلى الوثنية الأولى، وهددته أن تنتحر جوعا إن ~~لم يجبها، فقال لها سعد: والله لو أن لك ألف نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ~~دينى هذا لشىء، فكسرت عزيمته عزيمتها، وتراجعت ولم يتراجع، وكان سعد معروفا ~~بأنه أكثر الناس بأمه برا. # * * * # * سعد الجندي # كان سعد فارسا عارم القوة، راميا مسدد الرمى، لم تفته غزوة يعرض روحه فى ~~حومتها ابتغاء رضوان الله، فهو من أبطال الجهاد المادى والأدبى. رمى فى ~~غزوة أحد بألف سهم، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتل دونه، وكان ~~يحمل فى غزوة الفتح إحدى رايات المهاجرين. ولعل اشتراك سعد فى هذه المشاهد ~~كلها قد أكسبه مهارة حربية فائقة رشحته- إلى جانب إسلامه وإيمانه- ليكون فى ~~مستقبله من كبار القادة الفاتحين، فإذا ظفر مع هذا بدعوة النبى! صلى الله ~~عليه وسلم له: "اللهم سدد رميته، وأجب دعوته "، علمت أى قوة من قوى الإيمان ~~قد سلطت على مجوس فارس يوم أن رماهم عمر بسعد، فسار إليهم والصحابة يقولون ~~عنه: "إنه الأسد عاديا". # *** # ص _192 # * سعد القائد: PageV01P193 # من العسير أن نرجع انتصارات المسلمين فى صدر تاريخهم الرائع إلى جهد فرد ~~وكفايته وتدبيره، فنصيب الجندى المغمور فى إحراز هذا الفوز لا يقل عن نصيب ~~القائد المشهور ms156، إذ كان اليقين المحض هو الروح الثائرة الدافعة لهذه ~~الموجات المترادفة من جند الإسلام، تجرف أمامها كل ما حشد أعداء الله ~~وأعدوا. # ولكن هذا لا ينتقص وظيفة القيادة التى إذا نجحت فى مهمتها استطاعت ~~استغلال هذه الحماسة المتأججة، وتنظيمها وتركيز ضرباتها، وبلوغ هدفها. # ولقد بلغ سعد من ذلك شأوا بعيدا، فلما أدار دفة الحرب فى القادسية ~~والمدائن كانت أعصاب الرجل العظيم لا تخور فى مأزق ولا تلين لنكبة، ولقد ~~احمرت مياه الأنهار لكثرة ما امتزج بها من دماء القتلى، كما احمرت لذلك ~~أحداق سعد، وأكرهه المرض ألا يقف على قدميه، فكان يصدر أوامره السريعة فى ~~رقاع من الورق، ويشرف على فصائل البدو وهى تشتبك فى أقسى قتال مع جيوش ~~مدربة معبأة، ليالى عددا يتصل ظلامها بنهارها، ويستميت الفريقان فيها، كل ~~فى موقفه لا يزحزحه عنه إلا الموت. # * * * # * دعاية سعد: PageV01P194 # وليست دعاية سعد كذبا مما استمرأه تجار السياسة فى هذه الأيام، إنها هى ~~دعاية الإسلام، فيها أثر السماء وطهر الوحى، فهو يرسل إلى كسرى مندوبيه ~~ليفاوضوه ويعرضوا عليه ما عندهم، وليعرفوا ما عنده فيقول قائلهم لوجهاء ~~فارس: "إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر، ~~ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يدع قبيلة إلا صدقته منها فرقة ~~وتباعدت فرقة، ثم أمرنا أن نبتدئ إلى من خالفه من العرب، فبدأنا بهم فدخلوا ~~معه علي وجهين، مكره عليه لم يلبث أن اغتبط، وطاح فازداد من عند الله، ولقد ~~علمنا جميعا ما جاء به على الذى كنا فيه من العداوة والضيق، ثم أمرنا أن ~~نتوجه إلى من يلينا من الأم فندعوهم إلى الإنصاف.. فنحن ندعوكم إلى دين حسن ~~الحسن كله وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه، ~~الجزية، فإن أبيتم فالحرب، أما إذا اخترتم ديننا.. خلفنا فيكم كتاب الله ~~على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم". # ص _193 # يتركون لهم بلادهم ما داموا فيها يعبدون الله وحده.. هذه نظرية ~~"الاستعمار" الإسلامى- لو صح ms157 التعبير- التى لا تعرف استغلالا ولا استبعادا، ~~والتى يحاول بعض السفهاء أن يقرنوها بالاستعمار الأوروبى، كأن بينهما شبها. ~~* * * * سعد الأمين: ولى سعد الكوفة، وسار فيها سيرة عمر، ثم عرض له ما ~~أشرنا إليه فى بداية الحديث، فترك الناس وآثر الوحدة، وحدثت الفتنة الكبرى ~~فاعتزل الناس جميعا وهو يقول: ما بكيت من الدهر إلا ثلاثة أيام: يوم توفى ~~الرسول صلى الله عليه وسلم ويوم قتل عثمان، واليوم أبكى على الحق، فعلى ~~الحق السلام... ص _194 # حطين PageV01P195 ~~مرت مئات السنين والشرق الإسلامى الأوسط يهب عليه وباء متتابع من زحف ~~الصليبيين القاسى، واندفاعهم فى صميم الرقعة المقدسة التى رفرفت عليها ~~أعلام التوحيد دهرا، وصارت بثراها وبيئتها وطن الإسلام الذى لا ريب فيه، ~~لقد كان المستقبل مبهما، وكان إلى الأمس القريب مظلما لا تبدو فيه بارقة ~~أمل. وماذا ترى العين خلال هذا الكسف المتساقط من ناحية الغرب؟ لقد تضافرت ~~قوى الصليبيين على أن يهدموا ما بنى لله محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ~~وها هو ذا جيشهم تنتظم فرقه أمشاجا من إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، ~~أخذوا على أنفسهم العهود أن يرتووا من دماء المسلمين، وكلما انقطع فوج بدأ ~~فوج، وكلما ظن المسلمون أن الهجوم انتهى إذا هو يبدأ انسياحه كرة أخرى! # لقد عاش المسلمون أجيالا متعاقبة قابعين فى أوطانهم، ولقد كانوا يغزون ~~غيرهم، وما يفكر فى غزوهم أحد، وكانوا يصفعون الشيطان وما يستطيع الشيطان ~~إلا الفرار من طريقهم، حتى إذا ناموا فى مهاد الراحة، ولم يحلموا فى نومهم ~~العميق إلا بأمجاد الماضى البعيد جاء أوان اليقظة المريرة، فصحوا على سنابك ~~الخيل الكافرة تقتحم حدود الأناضول وتهبط إلى بوادى سوريا، وتجتاز مغارس ~~الزيتون من فلسطين. # وحاول المسلمون عبثا أن يطفئوا النار التى اشتعلت فى ديارهم فجأة فوقفوا ~~يضربون يمينا وشمالا، ولكن خطط الدفاع المرتجل لم تجد فتيلا أمام سيول هذا ~~الهجوم المبيت. وانفتحت العيون على الحقيقة القاتلة وعلى الواقع الحقير ~~فإذا الشرق الإسلامى مقطع الأرجاء، ممزق الأحشاء، وإذا المسلمون يعيشون فى ~~مستعمرات لاتينية، يبسط السلطان فيها ms158 حكام صليبيون!؟ # إن البعض قد يسىء الظن بالأمة الإسلامية حين تخضع للانكسار العسكرى ولعله ~~يحسب باطن النفس الإسلامية من ظاهرها. ويظن أن سكوتها للغلب القاهر سكوت ~~قبول ورضاء واستكانة، وهذا خطأ فإن المسلمين الذين رباهم القرآن الكريم على ~~ضرب من الأدب يفرض أن يكونوا على حد ما قال: PageV01P196 # ص _195 # (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) هؤلاء المسلمون عرفوا أن اليوم ليس ~~لهم فلم يقنطوا من الغد، وعرفوا أن الله لم يخلفهم وعده، وإنما هم الذين ~~أخلفوا الله العمل فلما تذاكروا تفريطهم السيىء وتهيئوا لإصلاح شئونهم: ~~(قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون * قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين * ~~فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون * قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين * عسى ربنا ~~أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون). ولقد أبدلهم الله خيرا ألف مرة ~~من المعرة التى أصابتهم بعد أن اصطلحوا على مولاهم الكريم، وها هى ذى ~~القلوب تقر بالإيمان وتفيض باليقين، من هذه الصفوف التى كانت منتقضة الغزل ~~موزعة الرأى ثائرة الهوى، فأصبحت بين عشية وضحاها متساندة القوى ملتصقة ~~المناكب بادية الإخاء؟ وهؤلاء الحكام الذين كانوا ألعوبة فى أيدى الغاصبين ~~ومكر المتسلطين، لقد حالوا خلقا آخر من طراز كريم!! أجل... فقد عاد ~~للمسلمين رشدهم وهم الآن يتهيأون لكيما يكيلوا لأعداء الله ضربة تمحو ~~ببأسها كل ما ذاقه الصليبيون من نصر قديم. حقا إنها أعوام طوال، ولكن ما ~~قيمة عشرة أعوام أو عشرين أو أربعين فى تاريخ أمة تقتطع عمرها على الأرض ~~بالقرون؟ وحقا لقد غضب المسلمون فى قرارتهم إذ شعروا ببيت المقدس يغشاه غير ~~أهله وبأولى القبلتين يعطل مصلاها العتيد! بلى... والله إن الأمر لحزن... ~~ثم بدأ الصراع، وتطلعت آمال المشرق والمغرب إلى نتائجه، الصليبيون من ~~ورائهم أمداد أوروبا تمخر عباب البحر، وتحت أيديهم أراض واسعة يتشبثون بها ~~منذ أن انتصروا فى المعركة الأولى، وفى قلوبهم غليل أسود غرسته أكاذيب رجال ~~الكهنوت ممن كانوا يبيعون أرض الجنة بالقراريط لمن يشاءون! وهناك المسلمون ~~الذين تختلج فى حناياهم قلوب عامرة ms159، فيها الحفاظ على رسالة التوحيد وبذل ~~المهج دونها... ولا ريب أن إبلاغ هذه الرسالة العظمى مرتبط ببقاء الدولة ~~الإسلامية فى هذه الحياة، فلابد من إلقاء PageV01P197 ~~المغيرين عليها إلى جوف البحر، ص _196 # أجل لابد من إدراك الثأر لمن ذبحوا، وغصبوا فى فترة حكمهم المشئوم، ولابد ~~من أن يدفعوا أرواحهم وعتادهم ثمنأ لجراءتهم على النزول بهذه الديار. هاجت ~~هذه المشاعر أجناد "صلاح الدين " فخرج بهم وخرجوا معه، واستعد الصليبيون ~~للقائه، وجمع القدر بين الفريقين عند تل حطين؟ وانتظر المسلمون فى مساجدهم ~~من المحيط إلى المحيط أنباء القتال الذى اكتتبوا فيه بأموالهم وأبنائهم. ~~*** انجاب الظلام، وصلى المسلمون الفجر، وتحركت طلائعهم من الفرسان تمهد ~~الطريق للمشاة خلفها، واشتد قذف النشاب وإرسال السهام. وكان الأوروبيون ~~يعلمون أن تقرير مصيرهم موكول إلى هذه المعركة فهجم فرسانهم على قلب الجيش ~~واستطاعوا أن يفتحوا فيه ثغرة واسعة، إلا أن القائد المحلى لهذه الجبهة ~~"تقى الدين بن عمر" تمكن بمهارته من أن يطوق الفرق التى انسابت من هذه ~~الثغرة، وأن يشعل حولها النيران فى الحشائش الجافة، ثم اشتبك بها عنوة وقذف ~~بقواته فى أتون المعركة الطاحنة، وهنا شعر الصليبيون بحرج مركزهم فاتخذوا ~~منه مادة للاستماتة فى القتال وإحراز النصر، وأحس صلاح الدين بأن المدى ~~بعيد، وأن استبسال الفريقين يجعل الغلب سجالا بينهما، فكان يطوف بنفسه على ~~المسلمين يذكرهم الله ويحرضهم على الجهاد، ويأمرهم بالخير، وينهاهم عن ~~الشر، فكبر المسلمون واندفعوا إلى عدوهم حاسرين وتقدموا ببطء نحو سفح حطين، ~~وضيقوا الخناق على عدوهم، فأمر "جاى" قائد الأوروبيين برفع الصليب الأعظم ~~حتى يذود الفرسان عنه، وكان الفرسان لا يحملون حملة فيرجعون إلا وقد قتل ~~منهم عدد عظيم، ففت ذلك فى عضدهم وألقى فى قلوبهم الوهن. ونصب الصليبيون ~~خيمة ملكهم ودافعوا عنها بعنف رائع، فإذا كر المسلمون على حملتها ليسقطوا ~~آخر لواء رفعه العناد، ارتدوا عنها بتأثير دفاعهم المستميت، فكان صلاح ~~الدين يثير حماسة أتباعه عندما يرتدون بقوله وهو يصرخ: "كذب الشيطان ". قال ~~الأفضل بن PageV01P198 ~~صلاح الدين: "فلما رأيت المسلمين عادوا يتبعون ms160 الفرنجة صحت من فرحى: ~~هزمناهم، فعاد الفرنجة فحملوا حملة ألحقوا المسلمين بوالدى، فنظرت إليه ص _197 # وقد علته كآبة وأربد لونه، وعطف المسلمون عليهم كرة أخرى فألحقوهم بالتل، ~~فصحت أنا أيضا: هزمناهم، والتفت والدى وقال: صه ما نهزمهم حتى تسقط هذه ~~الخيمة، فبينما هو يقود ذلك إذ بالخيمة قد سقطت، واجتاحت ألوية المسلمين ~~المكان كله، فنزل السلطان وسجد شكرا لله، وبكى من فرحه. وكان يوم حطين له ~~ما بعده من فتح زلزل أقدام الكفر، فلم يستطع مقاما إلا تحت الثرى، وفى ذلك ~~يقول الشاعر: أترى مناما ما بعينى أنظر القدس يفتح والفرنجة تكسر؟ ومليكهم ~~فى السجن مأسور ولم يك قبل ذاك لهم مليك يؤسر قد جاء نصر الله والفتح الذى ~~وعد الإله فكبروا واستبشروا ص _198 # هذا الداهية هو الذي عرف علتنا! # كان الناس يعتقدون أن هذا الزحف لن يتوقف، وأن هذه الفتوح المترادفة لن ~~يرتد سيلها حتى يغمر أرجاء العالمين. ها قد أضحت "إفريقية" مسلمة، وها قد ~~اجتاز المسلمون مضايق البحر وأسسوا لهم نقطة ارتكاز فى أرض "الأندلس" ثم ~~ماذا حدث؟ إن طارقا العنيد يقرع أبواب "أوروبا" من الجنوب والغرب، وسوف ~~ينكسر تحت ضرباته الجبارة كل ما استعصى فتحه من هذه السدود القائمة. # نعم و.. ما أسرع ما تحققت الظنون، فإن رأس الجسر الذى أقامه العرب ~~والبربر ما لبث حتى اتسع وامتد واستوعب فى امتداده شبه جزيرة "أيبريا" بما ~~فيها من أملاك "أسبانيا " و" البرتغال ". # واطرد الزحف الفريد فى نوعه فإذا المسلمون يطلون من خلال جبال البراتس، ~~وينظرون إلى ما وراءها نظرة لها مغزى يعرفه الأصدقاء الذين امتلأت قلوبهم ~~ثقة، ويعرفه الأعداء الذين امتلأت أفئدتهم يأسا. ومن ثم بدأ دور جديد فى ~~هذا الصراع الفريد. ترى ما سيكون؟ إن المسلمين يفكرون فى غزو فرنسا فهل ~~سيحقق الغد أملهم ؟ لقد شرعوا رماحهم وتحفزوا للوثوب. PageV01P199 # غزو، ورماح، وهجوم! ما أكذب هذه الكلمات فى دلالتها على وقائع الفتح ~~الإسلامى الكريم. إذ ما تكون حروب التحرير ووسائل التضحية فى سبيل الله، ~~وفى إنقاذ الشعوب من ms161 مسترقيها؟ # إن فتوح العرب كانت حروب تحرير وتطهير، لا حروب إذلال وتدمير ولو لم يقم ~~العرب قوتهم المسلحة هذه لظلت أوروبا على حالها الأولى، تعمر فجاجها قبائل ~~القوط والغالة والسكسون، ولتأخرت الإنسانية في طريق الحضارة قرونا طوالا، ~~فليذكر هذه الحقيقة من يحسبون الجهاد الإسلامى غزوا استعماريا، وليقولوا ~~بعد ذلك ما يشاءون. # وأتم عبد الرحمن الغافقى أمير المسلمين فى الأندلس عدته، وأخذ أهبته، ~~وشرع يرسل طلائعه إلى قلب بلاد الغالة، أى صميم فرنسا، حتى استطاعت بعض ~~الفرق الإسلامية أن تصل إلى مدينة "بوردو" غربا ومدينة "ليون " شرقا. ومن ~~المسلم أن مقاومة الشعوب لهذا الفتح الإسلامى كانت ضعيفة، على عكس ما كان ~~يقوم به # ص _199 PageV01P200 ~~رجال الكهنوت وطوائف البدو من دفاع عنيف وإن كان ذلك لم يمنع أن تدخل ~~أقاليم شتى من جنوب فرنسا فى دين الله، وأن يجد الإسلام قلوبا مفتوحة ~~لمبادئه، وأيدى مبسوطة لرجاله. وبدأ الزحف يتسع وتتبين أهدافه، واندفع ~~المسلمون صوب حدود فرنسا الشرقية فى حركة جريئة يحاولون بها اجتياز ألمانيا ~~نفسها. وبدا للناس كأن السيل لا يزال فى مده وأنه سيكتسح كل ما يعترضه، ~~ولكن الغربيين قرروا أن يجمعوا كلمتهم، وأن يبذلوا آخر ما لديهم من جهد، ~~وآخر ما عندهم من استطاعة، وأن يلقوا بمصيرهم فى معركة حاسمة تستسلم بعدها ~~أوروبا قاطبة، أو يرتد بعدها العرب الفاتحون على أعقابهم. وانتخب الفرنجة ~~"شارل مارتل" قائدا لهم فى هذه المعركة، وسلموا له مقاليد أمورهم. وكان ~~شارل هذا رجلا فطنا ذا كياسة ودهاء لم يلبث أن أدرك حقيقة موقفه، فقرر أن ~~يحتال لقومه، وأن ينتهز الفرصة السانحة ليشترك فى المعركة التى يضمن ~~نتائجها، ويطمئن إلى نهايتها، وخلاصة سياسته مع المسلمين تتضمنها هذه ~~الخطبة القصيرة له- وهى خطبة ذات معان لن تزال ماثلة إلى الأبد تشهد ~~بالذكاء لصاحب الذكاء، وبالخيبة لمن يستحقون الخيبة. خطب شارل مارتل فى ~~قومه فقال: "الرأى عندى ألا تعترضوا العرب فإنهم كالسيل المنحدر يجرف ما ~~يصادفه، وإنهم فى إقبال أمرهم عقدوا نيتهم وجمعوا أمرهم فأصبح الرجل منهم ~~يغنى ms162 عن كثرة العدة، واتحدت قلوبهم فصارت أشد من حصانة الدروع، فأمهلوهم ~~حتى تمتلئ الأيدى من الغنائم ويتخذوا المساكن، ويتنافسوا على الرياسة، ~~ويستعين بعضهم على بعض، فإذا كان ذلك فإنكم ستتمكنون منهم بأيسر ما ~~تبذلون.. ". أرأيت إلى هذه الخطبة أيها القارئ؟ فلتنظر إلى المعسكر ~~الإسلامى لترى ما فيه، ولتقرأ قول الحق: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه ...). ~~إن هذا القائد الداهية هو الذى عرف علتنا، فاستعان على بلوغ غايته بيده ~~وأيدينا معها! لاحت بوادر الفتنة فى جيوش المسلمين، وبدأ كل قطر يذكر نفسه، ~~ويرفع رأسه PageV01P201 ~~على حدة، أهل الشام يكرهون أهل العراق، وأهل الحجاز ينقمون أهل اليمن! ص _200 # واستيقظت صيحات الجاهلية الأولى التى طالما عمل الإسلام على سحقها، ~~وتطهير النفوس من رجسها، فهذا مضرى، هذا تميمى، وهذا قيسي! وقامت الأحزاب ~~تتولى الحكم على هذه الأسس، كلما تولى أمير من قبيلة مالا عشيرته وجار على ~~أبناء القبائل الأخرى، واستبدت دنيا الأهواء بكثرة الناس، فقل الصالحون ~~الخلصون، وتطلعت العين للدنيا وضاع أدب الدين بين حب المال والجاه، وبهذه ~~الروح المعنوية كانت جيوش عبد الرحمن الغافقى تستعد لملاقاة جيوش "شارل ~~مارتل " التى جمعها ونظمها وقوم صفوفها للقاء الموشك على الوقوع. وبين ~~مدينتى "تور" و"بواتيه " دارت الواقعة أو وقعت المأساة! بين جيوش فرنسا ~~وألمانيا معآ- فقد تحالف العدوان الألدان على دفع العدو المشترك- وجيوش ~~المسلمين، وظل القتال سبعة أيام شدادا متقلبة الأدوار والأطوار، وكان فى ~~الحقيقة اشتباكآ مروعآ بين الشرق والغرب، وصراعآ له ما بعده من آثار بعيدة. ~~وقد عرف الغربيون ذلك، فاستعدوا له على حين كان جيش المسلمين الإقليمى فى ~~الأندلس هو الذى يخوض وحده غماره، ويتحمل وحده نتائجه المستقبلة. وقد علمت ~~أن بعضهم كان يذوق بأس بعض فلا عجب أن يذيقهم الله بأس عدوهم كذلك. فقتل ~~عبد الرحمن وأصابت المسلمين خسائر جسيمة، وحلت الهزيمة بالعرب والبربر ~~وبسائرالأحزاب المتكالبة على الدنيا، والمتصايحة بصيحات الجاهلية، ~~المتباعدة عن هدى الإسلام وطار النبأ الغريب حقأ! إلى آفاق المشرق والمغرب. ~~لقد توقفت حركة المد وتكسرت موجاتها بعد لأى ms163 شديد. نعم لقد تكسرت موجاتها ~~لأن قوة التيار- تيار الإيمان- انقطعت منها لا لأنها اصطدمت بحاجز عنيد. ~~ومن عجب أن المسلمين اليوم يكررون الغلطة نفسها ويكرر عدوهم الدور نفسه. ~~ولله فى خلقه شئون: (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). *** ص _201 # مصعب بن عمير # * فاتح المدينة قبل الهجرة: PageV01P202 # نحن أمام رجل مبادئ من الطراز الذى يظهر فى آفاق الحياة ثم يختفى كما يظهر ~~الشهاب فى ظلمات الليل البهيم، ويبرق وميضه لحظات ثم يتوارى سريعا وقد ~~احترق بما فيه، ونشأة مصعب بن عمير ومحياه ومماته فصول فريدة فى تاريخ ~~الدعوات الكبرى، الدعوات التى تقوم على الجهاد المضنى، والكفاح الرهيب، ~~والتى تتطلب لها وقودا من شهداء لا يعرفون إلا التضحية والفداء، ولا ~~ينتظرون من هذه الحياة الدنيا راحة أو نفعا. # وقد يقرأ المرء سيرا شتى لأبطال كثيرين، ولكنه ما أن ينتهى من قصة مصعب ~~ويتتبع مراحلها الأولى والأخيرة إلا ويشعر بأنه أمام بطولة خاصة. حشو ~~أديمها اليقين الغالى والثبات الرائع، فكأنما عاش الرجل ما عاش لينفخ من ~~روحه ودمه وأعصابه فى مثل من هذه المثل العليا التى يتخيلها البشر، ثم يولى ~~وقد ترك للدعاة إلى الله أسوة تهتاج لها المشاعر، وترمقها إلى الأبد نظرات ~~الإعجاب والتكريم. # * * * # * أول الغيث: # قال على بن أبى طالب جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست إليه فى ~~المسجد وهو مع عصابة من أصحابه فطلع علينا مصعب ابن عمير فى بردة مرقوعة ~~بفروة غنم وكان أنعم غلام بمكة، وأرفههم عيشا، فلما رآه النبى عليه الصلاة ~~والسلام ذكر ما كان فيه من النعيم، ورأى حاله التى هو عليها، فذرفت عيناه وبكى. # قال عمر بن الخطاب: فسمعت الرسول صلى الله عليه وسلم! يقول: "انظروا إلى ~~هذا الذى نور الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام ~~والشراب، ولقد رأيت عليه حلة اشتراها بمائتى درهم. فدعاه حب الله وحب رسوله ~~إلى ما ترون" # هكذا بدأ مصعب صحيفة إيمانه... ما أن دخل فى دين الله حتى صرح الشر بينه ms164 ~~وبين أسرته الثرية القوية، فحرم من مالها وجاهها، وكلف أن يذوق مرارة العيش # ص _202 PageV01P203 ~~الشقى مع إخوانه الجدد من فقراء المسلمين.. نعم أصبح واحدا من فقراء ~~المسلمين، وهو الذى كان إلى الأمس القريب عضوا فى بيئة مترفة، لها وجاهتها ~~ومكانتها، وتشهد بطحاء مكة أبناءها وهم يخبون فى الحرير، ويجرون أذيالهم ~~غرورا وكبرا، واخشوشنت حياة مصعب وسرت فيها معانى القسوة والضيق، غير أن ~~البلاء الكثير لا يزيد النفس القوية إلا مصابرة وإصرارا، فقد مضى المؤمن ~~الراسخ فى طريقه لا يلوى على شىء، وتحمل سنوات الاضطهاد الأولى فى مكة وهو ~~راض عن ربه وعن دينه، يقيم معالم الإسلام، ويؤدى شعائره، ويسارع إلى حفظ ما ~~يتنزل من أيات الوحى، وينتظم مع الرعيل الأول فى دعم القواعد الأولى لهذه ~~الأمة الناشئة، وينتظر ما يتمخض عنه المستقبل، وهو لن يكون حاملا فى طواياه ~~أشد مما حملته هذه النفس الكبيرة من جهاد، وتربت عليه من استعداد. # * * * # * الداعية المنتخب: # تتابعت السنون وأهل مكة لا يتحولون عن موقفهم العنيد، وتبين أنهم يكذبون ~~صاحب الرسالة العظمى تجاهلا لا جهلا، ولم يبق بد من توسيع نطاق الدعوة ~~وعرضها على الأبعاد الغرباء، بعد أن كذب بها المواطنون وصد عنها العشيرة ~~الأقربون فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يبرز فى المواسم والأسواق ويعرض ~~نفسه على الوفود القاصدة إلى البلد الحرام، وكان أن شرح الله صدور نفر من ~~يثرب فاستجابوا للإسلام ودعوته، وأظهروا استعدادهم لنصرته، وأنسى الرسول ~~صلى الله عليه وسلم الخير فيهم، وأمل لدينه على أيديهم التمكين والاستعلاء، ~~فقرر أن يبعث معهم رجلا أمينا على الدعوة ليتعهدها فى مستقرها النائى، ونظر ~~الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ثم وقع اختياره على مصعب ابن عمير، ~~فأرسله إلى المدينة ليبشر بالدين الجديد، وليقرئ الأنصار القرآن، ويعلمهم ~~الإسلام. PageV01P204 # وهناك بين منازل أهل الكتاب وقف ابن القرآن يرتل آياته، ويترك أصداءها تسرى ~~مع الريح، لتداعب مضارب الخيام، وتحرك نفوس الأعراب، وتترك أفئدة اليهود ~~مليئة بالدهش لهذا الذى قرع عليهم أبواب مدينتهم بأنباء الوحى الجديد. # وبدأ ms165 مصعب بن عمير يؤدى رسالة الإسلام، ويمهد الطريق للقائد العظيم الذى ~~لم يكن أحد يعلم أنه سيأتى بعد حين. وكأن مصعبا بعمله هذا يفتتح الدعوة إلى # ص _203 # الإسلام، فى غير أوطان الإسلام، ويعلم الدعاة كيف تكون الجرأة والمغامرة ~~والثقة بالنفس والتوكل على الله. # * * * # * مناقشات: # جاء أسيد بن حضير- وهو مشرك- فوجد مصعبا فى أحد مجالسه يدعو الناس إلى ~~الله، فغاظه ذلك المنظر، وقال لمصعب فى غلظة: ما جاء بك ههنا؟ ألتسفه ~~الضعفاء وتفتن النساء؟ اعتزل عنا ولا أرينك. # فابتسم مصعب وقال فى كياسة: بل تجلس إلينا فتسمع ما نقول، فإن رضيت ~~بالأمر قبلته، وإن كرهته كففت عنك ما تكره، فحار أسيد فى الجواب، ونظر إلى ~~ما يصبغ وجه مصعب من يقين ورجاء، ثم لم يستطع إلا أن يقول: لقد أنصفت، هات ~~ما عندك. # وتكلم مصعب وقرأ وفاض إيمانه بيانا دافقا يشرح ويحاج ويصل إلى مواضع ~~الإقناع من السامعين، فلما انتهى من حديثه، قال أسيد فى عجب ودهشة: ما أعظم ~~هذا وأجله، وترك الداعية وذهب إلى حال سبيله وفى نفسه حوافز تكاد تحيله ~~شخصا آخر. نعم فقد وقع الإسلام بمكان من قلبه. PageV01P205 # وتقابل أسيد هذا مع سعد بن معاذ، وكلاهما من سادة يثرب وذوى الرأى فيها، ~~ودار بينهما حديث انطلق عقيبه سعد إلى مصعب ليكتشف حقيقته وحقيقة ما عنده، ~~لقد كان قبلا يتوعد هذا الرجل الطارئ ويعين عليه، وهو الآن مبلبل الفكر بعد ~~ما أدرك من دخيلة نفس أسيد صديقه الحميم أنه اطمأن إلى الدين الجديد ودخل ~~فيه، والتقى سعد بمصعب وحاول أول الأمر أن يستفزه بالكلم القاسى والنقاش ~~الحاد، ولكن مصعبا لم يخرج عن طوره الجميل وسمته النبيل وحواره اللبق وعرضه ~~الهادئ. وأبصر سعد الحق فلم يتردد فى اعتناقه ولم يأت المساء إلا وهو بين ~~قومه يهدر بينهم بصوت ثائر "إن كلام رجالكم ونسائكم على حرام حتى تؤمنوا ~~بالله ورسوله "!. # واستمر مصعب يدعو وينتقل فى دعايته من نجاح إلى نجاح، فلم يبق بالمدينة ~~على سعتها بيت إلا سمع بالإسلام إن ms166 لم يكن دخل فيه... استمر مصعب يدعو ~~وبينه وبين صاحب الرسالة المجاهد فى مكة مئات الأميال!! وماذا يصنعه بعد ~~الشقة فى صدق الإيمان، وصدق الوفاء، وصدق العمل؟. ها قد قارب العام ~~النهاية، وها قد # ص _204 PageV01P206 ~~ذهب وفد يربو على السبعين إلى مكة ليبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على ~~أن يحيطوا دعوته بأسوار من الدم والحديد! حقأ لقد كان مصعب داعية موفقا، ~~إنه لا ريب فاتح المدينة قبل الهجرة الكبرى إليها،.. * * * * فى سبيل ~~الله: قال خباب: هاجرنا مع النبى صلى الله عليه وسلم، ونحن نبتغى وجه الله ~~فوجب أجرنا على الله، فمنا من أينعت له ثمرته فى الدنيا فهو يستمتع بها، ~~ومنا من مضى لم يأخذ من أجره فى الدنيا شيئا، منهم مصعب بن عمير قتل يوم ~~أحد، فلم يترك إلا ثوبا باليا، كنا إذا غطينا به رأسه خرجت رجلاه، وإذا ~~غطينا به رجليه تعرى رأسه!. فقال لنا النبى صلى الله عليه وسلم : "غطوا ~~به رأسه وألقوا على رجليه من الأذخر"- أعشاب الصحراء. كذلك مات الداعية ~~البطل، القارئ إذا عد القراء! والفارس إذا عد الفرسان!.. مات لم يشهد فتح ~~مكة التى ضاقت بإيمانه، فخرج منها ليصنع بيديه الرجال الذين يفتحونها ~~بإيمانهم، مات فى مراحل الجهاد، فلم يحضر قسمة الغنائم ولم يستمتع بقليل ~~منها، مات وهو الذى ذاق أول حياته معيشة القصور. ثم لم يلبس إلا الخرق أول ~~ما آمن، ولم يكفن إلا فى الخرق يوم مات شهيدا. نعم مات بعد أن أسلم على ~~يديه أسيد الذى تنزلت الملائكة لقراءته القران، وسعد الذى احتفى بمقدمه- ~~يوم وفاته- عرش الرحمن. ذلك هو الداعى الذى يجب أن يفقه سيرته الدعاة. ص _205 # معركة مؤتة # هبت نسائم الشمال على الجيش المتحفز المرابط بضواحى المدينة، فحملت معها ~~صورة باسمة طافت بأخيلة الغزاة الذين سيأخذون طريقهم عن قريب إلى مشارف الشام! PageV01P207 # وكلما لاحت من خلال الأفق البعيد أطراف الميدان المنتظر زاد تأهب هؤلاء ~~للعمل الطويل، والشقة البعيدة، والجهاد المنشود، وليس هذا أول عهد المدينة ~~ولا آخره بتوجيه ms167 الزحف تلو الزحف إلى أنحاء الجزيرة الثائرة على ربها ~~ونبيها، العاكفة على أصنامها وأهوائها، إلا أن هناك هدنة معقودة مع طواغيت ~~مكة إلى حين، فإذا وقف القتال فى الجنوب فلن يتوقف فى الشمال وستدور رحاه ~~لتطحن تحت وطأتها الثقيلة الأديان البالية، ولتخفى تحت الثرى مبادئ وأحزابا ~~طالما ألصقت الإنسانية بالثرى، وحاولت أن تعتدى على طلائع الهدى الجديد، ~~لتبقى العالم فى إسارها، وتكويه أبدا بنارها!. ولكن النبى المجاهد وأصحابه ~~الأمجاد، أبوا إلا المضى إلى غايتهم، والتنكيل بأشياع الباطل قبل أن ينكلوا ~~بدعوتهم، وفى هذه السبيل يتحرك الجيش إلى الشمال ليوطئ حدود الروم، وليقذف ~~الرعب فى قلوب أذيالهم من العرب الموالين لهم، وليؤمن أسباب الدخول فى ~~الدين الجديد، فلا يخشى أحد فتنة جبار عنيد، وأقبل الناس لتوديع الجيش ~~الزاحف واستعراض قواته، وفى طليعتهم صاحب الرسالة العظمى الذى نظر إليهم ~~نظرة عميقة، ثم أصدر أمره بإسناد القيادة إلى زيد بن حارثة، فإن قتل، فإلى ~~جعفر بن أبى طالب، فإن قتل، فإلى عبد الله بن رواحة، واستمع الناس إلى ~~الأمر وهم واجمون، فقد ألفوا تقديرات النبى عليه الصلاة والسلام كأنما هى ~~إيماء إلى ما خطه القدر!. وأحسوا أن مصارع القادة الثلاثة ستجرى على هذا ~~النحو. !!!! # * * * # * سبعون ضعفا: # تحرك الجيش يطوى الصحراء إلى وجهته، وكان عدده لا يتجاوز ثلاثة آلاف.. ~~وسبقته الأنباء إلى العدو اليقظ، فأعد لهذا الهجوم عدته، وخرج "هرقل " ومعه ~~مائتا ألف جندى لخوض المعركة الخطيرة، وسمع المسلمون بهذه التعبئة ~~المفاجئة، فرأوا أن # ص _206 # الأمر يضطرهم إلى التريث والنظر، فإن معركة- هذا مبلغ التفاوت بين ~~خواضها- معروفة النتيجة. PageV01P208 # وهم لا يرهبون الموت، ولكن ما قيمة أن يسلموا رقابهم لأعداء يزيدون عليهم ~~سبعين ضعفا؟ ثم ما فائدة الإسلام من مثل هذه المعركة البعيدة عن حدوده ~~الأولى؟ وما ضرر الكفر من ضحاياه القلائل فيها؟. لا شىء... # ومن ثم قرروا أن يكتبوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم يستشيرونه، ~~ويطلبون نصحه وتوجيهه، غير أن عبد الله بن رواحة- وكان شاعرا جياش الإحساس- ~~وقف بين أفراد الجيش ms168 يخطب قائلا : "يا قوم.. والله إن التى تكرهون التى ~~خرجتم إياها تطلبون، الشهادة! وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما ~~نقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به. فانطلقوا فما هى إلا إحدى ~~الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة". # فقال الناس: صدق والله، وساروا... # ولا شك أنك لا تنتظر عراكا حقيقيا فى مثل هذه الحال. وقد تشتبك القلة ~~بالكثرة، وتنتصر الأولى على الأخيرة، بل إن أكثر انتصارات المسلمين كانت من ~~هذا القبيل، ولكن للكثرة التى تبلغ سبعين ضعفا شأن آخر، فإن أقصى ما أمر ~~القرآن به أن يثبت الواحد للعشرة لا للسبعين، ومع ذلك فقد سارت موجة ~~الحماسة فى الجيش كله، وأثرت فيه مقالة ابن رواحة الذى كره أن يقول له ~~المسلمون ولإخوانه ساعة الوداع: "ردكم الله سالمين ". # فقال ردا عليهم # لكننى أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات طعن تقذف الزبدا # * * * # * فى الميدان: # ماذا ينتظر المرء إلا أخبار التضحية البالغة فى هذه المعركة؟ ومصارع ~~أبطالها واحدا بعد الآخر. قاتل زيد تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ~~فجالد القوم مجالدة عنيفة حتى تخرق جسده فى مشتبك رماحهم المتكاثرة! # ثم حمل الراية من بعده جعفر فلما اشتد القوم اقتحم عن فرس له شقراء ~~فعقرها ثم واجه الأعداء مقبلا عليهم بعزمه وجهده، فما هى إلا لحظة حتى أصيب ~~ببضع وثمانين ضربة فاضت على آلامها روحه! ! # ص _207 PageV01P209 ~~وأقبل الخطر على ابن رواحة فتقدم الرجل وقد أدهشته شدته وأخذته حدته، فتردد ~~بعض التردد ثم استفاق، فحمل الراية وخاض المعمعة وقاس أعباءها.. وسمع فى ~~ناحية بعيدة صوت تحطيم أصاب صفوف المعسكر الإسلامى فأسرع الرجل إليه وظل ~~يصارع! حتى صرع. واشتد الأمر على هذه الفئة القليلة فقتل منهم عدد غفير ~~فيهم قائدا الميمنة والميسرة، وتكالب عليهم العدو طامعا فى استئصالهم ، ~~فحمل الراية ثابت بن أرقم، وصرخ: يا معشر المسلمين.. اصطلحوا على رجل منكم، ~~فأرادوا الرضا به فأبى القيادة إذ لا طاقة له بهذا المأزق، فاصطلح القوم ~~على خالد بن الوليد فحمل خالد الراية لا ليستأنف ms169 الهجوم. لقد أدرك بخبرته ~~الحربية أن هذه ليست الحرب المرجوة، وأن المهارة كلها فى أن يستطيع ~~الانسحاب بمن معه انسحابا لا يمس كرامة الجيش، ولا يزيد فى خسائره، فقاتل ~~قتال تقهقر حتى استطاع الإفلات من أوخم النتائج وأضرها بسمعة المسلمين فى ~~أنحاء الجزيرة، نعم... انتصر خالد بهذا الانسحاب البارع، ونجا الجيش من ~~الفناء المحتوم. * * * * تحليل: ربما لا تكون لهذه المعركة قيمة من الناحية ~~الحربية بعد هذه النهاية الفاشلة، ولكنها من ناحية دلالتها على أحوال ~~المسلمين النفسية ذات مغزى كبير، حتى أن صراعها كان ملحوظا من السماء، ~~ودوافع الهجوم والانسحاب فيها كانت تحت عين الله أعلن نبيه فى المدينة ~~بحقيقة ما حدث من هؤلاء المغامرين. صعد النبى صلى الله عليه وسلم المنبر، ~~ثم أمر فنودى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس وخطبيهم الرسول صلى الله عليه ~~وسلم محدثا عن أخبار الجيش البعيد: "لقد لقوا العدو فقتل زيد شهيدا ~~واستغفر له ثم أخذ اللواء جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيدا واستغفر له ~~ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة وصمت حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه ~~قد كان من عبد الله ما يكرهون ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "فقاتل ~~القوم حتى قتل شهيدا". ثم قال: "لقد رفعوا إلى الجنة على سرر PageV01P210 ~~من ذهب، فرأيت فى سرير ابن رواحة ازورارا عن سريرى صاحبيه، فقلت: عم هذا؟ ~~فقيل: مضيا وتردد بعض التردد، ثم مضى.. ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله: ~~خالد بن الوليد فعاد بالناس ". ص _208 # والإنسان يحار فى موقف عبد الله الذى كان أشد القوم حماسة واندفاعا، بل ~~لقد كان السبب فى إثارة الجيش بشعره وكلامه، كيف لم يكن إقباله على الموت ~~سباقا يحسم من نفسه أسباب التردد والهيبة. على أنه مات شهيدا وفاز بالنعمة ~~الكبرى. وعندى أنه من الخير للمرء أن يدفن نيته فى قلبه، وأن يلتمس ~~لتحقيقها الفرص، فذلك أقرب إلى الصواب من كثرة التصريح بها والترجمة عنها، ~~فقد سبق زيد بصمته ابن رواحة بشعره وخطبه.. رضى الله عنهم ms170 جميعا. * * * * ~~أبناء الشهيد.. كان جعفر رجلا سمحا بماله، كما كان سمحا بنفسه، وكان مثال ~~المؤمن القوى اليقين، ترك زوجته وأولاده وذهب إلى ربه بتلك الخطا الراسخة ~~الجريئة، فلم تجش نفسه بحب الحياة لحظة بين بوارق السيوف التى تخطف الأبصار ~~والألباب. قال النبى صلى الله عليه وسلم: "مر بى جعفر البارحة فى نفر من ~~الملائكة له جناحان يطير بهما فى الجنة مخضب القوادم بالدم ". ولما نعى ~~جعفر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بيته، وكانت امرأته قد انتهت ~~من أشغالها، ومن تنظيف أولادها وتطييبهم، فأخذهم الرسول صلى الله عليه وسلم ~~واحتضنهم، ثم غلبه التأثر فدمعت عيناه. فقالت زوجة جعفر فى ارتياع: هل جرى ~~لجعفر شىء ؟ قال: "نعم... أصيب هذا اليوم " ودعا أهله يأمرهم أن يصنعوا ~~طعاما لآل جعفر، فقد شغلوا بمأتمهم. وعاد أخيرا الجيش المنسحب.. فى معركة ~~لابد فيها من الانسحاب فماذا كان موقف الناس منه، لقد حثوا عليه التراب، ~~وتبعوه بهتافات السخرية: يا فرار.. يا فرار... فررتم من سبيل الله، فكان ~~الرسول صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول: بل هم الكرار إن شاء الله ". *** ص _209 PageV01P211 ~~ختام فى هذا الكتاب أفكار وعواطف شتى، صفا عرضها حينا، وغام حينا آخر، وإن ~~اصطبغت فى جملتها بحدة الشعور وحماسة العرض... والأحوال التى عانتها ~~بلادنا، وذاق جمهور المسلمين نكدها، كانت هى المداد الفذ لهذه المقالات، ~~والباعث على إرسالها هكذا، خواطر مهتاجة، لا يراد بها التحقيق العلمى أو ~~التمحيص التاريخى، بل يراد بها إنقاذ الهلكى وإحياء الموتى، من أمتنا!! وإن ~~لم تجاف فى سردها أو سوقها حقائق العلم والتاريخ... لقد كتبت جملة كبيرة من ~~هذه المقالات وأنا طالب بكلية أصول الدين. وجملة أخرى وأنا أحارب أوضاعا ~~معينة فى بلادنا، فهى فى جملتها ثورة روح يتوثب، وإيمان يجيش. وأعنى أننى ~~لم أحاول تقديم دراسات جديدة تبدو للقراء فى ألبسة علمية ممتازة. وإنما ~~حاولت أن أمزج بعض حقائق الدين والتاريخ بلون من الأدب التوجيهى يعين على ~~خلق وعى حر، وجيل حى، وأمة تفقه دينها ودنياها على ms171 سواء. PageV01P212 ms172