######OpenITI# #META# URI: 1423ShawqiCabdHakim.MadkhalLiDirasatFulklur.Hindawi74636907 #META# Tags: social.sciences #META# ID: 74636907 #META# Title: مدخل لدراسة الفولكلور والأساطير العربية #META# AuthorID: 25792509 #META# Author: شوقي عبد الحكيم #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # مقدمة‏ # 1 - مشاكل التراث العربي السامي‏ # 2 - أساطير السومريين عند العرب الساميين‏ # 3 - أساطير وفولكلور بر الشام‏ # 4 - تدوين التراث‏ # 5 - عبدة القمر‏ # 6 - الغيب والقدر والدهر في هذا التراث‏ # 7 - خرافات الجن والشياطين والعفاريت والرياح‏ # 8 - حكايات فولكلورية سوادنية ومصرية‏ # 9 - الذاكرة الفولكلورية‏ # 10 - البناء القبلي ... والفولكلور‏ # 11 - التابو والفولكلور‏ # 12 - اللغة ... والفولكلور‏ # 13 - هذا التراث الجبري السامي‏ # كلمة أخيرة‏ # مراجع‏ # مقدمة‏ # 1 - مشاكل التراث العربي السامي‏ # 2 - أساطير السومريين عند العرب الساميين‏ # 3 - أساطير وفولكلور بر الشام‏ # 4 - تدوين التراث‏ # 5 - عبدة القمر‏ # 6 - الغيب والقدر والدهر في هذا التراث‏ # 7 - خرافات الجن والشياطين والعفاريت والرياح‏ # 8 - حكايات فولكلورية سوادنية ومصرية‏ # 9 - الذاكرة الفولكلورية‏ # 10 - البناء القبلي ... والفولكلور‏ # 11 - التابو والفولكلور‏ # 12 - اللغة ... والفولكلور‏ # 13 - هذا التراث الجبري السامي‏ # كلمة أخيرة‏ # مراجع‏ # | مدخل لدراسة الفولكلور والأساطير العربية # | مدخل لدراسة الفولكلور والأساطير العربية # تأليف # شوقي عبد الحكيم # | مقدمة # في القسم الأول من هذا الكتاب أردت التعرض بالدراسة لمحاولة رصد ملمح لأطلس عربي للأساطير والفولكلور؛ لذا آثرت من البداية التعرض للمشاكل والعراقيل التي تقف في وجه أي محاولة تجيء من منطلق الدراسة الشاملة لتراثنا الفولكلوري والأسطوري العربي، وموقعه من الرقعة الكونية. # وبالطبع هناك ندرة ملفتة للجهود المبذولة في هذا المجال أو الحقل على المستوى القومي، بصرف النظر عن الدراسات المفتقدة إلى المنهج، ويمكن القول سيول الدراسات الغيبية والمغلوطة وغير المدركة للمدى الذي قطعته حركة الدراسات السامية والتي يشكل عالمنا العربي الواسع رصيدها الأعظم. # ومن هنا جاء تركيزي على هذه المشاكل المتراكمة إلى اليوم للمعرفة بالأصول والمكونات الأولى لهذا التراث، سواء من حيث ضياع وافتقاد المدونات، أو من حيث تهافت المناهج الدراسية القومية، وسواء من منطلق إعادة التعرف على المنابت الأولى لجزئيات ومواضيع وعبارات وخصائص هذا التراث المتوارث المتراكم الحلقات تراكم الصخور الجيولوجية. # من ذلك توصل الدراسات الفولكلورية والأسطورية المقارنة إلى أن هناك أساسا أسطوريا وفولكلوريا عقائديا ولاهوتيا مشتركا لأغلب الشعوب العربية، بل السامية، منذ أكثر من ألفي عام ق.م، سواء فيما بين النهرين أو في الجزيرة العربية والشام ولبنان وفلسطين. # فمنابع الميثولوجيا العربية تضرب بجذورها على مدى 6 آلاف عام، أي منذ السومريين غير الساميين. # وعلى ms001 هذا أفردت جزءا خاصا للتعرف بهذه المنابع الأولى خلال وعبر حركة تنقلاتها وانتشارها، ما بين حضارة - لا سامية - مندثرة، لأخرى قادمة، وأصلت اكتمالها - لغويا - وبالتالي تراثيا اليوم. # كذلك كان من المفيد عمل إلمامة للتراث الأسطوري والفولكلوري لبؤرة العالم القديم في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن. # وكذا إلمامة للتراث العبري - السامي - ودور اليهود في تدوين هذا التراث، خاصة في مجموعة التلمودات، البابلي، أو الفلسطيني، أو الحجازي، بالإضافة إلى بقية المدونات من مقدسة، ومحظورة # Apoeriha # ومدى تجانسه، ولنقل توحده مع تراث عرب الجزيرة لما اصطلح على تسميتهم بالجاهليين. # وبالطبع كان من المفيد أيضا التعرض لهؤلاء الجاهليين، ودورهم الحضاري، استنادا إلى ما كشفت عنه نصوصهم الحفرية في اليمن وجنوب الجزيرة، وما سادهم من خرافات و«خزعبلات» الجن وقوى الطبيعة الخارقة التي ما تزال متواترة، تفتك في عضد العقل الغيبي والأسطوري العربي، بما يعوق كل محاولات الأخذ بشعارات «العقلنة» وبناء طاقات الإنسان العربي الذي أصبح يعاني أزمة حضارية محققة. # وأعقبت هذا الفصل، بدراسة مقارنة بين التراثين المتلازمين السوداني والمصري. # ثم اخترعت مجموعة - محددة - من المداخل أو الأنساق أو المنطلقات، كمقدمة لدراسة الفولكلور - متضمنا الأساطير العربية - كأساسيات عامة لا غناء عنها لأي باحث في هذا الحقل، بل هي قد تكون ألزم للباحث الاجتماعي في علم وتاريخ الإنسان الثقافي - الأنثروبولجيا - بنفس درجة لزومها لجامع وباحث الفولكلور. # فلا خلاف على أن الذاكرة الشعبية الجماعية هي ما حفظت لنا هذا التراث المتواتر منذ طفولة البشرية الأولى، وهو الفولكلور، وللذاكرة الشعبية - تحت تأثير العادة والتوراث - حضورها وإعجازها لمن خبر التعامل معها، ذلك أنها مخزون متواتر الحلقات، تحفظ أدق دقائق شعائر وممارسات الولادة والموت الأولى أيامنا، بنفس درجة حفظها بما يصاحب التنفس والتثاؤب، وكل ما يتصل وصاحب الانتقال من النيئ والمطبوخ بالنسبة لمطبخ البخار العصري، كذلك فهي ذاتها الذاكرة الشعبية أو الشفهية التي أسهمت في الكشف عن الكثير من تراث البشرية التاريخي أو الحفري الأركبولوجي، وما من مكتشف أثري - مثلا - لم يستهد ويستفد من مخزون الحكايات الشعبية والحواديت وفابيولات الكنوز - المقابر - المدفونة ms002 ، وعالم ما تحت الأرض، منذ د. ~~ فلاندرز بيتري الذي دأب على تأكيد أن هذه الخرافات التي كان يجمعها ويستمع إليها من فلاحي الفيوم والدلتا قادته إلى اكتشاف «كنوزه» من الآلاف المؤلفة من البرديات الأدبية والفولكلورية والتاريخية التي ينظر إليها اليوم بكل تقدير، والشيء نفسه أشار إليه ماريت، وماسبيرو، وكارتر مكتشف عصر توت عنخ آمون، وغيرهم من الرواد الأثريين الذين عملوا في حفائر ومكتشفات العالم العربي، خاصة بسوريا والعراق، أمثال: كلوديوس ريش، وسير هنري لايارد، اللذين استفادا حتى من «ألف ليلة وليلة»، والنصوص الشفهية لفلاحي العراق ل «ألف ليلة وليلة» في مناطق أو مديريات الموصل، وجلجاميش، ونمرود، وبقية رحاب العراق. # كما أنه لا خلاف على أن اللغة هي حاملة التراث من فولكوري وثقافي؛ لذا وجب مراعاة جامع الفولكلور لدقائق اللهجات وطرق النطق والصوتيات، بالإضافة إلى علوم صناعتها. # كذلك ففي انقسام حياة أي شعب من الشعوب إلى مباح ومحظور، أو حلال وحرام، وهو ما تعارف عليه بالتابو؛ ما يدعو إلى تناوله بالدراسة، وهكذا بالنسبة لبقية الأنساق أو الأبنية المختارة موضوع هذا الكتاب مثل خصائص فولكلور القبيلة والحرب، وصراع الطعام والإدام والكلأ، سواء في الصحراء الليبية أو الأدومية بالأردن، أو في أغوار الجزيرة العربية المترامية. ~~••• # وقد يبدو للوهلة الأولى أنني إنما أهرب من حقل الدراسات الفولكلورية والأسطورية لحقل التاريخ الثقافي - الأنثروبولوجي - أو الأثنوغرافي بعامة، وبين المنهج التاريخي وحقل الدراسات التاريخية بعامة. # والنظر للفولكلور باعتباره «ماض حي»، أو النظر إليه باعتباره ثقافة منحدرة، أو مجرد بقايا قديمة ومخلفات، تواصل توالدها الذاتي وفرض سلطانها تحت تأثير العادة والتوارث وغياب العقل في مجتمعات ما قبل العقل والعلم. # وهذا كما هو واضح يستلزم الاتجاه نحو علم الاجتماع، وبالتحديد نحو علم الاجتماع البنائي، وما يستتبعه هذا من تحليل بنائي، أي فهم الظاهرات والعلاقات الاجتماعية عن طريق الاستعانة بالنماذج الفولكلورية، سواء تلك التي توصلت إلى جمعها من أفواه الناس، وحافظت - قدر جهدي - على فونيماتها ولهجاتها وأساليب نطقها، ثم يلي هذا - بقدر الإمكان - محاولتي للتعرف على النبتة الأولى - الشفافية - على ms003 ضوء المدونة، وعلى ضوء مضاهاة هذه المواد من شفاهية ومدونة، لما أمكن التوصل إليه حفريا أو أركيولوجيا. # وهو على أية حال نوع من «الدراسة الشاملة لحالة واحدة»، وهو ما يفسر لنا وجود العلاقة الحميمة بين حاجة وتكاتف البناء الاجتماعي وعلم ما قبل التاريخ والآثار ونظريات الانتشارية مع عدم إغفال التأويلات السيكولوجية، والنزعة الوظيفية التي ترى في كل موتيف فولكلوري سواء أكان مثلا أو ممارسة أو كلمة أو عملا أو شعيرة - يخضع لنظام التابو - داخل أي مجتمع وجماعة، وله في النهاية دوره وهدفه الوظيفي لخدمة أغراض طبقية مباشرة ومحددة. # ولعلني حاولت جاهدا الاستفادة من نتائج هذه المناهج سواء التاريخية الجغرافية أو الأنثروبولوجية أو الشمسية أو الوظيفية، أو التطورية، والديموقراطية؛ لدراسة فولكلور بلداننا - التي تتكلم العربية - عن طريق التعرض لمكوناته الرئيسية أو أنساقه أو منطلقاته؛ من لغة، وقرابة، وتابو، وذاكرة جمعية، وأنيمزم - روحانيات - على اعتبار أن مثل هذه البناءات أو الأنساق تلزم باحث الفولكلور، وإن كان أول من نبه إليها - بحق - هو الباحث الاجتماعي أو الأنثروبولوجي. # ولقد اعتادت الدراسات الأنثروبولوجية النظر للفولكلور لا باعتباره علما مستقلا، بل على أنه مجرد فنون كلامية أو فنون قول أو آداب شفوية أو الحكايات والأساطير الشعبية. # بل وصل الأمر ببعض دراسي الثقافة والنظم الاجتماعية والأنثروبولوجيين عامة إلى حد المغالاة بطرد «مصطلح» فولكلور وإخراجه من مجال العلوم الاجتماعية. # وظل هذا هو الحال السائد منذ أواخر القرن الثامن عشر والتاسع عشر، في ربط عجلة الدراسات الفولكلورية والأسطورية بالدراسات والاجتهادات الأدبية أو الفلسفية. # وهو موقف أميل إلى الخطأ؛ ذلك أن المغالطة تتوقف عند مجرد استبدال تسمية فولكلور، بالأنثرجرافيا كمصطلح جديد شائع داخل العلوم الاجتماعية، فإذا ما كانت الأنثوجرافيا هي دراسة الحضارة بعامة، أي كافة نواحي السلوك الإنساني؛ من لغة ومعتقدات ودين وفلسفة وشعائر وممارسات وفنون، بالإضافة إلى ما يعتري كل هذا من تحولات. # فهذا بذاته هو حقل الفولكلور والأساطير، بل إن هذا بذاته هو مفهوم تيلور في مؤلفه الهام عن الثقافة البدائية، وغوصه في حقول الخرافات والحكايات وخوارق الجان ms004 والمأثورات الشعبية، فرغم التوسع في استخدامه لمجالات الفولكلور إلا أنه لم يستخدم مصطلح فولكلور. ونفس الشيء يمكن ملاحظته بالنسبة لموسوعة فريزر «الغصن الذهبي» وموسوعة روبرتسون سميث عن «الأديان السامية»، وغيره وغيره من كلاسيكيات العلوم الاجتماعية أو الأنثروبولوجيا. # هذا برغم ما أبداه الفولكلور - كعلم - لحقل الدراسات الاجتماعية، ولعله من المفيد تصور مدى إسهام الفولكلور في إرساء وتقدم علم الاجتماع، منذ أن أرسى قوائمه دوركايم، وما تفرع منه مثل علمي الأنثروبولوجيا والأفثولوجيا، وهما العلمان اللذان يوليان اهتمامهما الرئيسي لدراسة علم الإنسان الثقافي، مشتملا على كافة نواحي السلوك الإنساني، على اعتبار أن المجتمعات قد عاشت وواصلت استمرارها ونموها في ظل مختلف البيئات التاريخية، ومرت بمختلف التحولات، إلا أنها لم تتخل كلية عن خصائصها الأولى، ولنقل طواطمها وتابواتها، التي تعرضنا لها بالدارسة، وكما أجمع علماء العصر الفيكتوري منذ ماكلينان، وروبرت سميث، وفريزر؛ أنها - أي الطوطمية - ما تزال تحيا وترتع - كرموز ذهنية بدائية - تحت مختلف الأشكال المتكاثرة لحياتنا الحديثة، فأنت تجدها اليوم في أعلام وشارات الدولة الحديثة يستشهد في سبيلها، كما تجدها تطل برأسها في شارات المحافظات، والمطبوعات، والأضرحة، والملابس والماركات والمطبخ الحديث ... إلخ. # ولقد أغفلت التعرض بالدراسة لعلاقة الطوطمية بالفولكلور؛ بهدف إعادة التعرض لهذا الموضوع على حدة، خاصة وأن المناهج البنائية قد حققت بدراستها للطوطمية نتائج رياضية ملفتة، وبالتحديد ما توصل إليه العالم البنائي الفرنسي كلود ليفي شتراوس، الذي انصبت دراسته على علاقة الطوطمية بالظواهر، أو علم الظواهر. ففي رأيه أن الطوطمية كظاهرة حضارية، تجيء كاستجابة أو حتمية لظروف ومكونات طبيعية وبيئية، وأن هناك علاقة شعائرية أو دينية بين الإنسان وطوطمه، وكثيرا ما تتمثل في الأشياء والمناهج المقدسة، ولها سلطاتها الملزمة، وأن نظم الزواج في المجتمع الطوطمي لا تخضع لإرادة الأفراد بقدر خضوعها للقرابة. # فمنذ عام 1920 رصد فان جنيب 41 نمطا مختلفا للطوطمية في أستراليا وحدها، وأثبت أن الكثير منها ما يزال ساريا، برغم أن جذورها الضاربة ترجع إلى الألف الثامن قبل الميلاد. ~~ فالطواطم ما هي إلا أرواح أسلاف تحيا في الخلفاء، محافظة على توارث ms005 أسماء القبائل الأمومية والأبوية، كما أثبت «جنيب» أن الطوطمية ما تزال تتحكم متسلطة على نظم الزواج والطلاق والميراث والقرابة، عند عديد من شعوب العالم خارج الغرب. # وفي طرح التساؤل عن علاقة الطوطمية بالحيوانية والنباتية، يشير شتراوس بأن الحيوان والنبات يمدان الإنسان بطعامه، والاحتياج للطعام يستلزم المكان - أو الوطن - في المفهوم البدائي، كما إن الحيوانات والطيور والنباتات - في بعض الحالات - تبدو أكثر قوى من الإنسان، فالحيوانات قوية، والطيور - على رأسه ريشة - تطير محلقة في السماء، والسمك والحيوانات البحرية تعوم في أعماق البحار والمحيطات. # فشتراوس يسألنا منذ رادكليف براون، ويقدم تفسيراته المخالفة لتثقيفية فريزر، وأنيمزم # 1 # تيلور، والبحث عن الأصول عند ماكلينان، وروبرت سميث، وأخيرا توظيفية مالينوفسكي؛ فجميع هؤلاء قدموا تفسيراتهم عن البدائيين، لكن شتراوس ربط الطوطمية بالتخلف، حتى داخل مجتمعات ما فوق التصنيع. ~~••• # على أن علاقة الفولكلور واستقلاليته كعلم، بالأنثروبولوجيا، ليست بأكثر قربا أو تطفلا منها عن علاقة الأنثروبولوجيا - من جانب ثان - بعلمي التاريخ وما قبل التاريخ. # ذلك أن الفوائد الكثيرة التي يسديها الفولكلور كعلم، لكلا علمي التاريخ وما قبل التاريخ، تتوازى أو قد تتساوى مع كم استفادة الفولكلور والأساطير - بالتالي - من علم التاريخ. # وطبيعي أن يؤدي الأمر في تضافر هذه العلوم إلى كثير من النتائج المفيدة، لعل أبسطها أن أي نص شفاهي أو شعيرة أو ممارسة في حياتنا المعاصرة أمكن بالفعل رصدها وتجليلها إلى أدنى عناصرها أو إخضاعها للبحث والاستقصاء؛ من بحث مقارن، وأبحاث تاريخية، والتوصل في النهاية إلى منابتها الأولى، وهجراتها، وما صاحبها من تحولات خلال وعبر مختلف البيئات والعصور. # وإذا ما قصرنا الأمر على مجتمعاتنا وحضاراتنا العربية السامية، يمكن القول بأن الجسد الأكبر من أساطيرنا وفولكلورنا، أمكن العثور على قنوات منابعه الأولى عند السومريين اللاساميين الذين توارثهم الساميون الأوائل من بابليين وآشوريين - سوريين - وفينيقيين لبنانيين وعبريين وعرب من شبه الجزيرة، من شماليين وجنوبيين. # فما من شك في مدى الإفادة التي عمت الدراسات الفولكلورية - كعلم - من المكتشفات الحفرية التي أجريت في مختلف بلدان عالمنا العربي؛ من سومرية لاسامية في العراق ms006 ، لبابلية آشورية فيما بين وادي الرافدين، لفينيقية في لبنان وفلسطين، مثل مكتشفات رأس الشمرا في فلسطين أو أوغاريت في سوريا (اللاذقية) عام 1929، ومكتشفات البحر الميت الهامة في إسرائيل، ومكتشفات بيبلوس الإغريقية أو جبيل بلبنان، ومكتشفات بعلبك، بالإضافة طبعا إلى مئات المكتشفات والنصوص السومرية والبابلية والأكادية بالعراق، ومكتشفات الحفري جوزيف هالفي ود. أحمد فخري في اليمن والجنوب العربي ... إلخ. # وفيما يتصل بالنظريات والمحكات التي يمكن أن ترسي الفولكلور كعلم، فيكفي بالطبع التقدم الكبير الذي قطعته بعض المناهج الكبرى من جغرافية وتاريخية، ومقارنة في كل مناشطه، من أحاجي وحكايات وملاحم وخوارق وأغان وبالاد، ولعب أولاد، وممارسات، سواء على مستوى الجمع والتنميط أو التصنيف، أو البحث والاستقصاء بهدف تحديد كل جزئية أو فكرة أو تنميطة أو أيتم أو تضمينة؛ تأخذ مكانها في الترقيم على رقعة العالم الجمع. # وإذا ما أخذنا بضعة أمثلة، يمكن ملاحظة أن أساطير خلق العالم المتشابهة عند معظم الشعوب خاصة السامية وما يستتبعها من خلق الإنسان الأول أو القديم من أديم الأرض، أو طين العمق اللازب، أو الصلصال أو العلق، حين أرسل الله رسله الطوطمية - الحشرية - الثلاثة، لإحضار مادة الخلق، ونفخ فيها فخرج من دبره، وهي أفكار حفظت في لعب الأطفال بالطين والعجين، عن طريق النفخ فيها، والنطق بنص سحري «كوك كوك». # وكيف أن فكرة الأطفال الموعودين، الذين يسبق مولدهم أو يصحبه مجموعة خوارق، لا يخلو منها بطل أسطوري أو ملحمي أو شعائري، منذ إيل وكرونس، حتى إبراهيم ويوسف وموسى ويونس وأدونيس وشعيب، والعشرات غيرهم، ممن تصادف تضميناتهم أي جامع ودارس فولكلور بالآلاف المؤلفة، ونفس الشيء لأفكار: الجارية المضطهدة - هاجر والعذراء - وأربعة أركان التابوت أو الدنيا أو العالم، أو ملائكة العرش الأربعة، وهم في معتقدنا الشعبي المصري والعربي الأقطاب الأربعة: قطب الغوص - أو الغوث، وقطب البلاوى، وقطب الرجال، وقطب المتولي. # فيكفي الفولكلور كعلم إنجاز مهامه، وهي كثيرة شائكة حقا. فباحث الفولكلور مثله مثل باحث علم الحشرات، عليه أن لا يتأفف من البحث والتشريح في حكايات ومأثورات الطيور والحشرات والهوام من ms007 ناموس لنمل لهداهد لجعارين لضفادع لديدان، خلفت حضارتها وأقوامها بنفس الاسم في حضارات عالمنا العربي؛ مثل الحميرية والكلبية، بشقيها العربي والعبري، «كالب» # Kalep # بالإضافة إلى حضارات «سوس» وديدان، وآلاف الحضارات الطوطمية الماثلة اليوم. # ولو أن النظرية أو التناول الذي يرى في الفولكلور - الآداب الشفاهية - نوعا من التعبير «الفوقي» للطبقات المتوارثة صاحبة السلطة أو الأرستقراطية - الثقافية والحضارية - التي كانت تورثها وتبعث فيها بالانتشار وما يخدم مصالحها مورثة إياها جماهيرها، أو ما عرفها تونبي بالبروليتاريا الداخلية أو جماهيري الشغيلة، وهو الرأي الذي طرحه منذ منتصف الستينات أستاذنا المرحوم الدكتور مصطفى مشرفة. # 2 # وأجدني أميل إلى جانب الرأي المقابل للمدرسة الروسية المستهدفة البحث عن ملامح الاحتجاج والثورية «للمهانين المضطهدين»، برغم أن مثل هذا المدخل لا يحقق أقصى منافعه في حالة التعامل مع تراثنا المصري - العربي والعبري - السامي بعامة. # فما أندر آداب وفنون الاحتجاج والثورية في مثل هذا التراث الضاغط المتجبر، المتسق كل اتساق ممكن وعلى كافة أبنيته لخدمة أهدافه في التجهيل بمصالح جماهير المهانين المضطهدين، وعلى كافة أبنيته؛ من كوزمولوجية قرابية وتشريعية تولي اهتمامها الأقصى لاتساق التواريث والتوارث والتراث بعامة، بما يحقق البنية الطبقية وتراكيبها. ~~••• # ولعل بداية تعرفي على حقل الفولكلور والأساطير صاحبت البداية التقليدية طبعا؛ أي الشغف بجمع المواد الفولكلورية، سواء أكانت شفاهية أم مدونة تزخر بها وتفيض كتابات الكلاسيكيين العرب أمثال ابن الكلبي، ووهب بن منبه، والطبري، والمقريزي، وابن النديم، وابن إسحاق، وغيرهم. # فما أن بدأت تحقيق موادي التي جمعتها من شفاه فلاحي مصر على طول قرى مصر الوسطى في الفيوم والجيزة وبني سويف والمنيا؛ حتى هالني أن معظم - إن لم يكن كل - هذه المواد يمكن فعلا تعقبها - خلال الزمان والمكان؛ أي على كلا المستويين التاريخي والجغرافي، وردها بالتالي لمنابتها وأصولها الأولى. # وإن معظم - إن لم يكن كل - فولكلور الشعب المصري ينتمي في مجمله لتراث البلدان العربية المتاخمة والمجاورة؛ أي إن هناك حقيقة عربية تتمثل أول ما تتمثل في هذا التراث المتجانس الواحد، الذي يلتقي تحت لوائه المصري القديم، جنبا إلى جنب مع ms008 السوري - أو الآشوري - واليمني القحطاني مع العربي العدناني في السعودية. # بل إنه وبنفس هذا المنهج يتلقانا العالم من حولنا، على خرائط وأطالس الفولكلور العالمية، فلا تفرد هذه الأطالس دراسة مصر بمعزل عن العراق، ولا الشمال الإفريقي بمعزل عن دول الخليج العربي، وهكذا. # فلقد أصبحت حقيقة لا تقبل الجدل، يقول بها عديد من علماء وشراح العالم القديم؛ وهي أنه لكي نتفهم ونستكشف دور الحضارة المصرية الفرعونية - بفولكلورها وأساطيرها - على الوجه الصحيح، يجب أن نتسلسل بادئين بدراسة حضارة وموروثات الشرق القديم عامة، والشرق الأدنى بشكل أخص - أو مجموعة الشعوب السامية في إطار حضارة البحر الأبيض. # 3 # ويتحمس لهذا الرأي كثير من العلماء؛ منهم: برستد وجوردن تشايلد وأرنولد توينبي، والعالم الأثري المصري أحمد فخري، والعالم العراقي الكبير د. جواد علي. # ففي الوقت الذي يجنح فيه توينبي إلى عدم جدوى البحث عن بقايا مصر القديمة خلال ثنايا مصر المعاصرة، يرى كل من د. برستد، ود. أحمد فخري؛ أنه من المحتم معرفة حضارة الشرق القديم مجتمعة، ثم الإفاضة أو التخصص في أي حضارة محددة من هذه الحضارات على حدة؛ مثل الحضارة المصرية أو القحطانية أو العبرية أو الكنعانية الفينيقية، وهكذا. # وهو ما حاولت - جاهدا - الأخذ به والسير على هداه في محاولتي الدراسية هذه، المستهدفة تعرف ملامح وموروثات شرقنا القديم أو مجموعة الأقوام السامية؛ بقصد تحديد دور ومكان تراثنا المصري الفولكلوري منها. # ويمكن الجزم بأن الأخطاء أو المغالطات أو الغموض، الذي قد ينتاب أي حضارة مفردة منها؛ يؤثر في مجموع حضارات الشرق الأدنى القديم عامة. # ومعنى هذا أن ضياع المدونات التاريخية لبعض هذه الحضارات المتتاخمة يؤثر على بعضها الآخر، أي إن غموض وعدم وضوح الحضارات القبلية القديمة لشبه الجزيرة العربية بقسميها الشمالي الإسماعيلي العدناني الرعوي، في مكة والحجاز ونجد، والجنوبي القحطاني أو اليقطاني في اليمن والجنوب العربي؛ يؤثر مباشرة في الحضارة المصرية القديمة المجاورة تأثيرا مباشرا، وكذا يؤثر في حضارات الشام وفلسطين وما بين النهرين، وهكذا. # خلاصة القول أنه قد تعارف علماء الفولكلور والإنسانيات على النظر ودراسة ms009 عالمنا العربي كمنطقة متجانسة التراث، تعرف بمنطقة الفولكلور والأساطير السامية، والسامية هنا تعريف لغوي - أثنولوجي - أكثر منه تعريف جنسي؛ بمعنى أنه يتمثل في الأصول اللغوية المتجانسة أو الواحدة التي تصل روافدها المبكرة إلى عشرات ومئات اللهجات، والتي اكتملت اليوم في العربية والعبرية وبعض السريانية. # فلقد اتفق علماء الأساطير والفولكلور على تقسيم قارة آسيا إلى خمس مناطق متجانسة التراث، أقربها إلينا منطقتان هما: منطقة الفولكلور والأساطير الآرية، وتضم الهند وفارس - إيران، ومنطقة الفولكلور والأساطير السامية، وهي تشمل الشرق الأدنى القديم، أو الشرق الأوسط المعاصر، أو مجموعة الشعوب التي انتهت إليها وتبلورت اللغات واللهجات السامية، التي اكتملت اليوم في العربية والعبرية. # وطبعا كان لزاما علي التعرض بالدراسة لكلا التراثين العربي والعبري، بالإضافة إلى المؤثرات الآرية للهند وأواسط آسيا وفارس، وبالإضافة أيضا للتراثين الهليني والروماني؛ نظرا لدورهما المؤثر في مصر والعالم العربي عامة، ولوجود إمبراطوريتهما وبالتالي مؤثراتهما التراثية والحضارية قرابة 1000 عام. # وعن هذا الطريق يمكن معرفة تراثنا المصري وإعادة تفهمه، ونفس الشيء بالنسبة لتراث الشعب الليبي والعراقي، وهكذا. # أي إن المدخل العلمي للوقوف على أدق خصائص الملامح المحلية لأي شعب من شعوبنا العربية؛ لن يكتمل إلا في إطار المعرفة الشاملة لخصائص المنطقة ككل متجانس، أقرب إلى التوحد منه إلى الاختلاف والتناقض. # فمعظم السير والملاحم والقصص الشعرية الطقوسية التي يجمعها جامع ودارس الفولكلور في مصر؛ يمكن أن يعثر على متنوعاتها زميله التونسي والعراقي والليبي في بلاده؛ مثل: سيف بن ذي يزن، وسيرة الهلالية أو بني هلال، وسير وملاحم التباعنة - جمع تبع - ومثل الزير سالم، وعزيزة ويونس، ويوسف وزليخة، وسارة وهاجر، والقميص - قميص النبي محمد، وزرقاء اليمامة، وبرافشن، وعلي الزيبق، والأمثرة ذات الهمة. # وكذا كل ما يتناقل شفاهيا عن قصص وحكايات الخلق والسقوط والطوفان واغتيال الأخ لأخيه، وكل ما يتصل بولادة وتربية الأنبياء الموعودين: إبراهيم، ويوسف، وموسى، وداود، وإدريس، ويونس، والخضر، وشعيب. أي يمكن الحصول على مترادفات وتنويعات هذه الأساطير والملاحم والقصص والبالاد والخرافات على طول العالم العربي. # كما أن من المفيد معرفة أن معظم ms010 هذه السير والملاحم والقصص الطقوسية هي في حقيقتها أشلاء أحداث تاريخية ومناسبات أريد بها الحفظ والتذكير، كأعياد العيد الكبير والصغير وعاشوراء، والجمعة الحزينة، وبئر زمزم، وشم النسيم، وعديد من المناسبات التقويمية. # فهذه الملاحم والأناشيد الروائية ينظر إليها كمدونات تاريخية «وهكذا دخلت في المؤرخات الأولى عناصر الملحمة والقصة الشعبية» كما يقول عالم ما قبل التاريخ جوردن تشايلد، # 4 ~~«بل إن الرواية الأدبية التقليدية العربية استفادت من الرواية الدينية والتاريخية، وما اصطنعته من ضوابط»، # 5 # كما يقول الدكتور عبد الحميد يونس. # ولعل المشكلة الرئيسية التي واجهتني في محاولة عمل إلمامة سريعة لتاريخ منطقتنا هذه التي نعيش أحداثها العنيفة المتجددة؛ تبلورت في غياب وجود تتابع تاريخي واضح إلى حد، أو هو متواز مع تاريخ الشعب المصري أو العراقي القديم. # من ذلك افتقاد شبه الجزيرة العربية لتاريخها المبكر السابق على مجيء الإسلام، وهي الفترة التي يطلق عليها اعتباطا بالجاهلية، وإن كانت - هذه الجاهلية - تزدهر بالعديد من النشاطات الإبداعية الحضارية المرصودة أركيولوجيا أو علميا، تصل إلى قرابة 4 آلاف عام قبل الميلاد. وللجنوب العربي في اليمن ودول الخليج حضارته وتراثه الأسطوري والعقلي - الموغل في القدم والعراقة. # وليكن واضحا أنني لا أكتب تاريخا بقدر ما أنا أبحث عنه محاولا استخدامه لإرساء ضوابط ومحكات تراثية أو حضارية على قوائمها يمكن إرساء معالم تتابع تراثي، عصرا إثر عصر، أو جيلا إثر جيل، إن شابه شيئا فهو أقرب إلى تتابع الصخور الرسوبية بعضها فوق بعض. # فكما هو مفهوم يصبح الفولكلور بلا قيمة تذكر ما لم يتحدد تاريخه ومنبته الجغرافي، ومجراته، وما طرأ عليه من تغييرات خلال الزمان والمكان. # وعلى هذا أدت المناهج البنائية، التي موجزها تكاتف مجموعة علوم ذات أهداف ومستويات استراتيجية، في الكشف عن ظاهرة أو مجموعة ظواهر. # وبهذا أصبح لا غناء لعلمي الأساطير والفولكلور عن علمي التاريخ وما قبل التاريخ. # كما أصبح في مقدور علم الفولكلور إعادة إنارة وتوضيح المدونات التاريخية وإعادة ضبطها وتحريكها من أقدم مواقعها. # فما من إضافة كشفية أركيولوجية أو حفرية لم تسهم بشكل إيجابي في إعادة ms011 توضيح وتكامل جزئيات هذا التراث الهائل لشرقنا الأوسط، الذي وهب العالم أديانه الثلاثة الكبرى: اليهودية، والمسيحية، والإسلامية. # وما من إضافة - مدونة كانت أو شفاهية - لم يترتب عليها دوام الهدف المستهدف - أصلا - لتوالي البناء واستقامته. # وعلى هذا فالعلاقة وثيقة بين التاريخ وبين التراث الأسطوري والفولكلوري، أو بين الأنثوجرافيا وبين الأنثروبولوجيا الاجتماعية. # ويمكن اعتبار الدراسات الفولكلورية محتوية - أو متضمنة - الأساطير، أحد المركبات الهامة اليوم، في إعادة بناء تاريخ الجسد الحضاري لأي شعب أو مجموعة من الشعوب. # ففي مقدور مثل هذه الدراسات الجديدة الشابة، تلك التي تستهدف أول ما تستهدف إرساء أكبر قدر من التسامح القائم على الفهم، كما يقول أحد روادها الأوائل - سير جيمس فريزر - في نهاية موسوعته المعروفة بالغصن الذهبي البالغة 14 مجلدا. # في مقدور الدراسات الموضوعية البعيدة عن محاولات نطح جدران التعصب؛ أن تعيد إرساء وتشكيل معالم تاريخ جلي واضح لحضارات شرقنا العربي، الموغلة في العراقة. # على أن هذا التاريخ الثقافي أو الفكر سيكون مرتبطا أشد الارتباط وأوثقه بحركة جماهير شعوب منطقتنا العربية أو السامية، وصراعاتها المستهدفة للتوحد والتجانس. # ومفهوم طبعا أن مثل هذه العلوم الإنسانية قطعت مرحلة كبيرة من الرصد والجمع والتصنيف على مستوى العالم أجمع، وتوصلت إلى نتائج علمية وصلت إلى حد استخدام الأجهزة التكنولوجية؛ من عقول إليكترونية وآلات حاسبة، ومناهج رياضية، فأصبح هناك اليوم عقول إليكترونية متخصصة؛ في أفرع الفولكلور والأساطير المختلفة عقل إليكتروني متخصص في حكايات الحيوان، وآخر للزواحف، وثالث لخرافات الجان، ورابع للحشرات والهوام والنبات، وهكذا، وهو ما ينجز بتوسع في دول شمال أوروبا، وفرنسا وأيرلندا. # وما أحوجنا اليوم إلى الاستفادة من حركات «عقلنة» التراث التي تجري من حولنا بهدف مضاعفة التنمية؛ من مادية، وبشرية، وعقلية. # كما أنه ما أحوجنا - هنا في مصر - إلى قيادة حركة تنوير حقيقية ذات جذور، تبعث بإشعاعاتها على طول منطقتنا العربية وتسهم بشكل علمي حقيقي في شعارات إعادة بناء الطاقات العقلية للإنسان المصري والعربي، استجابة لشعارات الدولة العلمانية، وإعادة بناء الإنسان الاشتراكي المصري الصاعد. # وكم سيكون مفجعا أن تكتشف الأجيال القادمة ms012 مدى سيطرة الخرافات على العلم، ومدى تعنت الأساطير وجبروتها في الدفع والتحكم في حركة التاريخ، كما يقول فريزر. # شوقي عبد الحكيم # الفصل الأول # | مشاكل التراث العربي السامي # من المؤكد أن عديدا من المشاكل تعترض الباحث في تتبع أصول أساطير وفولكلور هذه المنطقة التي نتنفس أحداثها، وهي منطقة الشرق الأدنى أو الأوسط، خلال الزمان والمكان، ومرجع هذه المشاكل عدة عوامل أو صعوبات؛ أولها: قلة الجهود التي بذلت في هذا الحقل البكر، سواء منها ما يتصل بالبحث في المصادر الأولى أو المصادر الأم من وثائق ومدونات حفرية ونصية؛ أي ما أوضحته الكشوف الحفرية أو المسمارية للآثار العراقية وحضارتها المتعاقبة، من سومرية - لا سامية - إلى البابلية والأكادية والآشورية، وما أوضحته الحضارات القبائلية في الجزيرة العربية، بقسميها الشمالي العدناني البدوي - في السعودية اليوم - والجنوبية القحطانية الحميرية الزراعية - في اليمن والجنوب العربي، وما أوضحته الكشوف الحفرية للحضارة الكنعانية الفينيقية وطليعتها البحرية في لبنان وفلسطين، بالإضافة إلى ما ضاع وانقرض من مدونات نصية - غير حفرية - التي وردت في شكل نصوص مدونة في الكتابات المبكرة في كتب الكلدانيين والآراميين واليهود والسريان والأنباط والحرانيين، والتي منها انحدرت فرق ونحل الملل المنقرضة مثل الدهرية والصابئة والثنوية والديصانية والمجوسية والنشابة، والمئات غيرهم، هذا بالإضافة إلى المئات من كتب ومؤلفات العلماء والكتاب والرواة من العرب وغير العرب؛ مثل وهب بن منبه، والألوسي، وعبيد بن شريه الجرهمي، وكعب الأحبار، ومحمد بن إسحاق، والدميري، والأزرقي، والبلخي، والقزويني، والهمداني، والساجستاني، وابن وحشية الكلداني، والطبري، وابن قتيبة، وابن النديم، وابن كمونة ... وهكذا. # وكتابات هؤلاء أصبحت اليوم مصادر شديدة الأهمية بالنسبة لدارسي حضارات وأساطير الشرق الأدنى القديم، تجيء أهميتها مباشرة بعد المدونات التاريخية الأركيولوجية. # وعلى سبيل المثال: فقد كان اكتشاف الجزء الثامن من كتاب «الإكليل» للعالم العربي الكبير محمد الحسن بن يعقوب بن يوسف بن داود المشهور بالهمداني، والذي يصف فيه قلاع اليمن القديمة وقصورها وجانبا كبيرا من حياتها الاجتماعية ومعتقداتها، وهو الكتاب الذي أجلى الكثير من الغموض والذي «يتضمن محافد اليمن ومساندها ودفائنها وقصورها، ومراثي ms013 حمير والقبوريات»، وكذلك اكتشاف الجزء العاشر من نفس الكتاب الذي يتحدث فيه الهمداني عن قبائل اليمن ومملكة سبأ وحمير التي دان لها العالم أجمع منذ بداية الألف الثالثة قبل ميلاد المسيح. # هذا رغم أن أربعة أجزاء كاملة فقدت تماما من هذا المدون النادر؛ من بينها الجزء السابع الذي تناول فيه الهمداني الأساطير والخوارق - والحكايات المستحيلة - لليمن الغابرة، وكذلك جزؤه الثالث عن «فضائل قحطان». # وهذا يقودنا للحديث عما فقد من مدونات التراث الحضاري للعالم العربي النادرة، # 1 # من كتب «الإشارة في السحر» و«أسرار الكواكب» و«الحياة والموت» و«القرابين» و«الأصنام» و«كتاب هرمس في النشر والتعاويذ والعزائم» و«نوادر جحا» و«نوادر ابن أحمر» و«كتاب الفال لأهل فارس» و«حديث ابن الدكاني» وأغلب مؤلفات المدائني، وابن وحشية الكلداني - وهو من ولد سنحاريب ملك آشور - وكتبه في السحر، ومساهب النبط أو الأنباط، ومذاهب الكلدانيين، وكذلك كتب علي بن زين النصراني «في الآداب والأمثال على مذاهب الفرس والروم والعرب»، كما فقدت أغلب كتب طالوت وصالح بن عبد القدوس وعلي بن ثابت وأبو عيسى الوراق وسهل بن هارون وعلي بن داود، وشيلي - صاحب مذهب الشيليين - وتلميذه بابك بن بهرام وابن أشورى أو شورى وغيرهم. # بل إن خزائن كتب ومكتبات بكاملها قد ضاعت وانقرضت تماما، وكان يمكن لهذه الكتب والمدونات إلقاء بعض الضوء على ما انقطع من أحقاب تاريخية بكاملها أصبحت لدى الدارس الحديث مظلمة مسدودة قاحلة. # منها على سبيل المثال: أخبار وأساطير القبائل العربية، التي يرجعها البعض إلى ما قبل الألف الثالثة قبل الميلاد، والتي بيدت دون أثر ولم تخلف ما يدل على تراثها وملحمها، مثل قبائل عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم وغيرهم من القبائل التي مضت من الوجود وانتهت بكامل أسمائها وأنسابها، وتعارف عليها باسم العرب البائدة، أو الغابرة، أو العاربة. # وعلى هذا تعارف المؤرخون والنساب على بقايا القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية باسم العرب «الباقية» أو المتعربة، أي عرب الجاهلية الأولى والثانية. # وقسموهم إلى قسمين: شماليين أو عدنانيين أو ms014 إسماعيليين - في نجد والحجاز - وجنوبيين هم القحطانيون، نسبة إلى قحطان - أبو اليمن - وهو قحطان بن عابر أو النبي هود أبو الملوك اليمنيين ملوك دول سبأ وحمير ومعين، والدولة الأخيرة امتد سلطانها حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي وبحر العرب، إلى جانب استيلائها على جميع مناطق شبه الجزيرة العربية. # يقول ابن خلدون في تاريخه عن ملوك حمير: # كانت الدولة والملك في بني قحطان متصلة من يعرب بن قحطان، وكان من أعالم ملوك اليمن، ثم تسلسل الملك إلى سبأ بن يشجب بن يعرب، ثم في دولة كهلان وحمير، ثم أولادهما. # وقبل التعرض بتفصيل عن ممالك سبأ وحمير، وما خلفته حضارتهما في تراثنا الشفهي المعاش اليوم، نعود إلى استكمال ما بدأناه عن مشاكل الدراسة شبه الدقيقة لتراث هذه الشعوب السامية التي اتفق علماء اللغات - الأثنولوجي - على تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: # يعرف أولها بالقسم الشرقي أو البابلي الآشوري في العراق. # والثاني يعرف بالقسم الغربي أو الكنعاني أو الآرامي في الشام وفلسطين. # ويعرف الثالث بالقسم الجنوبي أو الغربي في الحجاز واليمن. # وقد اتفق اللغويون أو المستشرقون، نظرا لظروف جغرافية واجتماعية وتطور طبيعي، على إعادة تقسيم المجموعة السامية إلى ثلاثة أقسام لغوية هي: # القسم الغربي ولغاته ولهجاته الكنعانية والأخلامية والفينيقية والبونية والآرامية والعبرية والسريانية والتدمرية والنبطية والموآبية والأمورية. # أما القسم الجنوبي، فتنقسم لغاته إلى لغتين: # أولهما: # العربية ولهجاتها هي: العربية القديمة - أو الآرامية - والقحطانية والحميرية والمعينية والسبئية. # وثانيتهما: # الحبشية أو الجعزية، # 2 # وهي لهجة الحضارات القديمة التي نشرها اليمنيون في الحبشة منذ منتصف السنوات الألف قبل الميلاد، حين غزت جبال الحبشة جموع من حضرموت، واستوطنت فيها، ونشرت اللغة الجعزية التي ما زالت سارية، يمكن تلمسها في بقايا الطقوس الدينية للكنيسة الأثيوبية، بعد أن حلت محلها اللهجات التيجرية والتيجرانية والأمهرية والهررية. # وتندرج كل هذه اللغات واللهجات - التي اندثر مجملها ولم يبق منها سوى العربية والعبرية - تحت منطقة أساطير وفولكلور ما يعرف بالشعوب السامية أو العربية بحسب ما يراه سبرنجر «من أن جميع الساميين عرب». # وإذا ما تناولنا ms015 القسم الشرقي للأقوام السامية أو العربية في العراق وما بين نهري دجلة والفرات عامة، وهي الأقوام أو الحضارات الأكادية والبابلية والآشورية، التي توارثت حضارة السومريين وأساطيرهم وآلهتهم ومعتقداتهم، وترجع أولى بدايات ممالك هؤلاء الساميين إلى منتصف القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد من حوالي 3350ق.م. # وعن هذا القسم الشرقي السامي، أي البابلي، سرى تراث الأقوام السومرية الأكادية المندثرة - مثلها في ذلك مثل العرب البائدة - إلى بقية الأقوام السامية الأخرى، من أمورية وكنعانية وآرامية وعبرية وعربية في ربوع الشام وشبه جزيرة العرب بقسميها الجنوبي القحطاني في اليمن، والشمالي العدناني في الحجاز ونجد، إلى جانب بقية الأقوام السامية المتأخرة في الشام وما بين النهرين، مثل قبائل كهلان المتفرعة من صلب سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان أبو اليمن - أول من تكلم العربية - والذي منه جاء الحميريون التباعنة ملوك اليمن، وآخر ملوكهم كان الملك سيف بن ذي يزن الحميري، بطل السيرة والملحمة الشفاهية المعروفة. # ومن كهلان - شقيق حمير - جاءت أشهر بطونها قبائل الأزد - الذين تفرقوا عقب خراب سدود اليمن، وكان أهمها سد مأرب، وسد الخانق بصعدة الذي بني في عهد الملك سيف بن ذي يزن، وسد ريعان «لابن ذي مازن»، وسد سنان وعنس وجيرة، وسدود يحصب، التي يقول عنها الهمداني: «وهي على ما كنت أسمع ثلاثون سدا، وقيل ثمانون، ومنها سدود سحر، وذي سمال، وذي رعين، ولحج، ومفاضة، وهران، والشبعاني، والمنهاد، وألطاف» ... إلخ. # ومن قبائل كهلان جاءت قبائل الغساسنة ملوك الشام، وأيضا قبائل الأوس والخزرج الذين هاجروا من اليمن ونزلوا المدينة، ومنهم جاءت قبائل خزاعة - ملوك الظهران - الذين نزلوا الظهران وأصبحوا ملوكها. # كما أن من قبائل كهلان جاءت همدان، ومن أصلاب الهمدانيين انحدرت قبائل كندة وطيء وخثعم وبجلة ولخم وجذام، ونصر بن ربيعة أبو الملوك الناذرة بالحيرة. # ويقال إن النخل أو التمر كان من أعظم العوامل التي اجتذبت هؤلاء الساميين الرعويين المعدمين من شبه الجزيرة العربية إلى أرض بابل، وبناء على ما رواه المؤرخ سترابون الذي ذكر أن الفارسيين قالوا في النخيل ms016 شعرا «عد فيه نحو ثلاثمائة وستين طريقة مختلفة لاستخدامها والانتفاع بها». # ويبدو أن ثروات وأخصاب دلتا الفرات لعبت دورها الجاذب لتلك القبائل البدوية غير المتحضرة، يقول هردوت: # على أن بابل كمصر؛ كثيرة الترع والقنوات، ومنها ما كان كافيا لتسيير السفن المتجهة جنوبا من الفرات إلى دجلة حيث تقع «نينوى» الشهيرة بخصبها ووفرة حنطتها، ولشدة الخصب كان عرض ورقة النبات يبلغ أربعة قراريط. # ولقد اتصلت الجزيرة العربية منذ فترات مبكرة بما يجاورها من حضارات زراعية أو نهرية، مثل الحضارات البابلية والفارسية وحضارات جزر البحر الإيجي ثم الرومان، وأخذوا عنهم الكثير من تراثهم الحضاري والعقائدي، ولعب قيام مملكتي الحيرة والغساسنة على أطراف الدولتين الفارسية والرومانية أثره بالنسبة لهاتين الحضارتين المتمايزتين، أي حضارة النهر والزرع والاستقرار، وحضارة البدو والوبر والإغارة واللااستقرار. # ولقد تبدى هذا التمايز أو التناقض بين الحضر والبداوة في كلا التراثين المدون والشفاهي، وكذلك تبدى بشكل متواصل في الحياة الاجتماعية للشرق الأدنى عامة، مثل الصراع بين العرب العدنانيين أو المعديين سكان الحجاز، والقحطانيين سكان اليمن. # فتتبدى أسباب الصراع بين الحضارة والبداوة في الإغارات المتوالية على موارد المياه، وتمثل هذا الصراع أكثر - فيما بعد - بين عرب أهل المدينة من الأوس والخزرج، وهم يمنيون، وأهل مكة العدنانيون، ويدور الصراع بين أبناء الأب الواحد مثل صراع بني هاشم وبني أمية بمكة، وعبس وذبيان من قيس، وبكر وتغلب من ربيعة ... إلخ. ولقد أيدت بعض الكشوف الحفرية المتأخرة ما جاءت به المصادر العربية عن ملوك اليمن القديمة، الذين يعرفون بالعرب البائدة أو المندثرة، وهي قبائل عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم وغيرهم من القبائل الموغلة في القدم، والتي ما من شك في أنها ترجع إلى ما قبل الألف الثالث ق.م، وهي القبائل التي أهلكها التناحر القبلي المتواصل لأسباب غريبة لا تتعدى القحط والجدب والعصبية القبلية العمياء وعبادة السلف؛ فمثلا أفنت قبائل عاج معاصريها قبائل بني عفير بن لقيم بسبب جور رأس بني لقيم، سالم بن هزيعة، الذي أذل امرأته شقيقة لقمان بن عاد، # 3 # وعندما نشبت الحرب ms017 بين القبيلتين هزمت قبائل عاد قبائل لقيم حتى أفنوهم عن آخرهم، ولم يتركوا منهم أحدا إلا امرأة يقال لها صنيعة من بني عمرو بن لقيم، كانت متزوجة في قبيلة ثمود رجلا من أشرافهم، فولدت له رجلين يقال لهما الوضيع وغانم. # المهم أن هذه المرأة، التي بيدت قبيلتها عن آخرها، عادت فحملت انتقامها، وسارت بولديها لاجئة إلى «أختها من قبائل ثمود بن عابر بن إرم بن سام، وهم يومئذ أمنع العرب وأعزمهم»، وتسببت هذه المرأة في إشعال لهيب حرب جديدة انتقامية بين عاد وثمود، «فقتلتهم ثمود جميعا حتى أفنوهم عن وجه الأرض.» # وطبعا كان لهذه القبائل المندثرة التي نحن بصدد الحديث عنها بقايا أساطيرها العرقية الضنينة، التي يقول بأن الصحيفة التي أنزلها الله على آدم ثم نوح وابنه سام وابنه عابر أسلمها بدوره لابنه يعرب، قائلا: «أنت يا بني صاحب الصحيفة، سيقال لك وتقول فاضرب بما في يديك»، إلى أن تبلبلت الألسن في حادث بناء مدينة بابل وبرجها الكبير، «وانقسمت الألسن إلى 72 لسانا، وأجرى جبريل على لسان كل أمة لغتها»، فنطق الناس بالألسن العجمي والعربي، وأفصح يعرب بالعربية، وهود أبوه، «أما قبائل عاد وثمود وطسم وجديس وعملاق ورائش؛ فإنهم نطقوا مع ابن عمهم عابر بالعربية، فأدركتهم بركتها، وشرفوا وتغلبوا على جميع من كان معهم من الألسن، حتى زهوا على الناس، وظهروا فيهم الطغيان، وأشرفوا على الناس، وكانوا كذلك إلى حين والناس إذ ذاك ببابل.» # يقول الطبري مؤكدا قدم هذه القبائل إنه وبعد أن خلق الله العالم «خلق مدينتين (عاد وثمود) بالسريانية، ومرقيسيا وبرجيسيا، ولكل مدينة منها عشرة آلاف باب بحراسهم، ولولا جلبتهم وضجيجهم، لسمع الناس من جميع أهل الدنيا هدة وقعة الشمس حين تطلع وحين تغرب، ومن ورائهم ثلاث أمم: منسك، وتافيل، وتاريس، ومن دونهم يأجوج ومأجوج». # ومرة أخرى يشير المسعودي بما يؤكد أن بقايا هذه القبائل البائدة أو المندثرة، أي جرهم والعماليق ورائش، كانت أسبق في الوجود من نظائرها أو أشقائها من العرب العدنانيين، الذين هم من نسل إسماعيل - أعظم ms018 صيادي البرية - ابن النبي إبراهيم من هاجر المصرية جارية ساره # 4 # أو ساراي «زوجة إبراهيم وابنة عمه في الرضاعة»، وما هو معروف عن صراع هاتين الضرتين، فلما كانت سارة الزوجة الحضرية - أم القبيلة - عقيما وولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر فغارت سارة، وحمل إبراهيم هاجر وابنها إسماعيل إلى مكة، فأسكنها بها وتركها وابنها عائدا وشاكيا # ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ~~. # يقول المسعودي: فآنس الله وحشتهم بجرهم والعماليق، وجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم. # ومعنى هذا أن بقايا هذه القبائل المندثرة، أي جرهم والعماليق، كانت موجودة بزمن سابق على وجود أشقائهم العدنانيين، وكذلك العبريون نسبة إلى الفرع الأنثوي أو الأموي. # وتواصل أسطورة أرض ميعاد يعرب بن قحطان ابن النبي هود، الذي أرسله الله إلى أرض بابل نبيا # وإلى عاد أخاهم هودا # وكيف أن هودا رأى رؤيا «كأن آتيا أتاه فقال له: يا هود، إذا ضربت رائحة المسك إليك وإلى أحد من ناحية من نواحي الأرض، فلتتبع تلك الناحية من رائحة المسك، ذلك النسيم، حتى إذا كف عنه نزل، فذلك مستقره.» # يقول وهب بن منبه الحميري: «وإن يعرب بن قحطان بن هود وجد رائحة المسك، فقال له هود: أنت ميمون يا يعرب، أنت أيمن، ولدي مر، فإذا سكن عنك ما تجده، فانزل بأرض اليمن لا تمر، فإنها لك خير وطن.» # خلاصة القول أنه ما من شعب أو رهط أو قبيلة لم يحفظ لها تراثها وتاريخها أسطورة أرض ميعاد، تحدد لها أرضها ووطنها. # لكن مشكلة المشاكل هي في ضياع وافتقاد هذا التراث، على مر عصور الاضمحلال الطويلة الثقيلة القاسية. # الفصل الثاني # | أساطير السومريين عند العرب الساميين # وإذا ما حاولنا تتبع المراحل التي قطعها تطور الآلهة والأساطير السومرية، بعد أن توارثها الكلدانيون والبابليون والآشوريون، أي الفرع السامي سكان الحضر في دلتا العراق، ثم كيف انتقلت عبرهم إلى القبائل العربية أو السامية الأخرى في مكة والحجاز واليمن والشام وفلسطين، وما لحقها وطرأ عليها من تغيير وتبديل وإضافات، نجد الآثار السامية ms019 قد كشفت أن الآشوريين واليمنيين كانوا يحتفظون بأوثان الآلهة السومرية التي توارثها الكلدانيون من أسلافهم السومريين اللاساميين القدماء. # فلقد كانت بابل وآشور هما بمثابة المنبع الأكثر خصوبة وتحضرا والذي قاض على ما يجاوره من تخوم وقبائل، مثل القبائل العربية، على طول شبه الجزيرة، بل ومن نفس أور الكلدانيين بين النهرين خرجت ونزحت قبائل إبراهيم وآشور السامية إلى الشام وفلسطين قبل انتهاء الألف الثالثة قبل الميلاد. # وكشفت الدراسات الأسطورية المقارنة عن أن هناك أساسا أسطوريا عقائديا بل لاهوتيا مشتركا لأغلب هذه الشعوب السامية منذ أكثر من ألفي عام قبل الميلاد، سواء فيما بين النهرين أو في مكة واليمن والشام وفلسطين. فإذا ما أخذنا مثالا بسيطا: فالإله الكلداني البابلي بعل الذي من اسمه تسمت بعلبك في لبنان، ظهر منذ بداية الألف الثالثة ق.م عند البابلين باسم «بل» وعنهم أخذه الكنعانيون ولقبوه بالسيد، أي «زوج»، وجمعها بعليم (قضاة 11: 2) والصيغة المؤنثة منه بعليت أو بعلاية. # وعرفت ديانة البعل - كإله ولقب - في سوريا وفلسطين منذ بداية الألف الثانية قبل الميلاد. ~~ ثم تطورت ديانته ودخلت في اللاهوت المحلي بعد ذلك الزمن، فأصبح لكل مدينة بعلها أو ربها الحامي، وتنوعت ألقابه؛ فالإلهة «ميلكارت» كانت بعل طيرة، بينما أصبحت «عشتروت» هي البعلة الأنثى في بيبلوس، وعندما نزل الساميون الأوائل فلسطين، وجدوا عديدا من الأماكن - غير السامية - المقدسة، مثل الأشجار والجبال وآبار الماء، فأطلقوا على كل منها اسم بعل، وعن هذا الطريق عبد سكان كل مدينة بعلها المتفرد كأنه محلي، وبتوالي العصور دخلت ديانة البعليم لدى كل شعوب الشرق الأدنى القديمة، فأصبح إلها للسماء، بل إنه توحد بالسماء، وإنزال المطر، وعرف ببعل شيم عند شعوب آسيا الغريبة، كما توحد مع حرارة الشمس التي منها ينبت النبات ويكثر الإخصاب، كما أن من ألقابه التي عرف بها إله التنبؤ، ومن اسم بعل جاءت تسمية البطل القرطاجني هانيبال، وقرطاجنة كانت من أقدم المستعمرات الفينيقية، كما أن من أسمائه الأخرى بعل قبيلة جاد، وبعل زيفون، وبعل زيبوب أو الذباب، كما أن البعل ms020 توحد بالإله السومري الذي توارثه الساميون وهو الإله ميردوخ أو مردوك، والذي أصبح الوريث الشرعي لسلطان الإله الآشوري آشور الذي تضاعف نفوذه عقب اضمحلال آشور، وكان يعرف باسم «بعلو». # يقول «أورث» في كتابه «ديانة البعليم» إن بعل العبري هو بنفسه الإله «هبل» إله قبيلة قريش في مكة ... وقال: وفي اعتقادي أن عبادة البعليم ليست بعبادة فلكية أو تنبؤية في منبتها الأصلي؛ ذلك لأن علم النجوم لم يعرف في آسيا الغربية قبل عصر الآشوريين والكلدانيين. # ويرى المستشرق نولدكه: أن اللقب الإلهي بعل - أي السيد أو الزوج - كان معروفا لدى الساميين الشماليين، وعنهم توارثه عرب شبه جزيرة سيناء، فعرف عندهم باسم «بعلو»، ووجد في النقوش عقب أسماء الأعلام مثل «عبد البعلي» و«أوس البعلي» و«جرم البعلي». # يقول ابن حزم إن في بعض كتب اليهود تفسيرا لتيه بني إسرائيل مع موسى في سيناء «حتى ماتوا كلهم، إنما كانت لأن فرعون كان قد بنى على طريق مصر إلى الشام صنما سماه بعل صفون، وجعله طلسما لكل من هرب من مصر، يحيره ولا يقدر على النفاذ منه.» # ويرى نولدكه أن عرب شبه الجزيرة العربية، أخذوه عن عرب شبه جزيرة سيناء وعنهم «عرفوه لفظا ومعنى»، ووجد في التنزيل # أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين ~~. # ويقال إن أول من استقدمه إلى مكة هو عمرو بن لحي الجرهمي، فقد قدم بصنم يقال له «هبل»، وكان هبل من أعظم أصنام قريش، فنصبه على البئر في بطن الكعبة، وأمر الناس بعبادته، فكان الرجل إذا قدم من سفر بدأ به على أهله بعد طوافه بالبيت، وحلق رأسه عنده، وكان اسم البئر التي في بطن الكعبة «الأخسف»، والعرب تسميها «الأخشف»؛ كما يقول الأزرقي في أخبار مكة. # ونظرا لأن الساميين بعامة قدسوا موارد المياه، واعتبروها مهبط عرش الله، فإن إقامة هذا الإله الجديد، بعل أو هبل، على بئر ماء يشير إلى علاقته بالرزق والإخصاب عند العرب، كذلك عرف بكونه الإله واهب النعم، لدى القبائل العبرية. # وكان العرب يقسمون به كرب للأرباب، كما كانوا ms021 يضربون القداح عنده قبل إقدامهم على حفر بئر جديدة، وضرب القداح عند العرب يشير إلى القضاء والقدر والمكتوب والوعد والحظ والقسمة والنصيب، وغلبة الزمن والدهر، كما كان عندهم آلهة للبخت أخذوها عن الحرانيين. # وينسب لعمرو بن لحي الجرهمي أنه أول من جاء بأصنام هذه الآلهة من الكلدانيين - العراقيين - والأنباط، ونصبها حول الكعبة. # وكان تمثال الإله «بعل» أو «بيل» عند الكلدانيين والآراميين على هيئة ملك جليل جالس على عرشه، وعلى هذا تعارف عليه العلماء عندما وجدوه في الكعبة، وعرفوا على الفور أنه إله دخيل مجلوب من الخارج، يقول الكلبي صاحب كتاب «الأصنام»: # كان - فيما بلغني - من عقيق أحمر، على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش فجعلوا له يدا من الذهب. # وفي إحدى الملاحم الشعرية الكنعانية عن صراع البعل، كإله للسماء، يتبدى البعل كإله للسماء «متلحفا بالسماء لباسا»، وتروي قصته كيف أنه أغري بالنزول إلى العالم السفلي، واحتجزته الشياطين من أعدائه، لكنه قاومهم بنبوته المطلسم، واستطاع أن يعود ثانية إلى عالمه العلوي «عند قمم أشجار السنط المرتفعة»، كما يتبدى البعل الكنعاني في هذه القصيدة وهو يحيا في خوف دائم من أن تتمكن حيتان البحر من اختطاف بناته الثلاث وهن «اللات والعزى ومناة». # واللافت أن هذه الملحمة الأسطورية ما تزال تعيش على الشفاه إلى اليوم، باسم حدوتة «سعد الدين». # وفي بعض المصادر العبرية - المدراش - يتبدى البعل كقرين للريح، والبعل هو أصل الإله العبري «يهوه»؛ «فالإله يهوه هو أيضا كان ريح الشمال في الأزمان المبكرة، أي قبل أن يصبح إلها ساميا رفيعا.» # وظل على صورته هذه حتى عصر الملك داود حين خاطبه: «عندما تسمع صوت أقدام في رءوس أشجار البكاء حينئذ احترس؛ لأنه إذ ذاك يخرج الرب أمامك.» # ويبدو أن العبريين كانوا قد استعاروه من الكنعانيين - الشوام - الذين عبدوه كإله حاكم على العالم الآخر الشمالي، أما فلسطينيو «عكرون» فقد اتخذوه إلها للتنبؤ، كما أن من ألقابه «سيد الشمال»، ومن اسمه تسمت قبيلة زبولون، وزار وحيه الملك إشعيا ملك إسرائيل في عقرون (الملوك الثاني ms022: 10). # كما يرى البعض أن البعل هو الأصل الذي منه جاء الإله آشور في المثولوجي الآشوري، وكان يصور على هيئة نسر له رأسان وجناحان مقدسان، في هيئة المحارب، وتظهر عشترون كثيرا كزوجته وشريكة حكمه. كما يرى البعض أن عاشوراء - أول شهور السنة الإسلامية - أو أهورا الفارسية من بقايا شعائر الإله آشور، الذي من اسمه تسمى الملوك الآشوريون. # وبعل أو هبل هو الإله الذي عناه الملك الكاهن الجاهلي الشاعر عمر بن لحي الجرهمي بقوله: «إن ربكم يتصيف باللات لبرد الطايف، ويشتو بالعزى لحر تهامة.» # فلقد كان للإله بعل أو هبل، رب الأرباب في الميثولوجي البابلي؛ بنات ثلاث؛ هي «إيرشكيجال» إلهة العوالم السفلى أو الجحيم وأخواتها الأنثيات «مامناتو» و«عشتر» أو «عشتروت» وهي الأمهات الثلاث اللاتي عرفن ب «بنات الله الثلاث». # فإلهة العوالم السفلى والموت والظلام إيرشكيجال عند السومريين والتي أخذها خلفاؤهم وورثتهم الساميون البابليون، ولقبت باسم «اللات» للمرة الأولى في إحدى قصائد الفروسية البابلية، وهي ملحمة الملك أزدوبار الذي يرى البعض أنه هو بعينه نمرود الجبار، الذي ما تزال تتواتر حواديته على طرق الشرق الأدنى، مع الخليل إبراهيم. # وإيرشكيجال هي بروسربين ملكة المناطق السفلى أو عالم تحت الأرض عند الآسيويين، سكان غرب آسيا، أو الشرق العربي بعامة، كما أنها برسيفون عند الإغريق، وهي اللات عند البابليين والقبائل العربية، من مكية ويمنية ونبطية، ويبدو أنها كانت عند منشئها آلهة شمسية، مما يؤكد قول عمر بن لحي الجرهمي: «ربكم يتصيف باللات» من أنها كانت آلهة فصل الصيف والقيظ والشمس المحرقة بجدبها وعطشها، عند العرب المكيين. # كما أن اللات عندما دخلت الميثولوجي السوري أصبحت قرينة الإله «حداد»، إله المطر، ولقبت بربة البيت عند الأنباط، كما تشير بهذا حفريات بعلبك، وباختصار فإن اللات كآلهة الشمس، كما يرى «ولهوسن» دخيلة على العرب المكيين، كما يرى ابن الكلبي «هي أحدث من مناة»، ويقال إن عمر بن لحي قد جاء بها من النبطيين، وكانوا يعتبرونها إلهة الشمس. # أما الأخت الثانية من بنات الله الثلاث، فهي «العزى»، وعرفت بدورها تحت ms023 هذا الاسم في الميثولوجيا البابلية، وقيل إن معناها ملك أو إله النار، فالعزى هي النار في اللغة البابلية، ومعناها في العبرية الشدة أو القوة (تاريخ كلد وآشور، مجلد 1، ص8). # وبحسب رواية تيودوروس بركوني، هي نجم الصبح، ولها أسماؤها المختلفة باختلاف الألسن؛ «فطيء دعتها عوزى، واليونان أفروديت، والقدشيون طشقميت، والكلدانيون بلتى أو بلثى، والآراميون استيرا، والراداتيون ملكة شعيا، والعرب ناتي.» # ويمكن القول بأن العزى عند العرب هي في منبتها الأصلي «إينانا» عند السومريين، والتي اشتهرت باسمها الأكادي عشتروت عند البابليين، وأناثا - أي أنثى - عند الكنعانيين، وإيزيس في مصر، وأفروديت عند اليونان، وفينوس عند الرومان، وكوبيلا عند الحثيين. # يقول نولدكه: «إن الشاعر السوري إسحاق الأنطاكي الذي كان يعيش في أوائل القرن الخامس الميلادي ذكر احتفاء العرب بعبادتهم العزى أو نجم السباح أو الزهرة - فينوس، كما يقال إنهم كانوا يقدمون لها التضحيات، فالمنذر ملك الحيرة قدم لها قربانا من الأسرى، وقيل إنه - أي المنذر - ذبح ابن حليفه المسيحي الملك الحارس قربانا لها.» ~~«إن ربكم يشتو بالعزى لحر تهامة، آلهة فصل الشتاء والاخضرار والخصب والجنس» # 1 # كما يقول الملك الكاهن عمرو بن لحي. # فكانت العزى آلهة للجنس والإخصاب عند العرب، كما كانت عند البابليين، ويعتبر الحمام والغزال من طيورها وحيواناتها المقدسة، وهما نفس شعائرها عند البابليين والسوريين والنبطيين، وكان العرب الجاهليون مغرمين بتشبيه النساء الجميلات بالغزال. # يقول الألوسي: «كانت المرأة من العرب إذا عسر عليها خاطب النكاح نثرت جانبا من شعرها، وكحلت إحدى عينيها، وحجلت إحدى رجليها، ويكون ذلك ليلا، وتقول: يا نكاح أبغي النكاح قبل الصباح.» أي إنها تريد الزواج أو المخالطة الجنسية قبل ظهور نجم الصباح أو الزهرة. وتحفل المواويل والأغاني الشعبية بآلاف القطع الشعرية التي تتغنى إلى اليوم بنجمة الصبح. # ويضيف سميث: أن عبادة الزهرة - أو نجم الصباح - انتشرت في اليمن، وخلال إقامة شعائر أعيادها كانت تقام الاحتفالات والأفراح المختلطة، أو ما عرف عند معظم الشعوب والأقوام السامية بالعرس المختلط، وما تزال بقاياه سارية حتى وقت قريب، خلال الاحتفالات بالموالد المحلية، على ms024 طول مصر والعالم العربي، وربما ما تزال أيضا تقويمات العرس المختلط سارية يجري التعامل بها. # يتضح من هذا أن منابع الميثولوجيا العربية تضرب بجذورها على مدى 6 آلاف عام، أي منذ السومريين غير الساميين، الذين توارثهم العرب واليهود الساميون. # الفصل الثالث # | أساطير وفولكلور بر الشام # سوريا - لبنان - فلسطين # وإذا ما حاولنا التعرف على القسم الغربي أو الكنعاني للأقوام السامية في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، الذي يرجعه البعض إلى هجرات سامية، جاءت بالأموريين إلى الهلال الخصيب، وتألفت من هذه الموجة الكنعانيون، الذين سكنوا غربي الشام وفلسطين حوالي 2500ق.م ... # أما الساحليون منهم فهم الذين سماهم الإغريق بالفينيقيين، أقدم شعوب العالم اقتحاما للبحار والمحيطات. # وطبعا كان لهذه القبائل الكنعانية أو الفينيقية أسطورتها الأم التي ترسم وتحدد لهم أرض ميعادهم في الشام وفلسطين بنفس ما حدث مع شقيقاتها - من الأقوام - السامية الأخرى، مثل أسطورة أرض ميعاد يعرب، التي حددت لها الميثولوجيا القحطانية أرض اليمن أو أرض المر، «وأسطورة أرض ميعاد قبيلة إبراهيم العبرية في أرض فلسطين، أرض اللبن والعسل»، وكذلك بالنسبة لأسطورة أرض ميعاد كنعان أبو الأقوام الكنعانية، وهو كنعان بن حام، وخطيئته المعروفة مع أبيه نوح، والتي بسببها أصبح وجه الحاميين أسود، حين غرس نوح كرما - وكان أول من غرس الكرم - وسكر من عصيره وثمل وانكشف، فشهده ابنه حام وسخر منه، وعندما عرف نوح لعن كنعان آخر أبناء حام: «ملعون كنعان عبدا يكون لعبيد إخوته.» # 1 # وتتفق الأسطورتان العبرية والعربية في أن كنعان انفصل عن إخوته وبقية قبيلته من أبناء نوح، مثلما حدث قبلا لجده الأعلى قابيل قاتل أخيه ومغتاله هابيل، هام على وجهه يضرب في الأرض، فبعد أن أصبح كنعان ملعونا طريدا مبغضا من إخوته مر منزويا يطلب وطنا آخر وأرضا جديدة، فنزل أرض ميعاده «أرض كنعان» أو الكنعانية في لبنان، وانتشر أبناؤه الأحد عشر في الشام وفلسطين؛ وهم «الصيدونيون» الذين أنشئوا مدينة صيدا، نسبة إلى أبيهم «صيدون»، والحثيون «أبناء حث»، واليبوسيون «أبناء يبوس»، والأموريون «أبناء أمور»، والجرجاشيون «أبناء جرجاش»، والحويون «أبناء حو ms025»، والعرقيون «أبناء عرق »، والسنيون «أبناء سن»، والأرواديون «أبناء أرواد»، والصماريون «أبناء صمار»، والحماتيون «أبناء حماة». # 2 # وهم كلهم الأحد عشر قبيلة أو سبطا، أبناء كنعان الذين لحقتهم وطاردتهم لعنة جدهم حام، التي تحمل وزرها من بعده ابنه، فتعقبته في ذريته، وعلى هذا حولهم العرب والعبريون إلى سخرة «يقطعون الخشب ويحملون الماء»، كما يقول توينبي، على اعتبار أنهم أجناس واطئة. # بل إن العرب ساووهم بالبربر والنوبيين، فكان كنعان أخا لهم كما يقول النسابة العرب، فبعد اللعنة «ولدت امرأة حام غلاما، لونه أسود، وسموه كوشا، وولد لكوش الحبشة بن كوش، أما شقيقه الثاني الذي لحقته أيضا لعنة أبيه، وهو ماريع بن حام، فقد ولد ثلاثة أولاد - أو أجناس - وهم كنعان وبربر والنوبة». # واستنادا إلى أقدم المصادر العربية، وهو عبيد بن شريه الجرهمي، الذي يقول: «وما ولد كنعان بن كوش بن حام، فهم البربر، وساروا حتى نزلوا بفلسطين وبيت المقدس.» # ولقد اعتبر العرب واليهود أن المصريين القدماء منحدرون من نسل حام وأولاده من البرابرة، بمعنى أنهم أيضا أجناس أدنى من أشقائهم الساميين، ومن هنا فقد وحدوا بين المصريين والكنعانيين. # والغريب أن الكشوف الحفرية الكنعانية جاءت فأثبتت هذه المعلومة الأسطورية، فقد أكدت هذه الكشوف الأثرية أو الحفرية أو الأركيولوجية أن الفينيقيين كانوا جزءا من العالم الكنعاني الذي تشكل من الهجرات السامية منذ فجر التاريخ، وهي تشكل الكشوف التي عثر عليها في «بيبلوس» الإغريقية، ومكانها اليوم إحدى القرى الصغيرة الواقعة إلى الشمال من مدينة بيروت، وهي ما تعرف اليوم بقرية جبيل أو جبل، وترجع هذه الكشوف إلى الألف الثالثة ق.م. # وكذلك دعمتها كشوف «رأس شمرا» في فلسطين التي ترجع إلى بداية القرن الرابع عشر ق.م والتي عثر عليها عام 1929، وكذلك أشارت إليه كشوف البحر الميت. # الغريب أن هذه الكشوف الكنعانية الفينيقية الفلسطينية جاءت فأكدت العلاقة الشديدة بين حام وكنعان، أو بين المصريين والشوام الكنعانيين؛ إذ إنهم اعتبروا أوزيريس أخا لكنعان، «وكان كنعان أول من سمي «فينقس»، فكانت أعياد - قيامة - الإله المصري أوزيريس تقام في ms026 مدينة جبل الكنعانية أو اللبنانية، كما أن في مكان الإسكندرية القديمة، أو فاروس، كانت تقام أعياد وشعائر أدونيس الفينيقي فقد جعلوا من كنعان أخا لأوزيريس، دلالة على وحدة نسب الأمتين.» # وفي إحدى أساطير الخلق البابلية، التي تتفق مع أساطير مدينة صيداء يبدو كنعان أخا لحام، فيقال «إن بعل - كرونوس - ولد بعلا آخر هو كنعان، ومن كنعان جاء كنعان أبو الكنعانيين أو الفينيقيين، كما أنه أنجب حاما، الذي يسميه اليونان أسبول، وكان أخا لمصرائيم، وأبا للأثيوبيين والمصريين». # ويمكن القول أنه بقدر ما ناسبت أو تقاربت الأساطير والتراث الحضاري بعامة لبابل وآشور أو حضارة ما بين النهريين بالإضافة إلى حضارة العرب القحطانيين من جانب وبين جيرانهم من الفرس الآريين من جانب آخر، حدث نفس القدر بالنسبة للحضارتين المتجاورتين، المصرية القديمة، ولاحقتها الحضارة الكنعانية الفينيقية في مدن - دول - الشام وفلسطين، وهي الحضارة التي ترجع إرهاصاتها إلى بداية الألف الثالثة قبل الميلاد، والتي عرفت إماراتها أو مدنها الدولة في مدن صور وصيدا وبيبلوس ودمشق وبعلبك، جوهر الهيلينية كمجتمع ثقافي مستنير هدفه الأخير الإنسان: حقوقه وواجباته، قبل أن يعرفها الهلينيون أنفسهم بقرون، تصل إلى 20 قرنا، كما يحددها د. توينبي. بل استمد اليونانيون عنهم تراثهم ودعائم حضارتهم، فمن المعروف أن فينيقيا استعمرت الجزر القرطاجينية في البحر الإيجي، ومركزها جزيرة كريت، في مرحلة ما قبل الهلينية بقرون طويلة، أي إن الميثولوجي الهليني جاء كنتيجة شبه مباشرة لنظيره وسابقه الفينيقي، بعد أن نقله الفينيقيون خلال تجارتهم البحرية الواسعة التي كانت مضرب الأمثال على طول تاريخ العالم القديم، إلى مستعمراتهم في جزر البحر الإيجى، والساحل الأفريقي عامة. # فالبانثيون الفينيقي هو نفسه البانثيون الإيجي، والآلهة الفينيقية هي بذاتها ما جاءت بها الكشوف الحفرية القرطاجينية في جزيرتي قرطاجنة في تونس وكريت، مثل بعل هامان والإله أشمون وأدونيس والإله المصري - بس - إله مصر وغرب آسيا، والبعلة، وكذلك بقية الحكايات والرموز الفينيقية السحرية مثل «خمسة وخميسة»، والعين الحاسدة، والنفس الخالق. فيقال إن مؤسس أثينا هو «مكروبس المصري» الذي استوطن في أثينا، وكان ذلك ms027 قبل الميلاد ب 1502 عاما، وأثينا هي ما أصبحت موطنا للعلوم والفنون، بعد أن ألقى فيها مكروبس المصري حياة التمدن، فعرفهم الدين وسن لهم التزوج بعد أن كانوا لا يعرفونه، وأنشأ محكمة تسمى أريوباجة وكذلك دانيوس، وهو مصري آخر، أدخل الفلاحة في مملكة أرجوس. # كما ينسب لقادموس الصوري أنه هو الذي عمر مدينة طيرة بإقليم بيوتيا، وعلم أهلها زراعة العنب وعمل المعادن، كما علمهم الحروف الهجائية. # ويبدو أن الفينيقيين الساحليين سكان المدن الدول صور وصيدا، كانوا إلى جانب كونهم صيادين مهرة قد اقتحموا البحر منذ عصور قديمة، كانوا صناعا حرفيين، نظرا لعقم الأرض الزراعية، مما دفعهم إلى ركوب البحر وعدم النفور منه، كما حدث مع المصريين الذين كرهوا البحر، ونفروا منه، وأكثروا من طرائفهم ووساوسهم عنه، فعده «تابو» وحرم على الملوك والكهنة رؤيته أو الإقامة إلى جواره. # ومما ساعد الفينيقيين على اقتحام البحر وجود الخشب الذي تصنع منه السفن في غابات جبل لبنان، فنزحت بعض القبائل الكنعانية إلى جزيرة قبرص ورودس وصقلية وسردينيا، وانتشروا في جزر اليونان البربرية، وحققوا مكاسب هائلة من تجارتهم الواسعة، فيقال إنه لما كثرت عندهم الفضة، واستثقلوا حملها في بعض الأسفار، صنعوا منها هلوبا - جمع هلب - لمراكبهم بدلا من الرصاص. # والغريب أن هؤلاء الفينيقيين اتهموا من جانب جيرانهم القدماء بتسترهم وتكتمهم لما توصلوا إليه من علوم وخبرات بحرية، احتكروا معرفتها وحجبوها عن بقية جيرانهم المصريين والبابليين والآشوريين وغيرهم. ويقال إن أحد فراعنة مصر تبنى رحلة بحرية، قام بها البحارة الصوريون التجار، لاستكشاف قارة أفريقيا، فساروا في البحر ثلاث سنين وطافوا أفريقيا، وعادوا في نهاية السنة الثالثة من منبع النيل، حتى مصبه، لكنهم بخلوا بنتيجة رحلتهم الاستكشافية المبكرة هذه على المصريين. # فلقد كانت فينيقيا - في أغلب عصورها - واقعة كلية تحت النفوذ المصري، والبانثيون المصري، كما سنتناوله بتفصيل أكبر. فيمكن القول بأن مصر القديمة - كمؤثر حضاري - كانت المصدر الأم الذي عنه حمل الكنعانيون أو الفينيقيون تراثه الحضاري - وأضافوا عليه - إلى حضارة البحر الأبيض المتوسط، التي تبدت بعد ذلك في ms028 حضارة المدن الدول أو الحضارة الهلينية والرومانية فيما بعد. # وليس هذا بجديد؛ إذ إن أحد كبار مصادر الميثولوجيا أو الأساطير الفينيقية، وهو «فيلو الجبلي» حاول إثباته، إن لم يكن قد أثبته فعلا، منذ منتصف القرن الأول الميلادي، أي منذ عشرين قرنا، فلقد كرس هذا المؤلف حياته لإثبات أن الأساطير والتراث الشعائري الفينيقي هو ما أخذه اليونانيون وأقاموا عليه تراثهم قائلا: «إن اليونان الذين يفضلون سواهم في التمدن والتحضر، انتحلوا جميع الأخبار والحكايات الفينيقية، ورغبة منهم في أن يخلبوا الألباب بمحاسن الحكايات الخرافية أضافوا عليها بكثرة لا حد لها كل ما أسعفتهم به مخيلتهم، ومنهم الشاعر هسيود، وبقية الشعراء الجوالين الذين ملئوا العالم بخوراقهم وحكاياتهم، فهم الذين أخذوا عن الفينيقيين علومهم ومعارفهم عن الآلهة، وحروب الجبابرة وغير ذلك، أما عن اختلاقاتهم المتوالية التي نشروها في كل صوب فقد عودت الناس على الأكاذيب وخنق الحقائق.» # وكان «فيلو الجبلي» أو البيبلوسي هذا من سكان مدينة جبل أو جبيل بلبنان، ويرجع البعض أنه شخصية أسطورية مثل هوميروس، كما يقال بأنه استعار تاريخه أو أساطيره أو أعماله هذه من كاتب فينيقي سابق عليه بحوالي أربعة قرون، وهذا الكاتب هو «سنكن يتن»، بل إن فيلو البيبلوسي نفسه قال عن سلفه «يتن» إنه كان أول من دون هذا التاريخ «البعيد عن الخرافة»، كما قال «إن سنكن يتن قد وفق إلى العثور على الكتابات السرية المنقوشة على الأساطين وحجارة الرقي، والتي تخبأ وتحفظ في أخفى أماكن الهياكل سرية». # وبدأ فيلو أو «سنكن يتن» تاريخه على عادة ما اتبعه الساميون؛ أي بادئا من قصة الخليقة، وبشكل أدق بفكرة البيضة الخالقة، كما جاءت بها أساطير الخلق المصرية، فبعد أن لقحت الريح البيضة الخالقة وبعثت فيها بالنفس الخالق أخرجت ذرية كنعان من فينيقيا، الذين ولدوا في ذرية الإنسانين الأولين أو الخالقين، وهما يون أو الدهر أو الزمن، وبروتوجون أو حواء البكر المولودة الأولى، ومنهما جاءت ذرية فينيقيا، وعددهم مائتان، فسموهم النور والنار واللهب، وبعد ذلك أنجب هؤلاء الكنعانيون أولادا ضخام الأجسام ms029، طوال القامات، وسميت الجبال التي ملكوها بأسمائهم، وهي «قاسيون ولبنان وأنتيلبنان وبراتي، وولد من صلب هؤلاء الأبطال بعد زواجهم من نساء عاهرات بلسامين أو شميم روم - أي المرتفع في السموات العليا - وهو بعل شميم أي رب السموات.» وتزوج عليون بالحسناء بيروت أو عشتروت، فأنجب منها إله السماء وأخته إلهة الأرض، وأما عليون فهلك خلال صراعه مع الوحوش الضارية، وكان أن ألهه أبناؤه وعبدوه، وخلفه ابنه إله السماء الذي تزوج بأخته إلهة الأرض، فولدت له أربعة أولاد، هم إيل أو كرونس # 3 # أو بيت إيل، وهو ما كان يطلق على جبل لبنان، وأحيانا على لبنان عامة، وداجون # 4 # إله الحبوب، وسيتون وعتل - أي الحزين المضطهد - ومعناه الذي ما تزال تحفظه الذاكرة الشعبية «عتل الهم»، أي كبده وحمله. وينسب لهذا الإله أنه أول من اخترع الملاحة، ويرى البعض أن عتل يصنف مع هرمع وأخنوع أو إدريس ... إلخ. # وتحكي أسطورة الخلق الكنعانية هذه عن خطايا متلاحقة، ارتكبها «إله السماء»؛ منها زواجه بنساء كثيرات، أنجب منهن ذرية لا حصر لها، ومنها أنه هجر زوجته إلهة الأرض وحاول قتل أبنائها مرارا وبلا هوادة، لكن ابنه البكر إيل ما أن بلغ مبلغ الرجال حتى اتخذ الإله «توت» أو «تحوت» إله الكتابة الذي عرفه الساميون - فيما بعد - في الملاك جبرائيل؛ كاتبا لأسراره، ثم أشعل حروبا طاحنة ضد أبيه؛ لإهانته لأمه الأرض، وإيل هو أعظم آلهة الشعوب السامية، ومعناه في اللغات السامية القدرة أو القوة، وعند اليونان والكلدان «إيليوس» أي الشمس، ويذكر بنصه في التوارة على أنه الله، ومن اسمه جاءت تسمية إسرائيل التي تسمى بها يعقوب عقب زواجه من راشيل أم النبي يوسف، ومعناها بالسريانية ولي الله أو ولي إيل، كما أن من اسمه جاءت تسمية ملائكة العرش - أو أربعة أركان التابوت - عند كافة الشعوب السامية، وهم جبرائيل وعزرائيل وميكائيل وإسرافيل؛ فجبرائيل رسول الله؛ جبرا معناها: رسول، وإيل: الله، وعزرائيل: عبد الله؛ عزرا معناها: عبد، وإيل: الله، وميكائيل صفي الله، وميكائيل: صفي الله؛ ميكا معناها: صفي، وإيل: الله، وإسرافيل ms030: ولي إيل. # 5 # وبعد أن انتصر إيل على أبيه وتمكن من اصطياده وحبسه في أعماق الهاوية، بنى مدينة جبل أو بيبلوس في فينيقيا، وعرف بعد ذلك بإيل الوهيم، أو برب الأرباب، ويقال إنه كان لإيل ولد وحيد يدعى شديدا، توهم فيه الغدر يوما، فذبحه بيديه، وبعد ذلك فعل نفس الشيء بابنته، فكان أن «خافته الآلهة وامتلأت قلوبهم رعبا»، وعندما سئم أبوه إله السماء منفاه أرسل إليه بابنته عشتروت وأختها رية أو «سميرنا» أو ديونا أو «بعلتي - أي سيدتي» للإيقاع به، لكن إيل تمكن من استمالتهن وتزوج بهن، وولد لإيل من عشتروت سبع بنات، يعرفن في الميثولوجي الكنعاني بالطيطيات أو الترابيات، كما أنه أنجب من رية سبعة ذكور، وعاد فأنجب من عشتروت ابنين آخرين هما الشوق والعشق. # وبعد أن حكم إيل 32 عاما، عاد فأوقع بأبيه بعد أن نصب له الفخاخ التي أوقعه فيها، وحين أصبح بين يديه مزق أطرافه وأعضاءه، وألقى بها مع دمه في مياه الينابيع والآبار والأنهار، ثم إن إيل وزع ملكه اللامحدود على أبنائه، فأعطى عشتروت ملك أتيكه، وهي جزء من بلاد اليونان، وأعطى مدينة جبيل للإلهة بعلتي، ووهب بيروت لبوصيدون إله البحر. # وعندما تفشى الوباء في ممالكه المترامية ذبح ابنه الوحيد ترضية لأبيه السماء، ويقال إنه كان أول من اختتن، وأمر جميع أهله أن يحذوا حذوه ويختتنوا، كما ينسب لإيل أنه كان أول من تزوج بجنية مائية اسمها «عين عبريت» أو عفريت، وأنجب منها ولدا وحيدا؛ ولذلك لا يزال الفينيقي يسمي ابنه الوحيد يحيد أو وحيد ... إلا أنه عاد فذبحه، وبعد ذلك وهب حكم مصر للإله توت أو تحوت، إله الفكر الذي اكتمل في الملاك الرسول جبرائيل. ~~••• # ولقد اختلف المؤرخون البيزنطيون - بخاصة - في التعرف على نسب إيل إله آسيا الغربية أو الساميين الأوائل الجبار هذا؛ فنسبه البعض إلى سام، ونسبة البعض الآخر إلى حام، ووحده البعض الثالث مع إبراهيم الخليل، ذلك أن جميع الشعوب والقبائل السامية ادعت انتماءها إلى هذا الإله، فظهر في آخر أسمائهم مثل عموائيل وإسماعيل ms031 - أي سمع إيل - ورفائيل وميخائيل وصموئيل ... إلخ. # ولقد حدد بلوتارخ مكان إقامة إيل «في جزيرة» أو في «المجدبة، التي هي خلف الأوقيانوس الكروني»، وفي بعض أساطيره أن حيتان البراري أسرته واحتجزته في إحدى الجزر القريبة من الجزائر الإنكليزية. # وينسب لإيل الذي أصبح كرونس عند اليونان كما يقول فيلو؛ أنه كان يملك أربع عيون: عينان إلى الأمام، وعينان إلى الخلف، عينان مفتوحتان، وعينان نائمتان، ومعنى هذا أنه كان في مقدور هذا الإله إيل «أن ينام متيقظا، ويستيقظ وهو نائم». # ولقد أدى استغراق ذلك الكاتب الفينيقي فيلو دفاعا عن فكرته أو وجهة نظره في إثبات سبق الآلهة والأساطير الفينيقية لنظيرتها ولاحقتها الهلينية اليونانية؛ وهو ما أكده بعده سلفه سنكن يتن الذي نقل عنه، دفاعا عن فكرته هذه التي حاول إثباتها منذ 20 قرنا، وهي أن الميثولوجي الكنعاني هو الأصل الأم الذي اشتق منه لاحقه الإغريقي. # رغم أنه فاته التعرض لبقية التراث الشعائري والأساطير الفينيقية، التي كشفت عنها بالفعل كشوف رأس شمرا - اللاذقية - عام 1929، عن أساطير الإله البعل، أو جوبيتر، وأدونيس أو تموز ودانيال ... إلخ. # هذا على الرغم أن كشوف رأس شمرا التي حدد عمرها بالقرن الرابع عشر قبل الميلاد جاءت فجلت الغموض الكثيف الذي اكتنف كوزومولوجي فيلو الدمشقي الذي ركز أغلب جهوده على أسطورة الإله إيل أو كرونس ولم يتعداها إلا قليلا؛ فمثلا أكدت هذه الكشوف الحفرية التي عثر عليها في رأس شمرا أن الإله عليون جد إيل الذي كان قد تزوج بالحسناء بيروت أو عشتروت، وأنجب منها إلهي السماء والأرض، لكنه مات خلال صراعه مع الوحوش، فكان أن مزقته أنياب الوحوش الضارية ... ~~ فهذا الإله الممزق لم يكن سوى أدونيس، إله آسيا الغربية ومسيحها الممزق، المتوارث من السومريين - 4 آلاف عام ق.م - اللاساميين. # ولقد جاءت نصوص رأس شمرا بأسطورة أدونيس، الذي أصبح السلف المباشر للإله هابونيجا، وحل بعد ذلك محل إلهتي الأخضر «آلين» أو «عليين» و«موت»، وليس هناك خلاف كبير بين نصوص رأس شمرا الأدونيسية، وبين نصوص تموز البابلية، فكلاهما - أدونيس وتموز ms032 - ولد من أمه التي سحرت نفسها إلى شجرة المر، ومن جذعها ولد، وعشقته أفروديت وخبأته من أختها إلهة العوالم السفلى عند الآسويين بعامة «بروسربين» أو «برسيفون» أو «اللات» عند عرب الجاهلية الأولى. # ويتوالى الصراع بين الأختين ويحتدم إلى أن يصل مسامع كبير الآلهة زيوس، فيحكم بأن يقضي أدونيس نصف العام على وجه الأرض ونصفه الآخر تحت الأرض. # وقد تبدت شخصية أدونيس في القرن السادس ق.م، متوحدا مع الإله الدمشقي أشمون، ويرجع إلى مدينة بيبلوس التي كانت مركزا للاهوت الأدونيسي إشاعته في مجمل العوالم الكنعانية والفينيقية في سوريا ولبنان وفلسطين. # وكان أول تدوين لهذه الأسطورة الملخصة لتعاقب فصلي السنة، أو الجدب والنماء، قام به الشاعر «بانياس» # 6 # في القرن الخامس قبل الميلاد، فجمع أسطورته، وأعاد نظمها شعرا. # أما الإله البعل في نصوص رأس شمرا، فلم يكن سوى بعل تعفون - الذي تبدى في المفهوم الشعبي على هيئة جوبيتر أو بعل لبنان وسيدها، وهو الإله حداد إله المطر والرعد، وكانت أمه إلهة الإخصاب البحرية عشتر. # وعرف بعل تعفون في الأساطير المصرية باسم ستخ، وهو رمز أو أنموذج سمى به المصريون الآلهة الأجنبية، كما أنهم سموا الإلهات الأجنبيات هاتورات، كما أن العرب عرفوه باسم بعل تعفون. # وكان لبعل حداد الفينيقي بنات ثلاث، هن روح الحصاد «موت»، وروح الربيع «عالين»، و«أنات» أو أناث أو أناثا بمعنى الأنثى، آلهة المحاصيل العذراء، التي كان يضحى لها في موسم الحصاد، وهي الآلهة التي حملها الهكسوس إلى مصر وقدست في أحيان أخرى، وينسب لهذه الآلهة أنها هي التي تغطي وجه الأرض بالندى أو الطل «أنها هي - أنات - التي تهب الأرض دسمها»، وكان من ألقابها عند المصريين «قادش» أو المقدسة، وكان الأسد حيوانها أو شعارها المقدس. # أما الثور فكان الحيوان المقدس لإيل، ومن ألقابه «الثور إيل»، ونسبت مكتشفات رأس شمرا للإله إيل أنه أنجب ابنا يدعى «كريت»، وكان كريت هذا ملكا على سدوم، وأمره أبوه إيل بالقيام بغزوة تقودها الإلهة «تيرا» أو طيرة لتأديب شعب زبولون، # 7 # وهي قبيلة أصبحت ms033 فيما بعد جزءا من إسرائيل، كانت تشغل المنطقة الواقعة بين جبل الكرمل وبحيرة الجليل، وبعد أن عاد كريت من حروبه «اشترى زوجة» أنجب منها طفلا جميلا كعشتر، كريما كأنات «ويقال إنه كان طفلا عجيبا؛ إذ إنه ما أن ولد حتى دوى صوته صارخا: أنا أكره الأعداء»، وسمي هذا الطفل «دانيال»، وعندما كبر أصبح بطلا أسطوريا، فنبغ في فن العرافة، وأنجب ابنة أصبحت فيما بعد ملكة كل الأسرار، ويبدو أن دانيال هذا هو ما عناه النبي حزقيال، حين قال لملك تيرا أو طيرة: «أنت أعقل من دانيال، ولا سر يخفى عليك.» # ويورد الدميري، # 8 # حكاية غريبة عن هذا الطفل الموعود المبكر، دانيال، فيقول: # إن الملك الذي كان دانيال في زمانه قد تنبأ له عرافوه بأن طفلا سيولد في تلك الليلة، يفسد عليه ملكه؛ فأمر بقتل كل من يولد من الأطفال في تلك الليلة، ولما ولد دانيال وضعته أمه في أجمة أو حظيرة أسد ولبؤة، فبات الأسد ولبؤته يلحسانه، فنجاه الله. ويقال إن أبا موسى الأشعري، لقى خاتما نقش على فصه أسدان، بينهما رجل وهما يلحسان ذلك الرجل. والمقصود به دانيال. # كما كان من بين مكتشفات رأس شمرا إلى جانب الأساطير الكنعانية مجموعة عظيمة من الملاحم والقصص الشعرية، والحكايات التعليمية التي تكشف عن فجر الأخلاق، وكذلك سير وحكايات الأبطال وأنصاف الآلهة الذين تزوجوا من بنات الناس، وهي تلك الحكايات المتصلة بالخلق والخطيئة الأولى، فبعد أن قتل قابيل أخاه هابيل هام قابيل على وجهه، فولد لآدم شيث الذي حل محل أخيه القاتل، وعليه فقد سمي نسله من بعده بأبناء الله، تمييزا له عن نسل أخيه قابيل القاتل الذي من نسله جاء الأشرار الذين عرفوا بأبناء الناس. # 9 # ولما كان قابيل قد أقام منزويا في أعلى جبل حرمون أو الحرمان، فقد عشقت الملائكة بناته، وأباحوا المعاصي والمحرمات. # وتنسب الميثولوجيا العربية للقبائل العربية البائدة أنها جاءت إلى الوجود بعد أن تزاوج الملائكة وبنات آدم، فيقول الجاحظ: # وذكروا أن جرهما كان من نتاج ما بين الملائكة وبنات آدم ms034، وكان الملك من الملائكة إذا عصى ربه في السماء أهبطه إلى الأرض في صورة رجل، كما صنع بهاروت وماروت، وما كان من شأنهما مع الزهرة، وهي أناهيد، فحين هبط جرهم في صورة رجل وتزوج بامرأته - البشرية - أنجب جرهم. # وقد وردت بهذه الأساطير والملاحم التي ترجع إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد أسماء الممالك والقبائل المندثرة، مثل سدوم وعمورة أو ثمود وعاد وتيرا # tyre # وعرفات وجرهم ... إلخ. # وأما عن الآلهة عشتروت، التي وجد هيكلها بالقرب من نهر إبراهيم، وهو النهر الذي عرفه القدماء بنهر أدونيس. وكان من أسماء عشتروت وألقابها المتعددة اسم بيروت الذي أطلق فيما بعد على العاصمة اللبنانية، ويقال إنه كان لعشتروت ثلاثمائة لقب، منها «يو - ياه - ديدا - عنت - تنيت - الزهرة - أرتميس - أوروبا - بعلتي - اللات - الفرقد - حنه - نعمة» وهكذا. # ولقد عبدت الشعوب الكنعانية الفينيقية عشتر، باعتبارها إلهة بحرية طوفت في كل أنحاء العالم الفينيقي البحري أو الساحلي، برفقة بوصيدون - نبتون - وبشكل محدد، فإن هذه الحضارة الساحلية البحرية الفينيقية خلقت آلهتها البحرية، ومن هنا أصبحت بيروت # 10 # مركزا هاما لتأليه البحر، فكان الكبيران إلهين بحريين، كما أن عشتروت نفسها إلهة خرجت من زبد البحر، وينسب لبوصيدون بكر كنعان أنه أول من تسلط على البحر، بأمر من أبيه إيل أو كرونس، كما ينسب لعشتر البحرية أنها خلال طوافها على طول الساحل الشمالي الأفريقي أسست في ليبيا مائة مدينة، واسم ليبيا نفسه متواتر من اسم الإلهة ليبيا ابنة «يوعشترت»، وتذكر الأساطير الليبية أنها هي «يوعشترت» التي بنت مدن فينيقيا ومصر وبلاد اليونان وقرطاجة. # وعندما تملك صيدون ابن كنعان المدينة الدولة صيدا أصبح ملكا على كل فينيقيا، وتزوج «صور» وأنجب منها بدوره أبناء «كثيرين كرمل البحر»، منهم قدم، وفينق أو فينكس، وفيليق، وسور، وتاس، وسيبول، وفيني، ودريال، وأوروبا، وتملك هؤلاء الأبناء الآلهة بدورهم على كل الممالك الكنعانية ومصر وآسيا الصغرى؛ بحسب ما تشير به أساطيرهم. # لكن اسم صيدون، ابن كنعان، عمم؛ فشمل كل القبائل الكنعانية، كما أن التوراة # 11 # لقبت الكنعانيين بالصيدونيين في أماكن عدة؛ وذلك ms035 لعدة أسباب؛ منها : أن صيدون كان بكر كنعان الذي تضخم فأصبح أمما بدوره، ومنها: أنهم كانوا أمما ساحلية تعمل بالصيد والتجارة، فلفظ صيدون يدل في أصله على «صيد السمك والطيور». # ويبدو أنها تفرقة بيئية قصد بها الساميون الرعاة «أصحاب الوبر» إطلاقها للتفريق بينهم وبين جيرانهم أصحاب الصيد والبحر، كما أنهم أطلقوها بعامة على الحاميين والكنعانيين، ولما كانوا قد اعتبروا النماردة حاميين أو كوشيين أو كنعانيين أجناسا واطئة، فنمرود الجبار الكوشي أو الأسود - الذي حارب إبراهيم # 12 ~~- هو أول جبار في الأرض، وكان جبار صيد أمام الرب؛ ولذلك يقال كنمرود جبار صيد أمام الرب. # ويبدو أن كلمة «صيد» استعملت بمعنى اقتناص الناس واصطيادهم؛ إذ إن سرعان ما استعملها الرسل المسيحيون بعد ذلك بنفس المعنى وهو اصطياد الناس؛ «اتبعوني لتصيروا صيادي الناس»، يقول القديس أوغسطين: # 13 ~~«كانت الحرب في نظر المحاربين الأولين صيدا للناس»، كما عرف أرسطو الغزو بأنه نوع من أنواع الصيد. # ونظرا لأن هذه المجموعة من الأقوام أو القبائل الكنعانية كانت شبه مبددة، أي إنها لم تصل إلى الدرجة من التوحد والالتئام الذي سارت فيه حضارات الشعوب الزراعية، أو حضارة دالات الأنهار المتاخمة، في دلتا مصر والعراق وفارس والهند؛ فهي لم تتخط حضارات المدن الدول، وهو ما كانته الحضارة السومرية التي ترجع إلى الألف الرابعة ق.م في مدن لجش ونينوى والأركاء أو الورقاء، أو ما أصبحته الحضارة المينوية الموكونية في جزر الأرخبيل أو البحر الإيجي، والتي توراثتها حضارات المدن الهلينية الدول في أثينا، وآرجوس، وطروادة، فيما بعد. وعلى هذا، فلقد كان لكل مدينة من هذه المدن الكنعانية الفينيقية تراثها الأسطوري المتميز والمتوحد - إلى حد - في ذات الوقت. # فمثلا أيدت الكشوف الحفرية في جزيرة قرطاجنة بتونس أنه كان للفينيقيين سكان مدينة صيدا إله يسمى صيدا، وآخر يعرف بصيدون، كان يكتب اسمه على نقود المدينة الدولة صيدا: «وهو من نسل صيدون ابن أجبت «أي الأجبتيين»، أو «المصريين» كما يقال إن صيدون هذا جاء من مصر إلى فينيقيا أول ما جاء، وهزم القبائل الكنعانية ms036 التي تسمى بأرض فلسطين، واستوطنها وبنى فيها مدينة صيدا.» # وفي إحدى الأساطير المصرية القديمة، التي جمعها المؤرخ الهليني «أيسوب»، # 14 # يبدو أن الإلهين قدم وفينق قد جاءا أول ما جاءا من مدينة طيبة - تيبه - المصرية، ليتملكا على مدن صيدا وصور، وأن أوزيريس خلال طوافه في الأرض أقام الإله بوصير ملكا متوجا على فينيقيا. # أما أساطير مدينة صور فتتركز حول إلهها الحامي «بعل شميم الذي أقام بمدينة صور وصنع الأكواخ من القصب والخيزران والبردي، وجرت له مع أخيه عوس منازعات طويلة، فعوص أو العيص - كما يسميه العرب - أول من اهتدى إلى اتخاذ الثياب من جلود الحيوانات التي كان يقتنصها ويقتلها بيديه». # وفي سلسلة النسب العبري يتبدى عوس أو عيسو أو العيص كشقيق توأم ليعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، وهو الرجل الأشقر، كما تحدد أوصافه أساطيرهم المتعددة، التي قد تتشابه أو تتطابق مع قصتنا المصرية المعروفة منذ الدولة الوسطى بقصة الأخوين. # وتحكي أساطير هذين الإلهين الشقيقين التي عثر عليها بمدينة صور أن حريقا هائلا شب في مدينة صور، فأقام هذان الأخوان الهياكل لآلهتي الريح والنار، وبعدما مات هذان الأخوان - أو الكبيران - عبدهما أبناؤهما بعد ذلك. # وخلف عوس ابنه دامور - أي النخيل أو التمر - ثم أعقبه هركل أو هرقل «أول من اخترع الأرجوان وقلد به عشتروت». ويبدو أن هرقل هذا هو أول من غزا جزيرة قبرص وفتحها، «وكان تحت إمرته مقاتلون من الفينيقيين والعرب والإفريقيين واليونان، وغيرهم»، وبعدها فتح بلاد اليونان وصقلية، وقتل «فونا ملك إيطاليا الذي كان يذبح الغرباء»، ووهب لابنه «سرد» جزيرة سردينيا التي تسمت باسمه، وغزا هرقل بلاد الغال - أي فرنسا - وإسبانيا، «حيث التقط تفاحات الذهب.» وخلال صراعات هرقل الصوري هذا وفتوحاته لدغه التنين ذو الرءوس السبعة، فأشارت عليه إلهة دالفي بأن يدهن جروحه بورق شجرة تشبه التنين ذا الرءوس السبعة، موجودة في مدن الشرق. ~~ وينسب لهرقل الصوري أنه أول من بنى عكا، وذلك بعد أن عثر بها على النبات الذي شفيت به جروحه الدامية. ~~••• # أما عما وصل إلينا من ms037 تراث وأساطير مدينة دمشق أو ما كان يعرف قديما بسوريا العليا؛ فجاء تراثا مخالفا - إلى حد ما - لتراث العالم الكنعاني أو الفينيقي؛ ذلك لأن سوريا كانت تنتمي إلى القسم الشرقي أو البابلي الآشوري، أي حضارة ما بين نهري دجلة والفرات بعامة في أغلب أحقابها التاريخية، كذا تواتر إليها وساد تراث ومعتقدات التراث البابلي المتأثر بدوره بتراث العالم الآري، وبشكل أخص التراث الفارسي المجوسي، أكثر من تأثرها بتراث القبائل الفينيقية الكنعانية في ربوع الشام وفلسطين، والواقع بدوره تحت النفوذ الإشعاعي للحضارة المصرية القديمة. # لذا لم يكن هناك اختلاف طويل بين ما وصل من آلهة ومعتقدات متوارثة من حضارات ممالك كلدة وآشور وبابل ونينوى في العراق، وهو التراث الحضاري بعامة الذي توارثته هذه الحضارات من سابقتها الحضارة السومرية اللاسامية، وبين تراث مدينة دمشق. # فكان الإله هدد - أو حداد - هو إله سوريا، وكانت سميرنا التي اتخذت اسمها لقبا - فيما بعد - الملكة الإلهة سميراميس، التي حكمت وتملكت على بابل. # وهي الملكة التي خالطت الأساطير التاريخ في منشئها واختفائها على السواء، وكان طائرها المقدس هو الحمامة، ونسب لها تشييد مدينة بابل والحدائق المعلقة، كما نسب إليها السوريون الأقبية التي عثر على بقاياها بالقرب من نهري بيروت وإبراهيم في لبنان، كما نسب إليها القديس صفرون الدمشقي أنها هي سميراميس التي سورت مدينة دمشق، ويقال إن سميراميس كانت ملكة سوريا في منشئها، ثم تملكت بعد ذلك «بلاد آشور وآسيا الصغرى والجزيرة العربية». # ومعنى اسم الآلهة سميرنا؛ أي: أم الحمام، التي منها جاء اسم الملكة سميراميس، أو كاهنة الحمام؛ ذلك أنها حين ولدت من رحم أم سماوية كانت قد تركتها في الخلاء عقب ولادتها، فتعهدها بالرعاية سرب من الحمام، كما أنها حين ماتت تحولت إلى حمامة؛ ولهذا تتوحد سميراميس مع راشيل زوجة يعقوب، وأم النبي يوسف، التي تسمت أيضا بالكاهنة الحمامة. # ولعل هذا يفسر لنا مدى احتفاء الأدب الشعبي بالحمام والغناء له: «ما تطخي يا بندقية، ورا الحيطة حمام»، وحمام الحما، وعبد العال في ملحمة السيد البدوي يتحول ms038 إلى حمامة. # وعندما كبرت سميراميس أحبها وتزوجها حاكم سوريا ورئيس مجلس شيوخها، ولما كانت سوريا جزءا من العالم الآشوري، فقد رآها الملك نينوس ملك آشور وأحبها خلال إحدى حروبه ببلاد بقطريانه، حين كانت برفقة زوجها القائد حاكم سوريا. وأحبها ملك آشور وهام بها لأنها لعبت دورا حربيا هاما رجح كفة الآشوريين في الحرب، فطلب من زوجها حاكم سوريا التخلي له عنها ليتزوجها ملك آشور الشيخ، على أن يهبه ابنته بدلا منها زوجة له، ولما رفض زوجها القائد: «إنني أرفض أن أصبح صهرا لملك آشور الذي يسلبني زوجتي»، هدده الملك بخرق عينيه، فكان أن انتحر زوجها القائد، وتزوجها الملك نينوس، وبعدها قتلته انتقاما لزوجها السابق، واتسعت فتوحات سميراميس بعد ذلك في فارس والهند وأرمينيا، إلى جانب كل شواطئ البحر المتوسط، وكما يقول أسطفان البيزنطي، فإن سميراميس فتحت مصر، وزارت الإله آمون - المشتري - لكي تستوضحه نبوءة عن نهاية حياتها، فأنبأها آمون بأنها ستختفي مثل حمامة، وتفوز من أكثر الشعوب الآسيوية بتقدير لا يمحى. # وخلاصة القول أن هذه الإلهة السورية سميرنا أو سميرام السورية هذه التي نسب إليها المؤرخ سترابون أغلب خوارق غرب آسيا؛ تتشابه إلى حد كبير، خاصة في تضمينه قتلها لعشاقها عقب الجماع، مع الملكة البابلية سميراميس. # كما أن سميرام أو سميرنا السورية هذه تتطابق مع سير أساطير بلقيس ملكة سبأ الحميرية اليمنية ابنة هود أو الهدهاد بن شرحبيل، وكذلك تتشابه سيرها وحكاياتها مع ما دار حول «ميرنا» ملكة «الأمازون» الليبيات؛ بحسب روايات ديودوروس الصقلي: # إن ميرنا ملكة الأمازون الليبيات جندت جيشا قدره ثلاثون ألفا من المشاة - الأمازون - واثنا عشر ألفا خيالة، وطافت أفريقيا، وعندما مرت بمصر صادقت حور بن إيزيس، الذي كان ملكا متوجا بها، ثم زحفت من هنا على العرب وذبحتهم ذبحة عظيمة، وعادت بطريق الشمال وغزت سوريا. # أما ما تبقى من تراث وأساطير المدينة الدولة هليوبوليس، أو بعلبك، التي استمد اسمها من الإله الشمسي بعل، فإنه يؤكد أكثر فأكثر سيطرة التراث العقائدي والأسطوري المصري على فينيقيا، وبحسب ما ms039 يقول عالم الأساطير المقارنة ماكروبولوس، الذي أشاد به فريزر في أكثر من مكان في موسوعته الفولكلورية الأنثروبولوجية «الغصن الذهبي»؛ فإن أصل هذا الإله الشمس قد جاء إلى بعلبك من مصر: «حمل من مصر ومن المدينة التي تسمى أيضا بهليوبوليس.» وما عناه ماكروبولوس هو الإله الشمس المصري رع، الذي كان مركز عبادته مدينة هليوبوليس، أو عين شمس. # وكان الإله تيفون واحدا من الآلهة الهامة التي ورد ذكرها في الميثولوجي الفينيقي الكنعاني. وتيفون إله مشئوم لا سامي؛ إذ إنه كان إله القبائل الرعوية اللاسامية، الذين عرفوا بالهكسوس. # ويرى روبرت جريفز - أحد علماء الأنثروبولجي - أن الهكسوس قبائل رحل رعوية، جاءوا من أرمينيا وما يجاورها، فغزوا سوريا وفلسطين، ثم دخلوا مصر حوالي عام 1780ق.م، وأقلموا أنفسهم على الاستقرار في دلتا النيل وشمال مصر عامة، وجعل الهكسوس من إلههم الحامي تيفون أخا لأوزوريس، إلا أن المصريين وحدوا تيفون بست، قاتل أوزوريس ومغتصب عرشه، فكان تيفون الاسم المستعار لست من ألد أعداء أوزوريس. ولقد رمز به المصريون إلى عالم الظلام والشر؛ إذ إنه عندما رأى قدر أصدقائه جدف منزعجا بكلام أشبه بنهيق الحمار، وبسبب كلماته الخبيثة أصبح شيطانا، وظل خصما للابن حورس، وسببا دائما لموته السنوي أو الموسمي، ويذكر بلوتارخ عن طرد الهكسوس من مصر، بقهر أوزوريس لتيفون وطرده من مصر، بل من غرب آسيا عامة: «أن تيفون بعد أن غلب وفر من المعركة ركب حمارا، ولم يصب الأمان إلا في سابع يوم لهروبه.» # فلقد لعب هذا الإله الشرير الذي وحده الساميون مع الحية «فتن»، التي من صدرها رضع تيفون «أدوارا متعددة لدى الشعوب الآسيوية بشكل مجمل، فتروي عنه الخرافات الفينيقية أنه كان تنينا هائلا»، وعندما ضرب بالصاعقة ضربات هائلة غاص في قاع الأرض، فحفر مجاري الأنهار، وفجر الينابيع، حتى فاضت مياهها فملأت مجاري الأنهار؛ لذا سمي النهر طيفون. # وفي حكاية أخرى نقلها سترابون عن المؤرخ السوري «بوصيدون»، يقال إنهم «عثروا في سهور مقره بفينيقيا على حية ميتة شغلت جثتها فدان أرض، وأما ضخامتها فشيء ms040 عظيم، فيمكن لفمها أن يبتلع حصانا براكبه»، وفي حكاية فينيقية أخرى «أن تيفون تسبب في إشعال حريق هائل بإشعاله غابات أرز لبنان، حتى عم الحريق آسيا بأسرها، ووصل إلى الهند»؛ وذلك بسبب ما كان ينفثه حلقه من لهيب. # وارتبطت بعلبك بالاحتفالات السنوية الماجنة، بعيد قيامة الإله الممزق أدونيس، ثم ديونيوس خلال حكم اليونان، وأخيرا باخوس بعد مجيء الرومان، وكانت الاحتفالات تقام في السهول الممتدة حول بعلبك، حيث الكروم والخمر التي «أسكرت الناس، وثنيات السهول الخصيبة». # ولقد وحد الفينيقيون بين النخلة، التي اعتبرها الساميون بعامة شجرة الحياة في جنة عدن وبين آلهة الإخصاب الجنسي والتعشير عشتروت أو عشار؛ فالنخلة كانت شجرة الميلاد أو شجرة العائلة عند كل شعوب غرب آسيا، في مصر وبابل وفينيقيا والجزيرة العربية، كما أن من اسمها جاءت تسمية فينيقيا أو فينيق أبو الفينيقيين، بمعنى «الدامي»؛ إذ إن شعوب البحر الأبيض ربطت بين عمليات إخصاب النخيل، أو ما يعرف ب «الطلوع» أو التلقيح التي بدونها لا تطرح النخلة أو تثمر، فهناك علاقة بين النخيل، وبين الموت ثم القيامة، أو توالي الولادة والاستمرار. # وكانت النخلة هي شجرة عشتروت المقدسة، فمن ثمرها - أو تمرها - تسمت عشتروت، كما أن من اسم ثمرها جاء اسم الإله «دامور» أو «تامير» أي التمر، ووجدت آثار هذا الإله في جزر البحر المتوسط التي استعمرها الفينيقيون، فكان يصك على النقود في شكل أو شعار نخلة وافرة الثمار. # فلقد سمى اليونان فينيقيا والشرق الأدنى القديم عامة ببلاد النخيل، كما أن من اسم النخلة تسمت مدن «تدمر» في كل من الشام واليمن والحجاز، كذلك فقد عبد العرب نخلة نجران، كإلهة، وكانوا يزينونها سنويا بأزياء نسائية # 15 # ملونة، كما يقول جريفز. # ودخلت النخلة الميثولوجي الإغريقي، فكل من الآلهة أبولو، ونبتون، وذيلين، ولدوا تحت نخلة، وكذلك المسيح في الميثولوجي السامي. # وتضيف أساطير بعلبك، ذات الأصول أو المنابع المصرية، أن طائرا يسمى فينيق أو النخيل كان يحج إلى هليوبوليس، أو بعلبك، فيموت بها ثم يعاود الحياة من جديد ... فيقال إن فينيق هذا ms041 هو بعينه الطائر المصري الخرافي «بينو»، وهو طائر خرافي لم يتشكك الأقدمون في الإيمان به، فعبدوه في هليوبوليس كروح لأوزوريس، كما ربطت عبادته بعبادة رع، وعد في أغلب الأحيان صورة ثانية له، ووحده الفينيقيون بطائرهم فنيقس، الذي وصفه هردوت بأنه كان يشبه العنقاء، وقال بأنه يظهر في مصر مرة واحدة كل خمسمائة عام، وما أن يولد «فينقس» في أعماق الصحراء أو الجزيرة العربية حتى يطير رأسا حاملا جثمان أبيه، ليحط على مذبح معبد هليوبوليس، وهناك تحرقه أعشاب المر، ويتم هذا في احتفالات ضخمة هائلة تحشد لدفنه، وتتم في جو جنائزي كبير، ويعد موت هذا الطائر فينقس أو بينو أهم حادث لاهوتي في كل مصر. # وفي إحدى الحكايات التي أوردها القديس هيرونيم عن هذا الطائر، الذي لقبه الفينيقيون باسمهم فينيق: «أن هذا الطائر يعيش في الهند لمدة خمسين عاما، ثم يجيء إلى فينيقيا ليجمع طيوب لبنان، ويصنع منها أعشاب، فيغطي كاهن معبد هليوبوليس هيكل الأسرار، الذي يلقي عليه فينيق بطيوبه الممزوجة بالعنبر، لكن، ومع شروق الشمس يخفق فينيق بجناحيه، فيلتهب العنبر بواسطة أشعة الشمس، وتشتعل الطيوب فتحرق فينيق، لكنهم في اليوم التالي يرون دودة متولدة من رماده، وفي اليوم الذي يليه ينبت للدودة أجنحة، وفي اليوم الثالث يطير «فينيق» عائدا إلى وطنه.» # وفي الأساطير العبرية: «أن فينيق طائر يعيش ألف سنة، وبعد انتهائها ينبعث في عشه لهيب فيحرقه، لكن تبقى فيه بيضة يعاود منها فينيق الحياة، وإن هذه القيامة أعطيت لفينيق من عند الله؛ لأنه كان الطائر الوحيد الذي استنكر أكل حواء من الثمرة المحرمة.» # وواضح أنها هي بعينها فكرة تقديس الجعران في اللاهوت المصري القديم؛ من حيث المغزى المتمثل في الموت ومعاودة القيامة. # وبحسب تفسير د. مرغريت مري، فإن الجانب الصلد الذي كان يتبقى من الجعران الميت يصبح بعد ذلك وعاء يبيض فيه جعران جديد، أي إن من الموت تنبت الحياة. # ولقد لعبت هذه الشعيرة الفينيقية ذات الأصل المصري أهم أدوارها بعد ذلك فيما يتصل بمعتقدات الموت والفناء، ثم معاودة ms042 الحياة، أو الولادة، أو القيامة؛ فلقد امتدت مناقشات لاهوتية لا حصر لها حول هذه الفكرة الزراعية عن الموت والقيامة، وموجزها البذرة التي تفسد لتنبت وتزهر، واتسعت هذه المناقشات والمجادلات في القرون السابقة على ظهور المسيحية بل وعقبها، واشترك فيها من المؤرخين والمفكرين - فيما قبل المسيحية - بليني وسولون الأبدري وفيلسترات، ومن اللاهوتيين المسيحيين إقليم الإسكندري، وأوريجان، وأوساب، والقديس غريغور النزنزيري، والقديس كيرلس الأورشليمي، والقديس هيرونيم، والكثيرون غيرهم. # ويبدو أن احتفالات موت فينيق وقيامته الهائلة كانت تقام بمدينة بعلبك، لمشاهدة شعائر موت واحتراق ذلك الطائر فينيق، ثم قيامته المظفرة «حيث كان يرتقي الأعشاب العطرية ارتقاءه عرش الخلود، فتحرقه أشعة الشمس على مرأى من الملوك والعظماء، والكبراء والكهنة والأحبار، وعدد لا يحصى من الشعوب المتقاطرة، لمشاهدته من جميع جهات آسيا، ولا يلبث قليلا حتى يحيا ثانية من بين رماده، ويطير مجددا شبابه السماوي الخالد». # كما يبدو أن ثمة علاقة غريبة، لم يتنبه إليها أحد بالدرجة الكافية، وهي العلاقة بين الاسم فينيق أبو الفينيقيين، وبين نباته أو شعاره المقدس أو طوطمه، الذي هو النخلة، وكذلك بين معتقدات الموت والفناء، ثم معاودة البعث والقيامة التي كان يمثل أطوارها ذلك الطائر المقدس المسمى فينيق. # والذي أود أن أتلمسه وأشير إليه هو من ثمر النخلة أو بلحها كان سكان الشرق الأدنى القديم يصنعون خمرهم المعروف بالجعة أو العرقي، وكانوا يشربون ويسكرون، قرى بأسرها تشرب وتسكر وتنام كلما خيم الليل «ولك مخافة الانزلاق والتفكير في معميات الحياة والموت والفناء». # وهي واحدة من لمسات أبو التاريخ هردوت وتفسيراته التي دونها في كتبه التسعة خلال طوافه بشعوب شرقنا الأدنى القديم الغابر. # وفي ملاحظة أخرى تتصل بعلاقة - عرقي - البلح بالموت، يضيف هردوت: «أن المصريين كانوا يخرجون أحشاء الميت كلها، فينظفونها ويغسلونها بنبيذ التمر.» # 16 # ولقد تداخلت الممالك أو المدن الدول الكنعانية الفينيقية مع ما يتاخمها ويجاورها من شعوب وقبائل سامية، أي الآرامية المنحدرة من نسل آرام أكبر أبناء سام، في ممالك ... آرام دمشق «التي يقال إن مؤسسها هو عوص بكر آدم، وممالك ms043 صوبه وحماه وحمص ورحوب في سهل البقاع، وكذلك جشور، ويطور، نسبة إلى يطور بن إسماعيل بن إبراهيم من هاجر». # فالكنعانيون: «ملعونو العهد القديم، جابوا البحار ونشروا تجارتهم الواسعة، على عكس ما فعله الآراميون سكان الجبال الذين خافوا ركوب البحر واقتحامه وعدوه محرما أو تابوا، كالمصريين القدماء.» # ولقد واصل اليونان والرومان بعد ذلك اتهام هؤلاء الكنعانيين بالخسة والوضاعة، مثلما فعل جيرانهم الساميون من العرب واليهود، فقال عنهم شيشرون: «إنهم ولدوا للعبودية»، وكذلك نظر إليه سقراط. وكان من بين أمثلتهم: «سوري ضد فينيقي» بمعنى: خبيث ضد خبيث. # والواقع أن الامبراطوريتين الإغريقية والرومانية استفادتا أشد الاستفادة من تمزق هذه الشعوب القبلية العرقية المتنافرة في الشام وفلسطين؛ من فينيقيين وآراميين وسريان وعبرانيين وأنباط وعرب. # إلا أن الشيء الهام الذي خلفه النسل أو الرهط - اللعين بحسب اعتقاد القدماء - هو اللغة الكنعانية، التي منها جاءت العبرية القديمة لغة الكتاب المقدس، والتي لم تكن الأبجدية الفينيقية سوى إحدى أفرعها، والأبجدية الفينيقية «هي ما أصبحت اللغة اليونانية، التي كتب بها اليونانيون منذ القرن الثامن ق.م. كما يقول توينبي». # ولقد حفظت هذه اللغة الكنعانية العريقية بعد الفتح العربي «في لغة الطقوس الدينية المسيحية عند الموارنة والسريان في لبنان». # 17 # ولقد خلفت هذه الشعوب السامية أسماء أسلافها، وأسماؤها على كل مكان وطئته. # وبحسب قول عبيد بن شريه الجرهمي، فإن قارة أفريقيا سميت هكذا نسبة إلى الملك الحميري «أفريقيس بن أبرهة، الذي يقال إنه عندما غزا المغرب - شمال أفريقيا - متجها إليه من أرض البربر، فرأى بلادا كثيرة الخير، قليلة الأهل، فنقل البربر من بلادهم فلسطين إلى مصر، فلما بلغ أفريقيس حيث بلغ من فتوحات أمر ببناء مدينة بتلك الأرض من أفريقيا، فبنيت مدينتها، وإنما سميت باسم أفريقيس، وكذلك تسميها بربر اليوم، فأما العرب فتقول أفريقيا». # 18 # واسم الشام، # 19 # نسبة إلى سام بن نوح، وأصله في العبرية والسريانية «شام» أو «شم»، كما أطلق اسم آخر أبناء سام وهو آرام على معظم لبنان وسورية وما بين النهرين، أي آرام النهرين، كما أنهم أطلقوا على ms044 مصر حام، وأما ابنه كنعان فقد سموا به المنطقة الممتدة من الأردن إلى البحر الأبيض، كما أنهم أطلقوا على لبنان وبشكل خاص على الريف الفينيقي الزاخر بالكنعانيين، كما أن تسمية اليمن تتصل بيعرب بن قحطان، الذي كناه أباه بأيمن «أن أيمن يا يعرب»، وكان العرب يعنون باسم اليمن كل ما هو واقع على يمين القبلة؛ ولذلك شملت تسمية بلاد اليمن الشام بأسره. # كما تنسب تسمية أرمينيا - بالاتحاد السوفياتي اليوم - إلى هجرات آرامية يقال إنها وقعت في القرن السابع قبل الميلاد إلى أرمينيا التي كانت تعرف قبلا بأرض أراراط. # كما أن الميثولوجيين الساميين سموا كل ذوي البشرة السوداء كوشيين، # 20 # وذلك نسبة إلى حام - ابن اللعنة - الذي تحمل أبناؤه فيما بعد وزر أو خطايا أبيهم حام، حين عصى حام أباه نوح، وجامع امرأته خلال حجهم للبيت، فلعنه نوح: «اللهم سود وجهه ووجه من عصى ووطئ امرأته.» وعندما ولدت امرأته حام غلاما جاء أسود اللون، وسموه كوشا، وولد لكوش الحبشة بن كوش، أما شقيقه الثاني الذي لحقته لعنة أبيه أيضا، وهو «ماريع بن حام» فقد ولد ثلاثة أولاد أو أجناس؛ هم كنعان بن ماريع، وبربر بن ماريع، والنوبة بن ماريع. # وكذلك فقد خلفوا حضاراتهم على أعلى قمم جبال لبنان # 21 # وفلسطين، مثل جبال السامرية والعربية وجلعاد واليهودية، إلى جانب جبال شعيب صاحب مدين في الشام وسيناء، وشعيب بن حضور بن آلوت نبي القحطانيين في اليمن، وأيضا جبل ضهر في اليمن الذي وحدوه بالنبي هود: «لن نطيع الدهر هودا»، وجبل حرمون، أو الجبل الشرقي في لبنان، أي جبل الحرمان؛ سمي كذلك بحسب تفسير القديس «هيرونيم» الذي فسر حرمون أي بالموت حدادا على هابيل؛ ذلك لأن جنوبي هذا الجبل يطلق عليه اسم هابيل. # ولقد أورد زكريا القزويني حكاية غريبة بسهل عكا في أطراف لبنان، فقال إن: # بها عين البقر، وهي بالقرب من عكا، يزورها المسلمون واليهود والنصارى، ويعتقدون أن البقر الذي ظهر لآدم فحرث عليه لأول مرة أخرج من هذه العين، وهي نفس العين التي سماها ms045 الفرنسيون بعد ذلك في القرن السابع عشر ب «عين العذراء مريم». # ونهر القاسمية، كان يسمى نهر الليطاني أو الممنوع أو الملعون أو الحرام، وكذلك نهر قديشا أو المقدس الذي سموه «ليطا» وفسروه بالشرير، أما نهر الأولى، أي نهر المدينة الأولى، فقد سماه العرب قديما بنهر الفراديس، وكذلك فقد استبدل العرب نهر أدونيس باسم إبراهيم، ويشير «رينان» إلى وجود علاقة بين إبراهيم وإيل إله جبيل، بل إن العرب خلطوا بين إبراهيم وبين الإله «بل» إله الكنعانيين. # واستنادا إلى ما يقوله أحد قدامى الرحالة الفرس، # 22 # فإن أحد سهول بيت المقدس وهو سهل «الساهرة» اعتقد العامة في أنه سيكون ساحة القيامة والحشر؛ «ولهذا يحضر إليه خلق كثيرون من أطراف العالم، حتى يموتوا، فإذا جاء وعد الله، كانوا بأرض الميعاد»، كما أنهم اعتقدوا في أن هذا السهل هو «بيت فرعون» وسموه «وادي جهنم». # ومن أماكن اليمن المشئومة جبال ختا أو خياف، والجبل الأشيب سيد جبال النار، وقطب اليمن، فيقال إن ذلك الجبل يظهر عليه أهل النار والخراب، وتعوي فيه الذئاب، كما أن من بين الأماكن الملعونة نجران وصعدة، وبكلى، ويروى عنها الكثير من الخرافات، وأما جبالها المقدسة فهي جبال حضور، وحنين، ورأس جبل علي، ورأس صبر، وتعكر ... إلخ. # وباليمن وادي يعرف بوادي عشار «كثير الإخصاب»، نسبة إلى الإلهة إيشار أو عشتروت، كما أن اليمنيين نسبوا أقدم قصور اليمن، وهو قصر «غمدان»، إلى سام بن نوح الذي «ابتدأ بناءه واحتفر بئره»، وتنسب حوله الخرافات، أن طائرا اختطف المقرانة وطار بها، وتبعه سام لينظر أين أوقعها الطائر، ثم أقام البناء. # كما اعتبرت مدن الشام وقراها مسرحا لما لحق الخطيئة الأولى ... فيقال: «إن آدم لما أخرجه الله من الجنة (نعيم عدن) سكن جبل حرمون - جبل الشيخ - وأن ولديه - قابيل وهابيل - أقاما طويلا شرقي الفردوس في سهل البقاع، ويستدل على صحة هذا التقليد اليوم من قبور هابيل وقابيل وشيث المقامة في المحل المشار إليه»، # 23 # ويقال إن تسمية دمشق نسبة إلى إراقة دم قابيل لأخيه هابيل. ويقول القديس هيرونيم ms046: «إن معنى دمشق شراب الدم»، كما يقال إنه من أرض دمشق هذه قيل لقابيل: «والآن فملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دماء أخيك من يدك.» # ويقال إن هذا التقليد كان منتشرا بكثرة في أيام الحروب الصليبية، كما يقال بأن باني دمشق هو «اليعازر» خادم النبي إبراهيم، في نفس الحقل الذي قتل فيه قابيل أخاه هابيل. # أما دمشق فهي أرض «آدم» التي منها جاءت تسمية آدم، بمعنى أديم الأرض أو القدم، ويبدو أن تسمية أدوم كانت تشمل جزءا من الأردن، وهي الأرض التي نزلها عيسو أو العيص بن إسحاق. # 24 # فيبدو أن أدوم كانت تشمل أيضا جزءا من الأردن، ويؤكد هذا الكشوف الحفرية التي توصلت إليها البعثة التي أعلنت بعض نتائج اكتشافاتها في يوليو 1974. # وينتشر بين سكان جبل قاسيون شمال دمشق اعتقاد بأن جريمة «القتل الأولى وقعت في أعلى قمم الجبل»، وينسب القزويني لإحدى صخور دمشق الكبيرة أنها كانت المكان الذي قدما عليه قربانهما «حين تقبل من صاحب الزرع، ولم يتقبل من صاحب الرعي»، وهناك حجر عليه مثل آثار الدم، اعتقد الدمشقيون القدماء في أنه الحجر الذي هشم عليه الأخ أخاه؛ لذا سميت المغارة المجاورة لهذا الحجر «مغارة الدم». # وبينما يرى المسلمون الجريمة وقعت داخل «أغوار» # 25 # صحراء شديدة الجدب، ومنذ ذلك اليوم لم يقرب الندى جدب هذه الصحراء؛ يرى اليهود أن الجريمة وقعت في إحدى قرى جبل قاسيون، وهي قرية بسيمة. # ولقد وحد الأقدمون بين قابيل والشيطان «أشمودي» الذي ينسب له تشييد مدينة بعلبك، التي اعتبروها أول مدينة في العالم؛ إذ إن قابيل بن آدم عندما اعتراه الارتعاش أمر ببنائها، ولقبها باسم ابنه أخنوخ - النبي إدريس - وأسكن فيها الجبابرة والمهترجية. ولكثرة فواحشهم أرسل الله عليهم طوفان الماء «أو طوفان نوح». # ويسمى وادي البقاع بسوريا بسهل نوح، وبه قبر نوح بالقرب من زحلة، وإن ملكا هو الملك الظاهر - عام 1258م - أعاد بناء القبر فجعله «واحدا وثلاثين مترا». # وبالنسبة لإبراهيم، فإن في مدينة القدس صخرة يقال إن «عليها آثار سبع أقدام». # 26 # وسمعت ms047 أن إبراهيم كان هناك، وكان إسماعيل طفلا فمشى عليها، وهذه هي آثار أقدامه، «ويرى البعض أن قبر نمرود الجبار، الذي حاربه إبراهيم، موجود بجبل لبنان»، إلا أن هناك من يقول إن في قرية «أرواد» أربعة قبور لأربعة من أبناء كنعان. # ويعتقد سكان قرية كفر ناحور بلبنان أن قبر كنعان موجود على إحدى الصخور الموجودة هناك، كما يقال إن النمرود بن كنعان هو باني قلعة بعلبك، وفي بعلبك بقايا آثار قصر سليمان، ودير إلياس، وجبل سعيد الذي على قمته أقدم إبراهيم على ذبح ابنه وبكره إسماعيل. # وفي مدينة عكا توجد قبور «عك» باني المدينة، وعيش، وشمعون، وذي الكفل، وهود، وعزيز، وشعيب، وابنته زوجة النبي موسى، وفي قرية إربل أربعة قبور لأربعة من أبناء يعقوب، وكذلك غار وجد به قبر أم موسى، ويشوع بن نون، بالإضافة إلى سبعين نبيا. # أما في جنوب بحيرة طبريا فيوجد بحر لوط، ويقال إن مدينة لوط # 27 # كانت تقع على شاطئه. # موجز القول أن الأقوام السامية قد خلفت أساطيرها ومعتقداتها الخرافية في عصور الظلمات أو عصور ما قبل العالم على آثارها ومنشآتها ومعالمها الطبيعية بشكل غاية في الإفراط. # الفصل الرابع # | تدوين التراث # لم ولن تكون الميثولوجيا العبرية والتراث اليهودي حكرا ووقفا على اليهود؛ ذلك أنها الجانب التسجيلي المبكر لمجرى الأحداث المبكرة لتاريخ الشرق الأدنى القديم، بهجراته ومنازعاته ولاهوته ومعتقداته ونكباته، وأدق خصائص كل رهط وقبيلة ومدينة دولة وشعب، لأقوام الشعوب السامية أو غير السامية التي تنازعت الوجود على أرض هذا الجزء من العالم، وهو شرقنا الأدنى الموغل في القدم والعراقة والتجدد الدائم. # ودور اليهود في هذا التراث لا يعدو أنهم كانوا مدونيه المبكرين وحفظته من الضياع، ومن خلال دورهم فيه، مع عدم تناسي موقفهم الحلقي القبلي المغلق، الذي أبرز دورهم كقبائل عنصرية فاشية متفوقة «من الأولياء» كما يدعون، وهي مرحلة حتمت عليهم تلقي مجرى أحداث العالم الخارجي من حولهم، من خلالهم هم بالذات. # إلا أن ما يجدر تأكيده هو أن التراث العبري ملك مشاع مشترك لكافة شعوب الشرق ms048 الأدنى؛ نظرا لكونه وثيقة مدونة مبكرة لها أهميتها في التعريف بماضي هذه الأقوام مجتمعة، تضاف إلى بقية الوثائق، من حفرية أو تاريخية ونصية وشفاهية، في إلقاء المزيد من الضوء على ذلك الماضي؛ بهدف إعادة إنارة وجلاء مستقبله. فما أحوجنا اليوم إلى المعرفة شبه العلمية لماضينا ومكوناتنا الأولى، بالقدر الذي يسهم في إيضاح طريق المستقبل! # لذا فمن الصعب بل المستحيل أن يتكامل تاريخ حضاري شامل متكامل لشرقنا القديم بمعزل عن المدونات العبرية، من مقدسة وغير مقدسة ومحظورة أو ممنوعة وهكذا. من ذلك التوراة أو العهد القديم والتوراة الشفاهية؛ أي التلمودان البابلي العراقي والأورشليمي الفلسطيني، والتلمودان الحجازي، والأسفار المحظورة «الأبوكريفا». # وليس هذا برأي جديد؛ إذ إن كثيرا ما ترفض حركة الأساطير والفولكور العالمية اعتبار التراث اليهودي العبري بعامة تراثا متميزا مكتمل الشخصية، على اعتبار أنه «في مجمله ينتمي لتراث البلدان المتاخمة»؛ أي إن هناك شرعية في ملكيتنا أيضا لهذا التراث البالغ الأهمية الذي ينتمي في مجمله لتراث البلدان المجاورة، في فلسطين والشام، ومصر والعراق واليمن. # وكما يقول كامل زهيري، فإن اليهود قوم تكمن مأساتهم في أنهم يمتلكون تاريخا دون جغرافيا، بمعنى وطن، أو قطعة أرض، فهم كجنس تراجيدي غريب، واصل طوافه المتصل الدائم، من مجتمع إلى آخر ومن قارة لأخرى، على طول تاريخهم - سواء القديم أو الحديث - مما أكسبهم لفولكلور ومعتقدات وثقافات تلك الشعوب التي عاشروها واتصلوا بها، منذ خروج القبائل الرعوية العبرية من أور الكلدانيين في دلتا العراق مع انتهاء الألف الثالثة قبل الميلاد، ونزولهم أول أمرهم جيرانا في بادية الشام، ثم دخولهم أو مجيئهم إلى مصر، ثم نزولهم إلى فلسطين أو أرض كنعان، واتصالاتهم وتعاملهم مع الكنعانيين والأموريين، وامتصاصهم الدائم لتراث هذه الأقوام وغيرها. # وتجيء بعد ذلك عصور اتصالاتهم بالبابليين والآشوريين والفرس منذ الألف الأولى قبل الميلاد، فمن بابل وآشور أخذوا أغلب معتقداتهم عن السحر والحيوانات الخرافية السحرية التي تتبدى بكثرة شديدة في رؤى دانيال ومراثي أرميا وحزقيال. # ومن الفرس جاءتهم كل تصوراتهم ومعتقداتهم عن الملائكة والشياطين والجن، بمعالمها وأسمائها ms049 الفارسية المجوسية، إلى جانب الثنائية الفارسية عن الخير والشر، أو الموجب والسالب، والتي تمير بها هذا التراث الآري المجوسي وسط حضارات العالم القديم عامة والتراث السامي بشكل أخص. # ولقد جاءت الكشوف السومرية اللاسامية في العراق، فأوضحت الكثير من الغموض بالنسبة للتراث السامي بشكل عام، والتراث العبري بشكل أخص؛ فلقد أوضحت هذه الكشوف السومرية - الألف الرابعة قبل الميلاد - عن حقيقة «أصل التوراة ذاتها ومنشئها، وأن هذه المجموعة من المآثر العظيمة لم تجئ إلى الوجود كالأزهار الصناعية وهي كاملة النمو، بمعنى أنها تنتشر انتشارا واسع المدى في تراث الأقوام المجاورة». # وليس الغريب أن تراث العبريين هو على وجه التقريب تراث وحضارة أولئك السومريين اللاساميين وصل اليهود عن طريق الوساطة الكنعانية، مثلهم في هذا مثل بقية الأقوام والجماعات السامية، وذلك عقب انتقال ذلك التراث السومري إلى الورثة المباشرين، وهم الكلدانيون والبابليون والآشوريون والحثيون والكنعانيون. # وعن الكنعانيين الذين سبقوا العبريين في استيطان فلسطين، وبعض مدن الساحل الفينيقي، سرى إلى الوجود تراث تلك الحضارة اللاسامية المندثرة مثلما توارث العرب - خاصة القحطانيين سكان اليمن والجنوب العربي - حضارات لاحقيهم من القبائل العربية المندثرة التي ترجع إلى ما قبل الألف الثالثة قبل الميلاد، وهم قبائل عاد وثمود وطسم وجديس والعماليق، وغيرهم. # وقد لعبت الحضارة الكنعانية، وطليعتها البحرية فينيقيا - نظرا لاقتحامها المبكر للبحرين الأبيض والأحمر - دور الوسيط في حمل تراثي مصر وبابل، والإبحار به ونشره على طول سواحل البحر المتوسط. # لذا يرى البعض أن كلا التراثين العقائديين العبري اليهودي والفارسي المجوسي، بالإضافة إلى التراثين الهليني والمسيحي؛ جاء جميعه تحت التأثير المباشر الكنعاني، السوري أو الآشوري فيما بعد. # فيبدو أن خليطا عريضا من أجناس وأقوام شعوب البحر المتوسط قد استوطنوا المدن السورية على مدى تاريخها، مما ساعد على إثراء التراث السوري الكنعاني. # ويذكر جوستاف لوبون # 1 # أن سكان مدن سورية وقراها «مزيج من المصريين الفينيقيين واليهود والبابليين والفرس والأفارقة والرومان والعرب والمغول والشركس والصليبيين والترك، وغيرهم من الأمم التي استولت بالتتابع على سورية». # ويرى توينبي # 2 # بالنسبة لليهود أن شعب مملكتي «إسرائيل ms050 ويهوذا قد رفع نفسه مكانا ساميا، إبان فترة من تاريخه الذي بدأ في طفولة الحضارة السومرية وبلغ الأوج في عصر الأنبياء». # ويرجع السبب في تركيزي على الحضارات أو المنابع الأم أو حضارات الجيل الأول في دلتا العراق، حيث الحضارة السومرية الأكادية، وفي دلتا وادي النيل حيث الحضارة المصرية الفرعونية؛ إلى محاولة تعرف النبتة الأولى لكل موتيف أسطوري أو فولكلوري وإمكانية تتبعه؛ وذلك نظرا لتعدد المصادر وتنوعها بالنسبة للفكرة أو الموتيف الواحد، مما قد يوقع الباحث في الخطأ وفقدان الطريق، وإعادة هدم ما أوشك في بدئه، وهو ما أصبح تقليدا ساريا بالنسبة لدارس تراث قلب العالم القديم. # فما من إضافة كشفية أثرية أركيولوجية أو نصية، أو شفاهية، لم تسهم في إعادة تكامل جزئيات هذا التراث الهائل، مما يترتب عليه دوام الهدم المستهدف - أصلا - لتوالي البناء واستقامته. # فيمكن اعتبار الدراسات الفولكلورية - محتوية أو متضمنة الأساطير - أحد المراكبات الهامة اليوم، في إعادة بناء تاريخ الجسد الحضارة، لأي شعب أو مجموعة من الشعوب. # مثل هذه الدراسات قد قطعت شوطا كبيرا، خاصة فيما يتصل بالتصنيف؛ أي تجميع وتراكم عينات الفكرة أو المقولة الواحدة، ثم بعد ذلك إعادة تعرف تاريخ حياة كل فكرة على حدة، والأخذ بمبدأ أن أي فكرة أو مقولة أو شعيرة تصبح بلا قيمة ما لم يتحدد أصلها وفصلها، وما طرأ عليها من تغيرات وإضافات من عصر لعصر. # وبمعنى آخر فإن فكرة خلق حواء من ضلع الرجل - مثلا - ترد منحدرة من التراث السومري اللاسامي، متبدية في التراث السامي عند الورثة البابليين والحثيين، منتقلة إلى الكنعانيين الفينيقيين، متبدية في أسطورة الإله «موت»! # فكان أن نقلها العبريون إلى أسطورة الخلق أو سفر التكوين، وكذلك طوف بها الكنعانيون وطليعتهم البحارة الفينيقيون إلى الحضارة الإيجية، ومنها دخلت هذه الجزئية إلى التراث الهليني اليوناني، ثم الروماني فيما بعد، ثم اللاتيني في العهد المتأخر. # وبشكل مجمل يمكن القول بأن أسفار التكوين الأحد عشر الأولى، تنتمي بكاملها إلى الميثولوجيا الكنعانية المتوارثة مباشرة من الحثيين والبابليين. # ومن هذه الأفكار خلق العالم ms051، وتوحد الخالق بالماء، وإقدامه على خلق العالم عن طريق رسله الثلاثة، ثم فكرة خلق الإنسان الأول «يوم خلق الله الإنسان، على شبه الله عمله»، # 3 # وهو ما تتميز به أساطير الخلق السامية، على تراث العالم أجمع، ومنها خلق المرأة من ضلع الرجل، وتوحدها بالحية التي توحدت بدورها بالشيطان، ثم الخطيئة الأولى، وكذلك تمشي الإله في الجنة عند هبوب الريح # 4 # كقرين للريح، وعري آدم عقب الخطيئة، وعقاب الإله للخطاة الثلاثة آدم وحواء والحية، الذين حسدهم إبليس أو الشر وأضلهم، فكان أن طردوا من الجنة إلى - الجحيم - الأرض، وكان أن دخل الموت إلى العالم «فإن الله خلق الإنسان خلدا، وصنعه على صورة ذاته، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم»، # 5 # وما توالى بعد هذا من عقاب للمرأة؛ مثل إدماء حواء الشهري (الحيض)، وتسيد الرجل عليها: «تكثيرا أكثر أتعاب حملك، وبالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك.» # 6 # وكان أن قهرت المرأة وسلب سلطانها خلال توالي هذا التراث الأبوي البطركي الذي سيد أول ما سيد الرجل الذكر على المرأة الأنثى، وألحق بها وزر الخطيئة الأولى: «فمن المرأة ابتدأت الخطيئة، وبسببها نموت جميعا.» # 7 # ثم يعقب هذا سلسلة الأنساب المفقودة، أو المفتقدة، لحين مولد الجبابرة أو العماليق أو النماردة، ملوك بابل والشام، فمن المعتقد أن أولئك الجبابرة البادئين أو المندحرين، هم بذاتهم الذين حاربهم العرب والعبريون على السواء. # ويذكر ابن خلدون عن الجبابرة: # وسطروا عن عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخبارا عريقة في الكذب، من أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق، رجل من العمالقة الذين حاربهم بنو إسرائيل في الشام، فزعموا أنه كان لطوله يتناول السمك من البحر ويشويه في الشمس. # ونسجوا حولهم الخرافات والأساطير، ومنها شخصية «عوج بن عناق»، وهو شخصية خرافية، فيقال أنه المخلوق الوحيد الذي لم يهلكه الطوفان، كما يقال بأن قاتله هو النبي موسى، ويذكر في التوراة مع الجبابرة تحت اسم «عوج ملك باشان»، ولاستكمال التعرف على هذه الشخصية الأسطورية يمكن الرجوع إلى دراسة الأستاذ فوزي العنتيل الموجزة الوافية ms052 في كتابه القيم «الفولكلور ما هو؟» # 8 # كما يقال إن أولئك الجبابرة هم الذين استأصلهم وأبادهم العمونيون والموآبيون سكان الأردن، المنحدرون من نسل لوط، والذين سبقوا - الإسرائيليين بالتحديد - في استيطان شرق الأردن. # ويضيف الجاحظ أن قبائل وملوك جرهم # 9 ~~- وهم من العرب البائدة - جاءت: # من نتاج ما بين الملائكة وبنات آدم، فكان الملك من الملائكة إذا عصى ربه في السماء أهبطه إلى الأرض في صورة رجل، كما صنع بهاروت وماروت، وما كان من شأنهما وشأن الزهرة - أناهيد - فحين هبط جرهم في صورة الرجل تزوج أم جرهم فولدت له جرهما. # وهم المنحدرون من نسل شيث بن آدم «وإلى شيث تنتهي أنساب جميع أبناء آدم.» # وتزعم الملل والنحل المعروفة «بالصابئة» أنه ولد لشيث ابن آخر اسمه صابئ بن شيث، وإليه تنسب الصابئة، وشيث يلقب عند هؤلاء «عاد يموت»، وعاد هذا يمكن أن يكون رأس قوم عاد، الذين أرسل لهم الله هودا، وكانوا أهل أصنام ثلاثة. وكان عاد وثمود جبارين طوال القامات. وما يلفت النظر أن نحل الصابئين هذه «كانوا مكذبين لنبوة إبراهيم ومن دونه، وكانوا مصدقين بنبوة إدريس # 10 # الذي هو أيضا إحدى صور شيث بن آدم أول من اخترع الكتابة». # وكان الصابئة يقولون بقدم الأصلين «الله والشيطان»، أو الخير والشر، والموجب والسالب، مثلهم مثل المجوس، ويعتقدون في «الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر، ويقربون الذوابح، ويصلون خمس صلوات في اليوم والليلة، ويصومون شهر رمضان، ويستقبلون في صلواتهم الكعبة، وحرموا الميتة ولحم الخنزير، وكان الذي يدين به الصابئة أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا، وبقاياهم بحران يسمون الحنفاء، ويتفقون مع النصارى في التثليث وفي أن خالق الخلق ثلاثة». # وقد يلقي التفسير التالي مزيدا من الضوء على قدم حقيقتي أولئك الصابئة أو الحنفاء، وهو أن «يهوه» إله القبائل الإسرائيلية عرف بيهوه صابؤات، # 11 ~~«أو يهوه صابئ؛ أي رب الجنود، أو يهوه القائد.» # ويبدو تقديس الساميين «أصحاب الوبر» لهؤلاء الأسلاف من الجبارين «بني إلوهيم» أو العماليق، في تلك الأسطورة التي تكشف عن أصل منشئهم. ويلاحظ جيدا في ms053 هذا التراث الأسطوري السامي أنه ما من شعب أو قوم أو قبيلة أو رهط لم تصاحبه أسطورته التي دفعت به إلى الوجود وجاءت به إلى العالم ورسمت له أرض ميعاده. # وسنحاول توضيح هذا عند التعرض لكل مجموعة أو حضارة أو شعب بقدر من التبسيط، ونظرا لأن هذه الحضارات أو المجموعات أو القبائل المتجانسة هي ما ستطالعنا بشكل متوال يفضي بنا إلى متاهات علوم الأنساب، أو الكوزمولوجي. # فيرجع سفر التكوين الأسطورة المصاحبة لمولد ووجود هؤلاء الجبابرة إلى أن اتصالا كان قد تم بين الملائكة وبنات الناس «حين دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا، وهؤلاء هم الجبارون الذين منذ الدهر ذوو اسم.» وتذكر أغلب المصادر السامية أن هذا الاتصال وقع على جبل «حرمون» أو جبل الشيخ بلبنان وتحت ظلال أشجار أرز لبنان، شجر عشتروت إلهة الإخصاب الجنسي، «وهناك ولد الجبارون المذكورون الذين كانوا في البدء الطوال القامات الحاذقين بالقتال.» # وعلى هذا فرقت الأقوام السامية بينها وبين أولئك الجبابرة، بل إنهم حاربوهم واعتبروهم خارج النسل السامي. # واللافت أن أحد مصادر الميثولوجيا العربية وهو عبيد بن شريه الجرهمي ينسب عادا # 12 # إلى شجرة النسب السامي، فهو كما يقول «عاد بن عوص بن سام بن نوح، وهو الذي أحدث له عشرة أولاد هم: شداد، وكان أول ملوكهم الذي بنى مدينة إرم ذات العماد، والخلود وهم: رهط النبي هود، وتيم بن عاد، وبهار، والعنود، والحقود، والوصور»، ثم تجيء بعد ذلك الأسطورة النوحية، نسبة إلى النبي نوح، الذي «وجد نعمة في عيني الرب، فأقام معه عهدا في نسله، فأنجب نوح أولاده الثلاثة حام وسام ويافث»، ثم حلول الطوفان كعقاب، وإنقاذ نوح للجنس البشري حين صنع فلكه وحمل معه من كل جنس أو مخلوق «سبعة سبعة ذكرا وأنثى»، # 13 # وما أعقب الطوفان من انتقال حضاري، منها بداية التعريف بالمحارم: «غير أن لحما بحياته دمه لا تأكلوه، وأطلب أنا دمكم لأنفسكم»، # 14 # وإقامة الله الميثاق مع بني نوح: «وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبينكم»، ثم تجيء ms054 بعد ذلك أول أفكار القبيلة أو الرهط الملعون، متمثلة في خطيئة حام، حين سخر من عري أبيه نوح والتي بسببها أصبح وجه الحاميين - ذوي البشرة السوداء - أسود في المصادر العربية، ولعن بسببها كنعان بن نوح في الأساطير العبرية: «ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته.» # 15 # وكان أن انحدر من حام بن نوح «كوشن» - أبو الكوشيين في النوبة والسودان - ومصرايم وفوط وكنعان و«كوش» - أبو الصيادين في البر والبحر - ولد نمرود، الذي ابتدأ أن يكون جبارا في الأرض، «أما ابنه كنعان - ابن اللعنة» # 16 # فولد صيدون - مؤسس مدينة صيدا - في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، وبكره حثا - أبو الحثيين - واليبوسي والأموري والجرجاشي، «وكانت تخوم الكنعاني من صيدون حينما تجيء نحو جرار إلى غزة وحينما تجيء سدوم وعمورة وآدمة - آدم - وصبوييم إلى هالاشع.» # ومن نسل سام جاء عيلام - أبو العيلاميين - وآشور ولد آرام - أبو الآراميين - وشالح وعابر، «ولعابر ولد ابنان اسم الواحد فالح؛ لأن في أيامه قسمت الأرض، واسم أخيه يقطان.» # ويقطان هو قحطان - أبو القحطانيين - ومنه جاء العرب القحطانيون الجنوبيون سكان اليمن، كما أنه أبو العرب العاربة. وابنه يعرب بن قحطان «أول من تكلم العربية»، ومن نسله جاء ملوك سبأ، وكان أولهم الملك عبد شمس بن سبأ، الذي سمي سبأ لأنه كان يسبي أعداءه، وبحسب ما يشير به نسابة العرب، فإن من نسل سبأ انحدر ملوك حمير، وكهلان. # فمن حمير ملوك بني قضاعة، وبنو كلب بن وبرة - وهم الكلبيون - ومن كهلان انحدرت سبعة بطون، تضخموا إلى قبائل وحضارات كبيرة فيما بعد، وهم: طيء، ومذحج، وهمدان، وكندة، ومراد، وأنمار، والأزد، ومن الأزد انحدر الغساسنة ملوك الشام - عقب خراب سد مأرب - وكذلك انحدر منهم قبيلتا الأوس والخزرج ملوك يثرب، ومنهم أيضا انحدرت قبائل خزاعة، سدنة أو كهنة الكعبة قبل الإسلام. # ومن نسل الأخ الثاني عابر انحدر العبريون، ويقال إنه إنما سمي عابر لأنه كان أول من عبر الأرض، وهو أبو القبائل العبرية، بمعنى أن لفظ عبري تشمل معنى أوسع وأشمل من لفظ إسرائيل أو يهودي ms055، فإسرائيلي ترتبط بشكل خاص بيعقوب الذي سمي إسرائيل، ويهودي نسبة إلى ابنه يهوذا، وهم ما سنتعرض له في حينه. # فالقبائل العبرية الرعوية قبائل صحراوية، وعندما نزلوا فلسطين # 17 # كانت لغتهم عبارة عن لهجة آرامية، أقرب إلى العربية منها إلى أي لغة سامية أخرى، كما كانت معتقداتهم الفولكلورية واللاهوتية نتاجا صحراويا مكتمل المعالم. # ويبدو أن عابر كان هو أبو القبائل الرعوية أو البدو الرحل أصحاب الوبر سكان الصحراء؛ إذ إن عابر أنجب «رعو»، بما قد يشير إلى رعى أو رعاة، ومن رعو جاء تارح الذي أنجب بدوره «إبرام - إبراهيم - وناحور وهاران، وولد هاران لوطا»، وهكذا تكتمل بداية أصول إبرام أو إبراهيم الخليل، حين هاجرت من العراق الأعلى منطقة الجزيرة بين دجلة والفرات المعروفة إلى اليوم في العراق ب «أور الكلدانيين». # وكان اسم امرأة إبرام ساراي، وكانت ساراي عاقرا ليس لها ولد ... وما يهمنا هنا هو هجرة قبيلتي إبراهيم ولوط ابن أخيه هاران، «فخرجوا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا إلى هاران، وأقاموا هناك.» # ويؤرخ لهذه الهجرة ابتداء من الألف الثانية قبل الميلاد، حوالي 1920ق.م ... # ويوجد دارسو الميثولوجيا السامية # 18 # بين «إيل» أعظم آلهة الشعوب السامية، وبين إبراهيم؛ فيحفظ سفر التكوين لإبراهيم أنه أقام «شرقي بيت إيل، ونصب خيمته، وله بيت إيل من المغرب وعاي من المشرق ... فبنى هناك مذبحا للرب». # 19 # وفي نفس هذا المكان الذي هو بيت إيل بدأت أسطورة أرض ميعاد الآباء لدى القبائل الإسرائيلية، حين وعد إبراهيم من الرب - الذي قد يكون إيل: «لنسلك أعطي هذه الأرض.» # 20 # وتجيء بعد ذلك سلسلة الأحداث المعروفة، مثل تغرب إبراهيم إلى مصر حين «حدث جوع في الأرض» واغتصاب فرعون مصر، الذي تصر أغلب المصادر العربية على الاحتفاظ باسمه وهو الوليد بن مصعب، لساره «أخت إبراهيم في الرضاعة وزوجته وابنة عمه»، وغضب الرب على فرعون هذا، فكان أن أكرم إبراهيم، وأهداه هاجر. ويجيء بعد ذلك حادث انفصال قبيلة لوط عن قبيلة إبراهيم، ونزوله إلى الأردن؛ «فاختار لوط لنفسه كل دائرة الأردن وارتحل شرقا ms056.» # 21 # ثم يجيء حادث تخريب مدينتي البحر الميت، سدوم وعمورة، وخروج لوط مع ابنتيه واحتمائهم في إحدى المغارات. # وهنا تمهد الأسطورة «اللوطية» إلى خروج القبائل الموآبيين والعمونيين إلى الوجود، سكان الأردن الذين نازعوا القبائل الإسرائيلية بعد ذلك على طول تاريخ الإسرائيليين في فلسطين، فبعد أن احتمى لوط بالمغارة مع ابنتيه «قالت البكر للصغيرة: أبونا شاخ، وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة أهل الأرض، هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه.» وهكذا تعاقبتا الاضطجاع مع أبيهما، فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب وهو أبو الموآبيين إلى اليوم، وولدت الصغيرة أيضا ابنا ودعت اسمه بن عمى وهو أبو بني عمون إلى اليوم. # وهي تضمينة أسطورية مهاجرة من أصل مصري، وترد في الميثولوجيا المصرية مرتبطة بآلهة الموت «ونيك» ومن ألقابها «سيدة القصر»، وجاء مولدها في اليوم الخامس النسيئة. # وتروي أساطير هذه الإلهة نفتيس: «أنها كانت تتمنى أن تنجب طفلا من أخيها الأكبر أوزوريس؛ ولهذا الغرض أسكرته وضاجعته، وكان ثمرة هذا اللقاء الدنس إنجابها للإله أنوبيس.» # ويعتبر هذا الإله المصري أنوبيس بمثابة النبتة الأولى للملاك - الرسول جبريل أو جبرائيل - في الميثولوجيا السامية. ~~••• # وكانت القبائل العمونية - بالأردن - قبائل زراعية، قريبة لهجاتها من العربية، بينما كان الموآبيون بدوا صحراويين رحلا، وهي فكرة ستتكرر بشكل متوال فيما بعد، وموجزها الصراع الأزلي بين الزراعة والبداوة، وبين الفلاحين والبدو. # ويقال إن موسى كان قد حرم على الإسرائيليين في سيناء قتالهم للموآبيين والعمونيين؛ # 22 # لأنهم عبريون من بني لوط «حين نزولهم أرض الميعاد، على عكس ما أوصاهم وأمرهم باتباعه بالنسبة للأقوام الكنعانية والأمورية والحثية، وما تشعب منها». # 23 # وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا، فلا تستبق منها نسمة، بل تحرمها تحريما، الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين. # وبالنسبة للأساطير المصاحبة لقبيلة إبراهيم، فحين تزوج إبراهيم بهاجر المصرية، أنجب منها إسماعيل أبا القبائل العربية الرعوية سكان شمال الجزيرة العربية في الحجاز ونجد، حين سخطت ساره وغارت عقب إنجاب هاجر إسماعيل فطردته وأمه، فأسكنهما إبراهيم وادي «فاران» أي مكة: # ربنا إني أسكنت ms057 من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم # فكان أن أسكن الله أفئدتهما بقبائل جرهم والعماليق. وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر. # 24 # وتنسب هذه الأساطير لمجموعة واسعة جدا من شعوب وقبائل الأقوام السامية الانحدار من صلب إبراهيم، فلقد تزوج إبراهيم بنساء ثلاث، منهن هاجر المصرية التي أنجب منها إسماعيل أبا العرب، سكان نجد والحجاز. وقيدار وحدد ويطور وقدمه ... # 25 # إلخ. # ومن رحم سارة أنجب إسحاق، الذي أنجب بدوره يعقوب أبا القبائل الإسرائيلية الاثنتي عشرة وهم: رأوبين وشمعون ولاوي ويهوذا ويساكر وزبولون ودان ويوسف وبنيامين ونفتالي وجاد وأشير، # 26 # وكذلك أنجب إسحاق «بني عيسو» أو بني العيص، نسبة إلى ابنه البكر العيص، أبي الملوك الأدوميين في بادية الشام والأردن وجزيرة العرب. # وكانت زوجة إبراهيم الثالثة، التي تزوجها عقب وفاة سارة، امرأة كنعانية تدعى قطورة، فمن رحمها انحدر ستة ملوك أو أقوام هم: زمران ويقشان ومدان ومدايان ويشباق وشوحا، ومنهم جاء ملوك شبا أو سبأ، وددان أو ديدان، وسيناء ... إلخ. # ويقال إن هذه الأقوام والقبائل العربية من آدوميين وموآبيين وعمالقة وعمونيين ومديانيين، وغيرهم من أعراب سوريا؛ تحالفوا عام 2000 قبل الميلاد وغزوا مصر تحت اسم «الهكسوس» أو ملوك الرعاة، وأخضعوها لمدة قرنين. # وطبعا كان لكل من هذه الأقوام والقبائل التي تكاثرت بدورها متمددة متطاحنة؛ كان لكل منها أنبياؤها وطلائعها ومشرعوها. # فإلى قبائل الجبابرة - أبناء الله ومنهم قبائل عاد البائدة - أرسل النبي هود، الذي يمكن توحده مع الدهر أو المنايا أو المنون أو القدر. # وإلى ثمود أرسل صالح، وطوطمه المتمثل في الناقة، أو الإبل، كما كان أيوب نبيا للأدوميين، أهل أدوم، في بادية الشام بسوريا. # وكان مثلهم مثل بقية الأقوام الكنعانية، بل السامية بعامة، يقدمون التضحيات البشرية وغير البشرية «قدس لي كل فاتح رحم من الناس والبهائم»، «وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقط، من يد كل حيوان أطلبه، ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان.» # كما أنهم اعتقدوا في الجن ms058 والشياطين والعفاريت والأرواح الشريرة والخبيثة. # ويرى بعض المستشرقين مثل «نولدكه» أن معتقداتهم هذه عن الجن والشياطين جاءتهم من الإيرانيين. # فانتقال العرش من شاول - أول ملوكهم - إلى بيت داود خطيئة مرجعها طلب شاول هذا إلى الجن للسؤال، ولم يسأل من الرب، فأماته وحول المملكة إلى داود بن يسى. # وهي نفسها الخطيئة التي بسببها جز الفلسطينييون رأس شاول هذا «وسمروها في بيت إلههم داجوان، إله الحبوب». # كما أن هذه التضمينة عادت فتبدت مع داود، فكانت خطيئة داود التي بسببها «وقف الشيطان ضد إسرائيل» حين أغوى - الشيطان - داود ليحصي إسرائيل، ومنها تواترت الفكرة الشفاهية عن «أن العدد يقلل البركة»، وكان أن غضب الرب وأرسل إلى داود ثلاث لعنات ليختار إحداها، لينتقم بها من إقدام داود على إحصاء شعبه: «إما ثلاث سنين جوع، أو ثلاثة شهور هلاك أمام مضايقيك وسيف أعدائك يدركك، أو ثلاثة أيام يكون سيف الرب ووباء في الأرض، وملك الرب يعثو في كل تخوم إسرائيل.» # 27 # فلقد استغرقت تلك القبائل الإسرائيلية في الخرافات الطوطمية، ومثلهم مثل القبائل العربية الجاهلية، اعتقدوا في الجن والتوابع، وحرموا عتبات البيوت. # 28 # فلقد كانت القبائل الجاهلية من «الحمس» # 29 # أو الأحامس، متضمنة لقبائل: قريش وخزاعة والأوس والخزرج وصعصعة وأزد شنوءه، وجذم وسليم وعمر واللات وثقيف وغطفان والغوث وعدوان وعلاف وقضاعة، هم أهل الحرم، المتشددين في دينهم - المتحمسين، كان هؤلاء الأحامسة «يعزفون عن المرور تحت عتبات البيوت»؛ لذا اخترعوا ودخلوا البيوت من فتحاتها الخلفية، وفيهم قيل: # وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها # وهو ما لا يزال شائعا ومعروفا بالنسبة للمدخل الخلفي في بيوتنا القروية، ويطلق على ذلك المدخل - الشعائري - اسم الخوخة إلى اليوم. # ويبدو أنها فكرة أو تضمينة أسطورية متوارثة منذ السومريين. # كما أن منها الربط بين الخطايا ومداخل البيوت وأعتابها في الميثولوجيا المسيحية: «خطيئة رابضة عند الباب، وإليك اشتياقها.» # كما حلت القباب الحمر محل تابوت العهد عند العرب، ومنها «قبة مصر الحمراء» أو «القبة الحمراء وهي من آدم» أو «أهل القباب الحمر»، وهو ما مر الحديث عنه. وكذلك ms059 المنازعات الطويلة حول رأس عيسو أو العيص أبو الأدوميين. # ويلاحظ أنه منذ بضع سنين - يوليو1974 - اكتشفت إحدى البعثات الإنكليزية أطلال مدينة أدوم بالأردن، وترجع إلى 2700ق.م ... # ومع تسيد الإسرائيليين على جيرانهم ومتاخمتهم، تسيد - بالتالي - طوطمهم، أو تابوت العهد، فكانوا يقدمون له القرابين «واحد لأشدود، وواحد لغزة، وواحد لأشقلون، وواحد لعقرون وفيران الذهب - بعدد جميع الفلسطينيين، وشاهد هو الحجر الكبير الذي وضعوا عليه تابوت الرب». # ومع انتصار داود على سلفه وغريمه الملك شاول - أول ملوك إسرائيل - وانتقال الملك إلى سبطه أو عائلته، نقل داود التابوت إلى مدينته «مدينة داود، بفرح، وكان كلما خطا حاملو تابوت الرب ست خطوات يذبح ثورا وعجلا معلوفا، وكان داود يرقص بكل قوته أمام الرب»، ويبدو أن انطلاق داود وتهتكه أمام التابوت لم يرض الأرستقراطية الإسرائيلية الجديدة؛ إذ إن زوجته ميكال ابنة الملك شاول الذي خلفه داود - وكان كلاهما من القاع - على عرش أورشليم، لم ترض ميكال عن تصرف داود هذا حين أطلت من الكوة ورأت الملك داود يقفز ويرقص أمام الرب، فاحتقرته في قلبها. # ونصب داود التابوت «في وسط الخيمة التي نصبها له»، والخيمة هي ما أصبحت بعد ذلك «خيمة الاجتماع»، مثلما كانت «بيوت الحلفاء» أو المعابد المجدولة من الحلفاء نواة للمعبد المصري القديم، ومثلما كانت الكعبة في أدنى أشكالها يسمونها «الأخشف» أو «الغبغب»، وهي المكان الذي نصب عليه الكاهن الخرافي عمرو بن لحي الجرهمي أصنام مكة التي قيل إنها بلغت 360 صنما، بعدد أيام السنة القمرية. # وكانت خيمة الاجتماع هذه بمثابة التمهيد لإقامة المعبد الإسرائيلي أو الهيكل الذي بناه المهندسون والفنانون الفينيقيون على نمط المعابد المصرية من حيث المعمار، والنحت، والتصوير الآشوري البابلي من حيث التشكيل. # ولقد حدثت حكاية طريفة حول إقدام داود على تشييد أول معبد عبري، حين قال الملك داود لناثان النبي: «أنا أسكن القصر، وتابوت الله ساكن داخل الشقق.» # فكان أن غضب «يهوه» أو «التابوت» أو «الطوطم السلف»، ورد إليه ناثان قائلا: «اذهب وقل لعبدي داود: هكذا قال الرب، أنت تبني لي ms060 بيتا لسكناي؛ لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم، بل كنت أسير في خيمة وفي مسكن»، كما قال يهوه لداود: «أنا أخستك من المربض من وراء الغنم لتكون رئيسا على شعبي إسرائيل.» # وكثيرا ما كان أنبياؤهم يمنعونهم من «مضاجعة النساء المجتمعات في بيت خيمة الاجتماع». # وفي تلك المرحلة الطوطمية كانوا يلقبون النبي ب «الرائي»؛ أي الذي يرى حجب المستقبل، وكان «الكهنة من بني لأول، حاملي تابوت عهد الرب» يمنعونهم بحسب وصايا موسى من مضاجعة البهائم والحيوانات، من على قمم الجبال، فكانوا يقولون: «ملعون من يضطجع مع امرأة أبيه؛ لأنه يكشف ذيل أبيه وأمه، ملعون من يضطجع مع حماته» ... إلخ. # ومثلهم مثل بقية الأقوام والقبائل الطوطمية، كانوا يقدسون الأحجار والشواهد. # ويرد ذكر الأصنام أو الأحجار - المقدسة - أو الشواهد، خلال ذكر تاريخ ذلك الطور الطوطمي - الأنيمي - الذي مرت به هذه القبائل أو الأقوام المتنافرة في بعض مدن الشام وفلسطين. # ولعل «اختيار» داود للأحجار الخمسة التي نازل بها خصمه الفلسطيني جالوت؛ له دلالته. # وعندما انتصر الإسرائيليون على الفلسطينيين أخذ الكاهن النبي «صموئيل حجرا، ونصبه بين المصفاة والسن، ودعا اسمه حجر المعونة». # 30 # وحين عاهد يشوع القبائل العبرية عامة - قبل وفاته - بألا يعبدوا الآلهة الغريبة عنهم، نصب لهم حجرا، قائلا: «إن هذا الحجر يكون شاهدا علينا؛ لأنه قد سمع كل كلام الرب.» # 31 # فلقد كانوا يقدسون مظاهر الطبيعة من حولهم؛ من آبار ماء وحيوانات وكهوف أو مزارات وأماكن مقدسة، لكل منها بعله أو سيده أو حاميه، فيقال: «بعل المكان الفلاني»، «أي إله ذلك المكان» أو حاميه. # وأورد سير جيمس فريزر كثيرا من الشواهد على تقديسهم لمظاهر الطبيعة من حولهم، ومنها تلك الحيوانات والطيور والأشجار التي ترد بكثرة شديدة عندهم؛ مثل حكاية أشجار «يوثام» التي حكاها لهم من فوق أعلى جبل: «اسمعوا يا أهل شكيم، يسمع لكم الله، مرة ذهبت الأشجار لتمسح عليها ملكا، فقالت للزيتونة: املكي علينا. فقالت لها الزيتونة: أأترك دهني الذي به يكرمون بي الله الناس ms061، وأذهب لكي أملك على الأشجار؟ ثم قالت الأشجار للتينة: تعالي أنت واملكي علينا ... فقالت لها التينة: أأترك حلاوتي وثمري الطيب وأذهب لكي أملك على الأشجار؟ فقالت الأشجار للكرمة: تعالي أنت واملكي علينا ... وقالت لها الكرمة: أأترك مسطاري الذي يفرح الله والناس، وأذهب لكي أملك على الأشجار؟ ثم قالت جميع الأشجار للعوسج: تعال أنت واملك علينا ... ~~ فقال العوسج للأشجار: إن كنتم بالحق تمسحونني عليكم ملكا، فتعالوا واحتموا تحت ظلي، وإلا فتخرج نار من العوسج وتأكل أرز لبنان.» # وتكشف الكيفية التي اختار بها جدعون - في المرحلة الطوطمية لشيوخ القبائل - رجاله لقتال الميدانيين «سكان سيناء» الذين استعمروهم، عن كيف أن هذه القبائل كانت مغرقة في الطوطمية. # وقال الرب لجدعون: كل من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب فأوقفه وحده. «وهكذا فرز جدعون هؤلاء - الكلبيين - وأخذهم وقاتل بهم الميديانيين «العرب» وأمسكوا أميري الميدانيين غرابا وذئبا، وقتلوا غرابا على صخرة غراب، وأما ذئب فقتلوه في معصرة ذئب.» # وكانت النخلة شجرة الميلاد المقدسة عندهم كما كانت عند أغلب الشعوب السامية، مثل نخلة نجران عند عرب الجنوب، ونخلة تدمر أو تمر عند القحطانيين. وكانت النخلة هي الشجرة المقدسة عند الكاهنة دبورة أقدم شاعرة عبرية، «ودبورة امرأة نبية، وهي جالسة تحت نخلة دبورة بين الرامة وبيت إيل.» # ومثلهم مثل بقية القبائل والشعوب السامية البدائية، أكثروا من الإغراق في المعتقدات الغيبية، مثل السحر والتنجيم، والإيمان بالحظ أو الميسر مثل الجاهليين، فكانوا يحتكمون إلى القرعة في أغلب ما يخصهم من أمور مثل الحرب والإغارة، فبعد أن شاخ يشوع وتقدم في الأيام جمعهم وقال محذرا من الاستغراق في الخرافات، ذلك رغم أن موسى كان قد حذرهم في وصاياه من العيافة والعرافة واستثارة الموتى، وغير هذا: «لا يوجد فيك من يجيز ابنه أو ابنته في النار، ولا من يعرف عرافة ولا عائفا ولا متفائلا ولا ساحرا ولا من يرقى رقية، ولا من يسأل جانا أو توابعه، ولا من يستثير الموتى.» # ويبدو أن معتقداتهم عن التشاؤم والتفاؤل والعرافة والعيافة، قد انتقلت إليهم ms062 من جيرانهم الفينيقيين؛ إذ إن هذه المعتقدات كانت جزءا حيويا من كيان المعبد الفينيقي، حيث خصصت الحجرات السفلي من هذا المعبد لممارسة هذه الطقوس الخرافية، بنفس ما كان متبعا بالنسبة للمعبد البابلي. # وطبعا لا حد لإهالة التراب والرماد والطين وتمزيق الثياب والندب حول طوطم الآباء؛ «فمزق يشوع ثيابه وسقط على وجهه إلى الأرض أمام تابوت الرب إلى المساء هو وشيوخ إسرائيل، ووضعوا ترابا على رءوسهم.» # 32 # فما من أمر لم يحتكموا فيه إلى القرعة قبل تعيين الكهنة والخزنة والقضاة والحروب واختيار رؤساء الجيوش والغزو وجهاته، وهكذا ... # وكان يشوع عاتيا في إرسائه لتشريعاتهم المغرقة في القبلية، مثل رجم السارق، وإبادة بيته، بل وعشيرته؛ من ذلك أن أحدهم ويدعى عخان اعترف له بإخفائه بعض الأسلاب عقب إحدى الغزوات، فكان أن «أخذ يشوع عخان بن زارح والفضة والرداء أو لسان الذهب وبنيه وبناته وبقره وحميره وغنمه وخيمته، وكل ما له، وجميع إسرائيل معه، فرجمهم جميع إسرائيل بالحجارة، وأحرقهم بالنار، وأقاموا فوق رجمهم حجارة عظيمة إلى هذا اليوم». # فكانت خطايا الآباء تحل بالأبناء، ويقع وزرها على رءوسهم، ويرد هذا صراحة في وصاياهم: «وقد أخبرته بأن أقضي على بيته إلى الأبد، من أجل الشر الذي يعلم أن بنيه قد أوجبوا اللعنة على أنفسهم.» فلعنة نوح لابنه حام وقعت مباشرة على رأس كنعان بن حام، وهكذا. # وكانوا يرجمون الابن الذي يعصي والديه؛ بحسب وصايا موسى لهم في سيناء. # كما كانوا يشهرون دم العروس «أخذ وشها»، وإذا لم تكن للبنت العروس عذرية «يرجمها رجال مدينتها بالحجارة حتى تموت؛ لأنها عملت قباحة». # باختصار هو تراث طوطمي قبائلي، لا يختلف كثيرا عن تراث العرب البائدة، وورثتهم الجاهليين. # ومن هنا، فمن العبث دراسة هذه المنطقة - قلب العالم القديم - بمعزل عن هذا التراث العبري السامي. # وبنفس هذا المنهج يتلقانا العالم المتحضر، على اعتبار أننا منطقة متوحدة التراث. # الفصل الخامس # | عبدة القمر # ويتبنى العرب العدنانيون أي المنحدرون من نسل إسماعيل بن إبراهيم الخليل، فكرة أو رواية، مؤداها أن عرب الجزيرة العربية كانوا حنفاء ms063؛ بمعنى أنهم كانوا على دين إبراهيم الخليل، موحدين لا يعبدون الأصنام والأوثان، فمن «كان على دين إبراهيم فهو حنيف. فلقد كانوا يختتنون ويحجون البيت ويغتسلون، ويتجنبون الأوثان ... إلخ». # ويرى بعض الباحثين أن لفظة «حنيف» أو «حنف» من أصل آرامي، وعنهم أخذها اليهود العبريون والسريان والعرب، وخاصة سكان اليمن. ويقال إنه كان من الموحدين الحنفاء: قس بن ساعدة الإيادي، والشاعر الجاهلي العظيم أمية بن أبي الصلت، وأرباب بن رئاب، ووكيع بن سلمة بن زهير الإيادي، والشاعر زهير بن أبي سلمى، وخالد بن سنان العبسي، وسيف بن ذي يزن، وورقة بن نوفل القرشي، وغيرهم، وهو ما أورده القرآن في سورة آل عمران آية 67 وما بعدها. وكان هشام وابنه محمد الكلبي على رأس المروجين لهذه النظرية التي شغلت عددا كبيرا جدا من المستشرقين وعلماء السامية المحدثين. # وينسب ابن الكلبي لشخصية ملك أو حاكم خرافي، هو عمرو بن لحي الجرهمي، أنه أول من جلب الأصنام ونصبها حول الكعبة؛ «فكان أول من غير دين إبراهيم، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة.» # ويبدو أن عمرو بن لحي الجرهمي هذا كان منتسبا إلى واحدة من القبائل العربية البائدة أو المندثرة، وهي قبائل جرهم، فأمه «يقال لها قمعة بنت معاف الجرهمي». # وتنسب المصادر الميثولوجية العربية المتمثلة في الرواة العرب لقبائل جرهم المندثرة مثلها مثل قبائل عاد وثمود وطسم وجديس؛ أنهم - أي جرهم - كانوا أخوالا للعرب العدنانيين، وأن إسماعيل بن إبراهيم تزوج منهم بعد أن كبر حين تركه أبوه إبراهيم «بواد غير ذي زرع»، فآنس الله وحشته وأمه هاجر، بقبائل جرهم والعماليق. يقول عبيد بن شريه الجرهمي: «فكنا نحن جرهم أصل البلد الحرام، فنشأ إسماعيل فينا، وتكلم العربية، وتزوج منا، فجميع ولد إسماعيل من بنت معاف بن عمرو الجرهمي، فإسماعيل وأبوه منا، وأنتم يا قريش منا، والعرب منا.» # ويقول الهمداني عن رواية لوهب بن منبه إنه «لما أخذ جرهم التابوت - أي تابوت عهد الرب - وبه جثمان آدم، وهم قبائل عدنان ومن معهم من العرب العماليق، طسم وجديس؛ أنهم واروه ودفنوه في ms064 مزبلة، فنهاهم عن ذلك الحارس بن معاف الجرهمي ، والنبي إسماعيل بن الهمبسع بن ثابت بن فيدار بن إسماعيل بن إبراهيم، فلم ينتهوا، فأهلك الله الفريقين جرهم وعدنان، والذين هلكوا مائتا ألف ونيف، أرسل الله عليهم الرعاف، فحزن الحارس بن معاف على قومه لما هلكوا، وسار على وجهه يسيح في الأرض ثلاثمائة سنة، حتى ألم به الكبر والهرم والعمى»، وهو القائل هذه الأشعار المكتوبة في مقام إبراهيم: # وكنا ولاة البيت من بعد ثابت # نطوف بذاك البيت والعز ظاهر # وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة # كذلك عصتنا السنون الغوابر # فسحت دموع العين تجري لبلدة # بها الأمن أمن الله فيها المشاعر # فيبدو أن ثمة صراعا قد نشب بين القبائل العربية البائدة والباقية، أو بين قبائل جرهم وقبائل إسماعيل أو الهاجريين - وبقاياهم إلى اليوم بالسعودية - بنفس ما حدث مع عرب الجنوب القحطانيين، وأسلافهم من العرب البائدة عاد وثمود وطسم، وما حدث مع الكنعانيين والعبريين والعمالقة أو العماليق في ربوع الشام وفلسطين، بمعنى حلول أحقاب تاريخية أو حضارية بحسب تفسير هذا التاريخ الأسطوري التخميني. # ويبدو أن هذا النزاع بين القبائل البائدة والباقية، الذي قد يكون - على سبيل التخمين - نزاعا ذا طابع حضاري مغرق في القدم، وأنه كان متبوعا بانقلاب أبوي، أي نقل السلطة من الأم إلى الأب، أي من ساره وهاجر إلى إبراهيم وإسماعيل، أو من «بنت مضاض بن عمرو الجرهمي إلى إسماعيل وابنه قيدار وثابت ... إلخ» وهذا ما دعا عبيد بن شريه الجرهمي إلى القول بأن «جميع ولد إسماعيل من بنت مضاض الجرهمي، وأيضا إسماعيل وأبوه إبراهيم وقريش والعرب من جرهم» نسبة إلى الإلهة الأم القبلية. # بل إن الصراع على التابوت - تابوت العهد الذي أخذته قبائل جرهم كما يقول وهب - يشير أكثر إلى طبيعة ذلك الصراع، ومعناه أن هذه القبائل السلفية كانت من عبدة جثمان آدم؛ فيقال إن الجثمان كان مخبوءا في كهف ماكبيلا، وأن قبيلة كالب عبدته، ويقال إن قبائل كالب «العربية والعبرية» كانت تعبد جثمان آدم. # وكالب اسم لقبائل عربية وعبرية وكنعانية، ومن أسمائها ms065 ابن كلب بن وبره، و«بني كلب» بن «ربيعة بن صعصعة»، و«الكلبيين» و«كليب» ... إلخ كما يقال بأن الأشياء التي كانت قد سرقتها راشيل - أم النبي يوسف - الإلهة القمرية الأم لقبيلة يعقوب «ولابان بن ناحور» بعد زواجها من يعقوب، كان من بينها رأس آدم، وراشيل - أو الكاهنة الحمامة - هي الإلهة الأم التي من اسمها جاءت إسرائيل. # وكانت قبائل كالب عشائر أدومية، ومنها جاءت تسمية آدم بمعنى الرجل الأحمر، وتوجد إشارات في التلمود إلى أن رأس العيص بن إسحاق أبو الأدوميين، كانت بدورها مجالا لصراع متواصل، ويقال إن يوسف الصديق تمكن من انتزاع رأس عيسو أو العيص ودفنها في عبرون. # ويرى البعض أن ثمة علاقة بين القبة الحمراء التي كانت تتخذها قبائل قريش وتابعوهم من القبائل المعروفة بالأحامسة أو الحمس أو الأحامس، أو بنو أحمس؛ بمعنى المتحمسين لآلهتهم وللكعبة، وتميزوا بتلك القباب الحمر حتى أطلق عليهم أهل القباب الحمر من الآدم. # 1 # وإذا ما كانت لفظة «الآدم» تعني أديم الأرض، فقد يشير هذا إلى علاقة بين تابوت العهد أو التابوت الذي به جثمان آدم، بالإضافة إلى رأس العيص بن إسحاق «الرجل الأحمر» أبو الأدوميين، مما يؤكد أكثر أن تلك القبائل السالفة البائدة قد أورثت لاحقيهم من العرب الجاهليين عبادة أسلافهم الأول: آدم عند الهاجريين والعبريين، وابنه شيث بن آدم أو أخنوخ أو إدريس عند الصابئة، وإبراهيم عند الحنفاء، وحفيده العيص بن إسحاق عند الأدوميين أشقاء العبريين. # بل إن أحداث الصراعات المتوالية حول ما يعرف في أساطير الشرق الأدنى بعصا شعيب أو يثرون يجعل من تلك العصا رمزا سلفيا مرادفا أو متطابقا مع جثمان آدم ورأس العيص بن إسحاق وقباب الخمس، فيقال عن تلك العصا: «إنها هدية الرب لآدم عقب طرده من جنة عدن، وإنها توارثت من أب لابن، إلى أن وصلت إبراهيم، فأورثها ابنه مدين وأمه قطورة بنت مقطور من العرب العاربة، فأورثها مدين شعيب، الذي أورثها بدوره لموسى عقب زواجه من صفورة ابنة شعيب.» # وفي رواية أخرى يقال إن يوسف ms066 سرقها من شعيب وزرعها في حديقة بيته، إلى أن جاء «الغلام الجعد» موسى فانتزعها. ويقال إنها كانت من آس الجنة، كما يقال بأنها كانت في طول قامة موسى، وأنها هي بعينها ما أصبحت بعد ذلك بقرون بمثابة الصليب الذي صلب عليه المسيح. # فيبدو أن الصراع بين جرهم وعدنان كان في صميمه صراعا بين عبدة جثمان آدم وتابعيهم من الحنفاء الذين حجوا البيت واختتنوا كما أوصاهم إبراهيم (وإذا كان آدم وإبراهيم ما هما إلا وجهان لنفس البطل السالف)، كما يشير روبرت جريفر، # 2 # أدركنا طبيعة ذلك الصراع السلفي الأبوي أو البطريركي، لتلك القبائل التي تتبع الآلهة والتقويم القمريين. # وإذا ما انتقلنا إلى نقطة تالية وهي تبعية القبائل البائدة أو المندثرة من عاد وثمود وطسم وجديس وعملاق وجرهم للآلهة «الأنثى» القمرية - ذات الأطوار الثلاثة - أو الثالوث الذي أصبح أهم رقم مقدس فيما بعد عند الساميين بعامة؛ فكان لقبائل عاد أصنام يعبدونها تسمى صداء وبغاء وصمود: # لنا صنم يقال له صمود # يقابله صداء والبغاء # وتؤكد النصوص الحفرية التي خلفتها هذه القبائل المندثرة ودونت بالخط المسند «أنها لم تتجاوز في عبادتها آلهة ثلاثة هي القمر والزهرة والشمس». # ويدل هذا الثالوث الفلكي في رأي الباحثين في أساطير العرب الجنوبيين على أن القمر كان هو الإله الذكر الأب، والابن هو الزهرة، والأم هي الشمس. # ويلاحظ أن هذا التعريف النوعي ما يزال محفوظا في اللغة العربية؛ «فالقمر مذكر بينما الشمس مؤنثة.» # أما الزهرة فكانت تسمى «عثتر» أي عشترت أو عشتار أو عشار بالمعنى الواسع للإخصاب من أرض وإنسان وحيوان. # ويفسر الأنثروبولوجيون الأطوار الأربعة التي طرأت على تلك القبائل خلال تحولها من الأمومية إلى الأبوية؛ ففي أغلب المجتمعات البدائية عبد القمر كأسمى آلهة ثلاثية أطلقوا عليها اسم «نجم» وعند الساميين «هلال»، ولعبت كاهنة الآلهة نجم دورا في قيادة الهاجريين والانتقال بهم إلى طور جديد، فأصبحت القاضي والكاهنة والملكة أو الأميرة الأم، وأقيم لها مزار، كما أنها اتخذت لنفسها حيوانا أو نباتا طوطميا كان يحمى بالتابو أو «المحرم». # ويلقي هذا ms067 بعض الضوء على التكونات أو الاتحادات القبلية العشائرية «القديمة»، وهي تواصل تكوناتها وتشكيلاتها، بحيث رفعت وعممت الشعيرة - أو الشعار - التي سادت أقوى قبيلة لتصبح شعارا عاما لآلهة الولاية أو مجموع البطون والعشائر. # وتمثل الانتقال الثاني في ظهور الإله الأب - الذكر - أو المذكر الذي تبنى أيام الأسبوع السبعة عند السومريين - اللاساميين - وكأسطورة شبه متفق عليها عند أغلب المجتمعات البدائية، فقد تزوجت الإلهة الأم - نجم أو هلال من مخلوق وهمي أو سماوي - ومن هنا أصبحت كل شعيرة قبيلة مرتبطة بواحدة من القوى السبعة للكواكب السبعة السيارة، وقدم لطوطم الإلهة القمرية - نجم أو هلال - زواج مقدس سنوي، يقتل فيه الكهنة التجسيد البشري للإله الذي هو الملك زوج الإلهة القمرية الأم، يقتله الكهنة في نهاية كل عام. # ولقد مرت القبائل اليونانية والإيجية - وأبناء عمومتهم اليبيون - بهذا الطور، كما أن د. ~~ مرجويت مري، تضيف بأن مصريي ما قبل التاريخ مروا بهذا الطور؛ فأراق الكهنة المصريون دم الملك الإلهي الذبيح، ونشروا رماده بالأرض «قبل موعد شقها بالمحاريث» أي مع موعد الحرث. ~~ ويقال إن الرماد المتخلف من حرق جثمان الملك الإلهي كان يوزع على أقاليم مصر بالتساوي. # وكان الحثيون القوة الرئيسية الكبرى الموازية للمصريين على طول الشام وفلسطين، والورثة الموازون للبابليين في مناصفة التراث الحضاري السومري بعامة - بحسب ما يراه أرنولد توينبي. # كان الحثيون ينثرون دم الملك المقتول المضحى به قبل موعد شق الأرض بالمحاريث، مثلهم في هذا مثل جيرانهم المصريين، أما جسد الملك # 3 # فكانت تأكله الجنيات، وهن وصيفات الملكة الإلهة القمرية، وهن مرتديات أقنعة من رءوس الكلاب أو الجياد أو الخنازير. # وتمثل الانتقال الثالث في أن عشيق الإلهة الأم أصبح ملكا، ووقر على اعتبار أنه الهيئة الذكرية للإله الذكر - القمر. # ولقد تبدى هذا خاصة في الإله الفينيقي بعل هامان «الذي كان فينيقيو الشام وفلسطين يضحون له بقتل طفل سنويا كبديل لقتل الملك الإلهي، وظلت عبادته سارية في الشام وفلسطين إلى ما بعد القرن الرابع الميلادي. وعرفت هذه الملة أو النحلة ب «الأوردجيين أو النشابة».» # 4 # وجاء الانتقال ms068 الرابع متبديا في تضخيم قوة الملك واكتساب هذه القوة من الملوك المحليين الذين يعبدون القمر، فلقد اعتبر هذا الملك الأب نفسه ممثلا أو متقمصا لإله القمر، واتخذ من نفسه ملكا شمسيا في اللاهوت المصري القديم، وواصل زواجه السنوي المقدس محررا نفسه أكثر من الاعتماد على القمر. # بل إن الملك سلب الملكة أو الإلهة القمرية سلطتها، «فكان يرتدي ملابس نسائية ويضع أثداء صناعية ممثلا الملكة.» # وفي هذه المرحلة حل الزواج الأبوي بدلا من الزواج الأموي، وتسمى الناس بأسماء آبائهم بدلا من أمهاتهم، ووحدت القبائل ببطل ذكر سالف ليقدس، وهو ما حدث مع معظم شعوب العالم القديم، ومنه يونانيو ما قبل التاريخ، والبلاسجيون، والليبيون، وغيرهم، وحل بالتالي التقويم الشمسي بدلا من القمري، وأصبحت السنة 365 يوما بدلا من 360 يوما. # ولقد كشفت نصوص المسند عن أن القبائل العربية أو المتعربة البائدة، وهي قبائل عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم والعماليق والصفوة ... إلخ كانت تتبع الإلهة القمرية والانتساب الأموي، على أي الأحوال فإن دراسة التراث العربي أو تراث القبائل العربية الجاهلية بمعزل عن دراسة أسلافهم من هذه القبائل المندثرة؛ أمر غير مجد وغير علمي خاصة إذا ما عرفنا أن تراث المندثرين قد تواتر كالعادة، فتوارثه الأحفاد من العرب العاربة، أي ما تعارف على تسميتهم بالجاهليين كما حلا لهم أن يتسموا ويتميزوا، فمثلا ظلت تقويمات المتعربة الأول أو البائدة سارية لدى الأحفاد حتى إلى ما بعد الإسلام، بل وإلى اليوم. # فظلت أسماء شهور قبائل ثمود يجري استعمالها في جنوب الجزيرة العربية حتى وقت لاحق للإسلام، هذا رغم أن نصوص المسند كشفت عن أن التغيير الوحيد الذي طرأ على تقويمات وأسماء الشهور العربية أو الهجرية لم يقع إلا في عام 115 قبل الميلاد؛ إذ بدأ ظهور أول تقويم ثابت تعاملوا به حتى قبيل ظهور الإسلام. # من أسماء الأشهر التي ظلت سارية منذ العرب البائدة حتى وقت ظهور الإسلام، وهي فترة تصل إلى أكثر من ألفي عام؛ شهور: ذي حجتن أي «ذي الحجة» ومعناه: شهر الحج، وذو تمنع، وذو أثرات ms069، ومؤتمر، وربى، وعادل، وناطل، وورنة، وموجب، ومورد، وهوبل أو دابر، وذي مر، وهو شهر رمضان أول شهور السنة عند المتعربة أو العاربة المندثرين، أما شهر موجب فهو ما سمي شهر محرم، ومورد هو شهر صفر. # أما الشهور التي ثبت استعمالها قبل الإسلام وبعده، فهي: المحرم، وصفر، وربيع الأول، وربيع الثاني، وجمادى الأولى، وجمادى الآخر، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة. ~~ ويقال إن أسماء هذه الشهور جاءت مستمدة من أحداث أو شعائر أو انتقالات حضارية رئي تمجيدها وحفظها. # كما ينسب لكلاب بن وبرة أنه أول من سماها، وكان منها الأشهر الأربعة الحرم أو المحرمات التي اتفق عليها لتحريم الغزو والحروب والقتال والمنازعات بعامة، لهذه القبائل المتطاحنة لدرجة الإبادة. # وكان أهم اكتشاف أوضحته نصوص المسند بالنسبة للاهوت وتقويم الجزيرة العربية بقسميها الشمالي العدناني - الرعوي - والجنوبي القحطاني - الزراعي؛ هو أنه بينما كانت القبائل الحجازية أو العدنانية تتبع الإله والتقويم القمريين، كان القحطانيون سكان اليمن يعبدون الشمس ويتعاملون بتقويمها، بأيامها، وأسابيعها، وأشهرها. # أي إن الانتقال الحضاري الذي تمثل في ظهور الملك الأب الذكر جاء عند اليمنيين بشكل أسبق من سكان الحجاز البدويين الرعويين، ربما بأكثر من ألف عام. # ومن أسماء القمر عند العرب البائدة «سين»، وهو نفس اسمه عند السومريين اللاساميين، ويعتقد البعض أن البائدة أخذوه عنهم، و«شهر» كان من أكثر أسمائه شيوعا، خاصة في الحبشة، فكلمة شهر، هي أحد أسماء الإله القمري. # في العربية ما يشير إلى أنها كانت اسما للإلهة القمرية بعد انتقالها إلى الطور الثاني، أي طور الإله الأب الذكر. # ويرى البعض أن لفظة «قمر» كانت الاسم المتأخر الذي أخفى به الساميون اسم «رب الأرباب»؛ أي بعد أن تحولت الإلهة القمرية الأنثى إلى إله ذكر أب بظهور الملك الإلهي الذي وقر على اعتبار أنه الهيئة الذكرية للقمر، فخوطب من أتباعه ومن عبدته «ود أب» أو «أب ود»، كذلك فقد أصبح من ألقابه «عم» وهو ما يشير أكثر إلى الانتساب الأبوي. # فالإله «ود» أو «ود شهر» معناه «ود القمر ms070»، ويرى البعض أن لفظة قمر «هي تسمية متأخرة أطلقها الساميون من أبناء الجيل الثاني لإخفاء الاسم الحقيقي لرب الأرباب». # كذلك فقد تسمت بإله القمر قبائل كهلان باليمن؛ إذ إن من ألقاب إله القمر في نصوص العرب البائدة في اليمن اسم «كهل»، كما أنه عرف بهذا الاسم «كهل» في النصوص أو النقوش التي خلفتها وتركتها القبائل البائدة للعرب الشماليين في الحجاز ونجد أو السعودية اليوم. # كما كان من ألقابه عند هؤلاء البائدة «صدق وصديق وحكم وحكيم وعلم وعليم ورحمن ورحيم ونهى ومحرم»، والاسم «محرم» وجد بكثرة في النصوص الحبشية. # وكان الاسم «ود» من أسماء الأصنام التي أوردها القرآن، # 5 # كذلك ورد في شعر النابغة الذبياني: # حياك ود وإني لا يحل له # لهو النساء وإن الدين قد عزما # كما تسمى باسم «ود» العرب الجاهليون - عبد ود - وعبدته قريش وكانت توعده إذا. وفي إحدى الروايات التي تنسب للاهوتي العربي ابن الكلبي أن والد مالك بن حارثة كان يعطيه اللبن ويكلفه بالذهاب إلى الصنم «ود» ليسقيه ويستغفره، فكان مالك يشرب اللبن سرا ويبخل به على الصنم أو الإله القمري «ود». # ووجد في النصوص المعينية والسبئية والثمودية مثل: «أموت على دين ود»، و«يا إلهي ود»، و«يا إلهي ود احفظ لي ديني وأيده». # وذهب البعض استنادا إلى لفظة «ود» العربية التي ما تزال متواترة بمعنى المودة أو التودد؛ إلى أن هذا المعبود الذي هو القمر يعني الود أو التحية، كما وردت صراحة في أشعار النابغة الذبياني «حياك ود». # فالإله القمر «ود» هو أيضا الإله «المقة»، ومن هذا الاسم جاءت تسمية مكة، كما أنه عرف وبالتحديد في ممالك سبأ، وكذلك عرف بنفس اسمه السومري في الألف الرابعة ق.م «سين» عند الحضرموتيين، كما أنه عرف باسم أو لقب «عم» عند القتبانيين أو العمونيين، ومن اسمه جاءت تسمية العاصمة الأردنية عمان. # وكان هذا الإله القمري «سين» ابن الإلهة عشترت في كتابات المسند الحضرموتية. # كما كني عن الإله القمري «المقة» بثور في اليمن؛ أي الإله «ثور»، وكان هذا ms071 هو اسمه في كتابات المسند، كما أن من ألقابه «ثور» بالإضافة إلى أن الثور كان حيوانه المقدس، ووجدت صور رأس الثور في الجزيرة العربية بكثرة شديدة، فكانت الثيران من أكثر الحيوانات التي يضحى بها لإله القمر «المقة»، كما أن قبائل وعشائر بأسرها تسمت باسم «ثور». # كذلك كان من اسم إله القمر اسم «الساهور» أو «السلطيط» أو «التغرور»، فلقد عرفه بهذه الأسماء عرب الجاهلية، ووحد مع الله تحت نفس هذه الأسماء في شعر أمية بن أبي الصلت. # ومما يضاعف تأكيدنا في أن ثمة انقلابا حضاريا أو اجتماعيا من مرحلة الأمومة إلى مرحلة الأبوية أو البطركية، قد يقف فاصلا متمما لنزاعي القبائل البائدة أو العاربة وخلفائهم من العرب العاربة أو العرب الجاهليين، ويتمثل هذا الانقلاب الحضاري في أن النصوص التي خلفتها القبائل المندثرة، والتي ترجع إلى منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد، جاءت فأكدت أن أهم وأعظم الآلهة السامية مثل إيل وبعل، وأدون أي أدونيس، وملك إله ثمود، وملك الإلهة المومس عند العمونيين؛ كانت تطلق عليهم بصفتهم إلهات إناثا، وأصبحت بعد ذلك تطلق عليهم كآلهة ذكور لدى كل الشعوب والقبائل السامية في آسيا الغربية بل وآسيا الصغرى كما هو معروف. # ومن المهم معرفة أنه بالقدر الذي حفظت به نصوص المسند لعرب اليمن البائدة الذين توارثهم القحطانيون، وهم قبائل عاد وطسم وجديس ورائش، كذلك فقد حفظت النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية؛ آلهة ومعتقدات قبائل الشمال المندثرة (الصفويين). # ومما جاءت به النصوص الثمودية - في نجد والحجاز - تركيزها على أعظم الآلهة الساميين بعامة وهو الإله إيل، مثل «يعذر إيل - صنم إيل - عزرائيل - سعد إيل - ود إيل». # وكذلك أسماء آلهة الخصب «عشتر» إلى جانب الآلهة «تيم» و«يغوث» و«هدد» أو الإله الفينيقي «حداد» إله المطر، وشمس، وعزيز، والآلهة «منى» أو مناة، وكهل، واللات، و«جد» أي السعد، وكذلك الإله «رضى» الذي يقول عنه العالم العراقي الكبير الدكتور جواد حسني إنه هو ما أورده الميثولوجيون أو الأخباريون العرب باسم «رضى» أو رضاء، وإنه كان في منزلة عشترت عند ms072 العرب المتأخرين الجنوبيين. وأيضا وجدت أسماء ملوك الرها المندثرين، الذين تسموا بأسماء الآلهة مثل أبجر ومعن، بمعنى النعيم أو ال «منعم» وعزيز وعبد الملك و«ملك» الذي كان في منشئه اسما للإله ثم أصبح لقبا سياسيا فيما بعد كما هو واضح. # كذلك جاءت الكشوف اللحيانية والصفوية بأسماء الآلهة والإلهات التي عرفها العرب الجاهليون فيما بعد، مثل «اللات - العزى - مناة - عوض - ديدان - بعل سمين - احرام أو التحريم - جد - صالح - ذو الشرى - رضى - رحيم - سمع - نصر - نسر - مناف - ديان»، وهكذا. # وكانت الفرس أو المهرة من أقدم الحيوانات المقدسة للشمس عند هؤلاء البائدة من قدامى الساميين، وهو ما تردد طويلا في الشعر العربي، من جاهلي ومعاصر. # كما أن للأنباط سكان البتراء آلهة مثل: «ذو الشرى، واللات - وكانت إلهة مؤنثة لجميع الآلهة - ومنتوا أو مناة، وهبل، وشيع القوم، أو حامي القوم»، وهو إله القوافل والسواقين فيما بعد إلى اليوم. # وكانت آلهة ممالك تدمر في اليمن هي الإلهة بل أو بعل أو الناقة، وإله القوافل «شيع القوم، وشمس، واللات، وإيل»، كما كان من ألقاب وصفات أو نعوت هذه الآلهة التي حفظتها نصوص المسند «رب العالم» و«الله المحسن» و«رب العالمين» و«الرحمن» و«المتجبر» ... إلخ. # ويلاحظ عند مقارنة نصوص المسند التي خلفتها القبائل العربية البائدة بقسميها اليمني والحجازي أو الجنوبي والشمالي، مع ما تناقله الرواة والمثولوجيون والأخباريون العرب؛ أنه لم يكن هناك اختلاف كبير طبعا بين التراثين المدون والشفاهي، ومعنى هذا أن القبائل المندثرة أورثت لاحقتها من العرب العاربة أو عرب الجاهلية الأولى تراثها فأفاضت الأخيرة اللاحقة عليه. # كما يلاحظ أن الاختلافات ليست كبيرة بين تراث المندثرين وتراث السومريين فيما بين النهرين عن طريق وساطة البابليين والحثيين، كما يقول أرنولد توينبي وغيره. # كذلك يمكن ملاحظة أن تطور القسم الجنوبي اليمني القحطاني، عن شقيقه العدناني والحجازي في نجد كان أسبق وأنضج؛ إذ إن اليمن واصلت انتقالاتها من عبادة الإلهة الأنثى القمرية إلى الانقلاب - الشمس الذي تسمى به ملوكهم مثل عبد شمس بن يشجب بن سبأ ms073. # أما الملاحظة العامة أو المجملة فتتركز حول عبادة تلك القبائل المبكرة التي ترجع إلى ما قبل الألف الثالثة قبل الميلاد، للآلهة الفلكية أو السماوية، مثلها هذا مثل بقية الأقوام السامية الزراعية في مصر والعراق والشام وفلسطين. # كما يلاحظ بشكل أخير أن معظم هذا التراث ما يزال يواصل نموه وسريانه في تراثنا المعاصر أو في مجمل حياتنا اليومية، الآن وفي هذا المكان. # الفصل السادس # | الغيب والقدر والدهر في هذا التراث # يستوقف المتصدي لدراسة التراث الفولكلوري العربي المعاصر أول ما يستوقف؛ ذلك المدى الهائل المتمثل في الإغراق في القدرية، والقسمة والنصيب، وأفعال الزمان ومكائده، وهي القدرية التي قد لا يبرأ منها نص أو فكرة شفاهية، خاصة في تراثنا الفولكلوري المصري والعربي بعامة. # ولقد وصل الأمر إلى حد أن القدرية والدهرية أصبحت ملمحا مميزا لتراثنا الفولكلوري؛ أي إنه ما من جزئية أو «فكرة أو موتيفة» تصادف باحثا فولكلوريا في أية منطقة من العالم عن القدر والقدرية، إلا ويمكن له إرجاعها إلى موطنها الأصلي الأم، وهو التراث السامي بعامة، والعربي بشكل أخص، والإسلامي بشكل أكثر دقة. # ولقد سبق لموضوع القدر أن احتل منزلة واسعة من الجدل والبحث، خاصة عندما يعرف بعلماء «الكلام» من العرب المسلمين فيما بعد، خاصة المعتزلة وغيرهم، أو ما تفرع عنهم من الشيع مثل الجبرية، والصابئة، والمختلطة، والقدرية، والمرجئة، والوعدية - نسبة إلى الوعد أو القدر والمكتوب - وكذلك الشيعة والخوارج. # وكان المعتزلة يلقبون بالقدرية، وبشكل مجمل فقد كان القاسم المشترك الأعظم عند تلك الفرق وغيرها هو القدر، فقالوا إن «لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر، خيره وشره.» # ولقد تعاظم دور هذه الشيع والفرق، حتى إن النبي # صلى الله عليه وسلم # قال عنهم: «القدرية مجوس هذه الأمة.» # والقدرية والدهرية والوعيدية والمنايا أفكار مترادفة وردت بكثرة شديدة جدا سواء في الشعر المنتسب إلى القبائل العربية البائدة أو عند لاحقيهم من العرب الجاهليين ثم الإسلام، وكذلك ترد بكثرة شديدة في الآلاف المؤلفة، بل الملايين من المواويل والشعر الشفاهي الشعبي المعروف بالمواويل الحمراء، أي تلك ms074 التي تتصل موضوعاتها بأفعال ونكائد الدهر والزمن وتقلبات الدنيا والأيام وإمساكها بالمصير الإنساني ... إلخ. # ولقد عرفت شعوب غرب آسيا الأبدية التي أطلق عليها العرب الجاهليون مرادف الدهرية، والدهر، والمنايا، والحتف، والآجال، والحمام، والمنون، والقضاء والقدر، والمقدر، والزمان، والأيام، والليالي، والخطوب. # ولقد وحد الساميون الأوائل من القبائل العربية البائدة بين القدر أو الدهر أو المنايا وبين الله، وكذلك تسمت آلهتهم باسم «منى» ومناة، وهي الأخت الثالثة من بنات الله الثلاث كما كانت معروفة بهذه الصفة والاسم منذ البابليين الأوائل (2800ق.م) وعنهم أخذتها بقية الشعوب والقبائل السامية، خاصة العرب الجاهليين فيما بعد. # وتؤدي لفظة «مناة» معنى القدر، ومنها «الماني» بمعنى القادر، نسبة إلى ابن ماني، الذي قتله الملك «بهرام» ملك الفرس وقال له: «أنت الذي تقول بتحريم النكاح، يستعجل فناء العالم»، ومنها جاءت تسمية المذاهب «المنانية» أو «الماناوية» نسبة إلى «ماني» وكان راهبا بحران وأحدث «دين المنانية». والمنية تعني الموت، أو أن الموت مقدر محسوب. ويبدو أن لفظة «منية» كلمة سامية مشتركة، وردت في أغلب لهجات الشعوب والقبائل السامية، ويرى البعض أنها مرتبطة بالإلهة البابلية «مامانتو» وعنهم أخذها الكنعانيون ولقبوها «منى»، والإلهة الثمودية «منوات» ثم «منات» عند العرب الجاهليين، ومنها «عوض» وهو اسم صنم، وحده الشعراء مع الدهر، و«عوض» كان اسم صنم أو معبود قبيلة بكر بن وائل. # بل إن المستشرق «نولدكه» يرى أن كل هذه المترادفات للقدر والمنون والدهر والموت ما هي إلا أسماء لآلهة دهرية «وليست أسماء أعلام». # ولقد وحد قدامى العرب خاصة القحطانيين سكان اليمن بين الدهر وبين الموت الذي يلتهم الرجال، كما جاء في قصيدة تنسب «لامرئ القيس» بن حجر المقصور بن الحرث آكل المرار الكندي، يذكر ذا القرنين الصعب ذي مرائد الحميري: # ألم يخبرك أن الدهر غول # ختور العهد يلتهم الرجالا # وروت أساطير الحميريين وأفاضت عن بحث ملوكهم عن ماء الحياة الذي يهب الخلود، ومنها مصاحبة الخضر لذي القرنين في رحلة عبورية جابا فيها ربوع الأرض، وعندما وافت «المنية» ذا القرنين دعا الخضر وأنشد: # لما ms075 رأيت من المنون وعيدا # قوضت رحلك سحره تجديدا # هتكت خطوب الدهر عزك هتكة # أمسى حسامك دونها مغمودا # سيموت من تنسى المنية يومه # وتنال بنت الدهر منه بعيدا # ومن أشعارهم التي تنسب لأحد ملوكهم «عبد المسيح بن بقيلة»، الذي وجد على قبره أنه عاش مائة عام وقتل في مبارزة: # حلبت الدهر أشطره حياتي # ونلت من المنى بلغ المزيد # وكافحت الأمور وكافحتني # فلم أخضع لمعضلة كئود # وكدت أنال بالشرف الثريا # ولكن لا سبيل إلى الخلود # 1 # كما أن من الأشعار المنسوبة لابنه «مضاض بن عبد المسيح» في رفضه وزهده عيشة الدنيا: # منزلا قد تحكم الدهر فيه # ليس للنازلين فيه ثبات # 2 # وتكشف قبوريات ومراثي أولئك الملوك الحميريين عن موقف غريب معاد في جوهرة للدهر كمرادف للموت، بل كثيرا ما يسخط من قضية الباطشين التي تذهب بالإنسان وتغيبه، ولكنه كثيرا ما يغرقه التساؤل، فبأي حق يكون دوام الدهر متمثلا في تعاقب الليل والنهار دون الإنسان، وهو في النهاية يستصغر من شأن الدهر وعشوائيته ويصفه بأنه غير جدير بالمعاتبة، أي إن الدهر دون مستوى العتب: # أقول وقد فاضت بعيني عبرة # أرى الدهر يبقى والأخلاء تذهب # أخلاي لو غير الحمام أصابكم # عتبت ولكن ما على الدهر معتب # وفي إحدى أساطيرهم ما يشير إلى أن سام بن نوح أبو كل الأقوام السامية كان جزوعا مرعوبا من الموت كما يقول وهب: «وكان سام جزوعا من الموت، فسأل نوح الله ألا يميته حتى يسأل الموت - أي حتى يطلب سام نفسه الموت - فعاش أربعة آلاف عام، بنى ألفين وعمر ألفين، إلى أن سئم الحياة واعتل، فسأل ربه الموت فمات.» # وعندما سئل سام بعد موته عن الكيفية التي رأى بها الحياة قال: # كبيت من بابين، دخلت من هذا وخرجت من ذاك. # ويورد «الساجستاني» تضمينة مرادفة للفكرة السابقة، نسبها إلى نوح: «فبعد أن عاش نوح 1450 سنة، أتاه ملك الموت وسأله: يا نوح، يا أبا كبير الأنبياء، ويا طويل العمر، ويا مجاب الدعوة؛ كيف رأيت الدنيا؟ قال: كبيت له بابان، دخلت من باب وخرجت ms076 من الآخر.» # ومما تناثر حول خرافات لقمان ونسوره السبعة وتشبثه بالخلود، ينسب لشاعر يدعى «يثم اللات» شعر يقول فيه: # رأيت الفتى ينسى من الدهر حقه # حذار لريب الدهر والدهر آكله # ولو عاش ما عاشت للقمان أنسر # لصرف الليالي بعد ذلك يأكله # ولقد وحد العرب الأوائل في أشعارهم وأقوالهم بين نبيهم أو إلههم الأب «هود الذي كان قد أرسل إلى قبائل عاد البائدة»، وهو الذي سلط على قوم عاد طوفان الرياح وأبادهم من الوجود. # وفي إحدى القصائد الأسطورية التي تنسب إلى امرأة كاهنة تدعى هزيلة، أجابت قومها حين سألوها عما حدث لقوم عاد، فقالت هزيلة: «سأقول شعرا وأرويه الجرادة تسمعكموه»، وقالت: # إن عادا آثرت حقا على الرشد الصدودا # لم تقل في غيها حين عتت قولا سديدا # بل طغت بغيا وقالت لن نطيع الدهر هودا # عابدين من ضلال صنما يدعى الصمودا # وفي هذا الشعر يبدو واضحا توحد النبي - الإله «هود» - بالدهر الذي خلف اسمه على قصور ومعابد وقبائل «دهر»، والذي من اسمه اشتق «جبل ضهر»، فيقال إن «من ضهر خرج سبعة فراعنة حكموا مصر.» # بل إن الاسم الكامل لهود قد يزيد الأمر وضوحا، فهو «هود بن عبد الله بن الخلود بن عاد». # 3 # والغريب أن قائل هذا الشعر - التالي - يتحسر على أن «بنات الدهر» رمينه غيلة فأصبن منه مقتلا، دون أن يكون في مقدوره الرد على مغتاليه، «وكانوا يصفون الدهر بالرامي أي ذلك الذي لا يخطئ الرماية»: # رمتني بنات الدهر من حيث لا أدري # فما بال من رمى وليس برام # فلو أن ما أرمى بنبل رميتها # ولكنما أرمى بغير سهام # وأفنى ولا أفنى من الدهر ليلة # وما يغني ما أفنيت ملك نظامي # كما تصوروا الدهر ساقيا يسقي الإنسان كأس المنايا: # أسلموا للمنون عبد يغوث # وبعض الكهول حولا يراها # بعد ألف سقوا المنية صرفا # فأصابت في ذاك سعد مناها # ووسع العرب الجاهليون في مفهوم وخرافات الدهر فقالوا: «يد الدهر» و«ريب الدهر» و«عدواء الدهر» و«غلواء الدهر.» كما قالوا: # ما هي إلا حياتنا ms077 الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ~~. # 4 # وعلى هذا أنكر هؤلاء الدهريون الخالق والبعث، وإن كانوا قد توسلوا من جانب آخر إلى الدهر والزمن والدنيا، والغريب أنهم كثيرا ما ارتدوا، واندفعوا يسبون ذلك القادر أو المعطي أو «الماني»، فكانوا إذا وقعت بهم الكوارث يسبون الدهر ويلعنونه. # ومن هنا يتضح أن الدهر هو ذلك الإله القادر المهيمن والمتحكم في المصائر والأعمار واستمرار العالم. # وفي الأحاديث النبوية يتوحد الدهر بالله تمام التوحد، وذلك حين نهى النبي بشدة عن لعن الدهر: «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر»، أو «فإن الدهر هو الله.» ومن حديث: «يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وإنما أنا الدهر ... أقلب الليل والنهار.» # 5 # وكان أصحاب الوبر بعامة من عرب وعبريين لا يؤمنون بالبعث والقيامة، وهي تلك الأفكار التي اكتملت مؤخرا في الميثولوجيا السامية، خاصة عند البدو والرعاة، فقالوا: «فإنما حياتنا ظل يمضي ولا مرجع لنا بعد الموت؛ لأنه يختم علينا فلا يعود أحد.» # 6 # وقال البعض إن الدهر اسم من أسماء الله الحسنى، وكذلك فقد تبدت هذه العقائد القدرية عند أغلب فحول الشعراء الجاهليين، مثل أمية بن أبي الصلت، وزهير بن أبي سلمى، ولبيد، وسويد بن عامر المصطلقي، وهو القائل: # لا تأمنن وإن أمسيت من حرم # حتى تلاقي ما يمني لك الماني # فالخير والشر مقرونان في قرن # بكل ذلك يأتيك الجديدان # والشاعر أبو ذؤيب الهذلي، الذي قال: # أمن المنون وريبها تتوجع # والدهر ليس بمعتب من يجزع # ومن تصوراتهم التي أنطقوها الحيوانات والطيور، حول الموت وحلول القضاء، # 7 # ما فسر سليمان به غناء البلبل: «أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء»، والهدهد يقول: «إذا نزل القضاء عمي البصر»، وكل حي ميت، وكل جديد إلى زوال، و«لدوا للموت وابنوا للخراب»، والنسر يقول: «يا ابن آدم، عش ما شئت فإنك ميت.» # ويقول الطبري: # إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب! فجرى في تلك الساعة بما هو كائن. ويقال إن القلم سأل الرب قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب القدر. فجرى القلم في تلك ms078 الساعة بما كان هو كائن إلى الأبد. # 8 # فيقال إن «الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء.» # ولقد درات حول الملك النبي «داود» عديد من الأساطير التي تكشف جزعه من الموت، مثل سلفه «سام بن نوح»، وترد هذه الأساطير والخرافات في صور ومصادر كثيرة ومتنوعة، منها أن آدم سأل الله عن «داود» فقال له الله: هذا ابنك داود. ولما سأل عن عمر داود، قال له الله: ستون سنة. ~~ فقال آدم: رب زد في عمره. فرفض الله قائلا: لا، بل تزيده أنت من عمرك. ولما كان عمر آدم ألف سنة فقد وهب لداود من عمره أربعين عاما، فكتب الله عليه بذلك كتابا، وأشهد عليه الملائكة، لكن عندما حضرت المنية آدم وأشرف على الموت، جعل يخاصمهم في الأربعين سنة التي كان قد وهبها لداود. # وتنفرد إحدى أساطير «الخضر» معللة السبب في أن الخضر حي خالد لا يموت؛ لأنه هو الذي قام بدفن جثمان آدم؛ ولهذا أصبح الخضر أطول بني آدم عمرا، و«الخضر» أو «الرجل الأخضر» هو الذي قال عنه الرب في العهد القديم: «أنت الخضر، وكلما مست قدماك الأرض اخضرت.» # ويقال إنه عندما حضرت الوفاة آدم، جمع بنيه وقال لهم: إن الله منزل على الأرض عذابا، فليكن جسدي معكم بالمغارة، حتى إذا هبطتم، فابعثوا بي وادفنوني بأرض الشام. فكان جسده معهم إلى أن بعث نوحا، وضم الجثمان معه، إلى أن وقع الطوفان الذي أغرق الأرض زمانا، فجاء نوح حتى نزل ببابل وأوصى بنيه الثلاثة، سام ويافث وحام، أن يذهبوا بالجثمان إلى المكان الذي أمرهم أن يدفنوه به، فقالوا: «الأرض وحشة ولا أنيس بها، ولا نهتدي الطريق.» فقال لهم نوح: «إن آدم قد دعا الله أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة.» فلم يزل جسد آدم حتى كان «الخضر» هو الذي تولى دفنه، «وهو يحيا إلى ما شاء الله أن يحيا.» # وتربط الميثولوجيا العربية بين أساطير الخلق والبدء وبين أفكار القدرية والجبرية والدهر ms079 الذي وحده وعبده الساميون بعامة، ثم العرب الجاهليون خاصة ، الذين عبدوا الدهر والقدر والماني أو المنايا في هيئة أصنام، فكان الصنم منايا أو مناة من أقدم المعبودات الجاهلية. # ويذكر هشام الكلبي أن صنم الإلهة مناة كان منصوبا على ساحل البحر، بين مكة والمدينة، # 9 # وكان معبودا لقبائل الأوس والخزرج من أهل يثرب. # ويضيف ابن الكلبي: أن العرب جميعا كانوا يعظمون الإلهة «مناة»، ويذبحون لصنمها الذبائح، كما أنهم تسموا باسمها «عبد مناة، وزيد مناة، وتيم مناة» ... إلخ. # والإلهة «مناة» من منشئها إلهة الموت والقدر عند البابليين العراقيين، وعرفت بنفس اسمها العربي عندهم «مامانتو»، # 10 # وعن البابليين عرفها الكنعانيون، والآراميون، والأنباط، إلى أن وصلت العرب فيما بعد، فعرفوها بنفس الاسم أو ما يقاربه «منى»، وذكرت منى متوحدة مع الإله «جاد» إله قبيلة جاد في العهد القديم. # 11 # ويشير الجمع بين هذين الإلهين، منى وجاد، إلى ارتباط المنايا والأقدار بالتنبؤ ومعرفة المستقبل، الذي ارتبطت المعرفة فيه بالإله «جد» أو «جاد» والذي من اسمه تسمت قبائل جاد العبرية. # كما أن الإله جد أو جاد كان من آلهة القبائل الثمودية المندثرة قبل منى أو مناة، وكهل ... ~~ إلخ. ومن اسم جاد تسمى الإله «بعل جاد» عند اليهود والآراميين والعرب الشماليين في سوريا، وكان يعرف بإله السعد والحظوظ والمستقبل عامة. # ومن هنا يأتي ارتباطه بالآلهة الدهرية والقدرية. # ومن هذه الآلهة الدهرية القدرية إلهة القمر السبئي نسر أو نسور، الذي ورد في نصوص المسند والسبئية باسم «بيت نسور»، بل لقد أطلق على أهل سبأ بعامة «أهل نسور»، ويبدو أنه كان لهم مذهب ديني شبه مميز، نسبة إلى عبادة النسر أو النسور، وسمي معه أيضا أحد رموز السنة السبئية المتأخرة «ذي النسور». # وتشير الأسطورة التي أوردها عبيد بن شريه الجرهمي عن الحكيم لقمان بن عاد صاحب النسور أو «ذي نسور» الذي ارتبط موته بفناء نسوره السبعة، وكانت أسماء هذه النسور على التوالي: المصون، وعرض، وخلف، ومغبغب، واليسر أو الميسرة - أي الحظ - وأنسا - أي لقمان الأنس، وكان سابعها هو النسر لبد، وفسر عبيد ms080 الجرهمي «لبد» بمعنى الدهر، بل إن لقمان نفسه عرف «لبد» بالأبد أو الأبدية. # فحين وافت المنية ذلك النسر السابع «لبد»، وسقط مشرفا على الموت، ولم يطق أن ينهض، وتفسخ ريشه؛ هال ذلك لقمان هولا عظيما. # ووقع موته منه موقعا جسيما، وناداه: انهض «لبد» أنت الأبد. وأنشد لقمان يبكي نفسه: # موتي أني أموت اليوم يا لبد # وحسرتي أن قد تعرم الأبد # فطر كما كنت سالما أبدا # تحيا ونحيا معا ونحتفد # ويلاحظ في الأسماء السبعة التي أطلقها لقمان على نسوره السبعة أنها من الأسماء التي تطلق على الخلفة والذرية، مثل «خلف» و«المصون» و«عوض»، وعوض أيضا اسم للإله الجاهلي - القدري - عوض. # كما يلاحظ أن الإله القمري «نسر» الذي يتوحد بالدهر والزمن، هو ما أصبح رمزا قوميا لدى أغلب الشعوب العربية والسامية عامة. # كذلك فإنه مما يثير الالتفات، تلقيب لقمان لنسره الخامس باسم الميسر، أو الميسرة، وهي كلمة مرادفة للحظ والسعد، ومنها جاء الميسر بمعنى القمار. # ومن المعروف عن المقامرة «أنها نوع من التكهن والاستشارة، أنها جواب الآلهة للسائل»، ولعب الميسر كان في منشئه شعيرة فلكية لاهوتية مثلها في هذا مثل القرعة. # فيقال إنه كان هناك اعتقاد شعبي شائع لدى المصريين القدماء مؤداه أن الأيام الخمسة النسيئة المنتزعة من السنة المصرية القديمة بحسب التقويم الفرعوني السنوي؛ ما هي إلا الأيام الخمسة التي كسبها الإله تحوت أو هرمس، إله الكتابة، حين لاعب الإلهة القمرية الأم «إيزيس» الدومينو أو السيجة، وكسب منها، وكانت هذه الأيام الخمسة بمثابة ميلاد للآلهة المصرية الخمسة: أوزوريس، حورس، ست، إيزيس، نفتيس. فأصبحت بعد ذلك بمثابة أعياد سنوية - خارج الزمن أو الدهر - يجري الاحتفال بها في جزيرة البيت المضيء، التي عرفت باسم فاروس، وهي ما أصبحت مدينة الإسكندرية فيما بعد. # والذي أود توضيحه هو أن ثمة علاقة دينية بين لعب القمار أو الميسر وبين التقويم الفلكي اللاهوتي، منذ فترات مبكرة جدا، عند أغلب الشعوب الآسيوية. # وقد يلقى المسعودي تفسيرا أوضح للعلاقة المبكرة بين الميسر أو لعب القمار أو الزهر - الطاولة ms081 - وبين «اللاهوتي» الفلكي أو الزمن الذي هو الدهر، يقول : «وقد ذكر أن أردشير بن بابك، أول من صنع النرد، ولعب بها، وجعل بيوتها اثني عشر بيتا، بعدد الشهور، وجعل كلابها ثلاثين كلبا، بعدد أيام الشهر، وجعل الفصين مثلا للفوز وتقلبه بأهل الدنيا.» # وكان منوطا بالإله هبل، الذي استقدمه الكاهن عمرو بن لحي الجرهمي، ونصبه في جوف الكعبة؛ ضرب القداح، وما من أمر قام به العربي الجاهلي لم يستشر فيه هبل، فكان في جوف الكعبة، قدامه سبعة أقداح، مكتوب في أولها «صريح» والآخر «ملصق»، فإذا شكوا في مولود أهدوا إليه هدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج «صريح» ألحقوه، وإن خرج «ملصق» دفعوه، فكان لكل مطلب قدح: قدح على الميت، وقدح على النكاح، وقدح للاختصام والسفر والعمل. # ويبدو أن الجاهليين كانوا قد استقدموا صنمه من خارج الجزيرة العربية، ويرجع أنهم جاءوا به من العراق؛ إذ إن تمثاله بحسب وصف ابن الكلبي كان «من عقيق أحمر على صورة إنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش، فجعلت له يد من الذهب»، وكان قربان هذا الإله مائة بعير. # ويبدو أن العرب الجاهليين قد أحلوا لشعائر الحظ والميسر والبخت أن تتحكم وتشرع في معظم حياتهم وأفعالهم، وهو ما نهى عنه الإسلام بعد ذلك، مثل ما كان يعرف عندهم بالبحيرة والسائبة والوصيلة والميسر والحام والاستقسام بالأزلام، وكانت تشريعاتهم التي أخذ بها أصحاب الوبر غير تلك التي اختصت بأصحاب الحرث أو الزرع؛ فكانت البحيرة والسائبة والوصيلة والحام شعائر متصلة بأصحاب الوبر، كأن يسيب أو يندر للآلهة البهائم أو البشر، فتصبح في حكم المحرمات، منافعها للرجال دون النساء، وهو تعبير ما يزال متواترا حتى الآن، ويطلق على البغايا من النساء، فيقال مثلا: «إن ابنة فلان سايبة»، بمعنى أنها حق مشاع للرجال. # ولجأوا إلى ضرب القداح أو «الاستقسام بالأزلام» في كل صغائر وكبائر حياتهم، مثل الخصومات والحرب وانتساب الأطفال، وكل ما يتصل بعلاقة الرجل بالمرأة. # وأطلقوا على طريقة تقسيم الذبائح اسم الميسر، والبدء، والنصيب، وعلى هذا تحكمت الحظوظ والبخوت، في كل ms082 مصائر الناس. # وكانت تلك الأقداح التي كتبوا عليها «العقل » و«السعد» أو «نعم» و«لا»؛ هي المتحكم الأخير، في الحروب والإغارات وحفر الآبار وتقديم الهبات واختيار الحكام والكهنة وسدنة الكعبة، وهكذا. # وأغلب هذه الشعائر والأفعال والمعتقدات ما تزال محفوظة متداولة في الفولكلور المصري والعربي عامة، منها الحكايات الخرافية التي تدور حول «خروج العقل» و«إحلال السعد» و«ضرب الزهر وانكساره»، ومنها أن شعيرة ضرب الأقداح تحولت إلى إحدى ألعاب الحظ والزهر، يمكن التعرف عليها في الموالد الموسمية الشعبية، في لعبة الكيزان. # وكثيرا ما كان المتعقلون من الشعراء العرب يسبون آلهتهم، ويسخطون على ما تشير به من إتيان الكوارث والخراب، ذلك الذي يخضع بكامله لتلك الحظوظ العشوائية، التي تحكم نواصيها الصدفة، مثلما يتضح من هذه الأبيات التي تنسب لامرئ القيس يسب فيها الصنم الإله ذا الخلصة، وكان قد نهاه عن الحرب طلبا لثأر أبيه القتيل: # لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا # مثلي وكان شيخك المقبورا # لم تنه عن قتل العداة زورا # ولا حد لخصوبة معتقداتهم التي ما تزال تتلمس طريقها خلال حياتنا المعاشية اليوم، مثل «الهامة» التي تخرج من رأس القتيل في شكل طائر هائم مرفرف، يبتغي القصاص، يظل يصرخ ويندب: «اسقوني اسقوني»، إلى أن تراق دماء مغتاليه، فيروى ويسكن. # وتتبدى هذه الفكرة أو التضحية عند اليهود في أحد أسفارهم الممنوعة، وهو سفر الحكمة، ويرى البعض أن مصدرها القبائل العبرية العربية: بني القريظة، وبني النضير، وبني قينقاع. # ومنها ما يتصل بتقاليد الموت المتوارثة، مثل «النعي» العلني، أي أن يركب كل ناع أو معز فرسه، يصرخ بعلو صوته: «أنا فلان الفلاني أنعى الميت فلان»، والرثاءة أو الندابة أو النواحة، وما يتبع مراسم الموت والدفن والمأتم، مثل شق الجيوب، وجنازات النساء، وتعقير التراب، وحلق الشعر، وهي تلك العادات الواسعة الانتشار لدى كل المجتمعات السامية، بل والمصرية القديمة، مثل احتراف الندب، وسبعة أيام للعزاء، واستئجار الندابات، وهو ما كان معروفا لدى المصريين القدماء والعبريين والبابليين. # وكانوا يقولون للميت وهم يوارونه التراب: «لا تبعد»: # يقولون ms083 «لا تبعد» وهم يدفنونني # وأين مكان البعد إلا مكانيا # وكانوا يعظمون أو هم يعبدون موتاهم وأسلافهم، فيحجون إلى القبور، ويحلقون شعرهم عندها، ويذبحون لها، ويعقدون المناحات والإشادة بفضائل الميت، ويسكرون ويسكبون بعض الخمر ليشرب الميت، ومثلهم كان يفعل العبريون؛ «إذ كانوا يخرجون حصة مما يأكلونه لتكون من نصيب الموتى.» # فكان العرب الجاهليون مثلهم مثل العبريين، مفرطين في هذه المعتقدات، ومن هنا جاء دور العراف والعائف والساحر، وراقي الرقى، والتمائم، وسائل الجن والتوابع. # وتتبدى هذه الفكرة أو التضمينة عند اليهود في مرحلة متأخرة، في أحد أسفارهم الممنوعة، فالهامة التي تخرج من رأس الميت عندما انطفأت حياته وعاد الجسم رمادا وانحلت الروح: «كنسيم رقيق، وزالت حياتنا كأثر غمامة اضمحلت مثل ضباب يسوقه شعاع الشمس ويسقط بحرها»؛ فالهامة هنا، مثلها مثل «النسيم الرقيق» أو الغمامة. # 12 # كما أن من معتقداتهم الخرافية الجاهلية التفرس في وجه الموتى من الأسلاف، وتصنيف الجن، وإحلالها بين قرني الثور، وهو ما اتخذته الأرض الأم - بعد ذلك - التي تستقر على أحد قرني الثور الإلهي، كما أنهم أفرطوا في اتخاذ العرافة والقيافة وزجر الطير والأحلام وخطوط الرمل، وسكك الحصى، والتكهن والحدس والتنجيم، وكذلك التنبؤ والفراسة والاستقسام بالأزلام عند الأصنام، وهي في مجملها معتقدات عرفها البابليون والكنعانيون والقبائل العبرية. # فمثلا عرفت القبائل العبرية العيافة بمعنى التنبؤ عن طريق ملاحظة حركات وسكنات الطيور والحيوانات، وسموها «الشاق»، أي شق أجساد الحيوانات والطيور لدراسة أحشائها، واستخلاص النبوءة، كما كان زجر الطيور والحيوانات في العربية يقابله ال «ليحوشيه» في العبرية، ومنها نحش، وحنش، وهو ما يشير إلى العلاقة بين التابوت والثعبان. وكان الكاهن يلقب بالزاجر، والتكهن يقال له «طيرة» في العربية والعبرية، والتطير بمعنى التشاؤم والتفاؤل، وينسب لسليمان وذي القرنين والحكيم لقمان معرفة لغة الطير، وطرق التطير، وإمكانية إحكامه والسيطرة عليه. # وكان للكلدانيين - العراقيين - شهرة لا تبارى في معرفة أساليب التطير، عن طريق قراءة رئة الطيور وأكبادها وأحشائها. # وكانوا يتشاءمون ويتطيرون من المرأة والدار والفرس، وعتبات البيوت ومداخلها، والغراب أو غراب البين، أو الغراب الأسود، وحتى ms084 العطاس والسعال، كانوا يتشاءمون منه. # 13 # ولقد أجمع العرب والعبريون على اعتبار الغربان والبوم من الحيوانات النجسة المشئومة، وسموا البومة ب «أم الصبيان» # 14 ~~(أم الخراب) واعتبروها الهامة التي تخرج من رأس القتيل، تحجل بلا توقف على قبره، في طلب الثأر والدم. # وترد أعظم الأساطير المتصلة بالأحلام عند الساميين في قصص يوسف الصديق، وكيف أن سبب مأساته مرجعها إلى أحلامه، حين «حلم يوسف حلما وأخبر إخوته، فازدادوا أيضا بغضا له، فقال لهم: اسمعوا هذا الحلم الذي حلمت، فها نحن حازمون حزما في الحقل، وإذا حزمتي قامت وانتصبت فأحاطت حزمكم وسجدت لحزمتي. فقال له إخوته: لعلك تملك علينا ملكا أم تتسلط علينا تسلطا.» وكان أن حقدوا عليه واحتالوا ليميتوه، حين أرسله أبوه لهم: «اذهب انظر سلامة إخوتك وسلامة الغنم ورد لي خبرا.» فلما أبصره إخوته قادما احتالوا ليقتلوه: «فقال بعضهم لبعض، هو ذا صاحب الأحلام قادم، فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى الآبار ونقول وحش رديء أكله، فنرى ماذا تكون أحلامه.» # وتتوالى هذه القصة، متجمعة، لتثبت صحة حلم يوسف وتفوقه على إخوته بل وبيت أبيه بعامة، وإنقاذه لهم من القحط والمجاعة. # بل إن دور يوسف في مصر لم يتعد أنه كان موهوبا في تفسير الأحلام، منها حلم خصيي فرعون؛ رئيس السقاة، ورئيس الخبازين، ثم تفسيره حلم فرعون مصر، فكان أن جعله فرعون نائبه: «أنت تكون على بيتي، وعلى فمك يقبل جميع شعبي، إلا أن الكرسي - الذي أكون فيه - أعظم منك.» # كما أن الكلدانيين والعرب العبريين تشاءموا من بعض الثيران ومن الحية والثعلب والأعور والمرأة الطامث، والرأس المستطيلة، مثل الشمامة. # كما قد يتوحد «الهاتف» مع الدهر والقدر والزمن والماني - بمعنى القادر والعاطي - والدنيا ... إلخ ولقد شبه العرب «الهاتف» بمعنى الرائي، وكان العبريون الجاهليون يلقبون النبي بالرائي الذي يهتف للإنسان والكهان بشكل أخص، وهو ما قد يتطابق مع الإيحاء والوحي. # وما يمكن إضافته هو أن صوت الهاتف لا يرد، بمعنى أنه لا خيار - وبالتالي مرد - لذلك الذي يزوره الهاتف ويحط عليه ويتكشف له، فالموعودة أو ms085 البغي التي يجيئها الهاتف ويأمرها بترك بيتها وزوجها، والنزول إلى الوعد والمكتوب، أي أن تصبح سائبة - أو سايبة - مشاعا «للرجال دون النساء»؛ ليس في مقدورها الإفلات من صوت «الهاتف». # وفي «شفيقة» ومتولي بشكل أخص، يزور «الهاتف» شفيقة في قبرها، بعد أن تموت - أو هي تنتحر - ويهتف بها أن تقوم، لتواصل قدرها وتفي ما كتب عليها، قائلا: «اللي عليك ما خلصش.» وكما هو معروف، تقوم شفيقة من قبرها، وتعود بعد قيامها من عالم الموتى إلى معاودة الحياة المخططة المقدورة لها. # فالهاتف هنا هو إله كامل، يحقق قيامة البغي، ولا مرد لقضائه. # فكان يمكن للهاتف الأمر بوأد البنات، كما كان في مقدوره منع وتحريم وأدهن. # وفي إحدى الحكايات التي صاحبت مولد كاهنة قريش الأم «سوداء بنت زهرة بن كلاب»، أنه كان من عادة العرب وأد البنات إذا ما جاءت إلى الوجود ناقصة التكوين، كأن تكون كسيحة أو عوراء أو برصاء أو زرقاء، ولما كانت تلك الكاهنة «سوداء»، قد ولدت على بعض هذه الصفات ورآها أبوها كذلك أمر بوأدها، فأرسلها مع من جهز لها في الخلاء، وهم بدفنها، وأهال التراب عليها، فسمع هاتفا يقول: «لا تئد الصبية، وخلها البرية.» فالتفت الحفار فلم ير شيئا، فعاد ليدفنها، فسمع الهاتف يسجع سجعا كهنوتيا، يمنعه من وأدها، فكان أن عاد بها إلى أبيها، وأخبره بما أشار به الهاتف، فتركها حتى كبرت وأصبحت كاهنة قريش، التي أنيط بها بعد رؤية البنات عقب ولادتهن، وقول رأي أخير فيما يتصل بوأدهن أو العكس. # ويقال إن هذه الكاهنة هي التي منعت وأد آمنة بنت وهب. # كما يقال بأن سوداء بنت كلاب هذه كانت أول من ذكر «جهنم» في العرب. # وليكن واضحا أن مثل هذه الأفكار الميثولوجية عن جهنم والسعير والفردوس أو جنة عدن، باختصار كل ما يتصل بأفكار الموت والقيامة؛ هي أفكار دخيلة، جلبتها هذه الكاهنة العرافة، وغيرها من الشعراء الجاهليين، مثل عمرو بن لحي، وأمية بن أبي الصلت؛ من الشام، فيما بعد القرن الخامس الميلادي. # ويبدو أن مفهوم الساميين ms086 - والعالم القديم عامة - عن الحلم كان هو بعينه الهاتف ، ذلك لا مرد لأمره، فهو الذي كان يدفع بالملوك إلى قتل الأطفال الذكور، مثلما حدث مع نماردة بابل والشام وملوك الفرس وفراعنة مصر لقتل الأطفال، بحسب روايات العرب والعبريين أصحاب الوبر. # ونسب العرب الرؤى أو الأحلام أو الهواتف لأرواح خبيثة شيطانية، وأخرى مصدرها الإلهام الإلهي، وكثيرا ما يأخذ الإلهام شكل متنبئات أو نساء قدريات، مثل كاهنة سبأ طريفة، وسوداء بنت كلاب التي مر ذكرها، ومنهن أربع فتيات، لهن هيئة الإيرانيات في الميثولوجي الهليني، ينشدن نبوءاتهن بطريقة شعرية كهنوتية، ويعرفن في الميثولوجيا العربية ب «صواحبات مصاد بن مذعور القيني». # وعرفت الميثولوجيا الفرعونية «الهاتف» بحسب الرواية التي أوردها هردوت «بشأن الهاتفين اللذين يوجد أحدهما عند اليونانيين، والآخر في ليبيا»، وحكى هردوت عن هذين الهاتفين أو «الوحيين» حكايات تدور أحداثها حول مصر وليبيا وفينيقيا واليونان. وفي إحدى هذه الخرافات يكون الهاتف على شكل كاهنة مقدسة، وفي رواية أخرى يكون على شكل حمامة سوداء، لها صوت آدمي، فيقول هردوت: «طارت حمامتان سوداوان من طيبة التي في مصر، فذهبت إحداهما إلى ليبيا، وجاءت الثانية إلى اليونانيين، وعندما حطت هذه فوق سنديانة، أعلنت - في صوت آدمي - أنه يجب إنشاء هاتف لزيوس هناك، وأدرك القوم أن هذا نبأ جاءهم من إله، وتصديقا له أقاموا الهاتف. ~~ أما الحمامة التي توجهت إلى ليبيا، فتقول العرافات إنها أمرت الليبيين بإقامة وحي «آمون».» # ويبدو أن أماكن التزين بالحلي والاحتفاء عامة بالأشياء، وهو ما يتبدى أكثر عند النساء والأطفال، مثل العنق والأذن والأنف والجبهة والصدر؛ كانت أماكن لشعائر ورقى وأحجبة وتعاويذ ومنفرات؛ اعتقادا فيما يكمن فيها من قوى سحرية خفية، تجلب البخت والسعد، وتطرد النحس والشؤم، فالساميون من العرب عبدوا الأشياء من تمائم وأحجار وشجر ونبات وجبال ووهاد، اعتقادا فيما يكمن ويسكن هذه الأشياء المادية من قوى غيبية، وعلى هذا علقوا الأجنحة اليمنى لطيور بعينها على صدور الأطفال، واعتقدوا في رأس الهدهد وسن القطة والذئب والخنزير، ذات الشكل الهلالي، نسبة إلى «الهلال» أو ms087 الإلهة الأم القمرية. # كما أنهم أكثروا من استعمال هذه الطلاسم والرقى والمعوذات والتعاويذ لدفع الأوبئة، مثل الحمى ولدغ العقارب والحيات، بالإضافة إلى أغراضها الجنسية والعاطفية، ومنها ما كان الغرض منه اتقاء الحسد و«النفاثات في العقد»، وشرور العين، و«النفس» الشريرة. # وهذه المعتقدات في مجملها، أمكن التعرف على منابتها الأولى منذ السومريين اللاساميين - الألف الرابعة ق.م - منها الرقى والطلاسم والأحجبة، والعين الحاسدة أو القاتلة، والنفس أي النفس الخالق الذي وهب به الإله الإنسان، حين نفخ في حلقه فخرج من دبره وهو - نفسه - النفس القاتل المميت، فيقال عن المصاب والمريض والمعلول، أنه «منفوس»، كما قد يقولون «عائن» و«عيون» مثل عين الآلهة الإناث عند السومريين والبابليين «حين سلطت عليه نظرة الموت»، التي أردت بها ابنها قتيلا، وعين الأم سارة الحاسدة، التي كادت أن تقتل بها إسماعيل حين سلطتها عليه فأرادته قتيلا، حتى أن أمه هاجر وارته تحت الرمل، وصلت لأصنامها. # فالنفس الخالق هو نفسه النفس المميت. # وتنسب إحدى أساطير القحطانيين، وما أكثرها وأخصبها، لكاهنة عريقة تدعى «طريفة»، أنها هي التي وهبت الكاهن المتنبئ الخرافي الذي لقبوه بسطيح، ورووا عنه أنه عاش ثلاثين قرنا؛ النفس الخالق. # وهي أسطورة قحطانية عريقة، تستوجب التأني، تنسب أحداثها لهجرات حميرية مصيرية بالنسبة لمجرى وتاريخ أحداث الشرق الأدنى، ويؤرخ لها بما أعقب خراب سد مأرب. # فعندما وافت المنية الملك الكاهن عمران بن عامر، دعا أخاه عمرو بن مزيقيا، وأنبأه بخراب البلاد، وبأهمية الزواج بالكاهنة طريفة، ومات عمران. # وعمرو سمي مزيقيا لأنه كانت تنسج له في كل سنة 360 حلة من الذهب الأحمر، وكان يأذن للناس في الدخول، فإذا أرادوا الخروج خلعت حلته ومزقت؛ ولذلك سمي مزيقيا، ويقال إنه أخذ سنته أو شعيرته هذه من ذي القرنين «يوم هتك عرشه ومزق حلته»، هذا ويبدو أنها كانت بمثابة عيد أو شعيرة، تتصل بالآلهة الزراعية الممزقة. # وترد بكثرة شديدة في ذلك التاريخ الأسطوري للملوك اليمنيين، مرة في كيفية تمزيق الملك لثيابه على مرأى من قومه، ومرة في طقوس هتك العري ms088 للشعب أو الملك - أو التبع - لعرشه، بطريقة موسمية محدودة . # والملفت أن هذه التقليدة ما تزال سارية في الحواديت والبلاد الشفاهية المصرية والعربية. # وتزوج عمرو بن مزيقيا الكاهنة طريفة، «وكان عمرو أعظم ملك بمأرب، وكان له تحت السد من الجنات ما لا يحاط به، فكانت المرأة تمشي وعلى رأسها «مقطف»، فلا تصل إلى بيت جارتها إلا وهي تملؤه من كل فاكهة، من غير أن تمس منها شيئا، حتى أنهم دعوا على أنفسهم «ربنا باعد بين أسفارنا»، إلى أن أرسل الله عليهم السيل، فخرب السد، وهو ما هتف به الهاتف أو «الآتي» وأخبر به طريفة في المنام، حتى زارها وقال لها: «ما تحبين يا طريفة، علم تطيب به نفسك، أو مولود تقر به عينك؟» فقالت: بل علم تطيب به نفسي. فمر بيده على صدرها، ومسح بظاهر كفه على بطنها، فعقمت، فكانت لا تلد، واتسعت في العلم وأعطيت منه حظا عظيما.» # وكان زوجها عمرو بن مزيقيا، يكنى ب «ماء المزن» أو مأرب، أو «ماه رب» وهي كلمة آشورية بمعنى البلد والسهل والوادي، كما أن «ماه» بالفارسية تعني القمر. # وكان ابن عمرو بن مزيقيا يدعى ثعلبة العنقاء، وهو «جد الأنصار من الأوس والخزرج». # وأمرت هذه الكاهنة قومها من العرب الغساسنة بالنزول إلى الشام، فتملكوا عكاء، بعد أن هادنوا ملكها «سملقة بن حباب العكي» ونزلوا غربي عكاء. # ورفض ثعلبة العنقاء قتالهم، متمثلا قول سلفه يعرب بن قحطان: «ويل للمنزول عليه من النازل.» # إلى أن تروي هذه الخرافة عن تدخل «جذع بن سنان» وهو من الجن، فأوقع بين الغساسنة وأبناء أعمامهم أهل عكاء إلى أن قتلهم الغساسنة ونفوهم من الشام، ثم أشارت عليهم الكاهنة بالمسير إلى همدان، فتملكوها، وهكذا سارت بهم إلى نجران، تستحثهم على القتال وتخطب في المحاربين، وترسم الخطط، وكانت تسكنهم قبيلة قبيلة، فملكت قبائل الأزد عمان، وملكت الأوس والخزرج «يثرب ذات النخل» أو المدينة، وأنزلت همدان «نو العراق بابل»، ونزلت علبة أو جفنة بن عامر بن غسان دمشق، وأنزلت قبائل السراة بن غسان ms089 تهامة. # وكانت في كل مرة تقول هذه الكاهنة كلاما مسجوعا، كأن تقول: «خذوا البعير الشدقم، فانحروه وخضبوه بالدم، حتى تأتوا أرض جرهم.» ثم حاربوا قبائل جرهم وبني إسماعيل، «فهزموهم حتى أدخلوهم مكة واستغاثوا بالحرم.» # وكانت مكة آخر مطاف تلك الهجرة القحطانية التي تزعمتهم هذه الإلهة الكاهنة الأم المدعوة «طريفة»، مثلما تزعمت سارة الإلهة الأم لقبيلة إبراهيم القبائل العبرية الرعوية، وضرتها هاجر قبيلة الهاجريين والإسماعيليين، وعبرتا الأمازون الليبيات القبائل الليبية ... إلخ. # وقبل موتها تنبأت لخليفتها بعد ذلك بقرون، الكاهن الجاهلي الخرافي «شق الذي يعلم ما حل وما دق»، والذي تنبأت طريفة بمجيئه قبل أن يولد، مقسمة ب «الاسم والربا، والعلم والأبا، والنور والضيا، إنه يولد في - قبائل - تميم ابن عم، ليس له مفصل ولا عظم، يخرج ممسوخا، ثم تموت أمه لسبع ليال، وينبئ - أي شق - بالزيادة والنقصان إلى فراغ الحق والزمان، وأقسم بالنور والفلق، ما له رأس ولا عنق.» # وبعد أن ماتت أمه لسبع ليال، أتوا به طريفة: «ففتحت فمه، فنفثت فيه، وقالت: لا تسقوه لبن امرأة إلى بلوغه. ثم قالت: أنت خليفتي من بعدي.» # وينسب لطريفة هذه أنها أول من سمت العروبة، قبل موتها: # إن ابنة الخير لها أعجوبة # وميتة تقضي لها مكتوبة # تودي بها في ليلة العروبة # وماتت طريفة في «ليلة الجمعة، في عقبة الجحفة، فقبرها هناك مشهور». # وروى العرب الجاهليون الخرافات تلو الخرافات حول ذلك الكائن الذي تنبأت به طريفة فقيل: «كان الشق بن أنمار بن نزار هذا شق إنسان، له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحدة، وكذلك كانوا يعتقدون «فيما يماثله» وهو سطيح بأنه ابن مازن بن غسان، وكان يدرج كما يدرج الثوب، ولا عظم فيه إلا الجمجمة.» وقالوا بأنهما «كانا شخصيتين بلا رأس ولا عنق، وكانا من أشهر الكهنة الجاهليين، وأن كسرى استدعاهما ليفسرا له رؤياه، كما أنهم تصوروا شقا نصف آدمي، ونسبوا إليه أنه أول من تنبأ بوقوع غزو الحبشة لليمن، وظهور الملك سيف بن ذي يزن الحميري.» # 15 # ويربط البعض بين شخصيتي شق وسطيح، بحسب ms090 ما أورده الرواة، وبين وجود القردة والنسانيس باليمن - القديمة - بكثرة شديدة، منها ما ذكره الإصطخري: «وباليمن قرود كثيرة، بلغني أنها تكثر حتى لا تطاق بجمع عظيم، وإذا اجتمعت كان لها كبير تتبعه، مثل اليعسوب للنحل، وبها دابة تسمى العدار، بلغني أنها تطلب الإنسان فتقع عليه، فإن أصابت منه ذلك تدور جوف الإنسان فانشق، ويحكى عن الغيلان بها من الأعجوبة ما لا أستجيز حكايته.» # 16 # وهذا ما دعا د. محمد عبد المعيد خان إلى الربط بين تصورهم لشكل شق وسطيح، وبين القردة، وبقية أفكارهم عن السعلاة أو السلعوة، المتواترة حتى الآن في المعتقد الخرافي المصري. # ويبدو أن ثمة علاقة بين القردة وبين معتقد العرب الجاهليين عن الدهر أو القدر، الذي وحدوه بالخالق والقادر والماني الذي هو في آخر المطاب الله، فقالوا إنه «في آخر الزمان، تأتي المرأة فتجد زوجها قد مسخ قردا؛ لأنه لا يؤمن بالقدر.» كما يقال بأن الجاهليين كانوا يسجدون للقرد. # ورووا الكثير من الخرافات حول أناس خلطوا اللبن بالماء، فمسخوا قردة، ومنها حكاية عن رجل حمل معه خمرا في سفينة ليبيعه ومعه قرد، وكان يغش الخمر بالماء مناصفة، فسرق القرد صرة نقوده وصعد أعلى السفينة، وراح يلقى بدينار في البحر ودينار في السفينة، حتى قسمها نصفين. # ويبدو أنهم اعتقدوا في أن القردة والخنازير ما هم إلا أناس بشريون؛ فلقد تواترت خرافات كثيرة عن أن الجاهليين كانوا يرجمون القردة الزناة، وروي عن الأزدي قال: «رأيت في الجاهلية قردة زنت اجتمع عليها قردة فرجموها، ورجمتها معهم.» # وقالوا: «إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك.» وربطوا في خرافاتهم المتعددة بين سكنى الجن والشياطين والسعالي لديار وخرائب القبائل العربية المندثرة، عاد وثمود وطسم وجديس والعماليق وغيرهم، ومسخ هذه الأقوام إلى قردة. وفي خرافة تروي بعض الأقوام الإسرائيلية بهذا المعنى عن: «القرية التي كانت حاضرة البحر»، وهي قرية سماها ابن عباس ب «أيلة»، كانت تطل على البحر ويسكنها أناس من اليهود، حرم الله عليهم ms091 صيد الحيتان يوم السبت، فكانت الحيتان تأتيهم في يوم سبتهم بيضا سمانا، وفي غير يوم السبت لا تأتيهم إلا بمشقة، وحدث أن اصطاد أحدهم حوتا يوم السبت، وشواه، فوجد جيرانه رائحة الشواء تملأ القرية، وأحل نصف القرية أكل لحم الحوت، ورفض نصفها الآخر، وأقسموا: «والله ما نساكنكم في مكان أنتم فيه.» وخرجوا من السور، وصرخ: «قردة الله ولها أذناب تتعاوى. ثم نزل ففتح الباب، وتدافعت الناس عليهم، فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولم تعرف الإنس أنسابها من القردة، فكان يأتي القرد إلى نسيبه وقريبه ويختلي به، فيسأله الإنسي: أنت فلان، فيشير برأسه؛ أي نعم، ويبكي.» # وفي قول آخر: «فقدت - أو مسخت - أمة من بني إسرائيل، لا أدري ما فعلت، ولا أراها إلا الفأر، ألا ترونها، إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربها، وإذا وضع لها ألبان غيرها شربتها.» # ولم تتوقف حدود مسخ الأمم والأقوام - المفتقدة - عند التحول إلى القردة أو الجان أو الخنازير؛ إذ يقال إن أحد الخلفاء رفض أن يأكل ضبا، والضب محلل أكله، وقال: «لا أدري لعله من القرون التي مسخت.» # 17 # ولعل موجز هذا الفصل أن أفكار القدرية والدهرية التي كانت تغرق ماضي بلداننا العربية منذ منبت الإنسان المستهدف للعقل على أرض هذا الجزء من العالم؛ هي بذاتها لا تزال تحكم مخيلة شعوبنا، وتكبل إرادتنا، وبالتالي تشل طاقاتنا الخلاقة. أليس كذلك؟ # الفصل السابع # | خرافات الجن والشياطين والعفاريت والرياح # وقد ترجع أغلب معتقداتنا وتصوراتنا التي ما تزال تتواتر في مجتمعاتنا المعاصرة، عن الجن ومواطنهم ومصاهرتهم للإنس وقبائلهم، وكذلك الغيلان والسعالي - أو السلعوة - والعفاريت والرياح والنداهات والنفرات وسكان ما تحت الأرض ... إلخ؛ ترجع بكاملها منحدرة من المتعرية البائدين - الألف الرابعة قبل الميلاد - وبشكل أخص سكان الجنوب (اليمن) القحطانيين؛ نظرا لتيسر اتصالاتهم المبكرة بالفرس المجوس في إيران، والتي يرجعها البعض إلى الألف الثالثة ق.م، حين أخضع الملوك القحطانيون الفرس، ومنهم ملوكها مثل الضحاك بن مرداس، وذو الأذعار. # فلقد لعب موقع اليمن وقربها من البحر الأحمر جغرافيا على خط الاتصال بالهند ms092 وفارس والآريون؛ دوره في جلب هذه الأفكار والمعتقدات الخرافية عن الجان، ثم تسريبها فيما بعد إلى بقية شعوب العالم العربي، ومنه عبرت إلى أوروبا. # ويدافع «نولدكه» أحر الدفاع عن أن معرفة العرب بالجن جاءتهم من جيرانهم الشماليين، وأنها دخلت فلسطين من الإيرانيين، وليس هذا برأي جديد؛ فقد اعتبر عالما الفولكلور الألمانيان الأخوان جريم: «أن حكاية الجان على رقعة العالم أجمع إنتاج آري كامل»، # 1 # بل إن فكرة تحول العشيق إلى حيوان عقب المضاجعة أو الزواج الشائعة اليوم في فولكلور كل العالم ما هي إلا فكرة «عشتروتية» بمعنى أنها كانت في منبتها الأم جزئية أسطورية سومرية لاسامية، كما أنها متصلة بفكرة الإلهة الأنثى القمرية، والتضحية بالملك الأب الذكر، وهي أصبحت فيما بعد حكاية جان واسعة الانتشار، خاصة عند الساميين. # فيقال: «إن بيذخ ابنة إبليس كان لها عرش على الماء، وإن المريد لها متى فعل معها ما تريد سحرته.» # وبشكل موجز، فلقد كان للعرب - سكان الوبر - دور لا نهاية له في ترويج خرافات الجان هذه، على اعتبار أنها خرافات آرية هندوكية، حملوها مع فتوحاتهم إلى مصر وشرق أفريقيا والأندلس، وأوروبا عامة، وهي النظرية التي تبناها المستشرق تيودور بنفي. # وفي تقديري أن ما كان ينسبه الساميون الأوائل عامة لآلهتهم عادوا فأورثوه الجن، وبمعنى أدق فإن أساطير انحدار الملك - البشري - الابن من صلب إله، والتي تتبدى بشكل أخص في أساطير الملكات الساميات - التاريخيات - التي تجمع أساطيرهن على انحدارهن من رحم أمهات سماويات «اتصلن برجال بشريين ذكور، فجئن إلى الوجود» مثلما حدث مع الملكة البابلية سميراميس التي تنسب لها أساطيرها أن أمها معبودة سماوية أرادت أن تستر ذلتها، فتركتها في الخلاء، وأما جانب تطابقها مع عشترت فيرجع إلى قتلها عشاقها عقب الجماع، وكذلك سميرام السورية، وميرنا أو شميرنا، ملكة الأمازون الليبيات، التي ينسب لها المؤرخ ديودوس الصقلي أنها «عندما مرت بمصر، صادقت حور - حورس - ابن إيزيس الذي كان ملكا متوجا بها». # أما عن مراحل استبدال الأمهات السماويات بأنثيات من الجن، فيبدو واضحا في نسب بلقيس ملكة ms093 سبأ، وأمها الجنية المشهورة «رواحة بنت مسكن»، وهو اسم ما يزال يتواتر على الشفاه في خرافات الجن المصرية، ومنها جنية جبل ضهر باليمن، والجنية التي انحدر من رحمها الملك الحميري الصعب «ذو القرنين» والصعب بن ذي مرائد الحميري. # بل إن العرب نسبوا لسابقيهم من القبائل العربية البائدة انحدارهم من أمهات جنيات مثل قبائل جرهم، التي قيل إنها جاءت إلى الوجود من نتاج ما بين الملائكة وبنات آدم، وكذلك قبائل جديس وثمود والعماليق أو العمالقة في الشام وفلسطين، وهو تصور ليس ببعيد طبعا عن تصور العبريين، من أن الملائكة هم أبناء الله «بني إيلوهم»، أو عن عبادة العرب للجن، وتحريمهم لأماكن شاسعة بكاملها، لا يقربونها، و«الحجر» اعتقادا منهم في أن هذه الأماكن كانت موطن الأسلاف من الجن مثل وادي «برهوت» و«يبرين» و«صيهد»، وكانت ديارا لقبائل عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم والعماليق، وغيرهم من القبائل المندثرة. # ومن هنا جاءت فكرة اعتبار القبور والأماكن المهجورة والخرابات بعامة مواطن للجن والعفاريت ... وأن تحية العربي القديم لساكني المقابر من الجن والعفاريت، والتي كانت اتقاء لشرورهم هي «عموا ظلاما»، وهي ما أصبحت اليوم «مسيكم بالخير» ومرادفاتها المختلفة، ومنها إجابة الجني أو الغول على البطل الإنسي: «لولا سلامك غلب كلامك، لكنت كلتك ورميت عضامك» وهكذا ... # وقد لا يقبل المرء بسهولة ادعاءات المستشرقين وعلماء الآرية مثل «نولدكه» و«بنفي» تصورهما للشرق الأدنى القديم كمجرد معبر حضاري ثقافي اتخذه التراث الفولكلوري الآري - الهندو إيراني - إلى أوروبا والعالم الجديد، ذلك أن الكشوف السومرية العراقية الأكثر قدما من الآرية - بداية الألف الرابعة ق.م - جاءت فأجلت الكثير من الغموض، من ذلك مثلا ما جاء عن العفريتة الشيطانة «ميليث» التي تسكن الخرابات والأماكن المهجورة، وهي الفكرة المتواترة اليوم عن سكنى العفاريت الخرابات، وهو ما كشفه وأوضحه نص القصيد السومري المعنوي «جلجاميش وأنكيدو والعالم الآخر»، أو «جلجاميش وشجرة الصفصافة». # وتبدأ هذه القصيدة هكذا: «في قديم الزمان، كانت شجرة الصفصافة مغروسة على شاطئ الفرات، وحدث أن هبت عليها العواصف الجنوبية، وفاضت ms094 عليها مياه الفرات، فأخذتها الإلهة «أنانا» إلى مدينتها «أرك » - أو الوركاء - وغرستها في بستانها المقدس، حتى إذا كبرت الشجرة صنعت من خشبها سريرا أو كرسيا، وعندما حاولت «أنانا» قطعها لتصنع من خشبها سريرا وكرسيا أعجزتها حية شيطانية «ليليث» اتخذت منها مسكنها، إلى أن جاء البطل الإلهي جلجامش فقطع الشجرة وذبح الحية، وفرت الشيطانة «ليليث» إلى الأماكن الخربة المهجورة.» # وبالقطع هذه أول فكرة تاريخية أو حفرية، عن سكنى العفاريت الخرابات. # ومع انتقال تراث السومريين إلى خلفائهم وورثتهم البابليين، الذين عرفوا بالأكاديين نسبة إلى أكدو عاصمتهم، انتقلت فكرة الشيطانة «ليليث» إليهم، وليليث كلمة بابلية آشورية، ومعناها أنثى العفريت أو الريح، كما أنها ذكرت مرة أخرى في إحدى القصائد الجلجاميشية البابلية - حوالي 2000ق.م - وتحول هذه اللفظة بعد ذلك من «ليليث» إلى «ليل» ... وهي ما أصبحت تظهر ليلا، وعرفت بالجنية ليل، تسكن الأماكن الخربة وموارد المياه، وتظهر كخارقة ليلية يغطي الشعر كل جسدها العاري، في الفولكلور السامي المعاش اليوم بعامة. # ويبدو أن الليليث أو ليلي أو ليل السومرية هذه - 4 آلاف عام ق.م - هي نفسها التي أصبحت تصادفنا في الشعر والأغاني الشعبية - يا ليل يا عين - كما أن الليليث أو ليلي، توجد بكثرة هائلة في الأغاني الدينية الشعبية، المعروفة بأغاني التخمير، والزار. # ويبدو أن العبريين كانوا قد أخذوها عن الكنعانيين الذين سبقوهم في استيطان فلسطين، فليليث في اللغة الكنعانية أو الفينيقية معناها إناثا أو إناث - ومفردها أنثى - وهي ما تتوحد مع عشترت، خاصة في طقوس العرس المختلط. # ولقد اعتقد الملك سليمان في أن بلقيس ملكة سبأ ما هي إلا ليليث أي عفريتة؛ نظرا لأن جسدها كان مغطى بالشعر: «فلما نظر سليمان إلى شعر ساقيها، ورأى جسمها أحسن جسم، صرف وجهه عن ساقيها للشعر»، # 2 # وكان أن وضع لها سليمان بعد ذلك بمعونة جنوده وأعوانه من الجن «الخلطة» التي تزيل الشعر، وهي ما عرفه النساء بعد ذلك حين ينزعن أو ينتفن شعرهن بالحلوى. # أما عن فكرة توحد حواء بالحية التي تتوحد بدورها بالشيطان، فتتبدى بكثرة ms095 في أغلب أساطير الخلق السامية، وتذكر هذه الأساطير أن الحية إذ ذاك لم تكن على شكلها الآن، بمعنى أن مسخا قد حدث لها عقب توحدها بالشيطان إبليس، حين وسوس لحواء - في فم الحية - الأكل من الشجرة الممنوعة أو المحرمة، ويقال إنها الحنطة: «ووعدهما إن أكلا منها أن يخلدا ولا يموتا.» # 3 # ففي أغلب الأساطير والشفاهيات العربية خاصة يغوي الشيطان المرأة زوجة الإله أو البطل، مثلما حدث مع زوجة نوح، حين مكنته من تخريب الفلك ثلاث مرات، وكذلك فقد تسلل الشيطان إلى الفلك خلال الطوفان عن طريق زوجة نوح، عقب زواجه منها. # ووردت هذه الفكرة أيضا في الأسطورة الفلاشية عن تسلل الشيطان إلى جوف الحوت الخالق، مواصلا نشر كوارثه. # وتكشف النصوص المدونة والشفاهية لأسطورة الطوفان استعانة الشيطان بزوجة نوح، للإيقاع بنوح، وتحطيم فلكه، وفي أحد النصوص الأيرلندية التي جمعها الأستاذ «جيمس ديللارجي» مدير عام الجمعية الإيرلندية للفولكلور عام 1951 يقول هذا النص: «إن بناء فلك نوح استغرق 81 عاما؛ إذ إن الشيطان كان يدمره مرة كل سبع سنوات، مستعينا بالزوجة.» # وفي أحد النصوص الشرقية التي جمعها أبيفانيس اليوناني: «أن برها زوجة نوح أشعلت الفلك نارا عندما دخلتها.» # وفي عديد من النصوص يأخذ نوح مكان آدم ويتطابق معه، ويروح إبليس يغري الزوجة، ويدفعها إلى أن تدفع نوح بدورها للأكل من الشجرة المحرمة، مما يدفع الله لأن يسلط عليهم الطوفان كعقاب. # وتتوالى جزئية أو فكرة غواية الشيطان للزوجة بشكل متوال في أغلب الأساطير السامية، فالشيطان هو الذي وسوس لامرأة لوط، حين هجر لوط قومه وفر مهاجرا ومعه أهل بيته، فأرسل العذاب على مدينة «سادوم وقراها الخمس»، عمرة وأدماء وصبويم وبالع، حين سمعت المرأة أصوات خراب المدينة فصرخت: وا قوماه، «وكان أن تحولت إلى عمود ملح.» # 4 # وفي أحد النصوص التي تتعرض لغواية الشيطان لرحمة، امرأة أيوب، يقول النص: # إنه كان ل «أيوب بن رازح بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل؛ زوجة اسمها رحمة، وكان أيوب صاحب أموال عظيمة، وكان له ملك البثنية جميعها من أعمال دمشق ms096، فابتلاه الله بأن أذهب أمواله حتى صار فقيرا، وهو مع ذلك صابر على عبادته وشكره، ثم ابتلاه الله في جسده، حتى تجذم ودود، فبقي مرميا على مزبلة لا يطيق أحد أن يشم رائحته، فكانت زوجته تخدمه وهي صابرة على حاله، فتراءى لها إبليس وأراها ما ذهب لهم، وقال لها: اسجدي لي لأرد مالكم إليكم. فاستأذنت أيوب، فغضب وحلف ليضربها مائة، ثم إن الله - تعالى - عافى أيوب ورزقه ورد إلى امرأته شبابها وحسنها، وولدت لأيوب ستة وعشرين ذكرا، ولما عوفي أيوب أمره الله بأن يأخذ عرجونا من النخل فيه مائة شمراخ، فيضرب به زوجته، ليبر في يمينه.» # وما يمكن ملاحظته في ذلك النص، هو أن إبليس أرى الزوجة «رحمة» ما ذهب لهم، بمعنى أنه هو الذي كان قد سلب عنهم أموالهم وعزهم، وأصاب أيوب بالداء، وفي مقدوره رد ما أخذ، لو أن المرأة سجدت له. # فالعلاقة بين المرأة والشيطان تتواتر بكثرة شديدة، خاصة في نصوص وأساطير الخلق الأولى عند عديد من ملل ونحل الشعوب والقبائل السامية العربية. # وما يهمنا هنا هو هذه الفكرة السومرية، وهي فكرة توحد الشيطانة ليليث بالحية، وليليث هي ما عرفت عند السومريين بحواء الأولى، والتي عادت بدورها فتوحدت بالحية، خاصة عند القبائل العبرية، ففي التوارة أن أصل الإنسان من الحية، والحية من الجن. وترددت هذه التضمينة في عديد من أسفار الخلق والبدء عند أغلب ملل ونحل الشرق الأدنى. # فعندما قرر الله أن يهب آدم أنيسا، طلب منه أن يسمي كل حيوان بهيم وطائر وكل مخلوق حي، فكانت الحيوانات تمر به - ذكر أو أنثى - فسماهم آدم واختبر نفسه مع كل أنثى منهم، وعندما عجز صرخ باكيا: لكل مخلوق قرينة إلاي. فكان أن خلق الله الليليث أو حواء الأولى، ويقال إن الله استعمل في خلقها القاذورات والرواسب الطفيلية بدلا من مياه العمق، أو الطين اللازب أو الصلصال الذي خلق منه آدم. # ويلاحظ طبعا أن هذا التراث الأبوي القبلي، يحط من قدر المرأة حتى في مادة خلقها. # وباتحاد آدم مع ms097 هذه الشيطانة ومع أخرى على شاكلتها تدعى «نعمة أو نعامة » ونعمة هي أخت قابيل القاتل وقرينته، وينسب لها نشر ما لا يعد ولا يحصى من الشياطين والجن التي هي آفة ووباء الجنس البشري، ومنها الجنون، المشتق لفظيا من الجن. # وقد تعثر عند الجاحظ # 5 # على تفسير لتوضيح تلك العلاقة اللغوية الاشتقاقية بين الاسم «نعمة» أو الجنية نعمة، التي تشارك الليليث في خنق الأطفال الحديثي الولادة، والإضرار بهم، وبين طائر النعامة. فمن أمثال العرب وقولهم: «أشرد من نعامة» ... ذلك لتخلي النعامة عن بيضها وأولادها عند رؤيتها الطعام ... ومن أمثالهم: «أحمق من نعامة، وأجن من نعامة»، و«مثل النعامة لا طير ولا جمل» و«من يركب نعامة في الحلم نكح خصيا» ... إلخ. كما أن اسم نعمة كان من أسماء أو ألقاب إلهة الجنس عشترت. # وتنسب الأساطير لهاتين الأنثيين أو الجنيتين ليليث ونعمة أنهما هما اللتان جاءتا إلى كرسي عدالة الملك سليمان متنكرتين في هيئة زانيات أورشليم. # فإذا ما كانت الحية قد توحدت صراحة بالشيطان حين تسلل إبليس إلى الجنة داخل الحية، والحية هي التي أغرت حواء بالأكل من شجرة المعرفة أو الشجرة المحرمة أو شجرة التين، فكان أن استجاب آدم بإغراء من حواء. # وعلى هذا فإن الثلاثة: الحية والشيطان والمرأة، ما هم إلا وجها واحدا لنفس البطل. # وتتركز الأسطورة التي أوردها الطبري في أن «إبليس عرض نفسه على دواب الأرض في أن تحمله لكي تدخله الجنة، بعد أن منعه رب الجنة من دخولها، فكل الدواب رفضت ذلك، حتى كلم الحية فقال لها: إن أنت أدخلتني الجنة، أحميك من ابن آدم، وتصبحين في ذمتي. وكانت الحية دابة لها أربعة قوائم كأنها البعير، فجعلته بين نابين من أنيابها، ثم دخلت به، فكلم إبليس حواء فكانت الخطيئة الأولى، وعقابها المعروف وهو الطرد من الفردوس، وإدماء حواء الشهري المتمثل في الحيض، وذلك العداء الرباعي الأبدي بين الرجل والمرأة والحية والشيطان: اهبطوا بعضكم لبعض عدو.» # 6 # ويقال إن إبليس # 7 # دعا الله قائلا: «يا رب، أخرجتني من الجنة من أجل ms098 آدم، زدني. قال الله: لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله. قال: زدني. قال صدورهم مساكن لك، وتجري منهم مجرى الدم. قال: زدني. قال: اجلب عليهم بخيليك ورجلك، وشاركهم في الأموال والأولاد.» # وترى بعض أساطير الخلق - العبرية - أن أول صراع نشب بين آدم وحواء، جاء بسبب استياء حواء من وضع المضاجعة؛ «لما حتم علي الاضطجاع إلى جانبك»، وعندما حاول آدم إرغامها نطقت باسم الله الخفي أو التابو - وكانت على معرفة به - وانفلتت طائرة في الهواء، فأقامت إلى جوار البحر الأحمر، في إقليم تتكاثر فيه الشهوات الشيطانية، وهناك أنجبت آلاف الأبناء من الشياطين. # وعندما شكا آدم حواء أو ليليث إلى الله: لقد هجرتني زوجتي، لحمي. «وأرسل الله الملائكة في طلبها والبحث عنها، وعندما هددها الملائكة بالموت، قالت لهم: كيف لي أن أموت وقد وكلني الله برعاية الأطفال المولودين، الذكور منهم حتى يومهم الثامن، والإناث حتى العشرين!» # وبينما راحت الليليث وأختها نعمة تخطف الأطفال المولودين وتخنقهم، عاقبهما الله بقتل مائة من أطفالهما يوميا. # إلا أن الجنيتين راحتا تخنقان الأطفال وتغويان الرجال النائمين - الفرادى - وتضاجعاهم، وبعد ذلك يقتلانهم بمص دمائهم ونهش أجسادهم، ولعل في هذا أول تصور عن النداهات، # 8 # وترجع بذوره الأولى إلى الألف الثانية ق.م عند الكنعانيين الشوام. # ومن أساطير الخلق الأولى اكتملت المعتقدات التي ما تزال شائعة، حول إضرار العفاريت والأرواح الخفية بالأطفال الحديثي الولادة، فكان من المنبع رسم دائرة سوداء على حائط حجرة العرس، يكتب داخلها: «آدم وحواء، اغربي يا ليليث.» أما عندما تتمكن الليليث من الاقتراب من الطفل الوليد، وتشغف به حبا، فلا بد من أن يضحك الطفل في نومه، ولتجنب الخطر ينبه الطفل بوضع أصبعه بين شفتيه، حينئذ تختفي العفريتة، وهو ما شاع كثيرا في تماثيل وتمائم الإله الطفل في كلا التراثين الهليني والروماني، ووجد من آثاره ملايين التمائم. # كما أنهم اعتقدوا في أن الطهور هو الحماية الحقيقية للطفل من العفاريت. # وكان من المعتقد «أن العفاريت تسكن الصحراء الأدومية بسوريا، مخلفة الرعب والبجع والبوم والغربان وأبناء ms099 آوى والحيات والحداءات، والنعام الذي اشتق اسمه من اسم نعمة ». # وكانت ملل ونحل الكلدانيين الحرانيين فيما بين النهرين، وكذلك المانوية والديصانية - نسبة إلى ابن ماني وابن ديصان - وما تفرع من هذه الملل من مزق، مثل المهرية والمقلاصية وغيرهما؛ يرسمون دوائر ثلاث فوق رأس الطفل حديث المولد، يكتبون على الأولى اسم ملك الجان، وعلى الثانية اسم الإنسان القديم، وعلى الثالثة اسم روح الحياة. # 9 # وقد ارتبطت هذه الشعائر عند تلك الملل الكثيرة المتلاطمة، بأساطيرهم وأفكارهم الأولى عن الخلق، والصراع بين آدم وبين الشيطان، أو الصنديد الذي «علم حواء» رطانة السحر لتسحر آدم وتسلبه أطفاله، فكان آدم يتضرع إلى الله: ما ذنب المولود؟ # ومعتقد الخوف على حياة الأطفال حديثي الولادة وأمهاتهم النفساوات منتشرة بكثيرة في فولكلور شعوب العالم القديم، وكان العبريون اليهود والرومان والجرمان يعتقدون في مقدرة «روح الحديد» على طرد هذه الأرواح الشريرة، فيذكر المؤرخ «بيليني» أن الرومان اعتقدوا في قدرة الحديد على طرد الشياطين، كما ذكر الأخوان جريم: «إن الجرمان كانوا مؤمنين بالدم والحديد في طرد الأرواح الشريرة.» # وفي القرن الرابع عشر الميلادي وحد «هيرونيموس» بين الليليث السامية واللاميا اليونانية، واللاميا أميرة ليبية هجرها الإله زيوس بعد أن سرقت أطفال زوجته هيرا، فكان أن واصلت انتقاماتها بسرعة أزواج الآخرين من زوجاتهم. واللاميا تغوي الرجال - الفرادى - فتمتص دماءهم وتلتهم لحمهم - وهي ما أصبحت في تراثنا الفولكلوري النداهة والسلعوة. وفي الرسوم الحائطية الهلينية صورت اللاميا وهي تفترس أحد المسافرين وهو مضطجع على ظهره ... مثلها في هذا مثل سابقتها الرسوم الحائطية الكنعانية، التي ترجع إلى ما قبل القرن الرابع عشر ق.م. والتي تصور الآلهة العارية إناثا - أي الأنثى أو الليليث - طائرة في الهواء، لامسة مقبلة عشيقها النائم الإله «موت»، وفي صورة أخرى يبدو «موت» - أو آدم الكنعاني - يحفر تحت الضلع الخامس، بما يشير إلى خلق حواء من ضلع الرجل. # 10 # فخلق حواء من ضلع الرجل أسطورة مستقرة منتشرة بكثرة على طول الشرق الأوسط، تؤكد سيادة الرجل الذكر، منكرة قدسية حواء، منقصة من مساواتها الرجل ms100، موحدة بين المرأة والحية والشيطان والجنية. ~~••• # وكان الكلدانيون فلاسفة وكهنة حران يقولون بأن للجن إلها، يضحون له بنحر الخرفان، ويطبخون ماء يستحمون به سرا لرئيس الجن، وهو الإله الأعظم، كما كان من عاداتهم التضحية بصبي طفل حين يولد بذبح الصبي، ثم يلصق حتى يهترئ، ويؤخذ لحمه فيعجن بدقيق السميد وزعفران وسنبل وقرنفل وزيت، ويعمل منه أقراص صغار مثل التين، يخبز في تنور جديد، ويكون لأهل السر في الشمال، ولا تأكل منه امرأة ولا ابن أمه ولا مجنون. # وكان من منفراتهم؛ # 11 # أي إتيانهم الأمور المنفرة للجن - وتعرف بالمنفرات عند الساميين بعامة - أنهم يعلقون الجناح الأيسر للفراخ على صدور الأطفال والحوامل، لاتقاء الليليث والجن. # كما كان من بين هذه المنفرات - التي ما تزال تتواتر حولنا - عند بقايا هذه الأقوام المنحدرة من العرب الجاهليين - استعمال عظام الموتى أو خرق الحيض، # 12 # أو اعتقادهم في سن الثعالب، وحلق الرأس بالموسى، وتغيير الأسماء، فيذكر عن أعرابي أنه قال: «لما ولدت قيل لأبي نفرعنه، فسماني قنفدا وكناني أبا العداء.» # 13 # وعن ابن عباس قال: «كانت حواء تلد لآدم فتعبدهم؛ أي تسميهم عبد الله وعبد الرحمن، ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاهم إبليس فقال لها: لو سميتما بغير هذه الأسماء لعاش ولدكما، فولدت حواء ولدا فسمته عبد الحرث، وهو اسم إبليس.» # ويورد ابن النديم أن مصر وبابل أكثرت من هذه المنفرات قائلا: «فأما السحرة فزعمت أنها تستعبد الشياطين والجن بالسحر والقرابين وارتكاب المعاصي والمحظورات واستمالتها بترك الصلاة والصوم، وأباحت الدماء، ونكاح ذوات المحرم، وغير ذلك من الأفعال الشريرة، وهذا الشأن شائع ببلاد مصر وبابل.» # وأضاف: «وقال لي من رأى السحرة بأرض مصر: وبها بقايا ساحرين وساحرات، وزعم الجميع من المعزمين والسحرة أن لهم خواتيم وعزائم ورقى وصنادل وغير ذلك.» # وكانت خرافات الغيلان منتشرة بكثرة شديدة في الجزيرة العربية، وينسب لكائن خرافي يسمى «تأبط شرا» أنه قتل غولة بضربة واحدة من سيفه فقتلها، وأن الغولة عندما ضربها أول ضربة، طلبت منه أن يضربها ثانية، لكنه رفض، وهي تلك التضمينة الأسطورية المعروفة ms101 في خرافات الجان، والتي مؤداها أن «ضربة الرجال ماتتناش». # وممن تزوج بالجن من العرب عمر بن يربوع بن حنظلة التميمي، وجذع بن سنان، وعمرو ذي الأزعار بن أبرهة ذي المنار وأمه الجنية العيوف ابنة الرائع. # بل إن قبائل بأسرها انتسبت إلى الجن # 14 # مثل بني مالك، وبني شيصيان، وبني يربوع، الذين تسموا ببني السعلاة - أي السلعوة - كما ترجع أساطير الخلق والبدء الحبشية نسبها بكامله إلى الحية، والحية تتوحد مع الجن. # كما أن قبائل بكاملها عبدت الجن، مثل رهط طلحة الطالحات من خزاعة، ولقد اعتقدوا في أن للجن عشائر وقبائل، تربط بينها صلة الرحم كما هو حادث عند بني الإنس القدماء. # ولقد كتبت مؤلفات بكاملها في هذا المعنى، نسبة لابن هلال، وابن الإمام، وأبو خالد الخراساني، وابن أبي رصاصة، ولوهق بن عرفج، وله مؤلفات عن طبائع الجن ومواليدهم، و«آريوس الرومي» وكان من علماء الروم بالعزائم، وله من الكتب كتاب يذكر فيه أولاد إبليس وتفرقهم في البلاد، وما يختص به كل جنس منهم في العلل والأرواح، كما أن منهم ابن وحشية الكلداني وكتبه عن السحر والجن على مذاهب الأنباط والكلدانيين والحرانيين وغيرهم. # ويرى ابن الكلبي أن إبليس # 15 # أنجب خمسة، منهم ثلاثة قبائل أو أسباط، تنزع إلى الشر: «الثبر» و«زلفيون» و«دامس»، فالثبر هو صاحب المصائب والكوراث، وزلفيون هو المنوط بالاندساس بين الناس والإيقاع بهم، أما أدامس أو الأعور، فهو صاحب الزنا وهتك الأعراض والإباحات، كما أن منهم «مسوط» وسمي صاحب الراية، ينصبها وسط الأسواق، ويروح ينشر بين الناس الخصومات والجدال والمنازعات. # كذلك فلا نهاية لمن عشق الجن من الإنس، وخاواها في العلن والخفاء. # كما أن حروبا طويلة دامية وقعت بين قبائل الجن وقبائل الإنس من العرب، منها حروب بني سهم، الذي كانوا قد قتلوا ابن امرأة من الجن، عقب حجه وطوافه بالبيت، فوقعت الوقيعة بين قبيلة الجني المتوفى وبني سهم، وقتل الجن من بني سهم خلقا كثيرا، وكان أن نهضت بني سهم وحلفاؤهم ومواليها وعبيدها، وركبوا رءوس الجبال وشعابها، فما تركوا ms102 حية ولا عقربا ولا عضاضة ولا خنفساء ولا هامة تدب على الأرض؛ إلا قتلوها، حتى ضجت الجن، فصاح صائحهم يطلب وساطة قريش بينهم وبين بني سهم، فتوسطت قريش، وانتهى النزاع بين بني سهم والجن. # 16 # وكان كلما أوقعت الجن ببشري بعد ذلك خاطبها قائلا: «يا معشر الجن، أنا رجل من بني سهل، وبيننا وبينكم عهد وميثاق.» فتعرفه الجن وتهابه. # وكانت نحل وشيع الحابطين، أصحاب أحمد بن حابط بنواحي البصرة، وأحمد بن نانوس، وأيوب بن نانوس - الذي أباح النكاح؛ كانت هذه الفرق والشيع تقول بأن «الله نبأ أنبياءه من كل نوع من أنواع الحيوان، حتى البق والبراغيث والقمل»؛ مستندين إلى قول الله: # وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ~~. # والربط بين الجن والحيوانات والهوام والأشجار، يشير مباشرة إلى انحدارها من الطوطمية، وهو ما كنته القبائل السامية خاصة أصحاب الوبر، من عرب وعبريين، فكانوا يتسمون باسم الحيوان، ويحرمون التلفظ باسمه؛ ومن هنا جاءت المترادفات المتعددة للحيوان الواحد، «فذكر المستشرق هيرد أن لدى العرب خمسين كلمة للدلالة على الأسد، ومائتين للثعبان، وثمان للعسل، وأكثر من ألف للسيف.» # 17 # وكانت القبيلة وأسلافها والأرض التي تعيش عليها، وما يتحكم فيها من عوامل مناخية واجتماعية وحدة تنحدر من الطوطم السلف الأب، سواء أكان حية أو نعامة أو حمامة أو كلبا أو جملا أو جرادا أو ديدانا أو بيضة أو حوتا، وعلى هذا اختلقت كل قبيلة أساطيرها، ووحدت بالتالي بين الطوطم والخالق، مثل كوزلولوجي أو أسطورة الخلق عند الرشيين، # 18 # القائلين بفكرة الرحم الخالق (ويمكن ملاحظة العلاقة اللغوية الاشتقاقية بين ذلك الرحم الخالق، وبين الرحمة والرحمن والرحيم والراحم والمرحوم ... إلخ). # وهم الذين زعموا «أن في جوف الماء الريح، وفي الريح الرحم، وفي الرحم المشيمة، وفي المشيمة بيضة، وفي البيضة الماء الحي، وفي الماء الحي ابن الأحياء العظيمة، الذي ارتفع إلى العلو، فقلق البريات والأشياء والسموات والأرض الآلهة». # 19 # وكذلك أساطير خلق المغتسلة سكان البطائح، والكشطيين، والمنسطوريين، والصامية، والغولية، والأدومية أو الأدوميين الذين منهم اشتق اسم آدم ms103 أبو البشر. # وكانت أسطورة الخلق القريشية - فيما قبل الإسلام - وقريش كان طوطمها الحوت، تقول: «إن الله خلق الأرض على حوت، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح.» ويقال: «إنها هي الصخرة التي ذكرها الحكيم لقمان، ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت، فاضطربت، وتزلزت الأرض، فأرسى عليها الجبال.» # وفي إحدى خرافات ذي القرنين التي يوردها وهب بن منبه: «إن ذا القرنين أتى على جبل قاف، قال: فأخبرني ما هذه الجبال التي حولك؟ فقال جبل قاف: هي عروقي، فإذا أراد الله أن يزلزل أرضا أمرني فحركت فرقا من عروقي فتزلزت الأرض المتصلة به.» # 20 # وفي خرافة قريشية متأخرة، كان لها السيادة فيما بعد: «أن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض، فوسوس إليه، وقال له: أتدري ما على ظهرك يا لوتيا من الأمم والدواب والشجر والجبال وغيرها؟ إنك لو نفضتها أو ألقيتها عن ظهرك، لكان ذلك أريح لك.» # ويرى رفائيل بتاي أن العبريين استعاروا أفكارهم عن الحيتان والحيوانات البهيمية ذات الجثث الهائلة من العرب الأوائل - أو البائدة - وهو ما كان يطلق عليه العرب تعفون - أو التعفن - ومنها بعل تعفون، وهو ما يشير إلى البهيمية، وصراعات الحيوانات الخارقة الوحشية، مثل الثيران والبقر الوحشي والحيتان. # ووردت هذه الخوارق البهيمية في الميثولوجي الفرعوني، فذكر الرحالة المؤرخون «هردوت وديودور والصقلي وبليني» الحيتان والتماسيح وفرس النهر، فكانت تلك الحيوانات الوحشية مقدسة في مصر للإله ست عدو أوزوريس ومغتصب عرشه. # 21 # كما وردت هذه الخوارق البهيمية في الميثولوجي البابلي، ومنها الحوت متعدد الرأس والإله ذو الرءوس السبعة بمثابة الصولجان السومري، منذ الألف الخامسة قبل الميلاد. # وبحسب ما ذكره هردوت وديودورو الصقلي، فقد «أكل فقراء الشرق الأوسط عامة لحم الحيتان وفرس النهر والبهائم الوحشية، خلال أعيادهم الموسمية، احتفالا بأكل اللحم.» # وطبعا كان الحيوان الطوطم يدافع عن القبيلة ويحميها، مثل هدهد سليمان وبلقيس، وحادث تلصصهما أو تجسسهما على أحدهما الآخر، وأيضا ضباع قبائل الضبعيين والكلبيين وكذلك بنو هلال أو ms104 الهلالية - أصحاب سيرة بني هلال - وبنو عبد شمس ونسر وغيرهم ، وهو ما أصبحت شعائرهم - الطوطمية - مثل الهلال والنسر، رمزا موحدا للعالم الإسلامي فيما بعد، مثلما أصبحت نجمة داود المسدسة شعارا موحدا للقبائل العبرية. # يقول المسعودي: «وقد زعموا أن الحيوان الناطق ثلاثة أجناس؛ ناس، وبنتاس، ونسناس، وقالوا: إن وجوههم على نصف وجوه الناس.» # وتركز الميثولوجيا السامية بشكل مجمل على أن خطيئة إبليس الأولى تمثلت في استكباره للمادة التي خلق منها، وهي النار، على المادة التي خلق منها آدم، وهي الطين أو التراب، هذه أول شبهة أو خطيئة وقعت في الخليقة. # وفي إحدى الروايات: «إن إبليس كان له ملك سماء الدنيا، وكان ينحدر من قبيلة من الملائكة، يقال لهم الجن، وسموا الجن لأنهم خزان الجنة.» # ويبدو أن الصراع كان ملتهبا بين مادتي النار والطين، أو بين الملائكة والبشر؛ إذ إن الله «خلق خلقا - من الملائكة - وقال: اسجدوا لآدم. فقالوا: لا نفعل. فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق خلقا آخر، بشرا من طين، وطلب من الملائكة أن يسجدوا لآدم، فأبوا، فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم». # ومعنى هذا أنه كان هناك اعتقاد أكيد في أن «طينة» الجن أرفع منزلة من تلك التي صيغ منها الإنسان القديم؛ وعلى هذا فقد عبدوا الجن، وأحلوهم محل الآلهة منذ فترات مبكرة جدا، كما يرى فريزر # 22 # الذي أورد حكاية «من مصدر عربي عن حادث موت ملك الجن (1063-104ق.م) وأنهم كانوا يندبونه - على طول الشرق الأوسط - من تركيا حتى إيران وبغداد، يضربون بالدفوف وينوحون ويشقون ملابسهم، مهيلين على رءوسهم الطين والرغام». # الفصل الثامن # | حكايات فولكلورية سوادنية ومصرية # مجموعة حكايات فولكلورية سوادنية، جمعها الدكتور الأستاذ عواد كامل، ونشرها في كتاب تحت اسم «قصص سودانية»، بعض هذه الحكايات الشفاهية يمكن تصنيفه تحت ما يعرف بحكايات الجان أو الحكايات الخرافية، وبعضها الآخر من نوع حكايات الحيوانات، وبعضها الثالث قد يكون بقايا أساطير مهشمة أو «أشلاء أساطير»، كما سبق أن لاحظ الأخوان جريمي. # ورغم أن د. مراد كامل قد أعاد صياغة هذه ms105 الحكايات الشفاهية السودانية، ونشرها في شكلها الأدبي، إلا أنه بدا واعيا ومدركا في محافظته الدقيقة الرصينة على أدنى مقولاتها ووحدتها وتسمياتها كحكايات فولكلورية، قابلة للتجزئة والانقسام إلى سلسلة متتابعة من الأفكار والجزئيات، ربما يسمح لها بالمقارنة مع نظيراتها من حكايات مشابهة أو مشتركة في النمط أو النموذج. # والذي استوقفني بالنسبة لهذه الحكايات هو عثوري على نفس هذه الحكايات والحواديت، بكاملها، في حكاياتنا وحواديتنا الشفاهية المصرية، فما من حكاية مفردة لا تتفق أو تتوحد مع نظيرتها المصرية؛ وهذا يعني مدى الالتقاء غير العادي بالنسبة لتراثي الحكايات الفولكلورية السودانية والمصرية بأنماطها ونماذجها، بل وحتى تضميناتها وأدنى جزيئاتها. # وليس هذا بغريب بالنسبة للأسس والقوانين التي أمكن لعلم الفولكلور إرساؤها منذ مطلع هذا القرن، بل الغريب هو أن يحدث العكس فيحل التنافر والمخالفة محل التطابق والتوحد، بالنسبة لتراث الشعبين المصري وشقيقه السوداني. # ومرجع هذا التطابق أو التوحد للتراثين المصري والسوداني - بالنسبة للحكايات الشعبية - هو الالتقاءات والاتصالات؛ من تاريخية وجنسية ومكانية ولغوية، بين السودان ومصر. # وتصل علوم ما قبل التاريخ، بالعلاقة التاريخية لمصر القديمة بالسودان، إلى ما قبل عهد الأسرات، فعن طريق السودان، كانت تصل إلى مصر حاصلات بلاد بنط من بخور وعطور ومر، وكانت هذه الحاصلات جزءا حيويا من أخص خصائص المعبد الفرعوني وشعائره الدينية؛ مما يؤكد نص حدوتة مصرية وسودانية، من بين هذه المجموعة من الحكايات والحواديت المصرية السودانية المشتركة. # ولقد تدعمت بين الدولتين منذ الدولة الوسطى 2000ق.م، حين بدأ ملوك الأسرة الثانية عشرة يسيرون حملات إلى السودان، حتى تمكنوا من دخوله، ونشر ديانة آمون، وأقام قلاعا ومعابد «بوهين ودابنارتي ومرجيسيا وشفلك وسمنة وأورونارتي ... إلخ»، وأيضا مسلات سيزوسترس الثالث (1879ق.م)، ولوحة سنوسرت الثالث: «هذه حدودي الجنوبية وكل من يحافظ على هذه الحدود الجنوبية، فهو ولدي ومن صلبي، الابن الذي يحمي أباه.» كما أن كهنة آمون كانوا يقيمون في السودان، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من المهاجرين المصريين؛ من حرفيين ورسامين وخطاطين وصناع وكهنة ومحنطين. # ولقد لعب السودانيون دورهم الشقيق في معاونة المصريين ms106 في طرد الهكسوس، خاصة قبائل البجة والكوشيون - منهم النوبيون - ويرى سلجمان أن البجة والمصريين من سلالة واحدة. # وكان الملك كشتا أول من عرف من ملوك السودانيين، واتسع سلطانه حتى تعدى الأقصى، ولما مات خلفه ابنه الملك بعانخي في حكم السودان ومصر، ولما مات بعانخي هذا، خلفه أخوه وزوج ابنته شبكة عام 700ق.م، وهو الذي نقل عاصمة ملكه إلى الأقصر، وحارب الآشوريين، وابنه ترهاقا صاحب الحروب المتصلة في غرب آسيا، وهو الذي هزم سنحاريب ملك آشور، وغزا أورشليم، واستولى على بيت المقدس. # ويعرف هؤلاء الملوك السودانيون الأوائل بملوك نبتة العظام، وهم الذين جلبوا الصناع والفنانين والمعلمين المصريين، وساعدوا على نقل المؤثرات الحضارية والشعائرية المصرية إلى السودان، وتبدى هذا في عادات دفن الموتى والفن والعمارة، إلى جانب الكتابة الهيروغليفية. # وخرج ملوك السودان أو ملوك نبتة مرارا لصد هجمات القرى وغيرهم من القبائل الليبية والسامية المغيرة على مصر. # وطبعا فإن هذه الاتصالات المصرية السودانية المبكرة حملت مع ما حملت التراث الشفهي والعقائدي لكلتا الدولتين، ويرى البعض - ومنهم سلجمان - أن الختان الفرعوني ما يزال هو السائد في السودان، كما أكده المقريزي بقوله: «وأما النساء فمقطوع أشفر فروجهن، وإنه يلتحم حتى يشق عنه للمتزوج»، وهو الختان الذي ما يزال ساريا في قرانا المصرية خاصة الصعيد الأعلى، حتى اليوم. كما أن كثيرا من القبائل والبطون العربية قبل الإسلام كانت دائمة الهجرة إلى مصر عن طريق شبه جزيرة سيناء وبرزخ السويس، مواصلة صعودها إلى الجنوب؛ فالصلات بين شمال الوادي وجنوبه كانت دائمة الحركة موثقة سواء من ناحية الجنس والسلالة، أو من الناحية الثقافية التقليدية، أو من ناحية التراث الإبداعي الجماعي الشعبي، وسواء على طول عصور مصر الفرعونية، أو البطلمية والرومانية والقبطية والإسلامية وأخيرا المعاصرة أو الحديثة؛ منها مثلا توقيت قيام الثورة العرابية في مصر عام 1881 ونظيرتها الدعوة المهدية في السودان في نفس السنة ... وهكذا. ~~••• # وقبل الانتقال والتعرض للموضوع الذي نحن بصدده، أود أن أشير إلى النقص الكبير الذي تعانيه حركة دراسة الفولكلور والأساطير، وتخلفها المجدب الشديد ms107 في عالمنا العربي، وهو التراث الذي يحفظ له العالم أجمع ثراءه الهائل والذي لا تدانيه أصالة تراث أية منطقة من مناطق حضارات وتراث العالم القديم، هذا على الرغم من الصعوبات والمشاكل التي تحبط وتعثر المتصدي لدراسته نظرا لتعدد المصادر وكثرتها وتداخلها وتجدد النزاع القبلي على ملكيتها، من ذلك مثلا أنه كان في الجزيرة العربية واليمن والشام وفلسطين آلاف مؤلفة من تراث القبائل والملل والنحل حتى الفترة المتأخرة التي لا تتعدى القرون الستة بين المسيحية والإسلامية. # ومن ذلك أيضا متاخمة الشرق الأدنى لحضارتين مبكرتين هما الهند وفارس اللتين واصلتا تسريب تراثيهما إليه بشكل مخصب متواصل؛ مما دفع ببعض دارسي هذا العلم إلى اعتبار تراث الشرق الأدنى القديم، وبرغم ثرائه وعراقته «تراثا غير مكتمل الشخصية». # وحتى فترة قريبة، هناك شبه إجماع من جانب جيل الفولكلوريين الأكاديميين والمستشرقين، منهم: بنفي، ونولدكه، والبارون دي ساسي، وكيث فالكونر؛ على القول بأنهم - أي الأوروبيون - تعرفوا على قصة نبع التراث الأوروبي في الهند، وكان من نتيجة هذا مثابرة طويلة على جمع ودراسة لاهوت وأساطير وحكايات وخرافات وفوازير الهند. # ونشبت معارك طويلة حول ما قال به المستشرق تيودور بنفي، وعالما الفولكلور والأساطير الفنلنديان آرني وكارل كرون؛ «من أن أصول حكايات وخرافات كل العالم مصدرها الهند» ... وطبعا لقيت هذه النظرية معارضة شديدة خصوصا من بعض أصحاب ما يعرف بالمنهج المقارن للبحث والتقصي عن المصادر الأولى الأم للمأثورات الشعبية، مثل مانهارت ويوسف بدييه وثومبسون. # فيرى ثومبسون أن دور الشرق الأدنى تتعاظم أهميته في السنوات الأخيرة؛ نظرا لكونه المعبر الأساسي الذي عن طريقه تسربت كل الكلاسيكيات الهندية من الشرق إلى الغرب، ويمكن التعرف على ما اعترى التراث الهندي من تغيرات وإضافات، خلال الزمان والمكان، مثل «البانشاتانترا»؛ أي الأسفار أو الكتب الخمسة وما طرأ عليها من تغيرات وتحولات، وهي تأخذ طريقها من الهند إلى الفرس والعرب والسريانيين العبريين اليونانيين، إلى أن وصلت سريانها في تراث وآداب الشعوب اللاتينية في العصور الوسطى، وينطبق هذا على «الجاتاكا» أو الحكم السبع، ومرادفاتها في محيط القصة ms108. # ويضيف الأستاذ ثومبسون: هذا إلى جانب القيمة العظيمة لتراث الشرق الأدنى الفولكلوري في حد ذاته المدون والشفاهي «وحيث تروى الحكايات الشعبية، بشكل دائم، كجزء من النشاط اليومي المتواصل للأسواق والبازارات». # كما أن على رأس مصاعب وتعثر التصدي لدراسة تراث الشرق الأدنى بأساطيره وفولكلوره؛ تقف صعوبات؛ أولها: ندرة الحصول على موارده المتواترة، بما يحقق تراكم أكبر كمية كافية أو ممكنة، قابلة للمقارنة من أنماط الحكاية أو الملحمة أو السيرة أو العادة الطقسية محل البحث. # لذا فإن محاولات الدراسين تعد إلى الآن محاولات شبه عقيمة، والأكثر عقما وأخطارا هو عدم تخطي المحاولة الجادة للتعرف على أنفسنا وأصول شعوبنا ومكوناتها وخباياها، عن طريق هذه العلوم الشابة التي حققت الكثير، أخصها زرع واستنبات فضيلة التسامح. ~~••• # وإذا ما عدنا إلى موضوعنا الخاص بمجموعة الحكايات والأحدوثات السودانية التي تنبه لأهمية جمعها من بعض مناطق السودان د. مراد كامل، وما يطابقها في حواديتنا المصرية، أسجل أن هذه المحاولة الدراسية هي أيضا غير مكتملة؛ نظرا لقلة النصوص المتعددة للجزئية الواحدة، وحتى يمكن التوصل إلى نتائج أكثر دقة، وسأضرب مثالا لتوضيح أهمية التشدد على تعداد مرادفات المادة أو الحكاية أو الملحمة موضوع البحث، والمثال هو الجمعية الأدبية الفنلندية التي أنشئت في هلسنكي عام 1831، والتي تعد أقدم جمعية فولكلورية في العالم؛ فعندما احتفلت هذه الجمعية بالعيد المئوي لنشر إحدى ملاحمهم القومية عام 1935، وهي ملحمة «كلافالا»، وصل عدد التسجيلات والتدوينات من متنوعات هذه الملحمة من كل أنحاء إسكندينافيا إلى ألف تسجيل فولكلوري ... # وكان أن بدأت بعد ذلك مرحلة الدراسة العلمية اليقينية لهذه الملحمة. # وإذا ما بدأنا بتناول واحدة من هذه الحواديت أو الحكايات السودانية، التي جمعها د. مراد كامل، ونظيرتها الشفاهية المصرية، وهي حدوتة تدور حول ملك واسع الجاه والثراء تحفظ له الذاكرة الشعبية في كلا النصين المصري والسوداني واسمه «الملك الأسد». وفي تقديري أن ما بقي من حكايات وحواديت الملك الأسد هذا يشير إلى أنها بقايا سيرة، تدور حول حياة هذا الملك، مثلها في هذا مثل الحكايات المتبقية من البقايا ms109 الشفهية لسير الملك معروف، وسيف بن ذي يزن، وحسان الغالبة؛ والملك الشاطر حجازي ووزيره البين ... وسير التباعنة ملوك اليمن، في حكاياتنا المصرية. # وملخص الحكاية السودانية عن الملك الأسد هو أنه اشترى حمولة عشرين سفينة من «الزباد» - أو العصفر في الحدوتة المصرية - وطلى به جدران قصره؛ ليطيب أريجه وينشر رائحته الزكية في أرجائه، وكان هذا الفعل الذي أقدم عليه الملك الأسد بمثابة زلته أو سقطته، التي بمقتضاها زالت عنه نعمته وذهب جاهه؛ فأصبح «خاوي الوفاض لا ينضم مقره على شيء مما حوى، فقد ابتلع اليم سفنه بما تحمل، وانطوت رمال الصحراء على قافلته بذهبها وأحجارها الكريمة، وضاقت الدنيا في وجهه، وسدت أمامه السبل، واستحال الناس - شعبه - يكيلون له اللعنات بعد أن كانوا ألسنة حمد وثناء؛ فهجر الأهل والوطن، وأخذ يضرب في على غير هدى.» وكان أن عبر إلى مملكة أخرى، وعمل صبيا في حانوت حلاق، يعمل ليعيش. # وتتوالى الحكاية، حتى يصل إلى حانوت الحلاق ابن الملك الذي كان قد سبق أن شهد مجده وثراءه، حين باع له الزبد أو العصفر، فرآه وقد بالت عليه حمارته، فعرفه ابن الملك، ودفع لصاحب الحانوت دينه وأخذه إلى قصره، وساعده بعد ذلك في استعادة سلطانه ومجده، إلى أن عاد «ذابل الأمس في يده يانعا، ويابسه مخضرا»، وهكذا ينتهي النص السوداني. # ولقد جمعت من حواديت الملك الأسد أربعة نصوص، منها هذا النص المصري الذي يبدأ هكذا: # كان الملك الأسد أغنى ملك في الدنيا، ومكنش فيه في مملكته لا بيع ولا شرا ولا مقايضة، واللي محتاج حاجة ياخدها بالصلاة على النبي، لحد ما زار الهاتف في ليلة الملك الأسد في المنام وقاللو: يا ملك، الدنيا حاتزول عنك. # فترك مملكته، وركب حصانه، ومشى أرض الله لخلق الله، إلى أن صادفه في الطريق بحر غويط، نزل فيه الحصان عائما بالملك، وفي وسط البحر غطس الحصان والملك ممسكا بشعره، إلى أن غاب الحصان تماما في أعماق البحر، ولم يتبق منه سوى شعرتين في يد الملك، فقال: «لما تروح تقطع السلاسل ms110، لما تيجي تيجي على زبيبة.» # واستبدل الملك ملابسه بجلباب قديم - خيشة - كان يرتديها أحد الشحاتين، ونزل المدينة، والتحق بخدمة رجل فطاطري «يولع النار تحت صينية الفطير»، وهكذا إلى أن يصل الملك الذي كان قد سبق له أن باعه العصفر، فأخذ منه حماره ليربطه، فبال الحمار عليه، فقال الملك: «أقبلت - أي الدنيا - لما باض الحمام على الوتد، وأدبرت لما شخ الحمار على الملك الأسد.» # وتتطابق نهاية الحكايات الأربع المصرية مع الحكايات السودانية في رجوع ملك الملك الأسد إليه مرة أخرى، بعد أن أوفى مكتوبه أو قدره أو وعده، الذي هو عقابه في ذات الوقت - مثلما حدث لأيوب - حينما استهجن «النعمة» التي هي الزبد أو المر أو الصفر: أقدس مقدسات المعبد المصري - والسوداني - والذي كان يجلب من بلاد بنط، عبر السودان إلى مصر، منذ فجر التاريخ. # وإذا ما تناولنا حكاية ثانية، أوردها د. مراد كامل من السوباط، وهي حكاية «شيخ الأسود»، وموجزها: # أن رجلا هرب من مدينته بعد أن قتل الملك أخاه وابنه واستولى على أملاكه، وعاش الرجل في الغابة وأصبح حطابا، وكان في هذه الغابة أسد وفأر، وكان الفأر يميل إلى معاكسة الأسد، فقال له الأسد يوما: «كيف تجرؤ على معاكستي وأنا أقوى المخلوقات؟» فأجابه الفأر بأن القوي هو الذكي «فأنا أقوى منك بذكائي، وأقوى مني ومنك الإنسان.» # وبينما الأسد يواصل احتداده مدافعا عن أنه أقوى المخلوقات، جاء - الإنسان - الحطاب، قفز إليه الأسد قائلا: «أيها الإنسان، هل لك في مصارعتي لنرى من منا الأقوى؟» # فقال الحطاب: «هذا حسن، ولكني تركت قوتي في البيت، فانتظرني إلى الغد، حتى أحضر قوتي.» # وبهذه الحيلة التي ستكون موضوع بحثنا، نجا الحطاب من الأسد؛ نظرا لأن بقية الحكاية دخيل على هذه الجزئية الهامة، التي هي في الأصل حكاية حيوان متطابقة مع نظيراتها المصرية، بل إن البعض يعتبرها أشهر حكاية حيوان من فولكلور شعوب كل العالم. # ويكتمل الجانب - الاستطرادي - في الحكاية السودانية، بسلسلة من الحيل المتوالية، التي يهزم بها الإنسان - الحطاب - الأسد، ويخضعه لسيطرته، بل هو يتمكن ms111 في النهاية من ترويض كل أسود الغابة، وبهذا يصبح شيخ الأسود، ويتمكن في النهاية من الانتقام لما لحقه من جور الملك الظالم، الذي كان قد قتل أخاه وابنه وشرده من البلاد. # ومثل هذا الاستطراد دخيل تماما على الجزئية السابقة، التي هي في حد ذاتها حكاية مكتملة، وكما يرى عالم الفولكلور، الأستاذ لويس جنزبرج: «أن القصص الاستطرادية المتعرجة الأحداث، جديدة تماما ودخيلة على الفولكلور الأوروبي المبكر، وفولكلور الشرق الأدنى عامة.» # والنص الشفاهي المصري لهذه الحكاية أكثر تحديدا وأصالة؛ لذا سأورده كاملا، كما حققته من ستة مصادر مختلفة، أكملها نص سمعته من مصدر بجوار بحيرة قارون بالفيوم باسم «الديب والتمساح»، وهذا هو النص: # ديب مصاحب تمساح، ومتعود يزوره كل يوم، يروحلو على شط بركة قارون، وينط على ظهره # 1 # والتمساح يفسحه على وش الركة، وبعد كده يرجعه على الشط آخر النهار. # مرات التمساح - وليفته - زعلت واتقهرت وغارت من الديب. # وفي ليلة عملت عيانة، ولما جاء التمساح يسألها: عيانة بإيه؟ قالتلو: الحكيم قللي دواكي على قلب ديب. # التمساح قاللها: بسيطة؛ الديب صاحبي، وبكره الصبح حايجيني وأجيبلك قلبه. # وتاني يوم الصبح، لما الديب جا يزور التمساح، نط ركب على ضهره زي عوايده، التمساح جابو في وسط البحر، وحكالو حكاية مراته، فالديب قاللو: «لا مؤاخذة يا تمساح، أنا النهاردة سايب قلبي في البيت، رجعني تاني للبر، وأنا أروح أجيبلك قلبي من البيت وآجي حالا.» # التمساح رجع الديب على البر، والديب أول ما حط رجله على البر فطس على روحه من الضحك، ولما التمساح سأله: «بتضحك ليه؟» # الديب قاللو: بضحك عليك؛ عليل ما دويت، وصاحب ما بقيت. # والاختلافات بين النصين السوداني والمصري لهذه الحكاية هي مجرد متنوعات أو اشتقاقات مرجعها التواتر الشفاهي الذي يعتري التراث غير المدون عامة، أما النص الأم المدون لنمط هذه الحكاية فيرجع إلى أكثر من ألفي عام. # وسأورد هنا النص العربي لهذه الحكاية، والذي يعد أقدم نص مدون، كما يجمع على هذا ثلاثة من كبار علماء الفولكلور، هم: د. موسى جاستر، الذي أورد ms112 هذا النص العربي في كتابه «قصص الطيور والحيوانات»، والبروفسور لويس جنزبرج، وبازل ف. ~~ كرتلي ، وملخص النص العربي المدون كما يلي: # ما إن انتهى الله من خلق العالم، حتى أمر - عزرائيل - ملك الموت، أن يلقي في البحر بمجموعة متنافرة من الحيوانات لكي يعيش كل حيوان مع ما يخالفه من حيوانات. # وتمكن الثعلب بمكره ودهائه من الإفلات من قبضة ملك الموت، وحتى لا يلقي به في البحر. # وفي نهاية العام، أحصى الحوت «ملك البحر» جميع حيواناته، لكنه افتقد الثعلب، فأرسل الحوت برسله من سمك البحر لإحضار الثعلب، وكان قد سمع بمكره وشدة دهائه، فرغب في أن يحصل على قلبه ويلتهمه؛ حتى يصبح له ما يمتاز به الثعلب من حنكة ودهاء. # وعندما وصلت الأسماك، رسل الحوت إلى الشاطئ، والتقت بالثعلب، احتالت بدورها عليه، فقالوا له إن الحوت ملك البحر قد مات، وإنهم جاءوه لينصبوه ملكا عليهم عوضا عنه، وكان أن امتطى الثعلب ظهر إحدى الأسماك، لكنه وبعد أن غوطت به الأسماك داخل البحر، خاف وتشكك في الأمر، ولما طلب منهم إيضاحا لحقيقة ما يحدث، أخبرته إحدى الأسماك بحقد الحوت عليه؛ نظرا لما يتمتع به من دهاء وسعة حيلة؛ لذا رغب في التهام قلبه، ليصبح وريثه في الدهاء. # هنا أجاب الثعلب للأسماك، بأنه كان من واجبهم تذكيره وهو على الشط لكي يحضر معه قلبه؛ نظرا لأن من عادة الثعالب أن تترك قلوبها في منازلها قبل الخروج إلى الخلاء. # وكان أن أعادته الأسماك إلى الشاطئ، لكي يسرع ويحضر قلبه، لكن ما إن وضع الثعلب قدمه على البر، حتى سخر من غباء الأسماك التي تعتقد أن مخلوقا بدون قلب يمكن أن يعيش. # وكان أن فتك الحوت برسله من الأسماك الأغبياء، والتهم قلوبهم. # ولقد عكف اثنان من كبار علماء الفولكلور، هما د. موسى جاستر ود. جنزبرج، على دراسة هذه الحكاية أو الفابيولا؛ للتعرف على مصدرها المدون الأم، ونظرا لأنها تعد من أوسع حكايات الحيوان في شفاهيات كل العالم؛ إذ تمتد متنوعاتها الشفاهية المتواترة من قرى زانزبار حتى ms113 موسكو، سوى أن اختلافات طفيفة تعتريها، في كوريا واليابان والفليبين والملايو وأندونيسيا. # واتفق الباحثان على أن النص العربي الذي نقله اليهود إلى العبرية، وأورده أحد كتابهم وهو ابن سيرا، في إحدى موسوعاته عن الحكايات الشعبية، وتعرف بألفيه «ابن سيرا». # واتفق الباحثان على أن النص مستمد بدوره من منابعه الهندية، وبالتحديد من حكاية «القرد والتمساح» التي يمكن أن تتبعها في كتاب «كليلة ودمنة» تحت اسم «القرد والسلحفاة البرية»، كما أمكن التعرف على ثلاثة متنوعات لنفس الحكاية في «الجاتاكا» التي يعتبرها البعض الأصل الذي انحدرت منه «كليلة ودمنة»، والتي تحوي أقدم المدونات الفلولكلورية التي تسري في شفاهيات كل العالم، ومن المعتقد أن «الجاتاكا» دونت للمرة الأولى في شمال الهند، قبل عصر الملك «أسوكا» - 270ق.م - وامتصت هذه الشرائع الشفهية أو «الجاتاكا» أغلب الجسد الفولكلوري للهند، ومع انتشار البوذية خارج الهند سرت الجاتاكا وبها حكاية القرد والتمساح، والتي يستبدل فيها الديب محل القرد في النص الشفهي المصري الذي أوردته، والصياد أو الإنسان في نظيريهما النص السوداني الذي أورده د. مراد كامل. # ويحتفي دارسو الفولكلور بحكايات الحيوانات والطيور والنباتات والزواحف، احتفاء خاصا، هذا على الرغم من إيجازها الشديد، بل وواقعيتها الشارحة المحددة، وهناك من يرى أن حكايات الحيوان هي بداية الأساطير، وأنها أكثر قدما وبدائية منها؛ إذ إنها وعاء لشرح وتقديم الأفكار والمعتقدات، أي إن أكثر هذه المعتقدات، كان يتجسد في شكل حيوانات وطيور، «فالإله زيوس كان نسرا، والإلهة أثينا كانت بومة، وهيرا كانت بقرة، والإله النوردي نور كان طائر جنة صغير، والإله تير كان ذئبا، مثله في هذا الإله الروماني مارس، وضريبه السيتي ديناتر.» # كما أن هناك شبه إجماع من جانب دارسي الفولكلور على أن قصص الحيوان الشارحة، هي المصدر الأم أو الأصل التي منها انحدرت الخرافات. # وقصص الحيوان الشارحة، هي تلك القصص التي فسر بمقتضاها الأقدمون الفرق بين حيوان وآخر، بين طبيعة ولون وخصائص الذئب عن الحمل، ولون الحمامة الأبيض المخالف للون الغراب الأسود، كذلك التفسيرات الغيبية التي فسر بها البدائيون السبب ms114 أو السر في بريق عيون القطط في الظلام، واستطالت أذنا الأرنب والحمار ... إلخ. # وفي واحدة من هذه الحكايات السودانية، التي موطنها النيل الأبيض، تكشف لنا الحكاية كيف أن الدنكا لا يضربون الكلاب؛ اعتقادا منهم أن الكلب هو أول من جاء بالنار لقبيلة الدنكا؛ فلقد «عاش الدنكا حقبة طويلة لا يعرفون النار، وكان الرجل منهم إذا صاد سمكة قطعها قطعا ووضعها في ماعون وتركه تحت وهج الشمس». # وفي حكاية شارحة أخرى من - الشلوك - عن البقرة والكلب، موجزها أن البقرة خلقت في السماء ووقعت على الأرض فتكسرت أسنانها، ولما رآها الكلب، أغرق في الضحك حتى انفتق شدقاه وبلغا أذنيه، وظل على هذا الحال حتى اليوم. # وما من حيوان أو طائر أو نبات لم تصاحبه مجموعة حكايات، تحدد أوصافه وأخص معالمه وتحيطه بتفسير عصور ما قبل العلم، كما هو واضح في هذه المجموعة من الحكايات السودانية المصرية. # الفصل التاسع # | الذاكرة الفولكلورية # مجموعة خبرات بسيطة لكنها ملفتة إلى أقصى حد، تتصل بالذاكرة الشعبية الجماعية، أو الذاكرة الفولكلورية، لمستها بنفسي وأنا أواصل جمع شفاهيات منطقة الفيوم وبني سويف وبعض قرى المنيا والجيزة، جعلتني في النهاية أعتقد إلى حد كبير في الذاكرة الشعبية كعملية - جدلية - عقلية، تتكامل فيها عقول أجيال طولا وعرضا أو زمانا ومكانا. # ومن هذا المدخل يمكن القول بأن لا شيء مفتقد، بل إن المفتقد - تاريخيا أو أركيولوجيا - يمكن استجلاؤه والتحقق منه عن طريق الذاكرة الشعبية، عن طريق دأب البحث في جمع المواد الفولكلورية أو متنوعات وعينات وعبارات الأيتم أو النمط الواحد موضوع البحث. # وإذا كان من الصعب علينا اليوم في أيامنا هذه تقبل حقيقة أن بلداننا العربية مصابة بأعلى معدلات للأمية على رقعة العالم أجمع، فلنا أن نتصور ما كانته أيام الجاهلية الأولى والثانية - 3 آلاف عام ق.م - ومن هنا كان الانتشار الشديد «لعادة أو شعيرة» الحفظ والتحفيظ والاعتماد على الذاكرة، الذي لم يتوقف إلى اليوم في مناهجنا الكتاتيبية المتوارثة، ولا يقتصر الأمر على حفظ وتحفيظ النصوص الأنيزمية أو الدينية - رغم انتشار الترانزستور ms115 - بل الشعر وبقية الشعائر من قديم وحديث، فولكلوري وتقليدي، فحتى الأحاجي والفوازير والحذور لها مكانها ومخزونها داخل الذاكرة الشعبية، سواء في شفاهياتنا العربية أو السامية وبالطبع عند مختلف الشعوب. # وتحفظ الذاكرة الشعبية مقوماتها الأولى المنحدرة من طفولتها الطوطمية والأنيزمية القديمة مثل حزن زهر البنفسج، زهر الإله الممزق أدونيس الذي اغتالته حيتان البراري، ومثل نهيق الحمار # 1 ~~- ستخ أو طيفون - الذي بسببه أصبح لها شريرا متجبرا، ومثل رأس الحية الذي هو مكمن - كل - الخطايا إلى اليوم، وهو المفهوم المنحدر من أساطير الخلق الأولى - للعالم والإنسان - والمصاحب للطرد من الفردوس المفقود، والموحد بين الحية والشيطان، ومثل ما يدور ويتواتر إلى اليوم، حول عيون القطط والخفافيش، وبطء السلحفاة البرية، وصدفة الجعران في الطبيعة، التي من خصائصها أن تبيض فيها جعارين جديدة، ومنها تنبت جعارين أو حياة جديدة؛ أي إن من الموت تنبت حياة، ولعله أقدم تفسير عن الموت ومعاودة الحياة أو القيامة، كما تشير د. مرجريت موري. # وقد يكون هناك ثمة علاقة بين ألوان الطيور والحيوانات المشئومة، وبين الألوان الحزينة المشئومة بدورها، مثل الغراب - الأسود - النوحي، والسواد أو الحزن والليالي السوداء، وبالطبع يشمل هذا العلاقة بين ألواننا عن الفرح والآمال، # 2 # وهو الأبيض، وعلاقته أيضا بالحمامة النوحية، وبمعنى أصح الجلجاميشية، بعد أن أطلقها نوح أو كبير الآلهة البابلية أو تونبشتم حين عادت إليه في المساء وذا ورقة زيتون خضراء في فمها. # ويبرز «طوطم» الحمامة ودلالتها عند الساميين بشكل ملفت جدا؛ فتسمية راحيل أو راشيل - أم النبي يوسف - هو كاهنة الحمام، ومنه تواتر إلى تسمية إسرائيل. # ومن اسم الحمام تسمت الملكات السوريات الآشوريات: سميراميس، وسميرام، وسميرنا. # وقد لا ننسى الحمام في تراثنا العربي، وتحولات أبطال الخوارق والملاحم إلى الحمام. # كما قد لا ننسى حمامة الأيك، كطوطم إسلامي شامل ومغرق في القدم، وهو ما سنتعرض له في حينه. # وكما يقول الأستاذ تومبسون، فإن الأمر بالنسبة لذاكرة شعوبنا - السامية الشرقية - الفولكلورية، يمكن أن يطلعنا على الكثير من فيض النتائج الدقيقة، خاصة وأن رواة التراث وحفظته من حكواتية ورواة ms116 سير ومداحين، وشعراء جوالون - تروبادوز - ما يزالون إلى اليوم يملئون حياتنا وتزدحم بهم أسواقنا وموالدنا ، وتعج ذاكرتهم بالكثير، الذي يخالط التاريخ فيه الأساطير، والعكس صحيح. # وعلى سبيل المثال، فلنا أن نتصور أن عمر الانتقال إلى مرحلة الإعلام الإلكتروني - الراديو - لم يتعد حلقة واحدة أو نصف قرن، وقبلها كانت الغلبة للنص الشفاهي وذيوعه عن طريق أدواته، وهم الحكواتية ورواة السير والملاحم وفنانو الأفصال أو الفصول المضحكة أو ما أطلق عليهم د. لويس عوض بمسرح الفلاحين. # 3 # ومن هنا ففي الإمكان التحقق من الكثير من تراثنا الحفري الفولكلوري مثل افتراض العثور على مجموعات الحكاية المصرية التي ترجمت من البرديات التي عثر عليها في مصر د. فلاند روزيتري وغيره من الحفريين، وأعيد نشرها في الفرنسية عدة مرات، منذ أن نشرها للمرة الأولى ماسبيرو تحت اسم «حكايات شعبية فرعونية»، وظهر الكثير منها في الإنكليزية باسم «تسجيلات من الماضي»، كما نشر أيرمان مجلدين منها، كذلك أسهم في ترجمتها ودراستها علماء المصريات «جودوين، وشاباس، وإيبروس». # ولعل أكثر المغالين أو المبالغين في قيمة هذه الحكايات المصرية هو إيرمان الذي أرجعها للأسرات المصرية الأولى، بل أرجع بعضها إلى ما قبل التاريخ، رغم أن بيتري يأخذ عليه أن ترجمته لهذه الحكايات جاءت أدبية وصفية، مستخدما في إعادة صياغتها «الألف باء» الحديثة سواء في الهيروغليفية أو الألمانية الحديثة، ومن هنا فقد تجنت ترجمة إيرمان المتحررة على الكثير من قيمها الفولكلورية. # وسجل بيتري في الجزئين اللذين نشرهما عن حكاياتنا المصرية الفرعونية مجموعة ملاحظات بسيطة، منها إفاضة الحكايات المصرية في الأعاجيب أو الملاعيب التي تذكرنا بملاعب شيحا، وعلي الزيبق، وبعض سير آباء الكنيسة القبطية التي يعج بها تاريخها - السينكار - والتي ما تزال تتبدا إلى اليوم أكثر وضوحا في حكايات الشطار، وهو ما أسماه بالينوفسكي بالفنتازيا المصرية. # كما سجل بيتري مدى خوف المصري القديم الدائم من أخطار البلاد الأجنبية، خاصة الآسيويين، وأقربهم العرب والعبريون الساميون بالطبع من جانب، والليبيون والكوشيون النوبيون من الجانب الآخر. # كذلك تنبه بيتري إلى غياب وتدهور ملامح الشخصية المصرية في ms117 العصر المتأخر، بدءا من الدولة الوسطى؛ ولهذا يقول: «لهؤلاء الذين يتصورون أن هناك تشابها أو تماثلا يطبع كل مصر في أحقابها المختلفة، وهو ما لا تؤكده وتقطع به الحكايات المصرية؛ ذلك أن التغير من فترة أو عصر زمني لآخر يبدو جليا فيها.» # فحكايات السحر والخوارق مثلا بدأت تكثر جدا، بدءا من الأسرة الثانية عشرة، وكذلك الإكثار من المعتقدات الغيبية والقدرية مثل قصة الأمير القدري، # 4 # التي ترجع إلى الأسرة الثامنة عشرة، والتي يمكن القول بأنها ما تزال تعيش بحذافيرها على الشفاه، محفوظة بكاملها في الذاكرة الشعبية المصرية، وقد جمعت لها عدة أشكال أو تنويعات سوف أنشرها في الجزء الثاني من كتاب أو مدخل أساطير وفولكلور العالم العربي، في محاولة عمل دراسة حقلية على النصوص التي توصلت إلى جمعها منذ عام 1949. # ويمكن للقارئ تذكر هذه الحكايات الفولكلورية الفرعونية أو تذكر بعض وحداتها أو تضميناتها، إذا ما حاولنا سردها تبعا لترجمة بيتري لها من الهيروغليفية، وهذه هي الحكاية: # كان يوجد ملك لا يولد له أبناء، فتمنى من الآلهة أن ترزقه طفلا، واستجابت الآلهة أن تهبه طفلا، لكن ما إن استوفت زوجة الملك أيام حملها، وفي ليلة الولادة، جاءت الهاتورات # Hothors # وتنبأت له: سيموت ابن الملك إما بسبب التمساح، أو الحية، أو الكلب. # وما إن أخبر الشعب مليكه بالنبوءة، حتى بنى له قصرا معزولا تحت الأرض، وحواه بما يحتاجه، على أن لا يبرح الطفل بوابات القصر أبدا. # وذات يوم صعد الولد إلى سطح قصره، فرأى كلبا يسير خلف رجل، فسأل معلمه: # 5 # ما هذا؟ # أجابه المعلم: هذا كلب. # قال ابن الملك: أريد كلبا مثله. # فأحضروا له كلبا، وكتب الابن إلى أبيه رسالة أخبره فيها أنه يريد الخروج من قصره والتجول في الأرض مع كلبه الوفي، ولتفعل الآلهة ما تريد. # وترك القصر بصحبة كلبه، وسافر إلى بلاد بدلام # 6 # الذي لم يكن له سوى ابنة وحيدة، بنى لها قصرا شاهقا، به سبعون شباكا على ارتفاع سبعين ذراعا من الأرض. # وطلب ملك نهرينا - بلاد ما بين النهرين - أنه لن ms118 يزوج ابنته إلا لمن يستطيع الوصول إلى شباكها العالي. # وحاول ابن الملك مع بقية الشباب المتجمهرين حول قصر الأميرة ابنة الملك الوصول إلى شباكها، وعندما سألوه من أين أتى، قال لهم: أنا ابن ملك أرض بر - مصر - ماتت أمي، وتزوج أبي بأخرى، وعندما ولدت له طفلا، كرهتني زوجة أبي وعذبتني، فاضطررت للفرار من وجهها. # وعندما استمعوا لحكايته المحزنة، احتضنوه وقبلوه. # وحاول الولد معهم أياما الوصول إلى شباك الأميرة، إلى أن نجح في الوصول إليها وتقبيلها. # وعندما ذهب الشبان، فأخبروا الملك، اغتاظ قائلا: «هل حقا سأعطي ابنتي الوحيدة، للاجئ مصري؟» # وحين حاول الملك استدعاء الولد، لم تدعه الأميرة يذهب، وهددت بأنها لن تأكل وتشرب إلى أن تموت، لو أنهم أخذوا حبيبها بالقوة. # وحين أخبروا الملك بكلام الأميرة، وأصر الملك في طلبه، هددت الأميرة بأنها ستموت قبل غروب الشمس. # لكنهم أخذوا ابن الملك بالقوة إلى ملك نهرينا، الذي سأله وعلم منه أنه ابن سيد مصر، فوافق الملك وزوجه ابنته. # وذات يوم أخبر ابن الملك زوجته قائلا: «اعلمي يا حبيبتي أنني مقضي علي بالموت بثلاثة أقدار: التمساح أو الحية أو الكلب.» # فأمرت الأميرة بقتل الكلاب، واصطياد جميع تماسيح البحيرة. # وذات ليلة، نام ابن الملك، وجاءت زوجته الأميرة بإناء اللبن ووضعته إلى جواره، ونامت إلى جانبه، فجاءت الحية من جحرها لتعض ابن الملك، لكن الخدم أسرعوا فقدموا إناء اللبن إلى الحية فشربته عائدة إلى جحرها. # إلى أن كان يوم، نزل فيه الأمير الزوج ليستحم في النهر، فجاءه التمساح قائلا: «أنا هو قدرك، أتبعك أينما سرت.» وابتلعه التمساح. # وكما هو واضح يمكن للقارئ تذكر بعض تضمينات هذه الحكاية المصرية التي ترجع إلى الأسرة 18، إن لم يكن تذكرها بكاملها. # ولقد قطعت هذه الحكاية شوطا كبيرا على رقعة معظم العالم، لو حاولنا التعرض لها بالدراسة؛ كيف أنها دخلت البوذية، وارتبطت ببوذا ومعلمه برلام، ومن الهند هاجرت إلى معظم الرقعة الآرية أو الهندوأوروبية؛ فصاحبت الإسكندر، والخضر، وذي القرنين، ولقمان الحكيم، وملاعيب أحبقار السنسكريتية، وفي المسيحية تبدت في قصة ms119 «الملاك والمسيحي القديم» الشهيرة خاصة في فولكلورنا القبطي المصري. # وليس هذا هو موضوعنا، بقدر ما إن موضوعنا هو مدى احتفاظ ذاكرتنا الفولكلورية لأقدم مدوناتها الفرعونية الفولكلورية، أو مدى ما طرأ عليها من إضافات أو العكس. # من ذلك حكاية «أنبو وباتا» أو قصة الأخوين، التي ترجمها أيضا د. بيتري، وترجع إلى الأسرة 18، وملخصها: تآمر زوجة الأخ الأكبر باتا، على شقيقه الأصغر، وادعائها بأنه راودها عن نفسها أثناء غياب الزوج، مثلما فعلت زليخة مع يوسف الصديق فيما بعد، وكذا فيدرا مع ابن زوجها، فكان أن طارد الأخ الأكبر أخاه الأصغر، الذي كان له ميزة أو خارقة محادثة الحيوانات والطبيعة، فكانت الحيوانات تحذره في الحقل، عندما أراد الأخ الأكبر قتله بالسكين المشرعة المسنونة، فتقول له البقرة: «احذر فإن أخاك الأكبر يقف أمامك ينتظرك بسكينه الحاد ليذبحك.» # وعندما دلف إلى داخل الحظيرة، ورأى أخاه، اندفع جاريا بأقصى سرعة وسط البراري، وتبعه الأخ الأكبر، فصرخ الأصغر متضرعا إلى رع حارختي: «سيدي الإله، يا من تملك قدرة عزل الشر عن الخير.» # فسمع لشكاته رع، جاعلا بينهما بحرا عميقا ضاريا، عازلا أصغرهما عن أكبرهما، مملوءة مياهه بالتماسيح الضواري. # ولعلها أيضا نفس تضمينة أو خارقة عزل موسى وقومه عن فرعون وجنوده، التي ارتبطت ببرزخ السويس حين الخروج. # وعاد الأخ الأصغر يصرخ متضرعا لرع حارختي، قائلا لأخيه: «أتتعقبني لتذبحني بسكينك المخدوع، ولو حدث لكانت جريمة شنيعة، جريمة قتل الأخ!» # وطبعا يذكرنا هذا بأول جرائم قتل الأخ لأخيه، التي يقال إنها وقعت بأرض دمشق، حين قال الرب لقابيل القاتل: «والآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دماء أخيك من يدك»، كما يقال بأن سببها أيضا الصراع على امرأة. # وحين لحق الأخ الأكبر بأخيه، استل سكينة وراح يقطع من جسده ملقيا بلحمه للسمك والتماسيح، إلى أن اختفى تماما، مخبرا أخيه بأنه ذاهب إلى وادي زهور شجرة السنط، حيث سيعاود الحياة هناك في زهور الأكاكيا، وإذا ما أراد أخاه الأكبر أن يستدعيه، فعليه أن ينتظر سبع سنوات. # وذهب الأخ الأصغر ms120 ليعاود الحياة في وادي شجر السنط، التي نام تحتها ذات مرة، فالتقى بالآلهة التسعة - التاسوع - التي تشاورت في شأنه إلى أن استقر رأيها أخيرا على أن تهبه زوجة جميلة، فصنع له الإله أو هانوما زوجة رقيقة ناعمة، إلا أن الهاتورات السبعة، تنبأن له عندما رأينها بأنها «ستموت موتة بشعة». # ويلاحظ أن كثيرا من أحداث أو تضمينات قصة الأخوين هذه قد تواترت وهاجرت إلى عديد من الحكايات والأساطير الفولكلورية السامية من عربية وعبرية، كما يلاحظ أنها ما تزال تعيش إلى اليوم في حكاياتنا وخرافاتنا، مثل ست الحسن والجمال، ونعناعة، وبقية الحكايات الاستطرادية وأغاني الأطفال. # كذلك فمن بين الحكايات المصرية التي ما تزال تعيش متواترة على الشفاه، خاصة بعد أن واصلت هجرتها، والدخول تحت جلد الكثير من الملاحم والسير السامية، وهي الحكاية التي ترجع إلى الأسرة 21 وترجمت عن الديموطيقية باسم «حكاية أهورا» أو هاتور، عن ملك مصر المقدس رمسيس العظيم، الذي كان له ابن وحيد يدعى سيني تاخا، وكان على علم بالكتابات القديمة، وعندما سمع بأن كتاب السحر لتحوت، الذي يغني للسماء والأرض، ويحوي لغة الطيور والزواحف، وأن هذا الكتاب مخبأ داخل مقبرة ممفيس، ذهب الأمير مخاطرا للبحث عنه بصحبة أخيه، وعندما عثروا على مقبرة ابن ملك مصر السفلى فتحها الأمير ودخلها، فوجد في المقبرة ابن الملك ومعه روح زوجته أهورا، وكانا جالسين والكتاب بينهما يقرآن فيه، وحينما حاول أخذ الكتاب منهما رفضا، ثم انخرطت الزوجة أهورا تحكي له حكايتها. # فالبحث عن كتاب السحر لتحوت، يقابله بحث سيف بن ذي يزن عن كتاب النيل ومخاطراته الطويلة في سيرته المعروفة. # وأخيرا ففيما يختص بتراثنا المصري المعاش اليوم وعلاقته بسالفه الفرعوني، يمكن القول بأن معظمه ما يزال يواصل تواتره وتوالده، ومنه رائعة أدب الاحتجاج والثورية في تراث العالم أجمع، والتي ترجع إلى الدولة القديمة، أي منذ قرابة 6 آلاف عام، وهي قصة الفلاح الفصيح، التي صادفتني متنوعاتها في شفاهيات فلاحي الفيوم، وهي ذات موطنها الفعلي والحفري أو الكشفي. # ولو أن لدى الفولكلوريين المعاصرين معلومات كافية ms121، عن الملحمة التي أنشدها مصريو الدولة الوسطى في مواجهة الهكسوس الدخلاء، والتي عثر على بعض مقاطعها مدونة على ألواح تحفيظ الدروس للتلاميذ، وهو ما يزال متبعا إلى اليوم في كتابتنا، لأمكن التعرف عليها اليوم - ربما - تحت جلد سيرنا وملاحمنا، مثل الأميرة ذات الهمة، والظاهر بيبرس، وخضرة الشريفة، وهكذا. # وفيما يتصل بنصوص التوابيت والأهرامات، وكتاب الموتى، يمكن القول بأنها ما تزال محفوظة، في مواويلنا الحمراء، وبكائيات العديد على الميت، مثل: # مسيكي بالخير يا عود الأنا يا روحي # يا للي تيابك على الجسم يرد الروحي # بكرة آخد اسمي واسمك واكتبه في اللوحي # وأعلقه في الهوا الطاير لجل البكا والنوحي. # الفصل العاشر # | البناء القبلي ... والفولكلور # يتضح سلسال أو نسق القرابة خاصة في سيرنا وملاحمنا مثل ملحمة حسان اليماني أو الزير سالم، وعنترة، وسيف بن ذي يزن، وسيرة الهلالية. # فالقبيلة حين تتحرك للحرب والمنازلة، تتحرك حافظة بكل دقة لنسيجها القاربي، كفرع من الشعب، الذي هو بالتالي قبيلة سالفة مثل عدنان سكان شمال الجزيرة العربية، وقحطان سكان اليمن والجنوب، حين تحالفهما وهجرتهما بحثا عن الزرع والضرع من الجزيرة، إلى الشام ومصر والشمال الأفريقي في القرن الخامس الهجري، وهو ما أرخت له سيرة الهلالية. # فالقبيلة فرع من الشعب المتحالف - عدنان وقحطان - مثل قبائل ربيعة ومضر وعدنان، ومن القبيلة تنحدر العمارة أو البدنة. # والبدنة كما يعرفها الأستاذان إيفانز برتشاد وفورتس؛ وحدة دائمة تظل موجودة على مر الأجيال نتيجة لانضمام أفراد جدد إليها، أو تركهم لها بالموت أو أي سبب آخر، فالبدنة جماعة ترد انتسابها إلى جد واحد في خط واحد، ومنها يستمد الشخص مركزه السياسي والقانوني. # فيلاحظ أن نظام القرابة يهتم بدراسة العلاقات بين الجماعات القرابية كالبدنات وفروعها والعائلات الكبيرة؛ من حيث هي جماعات، بغض النظر عن القرابة الفعلية بين الأفراد. # وعلى سبيل المثال، فإن قريشا وكنانة ما هما إلا بدنتين من مضر. # ومن العمارة أو البدنة تجيء البطن، مثل بني عبد مناف من قريش، ومن البطن يجيء الفخذ، ومن الفخذ تجيء القبيلة، مثل بني العباس من ms122 هاشم أو الهاشميين وهكذا. # وإذا ما عدنا إلى الاستشهاد ببعض النماذج القرابية للهلالية، نجد أن العصب القبائلي الأم الممثل في صراعي عدنان وقحطان داخل التحالف، ينعكس على المستمعين الذين قد يتحمس العدنانيون منهم لخوارق أبي زيد الهلالي، والقحطانيون منهم للجد الزناتي خليفة، وابنته سعدى وابنة العلام. # بل إن السيرة تحفظ لقاتل الزناتي خليفة وهو قحطاني سلف بدوره، لهجرة يمنية سالفة - تابو - أن قاتله لا بد وأن يكون قحطاني مثله. # لذا كان قاتله هو دياب بن غانم، وهو القحطاني الذي لقبه الشعب المصري، نظرا لغدره وعصبيته ب «الزغبي»، ومنه تواتر مثل «هو أنت زغبي»؛ كما يقول د. عبد الحميد يونس. # كذلك يتضح في السيرة تقديس الخال عند القبائل العربية القمرية - الهلالية، مثل تقديس الشبان الثلاثة مرعي ويحيى ويونس لخالهم أبي زيد، ومثل تعرف كلا من سعدى ومي على خالتهم - الجدة - شوه، التي قد تكون طوطما أو مزارا سالفا، مثلها مثل الجازية، التي أتصور أنها كانت بمثابة إلهة قمرية، أو طوطم لمجموع القبائل المهاجرة المتحالفة. # كذلك يتضح مدى تقديس الخال المتواتر إلى اليوم المشاع بكثرة في الحواديت والشعر الشعبي مثل: # يا عم يا للي بلا خال # تعال أعملك خالي # وأحط قلبي السليم # على قلبك الخالي. # وكذا مسبة من لا خال له. # وهو ما تغرق فيه اليوم القبائل العبرية، السامية، التي انتهت في اليهودية، وتعريفها التشريعي الرسمي داخل إسرائيل إلى اليوم في تعريف اليهودي، وهو كل من يولد من أم - وليس أبا - يهودية. # وبحسب نظرية التوالد الذاتي للموضوعات التي كان تيلود أول من أشار إليها، وسماها بالمورثات أو الروحانيات أو الأنيمزم بمعنى إضفاء صفة الروحية على مظاهر الطبيعة المحيطة بالإنسان داخل مجتمعه، مثل تقديسه لأماكن بعينها، قد تكون أضرحة لطواطم، وقد تكون آبار ماء - راكدة - وقد تكون أشجارا وأحجارا ومغارات وكهوفا وقمم جبال، وما ارتبط حولها من أساطير وطقوس وتحريمات وحكايات، أو لنقل أساطير قديمة واصلت توالدها اليوم تحت جلد الحكايات والأحجية، ويحضرني منها آلاف مؤلفة نذكر على سبيل المثال موالا - من نوع ms123 الصد والرد - يطرح فيه قائله لغزا أسطوريا، أو قد تخالط الأسطورة التاريخ فيه؛ فيقول: # وإن كنت فنان وصاحب فن قوم هاتلي # أمارة عن أرض جت فيها الشمس مرة جات. # والمقصود مكان مسته الشمس ونفذت فيه أشعتها مرة واحدة، وهو يشير بالطبع إلى حدث خروج القبائل الإسرائيلية من مصر، حين ضرب موسى بعصاه فانشق البحر، وكان أن مست الشمس قاعه أو أرضه لمرة واحدة فقط. # كما أن منها مفاهيم وأمثلة وأحجية مثل: «الضربة الواحدة للرجل»، «ضربة الرجال ماتتناش»، و«الثالثة ثابتة»، وعلاقتها بأساطير خلق العالم، حين بعث الله برسله الثلاثة لإحضار طين العمق - اللازب أو الصلصال - لخلق الإنسان «يوم خلق الله الإنسان على شبه عمله» وكذا ما يدور حول مفاهيم أشهر الحمل التسع، وخلق حواء من ضلع الرجل، والسبب في حيض النساء - بالوجع تلدين أطفالا - وكذلك سيادة الرجل الذكر على الأنثى، والسبب في أن الكذب يسود الوجه، وكذا أفكار وتعويذات مثل: الخمسة وخميسة، العين الحاسدة، النفس الخالق، والعائن أو العيون أو النفس الخالق. # ومع استمرارية أبنية أو أنساق المجتمع، تظل هذه الظواهر والموروثات تواصل توالدها الذاتي، بنفس ما يحدث في الأساطير والملاحم والحكايات والأمثال، بل والنكت والأسماء والأحاجي، أو الخدور والأدعية، وجميع هذه الأبنية التي كانت المدرسة الأنثروبولوجية بريادة تيلور وتلميذه أندرولانج، أول من أشار إليها، بالنسبة لدراسة الفولكلور. # ومن هنا يمكن القول بإسهام جيل الفولكلوريين الأنثروبولوجيين في المساهمة إلى المنهج البنائي، الذي غرضه النهائي إلغاء الحواجز التقليدية بين مختلف النظم والعلوم، وتكوين منهج يعتمد على كل العلوم والدراسات، بل إن للباحث البنائي الحق في التعرف على مستويات الحقيقة أو الظاهرة التي لها قيمة استراتيجية من وجهة نظره ويعزلها. # فمهمة الباحث الفولكلوري لا تقف عند مجرد جمع النصوص والكشف عن مصادرها وأصولها، بل إن مهامه تسجيل ما يحيط بها من ظواهر وأبنية مختلفة من اقتصادية، وقرابية، ومهنية، وبالإضافة إلى ما تعكسه هذه الأبنية في مجموعها من شعائر وسلوك، قد تبدو لغير البنائين غير ذات أهمية، من ذلك مثلا تربية الأطفال وتنشئتهم ms124 وكيفية التعامل مع المرأة والمراهقين والشيوخ، والعلاقات الأساسية والمتغيرة بين شخص وآخر، فمثل هذه النظرة المتكاملة أو البنائية، تصبح أكثر فائدة، وأكثر اقترابا من معرفة الظاهرة أو الحقيقة. # فما من شك مثلا في أن لخرافات الجان والنداهات ملامحها المحلية ما بين قرية وما يجاورها على طول بلداننا في مصر، ووهاد وجبال وصحاري بقية البلدان العربية، ونفس الشيء بالنسبة للتعامل مع المرأة والطفل، والأب الذكر، أو مثلث العائلة الخالد، كما سماه فيرث. # وعلى هذا فإذا ما اتفقنا على أن الملمح الرئيسي لفولكلور وأساطير منطقتنا العربية أو السامية، هو أنه فولكلور قبائلي، ووحدتها القبيلة، ويعبر عن ذلك بأنها مجموعة من الناس لها بناء اقتصادي محدد، ينتج عنه بناء ثقافي متكافئ أو لنقل متواز. # وإذا ما عرفنا أن من أهم الأساسيات التي تقوم عليها المجتمعات البشرية مبدأ القرابة أو سلسلة روابط الدم أو الزواج، أي نسق الروابط الاجتماعية القائمة على الاعتراف بالعلاقات الجنيالوجية، أي العلاقات الناتجة عن الارتباط الجنسي الشرعي، وإنجاب الأطفال، كما يحددها ريموند فيرث الذي يرى بأن النسق القرابي يتحكم - حتى - في الأوضاع الاقتصادية والسياسية. # وإذا ما عرفنا أن القرابة شيء أساسي لكافة المجتمعات البشرية، فما بالنا بالنسبة للقبيلة، التي وكما قلنا هي الملمح الأساسي لفلكلور وأساطير منطقتنا بعامة، المحاط إلى اليوم بسياج قوي من الأنيمزم، كما سماه تيلور. # وبكل تأكيد ممكن، فإن في دراسة بنية أو نسق القرابة والانتساب على مستوى المنطقة العربية أو السامية في مجملها، وعلى أدنى الافتراضات داخل كل مجتمع عربي أو سامي، أو البدء من منطق الجزئي بهدف المعرفة والاستيضاح للكلي، وبمعنى أبسط، يمكن القول بأن في الإمكان التوقف طويلا أمام تقليد أو ظاهرة النعي العلني الذي نشهده في صحف موتانا صبيحة موت المرحوم، وكيف أن الميت ينتمي إلى عائلة، ويتناسب مع عائلة كذا من حيث الأم، وكذا من حيث الأب، وكذا من حيث - ميكانزم - التزاوج العائلي من داخلي وخارجي. # في دراسة مثل هذه الظاهرة أو النسق، انفتاح على بنية كاملة، ووصلت العلوم الأنثروبولوجية والأثنولوجية في ms125 دراستها لهذا النسق أو البناء القرابي، سواء على المستوى البدائي أو القبائلي في مجتمعات العالم خارج الغرب، خاصة أستراليا وأميركا اللاتينية أو داخل المجتمعات الغربية المعاصرة، وصلت إلى حد من الدقة الرياضية، فمثل هذا النسق - القرابي - مثل بقية الأبنية الاجتماعية في تساندها الوظيفي من الاقتصادية والسياسية، بل إن في دراسة أي نسق أو بنية اجتماعية على حدة، خاصة أضلاع هذا المثلث الثلاثة التي تتحكم في المجتمع - أي مجتمع - من قرابية واقتصادية وسياسية، لن تحقق غايتها إلا في تساندها مع بقية الأنساق. # فدراسة أي نسق لا يصح أن تجري بمعزل عن بقية الأنساق والأبنية التي تؤلف البناء الاجتماعي كنسق متكامل هدفه تحقيق التساند الوظيفي والطبقي، وهو ما عرفه دوركايم بالتركيبات المورفولوجية، وعرفه ماركس بالتركيبات السفلى والتركيبات العليا. # ومن السهل تصور أن التركيبات العائلية بل لنقل القبائلية، تتبدى بوضوح في - نص - نعي الميت من تشابك أو اتصالات عائلية أو قبيلية أو بدنته أو فخذته أو بقية الأعضاء العائلية القبائلية يقود إلى شجرة العائلة - أو نخلتها - عند العرب الساميين. # هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن في دراسة البناء القرابي في علاقاته المتبادلة مع بقية الأنساق، تبصير البنية الطبقية الاقتصادية والسياسية، كما قلنا. # ومن هنا فليس مدخلنا إلى دراسة النسق القرابي، على مستوى العالم العربي أو المنطقة السامية، بهدف التوصل إلى نتائج عنصرية أو إزكاء النعرات القبائلية الطوطمية في معظم حالاتها. # وهو ما تتوسع فيه الدراسات العبرية اليهودية، ربما بإيقاع قرن إثر قرن منذ كوزمولوجي سفر التكوين - إصحاح 4 - بدءا بآدم أبي البشر «يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله» فأبناؤه من بنين وبنات حتى نعمة أو نعيمة في البلاد الشفاهية الشعرية - ثم سلسال نوح وأبنائه وأخصه سام أو شام المطلق على بلاد الشام والساميين بعامة وما توالى من نسله، لحين بنيان مدينة بابل، حين قال بعضهم لبعض: «هلم نصنع لبنا ونشويه شيا، فكان لهم اللبن محل الحجر، وكان لهم الحجر مكان الطين» لحين تبلبل الألسنة خلال بناء برج بابل. # فيلاحظ هنا أنه ms126 بالنسبة للكوزمولوجي السامي، أو نسق القرابة، تبدأ شجرة العائلة، منذ آدم، حتى تارح - الذي يجمع الكثيرون على أنه طوطم سلف - ونوح، منسقا ومقربا بين حضارات النسل السامي، وخارجه مثل عيلام - أبو العيلاميين - وكاشور، وآرام، وابني عامر فاتح وأخيه يقطان، الذي هو بذاته قحطان أبو العرب اليمنيين القحطانيين، ملوك دول سبأ ومعين وابنه حضرموت. # وقحطان طبعا ما يزال يتردد إلى اليوم، وإليه تنسب عديد من القبائل العربية سواء في اليمن والجنوب العربي، أو في بقية أقطار عالمنا العربي المعاصر. # بل لقد ظل نسق القرابة متواصلا داخل التراث العربي متواترا، وتصر على تدعيمه وإحيائه كثير من القبائل العربية الحاكمة، خاصة في الكويت والسعودية واليمن والجنوب العربي. # ومرة ثانية، من مدخل تنشيط دراسات نسق القرابة وعلى مستوى بلداننا العربية بهدف استيضاح البنيان الطبقي والقبلي، لا بهدف التأصيل العنصري المفضي بالضرورة إلى الفاشية، ستوقفنا مثل هذه الدراسات على واقع بنياننا السكاني. # فليكن الهدف هنا هو الدخول إلى أحد ميادين العصر الكبيرة، وهو ميدان الاتصال. # فكما يقول شترواس: «يجب أن تخضع دراسة القرابة والزواج لبعض المناهج التي تنبع مباشرة من نظرية الاتصال.» # ولعل الملمح الأساسي لتقدم الأنثروبولوجيا الاجتماعية منذ القرن الماضي، كانت زيادة الانتباه إلى البناء أو النسق القرابي، ويرجع هذا التقدم إلى عبقرية لويس مورجان في كتابه الرائد في هذا الميدان عن «أنساق روابط الدم والمصاهرة في العائلة الإنسانية» عام 1871، وساهمت هذه الدراسة في وضع أسس الدراسات الأنثروبولوجية والقرابية، إلى أن اكتملت هذه الدراسات في علوم الاتصال، ثم ما تلا ذلك من جهود العلماء الاجتماعيين في هذا المجال البكر، مثل لوفي عام 1948، ومردوك عام 1949، وسبوشر عام 1950، ودراسة العالمين الكبيرين راد كليف بروان وفورد، وجميعها بالطبع تعتمد اعتمادا كبيرا على الدراسات الميدانية، أي التوسع في جمع المعلومات والبيانات، وهو ما نطالب به بالنسبة لقيام مثل هذه البحوث في مصر والعالم العربي، على أن تجيء مثل هذه الدراسات مستهدية ومرتكزة على الجهود الضخمة التي بذلت منذ مطلع هذا القرن، والتي يرى ليفي شتراوس أنها لم تثمر ms127 كما يجب رغم غزارة مواردها وبياناتها الأنثوجرافية المتصلة باختيار الزواج، وأنماطه من داخلي وخارجي ومن أبوي وأموي، بالإضافة إلى كيفية تنظيم العائلات والعشائر والقبائل وبقية النظم والمعتقدات الطقسية والدينية واللغوية، بل ويمكن القول بأنه حتى لعب الأولاد، أو نظرية الألعاب التي كان كروبير أول من لفت الأنظار إلى أهميتها عام 1942 فساعد في إيضاح النسق القرابي. # ومن المفيد الإشادة بالدور الذي أصبحت تلعبه بعض الدراسات الميدانية في التبصير بأهمية جمع ودراسة لعب الأطفال في بعض بلدان العالم العربي، مثل العراق والكويت. # وقد يكون للدور الكبير الذي لعبه رادكليف براون بشكل خاص للدراسات البنائية في عمومها، وبالنسبة للنسق القرابي خاصة، أهمية جديرة بالتوقف عندها، ففي دراسته الميدانية ومنهجه في التصنيف بالنسبة لنظم القرابة في أستراليا، أو في اكتشافه للقوانين المتحكمة في نظام القرابة عند قبائل كاييرا، والتي كما يقول شتروس: «ستبقى إلى الأبد واحدا من أعظم النتائج في الدراسات الاجتماعية البنائية 1930-1931»، كما تعتبر مقدمته الرائعة لكتاب «أنساق القرابة والزواج في أفريقيا» خطوة متقدمة نحو إخضاع نظم القرابة في العالم الغربي، لنظرية عامة في التأويل على مستوى عالمي، كذلك دراساته المتفرقة عن مصطلحات القرابة وسلوك الأقرباء: السلوك المصاحب لأطوار العمر الثلاثة من ولادة وموت وزواج، كيف تتصرف الأم والأعمام والخالات خلال زواج ابنة أو طلاقها، أو موتها أو حملها ... إلخ. # السلوك المصاحب لعادات الاقتتال والثأر، أو المصاحب لتصرفات الأسرى أو العشيرة في حالات مولد الإناث والذكور. # ففي أهمية دراسة السلوك داخل النسق القرابي - كما يقول لوي - ما يشير ويكشف عن جوهر النسيج الاجتماعي، مثل ملاحظة ظواهر التزاوج الخارجي الأكسوجامي، وارتباطه من جانب آخر بظواهر وسمات محددة، مثل تأثير مكان الإقامة أو الحقل الميداني موضوع الدراسة سواء أكان قرية أو مدينة، أو كانت بيئته يدوية أو زراعية على البنوة، وعلى عادات المباح والمحظور من التزاوج والعلاقات الجنسية. # ولقد اعتبر شتراوس أن من أغراض نظم القرابة وقواعد الزواج التي يسودها تناسق وظيفتها في اتجاه حفظ بناء الجماعة عن طريق الربط بين علاقات الدم وعلاقات المصاهرة ms128، بل ومن أهدافها إخراج النساء من العائلات التي ينتمين إليها بروابط الدم، وإعادة توزيعهن على جماعات أخرى. # ففي رأيه أن النساء في أحسن حالاتهن، أحد مستويات الاتصال، وعلى ذلك فمن الزواج إلى اللغة يمر المرء من سرعة اتصالية منخفضة إلى سرعة اتصالية مرتفعة. # كذلك استطاع براون أن يصل في دراساته إلى وضع مصطلحات أو قوانين لها عموميتها، ولها ميكانيزماتها المحددة، سواء بالنسبة للزواج والاحتفالات وسلوك أبناء العمومية في المجتمع الذكوري وأبناء الخالات في مجتمع أموي، وكذا أوضاع الحموات وأقارب الزوجة والعكس. # ويتفق براون مع مالينوفسكي في أن الروابط البيولوجية وروابط الدم هي في ذات الوقت الأصل والأنموذج لكل نمط من أنماط القرابة، وإن كان لم يرفع نظرية القرابة إلى مستوى نظرية الاتصال، كما فعل شتراوس. # إلا أنه يتفق مع ماكلينان ومالينوفسكي في أن «تنظيم العائلة الذي يسود فيه حق الذكر في كل مكان، قد تم بفعل قوة أساسية هي حق الملكية». # وبالنسبة إلى البناءات الطبقية، وصكوك الملكية، ونظم التوريث وعلاقتهم بالبناء القرابي والمصاهرة، فإن الأمر يصبح أكثر وضوحا، فكما يقول وارنر فإنه من المستحيل في بعض الحالات أن ينتمي أي فرد تلقائيا لطبقة معينة، ووصل الأمر بلويد وارنر إلى حد أنه افترض أن الأهالي يدركون ويفطنون إلى العلاقات البعيدة جدا بالنسبة لنظام القرابة، داخل أنموذج أو طرز «مورنجن»، الذي انتهى به إلى علاقات رياضية أو قوانين، أثارت الكثير من الجدل، كنظام محقق لحاجات ومطالب الزواج والنظام الطبقي، على اعتبار أن أولهما في خدمة الثاني. ~~••• # وكما هو واضح يتبدى مدى تأثير المجتمع الأموي داخل تراثنا العربي والسامي بعامة، والعبري - من حيث الدلالة اللغوية الأنثولوجية - نظرا لأن التعريف السائد لليهودي إلى اليوم داخل إسرائيل المعاصرة، هو من جاء من رحم أم يهودية. # وتنقصني معلومات عن نظام التوريث والميراث الإسرائيلي، ذلك أن خط التوريث شديد الارتباط بسيادة مجتمع نوعي ما، سواء كان أبويا أو أمويا، كذلك يرتبط التقويم بهذه السيادة، ومن المعروف أن الارتباط - بالتقويم - القمري عند كلا العرب واليهود الساميين ما يزال ms129 إلى اليوم تقويما قمريا مثل السنة أو التقويم الهجري القمري، المرتبط بالقمر ورؤية الهلال عند كلا المجتمعين - البدويين - الساميين. # وفي حالة التوريث يمكن الرجوع إلى فكرة الفصل بين الأبوة البيولوجية والأبوة الاجتماعية، كما حققها إلى حد الحسم مالينوفسكي خلال دراسته الميدانية على بعض قبائل أستراليا وسكان جزر الثروبرياند في غينيا الجديدة - قبل أن تحقق انقلابها الثقافي الحضاري الأخير - حيث إن الرجل لا علاقة له بإنجاب الأطفال، ولا يعتبر أبا، بل مجرد زوج للأم، كل دوره هو أن «يحمل الطفل بين ذراعيه» ويرعاه ويحميه، ومن هنا لا يرث الابن أباه، بل إن وريث الأب هنا يشترط أن يكون ابن أخته، فالتوريث يتم عن طريق سلالة الأم، وبذلك يرث الرجل خاله وليس أباه، كما أنه يورث أولاد أخته وليس أولاده. # كذلك لاحظ مالينوفسكي وغيره داخل هذه المجتمعات الأمومية أن في مقدور أي فرد أن يذكر سلسال انتسابه الأموي حتى الجيل الثالث عشر، دون أن يحفظ ويتذكر أكثر من ثلاثة أجيال أبوية. # 1 # ويمكن القول بالنسبة لعالمنا العربي أن كلا التوريث والانتساب للجدود يسير في خطين، صحيح أن السلطة للرجال في هذا المجتمع الذكوري، إلا أن الجنة تحت أقدام الأمهات، إلا أنه من حيث الميراث والتوريث يسير في خطين. # وكان لريموند فيرث سبق التوصل والتبصير بهذه الطريقة الثالثة التي لا هي بالأبوية الذكورية، ولا هي بالأمومية الأنثوية، وإنما هي تجمع بين النظامين، وعرفها فيرث بالقرابة المزدوجة؛ أي التي يمكن تتبعها إلى أناس آخرين عن طريق كل من الأب والأم، كما يمكن تتبع ملامحها عبر مختلف الطرق والأبنية أو المداخل، من لغوية، واقتصادية، أو قرابية تتصل بالميراث والتوريث، بالإضافة إلى رواسب نظام التابو والطوطمية. # ومن المفيد هنا الإشارة إلى أنه من الصعب علينا كمجتمعات عربية أبوية، تصورنا لإمكان استمرار مجتمعات أخرى كثيرة مخالفة يتم نقل السلطة والامتيازات فيها عن طريق الأم، أو السلسال الأموي، وهو ما يحدث فعلا عند كثير من الشعوب خصوصا البدائية في ميلانيزيا وشمال أميركا وقبائل وسط أفريقيا وشمال روديسيا وكثير من ms130 الولايات الهندية وجزر الهند الشرقية عامة. # وتذكر مسز أودري ريتشاردز التي سجلت دراساتها الميدانية الأنثروبولوجية داخل قبائل البامبيا في شمال روديسيا، أن الحكومة العنصرية شجعت عن طريق الإرساليات منع انتساب الشبان إلى أمهاتهم، وتشبها بالأقلية الإنكليزية، عليهم أن ينتسبوا لآبائهم. # كما أن رحيل الرجال للعمل في مناجم النحاس قضى على عادة أو نسق مبدأ إقامة الرجل في موطن زوجته، وحتمية أن يجيء من قريته الأصلية وهي المكان الذي ولدت فيه أمه وأخواله. # كذلك كان لفيرث سبق الريادة في دراسة نظام أو نسف الزواج بأكثر من زوجة واحدة، وهو المثال الشائع في العالم الإسلامي والصين وأجزاء كثيرة من أفريقيا خاصة الأوقيانوسية، وسجل ملاحظاته على النحو التالي، بأن مثل هذا الزواج عادة ما يمارسه الأثرياء، وهم عادة رجال تخطوا الخامسة والأربعين. # كما أن من أسبابه الإشباع الجنسي، لا على اعتبار أنه مجرد شهوة، ولكنه إشباع لما يمكن اعتباره رغبة طبيعية، بالإضافة إلى ما يتصل بالمحارم الجنسية، وتابو تحريم ونجاسة المرأة بعد الولادة الذي قد يمتد لعدة شهور، ويستلزم منع الاتصالات الجنسية بها. # بالإضافة إلى علاقة تعدد الزوجات بارتفاع عدد الإناث عن الرجال لأسباب اقتصادية، وهجرة الزراعة، وزيادة القوة المنتجة، وارتفاع صيت الرجل، فالعائلة المتعددة الزوجات هي عبارة عن عدد من الأسر الصغيرة المتميزة، والتي يكون فيها الزوج ملتقى عدة مثلثات لها أب واحد مشترك، في موقع الجد السالف. # وبالنسبة للسلفية، تلك التي عرفها شيخ المؤرخين وأحد فلاسفة التاريخ، أرنولد توينبي، بأنها سباحة ضد تيار الزمن والتاريخ، فيبدو أن جدلية الحياة، أو لنقل حركة التاريخ اليومية، تدعو إلى تزيين السلفية ومن وجوه عدة، لعل أبسطها جاذبية الرخاء القديم الغابر «حين كانت البيضة بمليم، ورطل اللحمة بكذا»، وتتمثل عند العرب عامة في الإفراط بكاء على الأطلال والزمن المنقضي. # ومن جانب آخر تتمثل السلفية في سحر اللغة ورونقها، ولنقل سحر عصور وأحقاب بعينها لأزهى عصور الخلافة العباسية، والتوقد العقلي للهلينية، والشوامخ من فحول الشعراء العرب، ومشكلي عصر النهضة العظام. # كما أن أقصى جاذبيتها تتبدى في ms131 الأساطير والتحليق في رومانتيكية العقل الغيبي، المضاد والمعادي في ذات الوقت للعقل كهدف أخير للتاريخ . # ويا له من عالم - من حيث جمالياته البحتة - عالم الأساطير المكبل بسلطان العادة والتوارث. # منذ أساطير خلق العالم والإنسان الأول أو القديم أو الأديم، المصاغ من طين العمق ولازبه. # فالسلفية هنا جزء من التصور القبلي، ذلك الذي لا يقف عند الأحياء، بل هو يمتد خلفا في أغوار الماضي التاريخي الأسطوري خاصة تراثنا العربي السامي، شاملا الموتى قبل الأحياء، فالأرض هي أرض الأسلاف والجدود، وهو ما لا يزال يشاع بكثرة في أغانينا المعاصرة خاصة في ربع القرن الأخير، كما أن مثل هذا التصور لا يبعد كثيرا عن التصور الطوطمي الأفريقي؛ حيث إن طوطم العشيرة البدائية كان رمزا وشعارا للعشيرة الخالدة مشتملا على الطوطم السلف والخلف في وحدة شاملة تعبر عنها أساطير وأغاني وأمثولات القبائل البدائية. # ومن هنا فكلا الأحياء والأموات يوجدان الجماعة أو الأمة، مع ملاحظة الانتساب اللغوي إلى الأنثى الأم، بل إن أدنى الوحدات الاجتماعية للأمة أو القبيلة، يطلق عليه البطن والفخذ، والرحم. # ويمكن القول بأنه حالة الانجذاب هذه نحو السلفية، سماها الكثيرون بحق بحالة الهستيريا، ومحاولة استحضار الماضي وطبعه على الحاضر، وهو ما يتمثل في التصورات الشمولية إلى النازية والفاشية والصهيونية. # الفصل الحادي عشر # | التابو والفولكلور # طبيعي أن لا تقتصر دراسة «التابو» على الباحث الاجتماعي؛ نظرا لأنها تصادف جامع ودارس الفولكلور، سواء على المستوى الأدبي أو الشفهي، وعلى مستوى الممارسات والتقاليد عامة. # ومعنى التابو، ذلك الذي ينتمي في المجتمعات البدائية للقوانين الطقوسية الخالعة، الملحوظة بالملوك والرؤساء والكهنة المقدسين، والذين اتفقوا فيما بينهم على بعض الحالات، مثل ما يحكم قتل الإنسان وأحزانه وهواجس الأم عند طفلها، والصياد في مواجهة البحر والفريسة وهكذا، لكن الرجل البدائي لا يفرق بين حالة وما يخالفها، والمستقبل العادي بالنسبة له يمتد على مجمل حياته، وهو في مجمله مليء بالأخطار والمخاوف، فالخطر الذي يواجه به الآخرين قد تغلفه وتتملكه الروحانيات والأشباح، ومن هنا تتدخل التخيلات، فالخطر على أية حال لا يقل ms132 عن الواقع إذ إنه واقع يغذيه التخيل، والخيال - على أية حال - بالنسبة للإنسان له نفس الدور الجذاب الذي يلعبه الواقع. # وتغرق بحار التابوات وقنواتها مجمل حياتنا اليومية بشقيها الصاحي والنائم، فلكل حركة وكلمة وفعل تابواته ومحرماته. # للبدء تابواته وللنهاية، وهو ما تزايد خطره واستفحل إلى أن وصل في السنوات الأخيرة إلى حد طبع به مجمل حياتنا وعلاقاتنا على المستوى المدني والرسمي، فأصبحت تعويذاته تتصور الخطب والتقارير اليومية والوشايات، والشكاوى، وطلب الحاجات. # ومن هنا تفجرت شرايينه ونفذت دون سدود أو حدود إلى أجهزة الدولة وأنشطتها المختلفة، حتى أنشطة الإعلام الداخلي والخارجي. # فالبداية - أية بداية منذ الكلام والفعل والكتابة حتى الولادة - محرماتها وتابواتها. # وللنهاية - أية نهاية سواء أكانت وصولا أو تذييل خطاب أو نص أو أكل أو وفاة - طقوسها ومحرماتها، وممنوعاتها. # ومن هنا أصبحت تنقسم حياتنا هذه المعاصرة إلى مباح ومحظور، أو حلال وحرام، وإذا ما عرفنا أن المباح والممنوع أو المحلل والحرام، قد مر بمرحلة طويلة من الدراسة والاجتهادات العلمية للتعرف على الكيفية التي قسم بها العالم القديم الحياة في لاشعوري تشكل بمقتضاه الذهن البدائي والغيبي وما يزال يواصل سريانه داخل مختلف المجتمعات، من متحضرة ونامية، خاصة مجتمعنا العربي، سالفه ومعاصره. # فكلمة تابو كلمة بولونزية تعني الممنوع أو «ذلك الذي لا» تعرف عليها المبشرون والرحالة والمستكشفون الأوروبيون منذ أواخر القرن 17 خاصة كابتن كوك، تتردد بكثرة شديدة، بنفس الكثرة التي يسمع بها الزائر الأوروبي لمصر كلمة «بقشيش»، وهي تنطبق في بعض هذه الجزر مثل تاهيتي تافو # Taboo # وبطريقة أقرب إلى تعبير «تفو» المتداولة في لغتنا تعبيرا عن الرفض والقرف. # ويؤكد التقارب اللغوي الاشتقاقي بين تابو وتفو تعريف د. مارجريت ميد للتابو في دائرة معارف العلوم الاجتماعية: من أنه تعبير يشير إلى الموقف السالف. # ومنذ ذلك التاريخ دخلت هذه الكلمة إلى اللغات الأوروبية، فاستخدمها كتاب عصر التنوير أو القرن 18 ومنهم جان جاك روسو. # إلى أن شغلت كلمة تابو فيما بعد عديدا من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية أو الإنسانيات زمنا طويلا، وهل المقصود بالتابو هو إتيان ms133 أفعال مباحة أو مقدسة، والإقلاع والامتناع عن أفعال أخرى محرمة أو ممنوعة، مثل لمس أشياء أو الذهاب إلى أماكن بعينها، أو حتى مجرد النظر أو الشم أو السمع إلى أشياء أو وجهات أو منازعات أو حروب بعينها. # واللافت أن مكتشفي القرن 17 للعالم خارج الغرب، مثل كوك وغيره، قد تحرجوا في المطابقة بين التابو وبين المقدس، وذلك لملاحظتهم أن النظام الذي يحدده التابو يتصل بمعاملات وممارسات الرجل ابتداء من الجنس، حتى عادات الولادة وتربية الأطفال، والحروب، وعادات الطعام، كان لا يسمح لشخصين بالأكل معا على مائدة واحدة، وكذلك لا يسمح للمرأة مشاركة الرجل طعامه، بنفس ما كان يحدث داخل مجتمعاتنا اليوم إلى أيامنا هذه. # والملفت هنا أن تحريم أكل المرأة مع الرجل عندنا، على اعتبار أن المرأة - هنا في بلدنا - ككل كامل ما هي إلا حريم أو حرام أو حرمة أو محرمة - وهو ما يطلق على طريقة أخذ الوش والبكارة. # عدم مشاركة المرأة الرجل الطعام، بل والكثير من الأفعال، محرمة كما سبق أن أوضحنا؛ أنها مدانة وأقل منزلة منه، كما يتبدى في أساطير الخلق والخطيئة والسقوط والسامية، وهو على عكس وضع المرأة في تلك المجتمعات البولونزية، التي فيها تحتل المرأة وضعا أعلى منزلة من الرجل، بحسب ما تشير به أساطيرهم وتقويماتهم الأمومية إلى اليوم. # ونظرا لكثرة تدخل التابو - من محلل ومحرم - في حياتهم، فقد استغرقت دراسته حيزا كبيرا داخل مختلف مجتمعات ومؤسسات هذه الجزر المتعددة. # فزارتهم عشرات البعثات المتعاقبة لدراسة مجمل أنشطة حياتهم وشعائرهم الحرية الدينية، التي يقيمها ويتحكم فيها التابو في المعاملات اليومية من تجارة واستثمار وعمل أخضعت لنظام التابوت المتوارثة السائدة. # وما إن تجمعت المواد الميدانية أو الخام التي جمعها الرحالة والمبشرون في القرن الثامن عشر لدى الدارسين الأوروبيين حول ظاهرة، أو النسق البنائي للتابو في تسنده الوظيفي، وعلاقاته المتبادلة مع بقية الأنساق على البناء الاقتصادي والسياسي والقرابي، حتى نشطت حركة دراسات معه حول هذا النسق داخل مختلف المجتمعات، خاصة مجتمعاتنا العربية سواء في غرب آسيا أو الشمال الأفريقي ms134 أو بالنسبة للغات السامية، وأخصها المعاصرة العربية والعبرية، أو على مستوى الممارسات والنظم الاجتماعية والساسية ودورها في حماية الملكية والميراث والتوريث ... ~~ إلخ. # فعن طريق الاستغراق في دراسة مختلف الأنشطة والتصورات التي يحكم ناصيتها التابو، داخل هذه المجتمعات البولنزية، أمكن التوصل إلى أن الكثير من مختلف العادات والممارسات التي ما تزال تواصل سيطرتها على مختلف أنشطة الذهن والمخيلة البدائية عند مختلف القبائل والشعوب - خاصة في عالمنا العربي - مثل طرق القسم - أو الحلفان - سواء بالآلهة أو الموتى أو الأشياء والأماكن المقدسة، ومنها أجزاء الجسم البشري، مثل الشعر والعينين والفرج، ومثل الدعاء والتوسل بحلول الكوارث والمصائب بالآخرين والأعداء، وهو ما كان يحدث بكثرة مفرطة وعلى مستوى مختلف مؤسساتنا في حروبنا الأخيرة مع - الأعداء - مثل الفرنسيين والإنكليز بل واليهود في أيامنا هذه. # فحين كان أئمة المساجد وشيوخها يواصلون تنغيم دعائهم على الأعداء - الإسرائيليين اليهود - على طول مساجد مصر والعالم العربي، وعلى مستوى أجهزة الإعلام الإليكتروني، كان المهتمون بدراسة الظواهر الاجتماعية ورصدها في مختلف عواصم الغرب - الإمبريالي - وعن طريق رصد مختلف طرق - تابو - الدعاء على الأعداء؛ توصلوا بالطبع إلى نتائج مخزية حقا، كما أشارت بهذا الصحف الغربية بكثرة. # بل إن دراسة طرق وقنوات التابو، كشفت عن أن الكثير من بقايا الممارسات السحرية التي ما تزال تواصل سريانها مثل الشبشبة، والكلمات السحرية، وحرق وإحراق وإفساد تماثيل الأعداء الورقية والطينية والمصنوعة من العجين، وهكذا ... # بل إن متنوعات التابو شملت كيفية التعامل مع المواسم المختلفة والشهور، وأيام الأسبوع السبعة، وما يصاحب بعضها من ممنوعات - السبت عند اليهود، والأحد عند المسيحيين، والجمعة عند المسلمين، وهكذا. # فيلاحظ أنه على الرغم من الالتفات للتابو لم يعرف فيما قبل العصر الفيكتوري بالنسبة للمجتمعات الأوروبية، إلا أنه واصل سريانه داخلها حتى فيما بعد الثورة الصناعية، بل هو أيضا تحكم في مخيلة الطبقات الشعبية الأوروبية، ويمكن القول بأن العصر الفيكتوري كان واقعا بدوره تحت تأثير «الذهن التابو»، فكانوا ينظرون للمرض على أنه جريمة أو خطيئة، وقالوا بأن «المريض مكانه السجن.» ~~••• # وبالنسبة للمرأة يشمل تابو ms135 النظر لها كمحرم عند مجمل الشعوب الشرقية إلى حد رفض الأنثى - في مطلقها العام كنوعية - وهو ما عبر عنه في الأخوة كرامازوف بطل ديستويفسكي، الأب الرافض «فيدور بافلوفتش» في حديثه التهكمي مع الراهب «هل تعلم أن زيارات النساء في - دير - جبل أتوس، ليست وحدها ممنوعة، وإنما يمنع أيضا وجود الإناث من أي نوع من أنواع الحيوان، فلا دجاجة ولا إوزة، ولا أية عجلة صغيرة يمكن أن يحتمل وجودها هناك؟» # ولعل أخطر التابوات عندنا - في مصر والمنطقة العربية - هو ما يتصل بالمرأة والجنس، سواء على مستوى الرجل بالمرأة أو الرجل بالرجل، أو المرأة بالمرأة. # فنحن ما نزال ننظر للمرأة تبعا لتواتر النظرة الحجرية أو الطوطمية، أو الأسطورية السالفة، على اعتبار أنها منبت الخطيئة الأم، كذا شملها التحريم أو الحرام أو الحريم والحرمة (فاعتبرت من المحرمات) وربط التابو بين النظر إليها والخطيئة على اعتبار أن «العين تزني». # وفي تقريري أنه لو كان هناك دراسات علمية جادة تغطي تابو المرأة على مختلف مراحله وأبعاده، لأصبح في الإمكان التوصل إلى نتائج مفزعة سالبة، تتصل بأفرع النشاطات الإبداعية والإنتاجية والعقلية، لعل أبسطها هنا تصورنا لمدى التخلف الذي انتهت إليه، نتيجة لظروف القهر والإدانة المنحدرة الممتدة من عصور ما قبل العلم، وبالطبع والضرورة يواصل هذا التخلف تفريخه داخل الأسرة التي هي نواة وركيزة المجتمع الأولى. # كذلك ستقودنا الدراسة إلى مدى العلاقة الوثيقة بين تابو المرأة والجنس، وبين آفة الانفجارات السكانية المهددة التي تعانيها شعوبنا خاصة في مصر. # ويلاحظ أنه قد يبدو للوهلة الأولى أن جدلية العلاقة بين تابو المرأة أو الحرام # HARAM # كما تنبه إليه وسماه روبرت سميث منذ مطلع هذا القرن، وبين الانفجارات السكانية المخيفة التي أصبحت تتهددنا. # وبمعنى آخر، هل يؤدي تابو المرأة والجنس المتواتر منذ منبعه على طول منطقتنا العربية وأخصها مصر، إلى خدمة النسق أو البناء السكاني، أو أن ما يحدث وتؤكده إحصاءات الأمم المتحدة هو العكس؟ # بل إن في الحلول المتعسفة التي مداها التحلل الجنسي، في اتجاه عقلنة هذه العلاقة، والتي يلجأ ms136 إليها الغرب ومجتمعات ما فوق التصنيع، هدفها الأخير بالطبع هو التوصل إلى انضباطات سكانية بالغة الدقة. # كذلك ستوقفنا مثل هذه الدراسة إلى الارتباط الشديد بين معوقات وتابوات الجنس وبين تخلفنا العقلي والحضاري. # ولا يمكن تصور مدى الارتباط بين حلول تابوات وموروثات الجنس، وبين الاندفاعات العقلية والحضارية في العالم المتقدم من حولنا بشقيه الاشتراكي العلمي، والرأسمالي الإمبريالي، فما يحدث حولنا من ارتباط بين الجنس والثقافة، ممثلا في مختلف الأنشطة من نوادي، لمجلات ودوريات وكتب وأفلام ومسرح وسينما وتلفزيون، وتربية وشارع وسرير ... إلخ؛ لا يحدث اعتباطا أو انحلالا كما يدعي الجهلاء الفاشست المخربون. # ولعل في ظاهرة انفكاك وتفجر تابوات الجنس في الخفاء والظلام والزحام، بالشكل والكم الذي نشهده ونعرفه جميعا؛ ما يشير بوضوح إلى ظواهره المرضية، وكلنا يعرف إلى أي مدى تتحول وسائل المواصلات - خاصة في القاهرة - إلى حالات جنسية جماعية. # ففي الوقت الذي يصعب جدا على الرجل أو الشباب التعرف بامرأة أو فتاة، خلال زحام الأوتوبيس، يمكن له بسهولة ممارسة عملية أو علاقة جنسية شاذة دون عناء سواء تمت هذه العملية ظهرا لوجه أو ظهرا لظهر، فيشترط في هذه الحالة الغامضة - المرادفة لممارسة الجنس في الظلام والخفاء - أن لا تلتقي العيون، ويتعرف الواحد على الآخر، أو يتعارف الطرفان، أو حتى تتلاقى عيونهما في نظرة خاطفة. ~~••• # ولعل أكثر الحالات أمنا، والتي لا يعيرها الكثيرون التفاتا، هي حالة الشذوذ النسائي أو البناتي - السحاق - وهي أقل حالات التابو عندنا، وتبدو كما لو كانت طبيعية أو غير متصورة، على عكس ظاهريتها في الغرب الملفتة جدا - كتابو - خاصة إنكلترا وأميركا. # فإذا ما تعمقنا قليلا في جدلية العلاقة بين تابوات الجنس والزحام في مدننا، لهالنا ما وجدنا أنها ردة - لا شعورية - لمراحل الإباحة - وليس القباحة - التي مرت بها مجتمعاتنا التي قدست عشتار والتعشير منذ 6 آلاف عام. # ولوجدنا أيضا أنها حالة يمكن تصنيفها مع ظاهرة الثقافة أو المواقف المضادة التي تتمثل أول ما تتمثل في النكت والنكت الجنسية بشكل خاص، في تلخيصها لرغبات دفينة، وفي مجابهتها الضغوط - الفوقية ms137 - والممنوعات أو التابوات، ممثلة في الموقف الرافض المضاد للعرف - المثالي أو العاطفي - للمجتمع المغلق. # وبالنسبة لتابوات اللغة، فكما يقول مالينوفسكي، # 1 # فإن اللغة - أية لغة - لا تلعب فقط دور الحارس والحامي للأسطورة والأديان بعامة، بل إن اللغة في حد ذاتها لعبة الحكم والحافظ الأمين على الأوضاع الطبقية والاجتماعية. # ويذكرنا هذا على الفور بمدى سيطرة عائلة اللغات السامية، التي انتهت اليوم في العربية - الفصحى - والعبرية، وكيف أنهما ما زالتا إلى اليوم مكبلتين أو هما حارستين للتراث أو الأساطير، أو الوهم كما يسميه كافكا. # كما أن هذا يذكرنا بمدى اكتمال اللغات السامية في الفصحى، واتساع رقعتها، لدرجة أنهت بها، أو هي اكتملت فيها مجموع الحضارات السامية. # وقد يكون في تابوات الفصحى ومنمنماتها اللغوية ما يحفظ إلى اليوم إضفاء صفتي القداسة ومعاكسها من نجاسة وشؤم، على الجهات الأربع الأصلية، والتي في أدنى صورها ما هي إلا أربعة أركان التابوت - العهد - وملائكة العرش الأربعين المكلفين بالخلق والموت والقيامة والرسالة، وهو ما يتواتر إلى اليوم في الموروث الشعبي، بالأقطاب الأربعة، وهم: قطب الغوث، والبلاوي، والرجال، والمتولي. # ويصل الأمر إلى إضفاء شطري التابو من مباح ومحظور على بقية أضلاع - المكعب - من ارتباط أسفله بالسفالة أو الواطئ الواطي، وأعلاه، كما يعلو الهامة والرفعة - من ارتفاع - مرادف السمو، والتسامي أو السامي، بما قد يذكرنا بتسمية الساميين - سمو وسماء - من عرب وعبريين. # بل إن أخطار التابو - اللغوي - على التنمية من بشرية أو عقلية أو حضارية، تصل إلى حد اعتبار طريقة أو أسلوب نطق الكلمات ومقاطع الحروف في اتجاه الحفاظ على اللهجات المحلية، أو لنقل المغرقة في المحلية إلى حد اعتبار كل قرية أو كفر أو عزبة أو أدنى أشكالها تجمع سكاني له لهجته وتعابيره الخاصة به، الحافظة له أدنى أصوله وجذوره الطوطمية. # ومن هنا يكون التابو كعيب أو شيء معيب أو ممنوع دوره الحافظ، المتسق الإخلاص مع المجتمع المحلي القبلي التعصبي، حتى في حفاظه على لهجته، وإيقاعاته اللغوية، مثل عدة نطق نهايات الكلمات في بني سويف مثل: عايزا، ومنا، ويا ms138، بدلا من ياه، أو طريقة قلب حرف الياء إلى ألف في واحة إقليم الفيوم المتاخمة ، مثل قول: «عايز آه»، و«فا» و«مناه»، بدلا من «عايز إيه»، و«فين»، و«منين» ... إلخ. # وعلى هذا يصبح عيبا وتابو مثلا لمواطني بني سويف وقراها النطق على الطريقة المعتادة في تأكيد نهايات الكلمات، كما يرى نفس العيب على قرويي الفيوم حين يتساءل قائلا: «ليه؟» بدلا من «لا»، وهكذا، بل إن تابو الحفاظ على - عادة - اللهجة، يصل إلى حد إدانة كلمة حضارة أو الحضور، فحين يقدم متحدث مثلا على تغيير طريقة نمطه، قد يخجله آخر على الفور قائلا: «إنت بتتكلم زي الحضور»، أو«عاملي «حضري».» # ومن هنا فالحضري أو المتحضر أقرب إلى الرفض خاصة في مصر الوسطى، وقد يقول له سائله ساخرا: إنت بيتهلي. ويبدو أن أصل كلمة «تيهلي» متواترة من «توهني» بمعنى التيه والتوهان. # فالحضري أو التحضر غير مستحب، أو هو أنموذج لا يصح التمثل به، وتحفل الحواديت والحكايات والأمثال بآلاف النماذج مثل «من نسى قديمه تاه». # وفي قصص الشطار وخرافات الجان، عادة ما يأخذ ابن زوجة «الملك» الحضرية أو المتحضرة، جانب الخصم الظالم المعتدي، بل هو يقف في صف أبناء الظلام والشر، في مواجهة بطل الحدوتة - الموعود - أو المكشوف عنه الحجاب، المضطهد ابن الزوجة الفلاحة، أو البدوية، ابن النور المنتصر. # وطبعا واصل مثل هذا الموروث، المدعم بسلطة العادة والتابو، نموه داخل عديد من أنظمتنا الثقافية، كأفلام السينما، ودراما الراديو الرخيصة، منذ «زينب» حتى الليلتان، «ليلى بنت الفقراء»، و«ليلى بنت الأغنياء». ~~••• # ولعل التكنيات والاستعارات هي آفة اللغة - أية لغة - وبالنسبة للغتنا تصل إلى إخفاء اسم الإناث عامة خاصة الأم والخالات، أو في حالات التخوف من الحسد، كأن يكنى عن المولود الذكر واسمه بالأنثى واسمها، أو في حالات الترفق - شيمة اليوتوبيا السامية بعامة والإسلامية بخاصة - كأن يكنى عن الأعمى بالضرير، والعوراء بكريمة العين، والأصم بثقل السمع، والمريض بالعائف أو المعيون أو المنفوس؛ أي المحسود. وقد يقال في بعض المناطق حين السؤال عن مريض ms139 بأن «أشيته - شيئه - بعافيه» أو أنه «بعافية» فقط، وفي المدن: راقد، وتعبان. وكذا عن الميت ، بالمتوفي، وتعيش أنت، والمرحوم، والبقية في حياتك. # وبالطبع يمكن الاستطراد إلى حد الأدعية سواء بهدف جلب الخير أو الشر، بتعاويذها وأعمالها السحرية، والتي يعتبرها «كراب» مادة مثقفة متهافتة هبطت إلى أوروبا غازية مستشرية من البحر الأبيض حملها اليهود والعرب الساميون. # ويمكن الاستطراد إلى تابوات وأسماء وممارسات بلاد وأماكن بعينها على طول بلداننا العربية، وكذلك بالنسبة للأوقات، وفصول السنة وأشهرها، مثل شهر طوبة «خلا الصبية كركوبة»، وازدهار المحاصيل في برمهات «روح الغيط وهات». # وتعرض الكثيرون للتابوات المصاحبة لمأثورات النبات والطيور والحشرات والهوام، وشعائر الطقس، التي سماها «فان جنب» بشعائر الانتقال. # 2 # وبالنسبة للقسم - أو الحلفان - أفرد الشاعر عالم الأساطير روبرت جريفر مؤلفا هاما من 340 صفحة، يعاد نشره إلى أيامنا هذه، منذ أن نشره جريفر وجمع معظم مواده من مصر وبقية بلدان الشرق الأدنى. # وقبل الاستطراد لكتاب جريفز الشيق، يمكن القول بأن القسم في معظم أحواله أقرب إلى التابو ونظامه ومغلقاته ومحرماته، وهو أيضا في معظم أحواله قد يكون مضحكا. # ويبدو أن أقدم نماذجه موجودة في حضارات الشرق الأدنى السامية، منذ الفراعنة والبابليين والعبريين، مثل القسم على جثث الموتى والتفرس في وجوههم، والقسم بالآلهة، والقسم بالطواطم من نباتات وكواكب وليل ونهار، والقسم بأجزاء الجسد البشري من بطن لفرج لعينين لشعر ومقاصيص، ومن أقدمها قسم الإله - يهوه - لنوح وبنيه من الساميين: «وضعت قوسي في السماء لتكون علامة ميثاق بيني وبينكم»، وقسم يعقوب - أو إسرائيل - لابنه إسحاق بأن وضع يده تحت فخذه مقسما، وهو ما لا يزال شائعا إلى اليوم. # ولا حاجة هنا إلى تأصيل القسم، فكما يقول روبرت جريفر فإن القسم قديم قدم اللغة. # وفي رأي جريفر أن الإيمان والاعتقاد في القسم مرتبط بفكرة إدانة أو - قباحة - المرأة الأنثى الأم. # وعلى هذا فكثير من الحضارات والأقوام، لم تعرف القسم، مثل حضارات الهنود الأمريكيين الحمر، في بيرو والمكسيك، ومثل الأستراليين، وقبائل البوشمان في أفريقيا، وبعض المجتمعات ذات الميول الثقافية. # ولعله ms140 في الإمكان القول بأن مركز الثقل بالنسبة للدراسات ونتائجها أو تقنينها العلمي المختصة بالتابو، قد انتقل منذ أواخر القرن الماضي بشكل مطرد إلى اليوم، من الجزر البدائية - البلونزية - إلى عالمنا العربي، سواء الشمال الأفريقي خاصة - اللغة والريف - المراكشي، أو في الجزيرة العربية، والجذور الحضارية - واللغوية - السامية، وهي دراسات شارك فيها جيش من الرواد الأوائل أمثال: ماريت، وفريزر، وتيلور، وفرويد، ودافيدسون، وسبنسر، ورادكليف براون، وسنيث، وروبرت سميث، والأخير هنا هو فرانز شتينر 1909-1952، وأهميته هنا أنه أنثروبولوجست متخصص في الساميات ... أو عالمنا العربي السامي متضمنا الجانب العبري. # ووجه شتينر أقسى نقده ومعارضته لنظريات سميث التي ضمنها موسوعته الهامة عن الأديان السامية، أما شتينر في دراسته عن التابو، فيرى أنه «ليست كل التابوات تنتمي لأغراض دينية» كما ذكر روبرت سميث. # إلا أن شتينر أشاد بالجوانب اللغوية في دراسات روبرت سميث، الذي تنبه إلى أن أصل تسمية تابو، لا ترجع إلى استخدامها إلى اليوم بنفس هذه التسمية، بل هي ترجع في أصلها ومنشئها إلى لغتين ساميتين، فاليهود استخدموها بمعنى قدس # kadesh # أو المقدس، ومنها جاءت تسمية القدس أو المدينة المقدسة، وأيضا قدس الأقداس داخل أخفى أماكن المعابد سرية، والعرب استخدموها بمعنى حرام حرم وحريم وحرملك وحرمة ... وهكذا. # ولقد شارك أيضا في هذا البحث اللغوي رائد التحليل النفسي فرويد متصورا هو أيضا أن كلمة حرام العربية هي بذاتها قادش أو المقدس اليهودية. بينما قدس أو المقدس هي أيضا كلمة عربية كما هو معروف، فهي كلمة سامية استخدمت بكثرة في النص العبري للأسفار الخمسة - البنتاتوك. # ولقد لاحظ روبرت سميث أن قادش بمعنى المقدس في اللغات السامية على عكس تابو التي تشير إلى الحرام والتحريم والمحرم أو الممنوع، عند البولونزيين. # فعند العرب الأراضي المقدسة حرم مكة أو حمى الطائف، ومن حمى القبيلة، تواترت كلمة حمية أو الحمية وحماية. # ولا يصح هنا إغفال ما توصل إليه روبرت سميث الذي أولى اهتماما فائضا للتابو في موسوعته الكبرى عن الأديان السامية خاصة فيما يتصل بمفهومه عن «عدوى» التحولات الأممية. # وفي رأي ms141 سميث أنها كلمة سامية مشتركة، قبل أن تكون بولونزية، وأنها مرادفة لكلمة - مقدس - في اللغات السامية ومنحدرة من جذرين لغويين ساميين. # واستخدمها فرويد بمعنى قادش # kadesh ~~، فمعنى الكلمة العربية حرام، تقابل الكلمة العبرية قادش، ووردت بهذا المعنى والرسم في البنتاتوك أو الأسفار الخمسة في العهد القديم. # ومنها اسم قاديشا، وهو ما كان يطلق على معابد البغايا في إسرائيل، فكان لسميث فضل طرح المقارنة اللغوية بين الكلمة البولونزية «تابو» والعبرية السامية عامة «قدس» أو مقدس ... ~~ إلخ. # وتعرض سميث للجزيرة العربية حيث يوجد الكثير من الأماكن المقدسة، وحيث كان يحرم المساس بأي شيء طبيعي مثل الجبال والأشجار، بل وحتى الممتلكات الشخصية كأن ينظر إليها على أنها ممتلكات الله التي خص بها ممثليه أو من اختارهم، وهو ما يتبدى بخاصة في تراثي الحرمين مكة والطائف، أم حرم مكة وحمى الطائف: حيث حتم إلغاء الممتلكات الشخصية داخل القبيلة، فللقبيلة حماها الذي قد تحدده تلال أو جبال، وداخل الحمى الأرض والزرع والكلأ وموارد الماء، مشاع للجميع. # كما تعرض «لنذور» النوق أو الجمال السائبة، وضرب مثلا بناقة صالح والرعاف كعقاب. # فكان المفروض في الأماكن المقدسة أن تترك الأشياء والممتلكات والنذور، فقط لاستخدامات الآلهة، محاطة بالشعائر التي تمنع من أن يستخدمها - الناس - الآخرون، إلا بطرق معينة، وكثيرا ما يحرم استخدامها نهائيا. # فليست كل التابوات تنتمي إلى أغراض دينية كما يقول شتينر معارضا سميث. # واستخدم قوانين النظافة بتوسع منذ الاستنجاء والوضوء حتى تابو المرأة الطامث ومن لمس جثة ميت، ويرى سميث الذي استغرقه المنهج أو البحث المقارن، أنه استطاع خلال أبحاثه الطويلة المضنية في الأديان السماوية المقدسة، التوصل إلى نوعين من التابو رصدهما بالتحديد من الكتاب المقدس. # فالإنسان - السامي أو العربي - يحتم التابو ألا ينظر إليه كمقدس، بقدر ما هو يتقي أخطار قوى ما فوق الطبيعة، وكاتقاء لغير المقدس والأشياء غير المتطهرة أو النظيفة أو المباح استخدامها، وضرب لذلك عشرات الأمثلة التي نعيشها ونعاشرها بالطبع وبالضرورة دون التفات كاف لها، نكتفي منه بهذا المثال المتصل بحتمية الطهارة بعد الجماع ms142 وإلا ظل الإنسان غير نظيف وبالتالي محرم أو غير مقدس. # كما تعرض لمفهوم النجاسة وعدم لمس أشياء بعينها مثل الكلاب والخنازير وأجساد الموتى والمرأة الطامث، ومن لم يتطهر بعد الجماع من الجنسين، على اعتبار أنهما نجسين. # كذلك عدد روبرت سميث، خلال دراساته على مختلف المجتمعات السامية، كثيرا من الأشياء التي لا يجب أو يصح المساس بها، والتي هي في حكم التابو مثل: الرداء الكهنوتي، والأواني والأوعية؛ لأنها في حكم الممنوعة أو الخطرة، ومن المدهش اكتشافه بأن هناك طريقتين متناقضتين مختلفتين تؤديان ذات الغرض أو المسلك، وهو إضفاء صفة القدسية التي تستوجب التحريم المحاط بأخطار التابو، التي قد تستوجب - حتى - أبشع أنواع القتل والاغتيالات. # واستخدم سميث مثلا متداولا بيننا نحن العرب الساميين؛ حين نقول: «مبروك على الأرض»، وانتساب الحذاء للأرض الأم، ثم ما يتصل بالمسالك نحو الأحذية والمداسات، وكيف أن مسبة مخلوع النعل، وابن مخلوع النعل في إسرائيل وفلسطين كانت تعني المهان المضطهد بمعنى الخارج والمدان والنجس، كما أورد في أماكن عدة في التوراة # 3 # عن الكيفية التي يجب أن يحرك بها المرء حذاءه # 4 # على أرض يطأها للمرة الأولى (خروج 3-5)، وما يصاحب هذا من تابوات البدء المصاحب للدخول: يا ساتر، ويا أهل البيت، ويا أهل الله ... إلخ. # ويمكن القول بأن تنبه روبرت سميث لفكرة العلاقة بين التابو والمقدس، كان له التأثير المشع في عديد من أفرع الدراسات الإنسانية، من اجتماعية لأنثولوجية لتوراتية خاصة بالنسبة للأسفار الخمسة، بالإضافة إلى جهوده في دراسة الأديان - السامية - البدائية. # وكالعادة تعرضت نظريات سميث لكثير من النقد ممن جذبهم حقل التابو والدراسات السامية، مثل دراسة سنيث # snith # عن «أفكار مميزة عن العهد القديم 1944»؛ حيث ركز انتقاداته العنيفة له، وإن ظل حبيسا لما سبقه إليه سميث، خاصة في مجمل دراساته عن العلاقة بين التابو والمقدس، على كلا مستوياتها الثلاثة المختلفة التي تبدت في البنتاتوك للبدو الساميين الرحل، قائلا أو مشيرا إلى أن المعنى يفهم من التعبيرات والممارسات الثقافية، ذلك أنه معنى - أو ممارسة - قبلي مغلق، معد لفئة قليلة، ويجري على ms143 ثلاثة مستويات من حيث المعنى لا تتغير في هذا التراث، وحاول سميث أن يرى التوراة من وجهة نظر العبري العادي. # أما الدراسات التوراتية لهربرت سبنسلا وآرثر تيلور «الثقافة البدائية»، وفريزر في «الغصن الذهبي»، والمجلدات الثلاثة عن الفولكلور في «العهد القديم ونظريات العهد القديم» لدافيد سون. # والأخير أولى اهتماماته لكلمة «قادش» وعلاقتها بالبابلية والبوبية، وتوصل إلى أنها تعني «فصل» أو انفصال. فالأشياء - والممتلكات - التي تنتمي للآلهة وخص بها البشر، تشير وتؤكد الانفصال أو الاختلاف بين الله والإنسان. # ثم تعرض دافيد سون لعلاقة المقدس بالعادي (صمويل 22-21) وعلاقتها بحلل وحلال واختلاف بينهما، خاصة في «حزقيال 22-26»، ثم علاقة حلل بالكلمة العربية، حرر (أعطي الحرية) في عدد 20-6 «وأرميا 31-5». # كذلك تعرض لقادش وحرام، ولاحظ أن في طنجة لو لمس أحد الأهالي جثة ميت، يظل تابو 10 أشهر، كما تعرض بالنقد لنظرية رادكليف براون عن القيم الشعائرية والعقاب، مرورا بدائرة الخطيئة والعقاب، كأن ينظر للأطفال حديثي الولادة على أنهم غير نظيفين متطهرين، ويتم التطهر بإلقائهم في النيران المشتعلة، فالوليد الحديث مثله مثل الميت الحديث، ومن يحمل جثة في نيوزيلندا، يدهن باللون الأحمر، فالأحمر هو اللون التابو هناك. في جزر هاواي وتاهيتي وطنجة يحرم على الرجل التابو أن يقرب امرأة أو يطهو طعاما. # ويتفق دافيد سون مع فريزر في النظر للتابو خاصة من خلال الشعائر الدينية بالإضافة إلى المدينة، أنه منحدر من الحيوانية ونظم الكهف ورؤساء القبائل بما يخدم أغراض حقوق الملكية والتوريث وحفظهما ونظم الزواج. # أما فرويد في «الطوطم والتابو» فربط بين قانون الملكية - على المستوى الطبقي - والملكية الجنسية بما يحتم إطاعة الأوامر. # أما ماريت، أهم نقاد فريزر، فقد أشار إلى أن فضيلة فريزر تمثلت في الربط بين السحر والتابو، على اعتبار أن السحر يحتم تجنب وتحريم إتيان أفعال وأشياء محددة، لكنه عاد ثانية فأشار إلى أن أول من حقق هذا الربط بين السحر والتابو، هو د. تيلور في أبحاث في التاريخ المبكر للجنس البشري عام 1865. # فلقد كان تيلور أول من أشار بوضوح، خلال تعرضه بالدراسة لبعض المجتمعات ms144 المحددة، للعلاقة بين التابو ثم ذلك الارتباط والخلط في الربط بين الموضوعي والذاتي. وأورد تايلور قائمة طويلة بأفعال وأعمال، تتصل بالفوز والنشاطات الجنسية والشعائرية، وكما يقول تيلور فإن كثيرا من الأطعمة البدائية الأصل، تعتمد في شيوعها على ما يشاع عنها وحولها من أكداس من الخزعبلات. # وهو ما لا يزال عندنا حول الفواكه والأطعمة، مثل «النث» أو الفحومة المرتبط بطهارة الفم، عقب - تابو - الشخير، ومثل العلاقة اللغوية بين الجوع، وبين الجوع ضاع، ومثل نبات القرع - المقدس - عند العرب الساميين، وكذا الجميز والجوافة، وتحليل أكل الضب والزواحف الصحراوية عند البدو، والقبائل العربية، وتحريم نفس هذه الزواحف في البلدان الزراعية، والجبلية. # فالاعتقاد منصب على أن قيم الأكل تسري خلال الأكل. # واستنادا إلى ما يقوله د. تيلور فقد وصلت إباحة الأطعمة وتحريمها إلى حد الاعتقاد عند كثير من القبائل الأمريكية - اللاتينية - بتحريم أكل لحوم الحيوانات الأليفة أو الجبانة، اعتقادا في أن خصائصها الجبانة ستتسرب لآكلها؛ ولهذا فضلوا أكل لحوم النمور، والأيائل أو المهر البري المتوحش من إناث الخيل البرية، والخنازير البرية، لشجاعتها وسرعتها وما تتميز به، خصال تسري خلال جسد آكلها، وحرموا الحيوانات الجبانة من ماعز وأبقار. # ويقودنا هذا إلى العلاقة بين السحر والتابو عند فريزر، خاصة في مقاله بدائرة المعارف البريطانية ونشره بالطبعة الثالثة من المجلد الثاني لموسوعة «الغصن الذهبي»، وفيه يقول: حوالي عام 1861 عندما كلفني صديقي وليام روبرتسون سميث، أن أكتب مقالا عن التابو للطبعة التاسعة من البريطانية، كتبت من وجهة النظر السائدة للأنثروبولوجيين والتي كانت قاصرة على دراسة الجنسين الأسود والبني لشعوب الباسيفبكي، وسرعان ما انتشرت الملاحظات الدراسية والميدانية للبولونزيين، وكان من واجبي أن أعدل وجهة نظري، فالتحاليل التي طرأت على نظام الخزعبلات بعامة لا تقتصر على المجتمعات الهمجية بقدر ما هي ممتدة داخل المجتمعات المتحضرة، فالتابو ما هو سوى واحد من الأنظمة المعادية للخزعبلات داخل مختلف المجتمعات والأجناس تحت مختلف المسميات والتفاصيل لأبنية المجتمعات المركبة من مختلف الوجوه من دينية واجتماعية وسياسية، وأخلاقية واقتصادية، ولقد ضمنت هذه النتيجة مقالتي، ولقد ms145 ضمن آرائي بعامة عن الموضوع صديقي روبرتسون سميث، والمنشورة في موسوعته عن الدين السامي، ومن هنا فإن أهمية التابو ونظامه في التغيير الديني والأخلاقي في نظم الحكم والميراث، أصبحت موضع الملاحظة، واتخذت مكانها الجديرة به داخل الأنثروبولوجيا المعاصرة. # أما ما عالجه فريزر في مجلده الثالث من «الغصن الذهبي»: «التابو وأخطار الروح»، فيمكن تلخيصه على النحو التالي: بأن هناك أربعة أفعال أو أشياء تابو أو محرمة هي: ~~(1) # الأفعال المحرمة، الأشخاص، والأشياء، والكلملت بالنسبة لممارسات التابو أو المحرم، نجد تابو يتعامل مع الغرباء. # 5 ~~(2) # خلال الطعام والشراب. ~~(3) # خلال رؤية الوجوه. ~~(4) # المنازل وخراب المنازل - خلال الصيام عن الطعام. # ثم تابو الأشخاص: ~~(1) # الرؤساء والملوك. ~~(2) # الندابون. ~~(3) # حيض النساء والولادة. ~~(4) # المحاربون. ~~(5) # القتلة. ~~(6) # صيادو الوحوش والأسماك. # بالإضافة إلى الأشياء المحرمة وهي: ~~(1) # الحديد. ~~(2) # الأسلحة الحادة. ~~(3) # الدم. ~~(4) # الرأس. ~~(5) # الشعر. ~~(6) # احتفالات الحلاقة. ~~(7) # تقليم الشعر والأظافر. ~~(8) # البصاق. ~~(9) # الطعام. ~~(10) # الخبط والطرق والأجراس. ~~(11) # حيوانات التوراة المحرمة مثل الجمال والخنازير. # وأخيرا الكلمات المحرمة وهي: ~~(1) # أسماء الأشخاص. ~~(2) # أسماء الأقرباء. ~~(3) # أسماء الموتى. ~~(4) # أسماء الملوك والأشخاص المقدسين. ~~(5) # أسماء الآلهة. ~~(6) # كلمات عادية. # وعلى هذه الأفعال والأشياء والممارسات التي حددها، أقام فريزر نظريته في الربط بين السحر والتابو، والانتهاء إلى أنه - أي التابو - نوع من السحر السالب. # وهي النظرية التي تعرضت لأشد الهجوم وأقساه، خاصة من مارييت وغيره؛ مما دفعه إلى تعديلها مرات، كما حدث في خطابه لروبرت سميث. ~~••• # وأخيرا فإذا كان هناك من قول بأن للتابوات، كنظام أو مؤسسة، دورها الوظيفي أو النفعي داخل المجتمع - على اعتبار أن التابو، كنسق أو بنية اجتماعية يحقق مع بقية الأنساق، ويتساند معها في دورها الوظيفي أو النفعي لتحقيق مضمون البناء الاجتماعي كنسق عام متكامل، وهو ما يدعو بالنسبة لمجتمعاتنا المعاصرة إلى سخرية - فلعل في إغراق المجتمعات القديمة في تابوات المرأة والجنس، جانبه النفعي الدافع في اتجاه تحديد النسل البدائي مثلا، لكن ومن الصعب تصور مدى العادم، الخسارة التي يسببها التابو بالنسبة للانفجارات السكانية اليوم ونقص الانتاج ومشاكل نقص الطعام التي تعاني منها شعوبنا. # وإذا ما أخذنا مثلا بسيطا، وليكن التابوات المصاحب لطرق ms146 ذبح الحيوانات والطيور عن طريق إراقة دمائها، وعدم الاستفادة من هذا الدم، بنفس الطرق المتوارثة منذ الكلدانيين العراقيين أي منذ 5 آلاف سنة إلى اليوم. # ولعل الكثير من تابوات ومعتقدات أولئك الكلدانيين الذين انتهوا في فلاسفة وكهنة حران بسوريا العليا، ما تزال سارية في تراثنا إلى اليوم، منها أنهم كانوا أول من ربطوا بين أعمدة الحكمة السبع، وبين أيام خلق العالم، وسبعة أيام الأسبوع، والكواكب السبعة السيارة؛ فقد جعلوا يوم الأحد للشمس واسمها إيليوس أو شمس، ويوم الإثنين للقمر، وهو نفس اسمه البابلي والكلداني سن، ويوم الثلاثاء للمريخ، ويوم الأربعاء لعطارد، واسمه نابق (ميركوري) ويوم الخميس للمشتري (جوبيتز) واسمه بل أو بعل، ويوم الجمعة للزهرة واسمها بلتي أو بعلتي أو عشتار، وهي ما أصبحت فينوس عند اليونان، ويوم السبت لزحل واسمه كرنس؛ أي ساترن أو كرونس. # كما أنه من الصعب تصور السالب والعادم الذي يسببه التابو بالنسبة للصحة العامة، مثل إخراج طعام الملائكة ووضعه في أريافنا إلى جوار جدران المنازل، وبدلا من أن تلتهمه الملائكة يتحول بالطبع إلى حشرات وأوبئة وجراثيم يعاني منها ريف مصر خاصة، والريف العربي عموما أشد المعاناة. # كما أنه من الصعب أيضا تصور مدى سيطرة التابو على الذهن البدائي ممثلا في عادات حفظ النصوص والترنم بها لتحقيق غايات واحتياجات قد تكون عصبية، إلا أنها في نفس الوقت منافية ومعرقلة لكثير من الطاقات الإبداعية. # فالسكينة أو الطمأنينة التي تضفيها مثل هذه الترنيمات، أقرب إلى السكون منها إلى الحركة والبحث، والديناميكية والاقتحام، وهو ما يتنافى كلية مع أهداف التربية - البيداجوجيا - المعاصرة والحديثة. # الفصل الثاني عشر # | اللغة ... والفولكلور # من المفيد لجامع ودارس الفولكلور الاهتمام بدقائق - فونيمات - اللهجة أو اللغة، واللغة مثلها مثل الكائن البيولوجي الحي تخضع للتغيير، بل هي تتغير فعلا وبأسرع مما نتصور، مثل ما يحدث للغات الحية من حولنا، فما بالنا بلغتنا العربية، التي لا نكف عن تمجيدها والتغني بجمالياتها ومحاسنها دون سلبياتها، وكأنها من المقدسات. # ودعاة الإبقاء على اللغة والنظر إليها كنوع من المحرمات أو التابو الذي ms147 لا يجب أبدا مساسه، بل ومجرد مناقشته وإخضاعه للحتميات العلمية والحياتية التي نعيشها، وإلا وجب علينا أن نتفق، فهم - بحق - دعاة جمود. # فتغير الحياة وميكانيتها الجديدة في نقل الصور، يحدث بالقطع تغيراته بالنسبة لأدوات الاتصال جمعاء، وأخصها اللغة. وكما يقول عالم اللغويات ستيوارت فليكسنر كبير المشرفين على إعداد معجم - قاموس - راندوم هاوس للغة الإنكليزية، فإن الكلمات التي نستخدمها تتغير اليوم بسرعة أكبر ليس فقط بالنسبة للعامية، لكن بالنسبة لكل مستويات استخدام اللغة، وإن السرعة التي أصبحت تظهر بها الكلمات وتختفي قد تزايدت بشكل حاد، وما يصدق على اللغة الإنكليزية في هذا الشأن يصدق أيضا على الفرنسية والروسية واليابانية، وبالطبع العربية. # ويرى فليكستر أن وليام شكسبير قد يبدو أميا اليوم، فعلى أيامه لم يكن عدد كلمات اللغة المفهومة يتعدى 250000 كلمة، أما اليوم فالعدد يصل إلى 450000 كلمة. فبالنسبة إلى الإنكليزية استبدل حوالي 200 ألف كلمة وربما أضعاف هذا العدد، على مدى القرون الأربعة المنصرمة، بل واستنادا إلى آراء هذا اللغوي الكبير، فإن معدل التغيير داخل اللغة وتواصلها قد وصل إلى معدلات هائلة حقا، منذ ما بعد الحرب العظمى الأولى 1914 وذلك نتيجة لثورة المواصلات، وأخصها الراديو والتليفزيون. # بل إن التغيير لحق حتى مدلولات اللغة، فأصبحت كلمة «أسود» المهينة تعني القوة السوداء، بالإضافة إلى استخدامات الكلمات الخنافس، والضفادع، والجاموس البري، والثعالب، والكلاب السخنة وهكذا، ومما تستحدثه فرق الجاز والروك ومسارح الشوارع وغيرها، وتسجله أسطواناتها من كلمات كانت تعد خارجة أو ممجوجة لتصبح على الفور كلمات مشهورة جدا. # والملفت أن مثل هذا التغيير الموازي للسرعة الإلكترونية لا يلحقنا هنا في مصر والعالم العربي بشكل كاف. # كيف؟ # فاللغة عندنا، ما تزال إلى أيامنا هذه مكبلة بالأساطير وأبنيتها اللغوية والأساطير تحكم حياتنا. # وكما تقول الآنسة لينا ماكليد، فإن آفة اللغة هي الأساطير. # وهناك مدرسة كاملة تعرف منذ منتصف القرن الماضي بالمدرسة الميثولوجية لدراسة الفولكلور، أو لاتخاذ الفولكلور - برمته - مجرد خلفية للتبحر في الأساطير، وذلك منذ يعقوب جريم ومن سار في فلكه من الدارسين الألمان، منهم مانهاردت وشفارتز والبيرت ms148 كون، وأعلاهم باعا هنا هو الألماني الأصل الإنكليزي المعرفة والثقافة ماكس موللر. # ووصل بالبرت كون في استخدامه لهذا المنهج إلى حد بناء نظريته بكاملها (1812-1881) التي اكتملت في كتابه «أصل النار وشراب الآلهة» كعالم لغوي في كلا الألمانية والسنسكريتية، شارحا أسطورة بروميثيوس اليونانية، وصلته بالكلمة أو الاسم السنسكريتي براماتياس. # وعندما تقدم بكون السن، وضع كتابه عن «مراحل نمو الأساطير» أو مراحل تطور تكوين الأساطير لغويا. # وسار على نفس الدرب رواد هذه المدرسة اللغوية الميثولوجية عن الأصول - اللغوية - للأساطير، والميثولوجيا الدينية بعامة، مثل شفارتز، ورأس منتصف القرن الماضي ماكس موللر، في محاضراته في علم اللغة، والأساطير المقارنة، وهو في نظريته عن الأصل اللغوي للأساطير، وسماه بعلة اللغة ومرضها من كنايات ومترادفات واستعارات ومتشابهات ... إلخ. # وطبعا لا حاجة هنا إلى شرح لوغاريتمات وطلاسم لغتنا الجميلة - العربية - من نصب ورفع ومطلق، وكل ما يتصل بإعرابها نسبة إلى يعرب أبو العرب الساميين، وينسب له أنه أول من تكلم العربية وكان من فحول اللغويين الطبقيين المتبحرين في الإعراب، فهو القائل: «وليس جمع خيرا من جمع ولكن جد خير من جد.» # وكما يقول العالم الأنثروبولوجي الروسي الأصل برونسلاف مالينوفسكي (كركوف 1884، نيوهافن 1042) فإن اللغة - أية لغة - لا تلعب فقط دور الحارس أو الحامي للأسطورة، بل إن اللغة هي في حد ذاتها لعبة الحكم والحفاظ على الأوضاع الطبقية الاجتماعية. # وبالطبع يذكرنا هذا، بمدى سيطرة مجموعة اللغات واللهجات - للعائلة - السامية التي انتهت وتبلورت في العربية - الفصحى - والعبرية، وكيف أنهما ما زالتا إلى اليوم مكبلتين، أو هما حارستين للتراث الأسطوري، أو الوهم كما يسميه كافكا، غير مدرك لدوره أو المصلحة المناطة به طبقيا. # كما يذكرنا هذا بمدى اكتمال روافد لغات العائلة السامية في الفصحى واتساع وقعتها، لدرجة أنهت بها عديد من الحضارات السامية وغير السامية، مثل الحضارة المصرية الفرعونية التي لا بد وأنها مرت بتغيرات كمية ربما منذ أواخر الدولة الوسطى، لحين دخول العرب مصر وسيادة العربية فيما بعد. # وكما هو معروف فقد أطلق الساميون واشتقوا من لغاتهم أسماءهم وأسماء أعلامهم ms149 وتقويماتهم، فتسمية الساميين نسبة إلى سام بن نوح، وأصله في العربية والعبرية سام أو شام أو شم. # كما أن جده الأعلى، الإنسان الأول آدم، نسبة إلى أرض أدوم، التي اكتشفتها منذ سنوات قليلة البعثات الحفرية العاملة في الأردن وبادية الشام. # ولفظة آدم تعني أديم الأرض، كما أنها تعني الإنسان - الأديم - القديم، وارتباطها باستمرار الحياة يعني الحاجة للطعام أو الأدام. # 1 # أما زوجته حواء فيشير اسمها إلى الحياة والحيوات، وبما أن حواء كانت قد جلبت الخطيئة الأولى وما أعقبها من طرد من الفردوس أو جنة عدن نتيجة لتوحدها بالحية، وهي المخلوقة الوحيدة المستأثرة بالحياة والحيوات نتيجة لقدرتها على تجديد جلدها كما يرد في ملحمة جلجاميش الذي يدعوها ب «أسد التراب»، بعد مخاطراته ورحلاته العبورية للحصول على ماء الحياة أو مية الحياة، أو نبات يعيد الشيخ إلى صباه، فكان أن سرقته الحية، وبهذا قدر للحية تغيير جلدها ونيل طيلة العمر - بدلا من الإنسان القديم. # وطبعا ترتب على طرد حواء من الجنة أو الفردوس عقابها الشهري الممثل في الحيض وسيادة الرجل الذكر عليها: «تكثيرا أكثر أتعاب حملك، وبالوجع تلدين أطفالا، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك.» # ثم ذلك العداء الأزلي الرباعي بين الرجل والمرأة والحية والشيطان: # اهبطوا بعضكم لبعض عدو ~~. # وحواء هذه هي بذاتها إناثا أو إناث أو أنثى، كما وردت بنفس هذا الاسم منذ السومريين اللاساميين - 4 آلاف عام قبل الميلاد - واكتمل اسمها في روافد اللغات السامية القديمة، إلى أن وصلنا اليوم نفس الاسم، بل والإدانة الاجتماعية - أنثى - على اعتبار أنها أدنى منزلة، وتعقلا من الرجل كامرأة - أو مرة - أو أنثى «ناقصة عقل ودين» ... إلخ. # مع ملاحظة أن أقدم أشكال العبادات البدائية تمثل عند عديد من مجتمعات العالم القديم، وما يزال محفوظا إلى اليوم والآن في لغتنا الأسطورية مثل عبادة «الرحم» الخالق، ومنه كما أشرنا في جزء هذا الكتاب الأول، تواترت اشتقاقات العودة للرحم # 2 # في رحمة ومرحوم بل وحرام وتحريم، ثم أسماء الله الحسنى رحيم، رحمن ... إلخ، وأسماؤنا عبد الرحمن، رحمة، رحيم، رحمى ms150 ... إلخ. # أما فيما يتصل بإبليس أو الشيطان أو الجني الذي أغوى حواء، وعديد من الزوجات مثل «برهة» زوجة نوح التي أشعلت فلكه نارا قبل أن يكتمل 31 مرة، ومثل «رحمة» زوجة النبي أيوب نبي الأدوميين حين استجابت بدورها لغواية الشيطان أو الجني. # فالجني كما هو واضح من الاشتقاق اللغوي، حارس الجنة، ومنه يتواتر الجنون، وهو عادة ما يسكن كشيطان شطئان البحار والمستنقعات وآبار الماء بل والرأس مسببا الجنون، كما قالوا بأن الرأس مكمن الخطايا، وجاءت صياغته من مادة أعلى منزلة من تلك التي صيغ منها الإنسان القديم، آدم من أديم الأرض أو طين العمق، فهو قد صيغ من نار، على العكس الكامل من حواء، التي ترد في الأساطير الكنعانية الفينيقية أدنى منزلة من الرجل، حين خلقت من الضلع السادس للرجل - آدم - أو إيل الكنعاني وهو إله الساميين الفينيقي الأصل المتجبر، الذي عرفه اليونان في كرونس، والذي تنسب له عادة التضحية بالابن البكري بل والوحيد؛ حين ضحى بابنه الوحيد وسمي بالفعل «وحيد» عندما اجتاح الطاعون مدن الشام، فأحرق وحيده تشريفا لأبيه أورانوس، وهي شعيرة وجدت بكثرة مفزعة إلى أقصى مدى؛ أي بمئات الألوف المؤلفة، ويفسرها البعض بنوع من تحديد النسل البدائي أو الهمجي، بل وظلت سارية ومتأصلة إلى ما بعد مجيء الإسلام، وطبعا ما تزال بقاياها سارية حتى وقت قريب، حتى فيما يتصل بوضع طفل أو نحره في أساس المنشآت الدينية، بل والتي دخلتها الآلية كماكينات الطحين، وربما يكون يوسف إدريس قد سمع أو أنه لحق مترادفاتها إلى أيامنا هذه. # بل إن الاسم المفضل لبطل السينما المصرية - خاصة فريد الأطرش وأنور وجدي وعبد الحليم حافظ - هو «وحيد» وهو أحد عوامل ترويج الفيلم المصري في الشام في الخمسينات. # أما في أساطير العرب واليهود فإن الله استخدم الرواسب الطفلية في صياغة حواء الأولى في الميثولجيا العربية والعبرية. # والأخت الثانية من بنات الله الثلاثة - اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى - فالعزى كانت النار، ومعناها في اللغات الكلدانية والبابلية النار، أما معناها في العبرية والعربية القديمة فهو ms151 الشدة أو القوة، إلى أن عرفت إلى عزة ومشتقاتها فيما بعد، العزة، ويعزز وعزوة وعزة ، وهو اسم أصبح يطلق على جيل ما بعد ثورة يوليو من البنات، ربما كنتيجة لتشديد زعيمنا الراحل عبد الناصر في استخدامه وإطلاقه منذ 1956. # أما شقيقتيها الأولى «اللات»، والثانية «مناة»، وهما أيضا بالنسبة للعرب والعبريين من أصول سومرية وأكادية وبابلية، بأكثر من ألفي عام، فاللات تأنيث الله في اللغات السامية القديمة، كما أن الاسم منى أو مناة أو منوات، فله مترادفاته واشتقاقاته، منها منى، ومنية، ومنى، ومنها جبل منى إلى اليوم في السعودية. # وجمعها طبعا منايا ومنوات، وهو ما لا يزال يغرق الشعر العربي إلى اليوم. # ومن بين أسماء الآلهة التي حفظتها اللغة وخاصة الفصحى اسم «بعل»، وهو اسم إله أو صنم، أصبح لقبا بمعنى زوج أو سيد، وكان الساميون الأوائل وخلفاؤهم العرب والعبريون يلقبونه - بعد أن أطلقوه على كل مظاهر الطبيعة من حولهم - سيدنا، وهو ما لا يزال إلى اليوم بالنسبة لأنبيائنا وأضرحتنا ومزاراتنا. # وحين استقدم صنمه الكاهن الخرافي المداح الشاعر عمرو بن لحي الجرهمي، ونصبه حول الكعبة فيما قبل الإسلام، سماه هبل - بضم الهاء - أو هو بعل، وهو ما تواتر إلى هبل - بفتح الهاء - بعد أن حطم صنمه أو تمثاله المسلمون وتحولوا عن ديانته، فكان أن أصبح اليوم هبلا، أو خيبة. # وبالنسبة للاسم «هاجر» الذي يرد في ملحمة أو مديحة سارة وهاجر، وهي الزوجة الثانية التي تزوجها الخليل إبراهيم - إيل - وأنجب منها إسماعيل أبو العرب الشماليين في نجد والحجاز، فيبدو أن مشتقات الاسم تواترت فيما بعد إلى هجرة «الزوج» للزوجة الثانية، أكثر من ارتباطه بالهجرة أي هجرة هاجر وابنها إسماعيل بكر إبراهيم إلى مكة أو أرض فاران، بعد أن غارت وطردتهما الضرة - أو الضارة - سارة، الآلهة الأم لقبائل إبراهيم المهاجرة. # لكن اسم هاجر يرتبط بكونها الزوجة المهجورة أو المضطهدة، سواء أكانت زوجة أو جارية، فعلى هذا تعارف على - أيتم - تصنيفها في الفولكلور العالمي؟ # ومن اشتقاقات اسم هاجر، ما يزال يتواتر - نسائيا - تعبير أن فلانة ms152 زوجها هجرها، وأنها أصبحت هجارة أو هجالة أو مهجورة. # أما سارة، فينسب لها الرداء النسائي المعروف بالساري الهندي، ومشتقاته من يسر ومره، وسار وثائر وثأر. # ويكنى عن الاسم إبراهيم، بأبو خليل، أي خليل الله أو صفي الله - إيل - بالسريانية؛ إبرا معناها صفي أو خليل، وإيل هو كبير الآلهة السامية إيل، ويرد بهذا الاسم فعلا - كبير - في حفائر بيلومي، ورأس شمرا، وقرطاجنة، وكريت. # ولقد خلف كبير الآلهة السامية إيل هذا اسمه على كثير من الأماكن التي ما تزال مقدسة في سوريا ولبنان وفلسطين وإسرائيل ب «بيتل» وتعرف بشكل مضغم أو «بيتول» ومنه تواتر تعريف مريم بالعذراء البتول، أي التي تنتمي إلى بيت إيل أو إيلات، ومن اسمه كما ذكرنا جاءت تسمية إسرائيل، وملائكة العرش وأسماء الأعلام العربية والعبرية والمسيحية، مثل صموئيل وجبرائيل وميخائيل أو ميكائيل (أنجلو) ودانيال أو دانييل، وسعدائيل وسعدية، ووائل، وكامل، وإميل ... ~~ إلخ. # وكما أن «كبير» كانت تسمية لإله أو صنم فأصبحت صفة، كذلك «ملى» كانت اسما لإله أو صنم أو طوطم عند قبائل ثمود البائدة أو المندثرة فيما قبل الألف الثالث ق.م، وكانت أنثاه الإلهة أو الكاهنة - المومس - مولي عند العمونيين سكان عمان، ومن الاسم الأسطوري للإله أو الصنم أو الطوطم «ملك» تواترت بالضرورة ملكية، والملكية والتمليك والتوريث كانت الهدف الأول للعالم القديم، فهو «إما مباع أو مشترى»، بل إن هذه القبائل من عبدة القمر، قد حفظت لها اشتقاقاتها اللغوية اتخاذ صلات القرابة والرحم وأطوار العمر المختلفة من أسماء قمرية مثل: قمر، ونجم، وهلال، وعم، وجد، وكهل، وهي كلها كانت أسماء للآلهة القمرية منذ العرب البائدة في الجزيرة العربية، عند الآلاف المؤلفة من قبائلها وعشائرها التي عرفته باسمه السومري «س» واسم «شهر». # كذلك حفظت لهم روافد اللغات السامية تقديس جهة اليمين، التي أطلقوها ليس فقط على اليمين، بل على ما هو واقع على يمين القبلي؛ ولذلك شملت تسمية اليمن الشام بأسره، ومنها تواتر أهل اليمن واليمن والميمنة ... إلخ. # ويذكر تيلور # 3 # أن تقديس الناحية أو القبلة التي يولي ms153 الناس وجوههم شطرها وهم يمارسون أعمالا معينة لها أهميتها في حياتهم، ولهذه الطائفة من الشعائر رمزيتها الواضحة المميزة؛ نظرا لارتباطها الوثيق بالشمس وبرحلتها اليومية من الشرق إلى الغرب، أي إنها شعائر توجيه مرتبطة بعبادة الشمس. # ومن هنا فمعظم الشعوب البدائية تؤمن بأن عالم الموتى يقع في الغرب وجهة أو تسمية الغرب، المشئومة أو التابو هذه، قد تكون متواترة أو مرتبطة بالغراب - النواحي - المشئوم أيضا، والنطق الشائع عند رؤية الغراب هو: غرب؛ أي اذهب إلى الغرب. # وما أكثر الأسماء الأسطورية، أو أسماء الآلهة والأصنام والطواطم التي تواترت إلى أسماء أماكن وأعلام مثل: هيبة، ونسر الذي حرف إلى نصر، وصفر، وجاد، وهامان، وهامام، وسعد، وسعدية، وود الذي تواتر إلى وداد، ونفيسة، وديان، وآمون أو أمين، وأدون أو أدونيس، وعوض، خلف، وسامي، نسبة إلى سام بن نوح، على عكس أخيه حام ابن اللعنة، أو «الخام» الأدنى منزلة. ~~••• # وكذلك تضمين اسم الإله أو الآلهة لبناته أو طائره أو طوطمه المقدس، مثل شجرة الجميزة - المقدسة - (شجرة صخور) والتي تنسب إلى الإلهة المصرية الأم إيزيس التي تعارف عليها العرب باسم «إيزه» أي جم-إيزه؛ أي شجرة إيزه، ومثل ليمون أولى بمعنى ماء-آمون، وزيت-أون أو زيتون. # كما أن أسماء الآلهة والإلهات القديمة من شمسية وقمرية وطواطم، ما تزال تتواتر حولنا؛ مثل الإله القمري - القط - بس، إله مصر وغرب آسيا. # وكانت كعبة هذا الإله دبستس المعروفة إلى اليوم بالقرب من الزقازيق بوبسطة أو تل بس. ~~ ويذكر هردوت (القرن الرابع ق.م) احتفالات أو موالد «المصريين» بجميع أو بانثيون قطط بوبسطة، فقبل وصول الزوار إليها يعري النساء ثيابهن «والرجال يحتفلون بالعيد، ويقدمون أضحيات عظيمة، ويستهلكون من النبيذ أكثر مما يستهلكون في كل العام، ويبلغ عدد الزوار - وفقا لقول أهل البلاد - أكثر من سبعمائة ألف من الرجال والنساء عدا الصبية». # وقد وجدت تماثيل الإله بس، بأعداد هائلة في فينيقيا ومستعمراتها في جزر البحر الإيجي واليونان، وقرطاجنة في تونس. # كما يذكر هردوت أنه عندما كانت تموت قطة في منزل ms154 مصري، يحلق سكان المنزل حواجبهم فقط، أما عندما يموت لهم كلب فيحلقون شعر البدن كله حتى الرأس. ~~••• # ومن اسم الإله الابن اليتيم حورس - ورمزه العين الحارسة أو أن «العين عليها حارس»، ولا نزال إلى اليوم نقول حور العين أو حوراء العين ... إلخ. # ومن اسم آلهة الإخصاب الجنسي للناس والبهائم عشتر، تواتر عشار وتعاشرة وعشرة وعشيرة. # كما أن من تسمية «فرج» المرأة، ما يتوحد مع الفرج والتفريج، والفرجة. # فرغم أن مشكلة المشاكل في اللغات القديمة هي المعنى، إلا أن لغتنا ما تزال حافظة لأصولها الأولى الطوطمية، أو الأنيمية الروحية، من ذلك كلمات تابوات، حرم وتحريم ومحرمات، وحرام - الحج - ومحروم، وحريم، وحرملك في العصر التركي والمملوكي. # ومثل شعيرة أو أشعار وارتباطها بالشعر وقدسيته عند الساميين والآريين على السواء. # فالآريون تسموا باسم شعب بهارات، نسبة إلى الهند أرض البهارات، وكذلك تسمت ملحمتهم العظيمة - 108 ألف بيت من أبيات الشعر الثمانية المقاطع - ملحمة الماها بهارتا أي أهل أو بلاد بهارات. # واستنادا إلى نظرية سير ريتشارد تمثل بالنسبة للقوانين التي تحكم اللغة ومشتقاتها والإعراب الذي تخضعه قوانين وقواعد محددة في معظم اللغات العالمية منذ عام 1899، فإن الاشتقاقات اللغوية تجيء تحت تأثير الاحتياجات النفسية أو العصبية، والمادية، والاجتماعية. # فالمعنى هو مشكلة المشاكل في اللغات القديمة، وكما يقول مالينوفسكي فإن معنى الكلمات يهدف إلى وظيفتها أو منفعتها أو استخداماتها، فقد اعتقد مالينوفسكي بأن هناك ارتباطا كبيرا فعلا بين اللغة - السحرية أو الطوطمية - واشتقاقاتها، وأن بنائية اللسان والتركيبات اللغوية تؤدي فعلا إلى احتياجات أو منافع عصبية، إلى جانب منفعيتها لذاتها، ومعنى هذا أن قراءة الرقى والتعاويذ، وترتيل النصوص الدينية والتجويد وأساليبه يلعب بالضرورة دورا في أعصاب السامعين. # وكما يقول أرنست كاسيرر، فقد تتغير العادات والأفكار الدينية بمرور الزمن، أما كلمات هذه التراتيل وإيقاعها، فإنها تبقى بغير تغيير على الدوام، وعادة ما تنشد دون فهم لها. # ويلاحظ أن نصوص هذه التراتيل الشعائرية أو الدينية تحكم بنائية إعرابها برمتها، وليس العكس، ومن هنا تظل اللغة أسيرة قواعد أو بنائية النص الديني ms155، بدلا من أن يحدث العكس أيضا. # وكما هو معروف فإن الترتيلة الدينية، هي الحارسة الأولى للأسطورة أو مجمل الأساطير. # وأرجع البعض هذا إلى عبادة الموتى، وتمثل حكم الأسلاف، الذين تعارف الساميون على عبادتهم، فكانوا يدفنون موتاهم من الأجداد معهم في نفس منازلهم، وتعاملوا مع جثثهم ورممهم بأساليب حياتية، يحادثونهم ويشكون لهم، ويعرون وجوههم مقبلين مستشيرين في كل الأمور وقبل اتخاذ أي قرار: زواج، حرب، هجرة، قتل، بيع، شراء ... إلخ. # فالعرب والعبريون - خاصة - كانوا من أقدم عبدة «جثمان» الأسلاف أو التابوت، تابوت العهد، بل وربما كانت هناك اشتقاقية بين كلمة «تابو» أو الشيء المحرم أو الحرام وبين التابوات أو تابوت العهد، بمعنى أن كلمة تابو كلمة أو اشتقاق سامي، أكثر منه بولونزي، وهو على ما تعارف عليه جميع الأنثروبولوجيين الذين أرجعوا هذا التعريف إلى أصله البولونزي. # ولا يمكن تصور مدى الصراعات والحروب القبائلية الطاحنة لدرجة الإبادة في التنازع على جثمان آدم، أو رأس عيسو أو العيص بن إسحاق أو عصا شعيب وموسى ويوسف - وهي شارة سلفية - على طول تاريخهم الطوطمي. # بل إن كلمة حرب أو سنحارب، منحدرة إلى اليوم بنصها ومدلولها منذ أسرة أو مجموعة الملوك الآشوريين المحاربين القساة ملوك سوريا العليا الذين عرفوا بنفس هذا الاسم - سنحاريب - وقادوا سلسلة من الحروب الطاحنة ضد الإمبراطورية الفارسية الإيرانية منذ أن هزمهم سنحاريب الأول في 703ق.م، وتملك إيران ونصب ابنه سنحاريب الثاني بابل. # وتعارف الساميون من عرب وعبريين على تسمية فراعنة مصر، باسم عون أو فرعون، واعتبروهم خارج النسل السامي، وما تزال الآلاف الكثيرة جدا من حكايات وخرافات الأعوان تتواتر شفاهيا إلى أيامنا هذه على طول أقطار العالم العربي. # كذلك تعارف الساميون على تحقير ملوك العراق أو نماردة بابل، ووجد اسم «بابل» في الآثار والمدونات التاريخية الفارسية الإيرانية، منذ أن هاجمها قورش في سنة 615ق.م. # وما يزال الاسم محفوظا إلى اليوم في إحدى مقاطعات أو مديريات العراق المعروفة باسم نيمرود، وفيها كشف الحفري بولسين، آثار نيمرود وآشور المحفوظة بالمتحف البريطاني. # ويبدو ms156 أن الكريتيين والإيجيين اليونانيين عامة كانوا أول من اخترع الكفتة، فلقد تعارف على تسميتهم المصريون القدماء منذ الدولة الحديثة - الكفتيو. # ومن المعروف أن الفينيقيين الشوام قد استعمروهم منذ أقدم العصور - الألف الثالث ق.م - ويبدو أنهم قد تعلموا منهم عمل الكفتة؛ ولهذا تعارف الكتبة المصريون منذ العصر البطلمي على تسمية الفينيقيين أنفسهم بنفس الاسم «الكفتيو». # كما أنهم تعارفوا على تسمية إيطاليا وجنوب فرنسا باسم بلاد الغال، أو الغول، كما قد يكون الاسم تحريفا لبلاد «العال» على اعتبار أن اللغات السامية القديمة لم تكن تستخدم التشكيل أو التنقيط، كذلك حرفت حضارة أو عصر أرك - كما يسميها التوراة - إلى الوركاء، وكذلك حضارة ما قبل التاريخ المعروفة بسوس التي يرى البعض أنها أقدم حضارات آسيا الغربية. # ومع اتساع رقعة وحجم الانكباب على دراسة علم الإنسان الثقافي - الأنثروبولوجيا - باستخدام المناهج البنائية في السنوات القريبة، يبرز أول ما يبرز الاهتمام بدراسة اللغة، فاللغة مجموعة مترابطة من الأوضاع الكلامية التي تراعيها وتتوارثها جماعة معينة في الكلام، فالجماعة أو المجتمع أو البلدان التي تتكلم لغة معينة، مثل الفصحى أو عامياتها، يعتبران معا - الجماعة واللغة - من أهم ملامح البناء الاجتماعي؛ فهناك علاقة حميمة أو متكافئة بين البناء الاجتماعي واللغة، وذلك أن اللغة ما هي إلا نسق أو بنية، لها خصائصها العامة المشتركة، وتخضع لأبنية عقلية وقوانين اللغويات، بل إن مظاهر الزمن تخضع أيضا إلى التحليل اللغوي، وهو ما لفت إليه تومبسون عن طريق القوانين التي وضعها وتوصل إليها وورف في دراسة اللغة في مجتمع الهوبي، والنتائج التي توصلت إليها الآنسة غلاديس ريتشارد عن قبائل النافاهو عام 1950، وما أثبته نادل عن وجود علاقة بين النظم الدينية والكهنوتية والسحرية في مجتمع ما، وبين مظاهر نموه النفسي واللغوي، أو إشاراته - الكلامية - التي اتفق عليها «بالفونيمات»، والتي أمكن حصرها بدقة في حدود بضعة آلاف - مقطعا أو فونيما. # ومن هنا يصبح من المفيد جدا اهتمام مراكز الفولكلور وهيئات جمع التراث، بملاحقة الأدوات والأجهزة التقنية المتقدمة التي أصبحت تستخدم بالنسبة للتسجيلات والأبحاث اللغوية. # وإني ms157 لأتفق مع عبد الحميد حواس في أن حقول البحث في الفولكلور والأساطير عندنا على مستوى بلداننا العربية ، وما تزال خصبة، خاصة من حيث هذا النسق اللغوي للعربية وأصولها وروافدها وما انتهت إليه، بمعنى أنه ما يزال من الميسور بالنسبة لنا في منطقتنا العربية التوصل إلى نتائج أقرب إلى الدقة العلمية، بشكل أسرع وأقل مشقة مما أصبحت تعانيه مجتمعات ما فوق التصنيع، في الغرب عامة. # بل إنه ليسرني أن أختم ملاحظاتي حول أهمية دراسة اللغة وإعادة التعرف على جذور لغتنا العربية، بالإشارة إلى بحث قصير أو فهرست نشر بمجلة «التراث الشعبي» العراقية بالعددين الثاني والثالث عام 1975، حول أصول بابلية لكلمات عربية، متداولة، ليوسف داود عبد القادر، مستندا على ظهور الطبعة الأخيرة لملحمة «أتراجاسس العراقية»، أو ملحمة الطوفان البابلية التي ترجمت من البابلية إلى الإنكليزية عام 1968، وتولى ترجمتها الأثريان الكبيران «جي لامبرت» و«ميلارد»، وألحقا بها فهرسا بالكلمات البابلية التي وردت في نص الملحمة، رتبت حسب حروف الساكنة، أو حسب جذور الكلمات بالنسبة إلى أصلها السامي. # وعن طريق مقارنة هذه الكلمات البابلية القديمة - 4 آلاف عام - بما يشابهها من كلمات عربية فصحى أو عامية، يمكننا القول بأن أية محاولة لغوية لوضع معجم حديث للغة العربية لا تستند إلى دراسات مقارنة في اللغة السامية، ومنها العربية؛ ربما جاءت عقيمة لا مجدية. # بل إنه يمكن ملاحظة أن معظم ما نستخدمه في حياتنا اليومية الآن وفي هذا المكان، له أصوله البابلية والأكادية والكلدانية. # ومن ذلك: واو العطف، وابن، وآبو، ويوم، وعين، وعش، وأب، وعباب - الطوفان أو السيل - وأدان أو آذان بمعنى عين وقتا، والأذن، وأخذ، والأخير، وأكل، وإيل - أو الإله إيل - وعلى أو فوق، وبلد، وعليل، وأم، وعم، وهوم، وأنا، وأنا أكون، وزمان، وعسل، ويشير، وأقل، ورمان، وباب، وبعل - أوسع آلهة الشعوب السامية # 4 # أو الزوج أو رب الشيء ومالكه وأنثاه البعلة بمعنى ربة البيت، وبشع، وبيت، ويبكي، وبكر - بمعنى المولود الأول فاتح الرحم - وبانوا أو يبني، وبينو أي ابن، وبنيان، وبشرى، ويبرك، وجليل، ودق، ويدلي - ينزل ms158 أو يذل - ودم، ودمع، ويزكي، وذكر، وزمار، وذقن، أو لحية، وذري أو محتقر، ويكسب، ويطرد، وكل أو جمع، وقرب، وقرص، كبس بمعنى ملء الشيء، وكرش، وقصد، وكتم، ولا، ولوى - لواه يلويه ليا - ولت بمعنى اللت والعجن، ولب بمعنى قلب أو لب الأشياء، وبيت، وميت، وملأ، وملك، ومن؟ وميا، ومر، ونون - أي السمكة النون - والحوت، ونهر، وقدم أو سم، وريش، ورب، ورجم، وركب، وصلة - أو قرابة ومنها صلة الرحم - وناس، ونشر، وزق - زقاق - ونبأ، ونحر، ونير أي الظلم، وبلل - أي تبلبل الألسنة - ودهر، وداس، وثان، وسرق، وذباب، وخلق، ونكر - أي أنكر وتجاهل ... إلى آخر ما جاءت به هذه الملحمة البابلية من كلمات عربية فصحى أو عامية، ما تزال تعيش على ألسنة شعوبنا العربية، برغم الأربعة أو الخمسة آلاف عام التي تفصلنا عن البابليين. # الفصل الثالث عشر # | هذا التراث الجبري السامي # وإذا ما كان الهدف الأخير لهذا الكتاب وسابقه محاولة الدفع بدعوة إعادة تفهم هذا التراث - العربي والعبري - السامي، الذي ما يزال يلعب دورا دافعا لحركة التاريخ، لتحقيق أغراض ومصالح مؤكدة، لعل أبسطها سلسلة القهر والاضطهادات والحروب المتوالية - تاريخيا ورياضيا - من اضطهادات عنصرية، ونوعية، وعرقية، وتجييلية تتصل بالفواصل والمسافات بين أطوار العمر المختلفة، وهو ما نشهده أو نقرأ عنه عنفا داميا على طول شرقنا العربي. # وقد يكون الاسترسال في التعرض لسلبيات هذا التراث هو في حد ذاته تابو أو مناطق لا يصح اجتيازها أو إخضاعها للتعرف والمناقشة، فكيف يمكن مناقشة المقدسات والتراث الخالد، أو هو الحافظ والحارس والمهيمن على مصالح واضحة متسلطة لها تكاملها الطبقي السياسي. # وعلى هذا فلا مجال هنا للأخذ بنهج دفن الرءوس في الرمال، ونحن نتعرض لموضوع التعرف على موروثاتنا الثقافية بهدف عقلنتها، وفي اتجاه الامتثال لحتميات العصر العلمي التكنولوجي الذي نعيشه، بشقيه الاشتراكي الشيوعي، والاستعماري الإمبريالي. # فلعل أبسط وأجدى إيجابيات المعرفة وتفهم هذا التراث فيه إنهاء لكافة أنماط وأشكال المزالق الحضارية وأزماتها في المحل الأول بمفهومها العقلي الديموقراطي السلوكي، منذ علاقات وممارسات الشارع على طول مجتمعاتنا العربية الإسلامية ms159، حتى حروبها وأزماتها السياسية، ولعل أبسطها هنا على مدى السنوات العشر الأخيرة - كمثال أقرب - هو سلسلة حروب وغارات الشرق الأوسط منذ سنة 67 تتقابل وتتعاصر معها حروب شبه القارة الهندية - الإسلامية - للهند وباكستان وبنجلادش، وهي جميعها حروب أقرب إلى الهزات والتشكلات الإقليمية العنصرية، منها إلى الحروب التحررية، ولنقل الطبقية، وبالطبع هنا استثناء واحد، هو حالة ردود أفعال التحرر الوطني واسترداد الأرض. # وبالنسبة لاستخدام هذا التراث، خاصة جانبه الأنيزمي، على المستوى الداخلي، فإنه إذا ما أخذنا مثالا واحدا أقرب، ولتكن النتيجة المزرية الملفقة لانتخابات مجلس الشعب المصري، والاستخدام - الدنيء - لأسلحة الإرهاب الديني، إلى جانب التحالفات العرقية والقبلية العرقية، وما من مرشح في ريف مصر لم يستهد بأشجار وفروع العائلة - والنسق القرابي - من سلاسل نسب وعشائر وبطون مكونة للبنيان السكاني للدوائر الانتخابية، وبطرق تدعو إلى كل تهكم، برغم النتائج السياسية. # فلعل من منافع إعادة تفهم تراثنا هذا، فيه إنهاء وإعادة تصحيح للكثير من أنماط وأشكال القهر والإدانة والتجبر الطبقي والتعصب والاضطهادات بمختلف أشكالها. # من أهم هذه الاضطهادات بالطبع هو الاضطهاد النوعي، بمعنى تفوق وتسيد الرجل الذكر على المرأة الأنثى، وما يستتبع هذا من إرث وحقوق شرعية وحجز وتنكيل، والذي يلعب بالتالي دوره في تخريب الأسرة، مواصلا توالده - الذاتي - التخريبي، بما لا نفع منه إلى ما لا نهاية. # كما أن من المفيد معرفة أن أي شكل من أشكال الثورة أو الحركة النسائية لاستعادة تعقيل وضع المرأة في بلادنا - بما يفيدها ويفيد الإنتاج بعامة - سيوئدها هذا التراث السامي - الذكري - الضاغط المتجبر. # واللافت هنا أن معظم علماء المصريات يأسفون أشد الأسف، للوضع المتقدم الذي كانته المرأة المصرية منذ الدولة القديمة، والذي أخذ في التدهور التدريجي في العهد المتأخر نتيجة لانفتاح مصر على تخومها السامية الآسيوية، فيترحم د. فلاندرز بيتري، أول من أنشأ فرعا خاصا لدراسة المصريات بجامعة لندن، وهو ما أصبح تقليدا في معظم جامعات العالم فيما بعد، على ذلك المدى المتقدم الذي تكشف عنه برديات الدولة القديمة، والذي واصل انحطاطه على مدى عصور اتصالات مصر ms160 بالساميين إلى آخر مداه. # ولعله من الأليق تسجيل هذه الملاحظة الصحيحة بالنسبة لاحتفاظ المرأة المصرية بتفوقها النسبي على زميلتها وجارتها - العربية - سواء بالنسبة للتخلص من الحجاب، أو المشاركة العامة في الحياة المعاصرة، أو - حتى - بنسق التابو، ومنه «تابو» الذبح من طيور وحيوانات، وهو ما يحرم على معظم نساء مجتمعات العالم العربي ممارسته، على اعتبار أنها - أي المرأة - كائن نجس. # ولعل ثاني هذه الاضطهادات التي قد ينهيها عقلنا هذا التراث القبلي الفاشي في مجمله، هو اضطهادات أطوار العمر المختلفة بعضها لبعض، في مجتمع يقدس الشيخوخة، ويركل بالتالي ما عداها من أطوار، من شباب ومراهقة وطفولة. # ويمكن هنا ملاحظة الاشتقاق اللغوي بين مشايخ وشيخ، وهو ما يستوجب صفة القداسة، وقد تكون مئات الألوف من الأضرحة المنتشرة في قرى مصر والبلدان العربية بالملايين، ما هي إلا مقابر لرفات شيوخ قبائل وعشائر وعائلات سالفين، يتبرك بهم أسلافهم إلى اليوم، مع ملاحظة أن السلفية، ومرادفاتها في الشعر العربي، البكاء على الأطلال، يضاف إليها أغاني أو مراثي ديبورا - أول شاعرة في العبرية - وأرميا ودانيال، بالنسبة للشق الثاني من التراث السامي، وهو العبري، هذه السلفية أو الآفة الحضارية نقيضة الواقعية والمستقبلية، كانت على الدوام ملمحا تراثيا ساميا، مثلها مثل القدرية والدهرية والوعيدية، وعن طريقها كان علماء ما قبل التاريخ - الحفريون - يتعرفون نوعياتهم الحضارية. # وعلى سبيل المثال، يصل تقديس الساميين لموتاهم - أو أسلافهم - إلى حد دفنهم معهم في بيوتهم وسكناهم أو على مقربة منها، وذلك حتى يتسنى لهم تعرية وجوههم واستشارتهم في كل ما يعن لهم من تصرفات مصيرية، كالحرب والهجرة والزواج وهكذا، وعن طريق هذه العادة بالطبع يتعرفهم الحفريون، مثلما حدث بالنسبة لبعثة جامعة فيينا التي عملت في الدلتا حتى وقت قريب، بحثا عن أصل الهكسوس، ورجحت أنهم خليط قبائلي سامي متحالف. # كما أن من سلبيات هذا التراث اضطهادات وقهر أطوار العمر بعضها لبعض على طول تاريخ العالم القديم، وكيف كان «شيوخه» يتلذذون بمصمصة عظم الأطفال، وطبيعي وبالتالي اضطهاد المراهقة منذ الصغر، ثم تجبر التراث عامة في ms161 طاعة الوالدين. # ولعل في احتفاظ اللغة بالمكونات الأسطورية لهذا النسق - أطوار العمر - في تسميات: جد وكهل وبعل - زوج وأب - وعم؛ ما يغني عن الكثير؛ ذلك أنها كانت أسماء ونعوت لآلهة وأصنام وطواطم سالفة في منزلة الأرباب، وهو ما يتضح أكثر بالنسبة لتراث الجزيرة العربية، وبالتحديد تراثها الحفري منذ الألف الثالث قبل الميلاد. # ويمكن طرح مفارقة ملفتة بين ما يتملكنا عقائديا، وما يحدث في العالم من ثورة شبابية مستقبلية، تفرض اليوم علما جديدا تماما عن خصائص ومكونات واحتياجات أطوار العمر المختلفة من طفولة ومراهقة وشباب وشيخوخة يعرف بعلم الأجيال. # كما أن من إيجابيات هذا الاتجاه وهو إعادة تعرف أصول وخصائص تراثنا الفولكلوري، وفي اتجاه عقلنته؛ إنهاء للاضطهادات العنصرية والدينية، التي تتحين فرص انطلاقها الدموي على رقعة العالم العربي بين وقت وآخر معبرة عن مصالح وضغوط، تجيء عبر دورات متناسقة، وفي أوقات الحروب والكوارث القومية، بل هي في ذاتها تشكل الكيان الكلي لمختلف أبنيتنا أو أنساقنا البنائية، ودراسة مثل هذا النسق، لا يمكن أن تتم وتكتمل بمعزل عن دراسة بقية الأنساق التي تؤلف البناء الاجتماعي بعامة. # وطبعا لا يمكن إنكار مدى ثقل ما يشكله هذا التراث الغيبي اللاعقلاني - كما عرفه د. فؤاد زكريا - أو العاطفي - كما عرفه للمرة الأولى ماينوفسكي - من اضطهادات عصبية سامية تتمثل عند اليهود، في شعب الله المختار، وعندنا في الاعتصام، واعتبارنا خير أمة أخرجت للناس كما هو مكتوب بخطوط قبيحة عند مداخل مدن الدلتا بالذات، واللافتات الخطية لتزيين البيوت والقاعات، ومنها قاعة اجتماعات الجامعة العربية. # ولعل في توارث هذا التراث في تكامله البنائي، المحكم التنسيق والدقة، والحافظ في المحل الأول لمصالح الإرث والميراث والتوريث، يقابله من الجهة الأخرى تكامله المحكم التنسيق البنائي مع مجاوره وهو التراث الآري - في الهند وإيران - وكلاهما واصل امتزاجه وسريانه أو تدفقه إلى أوروبا والعالم الجديد مع موجات وفتوحات العرب واليهود فيما بعد، حاملا بذوره القبلية الفاشية التي أباحت شريعة - أو شعيرة - الحرب والإغارة والقتال، دفاعا عن «التراث الخالد» وما يحرسه من مصالح، بما ms162 يعيد إلى الأذهان بشكل مؤكد عصر الحروب الدينية التي تكونت عبرها الدول والدويلات القومية، التي فيها تشكلت النظم الرأسمالية والتي كانت تعبيرا عن تقلص وموت نظام هرم، والآلام المصاحبة لمولد نظام جديد، لحين مجيء عصر التنوير - القرن 18 - وانحسار الكثير من هذا التراث الخالد، لكن دون أن يتخلى كلية عن مكوناته الفاشية الملازمة للإغارة والحرب، كما سنها وأباحها بل فرضها التراث السامي، للحفاظ على كلا التركيبين السفلي والعلوي أو المادي الطبقي والعلوي الثقافي العقائدي. # ولعل في شرعية الحرب القبائلية، والذود عن الحمى، في مرحلة العشائر المتحالفة والمهاجرة المغيرة، ما يبرره منذ الجاهلية - 5 آلاف عام - وعصور الظلمات. # أما اليوم فلنا أن نتصور اللامحدود الذي صاحب تطور الأسلحة، من عصا ومقلاع وخيول وسيوف، إلى مدافع وذرة وهيدروجين وميكروبات وأجهزة إنذار مبكر. # وبحسب نهج المنظمة الدولية للثقافة وشعاراتها، فإنه إذا ما كانت الحروب تنشأ أو تومض في مخيلة البشر، فإن من الإمكان إقامة حصون السلام، وهذا يستلزم بالطبع إعادة صيغ المخيلة، خاصة السامية، ونظيرتها الآرية التي أبلت العالم بشرور حربين عالميتين في مدى النصف الأول من هذا القرن، إلى أن انحسرت وانكسرت شوكتها، مسلمة دورها ومخيلتها - القبلية - لتوأمها المتاخم والمتوازي - السامية. # بل كان للسامية والساميين - الذين يدعي اليهود أنهم طلائعها - دورهم أيضا في مسببات ودوافع هاتين الحربين العالميتين الشنيعتين. # ويجيء اليوم الدور على السامية، بعد إفلاس النظريات الآرية القبلية الفاشية التي تبلورت في النازية الهتلرية، التي كان أحد بلاياها ومسبباتها المفهوم اللاهوتي الغيبي في تدوين وتفهم التاريخ - الثقافي - والتي لم تنظر أبدا للفرد على اعتبار أنه كائن سياسي، وأن الهدف الأخير للاهوت والمنزلات والمعتقدات - قد يكون - خلاص الفرد، لا المجتمع والدولة، كما يرى توفيق الحكيم ويحيى حقي ولويس عوض، ومن مدخل ومفهوم أن الهدف الأخير للتاريخ هو التوصل إلى طبيعة العقل، فالتاريخ ما هو إلا صراع دائم من أجل الحرية - مرادفة العقل - التي أدرك زعيمنا الراحل جمال عبد الناصر أنها - الحرية - لا تتحقق بمعزل عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية ولقمة عيش الناس خاصة في مصر ms163؛ حيث مشاكل الانفجار السكاني العاتية المستعصية. # فيمكن استخلاص المسببات الفعلية التي اكتملت في النازية الهتلرية وبؤرتها هذا التراث المتزاوج الآري السامي - الأنيزمي - الروحي، وكما هو معروف فإن نظرية «تحقيق الروح» ما هي إلا حركات مضادة مباشرة للعقل، فالروحية والطوطمية اتخذت من الدم والأرض هدفا بلا معايير عقلية، وهو ما كانته بالضبط هذه القبائل - الآرية السامية - التي اعتبرت أن الوجود الإنساني الحق، ينحصر أول ما ينحصر في التضحية - الفداء والاستشهاد - غير المشروطة، وما أكثرها وأبشعها عند تلك القبائل، التضحية غير المشروطة بكل بكري أو فاتح رحم. بل لعله من الصعب تصور مدى التهام هؤلاء الأسلاف لأولادهم بالحرب والوأد والقتل والأغراض، من استجداء الحظ والمطر، حتى أغراض تحديد النسل البدائي، وصراع الطعام. # 1 # فهذه القبائل التي حملت ونشرت تراثها الطوطمر، وخزعبلاتها عبر كل مداخل أوروبا، بدءا من جنوبها، إلى غربها وشمالها، حتى هولندا والسويد؛ قد حملت بالطبع تراثها هذا الدامي، وأورد فريزر حكاية أو خرافة عن ملك السويد الشيخ الذي أخبره عرافوه بأنه سيموت بموت آخر أولاده التسعة، فكان يضحي بقتل ابن سنويا، إلى أن قتل أو هو اغتال آخر أبنائه التسعة، وبموته مات الملك الشيخ، ودفن في «أبسالا» (وهي المدينة الشهيرة حتى أيامنا في السويد). # وهي حكاية عن قتل تسعة أبناء، تتطابق مع ما حدث لسالفه السامي العربي لقمان الحكيم مع نسوره التسعة الذين كانوا بمثابة آلهته أو طواطمه، فهو لقمان ذي نسور، وكان يطلق على اليمن - متضمنة الشام ولبنان وفلسطين - بلاد ذي نسور، فكانت أنسر لقمان في منزلة أبنائه كما يتضح من أسمائهم: خلف - والمصون - وعوض - وآخرهم النسر لبد. وبموت آخر نسوره - لبد ذاك - مات الحكيم لقمان. # والذين يموتون من مدى ثقل وخزعبلات هذا التراث السامي للشرق الأدنى القديم، الذي حمل إلى أوروبا موجات إثر موجات، يمكنهم تعرف مدى هذا الثقل من آلاف المصادر الكلاسيكية العربية منذ ابن الكلبي - هشام ومحمد - والطبري، والشهرستاني، وابن حجر، وابن وحشية الكلداني، والهمداني، وابن إسحاق، ووهب بن منبه، والقلشندي، وابن قتيبة، وابن ديصان، والكندي، والدميري ms164. # فأنت تجد في خضم هذا التاريخ الأسطوري، أو هذه الأساطير التاريخية، ما يهم الحفري أو الأركيولوجي، من أطلال وآثار بقايا الحضارات اليمنية الغابرة، منذ حضارات قحطان أو يقطان التي يعتقد بأنها هي بذاتها ما حملت فيما بعد إلى أميركا اللاتينية منذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد إلى المكسيكو وبيرو، وعرفت بنفس اسمها السامي يقطان إلى اليوم. # تجد أماكن أطلال حضارات قحطان وحمير، وعاد وثمود وجرهم والعماليق ورائش؛ محددة بدقة تخدم الحفري الأركيولوجي موصوفة في اليمن والجنوب العربي في كتب الهمداني ووهب بن منبه، كما تجد نفس الشيء بالنسبة لتاريخ أبو الفدا حاكم حماة، في سوريا. # كذلك يجد الباحث في الأساطير خصائص كل إله من آلهة أو أصنام مكة وعددها 360 بعدد أيام السنة القمرية موصوفة بكل دقة في مؤلفات هشام وابنه محمد الكلبي اللذين عاشا في القرن الثالث الهجري - العاشر الميلادي - ووضعا موسوعتهما المهمة عن آلهة وطواطم الجزيرة العربية خاصة السعودية اليوم، المعروفة بالأصنام. # وبالطبع يجد باحث الفولكلور ما يغنيه من حكايات وخرافات الجان والنداهات عند كل هؤلاء بلا استثناء، بعائلاتهم وقبائلهم وبطونهم وأفخاذهم وأسمائهم - أقصد طبقات الجن. أما في حالة تخصصه في حكايات الحيوان والطيور والزواحف مثل الضب والجرد المباح أكلهما - كتابو - في معظم المناطق الصحراوية في الشرق الأوسط - المعاصر - خاصة الجزيرة العربية ودويلات الخليج، بينما يحرم أكلهما نفس التابو في بعض المناطق الزراعية والساحلية؛ تجد معينا لا ينضب من أنماط هذه الحكايات - الطوطمية - التي يقال بأنها أكثر قدما من الأساطير، عند الجاحظ، والدميري، عن حكايات الحيوان والطير والنبات والحشرات والهوام. # وبالطبع فأنت محظوظ، لو أنك تبحث فيما انتهت إليه الحضارات السامية من سومرية وبابلية وكلدانية المعاشة في العراق، حيث بقايا سومر وجلجاميش وبابل - وسورها الشهير - ما تزال موجودة بأسمائها إلى اليوم. # أما في سوريا فسيصادفك بقايا الآشوريين والكنعانيين والفينيقيين، في رأس الشمرا، وقادموس - اسم إله - وبانياس - اسم شاعر أسطوري أسبق من هوميروس - ثم بقايا حضارة أفاميا وتل مرديخ - أو الإله ماردوك - التي تثير باكتشافها الأخير - عام 1973 - التفاتا علميا ملحوظا ms165 في الأوساط العالمية. # ولماذا نذهب بعيدا، وبقايا هذه الحضارات ما تزال تعيش إلى اليوم! من آشوريين وفينيقيين وآراميين وحورانيين وسريان، بلغاتهم وأبنيتهم الثقافية والفولكلورية في عالمنا العربي، وما تفرع منهم من مدن ونحل بالمئات، عددها القحطاني والشهرستاني والنوابري وابن كمونة وابن النديم، من مرجئية - ميدان المرجه بقلب دمشق الحالية - وزورية بدير الزور، وحرانية - أو كلدانية - وهيلانية، وبهانية، وأسحفية، وباقورية، ومئانية، وغنزوية، وأمهرية، وديصانية، ومهاجرية، وشيلية، ومغتسلة ... وغيرها من بقايا الحضارات والأقوام والأقليات التي ينظر إليها اليوم كمواد طريفة لفرجة السياح والدارسين، مثل السريان النساطرة بالقرب من دمشق بسوريا، والموارنة والدروز بلبنان، والحرانيون الكلدانيون بالعراق، وهم أول من قسموا اليوم إلى 24 ساعة، والساعة إلى 60 دقيقة، كما أنهم أول من سموا أيام الأسبوع بتسمياته اللاتينية الفلكية إلى اليوم نسبة إلى الكواكب السبع السيارة؛ فجعلوا يوم الأحد للشمس وسموها إيليوس، ويوم الإثنين للقمر واسمه سين، ويوم الثلاثاء للمريخ واسمه آريس، ويوم الأربعاء لعطارد واسمه نابق، ويوم الخميس للمشتري واسمه بال، ويوم الجمعة للزهرة واسمها بلتي، ويوم السبت لزحل واسمه كرونس - قرونس. # والذين يهونون أو هم يتعامون عن مدى الأخطار التي قد يقودنا ويعرضها لها تراث ما قبل العلم هذا، وهو التراث الذي لم تنكسر شوكته، بل لم يصبه ويعتره التغيير والتفهم الواقعي - كبناء من التناقضات - بالقدر الذي يسمح بحل أحجيته وطلاسمه، وبالقدر - حتى - المتوائم أو المتقارب مع تغيير علاقات الإنتاج الذي اعترى عالمنا، ولعل أبسطها التحول البترولي الرأسمالي، الذي لا يستقيم أبدا مع محاولات طبع الماضي على الحاضر، خلال مجرى عمليات الخداع للحفاظ على ما يسمونه - على أحسن الفروض - دعاة الجبرية التاريخية والتراثية، بروح التاريخ، وهو الذي ليس في حقيقته «سوى روح هؤلاء السادة» # 2 # أنفسهم كما يقول غوته في تراجيديا فاوست. # وإذا ما كانت «الأرض الموعودة» أو الخلاص، يمكن في المستقبل، بالنسبة لمفهوم المستقبلية عند توينبي وغيره مثل د. مارجريت ميد. # فإن مفهوم العالم السالف أو القديم وبؤرته شرقنا العربي عن الخلاص والمستقبل، يجيء بالضرورة غيبيا أسطوريا يوطوبيا أشبه بانتظار جودو، وذلك حين ms166 «ينزل عيسى إلى الأرض، وكان رأسه يقطر ولم يصبه بلل، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويفيض المال، وتقع الأمنة في الأرض، حتى يرعى الأسد مع الإبل، والنمر مع البقرة، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات»، كما يقول الدميري وغيره من الكلاسيكيين من العرب. # وإذا ما كانت الإنسانية التي نحن جزء من حركتها العامة، خاضعة تماما لقانون تطورها العقلي؛ ولهذا حققت انتقالاتها - على كلا العالمين الشرقي الاشتراكي، والغربي الإمبريالي - من الفكر اللاهوتي الطوطمي - الأنيزمي - إلى الفكر الميتافيزيقي الفلسفي، ثم من الفكر الميتافيزيقي إلى الفكر الوضعي النفعي، طمعا في تحقيق أقصى منفعة ممكنة، تعود بالنفع على الناس وواقعهم، وفي اتجاه تملك الإنسان - العاقل - لواقعه وجدلية وجوده. # وعلى هذا يصبح من المفيد إعادة تفهم واقعنا والوقوف على حقيقة متناقضاته، بنفس النهج الذي حققته المجتمعات الصناعية، وما فوق الصناعية، منذ عصر التنوير، فهدفي الواضح من هذه الدراسات، لا يقف بحال عند صدى الماضي وسحره وجاذبيته الخارقة، ممثلا في الموروثات والممارسات والمقولات الفولكلورية والأساطير، أو بمعنى تأصيل الحاضر بخلفية الماضي، حيث مولد الحضارات المصرية الفرعونية - خاصة الدولة القديمة - ونظيرتها - تاريخيا - الحضارة السومرية اللاسامية، التي توارثتها الشعوب السامية - اللغوية - التي اكتملت اليوم في العربية والعبرية. # وأعترف أنه تراث شديد الغنى متدفق، ذلك الذي ابتدعته مخيلة تلك القبائل السالفة القديمة التي بؤرتها وبوتقتها شرقنا الأدنى القديم أو الأوسط المعاصر، ذلك الذي انصهرت عبر بلدانه روافد كلتا المخيلتين الهائلتين، السامية والآرية، التي وهبت العالم - المعاصر - عقائده الروحية الكبرى، مثل اليهود والمسيحية والإسلام، بالإضافة إلى البوذية وإلى التراثين الفارسي المجوسي، والهليني - الأسطوري العقلي - وهو ما أقيمت على أشلائهما الحضارة الرومانية والتي وجهها المعاصر أوروبا اللاتينية اليوم. # فالإغراق في سحر وجاذبية ذلك الماضي، يوقع الباحث بالقطع ويقوده إلى حيث براثن التعقب السوفيتي، والنعرات القومية. # وهي بالطبع تلك النظرة المثالية، التي صاحبت مولد علم الفولكلور وملازمته للطموحات القومية والإحساس العنصري والتفوق القومي، ذلك الذي اكتمل في الدعوات السلافية والآرية - الهندو أوروبية - ووصل ذروته في النازية الهتلرية. # بل إن اهتمامي ينصب في المحل ms167 الأول على مدى انعكاس طرق وميكنزمات واحتياجات وحتميات الحياة السالفة، على مفهوم الحياة والعالم في حياتنا المعاصرة . # ويمكن طرح السؤال على النحو التالي: إلى أي مدى جاءت استجابة هذا التراث - لحتمية - التغيير والتشكل بما يحقق التوافق والاستجابة للحتميات العلمية والعقلية، وبما يوفر المزيد من الإنتاج والتقدم، ويتوهم مع عصر ما بعد العلم أو فوق التصنيع كما يقولون ويعلنون؟ وعلى الأقل، ليكن هذا التساؤل مطروحا بالنسبة لعالم ما خارج - العالم الثالث أو النامي. ليكن هذا التساؤل مطروحا بالنسبة للعالم المتحضر على كلا الصعيدين الديموقراطي الشعبي، والإمبريالي. # ذلك أن تكبيل تركة الماضي الغيبية البدائية القبائلية، المتوارثة منذ عصور ما قبل العلم والعقل، وتوارثها من جيل لجيل - تحت تأثير العادة - ما تزال تتحكم في مخيلة شعوبنا وتطبع حياتنا - حتى - المعاصرة. # ولنتذكر جيدا مدى إحباط ولا جدوى العمل الثوري في أرض هذا التراث، ما لم نعاود الالتفات الجاد المحايد إليه. # وهو ذلك المنهج الذي بصرت به المدرسة التطورية الديمقراطية الثورية الروسية، التي وإن ركزت - أو هي تمادت - في استخلاص عوامل الاحتجاج الاجتماعي والميول الثورية أو الإيجابية في الفولكلور، إلا أنها بصرت بمدى عرقلة هذه الموروفات التي تعيش، وتتوالد تحت تأثير وسلطة العادة مدعمة بخدمة أغراض طبقية، في حجم الاستعمار بل هي كل الاستعمار اليوم، وهذا هو بعينه ما يشكل أظلام وشرور الموروث من فولكلور وأساطير، خاصة شقها الغيبي البدائي التي قامت على أساس ما عرفه تيلور بالأنيمزم، بمعنى إضفاء صفة الروحية على الظواهر الطبيعية المحيطة بالإنسان وأفعاله الشعائرية، وفي اتجاه الامتثال لحتمية مسار التاريخ الإنساني. # مع الأخذ في الاعتبار بأن تشابه المادة الخام - من بيئة وظروف اقتصادية واجتماعية - يؤدي بالإنسان إلى الاستجابة للتشكيل العقائدي والعقلي، وبالتالي السياسي. # فمثل هذه الدراسات كما يقول لينين مهمة وضرورية في دراسة النفسية الشعبية في أيامنا. ~~«ولم يكن شغف ماركس - وانجلز بشكل خاص - ولينين، بالفولكلور، والأساطير، في دراساتهم عن العائلة وأصلها، لمجرد المتعة، بل على اعتبار أنه سجل تاريخي حتمي للمعرفة بالعمل السياسي وإدراك مساره ووجهته الصحيحة.» # فعن طريق ms168 التحليل الجدلي - للواقع والموروث الثقافي - نصل بالطبع إلى توجيه العمل الثوري توجيها سليما، فالقوانين الطبيعية للمجتمع التي جاءت وعبرت عن غيبته ولاعقلانيته العمياء لم تجئ اعتباطا أو هي ولدت وتكاثرت ووجدت لمجرد الصدفة العشوائية كما يرى - مثلا - كراب ومعظم الدارسين الليبراليين، فهي إنما جاءت وتكاثرت وازدهرت لتؤدي وتحفظ وتقدم خدماتها لصالح الطبقة صاحبة السلطة وبالتالي أدوات «الإنتاج» والثقافة، حتى ولو اقتصرت هذه الأدوات - الثقافية - في العصور الحجرية والطموطمية على النص الحجري أو الشفاهي المتواتر بدءا من الحفظ والتحفيظ والإنشاد وسحر اللغة الشعرية - الشعائرية - التي زاوجت أو هي اشترطت توحد الكاهن بالملك بالمداح ممثلة، وخادمة لأوضاعه الطبقية، منذ عصور الظلمات أو الإظلام، وهي بذاتها ما تواصل سريانها وفرض سلطتها، لخدمة أغراض طبقية جديدة باستخدام «أدوات» الإعلام والثقافة - الجديدة - من راديو وتليفزيون، والفرق هنا ليس غامضا أو بعيدا بين شيوخ القبائل العربية البائدة والقديمة، وشيوخها الجدد من ملوك البترول، أو بين دعاة الإغارة والإبادة القدماء، والمتشددين - جدا - في حروب اليوم - على كلا الجانبين - ودون فهم للواقع والبقاء الموضوعي، وما يستلزمه من توافق متواز بين وسائل الإنتاج من ناحية، وعلاقات الإنتاج وما تتطلبه من بنيان علوي يتمثل في السياسة والتراث والفكر القائم عليهما من الناحية الأخرى. # فدفاعا عن المصالح الطبقية، تشرع الأسلحة دفاعا عن التراث - الأنيمزمي - الذي سماه كافكا بالوهم، أو حراسة الوهم، وبالطبع، فإن الهدف الأخير هنا هو حراسة مصالح الملوك الكهنة أو السدنة الجدد، وكيف يقومون بتأدية شعائرهم تحت عدسات التليفزيون والصحف الصفراء، بنفس ما عرف عن أول ملك كاهن مداح جاهلي، وهو عمرو بن لحي الجرهمي، وكان شاعر أسطوري ينسب له: «إن ربك يتصيف باللات لبرد الطائف، ويشتو بالعزى لحر تهامة.» # ولا شك في أننا أصبحنا هنا في عالمنا العربي في مسيس الحاجة إلى هجرة محققة من نقيض إلى نقيض، أو من السلفية إلى المستقبلية، أو كما يحدث في أوروبا نواصل تحولنا من الزراعة إلى الصناعة، أو من الماضي إلى المستقبل. ذلك أننا ونحن ندخل مجتمع التصنيع في مسيس الحاجة ms169 إلى حتميات ثقافية وعقلية موازية أو متعادلة مع مستلزمات وحتميات العصر الذي نعيشه. ربما بنفس المعدل الذي حدث بجزيرة مانوس، في مواجهة غينيا الجديدة، كما تقول العالمة الأنثروبولوجية الأميركية د. مارجريت ميد، وهي الجزيرة التي انتقلت من العصر الحجري إلى القرن العشرين في جيل واحد. # ولما كانت الأساطير - في منشأها وغاياتها - تأليها لعناصر الطبيعة من برق، ورعد، ورياح، وسحب، ورعود جوية أي فينومولوجية، بما يشمله التعريف من ظواهر مناخية، وإحيائية بيئية؛ أي تأثير الظواهر المحيطة في مخيلة الإنسان البدائي، الشبيه بولد يتفتح على العالم، وهو ما يتبدى واضحا في تراثنا القديم، وبقاياه المسايرة في تراثنا المعاصر من إغراق في إضفاء مظاهر القدسية على الجبال وقممها، والصحاري ومجاري الماء من بحور لآبار لعيون ماء راكدة عفنة، لا تخلو منها مدينة أو قرية على طول مصر والعالم العربي، وما يشاع حول هذه - المزارات أو الأضرحة - من الآلاف العطنة من تدمير للصحة العامة من بدنية بخاصة وعقلية. # فيترتب على تأليه وتقديس الظواهر الطبيعية والبيئية المحيطة، وما يستتبعه هذا من صراع النور أو الخير مع الظلام والشر، وهو المنهج التطوري الذي اكتمل بعد الدارونية والذي أكده، بالنسبة للأنثروبولجيا تيلور ومعاصره أندرو لانج، وفريزر، (خاصة تفسير تيلور أو سبقه إلى اكتشاف مدى سيطرة العادة داخل المجتمعات الغيبية، بما يحقق ثوراتها لأدق دقائق حياتها وطفولتها الأولى)، حين أراد تفسير ظواهر الطبيعة القاسية من حولهم، خاصة هنا في شرقنا الأوسط الحديث أو شرقنا الأدنى القديم، فلعل الاختلافات البيئية والظواهرية والجوية هي المخصب الرئيسي لهذا التراث الذي اكتملت فيه الأديان الثلاثة الرئيسية في عالمنا: اليهودية والمسيحية والإسلامية. # فجغرافية المنطقة كما يشير د. جمال حمدان، تجمع ما بين دالات الأنهار في دلتا مصر والعراق، أي المجتمع الزراعي، الذي قدم تفسيره الأزلي السائد إلى اليوم عن الموت والقيامة ممثلا في أساطيره عن الآلهة الممزقة التي اكتملت في المسيحية. # والمجتمع الصحراوي المجدب القبلي، مجتمع الإغارة واعتبار الحرب نوعا من الصيد، وبالطبع يصل هذا المدخل القبائلي الفاشي عند الجبليين سكان الجبال إلى ms170 حد أن تاريخ المنطقة، قديمه وأوسطه ومعاصره، لا يعدو أن يكون تاريخ حرب وإغارة وتنكيل ممتد، خاصة في بؤرة هذه المنطقة الشام وفلسطين، وأينما وجدت موارد المياه أو «الأيلات» - نسبة إلى إيل أو كبرونس - ومنها ميناء إيلات. وبالنسبة لميناء جبل أو جبيل بلبنان الذي يتعاظم دوره السلفي المتخلف في حالة الكتائب، فهي على طول تاريخها مجال نزاع دائم للمئات من القبائل والحضارات والأجناس المتطاحنة. # ويلاحظ أن اقتصاد غرب البحر المتوسط بعامة عبارة عن بنيان مقسم الأجزاء لأقاليم - أو مدن دول - يصل فيه الجبل حتى البحر الذي يصنع كثيرا من الأجزاء المنفصلة المعزولة التي يوجد فيها سهول صغيرة غارقة في الجبل، فالماء بالضرورة كان هدف الإغارة والحرب الأول، طالما أن الأرض قد تتحول إلى مستنقع إن لم توضع وسائل تصريف المياه، أو إلى صحراء إن لم ترو بالماء، وعلى هذا فأساس حياة الفرد والقبيلة في الشام وفلسطين هو البستان، وليس الحقل. # وكما يقول الجغرافي الفرنسي فرناند موريت، فهي بلاد تجبر فيها تضاريس الأرض سكانها على العمل والصبر والدأب، كما أنها بلاد يعتبر البحر فيها الطريق الأسهل للتجارة، والترحال، فجغرافية الأرض المقسمة إلى دويلات متناحرة، نتيجة لحدودها الطبيعية من سهول وجبال وصحاري، أي مناطق جفاف، وفيضانات ماء ورياح، ومساحات شاسعة خربة، كل هذا فرض نظام القبيلة والعشيرة وما يتبعهما من إغارة وإبادة، وفقدان للأمن، وهو ما تبدى واضحا في أساطير وفولكلور هذه المنطقة المغرقة في القبلية العصبية، التي عرفت شارة الصليب المعقوف قبل أن تعرفه ألمانيا الغاربة الفاشية، بأكثر من 30 قرنا من الزمان. # وعلى هذا فأساطير وفولكلور منطقتنا هي في المحل الأول أساطير وفولكلور القبيلة. # وبالطبع يمكن القول بأن الجسد الفولكلوري لمختلف فولكلور العالم، هو في أدنى أشكاله قبائلي، أو هو ما يزال إلى اليوم يحتفظ بملمح القبيلة، بمعنى أن القبيلة هي أدنى أشكال أي مجتمع بشري، ومن تجمع عدة قبائل واصلت اتحادها، تحت أقوى شعاراتها أو شعارها، أو طواطمها أو آلهتها إلى أن تصل في مجموعة القبائل - المتحدة أو المتحالفة - إلى ms171 درجة الأمة أو الحضارة. # ووصل البعض من أصحاب النظريات الطقسية أو الشمسية - مثل روبرت جريفز ورفائيل بتاي - إلى حد الدفاع عن أن انقلابا تقويميا عاما قد صاحب معظم قبائل العالم القديم من خلال تحولها من عبادة القمر - أو الآلهة الأنثى القمرية - والسير بتقويمه - القمري أو الهجري - إلى عبادة الشمس - أو الإله الأب الذكر - والأخذ بتقويمها - الميلادي - فيما بعد واعتبار السنة 365 يوما. # وذهب البعض الآخر من أصحاب النظرية الأنثروبولوجية في تفسير الأساطير، إلى مدى أكثر عمومية تحت تأثير التطور - النوعي - الدارويني، والاستفادة من المادية التاريخية، على اعتبار أن معتقدات وأفكار الناس إلى تطورها التاريخي تجيء - مجبرة أو حتمية - لتطور بيئتها ووسائل إنتاجها وعلاقاتها الاجتماعية. أي إن تغير البناء التحتي - الاقتصادي والاجتماعي - يستوجب بالضرورة تغيير أفكار ومعتقدات وأساطير وعادات وممارسات وأخلاقيات ونظم قرابة وتزاوج وشعائر وقوى غيبية؛ أي كل ما يتحكم في حياتهم من أبنية اجتماعية. # وعلى هذا فمجتمعات العالم القديم، في مراحل التكون القبلي أو العشائري، قد عاشت في مختلف البيئات والمناخات الجغرافية - من مجتمعات زراعة ورعي وجبل وبحر - والمقصود بالعالم القديم هنا هو مجموعة الحضارات والقبائل العربية أو السامية القديمة، وهو ما يتضافر في الكشف عنه اليوم، مجموعة مترابطة من العلوم، أهمها طبعا علما الأنثوجرافيا، والتاريخ. # وعن هذا الطريق يمكن تعريف الحضارات التي شهدها شرقنا الأوسط وتحديد معالم وخصائص كل منها؛ ذلك أن الحضارة كما يعرفها عالم ما قبل التاريخ جوردون تشايلد، تقوم على ما يستخلصه الإنسان من غذائه ومجتمعه الإنساني وكافة نواحي السلوك الإنساني، من لغة ودين وفلسفة وأخلاق وقانون، بالإضافة إلى أدوات الإنتاج التي يستخدمها، فعن طريق التكيف مع البيئة أو قوى الإنتاج أو مصادر الثروة الطبيعية تتحدد الحضارة، ومن هنا وبالضرورة تدين سماتها ومعالمها للبيئة وطبيعة المكان. # وهذا هو هدفنا، البيئة واختلافاتها وتنوع مصادر القوى الإنتاجية لعالمنا العربي، أو منطقة الشعوب السامية. # وكما سبق أن أوضحنا فإن الاختلافات البيئية وبالتالي المناخية، تظهر بوضوح على طول هذا التراث وهذه البقعة من العالم منذ فجر التاريخ، من صراع بين ms172 الحضارة «الزراعية» في دالات الأنهار، وبين البداوة ومجتمعات الرعي والصيد والإغارة. # ويتركز هذا الصراع بأجلى معانيه في الأسطورة - الأم - التي حددت أجناس شعوب وقبائل المنطقة السامية، حين قدم ابنا نوح حام وسام - بعد الطوفان - قربانهما إلى الرب، وكان أحدهما وهو حام صاحب زرع، والثاني وهو سام صاحب رعي، فتقبل الله قربان صاحب الرعي، ولم يتقبل قربان صاحب الزرع، فكان أن حقد الفلاح - قابيل - على شقيقه - هابيل - وأقدم على اغتياله. # وهي تضمينة أو فكرة أسطورية تتوالى بكثرة شديدة جدا في هذا التراث الطوطمي القبائلي. # ولعل أقدم أشكالها - 3 آلاف سنة ق.م - جاء بها النص السومري لملحمة جلجاميش، في صراعي جلجاميش - الفلاح المتحضر - وأنكيدو، الراعي الوحشي الذي تربى مع حيوانات الغابة وشعر رأسه كشعر امرأة. # كما وردت بنصها في صراع ابني إسحاق: يعقوب - الذي سمي إسرائيل - وشقيقه توأمه عيسو أو العيص العربي السوري الأردني، موطنه الأول أرض أدوم أو الصحراء الأدومية - التي اشتق منها تسمية آدم أبو البشر - بالأردن. # كما أنها تتوالى متوارثة إلى ما لا نهاية في ضواحي عرب الجزيرة العربية، بقسميها الشمالي الرعوي العدناني أو الإسماعيلي، والجنوبي الزراعي - فيما قبل تخريب سدود اليمن - وهي 30 سدا أهمها سد مأرب. # كما تطل برأسها على طول التاريخ القديم السابق للإسلام، وحتى فيما بعد مجيء الإسلام، مثل صراعي قبائل الأوس والخزرج، من فلاحين ورعاة. # بل إن هذا الصراع حول الزراعة والبداوة يتبدى بشكل واضح جلي في معظم الملاحم والسير والأساطير، خاصة في سيرة أو ملحمة بني هلال، التي لا تعدو أن تكون امتدادا للصراع بين الفلاحين والبدو أو اليمنيين «والسعوديين» إلى اليوم. # فأبو زيد الهلالي بدوي رعوي عدناني، بينما خصمه الزناتي خليفة حميري أو قحطاني يمني. # لذا وعلى هذا لم يتمكن أبدا أبو زيد الهلالي - قاتل آلاف الأبطال - من قتل الزناتي خليفة، ولم يتمكن من قتله - كما تحفظ الملحمة أو السيرة - إلا قحطاني أو حميري على شاكلته، وهو دياب بن غانم، الذي تعارف عليه الشعب المصري بالزغبي. # | كلمة أخيرة # ترددت لفترة في إصدار وجهة ms173 نظر، أو كلمة أخيرة، يمكن أن تحيط هذه المجموعة من الدراسات النظرية حول تراثنا الفولكلوري والأسطوري المعاش اليوم، والذي عن طريقه تتكيف معاملاتنا وحركتنا ومثلنا اليومية على طول هذه المنطقة العربية التي يوحدها الأصل اللغوي الواحد المتجانس، وطبيعي وبالضرورة تعيد اللغة تشكيل وصياغة الذاكرة والوجدان، وبالتالي هذا التراث. # ولا يمكن بحال الإمساك بآفاتنا وسلبياتنا وما يفت في عضد أمتنا، من المحيط إلى الخليج كما يقولون، ما لم نعد النظر العاقل إلى الخلف أو الوراء، فما أحوجنا إلى إعادة النظر الهادئ العاقل إلى الوراء ... في غضب. # ولا يمكن بحال تحقيق ما نرجوه ونأمله من انفتاح، ما لم نعد نعرف مواطئ أقدامنا، أين نقف من عالمنا الذي نعيشه بضروراته وحتمياته العقلية العلمية التكنولوجية، أين نقف من إعادة تدخل وصياغة العقول العلمية الإليكترونية والتكنولوجية الأبعد من الاجتهادات الأدبية، لمثل هذا التراث الطوطمي المنحدر من الأنتيكات! # وما أبلغ الثقافة الشعبية المضادة، التي تسخر من كل ما هو فعلا أنتيكي أو أنتيكة أو متحفي أو تحفة. # بمعنى أن كل ما هو قديم أو سالف أصبح اليوم مدعاة للسخرية، في عصر يحتم ممارسات وأفكارا ومقولات وميكنزمات جديدة. # ومن الصعب جدا تصور حجم الكم من موروثات العالم القديم أو عالم ما قبل العلم، ومعايشتها لنا عبر أدق دقائق حياتنا اليومية، وأن القطاع الغالب من هذا الموروث العالق أو المعايش لنا يرجع إلى آلاف مؤلفة من السنين، كما لا يمكن تصور مدى السالب أو العادم الذي يسببه هذا الاستمرار، ومدى عرقلته لطاقاتنا العقلية والإبداعية والإنتاجية بل والثورية. # ولنا أن نتصور أن هم أوروبا والعالم الجديد عامة الأول ومعاناتها، تكمن في محاولة التخلص من براثن وموروثات هذا العالم القديم، الذي نحن بؤرته الرئيسية، هنا على أرض شرقنا العربي، أو الأوسط. # كما أن لنا أن نتصور، وما أشقاه من تصور، أنه بينما لم نبدأ نحن بعد في نقل وهضم وتفهم ما أنجزه العالم المتحضر في مجال حركة العلوم الإنسانية التي هدفها الأول بناء واستثمار الإنسان، بما يحقق توافقه وتكيفه مع ms174 حتميات العصر العلمي الذي نعيشه وما يصطرع فيه من أفكار اشتراكية، وهي الإنجازات التي حدثت على مدى القرون الثلاثة الأخيرة. # فبينما يدخل العالم الجديد مراحله المذهلة في التوصل إلى مقدمات ونتائج إلكترونية في مجال دراسة الإنسانيات، لم نبدأ نحن بعد. # ففي الوقت الذي خلع العالم من حولنا أرديته ممثلة في تراثه وموروثاته الجمعية، ووضعها في حجمها ومكانها وواقعها الصحيح، ربما منذ ما بعد عصر النهضة الأوروبية، والثورة الفرنسية، وثورات عام 1848، وعصر التنوير أو العقل وهو القرن 18، بظهور واكتمال الطبقة الوسطى، والتحول من عالم إقطاع القرون الوسطى إلى عصر التنوير، أو من عصور ما قبل العلم والعقل، إلى العقل وإعادة النظر للإنسان وتناوله، على اعتبار أنه حيوان عاقل، لكن جانبه الحيواني أعمق جذورا من جانبه العقلي. # فلقد جاء عصر التنوير أو القرن 18 بأكبر ثورة في اتجاه تسيد العقل، والنظر للإنسان على اعتبار أنه نتاج طبيعي تطوري بعد دارون، ومنذ ذلك القرن إلى اليوم اعتبرت العلوم الاجتماعية، متضمنة الفولكلور والأساطير فرعا من العلوم الطبيعي، بل إن البعض - ومنهم رادكليف براون - تعاملوا مع العلوم الاجتماعية، على أنها العلم الطبيعي النظري للمجتمع الإنساني، أو علم المجتمعات الإنسانية - أو علم دراسة الإنسان وأفعاله - أو علم دراسة الثقافة، بل وتوصلوا إلى اعتبار الظواهر الاجتماعية، أيا كانت سواء في السلوك اليومي للشارع ومطباته المقلقة لأصحاب السيارات، والأوتوبيس، والدعارة، أو سلسلة النسب والقرابة أو الرشوة أو العلاقات العامة، باختصار كل ما يمكن أن يشكل ظاهرة داخل المجتمع، مثل الأمية، والانفجار السكاني، وأزمة المساكن، وأزمة التعليم، والبطالة؛ كل هذه الظواهر تجيء كنتيجة مترابطة للبناء الاجتماعي المعين. # باختصار أكثر فإنه إذا ما كان لكل داء دواء، فإن دواءنا وشفاءنا هو في إعادة التدقيق في تراثنا وعاداتنا، في تركة الأسلاف الغيبية الطوطمية، وإعادة تعرفها - تفليتها - بنفس القدر والمعدل الذي حققه العالم المتقدم. # وطبعا توصل العالم المتقدم، أو المستهدف للعقل، لمثل هذه النتائج بعد الجهود المضنية التي أرساها العلماء الاجتماعيون أمثال تيلور، ولانج، وفريزر، ومورجان، وجوردون تشايلد، ويوسف بيديه، خاصة في موسوعته ms175 الكبيرة عن النوادر والنكت والفوازير. # فيلاحظ أنه حتى النوادر والقفشات اليومية، لها موسوعاتها ودراساتها المضنية منذ عصر التنوير. كما يلاحظ أن الاهتمام بمثل هذه العلوم الاجتماعية وتاريخ الثقافة ازدهر في أوروبا الاستعمارية، كل هذا الازدهار، كنتيجة للدور الإيجابي والتطبيقي وجانب المنفعة الذي أسدته هذه العلوم في علاج الظاهرات الاجتماعية، وأحكام تملكها والسيطرة عليها، من ذلك كل ما يتصل بآفات الأمية، والمساواة بين الجنسين، وكذلك بالنسبة للجنس وتابواته أو محرماته، وقضايا العلاقة بين المرأة والرجل والتوصل إلى نتائج أكثر إيجابية، وأكثر ارتباطا بالحضارة وإثراء لها، والتفوق في برامج التربية، والانضباطات السكانية البالغة الدقة، فمعظم الدول الأوروبية تحتفظ بأحجامها السكانية بالقدر الذي تتطلبه بالضبط، منذ مطلع القرن الأخير حتى اليوم. # كذلك استفاد العالم المتقدم من تملكه ومعرفته بهذه العلوم، في تفجير أقصى طاقاته الإنتاجية، وإرساء القدر الكبير من التسامح. كذلك التوصل إلى ميكانيزمات وممارسات جديدة متمشية مع الحتميات العلمية التكنولوجية - موازية لها في حركتها وثورتها العامة. # وبالطبع لا يمكن إنكار أن جانبا كبيرا من النشاطات والنتائج التي توصلت إليها هذه العلوم، قد سخر لخدمة الأغراض والمصالح الطبقية والاستعمارية. # فمنذ مطلع هذا القرن، أكثرت الدول الاستعمارية من استخدام الخبراء الاجتماعيين، وتعيينهم مستشارين في إداراتها الحكومية، ومن هنا استفادت الطبقات الاستعمارية من معارف ومهارات أولئك الخبراء، في دراسة العلاقات الاجتماعية، والصناعية، والعرقية. # فمثلا عن طريق دراسة أحد علماء الأنثروبولوجيا المعاصرين وهو د. شتاين، على الفروق العرقية في الأسنان وحجم وشكل الفك، استغلت الشركات التجارية الأميركية تصميم أطقم أسنان مناسبة، وحققت أرباحا هائلة، كذلك بدأ الخبراء يدرسون استعداد الجماعات البشرية المختلفة، لتقبل أمراض معينة، وألوان معينة، وسلوك محدد، وموسيقى محددة، وأفلام سينما بعينها، وكتب، وسلع استهلاكية ... وهكذا. # ولعب الخبراء الاجتماعيون دورا هاما في الكشف عن استعداد الجماعات المتباينة لتقبل سلع ومنتجات متلائمة مع استعداداتهم حتى لتقبل أمراض بعينها. # أي إن في الاستفادة من هذه العلوم المترابطة تحقيقا لمنافع ومصالح تدخل حتما في الاستثمار العام، كذلك لعبت هذه العلوم الدور الحاسم في التبصير بعنصري الطاقة والمبادرة ms176 وأهميتها في نقل مراكز الحضارة. وهو نفس ما حدث بالنسبة لكل من الولايات المتحدة واليابان، ففي أميركا - لا يغيب عن ذهن القارئ - أنها قامت على فكرة أو أيديولوجية أميركا أرض وموطن العالم الجديد، وهي الفكرة التي لم تتخل عنها إلى اليوم وحاولت جاهدة خلع أردية كل ما يربطها بالعالم القديم، بموروثاته وميكنيزماته وعاداته ومثله المكتسبة منذ عصور ما قبل العلم، وهذا بذاته هو موجز الحلم الأميركي أو الأيديولوجية الأميركية القومية، ومثل هذا الفكر وهذا التطور هو بالتحديد ما جعل من أميركا أميركا، حيث لا جاذبية تشدها نحو الماضي التاريخي حتى بالقدر والمعدل الذي تكونه أوروبا عبر الأطلنطي. # ولنا أن نتصور حجم ومعدلات الاندفاع نحو المستقبل بالنسبة لهذا العالم المستقبلي الجديد، بالمقارنة مع العالم الثالث أو العالم القديم أو عالم السلف والأسلاف. # فاستنادا على فهم شيخ المؤرخين أرنولد توينبي بالنسبة لعاملي الحضارة، من مستقبلية يأخذ بها العالم الجديد، في أميركا واليابان وصين ما بعد الثورة الثقافية، ومن سلفية، تغرق العالم القديم، فتطغي ماضيه على حاضره، وتحيل شعوبه إلى سباحين ضد تيار ومسار الزمن. # ورغم أن توينبي - خاصة في آخر كتبه أو مذكراته «خبرات» - قد عمم فهمه عن المستقبلية والسلفية، بشكل أبعد من الأيديولوجيا والنظم العقائدية، على اعتبار أن كلا من الدول الاشتراكية والإمبريالية تأخذ بالقطع بالمستقبلية وتغرقها أحلامها ومخاطرها واقتحاماتها حتى للفضاء الخارجي. # أي إنها راية واحدة موجزها عبادة المستقبل أو التقدم، يقف تحت لوائها ويأخذ بها العالم الذي تخلى عن رمم الأسلاف، طمعا في تحقيق أقصى نفع أو تقدم وصل إلى حد إنكار كل شيء فيما عداه التقدم الذي يتغنى به الشاعر «تنيسون»: # إلا أنني لا أشك أن غاية تجري متزايدة في جميع العصور وأن أفكار الرجال تتسع كلما دارت الشموس، وما من عبث تلك الأبعاد التي تفصلنا عن منارة الوصول، فلنسر قدما وليدر العالم العظيم في دروب التغير ذات الرنين، فإن خمسين سنة من أوروبا أفضل من ألف في الصين. # وطبعا كتب تنيسون أبياته هذه، مبشرا الانفتاح الإمبريالي، عن ms177 أن خمسين سنة في أوروبا تفضل ألفا في الصين، قبل كلتي ثورتيها العظيمتين، السياسية الاجتماعية الاشتراكية، ثم ثورتها الثقافية، التي انتزعت جذورها السلفية، لتحيلها إلى الصين المستقبلية. # وهذا هو بالضبط مفهوم الثورة الثقافية: نفض تراث العالم السالف أو القديم، وهو طبعا ما لم تفعله أوروبا - بالقدر الكافي - ومن هنا يمكن قلب مفهوم تنيسون رأسا على عقب، فإن خمسين سنة في الصين اليوم، تعدل ألفا في أوروبا وآلافا مؤلفة في عالمنا العربي. # أليس هذا صحيحا؟ # شوقي عبد الحكيم # | مراجع # (1) # Folklore and Anthropology-William R. ~~ Bascom. ~~(2) # Jewish Encyclopedia. ~~(3) # Dictionary of Folklore. ~~(4) # Brewer’s Dictionary of Phrase and Fable. ~~(5) # Judaism in Islam. ~~(6) # Finnish Folklore-j. and kaarle Krohn. ~~(7) # Dictionary of all Scriptures and Myths-G. A. ~~ gaskell. ~~(8) # S. N. Kramer-Sumerian Mythology. ~~(9) # Semitic Mythology-New York. 1926. ~~(10) # The Golden Bovgh Sir. J. Frazer. ~~(11) # Egyption Tales. K. M. Flinders Petrie. ~~(12) # The Dying God. Part II Frazer. ~~(13) # The Ancient World. T. R. Glover. ~~(14) # Malinowski Broniolaue. Science, magic and religion. ~~(15) # Evans Pritchard. Witchcraft, oracles and Magic. ~~(16) # Radcliffe Brown, Structure and Function in Primitive Society. ~~(17) # Frankfurt. The Birth of Civilization in the Near East. ms178