######OpenITI# #META# URI: 1423TharwatAbaza.JudhurFiHawa.Hindawi19164840 #META# Tags: novels #META# ID: 19164840 #META# Title: جذور في الهواء #META# AuthorID: 63071907 #META# Author: ثروت أباظة #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # جذور في الهواء‏ # جذور في الهواء‏ # | جذور في الهواء # | جذور في الهواء # تأليف # ثروت أباظة # | جذور في الهواء # 1 # ما أحلى السنين، وما أجمل هذه اللحظة التي أنا فيها! كيف أستطيع أن أمسك هذه الهنيهة ~~من الزمن فأجعلها تقف لا تمر، تبقى لا تمضي وأنا واقف هنا أرى اسمي على لوحة الكلية ~~معلنة أني حصلت على ليسانس الآداب؟ لقد جاء الطلبة أفواجا، وانصرفوا فرادى وجماعات، ~~وأنا بهم واع وغير واع، مدرك غير حافل متجمد، أنا أحاول أن أجمد لحظتي، ولكن اللحظة ~~امتدت في عمق الزمن، وانماع كيانها وانداحت حتى أحسست نفسي أقفز فجأة إلى الهواء. لقد ~~نجحت وكأنما لم أدرك أنني نجحت إلا وأنا أقفز هذه القفزة! أيستطيع أحد أن يدرك معنى هذا ~~النجاح إلا أنا وهي؛ حبي الأول والأخير، أحلام الصبا، وآمال الشباب، وأوهام الهوى ~~وحقيقته، وخفق الحب، ونبض الحياة، والعيون الرانية إلى السنين المقبلة بعزة التحدي، ~~ونظرة الأمل، وخشوع الرجاء، ورجفة المرتقب، والأمسيات تروي لقاءنا الهامس تظله الأغصان ~~الحالمة في حديقة أبيها، ومطالع الشمس لا تبتسم إلا على بسمتنا في لقاء الصباح، وهي في ~~طريقها إلى المدرسة وأنا في طريقي إلى الكلية، والليالي البيضاء التي لا تعرف الظلام، ~~أظل ورفيقي الكتاب والمصباح حتى ينسرب شعاع الشمس إلى ضوء الكهرباء فيطفئه، فيصبح ~~مضيئا كالمظلم كصرخة في واد، ويضحي نوره كجدول شحيح يغمره من البحر طوفان، وتطل ~~ابتسامتها مع نور الفجر فلا تعب ولا رهق، فأنا جديد كأنما ولدت من بسمتها وإلى المذاكرة ~~أعود. # كنت أقضي العام كله أقرأ في غير كتب المدرسة، لقد أمسك الأدب بخناقي منذ لا أعرف متى، ~~حين كنت طفلا ألهو كنت أجد متعتي الكبرى في قصص الأطفال، حتى كبرت القصص وكبرت معها، ~~ومنذ ذلك الحين الذي لا أذكره، أصبحت القراءة هي حياتي جميعا. # وأحسست يدي تقوى على أن تمسك القلم وأنا بعد في خواتيم الصبا وبواكير الشباب. فكتبت ~~وأصبح لي قراء، ولكني في نفس الوقت لم أهب للدراسة ما تستحق فكنت أنجح كل عام، ولكن ~~فكرة ms01 التفوق لم تخطر لهذا النجاح على بال. وكنت ألتهم العام جميعا في شهر وبعض شهر من ~~أواخر العام الدراسي. # وعلى طول خطواتي في الدراسة والأدب عرفت تحية؛ فأبوها يقيم في فيلا مقابلة لشقتنا، ~~وهو صديق أبي، وأمها صديقة أمي، وبيتنا صديق بيتها، وقد جمعتنا الطفولة وملاعب الجيران. ~~حين عرفت خبر نجاحي أصبح تفكيري مركزا على شيء واحد، كيف أنبئها بذلك النجاح دون أن ~~أفلت من الزمن دقيقة واحدة. جريت إلى التليفون. لماذا أصبحت حياتنا جميعها مظاهرة ضخمة ~~من المنغصات؟ ولماذا يرفض التليفون أن يستجيب ويعود إلى عمله الطبيعي من وصل الحديث ~~بالحديث؟ والبقال صاحب التليفون يضيق بوجود زبون للتليفون وحده بالمحل؟ ومرت دقائق ~~وأوشكت أن تكتمل ساعة وأشرق صوتها: ألو. ~~- نجحت. ~~- صحيح! ~~- عارفة معنى النجاح؟ ~~- مبروك. ~~- مبروك علينا. ~~- أشوفك الليلة. ~~- وقبل الليلة، قفي في الشرفة وانتظري القبلة التي سأرسلها إليك. ~~- أنت مجنون. ~~- مجنون تحية. ~~- باي. ~~- هل سمعت البوسة؟ ~~- باي. ~~- هل سمعتها؟ ~~- سمعتها. ~~- فأين ردها؟ ~~- أنت تستحق ألف بوسة، أشوفك الليلة، باي. # ووضعت السماعة وأحسست أن نجاحي أصبح مجموعة من النجاحات. # لم يكن أبي فقيرا، ولكنه أيضا لم يكن غنيا، وكنت أعلم أن طلب الزواج سيجعله يفكر. ~~لكن زواجي من تحية بالذات سيجعله يتصرف. وعلى كل حال، فالمشكلة لم تكن مشكلة أبي ولا ~~أمي، إنما كنت أخشى أن يرفض أبوها هي، وأي شيطان أخرق يجعله يزوج ابنته الباهرة الحسن ~~الرائعة الجمال من فتى يستشرف الأيام الأولى من حياته العامة، وليس في يده من أدوات فن ~~الحياة إلا شهادة أصبحت تلقى في الطريق يحملها السواد الأعظم من شباب البلد دليلا على ~~أن جهلهم أصبح معترفا به رسميا من الدولة؟ # كنت واجفا حين طلب أبوها إلى أبي أن يمهله بضعة أيام، ويلي إذا كان في المسألة تفكير! ~~إن أباها لا يعنيه أني أديب وأني أنشر قصصي ومقالاتي في أعظم مجلات العالم العربي، بل ~~هو لا يعنيه أنني أكتب روايتي الأولى لم يوقفني عنها إلا امتحان الليسانس ولا يعنيه ~~مطلقا أنني أعلق آمالي كلها ms02 على زواجي من ابنته؛ فإن آمالي أنا ليست من أهداف حياته، ~~ويكفيه أن يحمل عبء آماله هو وآمال زوجته وابنته، ولا يعنيه أيضا أنني شاب وسيم، كثيرا ~~ما ألقت فتيات في الجامعة نظراتهن إلي، ولكنني كنت أعلم أنهن يخرجن مع أصدقائهن ~~بالأجر. لم أكن أحب هذا النوع من المغامرة مع فتيات الجامعة، كنت أخاف أن أحس أنني ~~أضاجع نفسي إذا نمت مع زميلة، ثم دفعت لها أجرا. لا يعني عمي نصر بك الملواني أنني ~~وسيم؛ فقد تعني هذه الوسامة شيئا لتحية، أما له فطظ، لأكن دميما ما شاءت الدمامة، وغنيا ~~بعض الغنى الذي يجعله يطمئن على مستقبل ابنته. أي شيطان أخرق إذن سيجعله يقبل زواجي من ~~تحية؟ طيب، لأضع نفسي مكان عمي نصر، ما هي المزايا التي تجعلني أوافق على زواج أيمن ~~ربيع حجاج من تحية؟! أين صديقي، طظ. ولد طيب وابن حلال، طظ. أولا يستطيع أن يظل ~~طيبا وابن حلال في هذه المعاشرة المتباعدة ثم ينقلب في لحظة بلهاء إلى شيطان مريد؟! ~~حاصل على ليسانس الآداب! خير لي لو أستبدل بها عمارة في أحقر حي بالقاهرة. # أرأيت الرجل لم يفكر مطلقا في مسألة أنني أديب أو وسيم، أنا عارف، إذا كانت الشهادة ~~لا تهمه، فكيف يهتم بالأدب والفن والوسامة والقسامة؟! لا أمل. ~~- لا تخف، سنتزوج. ~~- صحيح؟! وقفزت أقبل فاها وجاوبت قبلتي بقبلة غير صامتة. ~~- اهدأ. ~~- بالذمة صحيح ما تقولين؟! ~~- سنتزوج؟! ~~- هل وافق أبوك؟ ~~- أنا وافقت. ~~- أنا أعرف أنك موافقة من زمان، ولكن أباك ما رأيه؟ ~~- ماذا تظن؟ ~~- رفض. ~~- فعلا! ~~- إذن كيف سنتزوج؟ ~~- هذا شغلي. ~~- الحكاية فيها شغل؟! ~~- شغل لا تعرفه أنت. ~~- وتعرفينه أنت؟ ~~- إذا أردت شيئا لا يقف أمامي شيء ولا أحد. ~~- حتى أبوكي. ~~- وخصوصا أبي. # وتزوجنا؟! # كم هم سخفاء أولئك الذين يذمون الزواج! إن الإنسان لا يشعر أن جذوره قد انغرست في ~~أرض الحياة وتشعبت حتى أصبح له ولوجوده معنى إلا إذا تزوج. إن شعوري أن لي أسرة وإن ~~كانت مكونة من زوجتي فقط كان يعطيني إحساسا بالطمأنينة ms03 ، وبأنني بعد أن كنت نباتا ~~هشا على سطح الحياة أصبحت شجرة لها أصول. وتنتظر الفروع، ومع هذا الاطمئنان استقبلت ~~حياتي أشوق ما أكون لاستقبالها. # عملت في جريدة «الأيام» التي كنت أكتب بها وأنا طالب وانتظمت بها مقالاتي وقصصي، ~~وعدت لروايتي التي كنت قد بدأت صفحاتها الأولى وأنا طالب. لم تعد أمامي من الحياة ~~مشكلة؛ فقد كان جمالها هو كل ما يثير القلق في نفسي والفزع ألا أتزوج منها. وقد تزوجت ~~فلم تصبح لي مشكلة. وقد كان زواجي فاتحة خير وافر لي، فقد أهدت إلي في يوم الزواج ~~سيارة، وبهذا قضت على أقسى ما يواجه ملتمس الطريق في القاهرة إذا التمسه أعزل من ~~السيارة ومن ملبس غير عادي يستطيع به أن يخيف سائق التاكسي ليقف له. جعلتني السيارة ~~المهداة في غنى عن إذلال سائقي التاكسي، وطبعا لا حاجة بي إلى ذكر السيارات العامة؛ ~~فهذه لم تعد وسيلة مواصلات بقدر ما أصبحت أعظم وسيلة لإهدار الكرامة البشرية. # صحيح أن الكرامة البشرية في مصر قد قضي عليها منذ فترة طويلة، ولكن الإنسان لا يحب ~~أن يعالن الآخرين بأنه أصبح عاريا من الإنسانية، والسيارات العامة إعلان قد يجد ~~الكثيرون أنفسهم في غنى عن رفعه؛ فلم يعد العزوف عن السيارة العامة تنكرا للفقر، فقد ~~أصبح الفقر في مصر مفخرة وشرفا، فهو حليف أبناء البيوتات الشرفاء من أبناء الشعب عامة ~~الذين لا يمتون للمسئولين بأية صلة، ولم يصبح بيننا غني إلا بسبب لا يرضي الشرف أو ~~المقاييس القديمة للأخلاق. وهكذا لم يكن يعنيني، بل لعله كان يشرفني أن أركب السيارة ~~العامة لو أن هذه السيارة أبقت على نزر يسير من آدميتي، آدميتي التي أكتسبها من شكل ~~الإنسان الذي صورني الله عليه، ولا علينا من آدميتي تلك التي اختطفت مع آدمية ~~المصريين. # وقد كان من المستحيل أن يشتري لي أبي سيارة؛ فقد عاش عمره رجلا في ظل من الحياة غير ~~وارف بعيدا عن هجير الإدارة وحرور الصدارة، تلك النار التي تلفح الناس، فتنضجهم ~~فيصبحون خبراء بمكامن الخزائن ms04 ومظان الثروات، وتلك الجداول والأنفقة التي تصل بين ~~المكامن والمظان وبين جيوبهم. وهكذا فرحت بالسيارة، فأنا من هؤلاء الذين يؤمنون أن ~~الأديب لا يمكن أن ينتج فنا ذا قيمة إلا إذا كان مطمئنا إلى يومه وغده. وأولئك ~~الذين سحقهم الجوع وكانوا يكتبون وهم بين أضراس الحاجة لا نستطيع أن نعرف أي فن كانوا ~~سيقدمونه للناس لو توفرت لهم طمأنينة العيش، ولعل ديكنز، وهو من أكبر الأمثلة على لهاث ~~الأديب تحت صنبور الناشر، كان ينتج فنا أروع مما أنتج لو كان بجيبه ما يجعله يكتب وهو ~~منتظم النبض. ولا أنسى ما سمعت عن ذلك الأديب الذي كان يجلس بمقهى بار اللواء متهيئا ~~أن يكتب مقالة للجريدة التي يعمل بها، فكان يميل على صديق له يستلف منه جنيها ويضع ~~الجنيه في جيبه، ويبدأ في كتابة مقاله حتى إذا أتمها ومهرها بتوقيعه أخرج الجنيه ورده ~~إلى صديقه في الجلسة نفسها. لم يكن يريد من الجنيه إلا أن يشعره بالطمأنينة حتى يكتب ~~مقاله. # فقراء الفنانين أنتجوا فنهم على رغم فقرهم، لا بسبب فقرهم. # وقد كانت زوجتي ثرية، ولكن التقاليد البالية كانت تحتم علي أن أصر أنا، لا هي، على ~~أن أقوم بشأن البيت، وليواجه ثراؤها بعد ذلك ما يتصل بخاصة شأنها من ملبس ~~وزينة. # وأسباب غنى زوجتي لم تكن خافية على أحد؛ فقد كان أبوها موظفا ولم يكن لديه حين تزوج ~~مال، ولكنه كان يعمل بوزارة المالية، وهي وزارة تستطيع أن تصل بين موظفيها وبين هجير ~~الإدارة وحرور الصدارة، فنضج وأصبح رئيسا لمجلس إدراة شركة الدلتا للأقطان، فصار غنيا؛ فهو ~~رئيس مجلس إدارة مثالي، لا يترك فرصة تعود عليه شخصيا بالنفع دون أن ينتهزها، ولو لم ~~يكن كذلك لما صار رئيسا لمجلس الإدارة. # وأنا لا ألوم أبي، فقد كان مدرسا، وكل ما استطاع أن يجمعه من الدروس الخاصة ~~والعامة هو ثمن البيت الذي كنا نعيش فيه، والذي كان يشمل أربع شقق نحن نسكن إحداها. ~~ونطل منها على بيت نصر بك الملواني، الذي أصبح مع ms05 الأيام قصرا، والذي أحببت أنا ابنته ~~تحية وأهدتني السيارة في يوم الزواج. # وبفضل هذا القصر لم نتعرض لمشكلة السكن؛ فقد أفرد أبوها لي جناحا فخما بعيدا عن ~~صدارة القصر، متصلا به عن طريق ممر أنيق ذي زجاج مصنوع في إيطاليا، قادر في عز الشتاء ~~أن يدخل دفء الشمس دون وهجها. # حاولت بعد أن تزوجنا أن أعرف من زوجتي كيف أقنعت أباها أن يقبل زواجي منها، ولكنها ~~كانت تدور بالحديث فأجد نفسي في متاهة. # وازدادت هذه المتاهة غموضا حين وجدت عمي نصر بك يعاملني معاملة غاية في الرقة ~~والعذوبة. وقد تكشف لي الرجل عن خبرة نادرة في معرفة الطريق الذي يستطيع به مداعبة ~~الغرور في نفس الذي يعامله؛ فهو يدري تماما الكلمة التي ترضيني وتثير منابع الزهو في ~~نفسي وبنفسي، فهو مثلا يعلق على كل كلمة يقرؤها لي في الجريدة، وهو إذا فعل لا يمدح ~~مدحا مطلقا، وإنما يثير حول ما أكتب موجة من الآراء ويشرك معه زوجتي وهنية هانم ~~حماتي، ويدافع هو عن رأيي ويتبناه وكأنه رأيه، ويستخدم أحيانا الألفاظ التي أستخدمها ~~في كلماتي، فإن علق على قصة راح يحلل شخصياتها ويخلق مما كتبت أعماقا لعلي لم ~~أقصدها، وإذا أبي أجد نفسي لفترة غير قصيرة من الجلسة معه موضع الحديث والاهتمام. ولا ~~يكتفي عمي نصر بك بامتداح كتابتي، بل هو في دربة باهرة يلحظ اليوم الذي أقصد فيه أن ~~أكون أنيقا فيلقي ملاحظة سريعة حاسمة تشعرني أني بلغت من الأناقة ما أريد. وقد لاحظت ~~عمي نصر بك في معاملته للناس أجمعين أن له قدرة خارقة على إرضاء الناس وعلى مديحهم في ~~غير سرف وفي غير بخل، وهكذا أصبحت على وعي تام بالطريق الذي وصل به إلى رئاسة مجلس ~~الإدارة، كما أصبحت على وعي تام بالطريقة التي أصبح بها مالكا لهذا القصر الذي أعيش في ~~جناح من أجنحته. # أما زوجته هنية هانم، فخير زوجة لزوجها؛ فالغنى والمركز هما النجاح الحقيقي في ~~الحياة، وظهور اسمي في الجريدة هو مظهر النجاح عندها، ولا ms06 يهمها في شيء ما أكتبه أو ما ~~أثيره من آراء، المهم أن زوج ابنتها يظهر اسمه في الجريدة. والدليل على أن ما أكتبه ~~شيء عظيم أن عمي البك مبسوط منه، وما دام هو مبسوطا فلا شك أن هذا الذي أكتبه ~~رائع. # كل هذا فهمته، ولكن الذي لم أستطع فهمه: لماذا قبل نصر بك أن أتزوج تحية؟ ولماذا ~~يعاملني هذه المعاملة العذبة؟ قلت في نفسي لعل ابنته أصرت، وحين وجد نفسه أمام إصرارها ~~قبل الأمر وأذعن له، أما معاملته فقد خيل إلي للحظة أنه يعاملني مثلما يعامل كل ~~من يتصل به، ولكنني كنت أتصور أن المنافقين يحبون أن يستريحوا من النفاق مع الذين لا ~~يرجون منهم خيرا، وإن كنت سمعت من بعض زملائي في الجريدة أن المنافق لا يتخلى عن نفاقه ~~مع أحد من الناس مهما يكن لا يرجو منه نفعا ولا يخشى منه ضررا؛ لأن المنافق يخاف أن ~~تصدأ موهبته، فهو يشحذها مع الناس أجمعين، سواء كانوا ممن يستحقون النفاق أو لا ~~يستحقون. # وعلى أي حال من الحالين، فالرجل غاية في الرقة معي، ولتكن أسبابه ودوافعه ما تكون، ~~فإنني أنا الكاسب آخر الأمر، وأنا واحد من الناس أعامل الناس بظاهر معاملتهم لي، ~~فالحقيقة المتخفية في النفوس لا يعلمها إلا خالق النفوس، وليس لنا نحن البشر إلا ما نرى ~~حتى يظهر ما تخفي ويبين ما تنبض به القلوب. # 2 # حياة جديدة عشتها مع تحية والجريدة، وانفسحت أمامي آفاق من الدنيا كانت بالنسبة لي ~~طلاسم ومجاهل وسماعيات؛ فقد عشت حياة الدراسة أدور كالعصفور التائه في أجواء الطلبة ~~وأوهامهم، لا أشعر أنني أجد نفسي إلا في جلساتي الهامسة في حديقة تحية، لا أعرف من دنيا ~~القاهرة التي تكونت منذ قريب شيئا. ولعنة الله على كتب الأدب؛ فإن قراءتها جعلتني ~~مخدورا واهما، أحسب أنني عرفت الحياة من خلالها. فحين انفتحت أمامي هذه الآفاق ~~الجديدة، تبين لي أن حياة الكتب هذه حياة مرسومة، يصنعها الكتاب بالصورة التي تحلو ~~لهم، وليس بالصور التي ترسمها الحياة لنفسها. إنها ms07 عربيدة جامحة رعناء، هذه الحياة ترسم ~~خطوطها وخطوط ناسها كما تشاء. والعجيب في أمرها أنها لا تلقي أية عناية لأصول فن القصة ~~التي أفنيت شبابي في الوصول إليها من ثنايا قراءتي للقصة وقراءتي عن القصة. أما هذه ~~الدنيا فبوهيمية، لا تراعي أية أصول، وأول أصول تسحقها وتحتقرها هي أصول القصة. فإذا ~~أنت أوغلت في الحياة وأردت أن تنتمي إلى دفاعها وأبنائها وغايتها وسبلها، ألفيت دنياك ~~ترمي بالأحداث في وجهك دون تلك المقدمات التي يلزمك فن الرواية بمراعاتها، وتنظر إلى ~~هذه الأحداث أو التشابكات التي تكون عقد القصص في الحياة فتجد أحداثا وتشابكات خالية ~~من أي منطق أو معقولية أو تفكير. وأنظر إلى نفسي فإذا أنا تائه ذاهل بما يحمله عقلي ~~الهش من أحداث القصص الروائية، وإذا أنا فجأة أكتشف أنني قضيت ربع قرن مع الحياة وأنا ~~غريب عن الحياة، لا أعرفها ولا هي تعرف أمثالي. ولا يبقى من هذه القصص والروايات التي ~~كنت أقرأها إلا ذكريات الاستمتاع بقراءتها ثم لا شيء بعد ذلك. # ولقد هدني وزلزل كياني أن غروري راح ينسحق شيئا فشيئا، لأجد نفسي آخر الأمر ~~هباءة هائمة في دنيا غريبة، تنكرني ولا أنكرها، توشك أن تنبذني وأتمسك بها، وتتجهم لي ~~تجهم من يجهلني، وأحاول أن أبتسم لها ابتسامة من يتظاهر بمعرفتها. # وجدت نفسي فجأة أو من غير فجأة عضوا بنادي الجزيرة. وهذه العضوية لمثلي حدث هام في ~~حياتي، أحب أن أمارسه بأسرع ما تكون الممارسة وبأوسع ما تكون الممارسة. بحثت عن حقوق العضو، فوجدت أنني لن أتمتع ~~منها بشيء؛ فلعب الألعاب بعيد عن طموحي، ودعوة الناس بعيدة عن مواردي المالية، والداخل ~~للنادي لا يحتاج إلى عضوية، فأنا لن أذهب وحدي، وزوجتي عضوة بحكم أنها ابنة أبيها الذي ~~ما كان لأبهته أن تكتمل إن لم يكن عضوا بجميع نوادي مصر الكبرى، وهكذا لم تضف العضوية ~~جديدا إلي إلا أنها مع ذلك جعلتني أشعر أنني شيء مهم، ولو لم تهب لي إلا هذا الشعور ~~لكان حسبها وحسبي. # ذهبت في أول ms08 يوم إلى النادي مع زوجتي وعمي نصر بك وزوجته هنية هانم، فوجدتهم يتجهون ~~إلى منضدة بعينها، فما أن انتهى مسيرهم إليها حتى توقفوا وراحوا يتبادلون نوعا من ~~السلام يدل على أنهم يلتقون دائما، واتسعت الدائرة لتشملنا، وراحت العيون تتجه إلي ~~خفية أحيانا وفي صراحة وجرأة أحيانا أخرى. ورحت أنظر في القوم أنهم قادة الاشتراكية ~~في مصر، رؤساء مجالس إدارات وأمناء اتحاد اشتراكي. وجرى الحديث، وبدأ بي بطبيعة الحال ~~بصفتي عضوا جديدا في المنضدة لا في النادي فقط. عجيب شأن هؤلاء الناس، كيف استطاعوا ~~أن يخلقوا بينهم هذه اللغة المشتركة. نفس الطريقة التي يتكلم بها عمي نصر، ونفس ~~المقاييس، ونفس العبارات. وفجأة ارتفع صوت سيدة من زوجاتهم أو من بناتهم، لا أدري ~~فالأمر مختلط: تصوري جيجي فتحت بوتيك في الزمالك. # وقالت الأخرى وكأنها لم تكن تعرف: لا يا شيخة. # وضحك تيسير بك عبد المولى رئيس مجلس إدارة الشركة العربية للغزل ورئيس الاتحاد ~~الاشتراكي بها: مغفلة. # ونظرت إليه السيدات وقالت إحداهن: لماذا يا تيسير بك؟ ~~- لن يشتري منها أحد. ~~- لماذا؟ ~~- الزمالك أصبح لا يسكنها إلا الفقراء الذين كانوا أغنياء، والروس الذين يصدرون الفقر ~~إلى جميع بلدان العالم. # وضحكت السيدات، وغصت في الكرسي الذي أجلس إليه، أهؤلاء هم زعماء الاشتراكية في ~~بلدي؟! # وعادت إحداهن تقول بعد أن فرغت من ضحكها: ولكننا نسكن في الزمالك يا تيسير. ~~- وهل نشتري نحن حاجاتنا من مصر؟ # وضحك الجميع مرة أخرى، ونظر إلي تيسير بك: ما رأيك في هذا الكلام يا أيمن؟ # لم أكن أتوقع السؤال، ولم أعد له، ونوع الحديث غريب علي في هذا المكان ومن هؤلاء ~~الناس، فوجدت نفسي حائرا، ولكنني مع ذلك قلت دون وعي: معقول. # وجعلت همي في هذه الجلسة مطالعة وجوه الجالسين من سيدات ورجال، واختطفت عيني بعض ~~ابتسامات رمت بها إلي نسوة منهن، لا أدري إن كن زوجات أم أخوات أم بنات، ولكن الذي ~~أدريه وأؤكده أنني أكملت الجلسة تائها، وما إن وصلت إلى بيتي حتى أمسكت بالصفحات ~~الثمانين التي كنت كتبتها ms09 في رواياتي ومزقتها جميعا، وألقيت بها إلى النار حتى لا ~~أحاول بعدها أن أعود إليها. # لقد كانت الرواية عن المجتمع المصري الجديد، وقد تبين لي في لحظة أنني لا أعرف أي شيء ~~عن المجتمع المصري الجديد. # تبين لي أن العضوية لا بد منها؛ فقد صرت بعد ذلك أذهب منفردا إلى النادي وأنتظر تحية ~~به، أو تذهب هي وتنتظرني هناك، بل إنني مع الأيام وانشغال تحية أحيانا بأشياء أخرى غير ~~النادي كنت أذهب وحدي؛ فأنا أعد غريبا عن الشلة. واتضح لي أنني من النوع الذي تحب ~~النساء أن تلقي إليه بأسرارهن، وقد توطدت صلتي بثلاث من السيدات اللواتي كن معنا في ~~الجلسة الأولى، هن: إلهام عبد المولى، فقد اتضح أنها زوجة تيسير بك، وقد عرفت أنها من ~~أسرة غنية أصابها الغنى في الفترة الأخيرة، ويتاجر أبوها في الغزل الذي يبيعه لأصحاب ~~الأنوال الخاصة، وقد بنى من هذه الخيوط الواهية ثلاث عمارات، كما اشترى مائة فدان تزرع ~~بالعنب في المحلة، وليس له من أولاد إلا ابنته إلهام وابنه شريف، وقد تعرف زوجها تيسير ~~بك بأبيها في ساحة شركة الغزل، وعين له ابنه وتزوج ابنته. وإلهام فتاة تدرك فارق السن ~~بينها وبين زوجها، وتدرك تماما رغبة أبيها في الانتساب إلى صاحب لقب، ورغبة زوجها في ~~الانتساب إلى صاحب غنى. وتحب إلهام أن تنتفع من لقب زوجها ومن غنى أبيها، وعن هذين ~~الطريقين المفروشين بالورد والياسمين تحب إلهام أن تكون سيدة مجتمع، تنشر الجرائد ~~صورها، وتتابع بالكاميرا خطواتها وحركاتها. ~~- هل توزع كثيرا جريدة الأيام؟ ~~- أعتقد أنها في القمة. ~~- أعرف ذلك، فأنا من الذين يهتمون بتوزيع الجرائد. ~~- إذن، فأنت تمتحنين معلوماتي. ~~- الحقيقة أنني أعجب بمقالاتك. ~~- أتظنين أن لمقالاتي صلة بالتوزيع؟ ~~- كل ما يكتب في الجريدة يعمل على حسن التوزيع. ~~- أخجلتم تواضعنا. ~~- ولكن الإعلانات عندكم أقل من بعض الجرائد الأخرى. ~~- أرى أنك خبيرة في الصحافة. ~~- هل تعمل في الإعلانات؟ ~~- أنا! أبدا، أنا أكتب في الأدب فقط. ~~- مغفل. ~~- نعم؟ ~~- ألم تسمع؟ ~~- المصيبة أني سمعت. ~~- فما هذه الدهشة ms10 ؟! ~~- لم أتوقع أن تشتميني بهذه السرعة. ~~- إذا أحببت شتمت. ~~- يا بخت زوجك. ~~- أنا لا أشتمه. ~~- يعني؟ ~~- هل يعقل أن أشتم رئيس مجلس الإدارة؟ ~~- هل هو في البيت رئيس مجلس الإدارة؟ ~~- في كل مكان. ~~- أراه ظريفا. ~~- في مثل سنه لا بد أن يكون ظريفا. ~~- هل يرتبط الظرف بالسن؟ ~~- عند رؤساء مجالس الإدارة. ~~- آه! ~~- أليس نصر بك ظريفا؟ ~~- كنت أظن أنني وحدي الذي وصلت إلى هذه النظرية. ~~- أي نظرية؟ ~~- كل رئيس مجلس إدارة رجل ناجح، كل رجل ناجح ظريف. ~~- كل رئيس مجلس إدارة ظريف. ~~- فلماذا يقولون عنك مغفل؟ ~~- لا يقولها إلا من يحبني. ~~- ومن يحبك ينصحك أن تعمل في الإعلانات. ~~- وأترك الأدب؟ ~~- لماذا تتركه؟ ~~- تقصدين؟ ~~- أنت محرر في جريدة كبيرة، واستطعت عن طريق حماك الظريف أيضا أن تتعرف على رؤساء ~~مجالس إدارة ظرفاء. ~~- والله فكرة. ~~- غدا سأقدم إليك أمرا بنشر إعلان على نصف صفحة. ~~- عظيم. ~~- وأنا، أليس لي عمولة؟ ~~- أنت تريدين عمولة؟ ~~- من نوع خاص. ~~- مثل ماذا؟ ~~- أن تنشر صورتي في باب المجتمع، ثم تنشر عني خبرين على فترات تقررها أنت. ~~- بسيطة. # الواقع أن الغنى يغري بالغنى. قد يظن البعض أن قبولي العمل بالإعلانات طفاسة، فأنا ~~أعيش في بيت لا أدفع له أجرا، وأركب سيارة لم أدفع ثمنها. # وكل ما أتكلفه بضعة جنيهات أتظاهر بها أنني أواجه مصاريف البيت، ولكن هذه التكاليف ~~على ضآلتها لم تكن تترك لي من المال ما أستطيع أن أتصرف فيه بمحض إرادتي، ولم يكن قد مر ~~على زواجي فترة تسمح لي بأن آخذ من زوجتي مصروف جيبي، فإذا لم أعتمد على مواهبي في ~~الحصول على المال، فلن يجد هذا المال سبيلا إلى جيبي، ووجودي إلى جانب زوجتي وأبيها ~~وأمها يرغمني على أن يكون لي جيب فيه مال، وإلا أصبح لوني غير لائق بقماشهم. # أما السيدة الثانية فهي نيمت وهبي، وحقيقة اسمها نعمات، حذفت الألف، ثم انقلبت ~~العين ياء، فكانوا ينادونها نيمت. وهذا المجتمع الذي انضمت إليه يجب أن يجهل الأسماء ~~ويدلل أصحابها، ولكن هذا لا يمنعه أن ms11 يعرف كل خافية من تاريخ عناصره، ثم يلذ له أن يلوك ~~هذا التاريخ لكل جديد وافد عليه. وقد عرفت تاريخ نيمت من إلهام عبد المولى، وعرفت تاريخ ~~إلهام من نيمت، وعرفت من كلتيهما تاريخ عزيزة راشد. # نيمت، حين كانت نعمات، كان أبوها يعمل في السكرتارية في وظيفة تمكنه من معرفة أسرار ~~رئيسه، وقد كان ينقل هذه الأسرار في أمانة إلى كبير آخر يكيد لهذا الرئيس، وحين تم ~~للكبير ما يريد وأقصى الرئيس عن سلطانه نظر إلى وهبي عبد العال وأراد أن يبعده عن ~~منصبه؛ فالذي يخون رئيسه في أمانة يستطيع أن يخون رئيسا آخر بنفس الأمانة، وكان وهبي ~~ذكيا، وكان يدرك أنه لا بد مبعد عن وظيفته، ولم تكن وظيفته تعنيه كثيرا؛ فقد كان ~~يضمر أن يطلب لنفسه مكانا قصيا. وتم له ما أراد، فعين في وظيفة تمكنه أن يتصل ~~بالبلاد العربية ودول الخليج، وما لبث أن أنشأ تجارة مع هذه البلاد في الخردة، وما هي ~~إلا لفة صامولة حتى صار غنيا باذخ الغنى، وصارت ابنته نيمت لا نعمات، وتكاثر خطاب ~~نيمت، ولكنه بعين راصدة خبيرة كان يختار الأحسن دائما، فتزوجت من نجم لامع في الاتحاد ~~الاشتراكي، ما لبث أن صار أمينا لإحدى الأمانات الكثيرة التي لا أستطيع أن أتذكرها ولا ~~يهم أن أتذكرها. # وللقصة بقية طريفة وإن كانت لا تتصل اتصالا مباشرا بنيمت. أم نيمت، واسمها الست ~~فهيمة، ابنة عم أبيها وهبي، وعمه هذا هو الذي رباه، وقد زوجه من فهيمة مقابل هذه ~~التربية، فما كانت فهيمة لتستطيع أن تتزوج أحدا مطلقا إن لم يكن هناك سبب قوي يجعل من ~~هذا الزواج اعتذارا كافيا عن قبحها الفادح. وقد انتهز أبوها فرصة تعلق وهبي بالدخول ~~إلى الكلية فوضع زواجه من فهيمة ثمنا لهذا التعلق. وقارن وهبي بين قبح وهيبة العبقري ~~وبين جمال ملابس الكلية، ووافق على الزواج. وكان العم من أذكياء الريف المصري، الذين ~~يعرفون كيف يصرفون أمورهم، فاستكتب وهبي كمبيالة بخمسة آلاف جنيه، وجعل مؤخر الصداق ~~خمسة آلاف أخرى ms12 . # وحين اتصلت أسباب وهبي بدول الخليج أصبح في مقدوره أن يدفع الآلاف العشرة، قارن مرة ~~أخرى بين طريقين؛ أن تلهف فهيمة هذا المبلغ مقابل طلاقها أو أن يفرش شقة أخرى لفتاة ~~جديدة تعوضه عن قبح فهيمة الذي لم تستطع السنون أن تجعله يتعود عليه. ولا شك أن الطريق ~~الثاني كان أجمل وأمتع، ولكن القدر كان يخبئ له مفاجأة أخرى، فقد جاءت الفتاة التي ~~اختارها محبة للفن، وتمكنت من وهبي، فجعلت منه منتجا سينمائيا، وجعلت من نفسها نجمة. ~~وهكذا أصبحت الآلاف العشرة مبلغا لا قيمة له في غمار ما تكلفه إياه نجمة الشقة ~~الجديدة. # زوج نيمت هو الأستاذ دري عبد الباقي، متخرج في كلية الحقوق، وهو شاب لبيب، قرر في ~~لمحة ذكاء أن يكون تافها حتى يصبح صالحا لما يعد نفسه له من مستقبل سياسي، ويبدو أنه ~~وفق في أن يجعل نفسه على قدر من التفاهة أهلته أن يكون في الصفوف الأولى من ~~الاتحاد الاشتراكي. وقد صادقني الرجل وأنس إلي، وصار يلقي إلي بدخيلة نفسه، وكم ~~دهشت لما عرفت هذه الدخيلة. لقد كنت أتصور أن رغد العيش الذي يحيا فيه يجعله في هناءة ~~دائمة ومتعة لا مثيل لها، فإذا بي أجد الرجل يحيا في خوف دائم؛ فهو يترقب اليوم الذي ~~يترك فيه منصبه في ذعر واجف هالع، فقد تعود حياة بعينها، فيها لين وفيها رخاء ودعة، ولا ~~سبيل له أن يبقى على هذه الحياة لو أنه عاد إلى المحاماة. وهكذا يحس دري أن حياته معلقة ~~بأن يبقى في منصبه هذا، فهو يبذل ما يملك وما لا يملك من كرامة ويهدر كل قيمة، ويتغاضى ~~عن أي معنى من معاني الرجولة أو الشرف ليبقى في هذا المكان. # وتقول نيمت لي حين جلست إليها إن خوف الرجل وهلعه ينعكسان عليه في حياته، وفي خاصة ~~تصرفاته، حتى لقد أصبحت تشعر أنها تعيش مع رجل نصف مجنون، يحاول جهده أن يحافظ على ~~النصف الآخر من عقله بجهد فائق حتى لا تحل به الكارثة، وأحس من نغمة ms13 صوتها أن شيئا من ~~الاحتقار داخلها بشأنه، فلا أوغل في الحديث ولا أدعها توغل حتى لا ينهار الرجل جميعه ~~أمام عينيها. # ولكنني أدرك قبل أن تنتهي من حديثها أنها تشجعه أن يحصل على كل ما يستطيع من مال ليجد ~~بعض الأمن حين يأفل نجم الوظيفة، وأدرك أيضا أن الرجل لا يحتاج إلى تشجيع في هذا ~~المضمار. # وأوشك أن أتساءل: لماذا هذا الخوف جميعه وزوجته على درجة من الغنى تستطيع أن ترد عنه ~~كيد الحاجة، ولكنني لم ألبث أن أجد الجواب؛ فإن الغنى ليس غنى نيمت أو نعمات، وإنما هو ~~غنى أبيها وهبي، ووهبي غارق لأذنيه في إنتاج أفلام لصديقته الجديدة التي أصبحت قديمة. ~~ووهبي مستعد أن يمد زوج ابنته بالمال ما ظل زوج الابنة هذا في منصب مرموق، فإن زال عنه ~~المنصب فإن وهبي لا يرى داعيا مطلقا أن يعطي دري شيئا. وبعبارة أخرى، إن كان لا بد ~~من عبارة أخرى، أن وهبي مستعد أن يعطي صهره كل مال ممكن ما دام صهره في غير حاجة إلى ~~مال، وهو حابس عنه كل أنواع المال حين يصبح محتاجا لأي نوع منه. # أما عزيزة راشد فسيدة من نوع خاص، وزوجها أيضا خيري عبد المولى من نوع خاص. # عزيزة راشد سيدة، تركت الحلقة الرابعة من عمرها منذ سنوات قليلة، وهي ذات جمال صارخ ~~باذخ، وهي تعلم في نفسها هذا الجمال، فتلفه بكل أناقة وتزين نفسها في سرف ومرونة.كان ~~أبوها موظفا من كبار موظفي مصلحة البريد حين تزوجت خيري الذي كان في الدرجة الخامسة ~~يومذاك، وقد خرج الأب إلى المعاش بعد أن صار في درجة وكيل للوزارة، واستطاع قبل أن ~~يخرج أن يثب بصهره إلى الدرجة الثالثة. # والذي يلقي نظرة عاجلة إلى خيري يجده متجهم الوجه، توحي ملامحه بالصلف والغلظة، وقد ~~استطاع بمظهر الصلف وبالنفاق أن يصبح هو أيضا وكيلا للوزارة قبل أن يمسي في الخمسين ~~من عمره. ومنصبه يمكنه أن يتصل بالعالم الخارجي ليعقد الصفقات لشئون وزارته، وهو لا ~~يسرق في هذه ms14 الصفقات، وإنما ينال العمولة التي يعتبرها هو حقا ويراها القانون رشوة. ~~ولما كان لا بد لهذه العمولة أن تصل إليه في خفية رسمية من القانون، فقد كان ماجد راشد ~~أخو الست عزيزة هو الذي يحصل له عليها، فماجد راشد متخرج في كلية التجارة وصاحب مكتب ~~محاسبة في ظاهر الأمر، ولكن مكتبه في الحقيقة متفرغ للصفقات التي يعقدها زوج أخته، ~~والتي ينال هو عمولتها بعد أن يخصم نصيبه منها. وقد استطاع هذا النصيب على ضآلته ~~النسبية أن يصبح عمارتين وأن يصبح غنى خياليا يعيشه ماجد. # أما خيري فشأنه في البيت عجيب، فأوامره صارمة، وكلمته حاسمة، وإشارته قاطعة، والست ~~عزيزة تخشاه كل الخشية، وتصغي لأوامره وكلماته في إجلال وإكبار وتوقير، وهي مع كل هذا ~~تصنع به ما تريد من خلال حبه للعظمة. فالظاهر في أمرها أنه صاحب الرأي، والحقيقة أنها ~~تسحبه من أنفه إلى كل ما يعن لها، وهو بهذا سعيد كل السعادة، وهي أيضا بهذا سعيدة كل ~~السعادة. كان هؤلاء هم أصدقاء النادي، وقد توطدت بيننا الأواصر، فكانت تحية تدعوهم إلى ~~بيتنا، وكنا نلبي دعوتهم، حتى لنكاد نلتقي في كل ليلة. وكان ماجد دائما معنا في كل ~~دعوة، وقد كان أيضا يدعونا لفيلته الفخمة التي تعتلي عمارته الشاهقة بالمنيل. # ورغم أن أصدقاء كل ليلة كانوا لا يتغيرون، فإنني لم أشعر بالملل مطلقا. فإن لكل ~~منا منحى في الحياة ومتجها، فإذا جمعنا الليل فلكل منا حديث وتعليق، والحديث حر ~~لا خوف به ولا توجس، وإن كان دري يهمس به دائما. والتعليق ذكي عميق، فجميعهم لماح، ~~يستخدم ذكاءه طريقا إلى الثروة، ولا يحرم نفسه من التعليق الذكي على هذه الحياة التي ~~تمكنه من الوصول إلى مبتغاه. # وقد استطاعت الإعلانات التي أصبحت أحصل عليها منهم ومن أصدقائهم بانتظام أن تجعلني ~~أشعر أنني ند لهم، وأنني أستطيع أن أجلس إليهم وأنا مطمئن إلى غدي الشخصي. # ولعل هذه الصداقة وانشغالي بأعمالي في الصحيفة وحياة تحية الاجتماعية المزدحمة؛ لعل ~~هذا جميعه جعل الزواج بالنسبة إلي متعة لا ms15 تنغيص فيها ولا كدر، فأنا لا أكاد أذكر ~~أنني وتحية اختلفنا في شيء، فكلانا على شوق حين نلتقي ولا يدركنا الملل من أوقاتنا، ~~واستطاع الشباب أن يضفي على أيامنا بهجة، فما عرفنا الطبيب إلا حين حملت تحية في طفلنا ~~الأول. # 3 # قال رئيس التحرير: عليك أن تغطي لنا أخبار الاتحاد الاشتراكي. ~~- أنا يا أستاذ عبد الحليم؟ ~~- نعم أنت. # كنت واقفا فجلست، لقد عملت بهذه الجريدة لأكتب في الأدب، فما صلتي أنا بالاتحاد ~~الاشتراكي؟ أقسم بالله أنني ما عرفت - وما أحسب أحدا يعرف - ما عمل الاتحاد ~~الاشتراكي. ~~- ولكني أكتب في الأدب. ~~- وهل عمولة الإعلانات أدب؟ # سكت. ولم يسكت رئيس التحرير: ألا تريد علاوة؟ ~~- وهل لا بد من الاتحاد الاشتراكي؟ ~~- لا بد. ~~- هل لي أن اكتب عنه ما أشاء. ~~- على ألا يصل ما تكتبه إلى أن تطرد من الجريدة. ~~- وهل أوقع باسمي. ~~- ألا تريد أن توقع؟ ~~- طبعا. ~~- ولكنك ستوقع. ~~- أمرك. # وأصبحت فجأة مسئولا عن الاتحاد الاشتراكي في الجريدة. حاولت في أول الأمر أن أكون ~~محايدا، لا أهاجم ولا أمدح، ولكن هيهات يصلح هذا للجريدة؛ فرئيس التحرير رجل لا تجوز ~~عليه هذه الألاعيب، إنه يطلب مقالات واضحة الاتجاه لا لبس فيها ولا حياد. وكتبت، وكنت ~~واضحا، ونلت العلاوة. # حين قبلت أن أعمل بالإعلانات لم أحس بالغضاضة الشديدة، شاب فقير يعيش في جو غني ~~ويحاول أن يحصل على المال عن طريق شريف، ولكني حين كتبت المقال الأول أحسست أنني ~~عاهرة تبيع نفسها مرغمة لمن لا تحب، ولازمني هذا الشعور فترة، ثم راح يتلاشى ويتهافت ~~ويتخفى حتى اختفى أو كاد، وأصبح الأمر طبيعيا. لقد تلاءمت مع الجو الذي أعيش فيه بعد ~~أن كنت غريبا عنه. والعجيب أن اتصالي بالاتحاد الاشتراكي جعل لي سلطانا واسعا، وعاد ~~علي بثراء يتضاءل بجانبه كل ما حصلت عليه من الإعلانات، ووجدتني في مدى شهور قلائل ~~جالسا أمام كاميرات التليفزيون، وإذا أنا نجم. ولكن العجيب أن شعوري بأنني عاهرة ~~عاودني مرة أخرى ومذيع التليفزيون يسألني وأنا أجيب؛ لماذا عاودني هذا الشعور بعد ms16 أن كنت ~~نسيته؟! لا أدري. ما الذي قذف بهذا الشعور إلى كياني؟ ألح علي هذا الإحساس ورحت ~~أفكر فيه بجدية شديدة. حين كتبت ما لا أريد أن أكتب، وحين حملت اسمي ما لا ينبغي أن ~~يحمل، كان طبيعيا أن أحس بهذا الشعور، ولكن ما الذي طفا به إلى تفكيري وأنا نجم أمام ~~التليفزيون؟ لعلني أدركت على غير وعي مني أن الذي جعلني أجلس أمام كاميرات التليفزيون هو ~~أنني بعت ضميري ورضيت أن أكون سلعة. ولكن أي عجيبة في ذلك؟! إنني ابن عصري وربيت جيلي، ~~وأنا ألائم نفسي مع هذا العصر وذلك الجيل، وإن لم أفعل داستني الأقدام، وإن حاولت أن ~~أشرئب إلى السماء - أي سماء - فمصيري الأهوال الآخذة، أيسرها السجن وأقلها الموت، وبين ~~الموت والسجن ألوان من العذاب لم تسمع بها البشرية، ويكفي أن أفكر - إذا جاز لي أن أفكر ~~- في أن الاعتداء على تحية أمر غير مستبعد، وحسبي هذا. ثم أنا لا أريد أن أكون بطلا ~~قوميا، ليكن غيري بطلا قوميا إذا أراد، وسوف أصفق له في الوقت المناسب والمكان ~~الملائم. أما أنا فأريد أن أرى طفلي هذا الذي يحبو في ظلمات الغيب، وأريد أن أظهر على ~~شاشات التليفزيون، وأريد أن أستمتع بالناس يشيرون إلي، وبأصدقائي يهنئونني على روعة ~~الحديث الذي قدمته في التليفزيون، وأريد أن أجلس إلى هؤلاء الذين أصبحت صديقا لهم ~~أشاربهم ويرضون غروري، وأمازحهم ويسكبون علي مع مديحهم الأموال؛ فقد أصبح لي لسان في ~~الإذاعة والتليفزيون، وأصبح لي مكان ثابت في الجريدة، فإن لم ينل مثلي الأموال في غدق ~~وبحبوحة، فمن ينال! # شخص واحد كان يبتسم ابتسامة ساخرة كلما ظهرت في التليفزيون: ألم تكن تريد أن تكون ~~أديبا؟! ~~- فقد صرت أديبا. ~~- بالظهور في التليفزيون. ~~- ألا يدل هذا على أنني صاحب قلم؟ ~~- تكتب به عن الاتحاد الاشتراكي. ~~- أنا صاحب قلم. ~~- هل تفهم ما تكتب؟ ~~- الناس تفهمه. ~~- هل تفهمه أنت؟ ~~- لا يهم. ~~- كيف يفهم الناس كلاما لا يفهمه قائله؟ ~~- لا يهم. ~~- أين الأدب فيما تقول أو تكتب؟ ~~- أليس ms17 أدبا؟ ~~- الأدب كتاب، هل أكملت روايتك؟ ~~- مزقتها. ~~- لتكتب غيرها. هل كتبت شيئا؟ ~~- سأكتب. ~~- إذا كتبتها سأحكم إن كنت أديبا أم لا. ~~- والآن؟ ~~- أنت أقل من لا شيء. ~~- إنني أكسب مالا. ~~- أنت يد تصفق وسط عاصفة من التصفيق، وصوت ضائع يصرخ بالهتاف وسط أعاصير من الهتافات: ~~أنت أقل من لا شيء. # وهكذا أصبحت أقلل من زيارة أبي حتى انقطعت عن هذه الزيارة إلا في المناسبة التي لا ~~قبل لي بتجاهلها. # أما زوجتي وحماتي وعمي نصر بك فقد كان فخرهم بي يفوق كل حد. لقد أصبحت تحية ولا ~~حديث لها إلا تعليقات الناس على ما أقول أو أكتب، وقد أبت فرحتها هذه أن تخبو أو يخفت ~~بريقها، وكانت حماتي تتولى الدعاية لظهوري في التليفزيون، فما إن تعرف موعده حتى تضع ~~يدها على سماعة التليفون والأخرى على قرصه، لا تفلتهما أو يكون جميع الأقارب والأصدقاء ~~والمعارف على علم بالموعد. وحين ينتهي الحديث تعود مرة أخرى إلى سماعة التليفون وقرصه ~~لتعرف رأيهم أو لتسمع مديحهم، فما لهؤلاء جميعا من رأي يقال. # الغريب في هذا جميعه أنني أصبحت مقتنعا بما أعمله، أصبحت مقتنعا به جميعا لا ~~أستثني شيئا. أنا مقتنع بما أكتب وبما أقول وبظهوري في التليفزيون. وهذا نوع عجيب من ~~الاقتناع؛ فأنا لا أدافع عن فكرة بعينها، ولا أتقدم للناس برأي معين، فاقتناعي ليس بما ~~أقول دائما، أنا مقتنع أنه لا بد لي أن أقول شيئا، ولا يعنيني من بعد ما هذا الذي ~~سأقوله. فأنا مثلا منذ أن كنت تلميذا في الجامعة لا أميل إلى الشيوعية، ولا أحب المثل ~~القائل: «المساواة في الظلم عدل.» فأنا لا أتصور العدل قرينا للظلم في جملة كلام أو في ~~الحياة، وقد كنت أسخر من الشيوعيين قائلا: لماذا لا تقولون المساواة في الفقر ظلم ~~فيستقيم لكم الكلام والرأي جميعا؟ ولكنني في الجريدة أدافع عن الشيوعية بحرارة، وأغلب ~~أصدقائي من المنتمين إليها أو من الذين يدعون الانتماء إليها. والحقيقة أنني اضطررت ~~لدراسة الشيوعية دراسة متعمقة مستوعبة، ونادرا ما وجدت واحدا ms18 من الهاتفين بها قد ~~درسها، وإنما هم جميعا يشقشقون بها، ولولا أن الببغاء طير جميل لقلت إنهم كالببغاوات؛ ~~فإن أحدا منهم لا يفهم الشيوعية. ولم أر بينهم من يقبل أن يطبقها على نفسه، اللهم إلا ~~إذا طبقت عليه الحياة صنوف الفقر والهوان، فهو حينئذ داعية طبيعي لها. ومن يصيب منهم ~~غنى يعيش في بلهينة وسعادة يحسده عليها أصحاب رءوس الأموال الضخمة. ولم أجد بين الذين ~~أثروا من الشيوعية في مصر من اشترى سيارة من روسيا أو ألمانيا الشرقية، وإنما لا بد أن ~~تكون السيارة منتسبة إلى بلد رأسمالي أصيل. فهم يستوردون الآراء من روسيا ويأبون أن ~~يستوردوا نتائج هذه الآراء. ولكن الأمر الذي جعلني أبغض الشيوعيين وأمقتهم وأتمنى أن ~~أنفصل عنهم، لولا لقمة العيش؛ أنني تبينت فجأة أن ولاءهم الحقيقي لروسيا أو للصين، وليس ~~بينهم من ينتمي بولائه لمصر. والعجيب أنهم قد كونوا صفة لمن ينتمي بولائه إلى بلده، ~~وهذه الصفة تعتبر عندهم شتما وهجوما؛ فحب وطنك والتفاني في هذا الحب يسمى عندهم ~~شيفونية، نسبة إلى فرنسي كان يحب وطنه حبا صادقا؛ فحب الوطن إذن عندهم جريمة لا ~~تغتفر، فهم جماعة من جنسية غير مصرية، وهم بلا دين، فلا شيء يصلهم بمصر مطلقا، ولا ~~أدري بأي حق يتكلمون عن مصر، وقد انسلخوا عنها بالدين والعاطفة والولاء؛ ولذلك فإنني ~~أعتقد أن صفة المصري لا تنصرف إلى الشيوعي، فإذا قلنا المصريين فإننا إنما نعني من ليس ~~شيوعيا في مصر، وهؤلاء في الحق هم مصر. أما أنا، فقد كنت أتظاهر بتأييد آرائهم؛ لأنه ~~لا بد لي أن أبدو متمسكا بهذه الآراء إذا كنت أريد أن أعيش في مصر. ولست وحيدا في هذا ~~التباين بين الرأي الحقيقي والرأي المعلن؛ فأغلب الذين كنت معهم يرفعون شعارات لا ~~يؤمنون بها. صحفي واحد كنت أجده صادقا فيما يكتب، هو محرر الرياضة. وعلى رغم كرهي ~~للرياضة فقد أحببت صديقي نديم، فهو متحمس كل التحمس للكرة، صادق هو في هذا التحمس حتى ~~ليصور لك الدنيا جميعا ستنقلب رأسا على ms19 عقب إذا لم يلعب اللاعبون بجدية وأمانة، وكنت ~~فرحا بصديقي وتحمسه؛ فقد كنت أجد فيه الشيء الذي أفتقده في جميع المحيطين بي فلا ~~أجده. # 4 # حين توقفت سيارتي في الإشارة، فتح بابها فجأة، ودخلت إلى جانبي حميدة دعبس، ذعرت؛ ~~فحميدة سيدة معروفة - وأنا فيما يخيل إلي - أصبحت معروفا مثلها، ماذا سيقولون إن ~~رأوني معها؟ كانت صلتي بحميدة قد انقطعت منذ تزوجت؛ فقد كنت أذهب إليها في كل شهر مرة، ~~أقضي عندها فترة مع فتاة تختارها هي لي، وأشهد كان اختيارها دائما موفقا. وقد توثقت ~~الصداقة بيني وبين حميدة وإن كانت هذه الصداقة لم ترحمني من دفع ما تفرضه علي دون ~~مناقشة. وكان إعجاب حميدة بي مبعثه أنني لم أحاول في يوم من الأيام أن أتعرف بالفتاة ~~التي تقدمها لي أو أتدسس على كنهها وأصلها، فالواقع أنه لم يكن يعنيني منها إلا الفترة ~~التي أقضيها معها في بيت حميدة، ثم يذهب كل منا إلى حال سبيله. # وحين تزوجت انقطعت صلتي بحميدة تماما، وقد أدركت حميدة وهي تركب مقدار الذعر الذي ~~أحاط بي: ما لك خائفا كل هذا الخوف؟ ~~- يا ست حميدة ألا تعرفين؟ ~~- وهل تثير امرأة في سني كل هذا الذعر؟ ~~- لا، ولكن امرأة في شهرتك تثير الهلع. ~~- وأنت أيضا أصبحت مشهورا. ~~- أكل عيش. ~~- نحن في الهم سواء. ~~- إلى أين يا ستي حميدة؟ ~~- إلى بيتي، لا أجد ما أركبه، فلا بأس من اللجوء إلى صديق قديم. ~~- تحت أمرك. ربنا يستر. ~~- هل ما زلت في شهر العسل؟ ~~- أنا متزوج على كل حال. ~~- لم يكن زبائني إلا قلة نادرة من العزاب. ~~- وكيف حال زبائنك الآن؟ ~~- أي النوعين تقصد؟ ~~- كلاهما. ~~- أمثالك يزيدون. ~~- والجنس الآخر. ~~- يقل. ~~- خير. لماذا؟ ~~- البنات أصبحن لا يملن للتعامل مع المصريين. ~~- مفهوم، وأنت لماذا لا تتعاملين مع من يردن؟ ~~- هذه طيور برية تعرفك اليوم ولا تعرفك غدا، أما الزبائن من أمثالك فمثل الحمام ~~الذي يعرف برجه ويأتي إليه. ~~- فلسفة معقولة. ولماذا لا تقنعين البنات بذلك؟ ~~- ليس عندهن وقت؛ إنهن يعملن في هذه ms20 الصنعة لمدة سنتين أو ثلاث بمقدار ما يحصلن على ~~مصاريف الجهاز ثم يتزوجن. ~~- ألا يعملن عندك بعد الزواج؟ ~~- مثلك، وكأني لا أعرفهن ولا يعرفنني. ~~- ولماذا لا تلجئين إلى المحترفات؟ ~~- أولا أسعارهن ارتفعت أكثر من اللازم، وزبائني لا تحب أصنافهن؛ ألا تعرف لي ~~مكانا أستورد منه الفتيات. ~~- أنا يا ست حميدة؟! ~~- هذه هي المصيبة. الذي يعرفني لا يحب أن يخبر أحدا أنه يعرفني. أتصدق بالله! ودين ~~النبي لو أنك على سبيل المزاح ذكرت عنواني في المجالس التي تجلس فيها لجاءت إلي ~~الفتيات وأصبحت وأنا لا أعرف ماذا أعمل بهن! ~~- أنا يا ست حميدة؟! ~~- الأمر لله. النهاية وأنت إلى متى ستظل مقاطعني؟ ~~- والله أظن أنني لا أستطيع أن أجيء إليك. ~~- يتهيأ لك. ~~- نعم؟ ~~- المهم، زرني لمجرد الزيارة. ~~- يصح، ولو أن المسألة صعبة، فأنا أخشى ... ~~- مفهوم، مفهوم، وعلى كل حال سأراك. ~~- كيف؟ ~~- لا تخف، لن أجيء إليك، ولكن من المؤكد أنني سأراك. اسم النبي حارسك إنك لم تنس ~~البيت، تسلم لي يا سي أيمن. اسمع حين تحس أنك تريد أن تجيء لا تتردد، كل ما أطلبه أن ~~تأتي في الحال. مع السلامة. # 5 # تعود عمي نصر بك أن يمر بنا كثيرا في جناحنا. وقد زاد من هذه الزيارات منذ ولد ~~ابننا شهاب، حتى لقد كان في كثير من الأحيان يجدنا نائمين، فيذهب إلى شهاب ويجلس إليه ~~يلاعبه ما شاء أن يجلس ثم ينصرف دون أن يسأل حتى إن كنا قد استيقظنا أم ما زلنا ~~نائمين. وكان كثيرا ما يأتي وهو يعرف أننا بالخارج ليزور شهاب، وقد استطاع بنفاقه أن ~~يجعل شهاب يتعلق به أكثر من تعلقه بي بل بأمه. # فلم يكن غريبا أن نجد عمي نصر بك جالسا بحجرة شهاب عند عودتنا من زيارة الطبيب، ~~وضحكت تحية في وجه أبيها: أبي ادخر بعض تدليلك. ~~- لمن أدخره؟ ~~- لي أنا. ~~- دعي زوجك يدللك. ~~- طيب، ادخره لأخي شهاب أو أخته. ~~- الله! عملتوها! ~~- ربنا هو الذي عملها. ~~- أهلا وسهلا. مبروك يا ستي، مبروك يا سي أيمن، مبروك يا ms21 سي شهاب. انتظر ~~الأخ. # وكأنما لم يعجب شهاب بهذا النوع من المزاح، فإذا هو دون أي تريث يهوي على خد جده بكفه ~~كله، وصرخ الكف على وجه نصر بك، وذهلت من هذه القوة التي يضرب بها الولد جده، ونظرت ~~إلى عيني نصر بك ورأيت فيهما الألم، ولكن هي الهنيهة لا تزيد، ثم وفي لحظة خاطفة شحبت ~~معاني الألم من عينيه لتبدو مكانها إشعاعات السرور التي ما لبثت أن تعالت ضحكا مرحا ~~عاليا: كذا، طيب يا سيدي، يا ولد يا مغفل إنك حين يأتي أخوك لن تجد غيري ~~يدللك. # وفوجئت بشهاب يضحك ملء شدقيه. # ويلتفت نصر بك إلي وهو يضحك لا يزال: مر علي غدا في المكتب. ~~- خير. ~~- طبعا خير، ستعرف كل شيء. # وقالت تحية: بابا، أصبحت أنا الغريبة الآن؟! ~~- كلام الرجال لا شأن للنسوان به. ~~- كذا، طيب. # لم يكن عمي نصر بك وحده حين دخلت حجرته، ولم يكن الحديث الذي يجري بينه وبين الموظف ~~يهمني، ولم أكن قد زرته كثيرا في مكتبه، فلم يتح لي من قبل أن أستوعب أناقة الحجرة، ~~فانتهزت هذه الفرصة ورحت أقلب نظرتي في كل شيء. الغرفة كبيرة، كبيرة وليس في هذا جديد ~~بالنسبة إلي، إنما الجديد مقدار الأناقة في أثاث الغرفة؛ لقد كان كل كرسي فيها تحفة ~~من التحف، ولكن الذي فاجأني أنني وجدت بالغرفة أربعة أجهزة تكييف الهواء، لم أكن قد ~~أحصيتها عددا قبل اليوم، وقبل أن أفرغ من دهشتي، كان عمي نصر بك قد فرغ من حديثه مع ~~الموظف، وانفردت به وبي الغرفة والأجهزة الأربعة لتكييف الهواء: هيه يا سي أيمن. ~~- تحت أمرك. ~~- ما رأيك تعمل معنا هنا؟ ~~- والجريدة؟ ~~- ما لها؟ ~~- أتركها؟ ~~- من قال لك أتركها. ~~- آه! وماذا تريدني أن أعمل؟ ~~- مديرا للعلاقات العامة وللإعلانات. ~~- وهل هذه الوظيفة خالية؟ ~~- أصبحت خالية. ~~- تقصد ... ~~- منذ تزوجت أنت تحية وأنا أحاول أن أبعد عنها الموظف الذي كان يعمل بها. ~~- من أجلي؟ ~~- من أجلك. ~~- فقط؟ ~~- ولسبب آخر لا بد أن تعرفه. ~~- وهو؟ ~~- يا سيدي مدير العلاقات العامة ms22 هذا يتقاضى عمولة على الإعلانات. ~~- رسميا؟ ~~- ماذا تقصد بقولك رسميا؟ ~~- أقصد أنها عمولة تعرف بها الشركة رسميا؟ ~~- تعرف بها الشركة نعم، أما رسميا فلا. ~~- يعني هو وشطارته. ~~- شاطر. # ومد ما بين الطاء والراء ذلك المد الساخر المعروف في لهجتنا نحن المصريين. ~~- طبعا سعادتك لم تقبل. ~~- لم أقبل ماذا؟ ~~- أن يسمسر على الشركة. ~~- وما العيب في هذا؟ ~~- رشوة! ~~- من قال؟ ~~- ليست رسمية. ~~- هل خسرت الشركة شيئا؟ ~~- لا أدري، ولكن أظن ... ~~- إذن فما البأس أن ينتفع أحد موظفيها؟ ~~- يعني سعادتك كنت موافقا على هذه العمولة؟ ~~- طبعا. ~~- إذن لم جعلت الموظف يترك عمله؟ ~~- طماع. ~~- كانت عمولته كبيرة؟ ~~- جدا. ~~- فسعادتك لم يعجبك طمعه؟ ~~- على العكس. ~~- كيف؟ ~~- هو يزيد العمولة على الذين يقومون للشركة بالإعلانات. ~~- إذن فالشركة لا تخسر شيئا؟ ~~- طبعا لا تخسر شيئا. ~~- ولكن ألا تظن أن الجهات التي ستقوم بالإعلانات ستضيف هذه العمولة على أجر الإعلان في ~~بنود أخرى دون أن تذكر كلمة عمولة. ~~- طبعا. ~~- إذن فالشركة هي التي ستخسر آخر الأمر. ~~- وليكن، وهل كانت شركة أبي! ~~- إذن، لماذا أبعدت الموظف؟ ~~- قلت لك طماع. ~~- آه! فهمت. ~~- يا سلام! أخيرا. ~~- كم كان يدفع لسعادتك من العمولة؟ ~~- خمسة وعشرين في المائة. ~~- فعلا طماع. ~~- من؟ ~~- الموظف. ~~- ما رأيك أنت؟ ~~- هل ستأخذ؟ ~~- نحن هنا في عمل، زوج ابنتي هذا في البيت. ~~- أنا زوج ابنتك وأبو شهاب. ~~- كله لشهاب. ~~- إذن كم تريدني أن أدفع؟ ~~- قدرها أنت. ~~- طبعا مثل الموظف السابق، غير معقول. ~~- ولماذا إذن فكرت فيك؟ تعرف لقد فكرت فيك منذ تقدمت لتحية، قلت هذا هو الذي يستطيع ~~أن يشغل هذه الوظيفة وليس غيره، وساعدتني أنت بأن أصبحت من رجال الصحافة المعدودين. ~~- حتى لا أضيع وقت سعادتك، إن دفعت خمسين في المائة، أيكون ...؟ ~~- أليس كثيرا؟ ~~- لا، أبدا، كله لشهاب. # ويقهقه نصر بك قهقهة عالية وهو يقول: على رأيك، كله لشهاب. # 6 # حين دخلت إلى مكتبي في الشركة لم أكن أتوقع أن تكون نيمت هي التي تنتظرني، فقد ~~أنبأتني السكرتيرة أن سيدة بانتظاري، ولم أدهش، فقد توقعت أن تكون فتاة ms23 ممن يعملن في ~~الإعلانات تريد أن تحتال بجمالها لتنال مني إعلانا لمجلة لا يعرفها أحد. # فحين طالعتني نيمت جالسة أمام مكتبي تولاني نوع من الدهشة؛ فقد كانت ليلة الأمس ~~تجمعني وإياها مع أصدقائنا الآخرين، ولم تشر في جلستنا التي امتدت ساعات طويلة أنها ~~ستزورني. ترى كيف استطاعت نيمت أن تصنع هذه الابتسامة، ابتسامة من نوع خاص، فوجهها كله ~~إشراق حتى ليخيل إليك أن كل مكان في جسدها يشرق بابتسامتها تلك. وفي لماحية عجيبة تصيدت ~~الدهشة التي لا أشك أنها ارتسمت على وجهي لمدة لحظة أو أقل إن كان هناك أقل: أعرف أنك ~~لم تكن تتوقع. ~~- ولكن هذا لا يمنعني أن أكون سعيدا. ~~- جملة محفوظة. ~~- هي التي وجدتها الآن. ~~- المهم. ~~- المهم. ~~- عندك مصباح أحمر. # وطلبت إلى السكرتيرة ألا تدع أحدا يدخل إلى مكتبي، وتفرغت مشوقا إلى أسباب هذه ~~الزيارة: أيمن، حياتي أصبحت لا تطاق. ~~- أدرك ذلك. ~~- لماذا لم تكلمني؟ ~~- خشيت أن أقحم نفسي على المشكلة. ~~- هل تظن أنها مشكلة خاصة؟ ~~- طبعا هي مشكلة خاصة. ~~- يا راجل حرام عليك. مشكلة الشرق الأوسط لا يشترك في حلها مع الناس قدر المشتركين في ~~حل مشكلة دري. ~~- ومع ذلك لم أستطع أن أقحم نفسي. ~~- أنا أريدك أن تتدخل. ~~- بأي صورة؟ ~~- أولا، هل تستطيع أن تخبرني لماذا أبعد دري؟ ~~- هل تحبين الشعر؟ # ابتسمت ابتسامتها المشرقة وأخفت في مقدرة بادرة الدهشة على وجهها: إذا فهمته. ~~- قال الشاعر القديم: # لا تمدحن ابن عمار إذا نديت # كفاه يوما ولا تذممه إن حرما # فإنها خطرات من وساوسه # يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما ~~- إذن فأنت لا تعرف سببا. ~~- المؤكد أن إبعاده ليس للسرقة أو الرشوة. ~~- كيف عرفت؟ ~~- هذه أسباب تدعو لترقيته لا لرفته. ~~- إذن فأنت تعرف السبب. ~~- أقسم لك أن الذي رفته لا يعرف السبب. الواقع أن بقاء شخص ما مدة طويلة دون نقل أو ~~رفت أمر غير مستحب. أتعرفين التقارير السرية كيف تكتب؟ ~~- ومن أين لي أن أعرف! ~~- إذا أراد الرئيس أن يتخلص من موظف يعمل عنده، كتب في ms24 تقريره السري محبوب من مرءوسيه. ~~هذه الكلمات الثلاث كافية لرفت أي موظف. ~~- معقول؟! ~~- الحب عاطفة غير مرغوب فيها هذه الأيام. يجب أن يسود الحقد والدس والوقيعة والقسوة ~~والطغيان والجبروت مع إهدار الكرامة والاعتداء على الأعراض. ~~- نعم أعرف ذلك. ~~- ويجب أن ندافع عن ذلك كله. ~~- أيمن، أنت متألم؟ ~~- لا أبدا، فقط أحس أنني قواد فاشل. ~~- الظاهر أنك لم تستطع بعد أن تصل إلى مرحلة اللامبالاة. ~~- أنا أهرب من نفسي بالجلوس إلى تحية وإلى ابني شهاب وابنتي هديل، تصوري أحسدهم؛ ~~أحسد ثلاثتهم أنهم يفعلون ما يريدون دون أن تعارض نفوسهم ما يقومون به من ~~أعمال. # وتضحك نيمت ويشرق جسدها. ~~- عبد المعين، حكايتك سودا. ~~- ألم تعرفي هذا إلا الآن؟ ~~- دري لم يشعر بأي حرج منذ اللحظة الأولى، طبيعة تكوينه ساعدته على الوظيفة التي كان ~~يتولاها، فحين أبعد عنها أصابته حالة تتراوح بين الذهول والجنون، وأنا وحدي من أتحمل ما ~~يعانيه؛ فالأولاد لا يعنيهم من أمرنا شيء ما دام الذي يريدونه موجود. ~~- والوالد؟ ~~- المشكلة الآن ليست مشكلة فلوس. ~~- آه! فهمت. والمحاماة؟ ~~- يحاول، ولكن في مرارة، يختزن المرارة طول اليوم لتكون طعامنا اليومي. أيمن، هل ~~تستطيع أن تكلم أحدا؟ ~~- أنا؟ ~~- ليس من الضروري أن يعود إلى عمله، ابحث له عن أي عمل يعيد إليه نفسه. ~~- هل تظنين أني أتأخر يا نيمت؟ ~~- أنا أعرف مكانتي عندك. ~~- طبعا. ~~- لا تظن أنني لا أفهم. # أرتج علي. لم يكن هناك شيء لتفهمه، وفي نفس الوقت لم أستطع أن أحطم غرورها؛ ~~فالواضح أنها متأكدة أنني أكن لها شيئا. طال صمتي، تعلقت عيناها بشفتي، والموقف جديد ~~بالنسبة لي، بل أظن أنه جديد بالنسبة للكثيرين، فالمفروض أن يكون مثلي هو البادئ، ~~ويبدو أنها اضطرت للحديث آخر الأمر: أنا أعرف أنك لا تريد أن تقول شيئا. # ورحت أبحث عن شيء يكون مناسبا. أنا لم أفكر مطلقا في نيمت، بل لعلني لم أفكر في أحد ~~منذ تزوجت، بل العجيب أنني كثيرا ما أتساءل لماذا يفكر المتزوج زواجا طبيعيا كزواجي ~~في امرأة أخرى غير زوجته ms25 ؟! واستطاعت نيمت أن تفسر بغرورها الحيرة التي بدت في عيني ~~التفسير الذي يرضيها: ما رأيك في شاليه الهرم؟ # وفي ذهول وجدت نفسي أقول: هائل. ~~- نلتقي هناك؟ # وفي ذهول آخر: ماذا؟ ~~- ما الغريب؟ ~~- ظننتك تسألين عن موقعه. # وفوجئت بنيمت تنفجر في ضحكة عالية مرة، ومرة أخرى أحسست بكل ثنية من ثنايا جسمها تضحك ~~معها، تضحك، تسخر، تنادي، تأتمر، تطلب، تأمر، بعنفوان المرأة تأمر. # وجدتني أريد أن أتمرد، ووجدتني أعرف لماذا أريد أن أتمرد، لقد خنت نفسي في كل ما ~~أعمل، ولا أريد أن أخون زوجتي، ولا بد أن أتمرد، ارتسم على وجهي جمود التمرد، وراحت ~~الضحكة تتحول إلى نوع من التشنج، وراحت القهقهة التي كانت مندفعة هادرة إلى الدنيا كلها تنزلق إلى داخل جسدها المهتز حتى انتهت ~~الضحكة جميعا، وتجمدت نيمت كتمثال لم يرفع المثال عنه قماشه المبتل، وثبتت في وجهي ~~نظرة فيها كره وفيها ضغينة وفيها تكبر بلا كبر، واتجهت إلى الباب، حتى إذا بلغته قالت ~~دون أن تلتفت: أورفوار. # وواراها الباب عن ناظري، وارتميت على الكرسي منتصرا لأول مرة على نفسي. # 7 # كنت أظن أن السعار في النادي مقصور على الآدميين. وقد مرنت على سعارهم، فكنت أدخل إلى ~~النادي وكأنني داخل إلى بيتي، فأنا آمن هادئ مطمئن. # حتى كان يوم طلبت إلي تحية أن أمر بها في البيت لأصحبها إلى النادي لأن سيارتها كانت ~~معطلة؛ فقد تعودنا أنا وهي أن نلتقي في النادي عند الظهيرة، ومن هناك نتفق إن كنا ~~سنتناول غداءنا في النادي أم في البيت حسب الترتيب الذي تكون تحية قد أعدته. وقد كان ~~الأمران بالنسبة إلي متساويين؛ فسواء عندي تغديت في النادي أم في البيت. فلم تعد تكاليف ~~الغداء في النادي من الأمور التي أبحث فيها الآن بعد أن أثريت هذا الإثراء. # أنهيت عملي في الجريدة، واتجهت إلى الشركة فألقيت نظرة عاجلة، ثم ذهبت إلى البيت. ~~ووجدت تحية قد أعدت الترتيب أن تتغدى في النادي: ما دام الأمر كذلك، فدعيني أقعد قليلا ~~مع العيال حتى تلبسي. ~~- أنا ms26 لابسة. ~~- دعيني أقعد معهم قليلا والسلام. ~~- اقعد. فقط لا تطل القعود. الشلة تنتظرنا هناك. ~~- الشلة! من منهم؟ ~~- كلهم تقريبا. ~~- لن أتأخر. # توقيت عجيب أصنعه أنا والقدر في تآلف موسيقي. لماذا بقيت مع الأطفال هذه المدة التي ~~بقيتها؟ ولماذا تغدينا في النادي؟ ولماذا تعطلت سيارة تحية؟ ولماذا تركت الأطفال في ~~الوقت الذي تركتهم فيه بالذات دون تقديم أو تأخير؟ أهو قدر؟ ولكنني أنا وتحية والصانع ~~الذي صنع سيارتنا، جميعنا اشتركنا في هذا التوقيت، فهو نحن جميعا. تآلف موسيقي كأننا ~~أفراد أوركسترا ضخم والقدر هو المايسترو يحرك خطواتنا في توافق ليصل بنا إلى أحداث ~~مرصودة لنا؛ فنحن نشارك في العزف، ولكن لو لم يشترك معنا الآخرون لاختلف النغم ولو لم ~~يمسك المايسترو عصاه لاختل التوازن ولم تحدث الأحداث. لا يهم أن تكون الأحداث سعيدة أو ~~محزنة، إنما لا بد لها أن تحدث على أية حال. # فإن القدر لا يعني كثيرا أن نكون سعداء أو تعساء، كل ما عليه أن يقود الأوركسترا ~~ويتم التناغم ويستمر العزف. # بلغت النادي، ووجدت مكانا أوقف به السيارة وإن كان بعيدا بعض الشيء عن قاعة ~~الطعام التي نقصدها. ونزلنا أنا وتحية، وأخذنا سمتنا إلى أبنية النادي، وفجأة أقبل كلب ~~ينهب الأرض لاهثا يتدلى لسانه من فمه قاصدا تحية وكأنما هو يعرفها أو كأنما هو مرسل ~~إليها، ودون أن أشعر بما أفعله وجدتني أخطف تحية إلى الخلف وأتصدى أنا للكلب أستقبل ~~هجومه. دفعني بكلتا يديه في صدري فكدت ألقى إلى الأرض، ولكنني تماسكت بعد أن تخلجت ~~أقدامي وعاد إلي الكلب، لا يدفعني هذه المرة، وإنما ليعضني في ساقي عضة مغيظة، وأجد ~~نفسي أركله محاولا الهرب. ولكنني أصيح أن يمسكوا به، فينبت من بين الحراس خبير بشأن ~~الكلاب ويمسك به ويحبسه. # وتجري التحليلات، إنه كلب مسعور، وأبدأ في العلاج، ما أهون العلاج بجانب الحب الذي ~~تبدى لي من تحية ومن أمها ومن أبيها جميعا. # عادت تحية إلى أيام حبنا الأول منذ نحن نلتقي تحت الشجرة الحالمة في بيت أبيها. لقد ms27 ~~أحسست فجأة أن حبي لها حب تلقائي، لا تفكير فيه، وهو في نفس الوقت مليء بالتفكير. أحسست ~~أن الوهلة التي دفعتها فيها لأتلقى عنها الكلب قد جمعت كل حياتي لتكون وقاء لها ودرعا ~~وحماية. وأحس أبوها وأحست أمها أن تحية في ظل رجل يبذل حياته دون تردد من خوف أو تريث ~~فيحمي ابنتهما. فإذا الهدايا تنسكب علي ألوانا شتى. # ولكن هذا لم يجعل نصر بك يفكر في أن يتنازل عن نصيبه في عمولات الشركة. فالواقع أن ~~الرجل حازم غاية الحزم في فصل المسائل العائلية عن أعمال الشركة. # أما حماتي، فقد فرحت بي لأني حميت ابنتها وفرحت بي أكثر لأنني أصبحت حديث الجرائد ~~والمجلات لعدة أيام. # أما تحية فهي وحدها التي تدفقت بحبها علي تسكبه ألوانا متجانسة ومختلفة، ولولا ~~الخجل لقلت إنني أرهقت بعض الشيء من هذا الحب، وإن أكن قد تمتعت به متعة لم أعرفها في ~~سني زواجي جميعها، بل ولا أحسب أنني عرفتها عند السيدة الفاضلة حميدة دعبس. # 8 # لا يهم أين كنت، ولا يهم كيف جئت إلى بيتي قبل موعدي بليلة، لا يهم شيء من هذا، ~~إنها تفاصيل تافهة صغيرة حقيرة دبرها الاتحاد الاشتراكي، وتحية وأنا وماجد وعصا القدر ~~الذي يعزف سيمفونية الحياة المقيتة العجيبة المميتة دون أن تميت، والتي تصيب الإنسان في ~~مقتل وتبقي عليه بعد ذلك جثة تحيا ولا تحيا، تعيش ولا تعيش، تسعى على قدمين وهي من ~~داخلها تحمل الجثمان والكفن والقبر والنهاية. # زوجتي في أحضان ماجد! بهذا طالعني الفراش حين فتحت الباب. أسرعت أغلق الباب، ثم عدت ~~وفتحته، ثم أغلقته، ثم فتحته، ثم ذهلت، ثم صحوت لأجد نفسي أتراجع خطوات لألقي بالبقية ~~الباقية من جثماني على مقعد، ثم أنا في عالم آخر، أدريه ولا أعرفه، أعيه ولكني عنه في ~~غيبوبة، أسمع صوتهما في شهقات ولا أسمع مما يقولان شيئا. لم يكن هناك شيء يقال إلا ~~الهمهمة والخزي والألم يعتصر كل شيء في. لكن لماذا؟ للجنس؟ إنني مرهق من الجنس! للحب؟ ~~إنني مرهق من حبها! للمال ms28 ؟ المال لديها! للمتعة؟ فماذا كنت أصنع طوال الأيام ~~الماضية؟ حتى الأمس، الأمس فقط؟! لماذا؟ أنا أشهر منه، وأنا أجمل منه، وأنا أكثر ~~شبابا منه، وأنا حبها الأول! المؤكد أنني حبها الأول! وأنا أبو أولادها، وأنا ~~حب الطفولة والصبا والشباب، صنعنا أيامنا على أيدينا، وصنعناها كما تشتهي هي أن ~~تصنعها. إذن لماذا؟! لماذا؟! لماذا؟! لماذا؟! # خرجت، و«لماذا؟!» تتدفق مع كريات الدم في عروقي وفي ضميري وفي عقلي وفي كياني. # ذهبت إلى بيت أبي والليل يقترب من الصباح، معي المفتاح لم أخلعه عن جيبي، فقد كنت أحس ~~به الشيء النظيف الوحيد الباقي في كياني. كان هو وزوجتي اللذان يمثلان الصدق في حياتي، ~~والآن لم يبق إلا مفتاح بيت أبي فقط، دخلت إلى حجرتي القديمة، وأغلقت الباب ثم أغلقته، ~~ثم أتيت بكرسي ووضعته من خلفه، وجلست عليه. لم أكن أريد الحياة أن تتسلل إلى هذه ~~الحجرة. # كم من الساعة بقيت؟ لا أدري. كم من الأيام بقيت؟ لا أدري، لقد فقد الزمن معناه، ~~وسقطت الحياة جميعا بعد أن كانت أمام ناظري بناء شامخا يشدني إلى ذراه. وأحسست كأني ~~شجرة صوحت وانخلعت جذورها من أعماق الأرض لتصبح جذورا من العدم، فهي كلا شيء، كهباءة لا ~~معنى لها ولا كيان، ولكنها مع ذلك موجودة، شائبة هي في وجودها، عقيمة هزيلة ككلمة لا ~~تقال من فم أبكم تصدر، وإلى أذن صماء تذهب. وهذه ال «لماذا؟!» ما زالت ترج كياني كله، ~~تزلزله في ضربات طاغية منتظمة الوقع رتيبة الميقات، ولا أطيق منها فكاكا ولا عنها ~~منصرفا. # حين خرجت من الحجرة كانت الحياة قد تكونت أمام ناظري بشكل جديد. وكنت قد دبرت في ~~خلوتي كل شيء. # أخبرت أبي وأمي أنني تارك زوجتي لأننا غير متفقين. لم أحب أحدا غيري يعرف أن أم هديل ~~وشهاب عاهرة، بل أحقر من عاهرة؛ فقد تجد العاهرة سببا لعهرها، وقد تجد الخائنة سببا ~~للخيانة من كره لزوجها ومن فارق سن بينهما أو من سوء خلق له، ولكن أم شهاب وهديل عاهرة ~~لغير ما ms29 سبب من هذه الأسباب التي قد تقيم عذرا لها أمام نفسها أو أمام بعض الناس. إنها ~~عاهرة بسبب لا أعرفه حتى الآن، ولكنني مصمم أن أعرفه. وعلى كل حال فلا ذنب لشهاب وهديل ~~أن تطالعهما الحياة بهذه السمعة. # خرجت من بيتنا وركبت سيارتي. نعم، السيارة التي أهدتها إلي، إنني الآن أكثر ~~استحقاقا لها؛ لقد دفعت فيها كرامتي بجانب الكثير من شبابي، وذهبت إلى المأذون وأتممت ~~إجراءات الطلاق، وأرسلت الورقة بالبريد المسجل المستعجل. # ثم توجهت من مكتب البريد إلى ... ~~- أهلا، ألم أقل لك إنك ستأتي؟ ~~- وقد أتيت. ~~- طلباتك. ~~- ستدهشك طلباتي يا ست حميدة. ~~- لن تستطيع أن تدهشني أبدا. ~~- سنرى. ~~- قل. ~~- أريد أن أتعرف بسيدات شابات. ~~- لا غرابة في ذاك. ~~- متزوجات. ~~- غريبة بعض الشيء، ولكن لا بأس. ~~- وأريد ... # وصمت قليلا ورأيت الست حميدة وقد تحولت إلى أذن كبيرة: قل. ~~- أريدهن على حب مع أزواجهن. # وفجأة صعد إلى وجه الست حميدة نوع من الحب تخالطه آثار من الشفقة جاهدت أن تخفيها، ~~ومن خلال هذا الجهد وثبت إلى عينيها دمعات، فلوت رأسها مسرعة، ثم عادت بها منكسة وهي ~~تقول: طلباتك موجودة يا ابني. # 9 # حين التقيت ببهيرة في الغرفة التي خصصتها لنا الست حميدة، راحت في عجلة تخلع ملابسها، ~~فعاجلتها: فيم العجلة؟ ~~- لا بد أن أرجع إلى بيتي بعد ساعة على الأكثر. ~~- سأجعلك تذهبين في الموعد. ~~- كيف؟ ~~- معي سيارة. ~~- وأنا معي سيارة. ~~- أريد أن أتحدث إليك. ~~- ألهذا جئنا إلى هنا؟ ~~- أحببت أن أتعرف بك. ~~- لماذا؟ # لم أدر ماذا أقول ولم تسكت هي: نهاية التعارف بين امرأة ورجل أن يصلا إلى هذا، وما ~~دمت قد وصلت، فماذا تريد من التعارف؟ ~~- ربما كنت أريد أن أتحدث إليك. ~~- وهل هنا مكان صالح للحديث؟ ~~- فعلا لك حق. اخلعي ملابسك. # ووجدتني فجأة أرغب عن الحديث وأشتهي أن أفرغ بين أحضان هذه المرأة التي أراها لأول ~~مرة كل العفة التي ألزمت نفسي بها فترة زواجي من تحية، وحين جلست قلت لها: أريد أن أزورك ~~في بيتك. # وسكتت وراحت تلبس ملابسها في ms30 صمت، وسيطرت على ذهني هذه ال «لماذا؟!» التي لا تريد أن ~~تفارقني والتي أخالها ستقتلني في أتونها: هل زوجك شاب أم رجل عجوز؟ # ودون أن تلتف إلي: عجيبة اهتمامك هذا بزوجي، ألا أكفيك أنا؟ ~~- أريد أن أعرفك، أن أكون صديقك. ~~- إن صداقة تقوم بيني وبينك من طبيعتها أن تنتهي بهذا الذي كنا نفعله الآن. ~~- هناك ناس يحبون أن يبدءوا من النهاية. ~~- هذا لا يكون إلا في القصص. ~~- وأنا أكتب القصص أحيانا. ~~- أنا أعرفك. ~~- لماذا لم تقولي؟ ~~- ليس من المفروض أن أقول. ~~- من الذي فرض هذا؟ ~~- أصول العلاقة التي تقوم في بيت الست حميدة، المفروض أنه لقاء يتم وينتهي ويمضي كل ~~إلى حال سبيله. ~~- فإذا أردت أنت لهذه العلاقة أن تتطور؟ ~~- أكون بهذا قد خنت السيدة حميدة. ~~- وأنت لا تحبين أن تخوني الست حميدة؟ # لم تجب، ووجدت نفسي مضطرا أن أقول: وإذا استأذنت أنا الست حميدة. ~~- في هذه الحالة ننظر في الأمر. # الشقة التي تسكنها فاخرة، فهي لا شك في غير حاجة إلى الأجر الذي تتقاضاه من الست ~~حميدة، واستطاعت بحيلة بسيطة أن تعرفني بزوجها؛ فأنا صحفي وهو يعمل في مكتب أحد ~~الوزراء، ويمكن جدا أن يكتب صحفي بحثا عن مكاتب الوزراء. زوجها شاب أنيق غاية ~~الأناقة، لا يتغاضى عن أناقته هذه في مخارج ألفاظه وفي اختيار هذه الأناقة، وهو من هذا ~~النوع الذي يمكن أن تتناغم أناقته مع ملامح وجهه، وواضح جدا أن الأناقة تمثل عنده ~~أساسا من أسس الحياة التي لا تقوم الحياة إلا بها، وواضح أيضا أن بهيرة تحب هذه ~~الأناقة في زوجها وتعجب بها وتتحراها في حياتها. قدمت لي الويسكي في عناية بإعداده، ~~وحفت الكأس بألوان شتى من المأكولات التي تحيط بالويسكي، لم تغفل منها شيئا حتى ~~الكفيار والفواجرا. وكان هاني سعيدا بالطريقة التي تقدم بها بهيرة الشراب إلي، ~~سعيدا بأن بيته مستعد هذا الاستعداد الأنيق. وكلما التقت نظرة من بهيرة بنظرة من هاني ~~أكاد أرى نوعا من ضوء الحب العميق يشع في الأجواء. # لا يمكن أن ms31 يقوم هذا الحب جميعه بين الاثنين إلا على أسس كاملة، فلا يمكن مثلا أن ~~يكون الزوج عاجزا، أو قد يكون، وعزمت أن أسأل بهيرة عن هذا في لقائنا القادم. ترى هل ~~تصارحني؟ # ووجدت نفسي أندفع في توطيد الصداقة بيني وبين هاني: أنت تعرف أن سكرتير الوزير يجب أن ~~يبقى في الظل. ~~- أعرف هذا. ~~- فما هذا البحث الذي تريد أن تقوم به؟ ~~- ما رأيك أنت؟ ~~- حين أخبرتني بهيرة رأيتها فرصة أن أتعرف بكاتب لامع مثلك. ~~- أتعتقد فعلا أنني كاتب لامع؟ ~~- وهل في هذا شك؟ ~~- شك كبير، ماذا قرأت لي؟ ~~- تكفي صورك في الجرائد وأحاديثك في الإذاعة والتليفزيون. ~~- ولكن هذا جميعه لا يدل على أنني صحفي لامع. ~~- فعلى ماذا يدل؟ ~~- لا علينا. ~~- المهم أنني أحببت أن أتعرف بك. ~~- وأنا أحببت أن أتعرف بك. # وكأنما وجدت بهيرة نفسها قد سكنت طويلا: الله! الله! المسألة انقلبت إلى ~~غزل. ~~- غزل لغيرك وأنت موجودة، هل هذا معقول؟ ~~- طبعا أنت رجل بضاعتك الكلام. ~~- لا أبدا، عندي بضاعة أخرى. ~~- مثلا. ~~- مثلا عندي لوج الليلة في الباليه. ~~- والنبي؟ ~~- والنبي. ~~- هاني، ما رأيك؟ ألححت عليك فلم تستطع أن تجد لنا ... # وقاطعها هاني: لا داعي لكثرة الحديث، اذهبي والبسي. ~~- هيه، أنت هائل يا أستاذ أيمن! ~~- لو قلت أستاذ هذه مرة أخرى ألغيت الدعوة. ~~- ولا يهمك يا واد يا أيمن. # وذهل هاني: الله الله! كذا مرة واحدة! لا مؤاخذة يا أستاذ أيمن. ~~- وأنت أيضا، إذا كررت أستاذ هذه سأوقع عليك عقوبات شديدة. # 10 # لم أكن أتوقع طبعا حين رفعت سماعة التليفون أن أجد هذا الصوت يطالعني بهذا الاسم: ~~أنا عمك نصر. ~~- ماذا؟ ~~- ما دمت لم تسمع، فأنا نصر الملواني رئيس مجلس إدارة الشركة التي تعمل بها. # صمت لحظة وعاد إلي الصوت: ماذا؟ ألم تسمع هذا أيضا؟ ~~- بأي صفة من الصفتين أجيب؟ ~~- اختر الصفة التي تجعلك تجيب وتتكلم. ~~- إذن، فأنا أختار الصفة الثانية، وأنا تحت أمرك. ~~- لماذا لا تأتي إلى الشركة؟ ~~- اعتقدت ... ~~- حمار. ~~- نعم! ~~- هو ما سمعت. ~~- أنا قادم إليك. # يمكن أن يكون رد ms32 الفعل ما حدث أي شيء إلا أن يكون مزاحا، لا بد أن الرجل لم يعرف ~~حقيقة ما جرى في غرفة تحية: لماذا لا تأتي للشركة؟ ألست موظفا بها؟ ~~- الظاهر أن حضرتك لم تفهم الوضع تماما. ~~- أي وضع؟ ~~- الذي كان بيني وبين ... # ويقاطعني في سرعة: بينك وبين أحد موظفي الشركة؟ ~~- لا بيني وبين تحية. ~~- هل في هذه الشركة موظفة اسمها تحية؟ ~~- ابنة رئيس مجلس الإدارة. ~~- موظفة هي في الشركة؟ ~~- لا زوجتي. ~~- زوجتك يا شاطر هذه في البيت، نحن هنا في شركة أموال عامة. ~~- يا نصر بك، لا بد من توضيح المسائل. ~~- أية مسائل؟ ~~- الأمور لا تكون بهذه البساطة. ~~- ترجع إلى عملك أولا. ~~- مسألة عملي هذه بسيطة، إنما لا بد أن تعرف ما جرى. ما رأيته بعيني. وصمت قليلا ~~وهممت بالكلام فأشار إلي أن أصمت، وأطرق لحظة. # ثم رفع عينين متكسرتين: إذا شئت أن تتكلم فتكلم، ولكن اسمح لي أن أتكلم أنا أولا. إن ~~ما بينك وبين زوجتك لا يجوز أن يتدخل فيه أحد. ~~- حتى أنت؟ ~~- حتى أنا. ~~- أبوها؟ ~~- لا أبوها ولا أمها ولا أحد. ~~- هذا غير معقول. ~~- سيأتي يوم تعرف أن هذا هو المعقول، هل قلت شيئا لوالدك أو والدتك. # الرجل لا شك يعرف كل شيء، أطرقت خجلا من أجله: لا، لم أقل شيئا، من أجل شهاب ~~وهديل لم أقل شيئا. # وأشرقت ابتسامة على وجه نصر: عاقل. ~~- ولكن لا بد أن أقول لك. ~~- لا أريد أن أسمع شيئا. وربما جاء يوم تشكرني فيه لأنني لم أسمع. # صمت. إنه قواد راسخ القدم، يعرف كيف يستر الأمور حتى على نفسه: تعود إلى عملك ~~بالشركة. # ولم لا؟ لقد كنت أدفع له نصيبه، فهو منتفع بوجودي بالشركة مثل انتفاعي أنا بهذا ~~الوجود. وقد كنت أدفع شبابي في مقابل هذه الوظيفة. فما البأس اليوم أن أدفع صمتي؟ وقد ~~كنت سأصمت على أية حال من أجل ابني وابنتي. أي بأس إذن أن أعود؟! نعم أعود. # 11 # كانت مواعيدي مع بهيرة تتحدد بالتليفون، ثم نلتقي عند الست حميدة، وقد ms33 حاولت في مرات ~~عديدة أن أعرف شيئا عن سر خيانتها لزوجها فلم أستطع. عجزت في لقائي معها أن أعرف السر، ~~وعجزت في لقائي معها أن أصل إليه. ولكن صداقة جديدة على أية حال قامت بيني وبينها هي ~~وزوجها معا. وقد كان الزوج واثقا في إلى درجة أنه كان يجعلني أصحب بهيرة إلى النادي ~~وحدنا ويلحق بنا إلى هناك أو يشغله عمله فلا يلحق بنا. استغلق علي السر فترة ليست ~~بالقصيرة، إلى أن كان يوم كنت فيه مع بهيرة في بيت حميدة، واستطعت من خلال همهمة تكاد ~~لا تحس أن أدرك السر. أو على الأقل خيل إلي أنني عرفته. لقد كان زوجها محروما ~~مما يتمتع به جنسه، وحرمت هي مما يتمتع به جنسها. # إذن فلبهيرة أسبابها في أن تخون زوجها! لا غرابة إذن فيما تفعله، ولا عجب. # فلأحتفظ إذن بصداقة بهيرة وزوجها، ولأواصل البحث الذي رصدت له نفسي. # عرفتني الست حميدة بسيدة أخرى في أواسط الشباب، جميلة ذات جاذبية، يعمل زوجها وكيلا ~~للوزارة، وفي أول لقاء في بيت الست حميدة عرفت أن لها أولادا، فالسبب الذي توفر عند ~~بهيرة لم يكن متوفرا عند لواحظ، ولم يكن من الصعب أن تدعوني لواحظ إلى بيتها، بيت ~~يجاهد أن يبدو أنيقا، ولكن يخذله الجهد. واضح أن زوجها رجل شريف في عمله، لا يقبل أن ~~يمد يده لغير ما يستحق. # ولم يستغرق الأمر كثيرا لأعرف السر الذي يقف وراء خيانة لواحظ لزوجها؛ فهي تحبه أشد ~~الحب، وتريد أن توفر له ولبيته كل ما يحتاج إليه هذا البيت، فباعت نفسها لزبائن الست ~~حميدة حبا لزوجها وحفاظا منها على بيتها. إن هذا المثل لا يصلح لي أيضا، لم يكن ~~المال لينقص تحية، ولم يكن ماجد الذي يعوض هذا النقص إن وجد. فلتكن لواحظ وزوجها فائق ~~بك أصدقاء. ولأعد للبحث مرة أخرى. # سيدة خمرية اللون ذات شعر أسود منساب حالم، وعيون فيها دعة وفيهما جرأة، جمعتنا ~~الحجرة، وسعدت بهذا الاجتماع سعادة لم أعهدها من قبل. زوجها يعمل في ms34 جهات كثيرة من ~~القطر، ويغيب عنها كثيرا، وهي تحب ألا يغيب عنها زوجها كثيرا، فهي تحب الحب لذاته، ~~ولا يعنيها في كثير أو قليل الرجل الذي يمارس هذا الحب معها. نوع من الهواية لا تعرفه ~~تحية بكل تأكيد. # وأصبحت نعيمة صديقة هي أيضا، وما لبثت أن عرفتني بزوجها ليدخل في زمرة الأصدقاء، ~~ولكن البيت لم يمدني بالسبب الذي خانتني من أجله تحية. # عرفت أزهار وعرفت زوجها، سيدة جميلة هذا النوع الهادئ من الجمال، ولكنها مجنونة بحب ~~البذخ، وزوجها غني وكريم، ولكن غناه وكرمه جميعا لم يستطيعا أن يواجها رغباتها في حب ~~الشراء وحب الإنفاق، فتعرفت على الست حميدة واستطاعت بجهدها الشخصي أن تصل إلى ما تريده ~~من مال. # سبب جديد للخيانة، ولكنه لا يروي غليلي؛ فما هكذا تحية، فلأعد للبحث مرة أخرى. # 12 # كثرت صديقاتي، وكنت أصحبهن جميعا إلى النادي، ولم تكن واحدة منهن تجد حرجا أن ~~تصحبني، فجميعهن ماهرات في خلق المعاذير لأزواجهن. # وأصبحت ذا شهرة واسعة في عالم المغامرات، ولكن شهرتي مهما يكن شأنها لم تخفف من دهشتي ~~يوم استدعاني رئيس التحرير: اسمع، سأطلب منك طلبا، إن رفضته قتلتك. # على وجهه ابتسامة إنسان لا رئيس، وخيل إلي أن الابتسامة انتقلت إلى شفتي أنا ~~أيضا: من غير قتل، قل ما تريد. ~~- البنت التي كانت معاك أمس في النادي. ~~- بهيرة؟ ~~- اسمها بهيرة؟ ~~- هذا هو اسمها؟ ما لها؟ ~~- أريد أن أتعرف بها. ~~- ماذا؟ ~~- ألم تسمع؟ # الواقع أنني سمعت. ما البأس؟ إنها ليست حبيبتي، وهي ليست شريفة، وإن رفضت قطعت رزقها. ~~رزقها! يا نهار أسود، هذا ليس من حقي: لا يمكن. ~~- ماذا؟ ~~- ليس هذا من اختصاصي. ~~- أي اختصاص تقصد؟ وهل تتكلم الآن في الاختصاصات؟ ~~- إن لها مدير أعمال. ~~- مدير أعمال؟! ~~- أو مديرة أعمال إذا شئت. ~~- الحقني. ~~- أكتب هذه النمرة. # وأمليته تليفون الست حميدة. ~~- وماذا أقول؟ ~~- آه جئنا للكلام المهم. ~~- لا يمكن طبعا أن أقول لها أنا رئيس تحرير جريدة الأيام و... ~~- لا، لا طبعا. ~~- إذن. ~~- لا بد مما ليس منه بد. # وأمسكت سماعة ms35 التليفون، وفي لحظات كنت قد رتبت الموعد للأستاذ عبد الحليم راشد مع ~~بهيرة بالطريق الطبيعي لذلك. # مرت أيام ونسيت أمر هذا الموعد الذي أعددته، وذهبت إلى الست حميدة لأواصل بحثي الذي ~~لا يريد أن ينتهي بي إلى شيء يريحني. # كانت الست حميدة قد وعدتني أن تعد لي فتاة جديدة أمارس عليها البحث، فما أن رأتني: ~~أهلا، أين أنت؟ ~~- أنا لم أتأخر، موعدك معي اليوم. ~~- آه، والبحث جاهز، ولكن ليس هذا الذي أريدك فيه. ~~- خير. ~~- لك عندي رسالة. ~~- رسالة ممن؟ ~~- مني. # وأعطتني ظرفا مغلقا، قلبته في يدي ثم سألتها: ولماذا لا تقولين أنت الرسالة وأنا ~~أمامك بشخصي؟ ~~- هذه رسالة لا تقال، وإنما تسلم. افتح الظرف. # وجدت بالرسالة ثلاث ورقات من فئة عشرة الجنيهات. ~~- ما هذا؟ ~~- نصيبك. ~~- نصيبي فيم؟ ~~- في الزبون الذي أحضرته. ~~- كل هذا نصيبي وحدي! لماذا؟ ~~- الأجر الأول كله لك، وما يدفعه بعد ذلك لي أنا وللبضاعة المطلوبة. ~~- خذي يا ست حميدة، أنا لم أفكر في هذا أبدا. ~~- مصيبتك أنك لم تفكر. لماذا لم تفكر؟! وإذا جئت لي بسيدة أو فتاة فأجرك ضعف ~~هذا. # كنت قد نسيت الغضب في هذه الفترة التي مرت بي بعد حادثة تحية وماجد، ولكنني فجأة وجدت ~~الغضب يعود إلي، ويبدو أنه تمثل في نظرتي ووجهي، فقد فوجئت بالست حميدة: اهدأ ~~وفكر. ~~- من غير تفكير. ~~- دايما يا أيمن التفكير أحسن. فكر، إن لك أصدقاء كثيرين، وسيطلبون منك ما طلبه ~~عبد الحليم، وستفعله، فلماذا تفعله مجانا؟! # جلست إلى جانبها وصمت طويلا، والظرف ما يزال في يدي أقلبه. # وفي خبرة قادرة راحت تنظر إلي، وأحسست بها ترى كل خلجة فكرة تمر برأسي. كانت واثقة ~~من منطقها، وكان لي أنا الآخر منطقي. إنني في مقابل ما سآخذه منها سأبذل جهدا يستحق ~~أجرا، فهو أجر مقابل جهد، أما مسألة الكرامة فلم تعد موضع مساومة. فأنا لم تعد عندي ~~كرامة لأبيعها، لقد نفدت من عندي منذ زمن طويل. لقد بعتها في مقابل المال، ولعل المال ~~الذي تقاضيته في سبيلها أكثر تحقيرا ms36 لي من حميدة، لقد بعت كرامتي وتقاضيت ثمنها من ~~مال مخضب بدماء العاملين في بلدي، أما مال الست حميدة فهو مال مقابل لذة، إنه مال ~~غير مخضب بدماء البشر، ومن يدفعه يحب أن يدفعه. أما المال الذي كنت أتقاضاه في الشركة ~~أو من غيرها فهو أموال لم يسمح أصحابها لي أن آخذها، وإنما اغتصبها منهم قوم أغدقوها ~~على أمثالي من قوادي الضمائر؛ كنت قواد رأي، وهذا ألعن ألف مرة من أن أكون قواد لذة. ~~أما ما شعرت به من غضب فهو رواسب من عهد الطفولة ما لبثت أن أدركت سذاجته. لم تدهش ~~الست حميدة حين وضعت الظرف في جيبي، ولا شعرت أنا بأي وخز من ألم، وسألت في انطلاقة نفس ~~يعرفها أمثالي: هل جاء البحث الجديد؟ # 13 # كنت جالسا بغرفتي بالشركة، وفتح الباب فجأة لتقف عليه تحية. ذعرت، انتفضت عن الكرسي ~~أريد أن أهرب، ولكنها كانت تقفل الباب بجسمها، أردت أن أصرخ، ولكني خشيت أن تسمعني ~~السكرتيرة، وأنا لا أريد أحدا أن يسمع هذا الصراخ، هذا الصراخ بالذات لا أريد أن ~~يسمعه أحد، أحسست بأيدي شهاب وهديل على فمي يكتمان صراخي أن ينطلق. # وجدت نفسي كفأر أطبقت عليه مصيدة، ذهبت إلى أقصى الحجرة وكأني أبحث عن مهرب، وأنا ~~أعلم ألا مهرب، وكل ما استطعت أن أفعله هو أن أوليها ظهري وأصرخ في صوت خفيض: اخرجي، ~~أرجوك، اخرجي. # دخلت وأقفلت الباب وجلست وهي تقول: اهدأ، اهدأ يا أيمن. # أهدأ؟! هي الأخرى تطالبني بالهدوء، كالست حميدة. تذكرت الست حميدة، فوجدت نفسي أهدأ ~~فعلا، كيف تستطيع النار المشبوبة اللاهية أن تخمد هكذا في جزء من هنيهة كأنما خفت أن ~~تكون قد عرفت بالتجارة التي أمارسها مع الست حميدة. ولكن الأمر مختلف؛ إن السيدات ~~اللواتي أرسلهن لسن زوجاتي ولا عرضي، الأمر مختلف، ولكني مع ذلك أجد نفسي هادئا. لا ~~أريد لهذا الهدوء أن يبين على صفحة وجهي، فصرخت في هذه المرة صرخت بأعلى صوت لي: ~~لماذا؟! # وساد صمت، ثم عدت أقول ودون صراخ: إنني من ms37 يومها أبحث: لماذا؟! لماذا؟! لماذا؟! ~~- غلطت. ~~- فقط. ~~- الحقيقة أنني لا أعرف نفسي. ~~- مجنونة؟ ~~- ما رأيك؟ ~~- لو كنت لحظت عليك جنونا ما أتعبت نفسي في البحث. ~~- لعله نوع من الجنون المتقطع، لقد أردت أن أغامر، كل شيء ميسر لي، والحياة ملل، ~~ولا بد لنا أن نقطع الملل. ~~- بشرفك وشرفي وسمعة بنتك وابنك! ~~- وما المغامرة؟ أليست مقامرة؟ ~~- والمثل والمبادئ، طبعا كلام فارغ. ~~- إنني ابنة نصر بك الملواني. ~~- فعلا، لك حق، المثل عندكم من لون مختلف. ~~- تأكد، لن يتكرر هذا. ~~- ما شأني أنا، تكرر أو لم يتكرر؟ ~~- أنا زوجتك. ~~- طلقتك. ~~- لا بد أن تعود معي. ~~- أعود معك! ~~- إلى شهاب وهديل. ~~- ومن أدراني أن ماجد وحده؟ لعل هناك ... ~~- تقصد هناك غيره؟ ~~- أم تراك مخلصة له؟ ~~- المسألة مجرد قطع ملل، ولا تحتاج لأكثر من واحد. ~~- هناك قواعد للدعارة؟ ~~- قواعد للمغامرة. ~~- إن لم تغفر من أجلي فمن أجل الأولاد. على الأقل امنع تقولات الناس. # صمت. كيف أسمح لهديل أن تربيها هذه المستهترة؟ وكيف لا أحمي سمعة شهاب أن يلوكها ~~أصدقاؤه؟ وأنا، ما أنا؟ لأكن ما أكون، ولكن وجودي على أية حال قد يجعلها تتخفى فلا ~~تتبجح. صمت، وطال الصمت، ولم أجد شيئا أقوله ولم تقل هي أيضا شيئا. صمت مطبق لم ~~يتصل فيه حتى هذا الحديث الذي يمكن أن يدور بين اثنين صامتين في غرفة واحدة. صمت مطبق ~~حتى لم يعد برأسي شيء أفكر فيه. # وسألت في لهجة أعرفها، وكأننا عدنا زوجين، بل كأننا ما افترقنا: هل سيارتك ~~معك؟ # صمت قليلا ثم قلت: نعم. ~~- أنا بدون سيارة. سيارتي يصلحون لها الفرامل. ~~- أرجو أن تصلح الفرامل. ~~- هيا بنا. # وقمت مستسلما، وفي الطريق ملت إلى فندق هيلتون لأشتري تورته وجاتوه للأولاد، ونزلت ~~معي إلى الفندق، وحين هممت أن أدفع الحساب وجدتني أخرج ظرفا من ظروف الست حميدة، وقالت ~~تحية: أين محفظتك؟ # ودون تفكير قلت: هكذا أسهل. # وبينما كانت البائعة تبحث عن باقي النقود رحت أفكر كيف أشتري بنقود الست حميدة حلوى ~~لأولادي، ولكن ما البأس؟ إنني سأشتري لهما ms38 أشياء كثيرة بهذه النقود، فأنا قد عرفت ~~مصيري وعرفت مصير أمهما. وكل ما أسعى له في الحياة ألا يعرف شهاب السيدة حميدة إلا كما ~~كنت أعرفها أنا قبل الزواج، وألا تعرف هديل الست حميدة مطلقا. ولعلي بما اكتسبت من ~~خبرة في الصحافة وفي المجتمع وفي حجرة تحية وفي حجرات حميدة، لعلي أستطيع أن أبلغ بابني ~~وبابنتي إلى هذا الذي أصبو إليه. ms39