######OpenITI# #META# URI: 1427NajibMahfuz.CaishFiHaqiqa.Hindawi85292717 #META# Tags: novels #META# ID: 85292717 #META# Title: العائش في الحقيقة #META# AuthorID: 71616385 #META# Author: نجيب محفوظ #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # أصل الحكاية‏ # كاهن آمون‏ # آي‏ # حور محب‏ # بك‏ # تادوخيبا‏ # توتو‏ # تي‏ # موت نجمت‏ # مري رع‏ # ماي‏ # محو‏ # ناخت‏ # بنتو‏ # نفرتيتي‏ # أصل الحكاية‏ # كاهن آمون‏ # آي‏ # حور محب‏ # بك‏ # تادوخيبا‏ # توتو‏ # تي‏ # موت نجمت‏ # مري رع‏ # ماي‏ # محو‏ # ناخت‏ # بنتو‏ # نفرتيتي‏ # | العائش في الحقيقة # | العائش في الحقيقة # تأليف # نجيب محفوظ # | أصل الحكاية # ولدت الرغبة في أعقاب نظرة مفعمة بالإثارة، والسفينة تشق ~~طريقها ضد التيار الهادئ القوي في أواخر فصل الفيضان. بدأت الرحلة من ~~مدينتنا سايس ماضية جنوبا إلى بانوبوليس لزيارة أختي التي استقر ~~بها الزواج هناك. وذات أصيل مررنا بمدينة غريبة، مدينة تطل من ~~أركانها عظمة غابرة، ويزحف الفناء بنهم على جنباتها وأشيائها، ~~مترامية بين النيل غربا ومحراب الجبل شرقا، متعرية الأشجار، خالية ~~الطرقات، مغلقة الأبواب والنوافذ كالجفون المسدلة، لا تنبض بها ~~حياة ولا تند عنها حركة، يجثم فوقها الصمت، وتخيم عليها الكآبة، ~~وتلوح في قسماتها أمارات الموت. أجلت فيها البصر فانقبض صدري، وهرعت ~~إلى أبي حيث يسترخي على أريكة فوق المنصة مجللا بشيخوخته، ~~وسألته: ما شأن هذه المدينة يا أبي؟ # فأجاب دون تأثر: مدينة المارق، المدينة الكافرة الملعونة، يا مري ~~مون ... # فرجع البصر إليها بانفعال مضاعف وذكريات منثالة، ثم سألت: ألا ~~يوجد بها حي؟ # فأجاب أبي باقتضاب: ما زالت المرأة المارقة تتنفس في قصرها، أو ~~سجنها، وهو الأصح، كما يوجد بعض الحراس بلا ريب ... # فغمغمت متذكرا: نفرتيتي! # ترى كيف تعاني وحدتها وذكرياتها؟! وسرعان ما استعدت ذكريات ~~صباي في قصر أبي بسايس، وحوار الكبار المحموم حول الإعصار الذي أطاح ~~بأرض مصر، والإمبراطورية، وما سموه بحرب الآلهة، وفرعون الشاب الذي ~~مزق التراث والتقاليد، وتحدى الكهنة والقدر. أجل، تذكرت تلك ~~الأيام المنسية، وما قيل عن دين جديد، وتمزق الناس بين الإيمان ~~والولاء، والجدل حول الحقائق الغامضة، والهزائم المريرة، والنصر ~~المقترن بالحزن. ها هي مدينة العجائب مستسلمة للموت، ها هي سيدتها ~~سجينة تتجرع الألم في وحدة، ها هو قلبي الشاب يدق بعنف طامحا ~~لمعرفة كل شيء. وقلت لأبي: لن ترميني بحب الدعة بعد اليوم ms01 يا أبي، ~~إن رغبة مقدسة تغزوني مثل ريح الشمال كي أعرف الحقيقة وأسجلها ~~كما كنت تفعل في صدر شبابك يا أبي ... # فرمقني أبي بعينيه الكليلتين وتساءل: ماذا تريد يا مري مون؟ ~~- أريد أن أعرف كل شيء عن هذه المدينة وصاحبها، عن المأساة التي ~~مزقت الوطن وضيعت الإمبراطورية ... # فقال بجدية: ولكنك سمعت كل شيء في المعبد. # فقلت بحماس: قال الحكيم قاقمنا: «لا تحكم على قضية حتى تسمع ~~الطرفين!» ~~- الحقيقة هنا واضحة، فضلا عن أن الطرف الآخر، المارق، قد مات ... ~~فقلت بحماس متصاعد: أكثر الذين عاصروه ما زالوا أحياء يا أبي، ~~وجميعهم أقران لك وأصدقاء؛ فأي توصية منك لهم خليقة بأن تفتح لي مغاليق ~~الأبواب ومكنون الأسرار؛ بذلك أحيط بجوانب الحقيقة قبل أن يأتي عليها ~~الزمن كما أتى على المدينة ... # وواصلت إلحاحي عليه حتى استجاب لرغبتي، بل لعله تحمس لها في باطنه ~~لسابق ولعه بتسجيل الحقائق، ولرسوخه في العلم الذي جعل من قصرنا منتدى ~~لرجال الدين والدنيا؛ حتى عرف بين صحبه ب «صاحب الأرض الطيبة ~~والحكمة النادرة»، كما عرف قصره بالندوات تروى بها الحكايات، ~~وتردد الأشعار، وتمتد بها موائد البط والنبيذ. # وحرر لي رسائل توصية للكبار الذين عاصروا الأحداث، من شارك فيها ~~من قريب أو بعيد، من ذاق حلوها ثم مرها، ومن ذاق مرها ثم حلوها. ~~وقال لي: اخترت سبيلك بنفسك يا مري مون، فاذهب في رعاية الآلهة، ~~أجدادك ذهبوا للحرب أو السياسة أو التجارة، أما أنت فتريد الحقيقة، ~~وكل على قدر همته، ولكن احذر أن تستفز صاحب سلطان أو تشمت ~~بساقط في النسيان، كن كالتاريخ يفتح أذنيه لكل قائل ولا ينحاز لأحد، ~~ثم يسلم الحقيقة ناصعة هبة للمتأملين ... # وسعدت جدا بالخلاص من الخمول، والتوجه إلى تيار التاريخ الذي ~~لا تعرف له بداية، ولن يتوقف عند نهاية، ويضيف كل ذي شأن إلى ~~مجراه موجة مستمدة من حب الحقيقة الأبدية ... # | كاهن آمون # رجعت طيبة إلى عهدها الزاهر بعد أن ذاقت مرارة الهجران والانطواء ~~على عهد «المارق». أصحبت العاصمة من جديد، يزين عرشها فرعون ms02 الشاب ~~توت عنخ آمون، وعاد إليها رجال السلم والحرب، واستقر الكهنة في ~~معابدهم، وعمرت القصور، وغنت الحدائق، وشمخ معبد آمون بأعمدته ~~العملاقة وحديقته الزهراء، وماجت الأسواق بالباعة والناس والسلع. كل ~~شيء يتألق بالعزة والاستقرار، وتيار السابلة لا ينقطع. وكنت أزورها ~~لأول مرة في حياتي، فبهرني جلالها وأبنيتها وناسها الذين لا يحيط بهم ~~حصر، واقتحمتني أصواتها ونداءاتها وعجلاتها ومحفاتها، فتبدت لي ~~بلدتي سايس بالمقارنة قرية خاملة خرساء. وقصدت في الموعد المضروب ~~معبد آمون، فاخترقت بهو الأعمدة في إثر خادم، ثم ملت إلى دهليز ~~جانبي أوصلني إلى الحجرة التي انتظرني بها الكائن الأكبر. رأيته يجلس ~~في الصدر على كرسي من الآبنوس ذي مقبضين من الذهب، شيخا هرما حليق ~~الرأس، داخل نقبة طويلة واسعة، يلف أعلاه بوشاح أبيض. وضح لي أنه ~~رغم شيخوخته يتمتع بحيوية فائقة وقلب مطمئن. حيا أبي ونوه ~~بإخلاصه قائلا: عرفتنا المحنة بالمخلصين من الرجال. # وأثنى على مشروعي متمتما: لقد حطمنا الجدران بما سجلت من ~~أكاذيب، ولكن الحقيقة يجب أن تسجل. # وحنى رأسه كالممتن وهو يقول: اليوم يتربع آمون على عرشه، ويقف ~~في سفينته المقدسة بقدس الأقداس سيدا للآلهة، حاميا لمصر، رادعا ~~لأعدائها، ويسترد كهنته سيادتهم الشاملة، هو الإله الذي حرر ~~وادينا بيد أحمس، ومد حدودنا شمالا وجنوبا وشرقا وغربا بيد ~~تحتمس الثالث، هو الإله الذي ينصر، ويذل من يخونه. # فركعت إجلالا حتى أذن لي، فجلست على مقعد منخفض بين يديه، ~~واستجمعت حواسي للإصغاء، على حين راح الكاهن الأكبر يقول: إنها قصة ~~حزينة يا مري مون بدأت فيما يشبه الهمس البريء، وجاءت البداية على يد ~~الملكة العظمى أم المارق وزوجة فرعون العظيم أمنحتب الثالث. امرأة من ~~الشعب لا يجري في عروقها دم ملكي، من أسرة نوبية، وكانت قوية وداهية ~~كأن في رأسها أربع أعين ترى الجهات جميعا في وقت واحد، وكانت في ~~الظاهر تحرص على إرضائنا ومودتنا، ولن أنسى قولها لي يوم احتفال بعيد ~~النيل: أنتم الخير والبركة يا كهنة آمون! # وكان من عادتها أن تحدق في الرجال الأقوياء بعينيها ms03 النجلاوين ~~حتى يحنوا الرءوس متعثرين في ارتباكهم. ولم نتوجس منها خيفة، ولا ~~ننسى حب فراعين الأسرة المجيدة لكهنة آمون، حتى وجدنا الملكة تهتم ~~بتوسيع مجال الدراسات الدينية لتشمل ديانات الآلهة الأخرى، وخاصة ~~الإله آتون. ولم يعد الأمر في ظاهره أن يكون زيادة في المعرفة ~~بديانات نحترمها جميعا ونقدسها؛ فلم نجد ثمة وجها للاعتراض، ولكن ~~ساءنا أن تحظى الآلهة بذلك الامتياز في طيبة موطن آمون. ولم يلطف من ~~مشاعرنا ما رددته تيى من أن آمون سيظل سيد الآلهة إلى الأبد، كما ~~أن كهنته سيظلون على رأس كهنة مصر بلا استثناء. وقال لي توتو الكاهن ~~المرتل: إني أستشف وراء القرار سياسة جديدة لا شأن لها بالدين في ~~ذاته! # فطالبته بمزيد من الإيضاح، فقال: الملكة العظمى تخطب ود كهنة ~~الأقاليم لتقيم توازنا بيننا وبينهم، فتحد من سلطان الكهنة ~~وتقوي سلطة العرش. # فقلت له ولم أكن أخلو من الهواجس: نحن خدام الإله والشعب، نحن ~~المعلمون والأطباء، والمرشدون في الدنيا والعالم الآخر، والملكة ~~العظمى سيدة حكيمة، وهي لا شك تقر لنا بالفضل. # فقال توتو بامتعاض: النزاع على السلطة، والملكة قوية طموح، وهي ~~في رأيي أقوى من الملك نفسه! # فقلت وكأنما أناقش مخاوفي: نحن أبناء الإله الأعظم، ووراءنا تراث ~~أقوى من الدهر. # ولعله من المفيد الآن أن أحدثك عن الملك أمنحتب الثالث. لقد شيد ~~له جده تحتمس الثالث إمبراطورية لم تسبق بمثيل في اتساعها وتعدد ~~أجناسها. وكان ملكا قويا، يثب للدفاع عن أملاكه عند أول نذير يخطر، ~~وحقق انتصارات حاسمة حتى دانت له الإمبراطورية بالطاعة الكاملة، ~~غير أن عهده الطويل غلب عليه السلام والرخاء. جنى هو ثمار ما تعب ~~أسلافه في زرعه، فانهمرت عليه المحاصيل والثياب والمعادن والنساء، وبنى ~~القصور والمعابد والتماثيل، وغرق حتى أذنيه في الطعام والشراب ~~والنساء. وعرفت المرأة الداهية نقاط القوة والضعف في زوجها فاستثمرتها ~~على خير ما يكون الاستثمار. شجعته على الحرب حين الحرب، وتسامحت ~~معه في شهواته مضحية بقلبها كامرأة لتشاركه سلطانه بكل جدارة، ~~ولتمارس طموحها غير المحدود. ولا أنكر أنها ms04 كانت ملمة بكل صغيرة ~~وكبيرة من شئون مصر أو الإمبراطورية، ولا أنكر إخلاصها وبعد نظرها ~~وحرصها على المجد والعظمة، ولكني آخذ عليها نهمها للسلطة؛ ذلك ~~النهم الذي سول لها أن تستغل الدين بنعومة ودهاء لتستأثر بالقوة ~~للعرش دون الكهنة أجمعين. ثم تبين لي أن ثمة أفكارا أخرى تدور ~~برأسها؛ فقد زارت المعبد يوما لتقديم القرابين، وتقدمتني بعد ذلك ~~إلى مثوى الراحة بقامتها القوية المتوسطة، فلما استقر بنا المجلس ~~سألتني: ماذا يحزنك؟ # وجعلت أفكر في اختيار رد مناسب، ولكنها عاجلتني قائلة: إني أقرأ ~~أسرار القلوب مثل الكهنة، إنك تظن أني أرفع من شأن الكهنة الآخرين على ~~حساب كهنة آمون؟ # فقلت مسلما: كهنة آمون هم أمناء أسرتكم المجيدة ... # فقالت وعيناها تبرقان: إليك ما أفكر فيه أيها الكائن الأكبر، آمون ~~سيد آلهة مصر، وهو يقوم أمام رعايانا في الإمبراطورية رمزا للسلطة ~~وربما للهزيمة، أما آتون إله الشمس فإنه يشرق في كل مكان، وبوسع أي ~~مخلوق أن ينتمي إليه دون غضاضة! # ترى أهذا حقا ما تفكر فيه أم إنه حجة جديدة تداري بها ~~رغبتها الحقيقية في تقليم أظافرنا؟ على أن الفكرة نفسها لم تفز ~~بإقناعي، وقلت: مولاتي، أولئك المتوحشون يحكمون بالقوة لا ~~بالمودة! # فقالت باسمة: وبالمودة أيضا، ما يصلح لمعاملة الوحوش لا يصلح ~~لمعاملة الحيوان المستأنس ... # وآمنت بأنها رؤية أنثوية عقيمة، وقد تثمر عواقب وخيمة، وهذا ما ~~أثبتته الأحداث الأليمة فيما بعد. # وسكت الكاهن الأكبر كأنما ليتأمل أو ليتذكر، ثم واصل حديثه: ~~ومما يذكر أنه صادفتها في مطلع حياتها الزوجية متاعب، فلبثت مدة ~~غير قصيرة لا تنجب، تعاني المخاوف من شبح العقم، ويضاعف من مخاوفها ~~أصلها الشعبي. وبفضل آمون وكهنته، وبفضل الدعوات الصالحات والسحر ~~القوي، حملت الملكة، ولكنها أنجبت بنتا! وكلما التقينا في القصر أو ~~المعبد رمقتني بنظرة حذرة مترعة بسوء الظن كأنني المسئول عن سوء ~~حظها. وما كنا نفكر في تعكير صفو العرش أبدا، ولكنها كانت قليلة ~~الثقة في الناس لفساد طويتها. # وسكت مرة أخرى كالمتردد ثم قال: وبطريقة غامضة أنجبت ~~ذكرين! # وتريث ms05 الرجل حتى اشتعلت تساؤلاتي الخفية، ثم قال: مات أكبرهما ~~وأصلحهما، وبقي الآخر ليمارس شذوذه في تخريب مصر. # وقرأ الكاهن تساؤلاتي المحرقة، فقال: نحن نعرف كيف نصيد الحقيقة وإن ~~امتنعت عن الكثيرين، لنا من السحر قوة، ولنا من العيون قوة ... فالمارق ~~مجهول الأب، فاقد الرجولة، مؤنث الصورة، متنافر القسمات ... وعلى ~~مثال أبيه تزوج من فتاة من الشعب، جمعت في شخصها مثل أمه بين الأصل ~~الشعبي والطموح الجنوني والفسق، جميلة عنيدة متحدية؛ فاندفعت معه في ~~سياسته المدمرة، وأنجبت له ست بنات من رجال آخرين. ورغم حبه الظاهر ~~لها فلعله لم يحب في الواقع إلا أمه، أعطته الحياة والأفكار. ~~ولشدة التصاقه بها شعر بوحدتها وآلامها، فحنق على أبيه حنقا دعاه ~~إلى الانتقام منه بعد موته، فمحا اسمه من الآثار بحجة اقترانه باسم ~~آمون، أما الحقيقة فهي أنه أعدمه بعد موته بعد أن عجز عن قتله في ~~حياته. وقد لقنته أمه دين آتون الذي آمنت به لأهداف سياسية، ولكنه ~~آمن به إيمانا حقيقيا نابذا السياسة التي لم توافق طبيعته ~~الأنثوية، ومنه مرق إلى الكفر، وهو ما لم تتوقعه أمه نفسها. ما زلت ~~للأسف أتذكر صورته الكريهة ... ما كان رجلا وما كان امرأة، وكان ~~ضعيفا لحد الحقد على الأقوياء جميعا من رجال وكهنة وآلهة. وقد اخترع ~~إلها على مثاله في الضعف والأنوثة، تصوره أبا وأما في وقت واحد، ~~وتصور له وظيفة وحيدة هي الحب! فكانت عبادته رقصا وغناء وشرابا، ~~وغرق في مستنقع الحماقة معرضا عن واجباته الملكية، على حين كان ~~رجالنا المخلصون في الإمبراطورية وأحلافنا الأوفياء يتساقطون تحت ~~ضربات العدو، يستغيثون ولا يغاثون، حتى ضاعت الإمبراطورية، وخربت مصر، ~~وخوت المعابد، وجاع الناس. هذا هو المارق الذي سمى نفسه ~~إخناتون! # وصمت الكاهن الأكبر تحت وطأة الانفعال وحدة الذكريات، ثم شبك ~~أصابع يديه في قبضة واحدة، وراح يقول: ومنذ نشأته الأولى جاءتني ~~الأخبار عنه بلسان رجال لي في القصر ممن نذروا أنفسهم لآمون والوطن، ~~وعنهم عرفت أن ولي العهد ينجذب نحو آتون ويهمل آمون، وأنه رغم حداثة ms06 ~~سنه يلوذ بخلوة على شاطئ النيل يستقبل فيها الشروق بالأغاني. أدركت ~~لتوي أنه صبي غريب ينذر بالمتاعب. وسعيت إلى مقابلة العرش، ~~وأفضيت هناك للملك والملكة بمخاوفي. وابتسم أمنحتب الثالث وقال: ما زال ~~ابني طفلا. # فقلت: ولكن الطفل يكبر ويحتفظ في أعماقه بأفكار طفولته. # فقالت تيى: إنه ينشد الحكمة في كافة مظانها بقلب بريء. # قال فرعون: عما قريب يبدأ تدريباته العسكرية، ويعرف أهدافه ~~الحقيقية. # فقالت تيى: لا حاجة بنا إلى المزيد من البلدان، ولكننا في حاجة إلى ~~الحكمة للمحافظة عليها ... # فقلت بوضوح: لا سبيل إلى المحافظة عليها إلا بالاعتماد على آمون ~~وممارسة القوة. # فقالت المرأة الداهية: ما رأيت حكيما يستهين بالحكمة مثلك يا كاهن ~~آمون! # فقلت بإصرار: إني لا أستهين بالحكمة، ولكني أراها لغوا بغير سند من ~~القوة. # فقال أمنحتب: لا خلاف في هذا القصر على أن آمون هو سيد ~~الآلهة. # فقلت بقلق: إنه انقطع عن زيارة المعبد. # فقال الملك: صبرا، عما قليل سيؤدي كافة واجباته كولي للعهد ~~... # لم أرجع من اللقاء بما يسكن الخواطر، بل لعل مخاوفنا - نحن الكهنة ~~- وجدت ما يسوغها ويقويها. وجاءتنا أنباء جديدة عن حوار دار بينه ~~وبين والديه، أدركنا منه أن ذلك الجسد المهزول ينطوي على سراديب قوة ~~وعناد شريرة تنذر بأوخم العواقب. وذات يوم قابلني أحد أتباعي وقال ~~لي: الشمس نفسها لم تعد إلها! # فسألته عما يعني، فقال: إنهم يتهامسون هناك عن إله جديد لم يعرف ~~من قبل تجلى لروح ولي العهد، وطالبه بأن يعبده باعتباره الإله ~~الوحيد الحقيقي في الوجود، هو وحده لا شريك له، وكل معبود سواه ~~باطل. # صعقني الخبر صعقا، وأيقنت أن الموت الذي خطف الأخ الأكبر أهون ~~وأرحم من الجنون الذي حل بالأصغر، وتجسدت أمام عيني الكارثة في ~~أبشع صورة. ~~- أأنت واثق مما تقول؟ ~~- إنما أنقل إليكم ما يتهامس به الجميع. ~~- وكيف تجسد له ذلك الإله المزعوم؟ ~~- سمع صوته فقط ... ~~- لا شمس ولا نجم ولا تمثال؟ ~~- لا شيء البتة. ~~- وكيف يعبد ما لا يرى؟ ~~- إنه يؤمن بأنه القوة الوحيدة الخالقة. ~~- لقد ms07 أذاب المجنون ذاته في اللاشيء! # وقال الكاهن المرتل توتو: لقد جن وفقد الأهلية لتولي ~~العرش. # فقلت برجاء: اهدأ يا توتو؛ فمهما كفر فستظل الآلهة باقية معبودة ~~للملايين ... # فتساءل بحدة: ولكن كيف يتولى العرش كافر مارق؟ # فقلت بكآبة: فلننتظر حتى تعلن الحقيقة، ثم نقدم على طرح الموضوع ~~للمناقشة مع الملك، وسوف تكون المناقشة الأولى من نوعها في تاريخنا ~~الطويل ... # وحدث أن تزوج ولي العهد من نفرتيتي الابنة الكبرى للحكيم الصديق ~~آي. كانت أيضا مثل الملكة العظمى تيى من أصل شعبي، ولكني تعلقت ~~بأمل واحد رآه، وهو أن يرده الزواج إلى شيء من التوازن. ودعوت آي ~~إلى مقابلتي فوجدته حذرا في حديثه، فقدرت حرج مركزه، ولم أشر من ~~جانبي إلى أنباء الكفر، ولكني اتفقت معه على أن يرتب لتدبير زيارة ~~سرية تتم بيني وبين ابنته. وتأملتها بعين فراستي المستمدة من ~~روح آمون، فتكشف لي جمالها عن قوة ذكرتني بالملكة العظمى تيى، ~~فرجوت أن تكون هذه القوة لنا لا علينا. وقلت لها: تقبلي بركاتي يا ~~ابنتي وابنة صديقي آي. # فشكرتني بعذوبة، فقلت: أرى من واجبي أن أذكرك، ولست في حاجة إلى ~~تذكير، بأن العرش يقوم على ثلاثة؛ آمون سيد الآلهة، وفرعون، ~~والملكة. # فقالت: سعيد من يصغي إلى حكمتك. # فقلت: والملكة الحكيمة تشارك الملك في المحافظة على الوطن ~~والإمبراطورية. # فقالت بثبات: أيها الكاهن المقدس، قلبي مليء بالحب ~~والإخلاص. # فقلت بوضوح: مصر مثوى التقاليد الخالدة، والمرأة هي الوعاء المقدس ~~للتقاليد. # فقالت بالثبات نفسه: وقلبي مليء بالواجب أيضا. # يا لها من حذرة متحفظة كتمثال بلا نقوش تفسره. لقد تكلمت ~~ولم تقل شيئا، ولم يكن بوسعي أن أكاشفها بأكثر من ذلك. غير أنها في ~~الحقيقة قد قالت أكثر من المتوقع. إن تحفظها يعني أنها تعرف كل ~~شيء، وأنها لن تكون معنا. إنها مرشحة للعرش بضربة حظ خليقة أن ~~تدير أكبر رأس، وسيكون همها الأول في الحياة المحافظة على العرش، ~~لا آمون ولا الآلهة. وأقمت مع الكهنة صلاة للحزن في قدس الأقداس، ثم ~~وافيتهم بفحوى الحوار بيني وبين ms08 نفرتيتي، فقال توتو معلقا: سينكشف ~~الغد عن ليل طويل. # ثم خلا إلي متسائلا: ألا تستطيع أن تناقش المستقبل مع القائد ~~ماي؟ # فلمحت ما يرمي إليه وقلت بصراحة: لا نستطيع أن نتحدى أمنحتب الثالث ~~والملكة العظمة تيى. # بدا أن الأمور لا تسير يسيرة في القصر بين المجنون ووالديه؛ من ~~أجل ذلك صدر أمر ملكي لولي العهد ليقوم برحلة تعارف في أرجاء ~~الإمبراطورية. ولم أشك في أن الملك أراد أن يعرف ابنه رعاياه، وأن ~~يعيش الواقع لعله يفيق من ضلاله. وحمدت له ذلك في نفسي، غير أن كآبتي ~~ظلت راسخة. وفي أثناء الرحلة حدثت أمور على جانب كبير من الأهمية؛ ~~فقد أنجبت تيى توءمين هما سمنخ رع وتوت عنخ آمون. بعد فترة تدهورت ~~صحة الملك العجوز ومات، ورحل مبعوثون إلى ولي العهد بالأخبار ليرجع ~~فيتولى سلطته. وتشاورنا نحن الكهنة حول مستقبل البلاد فاتفقنا على ~~رأي. وسعيت إلى مقابلة الملكة تيى رغم الحداد وانشغالها بتحنيط ~~زوجها. وجدتها في حزنها قوية ثابتة واعية بأهدافها، وكان علي أن ~~أصارحها بما جئت من أجله مهما كلفني ذلك. قلت: جئت يا مولاتي ~~لأفضي برأيي إلى الأم الشرعية للإمبراطورية. # وأصغت إلي ومنظرها يوحي بأنها تحدس بفطنة ما سيقال. ~~- مولاتي، أصبح معروفا أن ولي العهد قد كفر بجميع الآلهة. # فتجهم وجهها وقالت: لا تصدق كل ما تسمع. # فقلت بلهفة: إني على استعداد لتصديق ما تقولين يا مولاتي. # فقالت باقتضاب: إنه شاعر أيها الكائن الأكبر. # ولذت بالصمت بغير اقتناع، فقالت بثقة: سوف يعرف واجبه ~~تماما. # فقلت مستجمعا شجاعتي: مولاتي تعرف عواقب الكفر بالآلهة على ~~العرش! # فقالت بضيق: لا خوف على عبادة الآلهة! # فقلت مستزيدا من شجاعتي: أمامنا حل إذا مست الضرورة إليه، وهو ~~أن نولي أحد ابنيك الصغيرين وتكوني الوصية على العرش! # فقالت بحزم: سيحكم أمنحتب الرابع؛ لأنه ولي العهد. # هكذا غلبت الأم العاشقة الملكة الحكيمة، وضيعت فرصة النجاة، ~~وأتاحت للقدر أن يضرب ضربته القاتلة. # ورجع ولي العهد المؤنث المجنون. ودفن الملك الأب في موعده. ~~وسرعان ما طلبت لمقابلته بصفته ms09 الرسمية. لأول مرة أراه عن قرب ~~وأمعن فيه النظر. كان ذا سمرة غامقة، وجسم طويل نحيل، وعينين ~~حالمتين، وتكوين أنثوي لا يخفى على أحد، أما ملامحه فمتنافرة ~~مثيرة للقلق. إنه كائن هزيل حقير لا يليق بعرش، ولا يتصور أن يتحدى ~~بعوضة لا آمون سيد الآلهة. وداريت تقززي وعزيته مقتبسا من حكم ~~الحكماء وشعر الشعراء، وهو يرمقني بنظرات محيرة، لا كراهية فيها ~~ولا تحد ولا ود. وشتت منظره فكري لدرجة أن غلبني الصمت، فبادرني ~~هو قائلا: طالما تسببت لي في مناقشات مرهقة مع والدي! # فاسترددت قدرتي على الكلام فقلت: لا هم لي في الحياة إلا آمون ~~والعرش ومصر والإمبراطورية ... # فقال بهدوء: لديك ما تقوله ولا شك. # فقلت وأنا أتأهب لخوض المعركة: سمعت أنباء مقلقة، ولكني لم ~~أصدقها. # فقال بلا مبالاة: إنها حقيقية! # فذهلت وانعقد لساني، فواصل حديثه: إني المؤمن الوحيد في بلد من ~~الضالين. ~~- لا أصدق أذني. ~~- بل صدقهما، لا إله إلا الإله الواحد. # واقتحمني الغضب لعقيدتي؛ فلم أعد أبالي بالعواقب دفاعا عن آمون ~~وسائر الآلهة. # وقلت بصراحة مخيفة: هذا تجديف لن يغفره آمون لبشر ... # فقال بهدوء باسم: لا يملك منح المغفرة إلا الإله الواحد. # فقلت وأنا أنتفض من شدة الانفعال: إنه لا شيء. # فبسط ذراعيه بحنان وقال: هو كل شيء؛ الخالق ... القوة ... الحب ... السلام ~~... السرور. # ثم ثقبني بنظرة نافذة تتناقض تماما مع هيكله الواهن: إني أدعوك ~~للإيمان به. # فقلت محذرا محتدا: احذر غضب آمون، إنه قادر على المنع قدرته ~~على العطاء، قادر على العون قدرته على الخذلان، قادر على التأمين ~~قدرته على التدمير، خف على رزقك وذريتك وعرشك وإمبراطوريتك. # فقال متماديا في الهدوء: إني طفل يحبو في رحاب الواحد، وبرعمة ~~تتفتح في حديقته. إني راض بقدره، خادم لأمره. وقد تعطف فتجلى لروحي ~~حتى أترعت بالأنوار، وسالت بالأنغام. ولن أبالي بعد ذلك بشيء! # فقلت بغضب: إن ولي العهد لا يصير فرعون حتى يتوج بين يدي ~~آمون! # فقال باستهانة: بل يتوج تحت نور الشمس في رعاية الخالق الوحيد ~~... # وافترقنا على أسوأ حال ms10 . معي آمون والمؤمنون، ومعه تراث أسرته ~~المجيدة، ومنزلته المقدسة عند رعاياه، وجنونه الذي لا يبالي بشيء. ~~وتوثبت للحرب المقدسة موطنا نفسي على التضحية فداء لإلهي ~~ووطني، ولم أتوان عن العمل لحظة. وقلت لأبنائي الكهنة: فرعون الجديد ~~كافر، عليكم أن تعلموا بذلك، وأن تعلموا الناس به ... # ورغم حماسي وجدتني مسوقا إلى كبح جماح توتو الكاهن المرتل، ~~فاقترحت عليه الانضمام في الظاهر إلى المارق ليكون عينا لنا عليه، ومن ~~ناحية أخرى فلم يتوان الملك أيضا عن العمل، فتم التتويج في رحاب ~~الإله المزعوم، وأصر بتشييد معبد له في طيبة؛ مدينة آمون المقدسة، ~~وراح يعرض دينه على الرجال ليختار معاونيه؛ فأعلن صفوة مصر إيمانهم ~~بدوافع شتى ولهدف واحد، وهو تحقيق طموحهم على حساب عقيدتهم. ولو ~~جاهر الرجال بالعصيان لتغير المصير، ولكنهم سقطوا كالنساء ~~الداعرات. هذا الحكيم آي اعتبر نفسه ضمن الأسرة، فأسكره الجاه وأعماه، ~~وحور محب الجندي الشجاع لم يكن صاحب عقيدة صادقة؛ فكان الأمر بالنسبة ~~إليه مجرد تغيير اسم لا معنى له، أما الآخرون فلم يكونوا سوى ~~منافقين لا هم لهم إلا الجاه والمال. ولولا ارتدادهم عن غيهم في ~~اللحظة الحرجة لاستحقوا القتل. وقد فازوا بالحياة، ولكنني لا أكن ~~احتراما لأي منهم. واشتد التوتر في طيبة، وانقسم الناس بين الولاء ~~لآمون والولاء للمجنون سليل أعظم أسرة في تاريخنا المجيد. وجزعت ~~الملكة الوالدة تيى وهي ترى غرس يديها وهو يتحول إلى نبات سام، وهو ~~ينحدر نحو الهاوية جارا معه أسرته إلى الفناء. وواظبت على زيارة معبد ~~آمون وتقديم القرابين، محاولة تلطيف موجة التمرد العارمة التي ~~تهدد باقتلاع العرش. وجعلت تقول لي: بالولاء تكسبون، وبالتمرد ~~تخسرون ... # وكنت أقول لها: كيف تطالبيننا بالولاء لكافر؟! ليتكم آمنتم ~~بنصائحي! # فتقول لي: علينا أن نطرد اليأس من أفقنا! # لقد ثبت عجزها أمام ابنها المؤنث المدلل، وانهارت قوتها ~~التقليدية حيال قوة جنونه الخفية، ولم يكن مفر من أن نواصل ~~القتال حتى النهاية. من أجل ذلك ضاق المجنون بطيبة، وترامت إلى مسمعه ~~هتافات عدائية في عيد آمون، فادعى أن إلهه ms11 أمره بالهجرة إلى مدينة ~~جديدة تشيد من أجله. هكذا أجبرناه على الهجرة مصحوبا بثمانين ألفا ~~من المارقين ليقيموا لأنفسهم سجنا تحل به اللعنة. وخلا لنا الجو ~~لإدارة معركتنا المقدسة، وخلا له الجو للإمعان في الكفر والضلال حتى ~~انقلبت العاصمة الجديدة مدينة للملاهي والسكر والعربدة والفسق التي ~~يبشر بها إله مجهول الهوية، شعاره الحب والسرور! وكلما ألح على ~~المجنون ضعفه الطبيعي غالى في إظهار قوته؛ فأمر بإغلاق المعابد، ~~ومصادرة الآلهة وأوقافها، وتشريد الكهنة. وقلت لأبنائي الكهنة: لا قيمة ~~للحياة بعد إغلاق المعابد؛ فأحبوا الموت. # وقد وجدنا في بيوت المؤمنين مأوى، وفي قلوبهم جيوشا، فواصلنا ~~الجهاد بهمة متصاعدة، وأمل يقترب من الشروق يوما بعد يوم. وتمادى ~~المارق، فقام بزيارات إلى الأقاليم داعيا شعبه إلى الكفر. وشد ما ~~عانى الشعب في تلك الأيام السود من تمزق بين ولائه لآلهته وولائه ~~لملكه الذي أذهلهم بجسمه المتهافت، وطابعه الأنثوي، ووجهه المنفر، ~~وزوجته الجميلة الفاسقة. # تلك كانت أيام الأحزان والعذاب والنفاق والندم والدموع المنهمرة ~~والرعب من غضب الآلهة. وأحدثت رسالة الحب المؤنث آثارها، فاستهتر ~~الموظفون بواجباتهم، واستغلوا الناس أبشع استغلال، وسرى التمرد ~~في أنحاء الإمبراطورية، واستهان بحدودها الأعداء، واستغاث بنا الأمراء ~~المخلصون، فأرسلت إليهم الأشعار بدلا من الجيوش، فقتلوا دفاعا عن ~~إمبراطوريتنا وهم يلعنون الخائن المارق المجنون. وتوقف الخير ~~المتدفق على أرض مصر من جميع البلدان حتى خلت الأسواق، وأفلس ~~التجار، وجاع العباد. وصحت بأعلى صوتي: ها هي لعنة آمون الغاضب ~~تحل بنا؛ فإما القضاء على المارق، وإما الحرب الأهلية. # ولم أدع فرصة للخير لم أجربها لتجنيب البلاد ويلات الحرب، فقابلت ~~الملكة الأم تيى، وقالت لي بحرارة: إني حزينة أيها الكاهن ~~الأكبر. # فقلت بمرارة: لم أعد كاهنا أكبر، لست إلا شريدا مطاردا ... # فقالت ملعثمة: إني أسأل الآلهة أن تمدنا برحمتها. # فقلت لها: لا بد من العمل، إنه ابنك، وهو يحبك، وإنك تتحملين ~~تبعة لا يستهان بها فيما انتهت إليه الأمور، فبادريه بنصحك قبل أن ~~تنشب حرب أهلية لن تبقي على شيء ... # فقالت بامتعاض لتذكيري لها بمسئولياتها ms12 فيما حدث: لقد قررت السفر ~~إلى العاصمة الجديدة أخت آتون ... # ولا أنكر أنها بذلت جهدا، ولكنها لم تستطع أن تصلح ما أفسدت. ولم ~~أستسلم لليأس، فسافرت بنفسي مجازفا إلى أخت آتون، واجتمعت بالرجال ~~وقلت لهم: إني الآن أتكلم من موقع القوة، وورائي رجال ينتظرون إشارة ~~للانقضاض عليكم، ولكني آثرت أن أحاول محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن ~~إنقاذه دون سفك دماء أو خراب، وسأترك لكم مهلة لتؤدوا واجبكم ~~وترجعوا إلى ضمائركم ... # وقرأت في وجوههم الاقتناع بما قلت، وبصرف النظر عن دوافعهم الحقيقية ~~فقد أدوا ما طالبتهم به، وجنبوا البلاد شر ويلات كثيرة. قابلوا ~~المارق المجنون، وطالبوه بأمرين عاجلين؛ إعلان الحرية الدينية، ~~وإرسال جيش للدفاع عن الإمبراطورية. ولكنه رفض معلنا بذلك جنونه على ~~الملأ. وعند ذاك طالبوه بالتنازل عن العرش، وله أن يحتفظ بعقيدته، بل ~~وأن يدعو إليها كيفما شاء، ولكنه رفض أيضا. غير أنه عين أخاه سمنخ ~~رع شريكا له في العرش، فتجاهلنا أمره، واخترنا توت عنخ آمون ليجلس على ~~العرش مختارا منا. وبإزاء عناد المجنون قرر الرجال هجره وهجر ~~مدينته، وإعلان ولائهم لفرعون الجديد؛ بذلك تغيرت الدولة بلا حرب ولا ~~خراب، وفي نظير ذلك عدلنا عن الانتقام من المجنون وزوجته، ومن أبقى ~~على الوفاء له من رجاله. # وفتحت المعابد أبوابها، وهرع إليها المؤمنون بعد حرمان طويل، وانقشع ~~الكابوس، ومضى كل شيء يعود إلى أصله على قدر الإمكان. أما المارق فبعد ~~أن شبع جنونا أدركه المرض، وما لبث أن مات خائب المسعى في الدنيا، ~~وفاقد الأمل في العالم الآخر، مخلفا وراءه زوجته الشريرة تعاني ~~الوحدة والهجر والندم. # وصمت الرجل طويلا وهو يرنو إلي، ثم قال: نحن نضمد جراحنا، يلزمنا ~~عمل كبير وشاق، خسارتنا في الداخل والخارج أكبر من أن يحيط بها حصر. ~~كيف حدث هذا؟! ... كيف أتيح لمجنون مشوه أن يفعل بنا ذلك كله تحت ~~سمع العقلاء وبصرهم؟! # وتريث قليلا ثم خاطبني قائلا: لقد كشفت لك عن الحقيقة خالصة ~~بلا تزويق ولا تشويه، فسجلها في دفترك بأمانة، وأبلغ تحياتي ~~والدك. # | آي ms13 # هو الحكيم، أبو نفرتيتي وموت نجمت، ومستشار المارق. حفر الكبر ~~أخاديد في وجهه وسكن فيها. استقبلني في قصره المطل على النيل في ~~جنوب طيبة. جرى حديثه في هدوء وبصوت منخفض، ودون أن ينبض وجهه بأي ~~انفعال. وقد أثر في وقاره وعمره المديد وما يطوي في صدره من تاريخ ~~حافل. بدأ حديثه بقوله: ما أعجب الحياة، إنها سماء تمطر تجارب ~~متناقضة. # وتفكر مستغرقا بفيض من الذكريات ثم قال: التحمت بالأحداث في يوم ~~من أيام الصيف، دعيت إلى مقابلة الملك أمنحتب الثالث والملكة العظمى ~~تيى، ولما مثلت بين يديهما قالت لي الملكة: يا آي، أنت رجل حكيم، ~~تعرف أجمل ما في الدنيا والدين، قررنا أن نعهد إليك بتربية ابنينا ~~تحتمس وأمنحتب ... # فحنيت رأسي الحليق وقلت: سعيد من يحظى بخدمة مولاه ~~ومولاته. # وكان تحتمس في السابعة، وأمنحتب في السادسة. وكانا جد مختلفين ~~لحد التضاد؛ فتحتمس قوي وسيم قصير القامة، وأمنحتب ضعيف البنية، ~~غامق السمرة، طويل القامة، أنثوي القسمات، وذو نظرة رقيقة وغازية ~~معا، تلتصق بالنفس بعمق. وما لبث أن مات الصبي الجميل، وبقي الضعيف ~~الغريب. وهز الموت الصبي الحي هزة عنيفة جدا. بكى طويلا، وكلما ~~خطرت ذكرى بكى من جديد. وقال لي: كان يزور معبد آمون، ويتلقى الرقى ~~والتعاويذ، ولكنه مات ... # وقال لي أيضا: وأنت الحكيم المعلم، فلم لا ترد إليه ~~الحياة؟ # وقلت له: إن الروح تقول للميت: «ألق عنك هذا الحزن أيها الأخ، إنني ~~باقية.» # وجرنا ذلك إلى حديث عن الحياة والموت، وشد ما أدهشني بإدراكه ~~ووجدانه! كان يفوق سنه بأجيال. وساءلت نفسي: أي صبي هذا؟! أجاء معه من ~~المجهول بأقباس من حكمة الغيب؟ وقد أتقن مبادئ القراءة والكتابة ~~والحساب بسرعة مذهلة، حتى قلت مرة للملكة تيى: إن تفوقه ليخيف ~~معلمه. # وكنت أهرع إلى درسه بشغف وشوق وسرور، وأتخيل ما يصدر عن عقله من ~~عجائب إذا ما اعتلى يوما عرش أجداده. سوف يتفوق على والديه رغم ~~عظمتهما. # أجل، كان أمنحتب الثالث ملكا عظيما، بدارا لتأديب العصاة، ~~مقبلا وقت السلم على الطعام والشراب ms14 والنساء في عصر عرف ~~بالرخاء، وقد أنهكه ذلك قبل الأوان فوقع في أسر العلل، وفسدت أسنانه، ~~فكدرت صفو أيامه الأخيرة. أما تيى فكانت من أسرة نوبية كريمة، ~~وشهدت لها الأيام بالقوة والحكمة حتى بزت حتشبسوت نفسها. وبسبب من ~~غرام زوجها بالنساء، ولموت بكرها تحتمس ولعت بالصبي الضعيف المعجزة ~~ولعا خرق المألوف؛ فكانت له الأم والحبيبة والأستاذ. وكانت تحب ~~الحكم أكثر من الحب؛ فضحت بقلبها في سبيل السلطة. وقد اتهمها ~~الكهنة ظلما بأنها المسئول الأول عن انحراف ابنها الديني، ولكن الحق ~~أنها أرادت أن يلم ابنها بديانات آلهة بلاده جميعا، وكانت تحلم بأن ~~يحل آتون محل آلهة الإمبراطورية باعتباره الشمس التي تنفث الحياة في ~~كل مكان، فتؤلف بين رعاياها برابطة الدين القوية، لا بدافع القوة ~~وحدها. كانت ترمي إلى وضع الدين في خدمة السياسة من أجل مصر، ولكن ~~ابنها آمن بالدين دون السياسة بخلاف ما قصدت، وأبت طبيعته أن يجعل ~~الدين في خدمة أي شيء، وأن يجعل كل شيء في خدمة الدين. الأم طرحت ~~سياستها عن وعي وتدبير، ولكن الابن صدق وآمن وكرس حياته لرسالته ~~حتى ضحى بوطنه وإمبراطوريته وعرشه. # وسكت آي قليلا، فحبك وشاحه الأزرق حول صدره وقد بدا وجهه صغيرا ~~مضغوطا تحت شعره المستعار، ثم واصل حديثه: كان فذا منذ صباه ~~كأنما ولد بعقل كاهن ناضج، كان معجزة حتى وجدتني في كثير من ~~الأحايين أناقشه مناقشة الند للند وهو في العاشرة. وكان الحماس ~~يتدفق من منطقه كأنه ينابيع ساخنة، وبرزت في الهيكل الضعيف إرادة ~~قوية لا تتوافق بحال مع ضعفه، فأقنعني ذلك بأن روح الإنسان أقوى من ~~عضلاته المشدودة المدربة آلاف المرات. وهام بالدروس الدينية ~~هياما فاق كل توقع، وأضر بالإعداد اللازم له للجلوس على العرش. ~~ولم يكن يسلم بفكرة دون مناقشة قوية، ولم يخف ارتيابه في كثير من ~~الحقائق والتعاليم الموروثة. وإذا به يقول لي ذات يوم: طيبة! تقولون ~~إنها المدينة المقدسة! إنها وكر التجار الجشعين والفسق والعهر. ~~ومن هم هؤلاء الكهنة الكبار يا معلمي؟ ألا إنهم من ms15 يضلون البسطاء ~~بالخرافات، ويشاركون الفقراء في أرزاقهم المحدودة، ويغوون الفتيات ~~باسم البركة، فجعلوا من معبدهم مرتادا للدعارة والعربدة، عليك اللعنة ~~يا طيبة! # وأقلقني قوله، وتخايلت لعيني أصابع الاتهام وهي تشير إلي بوصفي ~~معلمه، فقلت له: إنهم الأساس المتين الذي يقوم عليه العرش. # فهتف غاضبا: لا كرامة لعرش يقوم على الكذب والفجور. # فقلت كالمحذر: إنهم قوة لا يستهان بها مثل الجيش ... # فهتف ساخرا: وقطاع الطرق أيضا قوة لا يستهان بها. # من بادئ الأمر لم ينشرح صدره لآمون الثاوي في قدس الأقداس، فتطلع ~~إلى آتون الذي يضيء نوره العالمين، وقال في ذلك: آمون إله الكهنة، ~~آتون إله السماء والأرض. # فقلت بحرارة: إنك مطالب بالإخلاص لجميع الآلهة. # فتساءل مقطبا: أليس لنا قلوب نميز بها بين الحق والباطل؟ # فقلت بإغراء: سوف تتوج ذات يوم بين أحضان آمون. # فبسط ذراعيه النحيلتين متسائلا: ولم لا أتوج تحت نور الشمس في ~~الهواء الطلق؟! ~~- آمون هو الذي ساند جدك حتى قيض له النصر. # فتفكر مليا ثم تساءل: لا أدري كيف يعين إله على ذبح ~~مخلوقاته. # فقلت بقلق: له حكمته المضنون بها على البشر. ~~- الشمس لا يفرق نورها بين مخلوق وآخر. # فقلت بإصرار: الحياة ميدان صراع، لا تنس ذلك. # فقال بأسى: يا معلمي لا تحدثني عن الصراع، ألم تشهد الشمس عند ~~شروقها فوق الحقول والنيل؟! ألم تر الشفق عند المغيب؟ ألم تسمع تغريد ~~البلابل، وهديل الحمام؟ ... ألم تقتنص أبدا الفرحة المقدسة الغائبة في ~~أعماق حياتنا؟! # شعرت بأن الزمام يفلت من يدي، وأن الشجرة تنمو على هواها، وأنني ~~أجر إلى مأزق، فأفضيت بمخاوفي إلى الملكة تيى، ولكنها لم تشاركني ~~قلقي، وقالت لي: يا آي، ما زال طفلا بريئا، سوف يخبر الدنيا، وعما ~~قليل سيتلقى تدريبه العسكري. # ودعي الكاهن الصغير إلى الجندية الخاصة ضمن أبناء السادة النبلاء ~~مثل حور محب، ولكنه لم يتناغم معها، أو لم يجد القوة اللازمة لها، ~~فكرهها، وسجل على نفسه فشلا لا يليق بأبناء الملوك. وقال بمرارة: ~~لا أود أن أتعلم مبادئ القتل. # وحزن لذلك أبوه حزنا ms16 شديدا، وقال لي: إن الملك الذي لا يحسن ~~القتال يقع تحت رحمة قواده. # وحدثني الفتى عن مشاحنات نشبت بينه وبين أبيه، ولعله منذ ذلك ~~الوقت ترسبت في أعماقه مشاعر غير طيبة عن أبيه العظيم، وهي التي ~~غالى الكهنة فيما بعد في تفسيرها متهمين إياه بقتل أبيه بعد موته ~~بمحو اسمه من الآثار، والحق أنه لم يمح اسم أبيه إلا لاقترانه بآمون، ~~وآي ذلك أنه أعدم اسمه القديم واتخذ اسما جديدا هو «إخناتون»، ثم ~~بلغ ذروة غربته مقتلعا نفسه من كافة جذوره في ليلة غريبة لم يطلع ~~عليها سواه. تم ذلك في الخلوة التي كان ينتظر فيها الشروق بحديقة القصر ~~المطلة على النيل. وعلمت بما كان عندما لقيته في الحديقة في ~~الصباح. أغلب الظن أننا كنا في الربيع في يوم بريء من الرطوبة ~~والخماسين. # رنا إلي بوجه شاحب وعينين مسحورتين، وقال لي دون أن يرد ~~تحيتي: يا معلمي، قد تجلى الحق! # عجبت لمنظره وسألته عما يعني، فقال: كنت في الخلوة قبيل الشروق، ~~رفيق الليل يودعني والصمت يباركني، وخف وزني؛ فخيل إلي أنني ~~سأمضي مع ذيول الليل، وتجسدت الظلمة كائنا حيا يومئ بالتحية، ~~وأشرق في داخلي نور طيب الرائحة، فرأيت الكائنات كلها مجتمعة في ~~مجال تحيط به العين، تتهامس متبادلة التهاني تهزها سعادة الترحيب، ~~وتستقبل الحقيقة المقبلة، وقلت لنفسي: أخيرا انتصرت على الموت ~~والألم، وانهلت فوقي فيوضات السرور، وتسلل الوجود إلى صدري فملأه ~~برحيقه العذب. وسمعت بكل وضوح صوته وهو يقول لي: «أنا الإله الواحد، ~~لا إله غيري، أنا الحق، اقذف بروحك في رحابي، اعبدني وحدي، وهبني ~~ذاتك فقد وهبتك حبي.» # تبادلنا النظر طويلا. غلبني الصمت، واليأس. قال: ألا تصدقني يا ~~معلمي؟ # فقلت صادقا: إنك لا تكذب أبدا. # فقال بنشوة عجيبة: إذن فعليك أن تصدقني. # فسألته بلهفة: وماذا رأيت؟ ~~- سمعت الصوت في مهرجان الفجر ... # فقلت بعد تردد: هذا يعني أنه لا شيء. # فقال بيقين: هكذا يتراءى الكل إذا تجلى! ~~- لعله آتون. ~~- كلا، لا آتون ولا الشمس، إنه ما وراء ذلك، وما فوق ms17 ذلك، إنه الإله ~~الواحد. # فتساءلت في حيرة: وأين تعبده؟ ~~- في أي مكان، في أي زمان، وسوف يمدني بالقوة والحب ... ولاذ آي ~~بالصمت. وددت أن أسأله إن كان آمن بإله إخناتون، ولكني تذكرت وصية ~~أبي فأمسكت. لقد ارتد في اللحظة الحرجة مع المرتدين، وربما ظل ~~إيمانه سرا إلى الأبد. واستأنف آي حديثه قائلا: لم أجد بدا من ~~إبلاغ الملك والملكة بما كان. وبعد أيام وجدت الأمير ينتظرني في ~~الحديقة التي يفضل البقاء فيها ما أمكنه ذلك، فقال لي معاتبا ~~وباسما: وشيت بي كعادتك يا معلمي. # فقلت بهدوء: إنه واجبي أيها الأمير. # وضحك قائلا: استدعاني أبي لمقابلة مثيرة، فرويت له تجربتي فعبس ~~قائلا: لا مفر من عرضك على الطبيب بنتو. # فقلت له بأدب: إني في تمام الصحة والعافية. # فقال بخشونة: لا أعرف مجنونا اعترف بجنونه أبدا. # ثم بنبرة وعيد: مصر بلد الآلهة، وعلى صاحب العرش أن يعبد جميع آلهة ~~شعبه، وهذا الإله الذي تحدثني عنه لا شيء؛ فهو لا يستحق أن ينضم ~~إلى مجمع الآلهة. # فقلت بهدوء: إنه الإله الوحيد ولا إله غيره. # فصاح بي: هذا كفر وجنون. # فكررت قولي حتى قال بنبرة غاضبة منذرة بالشر: إني آمرك بأن تتخلى ~~عن أفكارك وأن ترجع إلى تراث أجدادك. وانقطعت عن المناقشة احتراما ~~لأمره. وقالت الملكة بنبرة لطيفة: إنك مطالب باحترام واجب مقدس، ~~ولينبض قلبك بما يشاء حتى تثوب إلى الهداية ... # وغادرت مجلسهما حزينا يا معلمي، ولكن أشد إصرارا ... # فقلت له بإخلاص: فرعون نسيج محكم من التقاليد المقدسة، لا تنس ~~هذا أبدا. # وحدثني قلبي بأن مصر ستشهد متاعب لم تخطر ببال، وأن هذه الأسرة ~~المجيدة التي حررت الوطن وأنشأت له إمبراطورية إنما تقف على حافة ~~هاوية. وفي ذلك الوقت، وربما قبل ذلك، فلست متأكدا من ترتيب ~~التواريخ، استدعاني كاهن آمون إلى مقابلة خاصة. قال لي: بيننا عهد ~~قديم يا آي، ما هذا الذي يقال؟ # قلت لك إنني لا أذكر اليوم إن كانت تلك المقابلة قد تمت عقب ما ~~ذاع عن ميل الأمير لآتون أم ms18 عقب إيمانه بالإله الواحد. على أي حال قلت ~~له: الأمير يمر بالفترة الحرجة من العمر، إنه إنسان ممتاز، ومثله ~~قد يدفعه الخيال شرقا وغربا، ولكن سرعان ما يرجعه النضج إلى الحق ~~... # فتساءل بمرارة: وكيف تمرد على حكمتك وأنت خير المعلمين؟ # فقلت مدافعا عن نفسي: ما أصعب ترويض النهر في إبان ~~الفيضان! # فقال بصوت قوي: على أي رجل من صفوة هذه الأرض ألا يغفل لحظة عن ~~مصير العقيدة والوطن والإمبراطورية! # وجعلت أناجي حيرتي ليل نهار منفردا ومع أسرتي المكونة من تي ~~زوجتي ونفرتيتي وموت نجمت ابنتي. وعلى حين اتهمت تي وموت نجمت الأمير ~~بالضلال إذا بنفرتيتي تنجذب إلى آرائه بتلقائية مثيرة، وتهمس في ~~أذني: إنه الحق يا أبي! # ولا بد من كلمة هنا عن نفرتيتي. كانت تقارب إخناتون من سنه، ومثله ~~حازت عقلا يفوق سنها. وقد تلقت البنتان تربية عامة ومنزلية ~~ممتازة، ولكن موت نجمت قنعت بتجويد القراءة والكتابة والحساب وشيء من ~~اللاهوت، إلى الحياكة والتطريز والطهي والرسم والرياضة والرقص الديني، ~~أما نفرتيتي فمع إتقانها ذلك كله تبحرت بدافع شخصي في الدين ~~والأفكار، ثم كان ميلها إلى آتون، والأعجب من ذلك كله أنها آمنت بإله ~~إخناتون، وقالت بصراحة: هذا هو الإله الذي انتشلني من حيرتي ~~المعذبة. # وأثارت بذلك سخط تي مربيتها وأختها غير الشقيقة موت نجمت التي ~~اتهمتها بالضلال. # وحدث في ذلك الوقت أن احتفل الملك بمرور ثلاثين عاما على جلوسه على ~~العرش، فذهبنا إلى القصر واصطحبنا البنتين معنا لأول مرة. وشاء القدر ~~أن تستحوذ نفرتيتي على قلب الأمير، وهكذا تزوجت من إخناتون، ونحن ~~نتابع الأحداث بذهول ولا نصدق ما يقع. واستدعاني كاهن آمون مرة ~~أخرى وقال لي بنبرة ذات مغزى: أصبحت عضوا في الأسرة المالكة يا ~~آي. # وشعرت بأنه يوشك أن يعدني من الخصوم، فدافعت عن الأمير ما وسعني ~~ذلك، وقلت له: إني رجل لم يحد طيلة عمره عن الواجب. # فقال بهدوء: لندع الأيام تكشف لنا عن معدن الرجال! # وطلب مني أن أعد مقابلة بينه وبين نفرتيتي، ففعلت بعد أن ms19 زودت ~~ابنتي بالوصايا. ولكنها، والحق يقال، لم تكن في حاجة إلى وصاياي، ~~فأسمعته كلاما جميلا دون أن تكشف عن سر أو تلتزم بعهد. وأعتقد أن ~~عداء الكهنة لابنتي بدأ مع تلك المقابلة. # وقالت لي نفرتيتي: لم تكن مقابلة يا أبي، ولكنها كانت مبارزة غير ~~معلنة؛ الداهية يدافع عن الإمبراطورية على حين أنه يدافع في الواقع ~~عن نصيب معبده من الأغذية والكساء والخمور. # وتراكمت في الأفق سحب الكآبة، واشتد النزاع بين الملك وولي ~~العهد. وأخيرا استدعاني الملك وقال: أرى أن يقوم الأمير برحلة في ~~أرجاء الإمبراطورية ليخبر بنفسه الحياة والناس ... # فقلت باقتناع: فكرة طيبة يا مولاي! # كان الملك يقضي في ذلك الوقت أسعد أيامه الأخيرة مع عروس في سن ~~أحفاده هي تادوخيبا بنت توشراتا ملك ميتاني، وإن كانت وبالا على صحته! ~~أما إخناتون فقد غادر طيبة مصحوبا ببعثة من صفوة الرجال. كانت رحلة ~~عجيبة حافلة بالإثارة. سعى إلى عبيده في الميادين والحقول ملقيا ~~عليهم مودة وبشاشة أذهلتهم، وكانوا ولا شك يتوقعون أن يمثلوا بين ~~يدي إله جبار ينظر إليهم من عل، أو لا ينظر إليهم على الإطلاق. ودعا ~~إلى لقائه رجال الدين في الولايات المختلفة، ولم ين عن تسفيه عقائدهم ~~وإدانة الطقوس التي تبيح تقديم قرابين من البشر. وبشر بإلهه الواحد؛ ~~القوة الكائنة في قلب الوجود، الخالقة للجميع على سواء، والتي لا تفرق ~~بين رعاتهم ونبلاء مصر. كما دعا إلى الحب والسلام والسرور مؤكدا ~~أن الحب هو قانون الحياة، وأن السلام هو الهدف، وأن السرور هو شكر ~~المخلوق لخالقه. # في كل مكان أثار الذهول والانفعالات الجنونية. وبلغ مني الذعر ~~مداه، فقلت له: أيها الأمير، إنك تقتلع الإمبراطورية من جذورها، ~~وتنثرها في الهواء. # فتساءل ضاحكا: متى يدخل الإيمان قلبك يا معلمي؟ # فقلت بمرارة: لقد هاجمت الديانات التي جرى أجدادي على احترامها، ~~وأعلنت المساواة والحب والسلام، ولن يعني هذا بالنسبة للرعايا إلا فتح ~~باب التمرد وشق عصا الطاعة ... # وتفكر مليا ثم تساءل: لماذا يؤمن العقلاء بالشر بكل هذه ~~القوة؟! # فقلت بتسليم: نحن نؤمن ms20 بالواقع. # فقال باسما: يا معلمي، سأعيش في الحق إلى الأبد ... # وإذا برسول يلحق بنا وينعى إلينا الملك العظيم أمنحتب ~~الثالث. ~~••• # وهنا سرد علي أنباء العودة، والجنازة، وجلوس الأمير على عرش ~~أجداده باسم أمنحتب الرابع، ونفرتيتي شريكته بوصفها الملكة العظمى، ~~وكيف دعاهم الملك الجديد فعرض عليهم دينه، وكيف أعلنوا إيمانهم به، ~~وكيف عين نتيجة لذلك ماي قائدا لجيش الحدود، وحور محب قائدا ~~للحرس، وهو - آي - مستشارا للعرش. وقد ورث الملك حريم أبيه كالمتبع ~~فأحاطه بالرعايا والزهد! كما أمر بتخفيف الضرائب، وبإحلال الحب محل ~~العقاب. وكيف توتر الجو بينه وبين كهنة آمون حتى أمره إلهه ببناء ~~عاصمة جديدة له؟ وقد وقف آي عند إعلان الرجال إيمانهم بالإله الجديد ~~وقفة تأمل، فقال لي: ستسمع عن ذلك أقوالا متضاربة، ولكن لا علم ~~لأحد بأسرار القلوب! # وبدا أنه شعر بأنه مطالب بالكشف عن سر قلبه هو، فقال: عن نفسي آمنت ~~بالإله باعتباره إلها يمكن ضمه إلى بقية الآلهة، وكنت أرى أنه لا ~~يجوز التعرض إلى حرية العقيدة! # وقال معلقا على سياسة الحب إنه قال لمولاه: عندما يأمن الموظف من ~~العقاب سيقع في الفساد، ويسوم الفقراء سوء العذاب. # ولكن الملك قال له بيقين: ما زلت ضعيف الإيمان، وسوف ترى بنفسك ما ~~يفعله الحب، ولن يخذلني إلهي أبدا. ~~••• # وقال آي مواصلا حديثه: انتقلنا إلى أخت آتون العاصمة الجديدة، لم ~~ولن ترى العين أجمل منها، وأقيمت أول صلاة بالمعبد القائم في وسط ~~المدينة، وأمسكت نفرتيتي بالطنبور متألقة الشباب والجمال، وراحت ~~تغني بصوت رخيم: # يا حي يا مبدئ الحياة، # ملأت الأرض كلها بجمالك، # وقد قيدتنا بحبك! # واستقبلنا أياما أعذب من الأحلام، حافلة بالهناء ~~والسرور والحب والرخاء. وتفتحت القلوب حقا للإيمان الجديد، ولكن ~~الملك لم ينس رسالته، وباسم الحب والسلام والسرور خاض أشرس حرب ~~ابتليت بها مصر؛ فما لبث أن أمر بإغلاق المعابد ومصادرة الآلهة ومحو ~~أسمائها من الآثار، حتى اسمه غيره، وقام برحلاته المشهورة في أنحاء ~~البلاد داعيا إلى دينه؛ دين الواحد والحب والسلام والسرور. وعجبت ~~لاستقبال الناس له ms21 في كل مكان بالحماس والحب، وانطبعت صورته وصورة ~~نفرتيتي في القلوب كما لم تنطبع صورة فرعون آخر من الفراعين الذين سمع ~~الناس عنهم ولم يروهم. # ثم أخذت الأحزان تزحف، مترددة أول الأمر، ثم انهلت كالشلال. ~~مدت قبضتها أول ما مدت إلى أحب بناته إلى قلبه، ابنته الثانية، ~~ميكيتاتون الجميلة، فجزع لموتها جزعا شديدا، وبكاها بدموع عزيزة ~~أشد مما بكى أخاه تحتمس في صباه، وجعل يصرخ من قلب مكلوم: لماذا يا ~~إلهي ... لماذا يا إلهي؟! # حتى توهمت أنه على وشك الكفر به. ثم ذاعت أنباء الفساد في دواوين ~~الحكومة والأسواق، وترامى إلى الأسماع أنين الفقراء، ثم جاءتنا أخبار ~~الإمبراطورية بتمرد الولايات وتحرش الأعداء بالحدود، حتى قتل ~~صديقنا توشراتا ملك ميتاني ... والد تادوخيبا. وقدمت نصيحتي قائلا ~~بإلحاح: لا بد من التطهير في الداخل، وإرسال جيش الحدود للدفاع عن ~~الإمبراطورية ... # ولكني وجدته صامدا ثابتا لا يتغير ولا ييئس. قال لي: سلاحي الحب ~~يا آي، اصبر وانتظر ... # كيف أفسر هذه الظاهرة الغريبة؟ # الكهنة يتهمونه بالجنون، وبعض رجاله شاركوهم في هذا الاتهام في ~~الأيام الأخيرة من الأزمة. ولقد حرت في أمره، ولكنني رفضت وما زلت ~~أرفض ذلك الاتهام. لم يكن مجنونا، ولكنه لم يكن أيضا مثل سائر ~~العقلاء، كان شيئا بين هذا وذاك لم أعرف كنهه. وزارتنا الملكة ~~الوالدة تيى، وسر الملك بالزيارة سرورا فاق كل تصور، واستقبلها ~~استقبالا لم تشهد أخت آتون له مثيلا. ونزلت الملكة في قصر شيد لها ~~خصوصا في جنوب أخت آتون، وظل خاليا في انتظارها. واستدعتني فاجتمعت ~~بها وقد ساءني أن ألاحظ تدهور صحتها، وغلبة الكبر عليها أضعاف ما ~~تقتضيه سنها الحقيقية. قالت: جئت لحديث طويل معه، ولكني رأيت أن ~~أمهد لذلك بحديث مع رجاله. # فقلت: لم أقصر في واجبي كمستشار أمين. # فقالت: أصدقك يا آي، ولكن تراثنا لا يمكن أن يضيع هدرا، ولكني ~~أريد أن تصارحني بأمانة، هل تظل وفيا لابني مهما حدث؟ # فقلت بصدق: لا يداخلك شك في ذلك. ~~- هل يمكن أن تفترق عنه عند نقطة معينة ترى ms22 أنها تعفيك من ~~الولاء؟ # فقلت بإخلاص: إني عضو في أسرته؛ فلا أتخلى عنه أبدا. # فقالت متنهدة: شكرا لك يا آي، الحال خطيرة جدا، هل تثق في إخلاص ~~الآخرين بنفس القوة؟! # فتفكرت قليلا ثم قلت: بعضهم على الأقل لا يرتقي إليهم شك. # فقالت بتوجس: يهمني أن أسمع رأيك في حور محب خاصة؟ # فقلت دون تردد: قائد مخلص وزميل صبا الملك ... # فقالت بكآبة: هو من يقلقني يا آي ... ~~- ربما لأنه صاحب القوة، ولكنه لا يقل إخلاصا للملك عن مري ~~رع. # وحصل اللقاء بين تيى وبين الملك، ولكنها فشلت مثلنا، ورجعت إلى طيبة ~~خائبة الرجاء، ثم ساءت حالتها الصحية، وماتت تاركة وراءها تاريخا ~~ملكيا بالغ الروعة. # ومضت الأحوال من سيئ إلى أسوأ حتى نفضت جميع الأقاليم عنها الولاء ~~للملك، وبتنا محاصرين في سجن اسمه أخت آتون نحن وإلهنا الواحد! ~~وشعر كل واحد بدنو الكارثة إلا إخناتون الذي جعل يقول بكل ثقة: لن ~~يخذلني إلهي! # وإذا بكاهن آمون الأكبر يقتحم المدينة معتمدا على قوة لا قبل لنا ~~بها. وكنت أنا أول من تسلل إلى قصر الكاهن. ودهشت وأنا أتفرس في ~~وجهه وهو متنكر في زي تاجر. وقلت له: لماذا تتخفى وأنت تعلم أن ~~الملك لا يؤذي أحدا؟ # فتجاهل قولي وقال لي بلهجة حازمة: دبر لي لقاء مع رءوس الرجال ~~... # واجتمع بنا في حديقة قصر الملكة الراحلة تيى، ولم يخف عنا أنه ~~يتكلم من موقع القوة، وأنه يطالبنا بأن نتعاون معه على حقن الدماء، ~~وتركنا بعد أن ألقى إنذاره الأخير كأنه حية تسعى تحت أرجلنا. وقد ~~حرت في تفسير سلوك الرجل؛ لأنني لم أكن أحسن به الظن. واستشففت ~~وراءه حقيقة لم يبح بها، وهي أنه لم يكن واثقا من ولاء كل جيوش ~~الأقاليم، ومشفقا من مغبة فوضى عسكرية ضارية تنتهي بهزيمة له أو ~~بنصر فادح الثمن. غير أنني اقتنعت بأن الخطر الذي يتهدده لا يقل عن ~~الخطر الذي يتهددنا، وأن مصر هي الخاسرة في الحالين. ولم يتقوض ~~الاجتماع بذهابه. شعرنا جميعا بأننا مطالبون باتخاذ قرار ms23 . # ورغما عني وجدتني أسأله مقاطعا لأول مرة: من شهد ذلك الاجتماع من ~~رجال الملك؟ # فضيق عينيه الباهتتين، ثم قال: لم أعد أتذكر، مضت أعوام ~~وأعوام، ولكن كان بينهم حور محب وناخت، وربما توتو وزير الرسائل أيضا، ~~على أي حال كان حور محب أول المتكلمين، فقال: إني صديقه وقائد ~~حرسه! # وقلب عينيه البنيتين في وجوهنا، وقال بهدوء وتصميم: لا مفر من ~~حسم الموقف لإنقاذ البلاد. # ولم ينبس أحد باعتراض. وطلبنا مقابلة رسمية، وأدينا فروض التحية ~~التقليدية أمام العرش. وكان إخناتون يبتسم، أما نفرتيتي فتبدت جامدة ~~عاطلة من تألقها المألوف. وابتدرنا إخناتون: ليس وراءكم خير! # فقال حور محب: جئنا من أجل خير مصر يا مولاي. # فقال بهدوء ويقين: إني أعمل لخير مصر ولخير العالم كله. # فقال حور محب: البلاد على شفا حرب مهلكة، ولا بد من قرار حازم ~~لتجنيبها ويلات الخراب. # فسأله الملك: هل لديكم اقتراح؟ # فقال: لا مفر من إعلان الحرية للأديان، وإصدار أمر لجيش الحدود ~~بالدفاع عن الإمبراطورية ... # فهز الملك رأسه المتوج بتاج القطرين وقال: هذا يعني الارتداد ~~إلى الكفر، وما يحق لي أن أصدر قرارا إلا تنفيذا لإرادة إلهي ~~الخالق الواحد. # فقال حور محب بجرأة: من حقك يا مولاي أن تحتفظ بعقيدتك، ولكن عليك في ~~تلك الحال أن تتنازل عن العرش ... # فقال بإصرار وعيناه تتوهجان كضوء الشمس: هيهات أن أرتكب خيانة في ~~حق إلهي المعبود بالتخلي عن عرشه! # وحول إخناتون عينيه إلي فشعرت بأنني أغوص في أعماق الجحيم، ~~ولكنني قلت: إنه السبيل الوحيد للدفاع عنك وعن عقيدتك. # فقال الملك بأسى: اذهبوا بسلام. # ولكن حور محب قال: بل نترك لك مهلة للتأمل. # وغادرت قاعة العرش مع من غادرها وأنا أعاني من وخز قلق لعله لم ~~يفارقني حتى اليوم. وفي أيام متقاربة تلاحقت أحداث خطيرة. هجرت ~~نفرتيتي القصر الفرعوني، واعتزلت في قصرها شمالي أخت آتون. وقابلتها ~~مستطلعا، ولكنها قالت لي بإيجاز غامض: لن أغادر قصري حتى ~~الموت. # وأبت أن تضيف كلمة إلى ذلك. أما إخناتون فقد أعلن جلوس أخيه سمنخ ~~رع ms24 شريكا له على عرشه، غير أن كهنة طيبة بايعوا توت عنخ آمون الأخ ~~الثاني ملكا، معلنين بذلك عزلهم لسمنخ رع وإخناتون نفسه. وبدا أنه ~~لا خيار؛ فإما التسليم بالأمر الواقع وإما الحرب. وقابل حور محب الملك ~~فوجده مصرا على موقفه، وقال له: لن أخون إلهي، وهو لن يخذلني، سأصمد ~~في مكاني ولو وحدي ... # فقال له حور محب: نستأذنك يا مولاي في هجر أخت آتون والرجوع إلى ~~طيبة؛ بذلك تعود الوحدة للبلاد ويختفي شبح الخراب، وأتعهد لك بأنه لن ~~يمسك الأذى حيا أو ميتا، وما دفعنا إلى ذلك إلا الرغبة في إنقاذ ~~البلاد وإنقاذك. # فقال إخناتون وهو يشتعل بالإصرار والحماس: افعلوا ما بدا لكم، لن ~~ألومكم على ضعف إيمانكم، ولست في حاجة إلى حماية أحد؛ فإلهي معي، وهو ~~لن يخذلني ... # ونفذنا قرارنا في وجوم وحزن، وسرعان ما اقتدى بنا أهل المدينة ~~حتى خلت من الأحياء، إلا إخناتون في قصره، ونفرتيتي في قصرها، ونفرا ~~من الحراس والعبيد. وما لبث أن غزا المرض الجسد الذي لم يعرف الراحة ~~مذ شب على قدميه، فمات وحيدا، وكان يغمغم وهو يحتضر: # يا خالق الجرثومة في المرأة، # وصانع النطفة في الرجل، # ومعطي الحياة للوليد في بطن أمه، # لا يعرف الوحدة من يذكرك. # وإذا غاب عنك الوعي # صارت الأرض في ظلمة # كأنها موات. # وسكت آي ليسترد ذاته من تيار الذكريات، ثم نظر ~~نحوي بعطف وقال: هذه هي قصة إخناتون الذي يدعى اليوم، إذا ذكر، ~~بالمارق وتصب عليه اللعنات. ولا أستطيع أن أهون من الخسائر التي ~~حاقت بالبلاد بسببه؛ فقد خسرت إمبراطوريتها ومزقتها الخلافات، ولكني ~~أعترف لك بأنني لا أستطيع أيضا أن أنزع من قلبي حبي له وإعجابي به، ~~فلندع الحكم النهائي عليه للميزان أمام عرش أوزوريس حاكم العالم ~~الأبدي. ~~••• # وغادرت قصر الحكيم آي وأنا أعتقد أن الحكم النهائي عليه هو أيضا لن ~~يعرف إلا حين يوضع قلبه فوق كفة الميزان أمام عرش أوزوريس. # | حور محب # متوسط القامة، متين البنيان، ذو مظهر يوحي بالقوة وصدق العزيمة، ~~سليل أسرة كهنوتية ms25 متوسطة، بمنف، غنية بمن عرف من رجالها من ~~أطباء وكهنة وضباط، وكان أبوه أول من ارتفع من الأسرة إلى مستوى ~~السادة لشغله وظيفة «رئيس الجياد» في بلاط أمنحتب الثالث. وهو الرجل ~~الوحيد من رجال إخناتون الذي احتفظ بوظيفته كقائد للحرس في العهد ~~الجديد، ووكل إليه بمهمة القضاء على الفساد في داخل البلاد وإعادة ~~الأمن إلى ربوعها، فأحرز في ذلك نجاحا مرموقا. وقد شهد له كاهن ~~آمون الأكبر، وصدق على ذلك الحكيم آي، بأنه كان بطل اللحظة الحرجة ~~في مأساة العهد البائد. استقبلني في قاعة استقباله المتصلة بحديقة ~~القصر، وأنشأ يحدثني عن «المارق» قائلا: كان رفيق صباي، وصديقي، ~~قبل أن يصير مليكي، ومذ عرفته وحتى الساعة التي ودعته فيها إلى الأبد ~~لم يكن له ما يشغله في هذه الدنيا سوى الدين. # راح يستجمع أفكاره مليا، ثم استمر قائلا: أوليته الاحترام الذي ~~يستحقه مذ عرفته؛ ذلك أني ربيت على تقديس الواجب، وعلى وضع الشيء ~~في موضعه بصرف النظر عن عواطفي الشخصية، وكان هو ولي العهد، وكنت أنا ~~أحد رعاياه، فلزمني احترامه، أما باطني فقد احتقره؛ احتقرته لضعفه ~~والأنوثة الضاربة في وجهه وجسده، ولم أتصور أن أكون له صديقا ~~حقيقيا، غير أن الواقع أنني صرت صديقه بكل معنى الكلمة. وإني ~~لأتساءل: كيف كان ما كان؟! ربما لأنني عجزت عن مقاومة عواطفه الرقيقة ~~المهذبة ذات السحر النافذ. كان ذا مقدرة عجيبة على اصطياد القلوب ~~وأسر النفوس. ألم يهتف له الشعب وهو يدعوه إلى الكفر بآلهة الآباء ~~والأجداد؟! وكنا - هو وأنا - على طرفي نقيض، فلم يمنع ذلك عواطفنا ~~من أن تتجسد في صورة صداقة متينة، صمدت للأعاصير حتى ارتطمت آخر ~~الأمر بصخرة لا تقهر. إني أسمعه وهو يقول لي باسما: حور محب، أيها ~~الوحش المتعطش للدماء، إني أحبك. # وعبثا حاولت أن أعثر على شيء مشترك بيننا. دعوته كثيرا إلى الصيد، ~~وهو رياضتي المفضلة، فكان يقول لي: لا تدنس الحب الذي ينبض به قلب ~~الوجود. # لم يكن يعجب بالزي العسكري، فكان يرمق سروالي القصير وقلنسوتي ~~وسيفي ms26 ، ويتساءل متهكما: أليس عجيبا أن يدرب أناس مهذبون على ~~القتل ليحترفوه بعد ذلك؟ # حتى قلت له مرة: ترى ما رأي جدك العظيم تحتمس الثالث فيما ~~تقول؟ # فهتف: جدي العظيم! أقام عظمته على هرم من جثث المساكين. انظر إلى ~~صورته المنقوشة في جدار المعبد وهو يقدم القرابين من الأسرى إلى ~~آمون، فأي جد عظيم، وأي إله دموي ... # وقلت لنفسي إنه يقبل كصديق رغم شذوذ آرائه، ولكن كيف يجلس بها على ~~العرش؟! لم أستطع أبدا أن أهضمه كفرعون من فراعين مصر، ولم أتحول عن ~~رأيي هذا في أي وقت من الأوقات، ولا أستثني من ذلك أهنأ الأوقات ~~وأحفلها بالسرور، بل لعله تبدى لعيني في تلك الأيام السعيدة أوغل في ~~البعد من هيبة الفراعنة ومجدهم الخالد. وحدث أن انتدبت لتأديب بعض ~~العصاة، في طرف من أطراف الإمبراطورية، قائدا لأول مرة لحملة ~~عسكرية. وهناك أحرزت نصرا حاسما، فرجعت بالغنائم والأسرى، ونلت ~~الجزاء تكريما نبيلا من مولاي أمنحتب الثالث. وهنأني الأمير بسلامة ~~العودة، فدعوته لمشاهدة الأسرى. استعرضهم وهم وقوف شبه عرايا يرسفون ~~في الأغلال. رنا إليهم طويلا، فنظروا نحوه مستعطفين كأنما لمسوا ~~الضعف في أعماق نظرته. وأظلت وجهه غمامة كآبة، وقال لهم برقة: ~~اطمئنوا؛ فلن يمسكم أذى! # وهاج خاطري؛ لأنني كنت على يقين من أنهم سيلقون ألوانا من التأديب ~~حتى يتعودوا على النظام والعمل. ولما رجعنا معا سألني باسما: أأنت ~~فخور بما صنعت يا حور محب؟ # فقلت بصراحة: إني أستحق ذلك أيها الأمير. # فتمتم في غموض: يا لها من مشكلة! # ثم ضحك قائلا في دعابة: ما أنت إلا قاطع طريق يا حور محب! # ذلك كان ولي العهد المرشح للجلوس على العرش. على ذلك فقد شدني ~~إلى صداقته وحبه، وأغراني دائما بمتابعة أفكاره التي لم أتأثر بها ~~قط، كمن يتابع صوتا غريبا لا ينتمي للبشر. وما زلت حتى الساعة ~~أتساءل في حيرة: كيف صادقته، وكيف أحببته؟! وبهذه المناسبة أذكر ~~مناقشة دينية جرت بيننا أيام خلوته بحديقة القصر الملكي. سألني: ~~لماذا تصلي يا حور محب في معبد ms27 آمون؟ # فأخذت للسؤال، خاصة وأنني لم أملك إجابة ترضيه أو ترضيني. ولما ~~وجدني صامتا سألني: هل تؤمن حقا بآمون وما يقال عنه؟ # فتفكرت قليلا ثم قلت: لا كما يؤمن الناس به! # فقال بجدية: إيمان أو لا إيمان، ولا ثالث بينهما. # فقلت بصراحة: لا أهتم بالدين إلا باعتباره من تقاليد مصر ~~الراسخة. # فقال بثقة مثيرة: إنك تعبد ذاتك يا حور محب. # فقلت بتحد: قل إني أعبد مصر. ~~- ألم يساورك إغراء لمعرفة سر الوجود؟ # فقلت بمرارة: إني أعرف كيف أمحق هذا الإغراء. ~~- يا للخسارة! وماذا فعلت من أجل روحك؟ # فقلت متبرما بالمطاردة: إني أقدس الواجب، وقد شيدت لي ~~مقبرة! # فقال متنهدا: أتمنى يوما أن تذوق سرور القرب. # فتساءلت في دهشة: القرب؟! ~~- القرب من خالق الوجود الواحد. # فتساءلت في شيء من الاستهانة: ولم يكون واحدا؟ # فقال بهدوء: إنه أقوى وأجل من أن يوجد شريك له. # ذلك الشاب المهزول الذي يتجنب القصر ويهيم بالحديقة، المولع ~~بالأزهار والغناء والطيور مثل فتاة مهذبة، لم لم يخلق أنثى؟ لقد ~~همت الطبيعة بأن تفعل ذلك، ولكنها عدلت عنه في اللحظة الأخيرة لسوء ~~حظ مصر. # وسكت حور محب وقتا ثم واصل الحديث: وتوكد مصيره بزواجه من ~~نفرتيتي. ظهرت لأول مرة في القصر الفرعوني في الاحتفال بمرور ثلاثين ~~عاما على جلوس الملك على العرش، فبهرت الأعين بجمالها وشخصيتها، ~~واشتركت في الرقص مع بنات السادة، وغنت بصوت رخيم: # أخي ما أحلى الذهاب إلى البحيرة، # والاغتسال على مرأى منك؛ # لترى جمالي في ثوبي الكتاني الرقيق # حينما يبتل ويلتصق بجسدي! # تعال وانظر إلي. # ولا أشك في أن آي وتي زوجته أحسنا تقديم كريمتهما، ~~ومهدا لها الطريق إلى العرش. ولا تنس أن آي كان معلم الأمير ~~ومرشده، فلاحت له، ولا شك، الفرص للتأثير في شخصية ضعيفة متهالكة ~~وإيقاعها في الشرك. على أي حال فازت نفرتيتي في الحفل بإعجاب الأمير ~~وأمه الملكة تيى معا. وسرعان ما زفت نفرتيتي إلى الأمير. وأذكر ~~أن كاهن آمون قال لي في حفل الزفاف: لعل الزواج يصلح ما أفسده تهور ms28 ~~الشباب. # فقلت له ببرود: إنها كما ترى من أصل شعبي، وما كانت تحلم بالعرش، ~~ولن تجازف أبدا بإغضاب زوجها الملك! # وقد ساءلت نفسي: ترى أكانت نفرتيتي ترضى بالأمير زوجا لو لم يكن ~~وليا للعهد؟! الحق أنه لا يمكن أن يكون فارس أحلام أي فتاة ولو كانت ~~فلاحة ساذجة. وقد ازداد الأمير بعد الزواج تحديا للتقاليد. وعلمت ~~متأخرا بعض الوقت بادعاءاته الغريبة عن تجلي إلهه له وسماع صوته، ~~ورأيت المستقبل يتسربل بليل بهيم. وبازدياد التوتر غضب الملك أمنحتب ~~الثالث وأمر بإرساله لزيارة الإمبراطورية. ~~••• # هنا حدثني بإسهاب عن مناقشاته الدينية، واتصاله بالرعايا، وتبشيره ~~بالمساواة والحب والدين الجديد دون إضافة جديدة إلى ما حدثني به ~~الحكيم آي. ~~••• # وقال معلقا على الأحداث: ولأول مرة، ورغم الصداقة والولاء، تمنيت ~~أن أقتله بسيفي قبل أن يجلب علينا الخراب. والحق أني تمنيت قتله دون ~~أن أضمر له أي شعور بالكراهية. ومات أمنحتب الثالث، واستدعي الأمير ~~للجلوس على عرش تحتمس الثالث. وتولى العرش، ودعا الرجال واحدا في ~~إثر واحد ليعرض عليهم دينه. ولما جاء دوري قال لي: لا بد من إعلان ~~الإيمان بالإله الواحد لمن شاء أن يتعاون معي يا حور محب. # وبصراحتي المعهودة قلت له: مولاي، موقفي من الآلهة معروف لديكم، ~~ولكني رجل الواجب وخادم العرش، وإني أعلن إيماني بالإله الواحد إخلاصا ~~لعرشك وخدمة لوطني ... # فقال باسما: حسبي ذلك الآن، لا أحب أن يخلو قصري منك يا حور ~~محب، وسوف تتلقى رحمة الإيمان ذات يوم. # وبدأت حياة جديدة في خدمة ملك جديد وإله جديد، وبإخلاص كامل غريب؛ ~~لأنه استند إلى الإيمان بالواجب وحده دون غيره. ولكن لا مفر من ~~الاعتراف بأن الملك تكشف عن قوى خفية لم أعرفها فيه من قبل. رغم ~~الضعف الجسدي والأنوثة الخلقية، انطلقت منه عزيمة متحدية مثل ألسنة ~~اللهب لا تدري من أي مجهول استعارها، ناضل بها أقوى الرجال وهم ~~الكهنة، وحطم بها التقاليد العريقة الراسخة والسحر والتعاويذ. ~~وتكشفت نفرتيتي عن ملكة كأنما لم تخلق إلا كي تكون ملكة عظمى ~~مثل تيى وحتشبسوت ms29 ، فكانت هي المدبرة لشئون الملك على حين تفرغ هو ~~لرسالته. بيد أنها بدت لي - وللجميع - مؤمنة بالدين الجديد إيمانا ~~فاق للأسف كل تصور. والحق لقد قيل عن هذه المرأة كل ما يمكن أن يقال، ~~وأنا أكره شخصيا ترديد ما يقال عن الأمور الشخصية، ومع ذلك فإن ~~إيمانها يبقى لغزا يطلب حلا. أحيانا لم أشك في صدقها، وأحيانا ~~أخرى ساورتني شكوك. هل تتظاهر بالإيمان محافظة على مركزها الرفيع؟ هل ~~تشجعه عليه لتستأثر وحدها بشئون الأرض والرعايا؟ أكان لأبيها في ذلك ~~دور خفي لعبه بيد ابنته؟ وقد حاول الكهنة أن يبصروها بالعواقب، ~~ولكنها خيبت رجاءهم، فصبوا عليها مقتهم حتى هذه الساعة. إنهم آمنوا ~~بضعف إخناتون، ولم يتصوروا به قدرة على التحدي أو النضال أو ~~الابتكار؛ من أجل ذلك اتهموا أمه تيى بأنها خالقة أفكاره، كما ~~اتهموا نفرتيتي بأنها سر عناده وصلابته، وهي صورة خاطئة. لك أن تدين ~~الجميع، ولكن لا شك أن جميع الخزعبلات قد خرجت من رأس إخناتون نفسه. ~~وبالانتقال إلى العاصمة الجديدة أخت آتون أعلن الملك حربه على جميع ~~الآلهة، وانغمس في التبشير لدينه في جميع الأقاليم. وهادنتنا أيام نصر ~~وسعادة ورخاء حتى خيل إلي أن هذا الشاب المتهافت قد قيض له أن ~~يقوض بنيان الدنيا، وأنه يعيد بناءه من جديد على مثال من صنعه ~~وتخطيطه. تابعت غزواته للأقاليم، واستقبال الجموع له بانبهار. آنست في ~~الجو قوة من نوع جديد تمارس بجدارة مذهلة، ولكنني لم أخل أبدا ~~من شك في العالم الجديد الذي يتخلق فيما يشبه الاكتساح. أيصمد هذا ~~العالم للزمن؟ هل يمكن أن تتوازن الأمور على سنة الحب والسلام ~~والسرور؟! وأين تذهب حقائق الحياة وتجاربها؟ وقالت لي نفرتيتي مرة ~~وهي قارئة للأفكار: إنه ملهم، ولن يخذله إلهه الذي أغدق عليه حبه، ~~وسيكون النصر لنا ... # وانفردت يوما بالوزير ناخت في مجلس صفو وشراب، وكنت وما زلت مؤمنا ~~بمقدرته السياسية، فسألته: أتؤمن حقا بالإله الواحد؛ إله الحب ~~والسلام؟ # فقال بهدوء: نعم، ولكني لست مع مصادرة الآلهة الأخرى. # فقلت بارتياح: حل وسط ms30 ، ألم تشر عليه به؟ ~~- بلى، ولكنه يعتبره كفرا. ~~- ونفرتيتي؟ # فقال بأسف: إنها تتكلم بلغته ... ~~••• # ومضى يحكي لي في إسهاب كيف انقلبت الأمور في الداخل والخارج دون ~~إضافة جديدة لما قاله الكاهن الأكبر لآمون أو الحكيم آي. ~~••• # ثم قال: وعند ذاك نصحته قائلا: «علينا أن نغير من سياستنا.» ولكنه ~~كان يتصدى لأي خطوة توحي بالتراجع، وينتشي بالحماس، فقال لي: يجب ~~المضي في المعركة الإلهية حتى نهايتها، ولن يكون لها إلا نهاية ~~واحدة هي النصر! # وربت على منكبي بعطف، ثم واصل: لا تشارك التعساء إصرارهم على ~~حب التعاسة! # ولما ازدادت الحال سوءا تمنيت مرة أخرى أن أقتله بسيفي وأنقذ ~~البلاد من جنونه، وتمنيت أن أقتله باسم الحب والولاء. وتبين لي أن ~~ما حسبته قوة جبارة تنطلق من أعماق هيكله الضعيف ما هي إلا جنون ~~أهوج يجب حصره وشكمه. وعند ذروة الأزمة زارتنا الملكة الوالدة تيى، ~~واستدعتني إلى لقاء بقصرها جنوب أخت آتون، وقالت لي: سيكون لي حديث ~~طويل مع الملك. # فقلت لها بكل إخلاص: لعلك توفقين فيما فشلنا فيه. # فرمقتني بنظرة كنت خبيرا بعمقها، وسألتني: هل دفعتك الأحداث إلى ~~مصارحته برأي جديد في الموقف؟ # فأجبتها من فوري لسابق علمي بتأويلاتها للتردد الذي قد يسبق ~~الإجابة: اقترحت يا مولاتي تغيير السياسة في الداخل والخارج. # فقالت بارتياح: هذا ما ينتظر من المخلصين أمثالك. ~~- إنه مليكي وصديقي كما تعلمين يا مولاتي ... # فواجهتني بنظرة صريحة وسألتني: هل تعدني يا حور محب بالمحافظة على ~~الولاء له في جميع الظروف والأحوال؟ # فقلت وعقلي يعمل بسرعة فائقة: أعدك بالولاء له مهما تكن الظروف ~~والأحوال. # فقالت بارتياح غير خاف: إنهم يطالبون برأسه، وإنك رجل القوة التي ~~تحافظ عليه، وربما سعوا إلى استقطابك عاجلا أو آجلا. # فكررت وعدي بالصدق والإخلاص. وقد حافظت على عهدي عندما اقتنعت بأن ~~خير وسيلة للدفاع عنه هي التخلي عنه. وفشلت تيى في مسعاها رغم ما ~~عرف عنها من سيطرة كاملة عليه، وغادرت أخت آتون لتموت في حسرة ~~أبدية. وضيق الخناق علينا في مدينة الإله الجديد، وتوكد ms31 لدي أن ~~الإله الجديد عاجز عن الدفاع عن نفسه فضلا عن محبوبه المختار. وذقنا ~~الحرمان، وتهددنا الموت من الشمال والجنوب، ولم يضعف ذلك من ~~مقاومته، بل لعله زاده إصرارا وعنادا، ولم تنطفئ نشوته الدينية، فكان ~~يقول لمحدثه: لن يخذلني إلهي يا ضعيف الإيمان. # وكلما رأيت وجهه المتألق بالنشوة والثقة، أيقنت أكثر وأكثر من ~~جنونه. لم تكن معركة دينية كما تجري في الظاهر، ولكنها كانت فوضى ~~جنونية تحتدم في رأس رجل ولد في هالة من الشذوذ. ثم كانت زيارة كاهن ~~آمون لنا وتوجيه إنذاره الأخير إلينا، وقد قبض على يدي بقوة وقال لي: ~~إنك رجل الواجب والقوة يا حور محب، فأنقذ ضميرك بفعل ما يرجى ~~منك. # والحق أني أكبرت في الرجل ارتفاعه عن التشفي والانتقام، وسعيه ~~إلى تجنيب البلاد ويلات المزيد من الخراب. وطلبنا المقابلة. كانت عسيرة ~~وأليمة وحزينة. كنا ننفض عنا الولاء نحو الرجل الذي لم يكن لشيء سوى ~~الحب الذي صور له جنونه حلما عجيبا أراد لنا أن نشاركه في سعادته ~~الوهمية. واقترحت عليه إعلان حرية الأديان، والدفاع الفوري عن ~~الإمبراطورية. ولما رفض اقترحت عليه أن يتخلى عن العرش ويتفرغ لنشر ~~دينه. وغادرناه ليعيد النظر في الموقف كله، وقد أشرك سمنخ رع في عرشه ~~على حين هجرته نفرتيتي، ولكنه لم يتراجع خطوة عن إصراره. وقررنا ~~التخلي عنه والانضمام إلى الجانب الآخر لتعود الوحدة للوطن، بعد ~~الاتفاق على ألا يتعرض له أحد - ولا لزوجه - بأذى. وأقسمت يمين الولاء ~~للملك الجديد توت عنخ آمون، فأسدل الظلام على أكبر مأساة تقطع لها ~~قلب مصر، فانظر إلى ما صنع الجنون بمجد أرض مجيدة عريقة! # وشملنا صمت الختام، فأخذت أنسق أوراقي تأهبا للذهاب. غير أنني ~~سألته: وكيف تفسر هجر نفرتيتي له؟ # فأجاب دون تردد: لقد أدركت ولا شك أن جنونه جاوز خط الأمان، فهجرت ~~قصره محافظة على حياتها! ~~- ولم لم تهجر المدينة معكم؟ # فقال بازدراء: كانت على يقين من أن الكهنة يعتبرونها الفاعل الأصلي ~~في الجريمة الكبرى! # فسألته وأنا أحييه مودعا: وكيف مات؟ ~~- عجز ms32 ضعفه عن احتمال الهزيمة، واهتز إيمانه ولا شك بتخلي إلهه ~~عنه، فمرض أياما قليلة ثم مات. # فسألته بعد شيء من التردد: كيف تلقيت خبر موته يا سيدي ~~القائد؟ # فأجابني متجهما: لقد قلت كل شيء! # | بك # يعيش المثال بك في جزيرة نيلية على مبعدة ميلين جنوب طيبة، في ~~بيت أنيق صغير يقع في وسط مزرعته الصغيرة، وفي شبه عزلة. ورغم ما ~~يشهد له به من تفوق في فنه إلا أنه لم يدع للمشاركة في بناء ~~الدولة الجديدة لما عرف عنه من ولائه لسيده السابق، بل ولما يتهم ~~به أحيانا من الكفر بالآلهة القديمة. وهو اليوم يشارف الأربعين من ~~عمره، طويل القامة نحيلها مع قوة ونشاط، ذو سمرة داكنة ونظرة ساخنة ~~تغشاها كآبة. تبسم وهو يقرأ رسالة أبي، ثم نظر إلي قائلا: انطفأت ~~روح الجمال بذهابه، وغاض السرور من الألوان والنغم! # وقد عرفته وأنا صبي أتلقى أصول الصنعة في مدرسة أبي «من» المثال ~~الأكبر للملك أمنحتب الثالث؛ فذات يوم زارنا صبي محمولا على محفة، ~~فهمس أبي في أذني: ولي العهد! # رأيت صبيا يماثلني في العمر، نحيلا ضعيفا، ذا نظرة شديدة ~~التأثير، بسيطا بشوشا، مغرما بلغة الأحجار المعجزة. جاء ليشاهد ~~ويتعلم، ويحاور في ألفة محببة سرعان ما تنسيك أنك تحادث ابنا ~~من سلالة الآلهة. واظب على زيارتنا في أيام معينة، فنشأت بينه ~~وبيني صداقة، باركها أبي فخورا، وسعدت بها أنا غاية السعادة. وجعل ~~أبي يقول لي عنه: إنه رجل ناضج ذو سن صغيرة يا بك! # أجل كان كذلك، حتى كاهن آمون الأكبر اعترف لي بنضجه المبكر، وإن ~~فسره على هواه بأنه قوة شريرة حلت فيه. كلا يا سيدي، القوة ~~الشريرة معششة في قلوب الكهنة، أما سيدي ومولاي فلم يعرف الشر قلبه، ~~وربما كان ذلك سر مأساته. ولما تقدم به العمر سنوات أخذ يناقش أبي ~~وهو مكب على صنع تمثال لأمنحتب الثالث. قال له وهو يتابع العمل بين ~~أبي ومعاونيه: لكم تقاليد يا معلم تخنق الأنفاس ... # فقال أبي بفخار: بالتقاليد نقهر الزمن أيها الأمير ms33 . # فهتف مولاي بنشوة: مع مولد كل شمس يولد جمال جديد ... # واقترب مني وهمس: يا بك، لن يكون هذا تمثالا أمينا لأبي، أين ~~الحقيقة؟! # الحقيقة التي عاش من أجلها ومات في سبيلها. منذ وقت مبكر انثالت ~~على روحه إلهامات الغيب، كأنما خرجت معه إلى الوجود ساعة وجد دفقة من ~~أنوارها. # ويوما ما قال لي: إني أحبك يا بك، أتقن درسك لتكون رجلي في حقل ~~الإبداع. # الحق يا سيدي أنني مدين لمولاي وسيدي بكل شيء؛ بالدين والفن معا. ~~إنه الذي وجه مداركي لدين آتون، وفتح قلبي بعد ذلك للإله الخالق ~~الواحد الذي تجلى له صوته بالإيمان والحب: # تضيء الأرض بنورك، # فتتجلى عنها الظلمات، # يا خالق الأرض والسماء، # والإنسان والأنعام. # وغمرني السلام، فقلت له ونحن وحيدان بين المحجر ~~والمدرسة: أشهد يا أميري أنني مؤمن بإلهك ... # فقال بحبور: إنك ثاني المؤمنين بعد مري رع، ولكن ما أكثر الأعداء يا ~~بك! # وعلمت فيما بعد أن نفرتيتي آمنت معنا في وقت واحد وهي في قصر ~~أبيها آي. وكان يحدثني في أوقات متباعدة عما يلقى من عناء بسبب ~~رسالته، فكنت ألم بشذرات من الأحداث رغم عزلتي في المحجر خارج ~~طيبة. وهداني إلى الفن الحقيقي أيضا؛ فإن كان أبي هو الذي علمني ~~الأصول فمولاي هو الذي وهبني الروح. لقد وهب ذاته للحقيقة في الوجود ~~والفن؛ من أجل ذلك أنكره الرجال الذين يعيشون للدنيا ولا يحسنون إلا ~~لغتها المبتذلة، ويقبلون معها ويدبرون معها، ويهرعون إلى أي مائدة ~~مثل الصقور والغربان. مولاي نوع آخر، اسمع إليه وهو يناجي إلهه ~~قائلا: يا خالق الحي والجماد، خص بصري بنورك، وصدري بسرورك، وقلبي ~~بنبضك الكوني العذب. # وأصغ إليه وهو يقول لي: احذر تعاليم الفن التي يريد أن يكبلنا بها ~~الأموات، اجعل حجرك مثوى للحقيقة! # ويقول لي أيضا: لقد خلق الإله الأشياء فلا تعبث بها، انقلها بأمانة، ~~أبرزها بتقوى، لا تسلط عليها الخوف أو الشهوة أو الأماني الكاذبة، ~~اعكس كل ما بي من نقص في الوجه والجسد ليتجلى جمالك في ~~الحقيقة! # ذلك هو مولاي ms34 وأستاذي الذي لا يعيد نغمة قديمة، الذي يبهر بالجديد ~~الحي، محطم الأوثان، مقتلع التقاليد البالية من جذورها، السابح في ~~بحر المجهول، المنغمس في نشوة الحقيقة. ويوم اعتلى العرش أعلنت إيماني ~~مرة أخرى بين يديه، وتقلدت وظيفة «المثال الأكبر للملك». ويوم أمره ~~الإله بالهجرة إلى المدينة الجديدة، ذهبت على رأس ثمانين ألفا من ~~العمال وأهل الصنعة لنشيد أجمل مدينة عرفتها الأرض؛ مدينة النور ~~والإيمان، أخت آتون، ذات الشوارع العريضة، والقصور السامقة، والحدائق ~~الغناء، والبحيرات المترعة، آية آيات الفن والجمال التي انقض ~~الحقد عليها فوقعت فريسة الكهنة والزمن. # وسكت مرغما ليجتر حزنه المقيم على رائعة حياته التي تتهاوى ساعة ~~بعد أخرى، وتتفتت لتضيع في زحمة تراب الأرض. واحترمت سكوته حتى خرج ~~منه قائلا: وكان لمولاي إنجازه في الفن أيضا فأبدع شعرا ورسما، ~~وجرب أصابعه الطويلة الرشيقة في مناجاة الحجر. وإليك سرا لا يعرفه ~~إلا الأقلون؛ فقد نحت لنفرتيتي تمثالا نصفيا آية في الحقيقة ~~والجمال، لعله يوجد الآن في القصر المهجور أو في قصر نفرتيتي، إن لم ~~تكن انتقمت منه يد التخريب. وعندما هجرته الملكة بغتة مخلفة في ~~قلبه طعنة لا تندمل، طمس عين التمثال اليسرى، معربا عن خيبة أمله ~~مع الإبقاء على بقية التمثال رمزا لحب خالد، وإيمان راسخ لم يتزعزع ~~إلا في لحظة يأس أخيرة. لقد كانا معا الرمز الحي للإله الذي هو أب وأم ~~معا، وكان اتحادهما عن حب جليل ثبت أمام عواصف الزمن والأحداث، فكيف ~~دهمتنا بهجر الرجل في اللحظة الأخيرة؟! لم لم تبق إلى جانبه حتى ~~النهاية؟ لقد اتهمها أعداؤها بأنها هربت من السفينة الغارقة لتجد ~~مكانا مناسبا في الدولة الجديدة، ولكنها لم تخطب مودة أحد، ولزمت ~~قصرها بمحض مشيئتها قبل أن يتحول إلى سجن. كلا، لا تنتمي مولاتي إلى ~~الانتهازيين، ولكني أعتقد أن إيمانها اهتز لموقف الإله اللامبالي من ~~الأحداث، فهجرت العرش والعقيدة في ساعة يأس سوداء. أما مولاي فلم ~~يتزحزح عن إصراره قيد حبة رمل. كيف لا وهو الذي تجلى الإله لروحه، ~~وأسمعه صوته، ودعاه بابنه ms35 الحبيب؟! لم يعد وجدانه يتسع لسماع صوت ~~آخر، ولم يعد يكترث لرأي أو نصيحة كما ينبغي لمنغمس في الحقيقة. وهو ~~لم ينهزم، ولكننا نحن الذين انهزمنا؛ فحتى أنا خامرتني شكوك، خاصة بعد ~~مطالبته بالتنازل عن العرش، وأكثر عندما قرر الجميع التخلي عنه، ~~وجدته واقفا في خلوته يرقب ما يحدث بعينين طافحتين بالهدوء والصمت. ~~ولما رآني قال: سوف تذهب معهم يا بك. # فقلت بغضب: لم يجرؤ أحد على مخاطبتي في ذلك يا مولاي. # فقال باسما: ولكنك ستذهب يا بك. # فقلت بحماس: سأبقى إلى جانب مولاي إلى الأبد. # فقال برقة: تذهب مختارا أو مكرها ... # ولذت بالصمت، فخامرني الشك من جديد، فسألته: مولاي، أيمكن أن ينتصر ~~الشر؟ # فرأيته يغيب ثم يرجع ليقول لي: الخير لا ينهزم، والشر لا ينتصر، ~~ولكننا لا نشهد من الزمان إلا اللحظة العابرة، والعجز والموت يحولان ~~بيننا وبين رؤية الحقيقة. # وراح يترنم بصوت عذب: # إنك في قلبي، # وليس هناك من يعرفك غير ابنك؛ # فأنت الذي علمته، # والأرض في قبضة يدك. # وكما أنه لم يتخل عن إيمانه لحظة فلم يفرط أبدا ~~في ناموسه الأسمى وهو الحب؛ فحتى في تلك الساعة التي رأى فيها الهرم ~~الذي شيده يتهاوى حجرا في إثر حجر، ورجاله ينضمون إلى أعدائه، ~~وزوجته المحبوبة تهجره دون كلمة وداع، حتى في تلك الساعة المنحوسة لم ~~يعرف قلبه الكراهية أو الحقد، ذلك الرجل الذي ترفع حتى عن العقاب ~~المشروع الذي هام بالإنسان والحيوان والجماد. انظر يا سيدي، لقد تولى ~~الملك في عصر الرخاء، دانت له إمبراطورية مترامية وشعب محب ~~مطيع، ولو شاء أن ينعم بالسعادة والجلال والنساء والراحة لما عزت ~~عليه، ولكنه أعرض عن ذلك كله، واهبا ذاته للحقيقة، متحديا قوى الشر ~~والأنانية والطمع، فضحى بكل شيء وهو يبتسم. وقد سألته يوما بعد أن ~~ذرت قرون الشر والهمجية: مولاي، لم لا تلجأ إلى القوة دفاعا عن الحب ~~والسلام؟ # فقال لي باسما: لا يتردد المجرمون عن انتحال الأعذار لإشباع الرغبة ~~الآثمة في البطش وسفك الدماء، ولست منهم يا بك. # ولن ms36 أنسى عطفه على شخصي حينما آنس مني ميلا إلى «موت نجمت» أخت ~~زوجته، فسعى إلى تزويجي منها، وكيف واساني عندما أبت الزواج مني ~~قائلا: إنها مثل الحدأة تنتظر فرصتها! # واستفسرت عما يعنيه قوله، ولكنه لم يزد. وقد صممت على البقاء ~~بجانبه رغم فزع المدينة كلها للهجرة، ووجدت رفيقا مصمما في كاهن ~~الإله الواحد مري رع، ولكن الحكيم آي قابلني وقال لي: إننا نهاجر ~~لصد هجوم لا قبل لنا به دفاعا عن حياته، ولو جاز لإنسان أن يبقى ~~إلى جانبه لكنت ذلك الإنسان؛ فإني حموه ومعلمه! # فقلت: أيها الحكيم، إن بقائي لن يغير من الأمر شيئا. # فقال: ينص الاتفاق بيننا وبين الكهنة على ألا يمس الملك بأذى ~~تحت شرط ألا يبقى أحد من أتباعه في المدينة سوى نفر من الخدم. # هكذا اضطررت إلى الانضمام إلى القافلة وقلبي يتمزق، وما زال يتمزق ~~حتى الساعة. وما زال الشك ينخر في إيماني رغم قول مولاي الحكيم، ~~فأحيانا أصلي للإله وأحيانا أضرب عن الصلاة. ولما بلغني نبأ ~~وفاته تجددت أحزاني، وبكيت حتى صفيت ماء عيني. وقد حدثني قلبي ~~بأنه لم يمت، ولكنهم قتلوه بالسحر أو بوسيلة غادرة. وها أنا أعيش بلا ~~هدف أو سرور في انتظار الموت مثل مدينتي الرائعة الواقعة تحت رحمة ~~الكهنة والزمن. # | تادوخيبا # هي في الأصل ابنة توشراتا ملك ميتاني أصدق صديق للعرش المصري. تزوج ~~منها أمنحتب الثالث في أيامه الأخيرة، وهو في الستين وهي في الخامسة ~~عشرة، ثم ورثها إخناتون ضمن حريم أبيه عند اعتلائه العرش. وهي تعيش ~~اليوم في قصر بشمال طيبة مع ثلاثمائة من العبيد. وقد استقبلتني بناء ~~على توصية من حور محب. في الحلقة الرابعة ذات جمال مثير وكبرياء ~~وعظمة، ولقيتها في حجرة فاخرة وهي تجلس على كرسي من الأبنوس المطعم ~~بالذهب. شجعتني بابتسامة وراحت تروي قصتها قائلة: عاشرت الملك ~~أمنحتب الثالث فترة قصيرة، في جو مشحون بالغيرة والحقد. وعجبت ~~للملكة العظمى تيى، كيف تبوأت مركزها الرفيع، على حين يوجد عشرات ~~مثلها ممن يقمن بالخدمة في حريم أبي ms37 الملك العظيم توشراتا. وعجبت ~~أكثر لمنظر ولي العهد الذي كنت أراه في الحديقة، أي مخلوق هزيل قبيح ~~يثير الاحتقار أكثر مما يثير العطف. وساءت صحة الملك الأب، فاتهمني ~~الحاقدون بأنني المسئولة عن ذلك، والحق أني قرأت النهاية القريبة في ~~صفحة وجهه المتغضن منذ الليلة الأولى، ورحت أفكر؛ هل يرثني قريبا ~~ذاك الصبي الحقير؟! وقلت لنفسي إن الحياة مع أبيه العجوز أفضل؛ فهو ~~عظيم ومرح وذو حيوية تناقض سنه وصحته. وكثيرا ما كان الحديث يدور ~~حول ولي العهد في الحريم، فنتندر بولعه بالفنون النسائية كالرسم ~~والغناء، وعدم لياقته الواضحة للعرش، وزهده المريب في النساء. ووافتنا ~~أخباره عن هوسه الديني وما يحدثه ذلك من متاعب لوالديه، وما أثاره ~~بين الكهنة من قلق ومخاوف. وكانت الأخبار تطوف بنا دون أن تنغرز في ~~وجداننا؛ فهموم النساء اليومية تغطي على شئون الدولة، إلا موت الملك ~~الذي هز الأعماق، وفرض علينا طقوسا لا طاقة لنا بها. واعتلى المخلوق ~~الحقير العرش هو ونفرتيتي التي تزوجها في حياة أبيه، وآل إليه حريم ~~أبيه. وأسبغ علينا رعايته كأننا حيوانات مستأنسة، ولكنه لم يقترب منا ~~حتى شاع بين النساء الآتيات من شتى الأمم الانحلال والشذوذ. وتساءلت ~~امرأة: لماذا لا يهتم بنا ويكف عن معاركه الدينية الوبيلة؟ # فأجابتها أخرى: لو كان يستطيع ما شغل نفسه بذاك الهراء ... # ومع ذلك فقد دبت الغيرة في قلب نفرتيتي، فقررت أن تزور الحريم ~~للتحية والتعارف. وخمنت كل امرأة الباعث الحقيقي وراء الزيارة، وهو ~~أن تراني أنا عن قرب؛ وذلك لما ذاع في القصر عن جمالي وشبابي. كنت ~~الوحيدة التي تماثلها في العمر، وتنافسها في الجمال، وتتفوق عليها في ~~الأصل؛ إذ إنني كريمة ملك على حين أنها ابنة رجل من الشعب يدعى آي، ~~كان أول من أعلن إيمانه بالدين الجديد أمام الملك، وأول من بادر إلى ~~الانضمام إلى أعدائه عندما آذنت شمسه بالغروب. جاءتنا الملكة الجديدة ~~بين صفين من الجواري، وحيتنا امرأة امرأة تبعا لأقدميتنا في ~~الحريم، وعندما جاء دوري - وكان الأخير - ثقبتني بنظرة مستطلعة، ~~فمثلت ms38 أمامها في أدب وتحد معا، حتى تجلى الركود في ماء وجهها؛ من ~~أجل ذلك حنقت على الملكة الوالدة تيى عندما نبهت ابنها الملك الهزيل ~~إلى «واجبه» نحو حريمه، وخاصة تادوخيبا ابنة الملك الصديق ~~توشراتا. # لم تغفر لها تدخلها، واشتعلت غضبا حينما أذعن الملك لإرادة أمه ~~المحبوبة فقرر زيارتي. وكما تقضي التقاليد انتظرته في حجرتي فوق ~~سريري المطعم بالذهب، عارية تماما، غير مخفية حسنا من محاسني. ~~وأقبل شبه عار إلا من وزرة قصيرة تطوق وسطه، فجلس على طرف السرير ~~باسما في رقة مجللا بهدوء غير طبيعي، وهمس متسائلا: أيسعدك ~~أن تنجبي لي وليدا؟ # فقلت وأنا أغالب تقززي: إنه الواجب يا مولاي! # فحارت في عينيه نظرة بائسة وهمس: إني أبحث عن الحب؛ فهو واجبي ~~الأول والأخير. # فسألته بجرأة: وهل ترغب في عن حب يا مولاي؟ # فربت ظهر يدي بعطف وقال: لا عليك! # ولثم جبيني ثم غادر الغرفة كما جاء. ولم أبح بسر الليلة لأحد، ~~فظن النساء أن نفرتيتي قد خسرت نصف قلب الملك على الأقل. وكرت ~~الأيام فلفحتنا نيران الأفئدة المضطرمة في الخارج حتى صدر القرار ~~ببناء مدينة جديدة. وبعد سنوات انتقلنا إلى أخت آتون، وسعد جميع من ~~حولنا، ونبذنا في جناح لممارسة حياة غير محتملة مهينة، دافعة للشذوذ، ~~ولما عرف أن الملك الأبله يعالج الخطايا بالحب لا العقاب، انتشر الفسق ~~بين الجنود والنساء، وأهدرت جميع القيم. وراح الملك ينشر دينه الجديد ~~في الأقاليم، واستبقت النساء إلى الصلاة للإله الواحد بغير إيمان ~~حقيقي، حتى خيل إلي أنه دين بلا مؤمنين، وأنه كون أمة من ~~المنافقين والطموحين إلى المناصب والجاه والمال. ولم أتصور أن يكون ~~لهذا الكون الكبير إله واحد! إن كل مدينة في حاجة إلى إله يعنى ~~بشئونها، وكل نشاط إنساني في حاجة إلى إله متمرس فيه. وكيف تقوم ~~المعاملة بين الناس على الحب؟ إنه هذيان طفل لم تحسن تربيته، وأفسده ~~ولع أمه به. وكان يلقي على الجموع شعره، ثم تترنم زوجته بإنشادها، ~~فحل محل العرش المعبود فرقة جوالة من الشعراء والمطربين ms39 ، ~~وتلاشت هيبة الفراعنة. وكان لا بد أن يقع ما وقع، فجاءت الأحزان مثل ~~ليل طويل لا يؤذن بفجر، وتتابعت المصائب في داخل البلاد كما في ~~الإمبراطورية، وصمد أبي الشجاع المخلص وحده وهو يبعث الرسل في ~~طلب النجدة حتى سقط مضرجا بدمه في الميدان دفاعا عن ملك أبله. ~~وأحسن أناس الظن به فحسبوه شاعرا نبيلا أخطأ القدر بإجلاسه فوق ~~العرش. أما الحقيقة فهي أنه كان مخلوقا غريبا، لا هو ذكر ولا هو ~~أنثى، يؤرقه الشعور بالنقص والهوان، فجر الناس إلى الهوان، وأعلن ~~شعار الحب، ولكنه أشعل في القلوب البغضاء والحقد والفساد، فمزق وطنه ~~وضيع إمبراطوريته. وجارته في جنونه المرأة الداهية نفرتيتي لتستأثر ~~بالسلطة، ولتشبع غريزتها الفاجرة بين أحضان الرجال. وقد أقنعت الجميع ~~بأنها وزوجها يشكلان أجمل صورة للحب والوفاء، كانا يتبادلان القبل ~~أمام الجموع في شوارع أخت آتون وفي لقاءات الأقاليم. والحق الذي يؤمن ~~به نساء القصر كافة أنه لم تقم بينهما علاقة زوجية على الإطلاق، وما ~~كان بوسعه أن يقيمها، ومارست حبها متعدد النزوات مع المثال بك ~~والقائد حور محب والقائد ماي وغيرهم، ومنهم أنجبت بناتها الست، بل قد ~~تهامس بعض الجواري بأنه لم يمارس علاقة جنسية إلا مع أمه الملكة تيى! ~~... # ولاذت بالصمت وهي تلاحظ ما ارتسم في وجهي من آي الذهول، ثم واصلت: ~~وعرف بيننا ذلك كحقيقة لا شك فيها، وعرف أيضا أنه أنجب منها ~~بنتا، إنه لم يستطع الجنس مع غيرها، وشهدت أكثر من جارية بأنها رأت ~~الفعل رؤية العين، ولم يغب ذلك عن نفرتيتي، وبسببه تبادلت المرأتان ~~كراهية مريرة على مدى العمر. المشكلة أن كثيرين لا يتصورون أن الرجل ~~الذي زلزل الدنيا يمكن أن يتمخض عن كائن هزيل تافه لا وزن له، ~~لكنها الحقيقة التي يجب أن تعرف وأن تسجل. ولولا أنه كان الوريث ~~لأعظم أسرة في التاريخ لمضى فردا حقيرا في أزقة طيبة يتدفق ريق ~~العته من فيه، وتعبث به الصبيان، ولا غرابة أن يستطيع معتوه - إذا ~~جلس على العرش - أن يخرب إمبراطورية! ولولا أن ms40 نفرتيتي راقت في ~~عينيه لما كانت إلا عاهرة من عاهرات طيبة المحترفات. # وقبيل النهاية بقليل زارت الملكة الأم أخت آتون لإنقاذ السفينة ~~الموشكة على الغرق، ولكن النقاش احتد بينها وبين نفرتيتي، ولم ~~تتورع الملكة الشابة عن اتهام العجوز بأنها متواطئة مع أعداء ~~العرش، ولكن إخناتون حزن لذلك الاتهام، ودافع عن أمه وعشيقته دفاعا ~~حارا، فغضبت نفرتيتي وأسرتها له في أعماقها، وانتقمت في اللحظة ~~الحرجة، فهجرته فجأة قبل أن يقرر رجاله التخلي عنه، وحاولت ~~استرضاء الكهنة لتجد لها موضعا في الدولة الجديدة، وربما طمحت أن تكون ~~زوجة لتوت عنخ آمون، ولكنهم وطئوا مسعاها بالنعال، ولولا نفوذ ~~عشيقها القديم حور محب لمزقوها إربا. # صمتت تادوخيبا وهي تبتسم بازدراء، ثم ختمت حديثها قائلة: هذه هي قصة ~~المعتوه وديانته الخرقاء! # | توتو # لم أكفر بإلهي آمون قط، ولم أنضم إلى قافلة المنافقين ~~والانتهازيين، ولكنني خدمت المارق بالاتفاق مع كاهن آمون الأكبر لأكون ~~عينه اليقظة في القصر، ويده الضاربة عند الضرورة. # هكذا بادرني توتو وزير الرسائل في عهد إخناتون دافعا عن نفسه تهمة ~~النفاق التي تحلق فوق رجال إخناتون. وقد قابلته في مقصورته بالمعبد ~~حيث يشغل وظيفة الكاهن المرتل في عهد توت عنخ آمون كما شغلها في عهد ~~أمنحتب الثالث. وهو رجل دين ريان الوجه، جاحظ العينين، عنيف ~~الأعصاب. ودون تردد راح يعطيني تصوره عن المأساة. قال: امتازت هذه ~~الأسرة العريقة بملوكها العظام، فلم يتسلل إليها الخور إلا حين اختار ~~أمنحتب الثالث شريكته في العرش من أسرة شعبية، فاستعارت له ذلك الوريث ~~الأرعن المخبول. وقد اتبع الملوك العظام معنا - نحن كهنة آمون - ~~سياسة جديدة. عرفوا لآمون قدره وفضله، وآمنوا به كبيرا لجميع الآلهة، ~~وفي الوقت نفسه أولوا كهنة الآلهة الأخرى رعاياتهم؛ ليضمنوا إخلاص ~~الجميع، وليقيموا بيننا وبين بقية الكهنة توازنا يضاعف من قوة ~~العرش واستقلاله. ولم تصادف تلك السياسة هوى في نفوسنا، ولكنها لم ~~تبلغ بنا حد الاستياء أو الاعتراض، ولم تنل من سمو مركزنا. ولما ~~ولي العرش المارق وجد الطريق أمامه واضحا، وكان من الممكن ms41 أن يسير فيه ~~بسلام ملتزما بمنهج آبائه وأجداده، ولكن الخنفساء توهمت أنها أسد ~~فكانت الكارثة. لم يكن كأحد من سابقيه في القوة أو الحكمة، وكان ~~واعيا بضعفه وقبحه وأنوثته، ولكنه أوتي من المكر والخبث ما لا يتاح ~~إلا لمن أذله الضعف وأحرقه الحقد، فقرر أن يتخلص من جميع الكهنة ~~ليخلو له وجه الملك وحده، ثم ينصب نفسه إلها يستأثر بالعبادة دون ~~شريك إلا إلها وهميا يتخذه قناعا لطموحه. ومضت تبلغنا أنباء عن ~~معجزات الصبي الذي تفوق قواه سنه الصغير، حتى عرفنا حكاية الإله ~~الجديد الذي تجلى له ودعاه إلى الكفر بجميع الآلهة. وقلت يومها ~~للكاهن الأكبر: إنها مؤامرة، ويجب أن تقتل في مهدها. # وبدا أنه لا يسلم بأنها مؤامرة، فقلت: إني أتهم الملكة تيى ~~والحكيم آي، أما الغلام فلا مسئولية عليه. # فقال الكاهن الأكبر: لا أعفي الملكة من جانب من المسئولية، ولكنها ~~مسئولية الخطأ في التقدير، أما آي فقد توكد لي أنه لا يقل عنا ~~انزعاجا ... # ولم يسعني إلا تصديقه؛ فهو معصوم من الخطأ، فقلت: إذن فنحن حيال ~~كائن قد حلت فيه روح ست إله الشر، فيجب اغتياله فورا. # فقال الكاهن: الأمر لم يفلت بعد من يدي الملك والملكة ... # وآمنت بأننا سندفع ثمن ترددنا غاليا. وجعلت أدعو إلهي ~~مرددا: # يا آمون أنت سيد الصامتين، # الذي يأتي على صوت الفقير. # عندما ناديتك في محنتي # جئت لتخلصني. # يا آمون يا سيد طيبة إنك أنت # الذي تخلص من في العالم السفلي. # إذا ناداك إنسان # فإنك أنت الذي تحضر من بعيد. # ومضى يسرد لي الحوادث التاريخية كما سمعتها من قبل؛ ~~رحلة الأمير في الإمبراطورية، عودته، اعتلاؤه العرش. ~~••• # وهنا قال معلقا: أعلن الرجال إيمانهم بدينه بين يديه ليتبوءوا ~~مراكزهم في الدولة الجديدة. لقد سقط الجميع بلا كرامة، فأتاحوا للمكر ~~الخبيث أن ينفث سمه ويهلك الأرض، ولا عذر لهم عن خيانتهم؛ فهم ~~مسئولون جميعا عما حل بنا من خراب. قلت للكاهن الأكبر: لا جريمة بلا ~~عقاب، يجب اجتياح أخت آتون وقتل المارق والمارقة وآي وحور محب ms42 وناخت ~~وبك ... # فقال: الوطن لا يحتمل مزيدا من الخراب. # فقلت بإصرار: لا بد من دم لنحظى برضا آمون. # فقال: إني أدري بما يرضي إلهي. # فصمت وباطني يغلي بالحنق؛ فإني أومن بأن الجريمة التي تفلت من ~~العقاب تكرس الإثم بين الناس، وتزعزع الثقة في العدالة الإلهية، ~~وتمهد لارتكاب المزيد من الجرائم. وشد ما يسوءني أن أرى أحدهم وهو ~~ينعم بعزلة آمنة، أو يعمل بين الشرفاء كأنه أحدهم، كيف نوفر ~~الأمان لمن شارك في إلحاق الخراب بنا؟! ~~••• # وواصل سرده للأحداث؛ بناء أخت آتون، الانتقال إلى المدينة الجديدة، ~~الانغماس في نشر الدعوة. ~~••• # قال: بت قريبا منه، أعمل في رحابه، وأتلقى كالآخرين هذيانه، ~~فعرفته على حقيقته أكثر من ذي قبل. كان يمكن أن يكون شاعرا أو ~~مطربا، ولكنه جلس على عرش الفراعنة، فكانت الكارثة. قرر منذ البدء ~~أن يتجاوز ضعفه المهين بمكر ودهاء، وأن يستأثر بالسيادة. أراد أن يقول ~~لتحتمس الثالث: «رغم قوتك ومهارتك العسكرية فإنني الأقوى.» لم يكن ~~ملهما كما اعتقد البعض، ولا مجنونا كما ظن البعض الآخر، ولكنه حظي ~~بأكبر قدر من مكر الضعفاء الخبثاء، فأجاد تمثيل دوره. تخيل أنه ~~يستطيع أن يخلق الدنيا على هواه، فعاش في دنيا من خلقه وصنعه لا رابطة ~~تربطها بالواقع، دنيا خلق لها قوانينها وتقاليدها وأناسها، ونصب نفسه ~~إلها عليها معتمدا على سحر العرش وسيطرته على النفوس؛ من أجل ذلك ~~تلاشى سحره لدى أول صدام حقيقي مع الواقع، واجتاحه الفساد والتمرد ~~والعدو وفر عنه الجبناء. وكثر الحديث عن ساعات وحيه وما تثمر من ~~خوارق الأفعال والأقوال. وقد شهدت بعضها وأنا أعرض عليه الرسائل في ~~خلوته. كانت تتلبسه حال من الانفعال المفتعل، فيخرج من حافة الوعي ~~غائصا في المجهول، ويتبادل كلمات غامضة مع أطراف غير مرئية، ثم ~~يعود رويدا إلى وعيه فيحدثنا عن إلهه الذي لن يخذله أبدا. وكنت ~~أختلس نظرات من وجوه الدهاة من أمثال آي وحور محب وناخت، وأتساءل: هل ~~حقا يصدقون المهزلة؟ ... هل حقا جاز عليهم خبثه الأنثوي؟! ... ~~كلا، لقد تظاهروا بتصديقه لينال كل ms43 مأربه، وما كشفوا عن أنفسهم إلا ~~حين تهددهم الموت من الشمال والجنوب. ~~••• # وحدثني عن انقلاب الأحداث؛ فساد الموظفين، عذاب الناس، تمرد ~~الإمبراطورية، تحرش الحيثيين بالحدود، مصرع توشراتا. ~~••• # قال: أغرقني فيضان من الخوف على البلاد، ففكرت جادا في اغتياله ~~لأنقذ الدنيا والدين من شره. وعثرت بلا كبير عناء على من تطوع ~~لقتله في خلوته قبل الشروق، ويسرت له مخبأ في الحديقة، وكاد الرجل ~~ينجح في مهمته لولا أن أدركه في اللحظة الأخيرة محو رئيس الشرطة، ~~فعاجله بضربة قاتلة، واستحق بذلك لعنة الآلهة إلى الأبد. واستعنت ~~كثيرا بالسحر، ولكنه لم يصب الهدف من سوء حظ البلاد، ولعل الخبيث ~~كان يلجأ إلى السحر المضاد. ~~••• # وروى ما تلا ذلك من انتشار التمرد في الأقاليم؛ زيارة الملكة تيى ~~لأخت آتون، اللقاء التاريخي بين كاهن آمون ورجال إخناتون. ~~••• # قال: ولما يئس الخبيث الماكر من رجاله، وعلم بتفكير الكهنة في ~~اختيار توت عنخ آمون للعرش، أشرك سمنخ رع معه في عرشه، ولكني نجحت في ~~اغتيال الشاب بوسائلي الخاصة، وإذا بالبناء يتصدع باختفاء نفرتيتي ~~نفسها، فمات الشر، ولكن بعد أن نفث سمه في جميع الأوصال. وقد كان من ~~سوء حظنا جميعا أن ساقه قدره إلى اختيار نفرتيتي زوجة له. حقا ~~إنها امرأة قوية الشخصية، راجحة العقل، فائقة الجمال، ولكنها مثله ~~مريضة بالطموح، فآمنت في الظاهر بدينه، وشاركته في الواقع مكره وخبثه. ~~وعلى اليقين لم تكن تحبه، وما كان في وسعها ذلك، ولكنها هامت ~~بالقوة والسيادة المطلقة. ولعلها دليل آخر على الدور الخفي الذي قام ~~به الداهية آي الذي كان يتلقى في المناسبات هدايا الذهب تنثر عليه ~~وعلى زوجته تي من الشرفة الملكية، فيحملها العبيد في القدور إلى ~~قصره. ولكن كيف تعامت المرأة الذكية عن عواقب سياسة زوجها على البلاد ~~والإمبراطورية؟ وهل آمنت حقا برسالة الحب والسلام؟! الحق أني لا ~~أتصور ذلك ولا أسيغه، ولكن لعلها غالت في تقدير سحر العرش الفرعوني، ~~وتوهمت أنه السحر الذي يغني عن العقاب والسيف وجيش الدفاع. ولعلها ~~أدركت الخطأ في وقت مبكر، ولكنها ms44 خافت أن تعلن وساوسها فتفقد ثقة ~~زوجها، فاستسلمت للمقادر. ولما تخلت الحاشية عن الملك تخلت عنه ~~متعلقة بأمل أخير؛ ألا يغدر بها عشاقها. وأعتقد أن حور محب حاول ~~إقناع الكاهن الأكبر بقبولها في طيبة، ولكنه رفض ذلك، وأصر على ~~الرفض. وقد مات المارق وما زالت هي تتنفس في سجنها متجرعة الأحزان ~~والحسرات. # لو أن الذي خلف أمنحتب الثالث على عرشه عدو من الحيثيين، لما ~~استطاع أن يفعل بنا أكثر مما فعل المارق اللعين ... # | تي # هي زوجة الحكيم آي، في السبعين من عمرها، صغيرة الجسم، ممتازة في ~~صحتها بالقياس إلى عمرها، حلوة المحضر. وقد تزوج منها آي عقب موت ~~زوجته الأولى أم نفرتيتي، فتلقتها تي وهي بنت عام أو عامين، ثم ~~أنجبت له موت نجمت. ولما رفع الحظ نفرتيتي إلى العرش اختارت تي ضمن ~~حاشيتها، ووهبتها لقب «مربية الملكة». ولولا أنها كانت تحبها ما ~~فعلت ذلك، وهو ما يدل على أن تي أحاطت نفرتيتي برعايتها وحبها، وأنها ~~لم تكن «امرأة أب» بالمعنى المألوف. # وقد سردت لها المعلومات التي حصلتها عن الأحداث التاريخية، ثم قلت: ~~لا داعي للتكرار إن لم يكن لديك إضافة أو تعديل حفظا على وقتك ~~وراحتك. # فقالت تي: لم أخالط الملك رغم قربي من زوجته، ولعله لم يخاطبني إلا ~~مرات معدودة، ولكن عذوبته لا تبرح القلب أبدا. وقد عرفنا عنه ~~الكثير من بعيد عن لسان زوجي آي الذي اختير لتعليمه. وأذهلنا ما سمعنا ~~عن موقفه من آمون، وميله مع آتون، ثم أذهلنا أضعافا ما قيل عن اكتشافه ~~للإله الجديد. الحق أنه أذهلني أنا وابنتي موت نجمت، أما حبيبتي ~~نفرتيتي فكان لها موقف آخر. ولكن علي قبل ذلك أن أعرفك بها، إنها ~~بنت ذكية، وذات روح متوثبة تعشق الجمال وتهيم بالأسرار الدينية، ~~ونضجها يفوق سنها بكثير، حتى قلت يوما لزوجي آي: يخيل إلي أن ~~ابنتك ستكون كاهنة! # وكان ينشب بينها وبين موت نجمت ما ينشب بين الأخوات الصغيرات من نزاع ~~وخصومات عابرة، ولكن الحق كان دائما معها، ولا أذكر أنها ms45 تورطت في ~~خطأ مرة، وكانت تصالح أختها كما يصالح الكبير الصغير. وكانت تتفوق ~~في تعليمها لدرجة خشيت معها على ابنتي من ردة فعل يتعذر إصلاحها. ~~وجعلت تتلقى كلمات ولي العهد بإعجاب فتميل معه إلى آتون، ثم تباغتنا ~~بإعلان إيمانها بالإله الواحد. وقالت لها موت نجمت: إنه كافر. # فقالت بيقين: لقد سمع صوت الإله. # فصاحت بها: وأنت أيضا كافرة! # كانت ذات صوت عذب، وشد ما كان يسرنا أن نسمعها وهي ~~تغني: # ماذا عساي أقول لأمي؟ # فكل يوم أرجع إليها بالطيور. # أما اليوم فلم أنصب شباكي؛ # لأن حبك قد ملكني. # وبعد إيمانها راحت تغني للإله الجديد وحدها في ~~الحديقة، ولا أحد منا يريد أن يطرب لها، ولكني أذكر صوتها الذي اقتحم ~~علي حجرتي ذات صباح وأنا أمشط شعري: # يا حي، # يا جميل، يا عظيم، # بك عم الفرح، # وأترع الكون بالنور. # هكذا كان قصرنا أول بيت يتردد فيه نشيد الإله الجديد. ~~ودعينا لحضور الاحتفال بمرور ثلاثين عاما على جلوس أمنحتب الثالث على ~~العرش، وسمح لنا باصطحاب بنتينا لأول مرة لشهود احتفال بالقصر ~~الفرعوني. وزينت البنتين لعلهما يروقان في أعين صفوة الشباب، ~~فارتدت كل منهما ثوبا طويلا فضفاضا، وطوقت منكبيها بمعطف ~~مزركش قصير، منتعلة صندلا ذا سيور ذهبية. دخلنا قاعة لا تقل ~~مساحتها عن مساحة قصرنا كله، مطوقة بالمشاعل ومقاعد المدعوين، على ~~حين تصدرها العرش بين جناحين من الأمراء والأميرات، وبين هذا وذاك ~~ترامى فراغ للعازفين والراقصات العاريات، وتنقل العبيد بين المدعوين ~~والمدعوات يحملون المباخر والأشربة والأطعمة الفاخرة. وقلبت عيني ~~بين صفوة الشباب فتمنيت لابنتي حور محب الضابط الواعد وبك المثال ~~الموهوب، ورأيت الأعين تسترق النظرات إلى نفرتيتي آتية من نخبة ~~الحاشية، حور محب وبك وناخت وماي، خاصة عندما أتيحت الفرصة لبنات ~~الأشراف ليرقصن ويغنين في رحاب الملكين. وقد رقصت حبيبتي برشاقة ~~آسرة، وغنت بصوت عذب فاقت به المطربات المحترفات. لعلي في تلك ~~الليلة شاركت ابنتي موت نجمت غيرتها الصامتة، غير أنني عزيت نفسي ~~قائلة: «إذا تزوجت نفرتيتي خلا الجو لموت نجمت، وتجلى نورها ms46 دون ~~منافس.» وبدافع من حب الاستطلاع اختلست نظرات من نفرتيتي لأكتشف أين ~~تتجه نظراتها، فأدهشني أن أراها منجذبة من أعماقها إلى معلمها ~~الروحي ... ولي العهد! ونظرت نحوه فهالتني غرابة صورته، ورقته الأنثوية ~~المثيرة للدهشة. ولما التقت عيناي بعينيها همست لي: حسبته ~~عملاقا! # ولكن انبهارها غطى على دهشتها، ولم تكن تحلم بما يدخره لها ~~القدر. ورجعنا إلى قصرنا، فقلت لزوجي آي: سيطرق بابنا الخطاب يا ~~آي، فدبر أمرك ... # فقال بهدوئه المألوف: الآلهة ترسم لكل مصيره. # وبعد مرور يوم أو يومين فاجأني آي بقوله: الملكة تيى ترغب في مقابلة ~~نفرتيتي ... # فأذهلنا الخبر، وسألته: ماذا يعني ذلك؟ # فتفكر مليا ثم قال: لعلها سترشحها لوظيفة في القصر! ~~- ولكنك تعرف أشياء ولا شك! # فقال: كيف بمعرفة ما يدور في رأس الملكة العظمى! # وأخذ يلقنها أصول الآداب المتبعة في لقاء الملوك، وقلت لها: ~~فليباركك آمون برعايته ... # فقالت بثبات: إني أسأل الإله الواحد رعايته ... # فهتف بها آي بحزم: حذار أن تتفوهي بحماقة في حضرة الملكة. # وذهبت نفرتيتي. ورجعت شديدة الانفعال، فطوقتني بذراعها وأجهشت في ~~البكاء، أما آي فقال: اختارتها الملكة زوجة لولي العهد! # عصف الخبر بأفئدتنا عصفا، سمت به حبيبتي نفرتيتي فوق الغيرة ~~والمنافسة. ها هي تفتح لنا باب الحظ السعيد لننفذ منه إلى الأسرة ~~المالكة. لقد أظلنا حظها بجناحيه العريضين، وحلق بنا فوق الجميع؛ ~~من أجل ذلك هنأتها من أعماق قلبي، وكذلك فعلت موت نجمت. وراحت ~~تحدثنا عما دار بينها وبين الملكة العظمى، ومن شدة تأثري لم ~~أتابعها بالدقة المتوقعة، وليس في ذاكرتي اليوم أثارة منه، وما ~~أهمية الحديث إذا قيس بالنتيجة التي انتهى إليها؟ وتم الزواج في حفل ~~رائع أعاد إلى ذاكرة المخضرمين ذكرى زفاف الملك أمنحتب الثالث. ~~وصرنا جميعا ضمن الأسرة المالكة، واختارتني حبيبتي لوظيفة المربية ~~الخاصة لها، وهو مركز في القصر يلي مركز الأميرات مباشرة! وبالزواج ~~صارت نفرتيتي والأمير وحدة لا تتجزأ، ولا يفرق بين نصفيها إلا ~~الموت. وقد شاركته الأفراح والأحزان إلى ما قبل النهاية بساعات، ~~ودبرت له شئون ملكه بمهارة امرأة ms47 خلقت للعرش، وشاركته حمل رسالته ~~الدينية كأنها كاهنة مختارة حقا بعناية الإله الواحد. صدقني لقد ~~كانت ملكة عظيمة بكل معنى الكلمة؛ لذلك صعقت عندما علمت بهجرها ~~المفاجئ لزوجها في ذروة محنته، ولعله أول قرار اتخذته دون علمي، فهرعت ~~إليها في قصرها، وجلست عند قدميها مستسلمة لنوبة من البكاء. ولم ~~يبد عليها أنها تأثرت لحالي، وقالت لي بهدوء: اذهبي بسلام ... # فقلت برجاء: إنهم يذهبون وقاية للملك من أي شر. # فكررت ببرود: اذهبي بسلام. # فتساءلت في حيرة: وأنت يا مولاتي؟ # فقالت ببساطة: لن أغادر هذا القصر. # فهممت بالكلام، ولكنها قاطعتني بنبرة آمرة: اذهبي بسلام. # وغادرتها كأتعس امرأة على وجه الأرض. وفكرت طويلا فيما دفعها إلى ~~الاختفاء، فلم أهتد إلا إلى فرض واحد، هو أنها كرهت أن تشهد هزيمة ~~الملك وإلهه، فلاذت بالهرب خلال لحظة يأس طارئة، على أن ترجع إليه بعد ~~ذهاب الجميع. ولا أشك في أنها سعت إلى ذلك، ولكنها منعت بالقوة. ولا ~~تصدق أي تفسير آخر لهجرها القصر. سوف تسمع أقوالا متضاربة، وسيدلي ~~كل رجل بما يؤكد أنه الحق، بينما ينطق عن هواه. لقد علمتني حياتي ~~بألا أثق في أحد ولا أصدق أحدا. وها هو الزمن يمضي وأنا أتساءل ~~دائما: أكان مولاي إخناتون يستحق تلك النهاية المحزنة؟ كان ~~النبل والصدق والحب والرحمة، فلم لم يبادله الناس نبلا بنبل، ~~وصدقا بصدق، وحبا بحب، ورحمة برحمة؟ لماذا انقضوا عليه كالوحوش ~~يمزقونه ويمزقون ملكه كأنه عدو أثيم؟! ولقد رأيته في المنام منذ ~~أعوام مطروحا على الأرض والدم ينزف من جرح غائر في عنقه، فاستحوذ ~~علي شعور قوي بأنهم قتلوه قتلا مدعين كذبا أنه مات ميتة ~~طبيعية. # وسكتت وهي تنظر فيما أمامها بأسى، ثم تمتمت: لقد عاشرنا رجلا لا ~~يتكرر. # | موت نجمت # في بدء الحلقة الرابعة، جميلة رشيقة، يشع من عينيها العسليتين ~~ذكاء، شعرت في محضرها بوجود مسافة بيني وبينها لا يمكن أن تعبر. وهي ~~ابنة آي وتي وأخت نفرتيتي، وتقيم في جناح خاص بها في قصر آي. وثمة ~~لغز رابض في حياتها، وهو ms48 أنها لم تتزوج رغم كثرة خطابها. وما كدت ~~أجلس بين يديها وأبسط أوراقي حتى أنشأت تقول: قدر لنا أن نشارك في ~~مأساة إخناتون المارق؛ فقد اختير أبي الحكيم آي معلما له، فحمل أبي ~~إلينا أخباره وأفكاره، ومن أول الأمر أسأت به الظن، واتهمت عقله، ثم ~~أثبتت الأيام صدق شعوري وتفكيري. وكان لنفرتيتي موقف آخر دهشت له ~~الأسرة، أما أنا فلم أدهش له. كانت تحب دائما أن تلفت الأنظار ~~بتحديات مفتعلة، وتود أن تثير من حولها عواصف المناقشات. أجل ~~كانت ذكية، ولكنها لم تكن صادقة ولا مخلصة، هذا ما أغراها بعبادة ~~آتون وتفضيله على آمون، وما دعاها أخيرا للكفر بجميع الآلهة والإيمان ~~بإله لم نسمع عنه من قبل. وقد سمعتها مرة وهي تقول لأبي: أبلغ يا ~~أبي ولي العهد أنني مؤمنة بإلهه. # فقال لها أبي متجهما: إنك حمقاء يا نفرتيتي ولا تقدرين ~~العواقب! # وكنت بسبب تجديفها أخاف أن تحل اللعنة بنا جميعا. لقد بقي إيماني ~~بآلهتي حيا في قلبي لا يتزعزع. أجل أعلنت إيماني بالإله الجديد ~~لانتمائي للأسرة الملكية، وبقصد أن أبذل ما أستطيعه في موقعي الجديد ~~دفاعا عن آلهتي المقدسة، ولكن إيماني بآلهتي لم يهن قط. وأتيح لي ~~أن أرى المارق لأول مرة في حفل العيد الثلاثيني للجلوس على العرش، ~~فعجبت للشبه الخارق بين أفكاره المنحرفة وبين صورته المتنافرة ~~الجامعة بين الهزال والقبح؛ لذلك فلا تأخذ مأخذ الجد ما قد تسمع عن ~~الحب النبيل الذي جمع بين قلبي المارق وملكته العظمى نفرتيتي؛ فإني ~~أعرفها حق المعرفة، وأعرف المثال الذي حلمت به كفتى لأشواقها، إنه لا ~~يمت بصلة للفتى الهزيل القبيح العاجز الذي خلق نصف أنثى ونصف ~~ذكر. وكانا يزعمان أنهما يعيشان في الحقيقة، أما هو فكان يعيش في ~~الجنون، وأما هي فعاشت في الكذب والخديعة، ولم تحب سوى العرش والسلطان. ~~وفي الحفل غلبتها طبيعتها الدفينة فأعلنت عن جمالها بلا حياء كأنها ~~امرأة محترفة، ورمت شباكها حول حور محب، ولكنه لم يكن يكترث لذلك ~~النوع من النساء المبتذلات. ولما دعينا نحن ms49 بنات الأشراف للرقص ~~والغناء، قمت أنا فرقصت في احتشام، واخترت أغنية موجهة ~~لفرعون: # أنت تجيء كالشبع فينتهي الجوع. # أنت تجيء كالثياب فينتهي العري. # أنت كالسماء الهادئة بعد عاصفة هوجاء. # تعطي الدفء لمن أصابه البرد. # أما نفرتيتي فقد أذهلت الجميع برقصتها الداعرة، ولكنها ~~سرقت استحسان الفاسقين، وما أكثرهم! ثم اختارت أغنية خليعة ~~فغنت: # في صحتك، # اشربي حتى تثملي، # ولا تضيقي ذرعا بالسرور. # لقد حضرت ونصبت الفخ، # لنفتح الفخ سويا # أنا وأنت معا بمفردنا. # ما أجمل أن تكون معي هناك! # ونكس أبي ذقنه وتلعثمت أمي. وتهامست المغنيات ~~المحترفات: «ما أجدر هذه البنت أن تغني معنا!» ورجعنا إلى قصرنا ~~آخر الليل وهي تحلم بأن يطرق بابنا في الصباح حور محب، ولكن الأقدار ~~كانت تعد لنا مفاجأة أخرى؛ إذ كانت تعدها لمصر والإمبراطورية. ~~دعيت الماكرة إلى مقابلة تيى الملكة العظمى، ورجعت زوجة لولي ~~العهد. وقلت لأمي: ألا يدعم فرعون شرعيته عادة بالزواج من أميرة ذات ~~دم ملكي؟ فقالت لي أمي: لا أهمية لذلك إذا كان فرعون صاحب قوة مسيطرة، ~~وقد وافق على اختيار عروس من بنات الشعب لابنه كما سبق أن اختار ~~لنفسه. # وقبلتني هامسة في أذني: كوني عاقلة يا موت نجمت، لا شك أنك أفضل ~~منها، ولكن لا حيلة لنا مع الحظ، فاقنعي بأنك ستصيرين من الأميرات، ~~وبأن الدنيا ستقبل عليك بقدر ما تبدين من إخلاص لأختك! # فقلت لها بصراحة ووضوح: سأتبع الحكمة مع المحافظة على الكرامة ~~والإخلاص. # وهو ما حرصت عليه دائما، ولم أنحرف عن خطه المستقيم. ولما خلوت إلى ~~نفرتيتي سألتها: هل راق لعينيك حقا؟ # ومع أنها أدركت من أعني إلا أنها تساءلت متغابية: من تعنين يا موت ~~نجمت؟ ~~- زوجك المقبل! # فقالت بحماس: إنه معجزة بين الرجال! # فسألتها بعناد: أهو كذلك كزوج؟ # فأجابت بغموض: لا يمكن الفصل بين الكاهن والزوج! # وقرأت أفكارها كما أقرؤها عادة. سوف تقاسمه العرش ملكة وكاهنة، ~~ولن يعجزها أن تظفر بمن يشبع عواطفها المتعطشة للحب والحياة. وقد ~~مارست ذلك بكل طمأنينة، معتذرة أمام ضميرها بعجزه، لائذة بسياسته ms50 ~~المعلنة في الاعتماد على الحب ورفض العقاب والعنف، فلم تخش من جانبه ~~انتقاما كسائر الفاسدين من معاونيه. وقد توكد لي عجزه وشذوذه من ~~خلال اتصالاتي اليومية بحريمه. هناك يعرفون الحقائق التي تخفى عن أقرب ~~المقربين من رجال الدولة. هناك تندروا بعجزه، وهنا فضحوا سر ~~العلاقة الآثمة بينه وبين أمه؛ المرأة الوحيدة التي عبر عجزه في حضنها، ~~والمرأة الوحيدة التي أنجبت له ابنة. وذاك شذوذ لم تعرفه بلادنا على ~~مدى تاريخها؛ من أجل ذلك ثبت لدي أن بلادي تمضي نحو مصير أسود. ~~وعاهدت ضميري أن أقف مع الحق حيث يكون. ومات أمنحتب الثالث، وتبوأت ~~نفرتيتي العرش ملكة عظمى مكان تيى. وعشنا أياما كئيبة في طيبة، ثم ~~انتقلنا إلى أخت آتون؛ أجمل مدينة عرفها الإنسان. واستقبلنا من الزمان ~~أيام سرور ونصر ورخاء، وأمهلت الآلهة للمارق، فتركته يلغي وجودها ~~ويصادر أوقافها، ومهدت له أسباب النجاح والسرور، حتى ظن الجاهل أن ~~الفوز المبين قد تقرر للإله الجديد ولرسالته الخيالية في الحب ~~والسلام. وقلت لأمي وليس معنا ثالث: أين الآلهة؟ ما لها لا تغضب لما ~~حاق بها؟ # وإذا بأمي تقول: ذلك شاهد على صدق الإله الجديد يا موت نجمت! # فرمقتها بذهول، وخيل إلي أن دنيا تغرب، وأن دنيا أخرى تشرق لا ~~سبيل إلى الشك فيها، ولكن ليل الحلم أخذ ينقشع ويتلاشى، وزمجرت عواصف ~~الأحزان مكتسحة الداخل والخارج معا. وكلما عضنا الدهر قلت لأبي: ~~ها هو آمون يكشر عن أنيابه. # فيقول لي: لا ترددي أقوال الكهنة الحاقدين! # فأقول له: حدثني يا أبي عن واجبك في هذه الظروف؟ # فيقول باستياء: لست في حاجة إلى من يذكرني بواجبي يا موت ~~نجمت! # ومرة سألت نفرتيتي: ألا تفعلين شيئا للدفاع عن عرشك؟ # فقالت لي بحماس لم يجز علي: نحن نفنى في خدمة عرش الإله ~~الواحد. # لم تكن مخلصة، ولم تعرف الإخلاص الحقيقي في حياتها. كانت تخشى إذا ~~حذرت زوجها من مغبة عناده أن ينزع الثقة منها فيختار امرأة أخرى ~~ملكة وكاهنة. ومن خلال محاولاتي الحذرة مع الرجال اكتشفت إخلاص توتو ms51 ~~وزير الرسائل، فاستمر الحوار بيننا حتى تكاشفنا تماما، ثم كان ~~الوسيط بيني وبين كاهن آمون الأكبر. وكانت تجربة أليمة خضتها بعذاب ~~شديد. كان علي أن أختار بين إخلاصي لأسرتي الجديدة وبين الولاء ~~للبلاد والآلهة، واخترت بعد أن دفعت ثمن اختياري ألما وعذابا. هكذا ~~انضممت إلى المعسكر الآخر، معرضة عن مصلحتي الشخصية وسعادتي ~~الأسرية. وقال لي توتو يوما: الكاهن الأكبر يطالبك بالسعي لضم ~~الملكة إلينا! # فقلت له: لقد سعيت إلى ذلك من قبل أن أكلف به، ولكني وجدتها لا ~~تقل جنونا عن المارق. # وبناء على ذلك أرسل الكاهن الملكة تيى إلى أخت آتون، ثم جاء بنفسه ~~ليلقي على الرجال إنذاره الأخير. وشد ما عارض توتو ذلك! كان يقترح ~~الانقضاض عليهم دون إنذار، ووضعهم جميعا في الأغلال، وإشعال النار في ~~المدينة المارقة. وكنت أود أن أضم حور محب قائد الحرس إلينا؛ فهو ~~صاحب القوة الحقيقية في المدينة، وعرف دائما بالصلابة والاستقامة. ~~ومن خلال الأحاديث التي دارت بيني وبينه آنست منه اتفاقا في الرأي ~~يخفيه الحذر وافتقاد الثقة المتبادلة. ولما لاحت في الأفق نذر الحرب ~~الأهلية قلت له: علينا أن نعيد النظر في مواقفنا. # فرمقني بنظرة متسائلة، فقلت بصراحة: لا يمكن أن نترك مصر تحترق ~~وتصير رمادا. # فسألني بدهاء: ألم تفاتحي أختك الملكة في ذلك؟ # فقلت بصراحة أذهلته: إنها لا تقل جنونا عن الملك! # فسألني باهتمام: ماذا تقترحين؟ # فقلت بحدة: كل شيء مباح لإنقاذ البلاد ... # ثم كانت النهاية التي عرفتها؛ نهاية مأساة فاقت غزو الهكسوس لبلادنا ~~في الماضي، مأساة خلقها جلوس مجنون على العرش مستغلا قدسية العرش ~~التقليدية في ممارسة نزواته. ولا شك في أن ذنب نفرتيتي أثقل من ذنبه؛ ~~لما خصت به من ذكاء ودهاء، ولكنها لم تهتم إلا بذاتها وطموحها، ~~فلما تولى عنه المجد هجرته في الحال، منضمة في الظاهر إلى أعدائه، ~~مرشحة نفسها ملكة تدعم العرش الجديد، ولكن حيلتها لم تنطل على ~~أحد، فانقبرت في وحدة مظلمة لتجتر العذاب والندم. # | مري رع # في الحلقة الرابعة، أسمر خمري، نحيل، ذو نظرة ms52 حزينة تصلح عنوانا ~~لمأساة، يعيش في بيت صغير، بلا رفيق أو خادم، ذلك الذي كان يوما ~~الكاهن الأكبر للإله الواحد، في مدينة النور أخت آتون. وقد زرته في ~~بلدته دشاشة على مبعدة من طيبة بمسيرة يومين إلى الشمال. ولما قرأ ~~رسالة أبي سألني باسما: ولم تتجشم هذا التعب؟ # فقلت ببساطة: لأعرف الحقيقة. # فقال وهو يهز رأسه في أسى: حسن أن يوجد ولو فرد واحد من طلاب ~~الحقيقة. # ثم مضى يقول: لعلي الشخص الوحيد الذي حمل بالقوة من أخت آتون بعد ~~أن رفض التخلي عن مولاه، وقد سكت الصوت الإلهي وتهدم المعبد، ولكن ~~الدهر لم ينطق بالكلمة الأخيرة بعد. # ورنا إلي طويلا بعينيه البنيتين ومضى يقول: أسعدني حظي في ~~صباي بأن أكون ضمن حاشية الأمير، فملت مثله إلى الأمور الروحية، ~~ودرسنا معا ديانة آمون وديانة آتون. ومثل كثيرين فتنت به وأخذت ~~بحديثه الساحر، وروعت بنضجه السريع الخارق للمألوف. وقد باركني ~~بقوله الذي غزا به قلوب أتباعه، فقال لي: إني أحبك يا مري رع؛ فلا ~~تضن علي بحبك. # فتغلغل حبه في قلبي حيث لم تبلغ عاطفة من قبل، حتى أباح لي خلوته على ~~شاطئ النيل في أي وقت أشاء. وهي خلوة في الطرف الغربي من القصر، تطل ~~على النيل، في هيئة مظلة تقوم على أربعة أعمدة تحدق بها أشجار ~~النبق والنخيل، أرضها من العشب النضير، تتوسطها حصيرة خضراء ووسادة. ~~كان يستيقظ عند الفجر فيمضي إلى الخلوة ينتظر شروق الشمس، ويتغنى ~~لقرصها البازغ من وراء الحقول. وما زال صوته العذب يجيش في صدري، ~~وينتشر في حواسي مثل رائحة البخور المقدس وهو يترنم: # إنك تسطع جميلا في جبل النور في السماء، # يا آتون الحي يا من عاش أولا، # إنك إذا أشرقت في جبل النور الشرقي، # ملأت كل بلد بجمالك. # إنك جميل، إنك عظيم. # إنك تتلألأ عاليا فوق كل بلد، # وأشعتك تضم البلاد، # وكل شيء خلقته. # إنك بعيد، ولكن أشعتك على الأرض. # وكان يذوب من الوجد، وينبثق من وجهه الصبيح الأنوار، ~~ثم نتجول في الحديقة ms53 وهو يقول: لا يوجد سرور خالص إلا في ~~العبادة. # ذلك أن حياته لم تخل من منغصات. وذات مرة تشكى لي قائلا: يأبى ~~أبي إلا أن يجعل مني مقاتلا يا مري رع! # لم يمر تدريبه العسكري الفاشل دون أن يترك في نفسه ألما يحز. أو ~~ينظر في المرآة المؤطرة بالذهب الخالص ويقول باسما: لا قوة ولا ~~جمال! # أما موت أخيه الأكبر تحتمس فقد حفر في وجدانه جرحا غائرا لعله لم ~~يبرأ منه إلا حينما أصيب بجرح أشد بموت ابنته المحبوبة ميكيتاتون. ~~شد ما بكى أخاه الذي نصبه موته وجها لوجه مع حقيقة الموت الصلبة ~~الغامضة. وسألني: ما الموت يا مري رع؟ # فلذت بالصمت متحاشيا الإجابات التقليدية التي يضيق بها. فعاد ~~يقول: ولا آي نفسه يعرف، قرص الشمس وحده يشرق بعد الغروب، أما تحتمس ~~فلن يرجع إلى هذا الوجود مرة أخرى! # وهكذا أعلن حربا أبدية على الضعف والقبح والحزن. ومضى في طريقه ~~المجهول مثل شعاع الشمس، تنذر بوادره كل يوم بجديد، حتى لقيته ذات ~~صباح مشرق شاحب اللون في خلوته، مستقر النظرة، ثابت الجنان، فقال ~~لي دون أن يرد تحيتي: ليست الشمس شيئا يا مري رع. # فلم أدرك مقصده، فجذبني إلى مجلسه فوق الحصيرة وقال: استمع إلى ~~الحقيقة يا مري رع. ليلة أمس أسكرني الشوق بلا خمر، وتجسد لي الظلام ~~جليسا أنيسا كالعروس المتجلية، وحلقت بي نشوة آسرة في الفضاء، ~~وهناك عبر ألف خيال وخيال بزغت الحقيقة للفؤاد أقوى من أي منظر تراه ~~العين، وترامى إلي صوت أجمل من عبير الأزهار، فقال لي: «املأ وعاء ~~قلبك بأنفاسي، واطرد عنه ما ليس مني، أنا القوة التي تتسلل منها قوى ~~الوجود، أنا النبع الذي تتدفق منه الحياة، أنا الحب والسلام والسرور، ~~املأ وعاء قلبك مني ويسره مشربا للمعذبين في الكون.» # ومن شدة تألقه تراجع رأسي في انبهار، فقال لي: لا تخف يا مري ~~رع، ولا تبتعد عن السعادة! # فغمغمت وأنا ألهث: يا له من نور! # فقال بعذوبة صافية: تعال لتعيش معي في الحقيقة ... # فاعتدلت ms54 في جلستي وقلت: إني معك إلى الأبد. # ومنذ تلك الساعة السعيدة صار أول كاهن للإله الواحد الذي لا إله ~~غيره، وغدا معلمي وأستاذي، ورائد من لبوا النداء. وقلت له: آمنت ~~بإلهك. # فقال بحبور: أحسنت، ولتكن أول كاهن في معبده. # وأعلن إيمانه لخاصته، ولكنه لم يتعرض للآلهة إلا فيما بعد، ~~وبالتدرج أيضا، فأعلن كفره بالآلهة الزائفة أولا، ثم ألغاها ووزع ~~أوقافها على الفقراء في خطوة تالية. أما على عهد إمارته فلم يكن ~~بوسعه في حكم والده أن يكون صاحب قرار. وقد تزوج من نفرتيتي وهو ~~ولي للعهد، فوهبه الزواج سعادة كبرى، غير أن أسعد ما أسعده حظي به ~~من إيمانها الصادق بإلهه. وفي أخت آتون تبوأت مركز الكاهن الأكبر ~~للإله الواحد، ولما عزم مولاي على مصادرة المعابد قلت له: إنك تتحدى ~~قوة ذات نفوذ قديم على الناس من النوبة حتى البحر. # فقال لي بثقة: ما الكهنة إلا دجالون، يستعبدون الضعفاء، وينشرون ~~الخرافات، وينهبون الأرزاق. معابدهم مواخير، وقلوبهم ثملة بحب ~~الدنيا ... # فاكتشفت فيه قوة حقيقية أخفاها عن الأعين تهافت بنيانه، وشجاعة ~~لا يحظى بجزء منها حور محب قائد الحرس أو ماي قائد الحدود. وقد حسبه ~~أناس لغزا لا يحل، لكنه وضح بالنسبة لي مثل نور الشمس. لقد فني في ~~حب إلهه، وأحبه الإله، فكرس حياته لخدمته ملقيا بالعواقب جانبا، ~~فلم يلتبس علي قرار من قراراته ولا موقف من مواقفه. لم أدهش لسلوكه ~~في رحلته المشهورة حول عالم إمبراطوريته، ولم أدهش لتمسكه برسالة ~~الحب والسلام حتى في أحرج الظروف، ولم أدهش لموقفه الأخير عندما ~~تخلى عنه أقرب المقربين إليه. كان يعيش في رحاب الإله ويصدع بأمره، ~~ولا يبالي بعد ذلك بما يحيق به؛ إذ كيف يمكن من ينغمس في الحقيقة أن ~~يكترث لمكر الساسة ودهاء العسكريين؟! وقد رموه بالخيال والحلم ~~والجنون، فكان هو العائش في الحقيقة، وكانوا هم الخياليين الحالمين ~~المجانين الغارقين في أوهام الدنيا الفاسدة. ولم يكن العرش يهمه كما ~~يهم الملوك العاديين، بل إنني أذكر أنه عندما دعي من رحلته لتولي ms55 ~~العرش بعد وفاة أبيه، تجهم وجهه وتساءل: ترى هل تشغلني الشواغل عن ~~إلهي؟ # فقلت له بحماس صادق: بل إنك مدعو يا مولاي لوضع قوة العرش في خدمة ~~الإله، كما التزم أجدادك بخدمة آلهتهم الزائفة. # فسري عنه وتمتم: نطقت بالحق يا مري رع، فكما قدموا لآلهتهم ~~قرابين من البشر المساكين، سأقدم قوى الشر قرابين لإلهي، محطما ~~الأغلال التي يرسف فيها من لا حول لهم. # واعتلى العرش ليخوض أشرس معركة خاضها ملك، ولكن في سبيل الحقيقة ~~والحب والسلام وسعادة البشر، وأثبت في غمارها أنه أقوى عشرات المرات ~~من تحتمس الثالث نفسه، وكان رجاله يمثلون أمام عرشه فتصرف نفرتيتي ~~أمورهم اليومية، أما هو فلا يني عن إعادة خلقهم من جديد ليكونوا جديرين ~~حقا بالنعمة الإلهية والنبل البشري. وتجلى سحره كأقوى ما يكون في ~~نشر دعوته بالأقاليم، وقد فتن الناس به، وسكروا بخمر رسالته، ~~وألقوا عليه محبتهم مع الأزهار والرياحين. وسكت مري رع ليتنهد ~~طويلا، ثم واصل حديثه: ثم جاءت سحب الأحزان يتبع بعضها بعضا ~~مسوقة بأنفاس الحقد في داخل البلاد وخارجها، وتلقاها كل رجل بحسب ~~قوة إيمانه، ولم يعبأ بها مولاي، وراح يردد: لن يخذلني إلهي. # وقال لي يوما في المعبد: الرجال ينصحونني بالاعتدال، وإلهي يأمرني ~~بالإيمان، فأيهما أتبع يا مري رع؟ # ولم يكن سؤاله الساخر في حاجة إلى إجابة. ولما مضت الأزمة في ~~الاشتداد جاء حور محب لمقابلتي في المعبد، وقال لي: أيها الكاهن ~~الأكبر، إنك أقرب الرجال إلى الملك. # فأجبته وأنا أحدس ما سيقول: تلك نعمة الإله علي. # فقال بصراحة: الأمور تقتضي تغيير السياسة. # فقلت له بثبات: أستمع لصوت الحقيقة وحدها. # فقطب فيما يشبه الضجر وقال: أتوقع أن أسمع كلاما ~~معقولا. # فقلت بحدة: لا تفاهم إلا بين المؤمنين. # ولما علمت بقرارهم في التخلي عن الملك بحجة الدفاع عن حياته قلت ~~لآي: من ناحيتي لا أقر العودة إلى الكفر. # ورفض مولاي التراجع خطوة واحدة، ولكن كانت له خطته أيضا في تجنب ~~الحرب الأهلية؛ فكان عازما على مواجهة الشعب وحده والجنود المتمردين، ~~وكان ms56 كامل الثقة في قدرته على إعادتهم إلى حظيرة الإيمان، ولكن الحاشية ~~آمنت بأنه سيقتل حتما، وأنهم سيلحقون به جزاء بقائهم على الولاء له. ~~وتخلى عنه الجميع، وقد ضموني إلى قافلتهم المرتدة بقوة الجند، ~~وأمروا الحرس بمنعه بالقوة إذا صمم على مواجهة الشعب. وحيل بينه ~~وبين ما يريد بالفعل، ووجد نفسه وحيدا حبيسا في قصره، حتى نفرتيتي ~~ذهبت مع الذاهبين، وعند ذاك غزا الحزن قلبه أمام ضعف الإيمان الذي بذل ~~حياته الغالية في بثه وتثبيته. وقيل لنا عقب ذلك إن المرض تمكن منه ~~وقضى عليه. والحق أني أشك في ذلك، وأرجح أن الأيدي الآثمة امتدت ~~إليه في عزلته وانتزعت منه روحه الطاهرة الخالدة. وقد مات دون أن يعلم ~~بأنني ما تخليت عنه إلا بالقوة، وفي اعتقادي أن نفرتيتي أبعدت عنه ~~بالقوة أيضا، ولا أتصور غير ذلك أبدا. # وصمت مرة أخرى ليتنهد، ثم رنا إلي طويلا وقال: ولكنه لم يمت، ~~ولا يمكن أن يموت، إنه الحقيقة الباقية والأمل المتجدد، ولينتصرن ~~عاجلا أو آجلا، ألم يعد الإله بأنه لن يخذله؟! # ومال إلى خزانة فاستخرج منها لفافة من البردي، فأعطاها لي وهو ~~يقول: إنها تحوي رسالته وأناشيده، اقرأها يا فتى، وليستجيبن لها قلبك ~~المحب للحقيقة، فإنك لم تقم برحلتك لغير ما سبب ... # | ماي # سعيت إلى لقائه في رنوكولبورا على الحدود حيث يقيم في خيمة بين ~~جنوده من جيش الحدود. كان على عهد إخناتون قائدا لجيش الحدود، وما زال ~~يشغل مركزه بكل جدارة في العهد الجديد. وقد وجدته كهلا عملاقا جاد ~~الملامح معتزا بنفسه لحد كبير. وبعد إطلاعه على خطاب والدي قال ~~بانفعال مرحبا بالفرصة التي دعته للتنفيس عن صدره: ذلك المارق، مجهول ~~الأب الذي أذل بشذوذه أعناق الرجال! لقد سكتت طبول القتال، ونكست ~~رايات المجد؛ ليرتفع صوت الغناء والطرب من فوق عرش الفراعين من حنجرة ~~امرأة قبيحة الوجه متنكرة في إهاب الرجال. وقد أرغمت - أنا قائد ~~الدفاع عن الإمبراطورية - على التجمد وأوصال الولايات تتمزق وتقع ~~في قبضة المتمردين والأعداء، واستغاثات المخلصين من أصدقائنا تتلاشى ms57 ~~في الهواء. أفقدنا ذلك المخبول شرفنا العسكري، وجعلنا هزأة للمعتدين ~~وفريسة سهلة لقطاع الطرق. ومن حسن حظي أنني لم أكن ضمن حاشيته ~~وإن اقتضى واجبي التردد على أخت آتون بين الحين والحين. وفي كل مرة ~~كانت تتملكني الحيرة لخدع رجال مثل آي وحور محب وناخت لغر ~~مشوه، وولائهم المذهل له ما بين القصر والمعبد. وكنت وما زلت ~~مخلصا لآلهة بلادي وتقاليدها المتوارثة، يوم بلغني كفره غضبت ~~غضبا شديدا، وعقدت العزم على الانضمام إلى المؤمنين إذا شقوا عصا ~~طاعته. ويوم صدر الأمر بإغلاق المعابد وتشريد الكهنة أيقنت من أن ~~اللعنة الكبرى ستحيق بنا، وستوجه ضربتها إلى الجميع غير مفرقة بين ~~الخبيث والطيب. ولدى زيارة لي لطيبة، جاءني بليل الكاهن الأكبر لآمون، ~~وسألني: هل تجد حرجا في هذا اللقاء؟ # فأجبته بصراحة أدهشته: لي الشرف، وقصري رهن إشارتك. # فشكرني وقال: إنك من جيل الأبرار يا ماي. انظر إلى الناس كيف فقدوا ~~السلوى والعزاء، كان أهل الإقليم يلوذون بآلهة ويقدمون القرابين، ~~ويفزعون إلى كاهنهم في الملمات فيرشدهم في الحياة وحين الموت، ضاع ~~المساكين كالأغنام الضالة ... # فقلت بامتعاض شديد: وما جدوى التشكي؟! ألا ترى أن الواجب يطالبنا ~~بالتخلص منه؟ # فتفكر قليلا ثم قال: ولكن ذلك سيجر علينا حربا طاحنة! ~~- ألا يوجد حل؟ # فقال بيقين: إقناع رجاله المقربين! ~~- يا له من أمل بعيد. # فقال الرجل بحذر: لن نعمد إلى وسيلة يائسة قبل أن نستنفذ جميع ~~الحيل ... # فعاهدته قائلا: ستجدون جيش الدفاع وراءكم في اللحظة ~~المناسبة. # ولكن نجاح حملة التحريض عليه اقتضت وقتا طويلا، حلت فيه الكارثة ~~بالبلاد، فلم يبق إلا أن ننقذ ما يمكن إنقاذه من تحت الأنقاض. ولقد ~~تساءل كثيرون عن سر المأساة. أقول لك إن سرها يكمن في ضعف المارق؛ ضعف ~~جسده وعقله معا. لقد أفرطت أمه في تدليله فنشأ شديد الحساسية لحد ~~المرض، داعيا بانحطاطه لدى المقارنة بأقرانه المميزين مثل حور محب ~~وناخت وبك، فأخفى شعوره بالهوان وراء ستار رقيق من التواضع الأنثوي ~~والعذوبة المخنثة، على حين بيت الغدر لكل قوي، إلها كان ms58 أو ~~كاهنا؛ ليخطر وحده في الساحة، محتكرا لصوت الإله الذي اخترعه، ~~ولقوته غير المحدودة. من ناحية أخرى تصدى ضعفه لكل طامع كإغراء لا ~~يقاوم. أجل لقد هرع إليه الرجال لا خوفا من قوته، ولكن طمعا في ~~ضعفه؛ من أجل ذلك أعلن رجال الإمبراطورية إيمانهم برسالته، فبعث إليهم ~~برسائل الحب حين تمردهم بديلا عن جيش الدفاع؛ ومن أجل ذلك أعلن ~~الإيمان به رجال لا يرتقي الشك إلى عقولهم مثل آي وحور محب وناخت، ~~وامرأة داهية مثل نفرتيتي. كان ضعفه الطعم الذي جذب إليه المنافقون ~~والطماعون واللصوص والفاسقون. ولبثوا يتابعون أناشيده في المعبد ثم ~~ينهبون الأموال ويستغلون العباد، حتى تهددهم الموت فتخلوا عنه، ~~وانضموا إلى أعدائه محملين بغنائمهم؛ لذلك أعلنت رأيي للكاهن ~~الأكبر عند اشتداد الأزمة. قلت له: لا تقم بزيارتك لأخت آتون، لا ~~تنذرهم، دعني أزحف عليهم وأبيدهم ليستقر قلب العدالة ... # وأيدني توتو بحماس أشد، ولكن الكاهن الأكبر مال مع الحلم وحقن ~~الدماء، فقال لي: حسبنا ما أصابنا. # وأدركت ما يجول بخاطره. إنه رجل داهية، وينظر إلى بعيد، فقدر ولا ~~شك أنه إن أذن لي في القتال فقضيت على المارق ورجاله، أحرزت بحق ~~الصدارة والبطولة، وحزت بذلك أقوى الأسباب لاعتلاء العرش. وعند ذاك ~~سيجد على العرش ملكا قويا لا يمكن أن يتجاوز حجمه الطبيعي في رحابه؛ ~~لذلك جنح إلى السلم، واختار للعرش غلاما لا حول له ليكبر ويتضخم على ~~حسابه. وها هم اليوم يحومون حول العرش؛ الكاهن وآي وحور محب، ~~ويتربصون بصاحبه. هكذا تجري الأمور في مصر التي نضب فيها معين ~~الإخلاص. # على أي حال فنحن اليوم خير مما كنا أمس. لقد هجر المارق مع ضعفه ~~فمات غما، وها هي الداعرة تنتظر النهاية وحيدة بين أطلال المدينة ~~الكافرة. # وسكت ماي مضيفا على نبرته نغمة الختام، بيد أني سألته: ونفرتيتي ~~يا سيدي القائد؟! # فقال بلا مبالاة: امرأة جميلة خلقت لاحتراف الدعارة، فشاء حظها ~~أن تمارس هوايتها في عشق الرجال من فوق العرش، ولا تصدق ما يحتمل أن ~~تسمعه عن كفاءتها كملكة؛ فلو ms59 كان بعضه حقا لا كله ما سقطت البلاد في ~~عهدها في هوة الفساد والخراب، وقد تخلت عنه في اللحظة التي فقد ~~فيها نفوذه، ولكنها خابت في ركوب السفينة الجديدة! # | محو # زرته في قريته جنوب طيبة يعيش من الزراعة بعد أن كان رئيسا لشرطة ~~إخناتون في أخت آتون. وهو في الأربعين من عمره، غليظ القسمات واضحها، ~~قوي البنيان، تطل من عينيه الصغيرتين نظرة حزينة. ولما قرأ ~~رسالتي شبك أصابعه فوق رأسه داعيا بحسرة ذكريات تولت، وأنشأ ~~يقول: جفت ينابيع السرور من بعده، سامحتك الآلهة يا مصر! # بدأت علاقتي به بطريقة لا تتكرر ولا يحلم بمثلها أمثالي. كنت ~~جنديا من حرس القصر الفرعوني، وكنت ألمحه في الحديقة من بعيد. وذات ~~صباح رأيته مقبلا نحوي كأنما اكتشفني لأول مرة، فتحولت إلى تمثال ~~بين يديه. نظر إلي طويلا حتى شعرت بنظرته تجري مع دمي وتتردد مع ~~أنفاسي. وإذا به يسألني: ما اسمك؟ ~~- محو. ~~- من أي مكان أنت؟ ~~- من قرية فينا. ~~- صناعة أهلك؟ ~~- فلاحون. ~~- لماذا اختارك حور محب في الحرس؟ ~~- لا أدري. ~~- إنه يختار الشجعان. # فانتفض قلبي سرورا ولم أنبس، فقال بثقة: إنك شاب صادق يا ~~محو. # فطرت من الفرح ولزمت الصمت، وإذا به يسألني: أتقبل صداقتي؟ # فتلاشى عقلي من الذهول وتمتمت: ما أرفع هذا الشرف عن ~~متناولي! # فمضى باسما وهو يقول: سنلتقي كثيرا أيها الصديق. # تلك واقعة حقيقية، فهكذا كان يختار رجاله. وترامت إلينا أنباء عن ~~عبادته لآتون، وتجلي إله جديد له، كما عزفت على كثب منا أناشيده. ~~وتفتح قلبي لكل ما يجيء منه. جذبني إليه سحره النفاث وحبي العميق ~~له. لعلي لم أفهم مما سمعت إلا القليل، ولعلي تحيرت طويلا أمام ~~إلهه الغامض الذي لا يتجسد في تمثال، ويعامل الناس بالحب دون العقاب، ~~ولعلي لم أكفر بآمون، ولكني آمنت حبا في مولاي، خير البشر وأعذبهم ~~وأرحمهم. عاش في الحب للحب، لم يصدر عنه أذى لإنسان أو حيوان، لم ~~يلوث يده بدم، ولم يعاقب مذنبا. ولما اعتلى العرش استدعاني وقال ~~لي: لا ألزمك بشيء ms60 تكرهه يا محو، وسيجري رزقك هنا أو هناك، فهل ترغب ~~في إعلان إيمانك بالإله الواحد الذي لا إله غيره؟ # فأجبت دون تردد: أعلن إيماني بالإله الواحد يا مولاي، وأعلن ~~استعدادي للموت في سبيله. # فقال بهدوء: ستكون رئيسا للشرطة، ولكن لن يطالبك أحد بالتضحية ~~بحياتك الغالية ... # كنت على استعداد كامل لمقاتلة الكهنة أنفسهم الذين ترعرعت في أحضان ~~كلماتهم، ورضعت حبهم وتقديسهم. ومع ذلك فلم تصدر عن يدي ضربة واحدة ~~نحو أحد مذ عملت رئيسا لشرطته عدا ضربة واحدة انطلقت من يدي بلا إذن ~~منه. ويوم تسلمت الرياسة قال لي: ليكن سلاحك منذ اليوم زينة، أدب ~~الناس بالحب كما علمتك، ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب ~~... # وكنا نقبض على اللصوص فنسترد ما سلبوا، ونهيئ لهم عملا في ~~المزارع، ونلقنهم رسالة الحب والسلام. أما القتلة فيرسلون إلى ~~المناجم، وتوفر لهم أسباب الراحة والرزق، ويتلقون في أوقات الفراغ ~~دروسا في الدين الجديد. وكثيرا ما لقينا من ذلك ضروبا من الجحود ~~والغدر، ولكن حرارته لم تفتر أبدا، وكان يقول: سترون قريبا شجرة ~~الأمل مثقلة بالثمار. # كان إيمانه قويا راسخا متحديا لا يتزعزع ولا يهن؛ ذلك الملك ~~العجيب الذي شبع الهواء بالسرور في مدينة النور، وأثملت أناشيده قلوب ~~الرجال والنساء والطير. كان يومه يمضي على غير ما عهد الملوك من آبائه ~~وأجداده؛ فهو يتعبد في الخلوة، يخطب من شرفة قصره، ويلقي أناشيده في ~~المعبد، ويتجول في عربته الملكية في شوارع أخت آتون، بصحبة الملكة، بلا ~~حرس، مخالطا جموع شعبه، محطما الحواجز التقليدية بين العرش والناس، ~~داعيا في كل مكان إلى العبادة والحب، والجميع من الوزراء حتى عمال ~~النظافة يترنمون بنشيد الولاء للإله الواحد. # وذات صباح جاءني أحد معاوني وقال لي: ثمة همس بين الصفوة عن أنباء ~~سوء! # باحت الأسرار بما أضمرت من فساد الموظفين ومعاناة الفلاحين ~~وتفشي العصيان في الإمبراطورية. خرجت الحشرات من جحورها زاحفة، ~~وجرى الغدر مع مياه النيل، وأشفق قلبي مما عسى أن يتسلل إلى مولاي من ~~الكدر، غير أن الأحداث لم ms61 تزده إلا صلابة وإيمانا وثقة في النصر. ~~ولم يهن تمسكه بالحب، بل لعله قوي واشتد، وكأن الظلام لم يدلهم ~~إلا ليعده بالنور القريب. وفي تلك الأيام الكالحة تسلل مجرم من ~~صنائع الكهنة إلى خلوته ليغتاله في غبش الظلام، وكاد ينجح لولا أن ~~عاجلته بسهم في صدره. وانتبه مولاي إلى ما أريد به، فجعل يتفرس في ~~وجه المجرم وهو يلفظ أنفاسه، ووجم طويلا ثم نظر نحوي قائلا في فتور: ~~قمت بواجبك يا محو. # فهتفت منفعلا: إني فداء لمولاي. # فسألني بنفس النبرة الفاترة: أما كان في مقدورك أن تقبض عليه ~~حيا؟ # فقلت صادقا: كلا يا مولاي ... # فقال بأسى: دبر الأشرار مؤامرة لارتكاب جريمة يبغضها واهب ~~الحياة، فحيل بينهم وبينها ووقعنا نحن في الشرك. # فقلت بحرارة: بعض الشر لا يصلحه إلا السيف! # فقال ساخرا: هكذا يؤكدون ويكررون من قبل أن يوحد مينا ~~القطرين، فهل محقوا الشر؟! # فأخذته نشوة مباغتة فهتف: متى يرى البشر المشرق والمغرب في دفقة ~~نور واحدة؟! # انحدرنا من سيئ إلى أسوأ، وتكشف الرجال عن أشباح خاوية، وجرفتهم ~~رياح الخريف أوراقا صفراء جافة لا إيمان لها ولا وفاء، واعتصموا ~~بالكذب لآخر لحظة، فقرروا التخلي عنه باسم الدفاع عن حياته. وما ~~أدري إلا وحور محب يصدر لي أمرا بمغادرة المدينة على رأس جنودي. ولم ~~يكن في مقدوري مناقشته، وحتى توديع مولاي لم يسمح لي به. وذهبت إلى ~~طيبة وبي غصة ندم لم تفارقني حتى اليوم. وسرحت فيمن سرح من ~~جنوده المخلصين، فرجعت إلى قريتي كاسف البال إلى الأبد. وترامت إلينا ~~نتف من أنباء مولاي السجين في قصره، ثم أعلن خبر وفاته مريضا فلم ~~يداخلني شك في اغتياله. كيف تلاشى الحلم الجميل بهذه السرعة؟! كيف ~~تخلى عنه الإله بعد أن سكب في أذنيه صوته المقدس الواعد؟ وكيف ~~وكيف أيتها الدنيا التي لا معنى لك؟! # وسكت وهو من الحزن في غاية، فاحترمت سكوته هنيهة، ثم سألته: ترى ~~ما تصورك العام عنه؟ # فأجاب في حيرة: إنه روح العذوبة والصفاء، ولكني لا أستطيع أن أقول ~~عنه ms62 أكثر مما تقول الوقائع التي سردت ... ~~- ونفرتيتي؟ ~~- إنها الجمال والجلال. # فقلت بعد تردد: ما أكثر ما يقال عنها! # فقال بوضوح: أقول لك كرئيس للشرطة إنني لم أسجل عنها حركة سوء ~~واحدة، رغم أنني قرأت في أعين حور محب وناخت وماي نظرات جشعة ~~مضخمة بأخبث الشهوات، وعلى مدى علمي أنها لم تشجع أحدا على تجاوز ~~حدوده ... ~~- لم انفصلت عنه في رأيك؟ # فأجاب في حيرة: إنه لغز لم أستطع حله إلى الآن! ~~- يخيل إلي أنك كفرت بإله مولاك؟ # فأجاب بعبوس: لم أعد أومن بإله! # | ناخت # سليل أسرة عريقة، ربعة، ذو وجه أبيض مشرب بحمرة، رزين أكثر من ~~أي إنسان، في الأربعين أو نحوها، كان وزير إخناتون، وهو يعيش اليوم في ~~مقاطعته بإقليم دكما في وسط الدلتا. لم يشغل وظيفة في الدولة الجديدة، ~~ولكنه يدعى من حين لآخر لاستطلاع رأيه في المشكلات الكبرى. رحب بي ~~منوها بالعلاقات القديمة التي تربط بين أسرتينا، ثم مضى يدلي ~~برأيه - متجاوزا الأحداث التي باتت معروفة لدي - وهو يقول: دعني ~~أخبرك بأنني رجل غير سعيد، لم أستطع أن أضطلع بمسئوليتي كما يجب، ~~فأفلت مني الملك، وتمزقت تحت بصري الإمبراطورية. لقد اعتزلت الحياة ~~العامة، ولكن الهموم لم تعتزل قلبي. وكلما ألح علي الكدر ساءلت ~~نفسي: أي رجل كان مولاي إخناتون الذي وصف اليوم بالمارق؟ # كنت من رفقاء صباه مثل حور محب وبك، ورغم كل ما يمكن أن يقال عن ~~ضعفه وأنوثته وغرابة منظره فقد نجح في حملنا على حبه، والإعجاب بقوة ~~إدراكه ونضجه المبكر، ولكن ثمة نقطة ضعف اكتشفتها فيه قبل الآخرين، ~~وهي أن شئون الدنيا الواقعية لم تكن تهمه، وكانت تبعث في نفسه ~~الملالة والسقم. وكان يرمق بعين ساخرة حياة أبيه اليومية التي تكون ~~النواة الصلبة التي ترتكز عليها تقاليد العرش المقدسة، مثل ~~الاستيقاظ في ساعة محددة، والاستحمام، والإفطار، والصلاة، واستقبال ~~المسئولين، وزيارة المعبد. وكان يغمغم: أي عبودية! # كان يعبث بالتقاليد عبث طفل مدلل؛ لذته في التحدي وتحطيم الآنية ~~الثمينة، ومن ناحية أخرى كان يطمح إلى معرفة سر ms63 الكون، والسيطرة على ~~الحياة والموت. وتضاعف إصراره على ذلك بعد وفاة أخيه الأكبر تحتمس. لقد ~~انكسر قلبه أمام الموت، ولكنه صمم على أن يرد الضربة بلا هوادة. ~~وكان ذا خيال وثاب، وكان خياله من القوة بحيث وقع في النهاية أسيرا ~~له وهو لا يدري. ونحن أيضا كان لنا خيال، ولكنا كنا على وعي بأنه ~~خيال، أما هو فكان خياله يتجسد له حقيقة واقعة؛ من أجل ذلك ظن به ~~الجنون أو العته. كلا، لم يكن مجنونا ولا معتوها، ولكنه لم يكن ~~طبيعيا أيضا. كان على حداثته مبعث قلق لوالديه وللكهنة، ومصدر ~~حيرة لنا نحن أصدقاءه المقربين. يشك في آمون سيد الآلهة، ويعبد ~~آتون، ثم يسر إلينا باهتدائه إلى الإله الواحد الذي لا إله غيره. لم ~~أشك في صدقه، كما لم أشك في خطئه. كان صادقا؛ لأنه لم يكذب قط، ~~ولكنه لم يسمع صوت إله، وكان المتكلم قلبه هو. وما من بأس في أن يزعم ~~ذلك كاهن من الكهنة، أما أن يكون الزاعم وليا لعهد أمنحتب الثالث ~~فالأمر يختلف. ولم يصمت ذلك الصوت الخفي، ولكنه راح يبدع للناس رسالة ~~في الحب والسلام والسرور، ويضمر للآلهة والمعابد وإمبراطوريتنا ~~الفناء، وإذا بالشاعر يصير ملكا، وإذا بالحلم يتجاهل الحقيقة ويحل ~~محلها، فتختل الموازين وتقع المأساة. ودعانا عقب جلوسه على العرش، ~~وعرض علينا دينه الجديد! كان من رأيي الرفض، وقلت لحور محب: قد يعدل عن ~~غيه إذا وجد نفسه وحيدا. # فقال لي: سيجد غيرنا ممن لا خلاق لهم ولا خبرة، فيجرون البلاد إلى ~~الخراب. # فسألته: أليس من المحتمل أن يقع ذلك بأيدينا؟ # فابتسم ساخرا وقال: إنه أضعف من أن يستهين برأينا! # وهز منكبيه وتمتم: إنه يملك الكلمات ونحن نملك القوة ... # من أجل ذلك أعلنت إيماني بدينه بين يديه. واختارني وزيرا، فتلاشت ~~مخاوفي أو كادت. وكنت ألقاه كل يوم سواء في طيبة أو في أخت آتون، ~~فأعرض أمور الإدارة والمال والمياه والأمن، فيلوذ بالصمت تاركا الرأي ~~والتوجيه للملكة التي أثبتت جدارة فاقت كل تصور، أما هو فلم ms64 يتحدث ~~إلا عن إلهه ورسالته، وما يتعلق بذلك من توجيهات وقرارات. وواجهت أول ~~تحد عندما أراد أن يعلن موقفه من الآلهة، وحذرته من العواقب، وإذا ~~به يقول لي كالمعاتب: يا ضعيف الإيمان! # ومضى بي إلى الشرفة فأطل على الجموع المحتشدة، وكانت له قوة ~~السحر في نفوسهم، فأعلن قراره بقوة مخيفة، وارتفع هتاف الجماهير إلى ~~السماء، وشعرت بأنني أصبحت لا شيء، وأن ذاك البناء المتهافت يتفجر ~~عن قوة مجهولة لا قبل لنا بها. ورغم حكمة نفرتيتي كانت تسلم له في ~~رسالته، وتتحمس لها كأنها هي صاحبة الرسالة. والحق أن ذلك أدهشني حتى ~~قلت لنفسي: هذه المرأة إما أن تكون شريكته الروحية أو تكون أكبر ماكرة ~~عرفتها البشرية! وفي تقديري أنه مما أكد له النجاح أنه لم يتصد ~~لمعارضته سواي؛ فحور محب لم يتكلم إلا عندما بلغت الأزمة ذروتها، وأما ~~آي المستشار فقد شجعه طيلة الوقت متظاهرا بالحماس والورع والتفاني ~~في حب الإله الجديد. ودعني أصارحك بأنني أتهم ذلك الرجل بالمكر وسوء ~~الطوية، إنه رسم خطة ليثب إلى عرش مصر، وإليك تصوري كاملا. لقد ~~اختير معلما لولي العهد، فوقف على نقاط ضعفه جميعا. هو الذي ~~وجهه إلى ديانة آتون، وهو الذي بث في روحه فكرة الإله الواحد، وأنه ~~صاحب رسالته، وهو الذي دبر زواجه من ابنته رغم علمه بعجزه، وأقنعها ~~بالتظاهر بالإيمان الجديد؛ بذلك صار حما الملك ومستشاره المعروف في مصر ~~بالحكيم. وزين له مصادرة الآلهة ليوقع بينه وبين الكهنة والشعب، ~~فينتهي الصراع بعزله أو قتله إن لم يمت قبل ذلك لضعفه الطبيعي. ولم ~~تكن تخفى عنه الأسباب التي ترشحه للعرش؛ فهو حمو الملك، وهو الحكيم، ~~وهو أيضا طاعن في السن لا ييئس الطامعون في العرش من انتظار أجله ~~ليحلوا محله. ولعله رسم أيضا أن يتزوج من ابنته نفرتيتي فيدعم ~~شرعيته وتستمر هي ملكة لمصر. ورأيي هذا لا يستند إلى تصوري وحده، ~~ولكن لما وافاني به بعض العيون، ولكن أفشل خطته ولاء الشعب للملك ~~أولا، ثم تولية الكهنة لتوت عنخ آمون عند ms65 ذروة الأزمة، ولكني أعتقد ~~أنه ما زال يجتر حلمه القديم. # ولم أستطع أن أبوح برأيي لأحد، ولكنني ثابرت على تقديم نصحي للملك. ~~قلت له: لا شك أن إلهك هو الإله الحق، ولكن دع الناس إلى آلهتهم، شيد ~~له في كل إقليم معبدا، وسيكون له النصر الأخير، ولكن جنب البلاد شر ~~الفتن! # ولكن كان أسهل علي أن أزحزح الهرم عن موقعه عن أن أزحزح إخناتون ~~عن قراره، وما زاد عن أن قال لي: يا ضعيف الإيمان! # وقمت بالمحاولة نفسها لإنقاذ البلاد من الفساد، والإمبراطورية من ~~الضياع، قلت له: الدفاع عن النفس حق، ولا يتناقض مع الحب ~~والسلام. # فقال لي بحماسه العجيب: حتى الحيثيون أنفسهم سيخشعون لسحر الحب، ~~الحب أقوى من السيف والكبرياء! # ولما تراكمت سحب الظلام اجتمعت سرا بكاهن آمون وقائد الدفاع ماي، ~~وقلت لهما: لا بد من الإقدام على عمل، وإلا فقدنا الجدارة ~~والشرف. # فنظرا إلي مستطلعين، فقلت: فليكف الكهنة عن إثارة القلاقل في ~~الداخل، وليزحف ماي بجيش الدفاع لإنقاذ الإمبراطورية. # فتساءل ماي: أزحف بلا أمر من فرعون؟ # فقلت بهدوء: بلى ... # فتساءل الكاهن وكان أقوى ثلاثتنا: وبعد؟ # فقلت: حينما يتم النصر لماي يطالب الملك بإطلاق حرية ~~الأديان. # وإذا بالكاهن يقول لي: خطة غير حكيمة؛ فقد يتمرد قواد الجيش على ~~ماي إذا أمرهم بالزحف دون أمر فرعوني ... # ثم قطب حتى احتنق الدم بوجهه وقال لي: إنك تعمل لحساب مولاك يا نخت ~~لا لحسابنا، فلا شك أنه بلغك نجاحنا في بث دعوتنا في الأقاليم، ~~فقررت أن تحرمنا من جنودنا الموالين لنا ... # تلقيت الطعنة في غضب وغادرتهما موقنا بأن أحدا لا يشغل بإله ~~إلا بمصلحته الذاتية، وأن مصر ضائعة بين أوغاد، وأن تبعة خرابها تقع ~~على الجميع ما بين موالين للملك والمعارضين له لا على إخناتون وحده، ~~بل لعله أنقى المذنبين ضميرا وأصفاهم نية. لقد لعب به الدهاة، ~~ورسموا له خطة ماكرة ليحققوا في رحابه جشعهم، ثم ليرثوا ملكه عقب ~~السقوط الحتمي، ولكنه صدق كذبتهم وآمن بها، وتفجرت من إيمانه قوة ~~لم يعمل ms66 أحد حسابها، فاجتاحتهم فترة من الزمن، وغزت القلوب بسحر ~~عجيب، حتى ارتطمت بصخرة الواقع الحادة القاسية، فانجلت عن مأساة ~~وخراب ودموع، ثم لاذ الانتهازيون الجشعون بقارب النجاة في آخر لحظة، ~~تاركين ضحيتهم الأعجوبة يغرق وحده وهو لا يصدق أن إلهه المزعوم قد ~~تخلى عنه حقا. ومزق الجميع أقنعتهم، وعلى رأسهم آي ونفرتيتي، ~~واختلفت مصائرهم، ولكن لم ينل أحدهم جزاءه الحق، باستثناء المارق ~~المسكين، ولدرجة ما نفرتيتي التي لم يقبل الكهنة توبتها الزائفة، أما ~~مصر فقد تحملت أخطاء الجميع، وتعددت في جسدها الجراح ... # وصمت الوزير طويلا ثم تمتم في أسى عميق: هذه هي قصة الخداع ~~والبراءة والحزن الأبدي ... # | بنتو # كان طبيب إخناتون الخاص، وما زال يشغل نفس الوظيفة في قصر توت عنخ ~~آمون، في الستين من عمره، نبيل المظهر، وينبض به عرق نوبي. وقد زرته ~~في قصره الأنيق في وسط طيبة، وجدته هادئ الطبع، خافت الصوت، جم ~~النشاط، متأنقا في ملبسه. مضى يتكلم في استسلام لتيار الذكريات ~~قائلا: مهما قيل عن إخناتون الذي يعرف اليوم بالمارق فإن ذكراه ~~تدفئ القلب بالحب، وتتحدى الذاكرة بعجائبها، هل حقا عاش ذلك الرجل ~~بيننا؟ ... هل حقا كرس حياته للحب؟ وهل حقا خلف وراءه هذه ~~العواصف من الحقد والكراهية؟ وكلما تذكرته تذكرت معه القلق الذي ~~أثاره في قلوب القريبين منه والبعيدين منذ صباه المبكر. كانت الملكة ~~العظمة تيى تسألني: ما سر ضعفه يا بنتو؟ # شد ما حيرني ذلك السؤال! لم يكن به مرض، ولكنه كان نحيلا ~~هزيلا شاحب اللون، لا يمكن أن يصمد لمرض أو حادث، بخلاف شقيقه تحتمس ~~القوي الجميل، ولم يحب الألعاب الرياضية ولا الطعام الجيد. وكنت ~~أصلي إلى تحوت إله العلم وأقول له: «تعال إلي أرشدني؛ فإني خادم ~~في دارك.» ولم ينفع معه عصير الأعشاب المباركة برقية إيزيس، ولا ~~تمائم تحوت كاتب رسائل الآلهة. وبلغ الخوف غايته عندما مسه المرض في ~~الخماسين، وجر معه أخاه تحتمس فرقدا في حجرة واحدة. وقالت لي الملكة ~~تيى: بهما إمساك، وانظر في صفرة وجهيهما ... # ففحصتهما وقلت: بالقلب ms67 حرارة، وفي البطن انتفاخ، لا بد من شراب ~~يفرغ الأمعاء، ثم انقعوا جعة حلوة مع دقيق جاف لمدة ليلة واحدة ~~ليأكلا منه أربعة أيام. # قبل أن تنتهي الأيام مات تحتمس القوي، ونجا الضعيف من كل سوء. ودار ~~الصبي في جميع أنحاء القصر يبحث عن شقيقه وقلبه يتقطع من الحزن. وكلما ~~رآني رماني بنظرة احتجاج ويقول: تركت أخي للموت! # ونظر إلى أبيه وقال معاتبا: عندما أصير فرعون سأقتل الموت! # وسألني يوما بحرارة: ألا يمكن أن يرجع تحتمس يوما واحدا؟! # فقلت له: صل للآلهة التي أنقذت روحك، أما الموت فلا رجعة منه، ~~وكلنا سنموت. فسألني بحدة: لماذا؟ # فقلت له ملاطفا: ردد الأغنية التي كنت تترنم بها مع أخيك ~~الراحل: # أولئك الذين يتحدث الناس بكلامهم، # أين ديارهم الآن؟ # كأنها لم تكن. # افرح حتى تنسى قلبك؛ # فإن أوزوريس لا يسمع العويل، # ولا ينقذ الصراخ إنسانا من عالم الأموات. # وصاحبه الحزن زمنا طويلا حتى خيل إلي أنه فاق ~~أمه في حزنه على أخيه. ومرة وأنا أتعهده بالرعاية الطبية سألني: لم ~~هذا الجهد كله طالما أننا كلنا سنموت؟ # فابتسمت وواصلت عملي، فرجع يسأل: لم تبتسم كأنك لن تموت؟ # فقلت له متهربا من مطاردته: سل معلمك آي. # فقال باستهانة: إنه لا يعرف أكثر مما تعرف. # وكان نضج حديثه مع هزاله وحداثته مما يهز النفس من أعماقها. وقد ~~تابعت مغامراته الروحية بنظر ثاقب مسربل بالإعجاب الذي لا حد له، ~~وقلت لنفسي إن هذا الغلام ذو موهبة غامضة خارقة تستعصي على الإدراك، ~~مثير للقلاقل، متحدية للقوى المتربصة به، فماذا يخبئ له الغيب إذا ~~جلس يوما على عرش أجداده؟ وكان نشاطه - مع ضعفه - مما يبعث على ~~الذهول. كان ينام قليلا، يتعبد كثيرا كأنه كاهن، ويقرأ كثيرا كأنه ~~حكيم، ولا يمل من طرح الأسئلة والنقاش. وضاق به الملك أبوه، فقال ~~بمرارة: أثبت أنه جدير بأي كرسي إلا كرسي العرش! # ويوما لاحظت أنه يسترق من أبيه نظرة لم أرتح لها، فقلت له: إنك ~~تدرك كثيرا من الأشياء، ولكنك لم تدرك عظمة أبيك ms68 بعد. # فقال بعصبية: ساءني منظره وهو يلتهم الطعام. # كان ينفر من أصحاب الشهوات المسيطرة. وكنت أتصور أن سلامة الجسم ~~هي أساس لسلامة الروح، فأثبت لي أن العكس صحيح أيضا، وأن قوة الروح قد ~~تمد الجسم الضعيف بقوة تفوق إمكاناته. ولا أنسى قوله لي مداعبا: ~~إنك تهتم بالجسم كأنه كل شيء بينا القوة الحقيقية تكمن في الروح، هي ~~الخالدة أما الجسم فهو بناء مهلهل قذر سيئ الأخلاق، سرعان ما ~~يتقوض عقب قرصة حشرة! # وهتف وكأنه نسي وجودي تماما: لا أدري ماذا أريد، ولكني مليء ~~بالرغبة، ألا ما أحزن الليل الطويل! # وكان يقبع في الظلمة منتظرا الشروق، ثم يتلقى النور فيتألق ~~بالفرح، حتى تلقى يوما مع دفقة النور صوت الإله الواحد، وعصف الرعب ~~بقلب طيبة المطمئن. وقلت لنفسي: إنه ليس نسمة من نسائم الربيع، ولكنه ~~عاصفة من عواصف الشتاء! # واستدعاني الملك والملكة، وسألتني تيى: ما معنى هذا الصوت يا ~~بنتو؟ # فقلت بحيرة: لعل آي الحكيم أقدر على الإجابة مني يا مولاتي. # فقال الملك بضجر: إنها تسألك كطبيب. # فقلت بإخلاص: لا أعرف عقلا أنضج من عقله يا مولاي. # فسألني بحدة: أهو يعبث بنا؟ # فقلت بإخلاص: إنه صادق وأمين. ~~- يبدو أنك لا تملك تفسيرا لذلك. ~~- هذا حق يا مولاي. # فسألني مقطبا: أأنت مؤمن بسلامة عقله؟ ~~- أجل يا مولاي. ~~- ألا يحتمل أن يصدر صوت عن قوة شريرة؟ # فقلت بصدق: العبرة بما يدعو إليه. # فهتف غاضبا: العبرة بما سيرسل علينا من زوابع. # وجاء زواجه من نفرتيتي مبشرا بآمال كثيرة، فأمل والداه كما ~~أملنا نحن أن الزواج سيعقل من اندفاعه ويرده إلى الاتزان والرؤية ~~العملية، ولكن الزوجة كانت كاهنة، فانطلقا في طريقهما حتى نهايته لا ~~توقفهما قوة فوق الأرض. ومات أمنحتب الثالث وخلفه صاحب الرسالة، وشعر ~~الجميع بدنو المعركة، وتوترت الأعصاب لأقصى حد. ودعاني الملك فيمن ~~دعا من رجاله، وخيرني بين الإيمان بدينه وبين ممارستي لحياتي كيفما ~~أشاء بعيدا عن بلاطه، ولم أتردد في الاختيار، فأعلنت بين يديه ~~إيماني بالإله الواحد. لم يكن في وسعي الانفصال عنه ms69 أو الاستهانة ~~بجاذبيته الفائقة، كما أنني أحببت إلهه واعتبرته فيما بيني وبين نفسي ~~كبير الآلهة مع حفاظي على إيماني القديم بسائر الآلهة، خاصة تحوت إله ~~العلم الذي أداوي المرض بتمائمه وتعاويذه. وتعاقبت الأحداث كما عرفت، ~~ومضى الرجال يشيدون للإله الجديد مدينته، وانتقلنا إليها في جمع زاخر ~~ونحن نردد الأناشيد، واستخف الفرح الملك فهتف ووجهه يطفح بالبشر: ~~ها نحن ضيوفك يا إلهي في مدينتك الطاهرة التي لم تلوث بعبادة إله ~~زائف ... # واستقبلنا عهدا سعيدا تمنينا معه الخلود على الأرض، وجعلت أقارن ~~كل صباح بين ما يلقى علينا في المعبد وبين طقوس الآلهة القديمة وأشعار ~~كتاب الموتى، فلم يخامرني شك في أن دفقات من نور صاف تملأ أرواحنا ~~بخمر إلهية صافية. # وعرض لنا أول عارض من كدر بوفاة الأميرة المحبوبة ميكيتاتون، وقد ~~توسل إلي قائلا: بنتو، أنقذ محبوبة قلبي. # ولما لفظت الجميلة أنفاسها أجهش في البكاء كما نفرتيتي وأكثر، وعاتب ~~إلهه عتابا تجاوز حد الصبر، حتى قال مري رع الكاهن الأكبر: لا تغضب ~~الإله بدموعك يا مولاي. # فانفجر مولولا، من الحزن أو الندم أو كليهما معا. وهتفت نفرتيتي: ~~ما هو إلا سحر كهنة آمون! # وكانت تردد ذلك القول كلما أنجبت بنتا، وضاعت فرصة جديدة لإنجاب ~~ولي العهد. وكان هو يشاركها الألم، ويحزن لحزنها، فسألني مرة: أليس ~~لديك من نصيحة تجدي لإنجاب ذكر؟ # فقلت له: أبذل جهدي يا مولاي. # فسألني: أتؤمن بسحر الكهنة؟ # فقلت كارها: لا يجوز الاستهانة به. # فتفكر مليا ثم قال لي واجما: لينتصرن الإله الواحد، ويملأن ~~الكون بأفراحه، ولكننا نحن البشر لن نخلو من أحزاننا الصغيرة. # لذلك كان سرعان ما يعبر جسر الحزن لينغمس في نور الحقيقة. ولما ~~تتابعت كربات الأزمات في الداخل والخارج، أرسل إلي كاهن آمون الأكبر ~~رسولا سريا، ذكرني بعهد طلبي العلم في معبد آمون، ثم طرح علي ~~هذا السؤال: أيمكن الركون إليك لإنقاذ الوطن من الخراب الذي ~~يتهدده؟ # فأدركت من توي أنه يطالبني كطبيب باغتيال الملك؛ ولذلك قلت له ~~بنبرة حاسمة: مهنتي تأبى الخيانة. # اجتمعت بمحو ms70 رئيس الشرطة، وطلبت منه مزيدا من مراقبة الطهاة، هذا ~~والأمور تمضي من سيئ إلى أسوأ. # وسكت الطبيب بنتو وقتا ينشد شيئا من الراحة في خضم الذكريات ~~المرهقة، فتذكرت ما سمعت من أقوال متضاربة عن حياة إخناتون ~~الجنسية، ورجحت ألا يعرض الرجل لها، فسألته عنها مدفوعا بحب استطلاع ~~لا يقاوم. وعند ذاك قال: كان جسمه يجمع بين خواص الذكر والأنثى، كذلك ~~قسمات وجهه، ولكنه كان رجلا قادرا على الحب والإنجاب. # ارتعشت شفتاي بسؤال مضطرم، وترددت طويلا، ثم استجمعت شجاعتي ~~وسألته: هل ترامى إليك ما قيل عن علاقته بأمه؟ # فتجهم وجهه وأجاب: وسمعت مثلما سمعت أنت، ولكني أعتقد أنه محض ~~افتراء! وتريث ووجهه يزداد تجهما ثم قال: المسألة أنه كان ~~إنسانا فاق سموه أي إنسان، يبشر بمملكة إلهية لا تتوافق مع طبيعة ~~البشر، فأشعر كل فرد بتفاهته، وتحداه باستفزاز لا قبل له به، ~~فانهالوا عليه بالغضب البائس والحقد الحيواني ... # فسألته متشجعا بسماحته: وما رأيك في نفرتيتي؟ ~~- ملكة عظمى بكل جدارة. ~~- وكيف تفسر انفصالها عنه؟ ~~- لدي تفسير واحد، هي أنها لم تصمد للضربات المنهالة فأصيبت ~~بانهيار، فهربت بمرضها مغلوبة على أمرها. # ثم واصل حديثه قائلا: وبلغت المأساة ختامها الأسود بصدور قرار ~~التخلي عنه، وقد استأذنت حور محب في السماح لي بالبقاء إلى جانبه ~~بوصفي طبيبه الخاص، فأخبرني بأن الكهنة قرروا إرسال طبيب من لدنهم! ~~ولكنه سمح لي بفحصه إذا شئت قبل الرحيل. وذهبت من فوري إلى القصر الذي ~~لم يبق به إلا نفر من العبيد، ومجموعة للحراسة اختارها أعداؤه. وجدته ~~في خلوته وحيدا وكان يصلي، مغردا بصوته الحنون: # إنك جميل، إنك عظيم. # بك يفرح قلب الإنسان، # وتخضر الأشجار والأعشاب، # وترفرف الطيور، # وتقفز الحملان. # خلقت ملايين الأشبال. # إنك في قلبي، # وليس هناك من يعرفك # غير ابنك إخناتون. # ولما فرغ من صلاته نظر نحوي باسما، فغضضت بصري دامع ~~العينين. سألني: كيف تيسر لك أن تجيء يا بنتو؟ # فقلت بصوت متهدج: سمح لي بأن أفحص مولاي قبل الرحيل. # فقال في هدوء: إني في خير حال يا ms71 بنتو. # فقلت بأسى: جميع الأوفياء أكرهوا على الذهاب. # فقال باسما: أعرف من ذهب باختياره ومن ذهب على رغمه. # فانحنيت حتى لثمت يده وأنا أقول: يعز علي أن تبقى وحدك. # فقال بهدوء: لست وحدي يا ضعيف الإيمان. # ثم بقوة منعشة: يتصورون أن الهزيمة حلت بي وبإلهي، ولكن إلهي ~~لا يخون ولا يقبل الهزيمة. # وغادرته متورم العينين من البكاء وأنا على يقين من أن الطبيب ~~المنتدب ليحل محلي سيزهق باغتياله أنبل روح حلت بجسد بشري. ~~وغصت في وحدة لم أخرج من وحشتها حتى الساعة ... # | نفرتيتي # سمح لي بدخول أخت آتون بإذن خاص من القائد حور محب. مراكز الحراسة ~~المتقاربة تمتد بطول شاطئها على النيل. اخترقت نصف المدينة الشمالي ~~ما بين المرسى وحتى قصر الملكة السجينة، يتقدمني جندي من جنود ~~الحراسة. وطيلة مسيرتي تلقيت من الذكريات تيارا مفعما بالزبد ~~واللآلئ، متلاطما بين العبر والدهشة، تحلق فوقه غربان الفناء. ~~اختفت أرض الشوارع العملاقة تحت ركام الأتربة، ونثار أوراق الأشجار ~~الجافة، وخليط من الأخشاب التي نزعتها العواصف من النوافذ والأبواب. ~~البوابات الكبيرة مغلقة كالجفون المسدلة على أعين باكية، ~~وجفت الحدائق فتلاشت خضرتها وألوانها، ولم يبق منها إلا جذوع ~~خشنة ضامرة كالجثث المحنطة وجواسق متداعية وأسوار منهارة، يخيم ~~فوقها صمت ثقيل مكتوم الزفرات، وفي الوسط مجموعة هائلة من الأنقاض هي ~~ما تخلف عن معبد الإله الواحد المتهدم الذي تجاوبت في أركانه أعذب ~~الألحان المقدسة. اخترقت الكآبة والوحشة والخوف تطل من أعينها ~~نظرات الحقد والانتقام، ويطبعها بطابعه الموت بملامحه الرهيبة الأبدية. ~~كان الوقت عصرا ونحن نقبل على قصر الملكة في أقصى الشمال، وقد ~~تبدى شامخا بأبعاده، مضيئا بحديقته الغناء، حزينا بنوافذه ~~المغلقة عدا نافذة واحدة خفق لمرآها قلبي. وكان الخريف يتوسط ~~عمره، والفيضان محتفظا بفيض من فتوته، والماء ضاربا إلى الاحمرار ~~الداكن، فامتلأت منه بحيرة القصر الصناعية. خفق قلبي وأنا أقترب من ~~ختام رحلتي، وكأنني لم أقم بمغامرتي المثيرة إلا من أجل لقاء هذه ~~السيدة الوحيدة. # ووجدتني في حجرة صغيرة أنيقة، زخرفت جدرانها بالكلمات المقدسة، ~~في صدرها ms72 كرسي من الآبنوس يقوم على أربعة أسود من الذهب، وبين يديه ~~يقع كرسي من الآبنوس ذو مقبضين من الذهب الخالص. وجاد الزمان بالرؤية، ~~فرأيت السيدة العجيبة مقبلة في ثوب أبيض فضفاض، رشيقة جميلة ~~عظيمة، لا ينحني ظهرها تحت وطأة أربعين عاما مثقلة بالمحن وسوء ~~المآل. جلست وأشارت إلي بالجلوس، وطالعتني بعينين ساجيتين تنداح في ~~جمالهما الملالة. بدأت بالثناء على أبي ثم سألتني بمرارة: كيف وجدت ~~مدينة النور؟ # فغضضت بصري المفتون بجمالها ولذت بالصمت، فأنشأت تقول: لقد سمعت ~~الكثير عنه وعني، فاستمع الآن إلى صوت الحقيقة ... شببت وترعرعت مليئة ~~بحب الحقيقة والدنيا، منتفعة بحكمة أبي آي. لم أشعر بفقد أمي في عامي ~~الأول لما وجدته عند تي من حنان قلب كبير، فكانت لي أما لا زوجة أب، ~~ووهبتني طفولة سعيدة. ولم تتبدل عواطفها بمولد أختي موت نجمت بفضل ~~حكمتها، ونشأنا أختين متحابتين، وإن جنى علي تفوقي بعد ذلك ما ~~يجني من إثارة للغيرة والحسد، وإن لم يستفحل ذلك بيننا إلا فيما بعد. ~~وظلت تي على حنانها لا تفرق بيننا، على الأقل في الظاهر، فشكرت لها ~~ذلك، وكافأتها عليه في حينه فاخترتها مربية للملكة، وأنزلتها بمنزلة ~~الأميرات. وذات يوم جاءنا أبي برجل مبارك ممن يقرءون الغيب، فنظر ~~في طالع الأختين، وقال: هاتان البنتان ستجلسان على عرش مصر. # فدهش أبي وسأله: الاثنتان؟! # فأجابه بيقين على مسمع منا: الاثنتان. # وتحيرنا طويلا بين الإيمان بالرجل وغرابة نبوءته، حتى قلت ضاحكة: ~~قد تجلس إحدانا ثم تخلفها الأخرى. # ولم ترتح تي إلى ما يشير إليه قولي من معنى، فقالت بحزم: لننس ~~هذه النبوءة وندع المصير للآلهة! # وصممنا على نسيانها، ولكنها كانت تلوح في أفق الخيال بين الحين ~~والحين، حتى جاءت الحوادث ففجرتها تفجيرا. وسمعت عن إخناتون أول ما ~~سمعت عن طريق أبي بعد أن اختير معلما له. كان ينوه في مجالسنا ~~العائلية بعقله ونضجه المبكر. ومرة قال عنه: يا له من شخص مثير، ~~إنه ينتقد الآلهة والكهنة، ولم يعد يؤمن إلا بآتون! وبخلاف أمي وأختي ~~وجدت صدى ms73 لما يقول في نفسي؛ إذ كنت أعشق آتون أيضا، وأعجب بمجاله ~~الشامل للسماء والأرض على حين تقبع الآلهة في ظلام المعابد؛ لذلك قلت ~~ببراءة: معه الحق كل الحق يا أبي. # فأسخط قولي أمي وأختي، أما أبي فقال باسما: نحن نعدك لتكوني ~~زوجة لا كاهنة. # لكنني خلقت لأكون كاهنة مع حبي للأمومة والمجد الدنيوي! ولما نقل ~~إلينا أبي أول نبأ عن الإله الجديد، الواحد الذي لا إله غيره، زلزلنا ~~بعنف، وثارت العواطف لأقصى حد، وتعرض ولي العهد لقارص الكلمات. ~~وسألته أمي: ما رأي الملك والملكة؟ # فقال آي واجما: ثمة أزمة في القصر لم يشهد لها مثيلا من ~~قبل. # وقالت أمي بإشفاق: أخشى أن يوجه إليك لوم بوصفك معلمه. # فقال بأسى: لكنهما أدرى بابنهما، وبأنه لا ينساق وراء أحد مهما جل ~~شأنه. # فقالت موت نجمت: إنه مجنون، وسيفقد عرشه، أليس للعرش وريث ~~آخر؟ # فقال أبي: ليس له سوى أخت كبرى عليلة ... # وفي أثناء الحوار كنت أموج بعواطف عنيفة حتى خفت أن يغمى علي. ~~تمثل لي ولي العهد أسطورة ذات جاذبية لا تقاوم، لكنني ترددت ~~عن اتخاذ قرار، ووقعت في العذاب. وذات مساء سمعت خفية أبي وهو يتلو ~~وحده نشيدا من أناشيد الأمير: # إنك جميل، إنك عظيم. # بك يفرح قلب الإنسان، # وتخضر الأشجار والأعشاب، # وترفرف الطيور، # وتقفز الحملان. # فحفظته وأنا في نشوة مسكرة، ورحت أردده وقلبي ~~يتفتح له ويمتلئ برحيقه. انجذبت إليه انجذاب الفراشة إلى النور، ~~وتقرر مصيري بأن أكون الفراشة التي تنجذب إلى النور حتى يهلكها. ~~وغزاني الإيمان بقوة ولطف في موكب مغرد بالأهازيج، واهبا الطمأنينة ~~والسلام. وهمست: يا إلهي الواحد، إني مؤمنة بك، إلى الأبد. # وأظهرت نفسي لأبي وأخذت أردد النشيد، فرمقني مقطبا وهو يتساءل: ~~تسترقين السمع؟ # فتجاوزت عتابه وسألته: ما رأيك يا أبي في الصوت الذي سمعه؟ # فأجاب ببرود: لا أدري. # فسألته بجرأة: أيحتمل أن يكون كاذبا؟ # فصمت مليا ثم قال: إنه لا يكذب أبدا. ~~- إذن فهو صوت حقيقي! # فبدا مترددا ومشفقا، ولكنه قال: ربما كان حلما ما سمع! # فقلت ms74 بنبرة تسليم واعتراف: أبي، إني مؤمنة بالإله الواحد! # فتغير لونه وهتف: حذار يا نفرتيتي، احتفظي بسرك في قلبك حتى ~~أقتلعه منه! # ودعينا كما تعلم للمشاركة في حفل عيد الجلوس. وقالت لنا تي: يجب أن ~~يراكما أنبل شباب مصر وأنتما في أجمل زينة. # غير أنني كنت متلهفة على رؤية شخص واحد؛ ذلك الذي هداني إلى نور ~~الحقيقة. وفي البهو العظيم رأيت أفرادا قدر لي أن أخوض معهم بحر ~~الحياة بحلوه ومره، مثل حور محب وناخت وبك وماي وغيرهم، ولكن قلبي ~~لم ير في الواقع إلا مولاي. وأعترف لك بأن منظره صدمني صدمة غير ~~متوقعة. تصورته تمثالا من نور، ولكني وجدته نحيلا متهافتا ~~مخيبا للأحلام. وأفقت من هزيمتي العابرة بسرعة، تجاوزت المنظر ~~المثير للرثاء إلى الروح الكامنة فيه، التي اختصها الإله بحبه ~~ورسالته، وأعلنت لها فيما بيني وبين نفسي الولاء إلى الأبد. كان يجلس ~~إلى يمين أبيه يتابع الرقص والغناء بعين فاترة. ولم تتحول عنه عيناي، ~~ولعل كثيرين لاحظوا ذلك وفسروه بحسب أهوائهم، ثم أعادوا تفسيره على ~~ضوء الحوادث التالية. ولن أنسى ما قالته لي موت نجمت فيما بعد وهي ~~تعاني لدغة الغيرة: لقد حددت لك هدفا ونلته! # وتمنيت أن ينظر نحوي. وقد فعل. ألقى إلينا نظرة عابرة، فالتقت ~~عينانا لأول مرة. وهم بأن يمضي بنظرته الملولة، ولكنه توقف فيما ~~يشبه الدهشة. وكأنه بهر، أو تساءل عمن تكون تلك الفتاة التي تحدق ~~فيه بنهم. وحانت مني التفاتة إلى الملكة العظمى تيى، فوجدتها تنظر نحوي ~~كذلك، فاضطرب فؤادي أيما اضطراب، وحلقت أحلامي في آفاق بعيدة، ~~ولكنها لم تقترب في هيمانها من الواقع الذي جاءت به الأحداث. ورجعنا ~~إلى قصرنا وصدورنا تجيش بآمال غامضة، وموت نجمت غارقة في كآبتها. ~~ولما خلت إلي في غرفتي قالت بانفعال: توكد ظني! # فسألتها عما تعني، فقالت: إنه مريض ومجنون! # فعرفت بالبداهة من تعني، فقلت: لقد رأيت مظهره، ولكنك لم تخبري ~~قلبه. # وقال لنا أبي في اليوم التالي: الملكة تيى دعت نفرتيتي ~~لمقابلتها. # وهز الخبر الأسرة هزة عنيفة، وتبادلنا ms75 نظرات متسائلة. أما أبي ~~فقال: لا شك أن وراء ذلك شيئا من الرضا أو الإعجاب ... # وقالت تي بمباهاة: أتنبأ بأنها ستضمك إلى حاشيتها ~~الخاصة. # وذهبت برفقة أبي. وقادوني إلى استراحة الملكة المطلة على الحديقة ~~الداخلية. سجدت بين يديها، ثم أذنت لي بالجلوس على أريكة إلى يمين ~~مجلسها. وجعلت تتفحصني غير عابئة بحساسيتي، ثم سألتني: اسمك ~~نفرتيتي؟ # فأجبت بإحناءة من رأسي، فقالت بلطف: اسم على مسمى! # فشعرت بالفرح يشتعل في وجنتي. ~~- ما عمرك؟ ~~- ستة عشر عاما. ~~- تبدين أنضج من ذلك! # ثم فيما يشبه الدعابة: لماذا دعوتك في ظنك؟ # فألهمت أن أجيب: لخبر هو فوق ما أستحق. # فابتسمت قائلة: إجابة حسنة، ماذا حصلت من العلم؟ ~~- القراءة والكتابة والحساب والشعر والتاريخ والدين، بالإضافة إلى ~~الثقافة المنزلية. ~~- وما رأيك في مصر؟ ~~- سيدة الدنيا، وملكها ملك الملوك. # وباهتمام سألت: من إلهك المفضل؟ # فقلت مضطرة إلى إخفاء الحقيقة: آتون يا مولاتي. ~~- وآمون؟ ~~- هو مشيد الإمبراطورية، أما آتون فهو الذي يطوف بها كل يوم! ~~- لا سلطان على ما ينبض به القلب، ولكن يجب الإقرار بأن آمون هو كبير ~~الآلهة. # فقلت بتسليم: هو كذلك يا مولاتي. ~~- بصراحة، هل ذاق قلبك الحب؟ # فقلت دون تردد: كلا يا مولاتي. ~~- ألم يتقدم أحد لخطبتك؟ ~~- كثيرون، ولكن أبي لم يجد في أيهم الكفاءة. # وتفرست في وجهي مليا ثم سألتني: ما شعورك بصراحة عما يقال عن ~~انحراف ولي العهد عن آمون؟ # ولأول مرة تجمد لساني فلم أنبس، فقالت بنبرة ملكة: أجيبيني ~~بصراحة! # فأسعفني دهائي فقلت: مهما يكن من أمر قلبه فيجب المحافظة على ~~التقاليد المرعية بين العرش والكهنة. # فابتسمت في ارتياح وقالت: إجابة حسنة. # ثم اعتدلت فيما يشبه الدلال وسألت: حدثيني عن فتى أحلامك، كيف ~~تودين أن يكون؟ # فتريثت في ارتباك ثم تمتمت: أن تكون له قوة المحارب وروح ~~الكاهن. # فقالت ضاحكة: إنك طموحة جدا. من تفضلين إذا خيرت؟ ~~- أفضل صاحب الروح. ~~- حقا؟ ~~- أجل يا مولاتي. ~~- لست كغيرك من البنات. ~~- لا دنيا عندي بلا دين. ~~- وهل دين بلا دنيا؟ # فتراجعت قائلة: ولا دين ms76 بلا دنيا. # وصمتت طويلا وأنا أكتم انفعالاتي المتصاعدة، ثم سألتني: أرأيت ~~ولي العهد؟ ~~- في حفل عيد الجلوس يا مولاتي. # فسألت بصوت غريب: وكيف ترينه؟ ~~- إنه يتفرد بقوة خفية تميزه عن سائر الشباب ... # ففاجأتني متسائلة: أعني كزوج؟ # وخرست من هول المفاجأة حتى كررت السؤال، فقلت بصوت متهدج: لا ~~تسعفني الكلمات يا مولاتي. ~~- ألم يساورك حلم يوما بأن تصيري ملكة؟ ~~- أحلامي جزء من قلبي المتواضع. ~~- ألا يفتنك العرش؟ ~~- إنه في سماء لا ترتفع إليها أحلامي. # فصمتت قليلا ثم قالت: اخترتك زوجة لابني ولي العهد. # فأغمضت عيني من شدة التأثر، ثم قلت عندما استرددت قدرتي: ولكنه لا ~~يعرفني ولا يهتم بي. # فقالت باعتزاز: ولكنه يرضخ لمشيئتي عن حب راسخ ... # ثم مواصلة الحديث بجلال: يهمني في المقام الأول أن أجد له ~~شريكة مناسبة، ولما رأيتك ألهمني حدسي بأنك الشريكة المطلوبة، وإني ~~أومن بالحدس إيماني بالعقل. # فأخرسني التأثر الشديد عن التفوه بأي كلمة، واستمرت هي تقول: ~~ولكن الملكة خلقت للواجب قبل كل شيء. ما رأيك في ذلك؟ ~~- أرجو أن أكون كما تودين يا مولاتي. # فقالت بصوت نافذ: عديني بالتعاون معي دون قيد أو شرط. # فقلت وأنا لا أقدر مسئولية قولي: إني أعدك بذلك. ~~- وأنا مطمئنة إلى شرف كلمتك. # كاد الامتنان يشلني عن التفكير، ولكن ما إن غادرت محضرها حتى ~~شعرت بأنني أرسف في أغلالها، وبأنها قوة لا يمكن الاستهانة بها، وبأنها ~~رقيب يرصدني من الداخل والخارج معا. وتذكرت ولي العهد، فأيقنت من ~~أن جلاله مهما جل فإنه لن يسوغه لي كزوج، وأنني سأدفع ثمن المجد ~~غاليا. وذهلت الأسرة للخبر وثملت به. أجل، يمكن تصور أثره في ~~أعماق قلب موت نجمت، ويمكن تصور مشاركة تي لابنتها في عواطفها ~~الخفية، ولكن الحظ تدفق تلك المرة كالسيل ليغمر الجميع بفيضه وإن ~~تفاوتت الدرجات. وإن يكن وعدني بالعرش فقد رفعهم إلى مقام الأسرة ~~المالكة؛ من أجل ذلك أقبلوا علي يسدون إلي القبلات وأطيب ~~الدعوات. وتذكرت النبوءة وكيف تحققت بمعجزة، فهل تتحقق أيضا لموت ~~نجمت؟ وساورني قلق. ولعل موت نجمت ms77 تذكرت ذلك أيضا فشحذت صبرها ~~ونواياها، ولكنني صممت على طرد المخاوف. ودعاني أبي إلى حجرته، وقال ~~لي بحنان: اليوم تسعد أمك في قبرها. # فقلت بأسى: لعلها. # فسألني باسما: كيف تشعرين؟ # فأجبت بصدق: الحقيقة تفوق أي خيال. ~~- لا يستطيع الحظ أن يهب فرصة للسعادة أقوى من ذلك. # فتساءلت: هل أضمن السعادة حقا يا أبي؟ # فقال بحنان: العرش يهب المجد، أما السعادة فرهن بحكمة القلب. # فقلت بتأثر شديد: ما أصدقك يا أبي! # فقال بعطف: سأصلي من أجل نجاحك وسعادتك. # وتمت مراسيم الزواج بسرعة غير عادية، واحتفل به في القصر ~~احتفالا يليق بعظمة الملك أمنحتب الثالث وولعه بمتع الحياة. ومضت بي ~~تي إلى الحجرة المذهبة، وهمست في أذني بكلماتها المفيدة، وأجلستني ~~على السرير الذهبي في ثوب شفاف يتجلى تحته جسمي العاري. ولاح في ~~الباب ولي العهد والمشاعل في الأركان تزهر. نزع شملته عن وزرة ~~شفافة، وأقبل نحوي في خفة يطل من عينيه الشغف العذب. أوقفني ~~فوق السرير، وضم ساقي إلى صدره، وهمس في أذني: أنت شمس حياتي. # وكان ينعم روحي بنوره، أما جسدي فقد تقلص وانكمش أمام منظره ~~الغريب. وراح يقول بصراحة عجيبة: أحببتك في عيد الجلوس، هرولت إلى ~~أمي وصارحتها برغبتي في الزواج منك. # وضحك بسرور، ثم واصل حديثه: أنكرت علي رغبتي في الزواج من فتاة ~~لا يجري في عروقها الدم الملكي، فقلت لها: «وأنت كذلك يا أمي.» فتظاهرت ~~بالغضب، ولكنها استدعتك إلى مقابلتها، ثم زفت إلي موافقتها ~~... # وتذكرت ما ادعت من أنها صاحبة الفكرة وداريت ابتسامة. وكان ~~علي أن أتكلم، وأن أقول قولا صادقا، فقلت: لقد آمنت بإلهك وبك من ~~قبل أن أراك. # فهتف بحبور: على لسان آي، أليس كذلك؟ إنك أول من آمن يا نفرتيتي. ~~فقلت وأنا أدفع عن نفسي اللحظة الحرجة ما استطعت: سأكون أول من ~~يترنم بنشيد الإله في معبده. ~~- أعدك بذلك. # ثم لثم شفتي وهمس: ولكن عليك أن تنجبي وريثا لعرش الإله! # وتلاشت مشاعري القدسية، فلم يبق محلها سوى الحياء والضيق. ومضت ~~الحياة بنا كزوجين ومؤمنين. أما ms78 عن حياتي الروحية فقد تلقيت منه ~~مددا لا يفنى أترع قلبي بالنور، حتى توقعت أن يكلمني الإله كما ~~يكلمه، وأن يكرم نصف رمزه بما يكرم به نصفه الآخر. أما جسمي فكان ~~يتجلد في كآبة وصمت. وحلت به الثمرة، فتوعكت صحتي وتغير لوني، ~~وعبث القادم بي، عبث برشاقة جسمي الجميل. وكان مولاي يعيش في الحقيقة، ~~ويكرس ذاته للحقيقة، ويتحدى كافة القوى من أجل الحقيقة، ولا ~~يمقت رذيلة كما يمقت الكذب والكاذبين، فساءلت نفسي في قلق كيف أجيبه ~~لو خطر له يوما أن يسألني «أتحبينني يا نفرتيتي؟» لن أجد الشجاعة ~~للكذب عليه. وفضلا عن ذلك فقد تعلمت منه أن أحب الحقيقة وأن أكره ~~الكذب. وأعددت إجابة على سؤاله المحتمل، وهي أن أقول له: سيجيء الحب ~~في وقته، فمعذرة؛ لأنني أكره الكذب مثلك. # وهي إجابة ربما تلاشت معها أحلامي، وأقصتني عن المجد والنور، ولكنه ~~لم يطرح ذلك السؤال قط، فظل من هذه الناحية على غموضه وظللت على ~~قلقي. ويوما استدعتني الملكة تيى إلى استراحتها، وراحت تتفحص جسدي ~~باسمة ثم قالت: اعتني بنفسك؛ ففي بطنك تدب حياة ستنضم عاجلا إلى ~~تاريخ هذا الوطن. # فلمست في قولها إشارة إلى انتظار ولي العهد، فقلت: صلي من أجلي يا ~~مولاتي. # فقالت بثقة: أمامك عمر طويل. # فقلت بإشفاق: لا حيلة لي في ذلك. # فقالت محذرة: لا تسلطي الخوف على فكرك. # فقلت كالمشتكية: لن أسأل عما ليس في طوق البشر. # فهمست: الملكة ليست كسائر البشر! # إنها تحطم وسائل دفاعي. امرأة قوية وداهية وجديرة بما يصفها أبي به ~~من عظمة، وزوجي يحبها لدرجة مثيرة، وهي تعتبره ملكها وحدها حتى بعد ~~زواجه. وشعرت أنني ما زلت أرسف في أغلالها. ومضت أنباء الإله الجديد ~~تتسرب إلى الكهنة، ومضى الجو يكفهر. وفي تلك الفترة من حياتنا عرفت ~~مدى قوة زوجي المستترة وراء ضعفه الجسدي، لمست صلابة روحه، وقوة ~~تصميمه، وعنف شجاعته، وصموده أمام التحديات. قال لي مرة: إن أحجار ~~الأهرام مجتمعة لا تستطيع أن تثنيني عن هدفي. # فقلت له متأثرة بحماسه: إني معك ms79 في جميع الأحوال. # فهتف: لن يخذلنا إلهنا. # حتى أبوه وأمه لم يستطيعا أن يزحزحاه عن موقفه. ودعتني تيى إلى لقاء ~~في يوم أعتبره من أخطر أيام حياتي. سألتني: هل شغلك الحمل عن أحزان ~~طيبة؟ # فقلت لها وأنا أتوثب لمعركة: أحزان طيبة هي أحزاننا. # فتساءلت بدهاء: ألم تؤثر فيه كلماتك الطيبة؟ # فقلت بجرأة: كلمات إلهه هي الأقوى. # فقالت بتوجس: ولكنك لا تبدين حزينة أو قلقة. # فهويت على أغلالي قائلة: إني مؤمنة بما يقول يا مولاتي. # بذلك التصريح أعلنت أن حبي للإله أقوى من حبي للعرش، وحررت ~~نفسي. واتسعت عيناها النجلاوان وتساءلت: آمنت حقا بالإله ~~الجديد؟ ~~- نعم يا مولاتي. ~~- لكن ذلك يعني إنكار آلهة مصر؟ # فقلت بحرارة: إنه واحد لا شريك له. # فتساءلت بنبرة غاضبة: أليس من حق الآخرين أن يعبدوا آلهتهم؟ ~~- إنه لا يتعرض للآخرين. ~~- لكنه سيكون يوما الملك الخادم لجميع الآلهة. ~~- نحن لا نخدم إلا إلها واحدا. # فهتفت: ألا تقدرين عواقب هذا التمرد؟ # فقلت بثقة صادقة: إلهنا لن يخذلنا أبدا. # فسألتني بغيظ ومرارة: ألم تعديني بالتعاون دون قيد أو شرط؟ # فقلت برقة: إنك مولاتي، ولكنه الإله فوق كل شيء. # ورجعت إلى جناحي دامعة العينين، مجهولة المصير، ولكن مطمئنة القلب. ~~وسرعان ما صدر الأمر للأمير للقيام على رأس البعثة المشهورة لزيارة ~~الإمبراطورية. وقيل وقتها إنه أريد بها ترويض ولي العهد وتعريفه بواقع ~~إمبراطوريته؛ لعله يرجع عن غيه! ولكني شعرت أيضا بأن تيى شرعت ~~تعاقبني بحرماني من زوجي في وقت أوشكت فيه على الوضع. ولما ذهب ~~ألقي بي في خضم تجربة جديدة ما تصورتها قط. ماذا حدث في تلك ~~الأيام؟ انطفأ نور الدنيا، ولم تعد الشمس تسكب إلا ظلاما. وغزتني ~~وحدة مخيفة خانقة، لم يخفف منها ملازمة مربيتي تي ولا غناء ~~الجواري ورقصهن، واحتوتني الكآبة ودثرتني بكفنها. # افتقدت مولاي في كل ركن من أركان جناحي، وفي كل ساعة من يومي. لم ~~أتخيل أنه كان يشغل ذلك الحيز كله من حياتي، واكتشفت أنه سر حياتي ~~وكنز سعادتي، لا كمعلم فحسب، ولكن كزوج وحبيب ms80 أيضا. وبكيت ندما على ~~عماي وجهلي، وتلهفت على رجعته لألقي بقلبي تحت قدميه. وحدث في ~~القصر ما سرى عنه بعض همومه؛ فقد جاءني المخاض، كما جاء الملكة تيى، ~~في وقت واحد تقريبا، فأنجبت أنا ميريتاتون وأنجبت الملكة توءمين هما ~~سمنخ رع وتوت عنخ آمون. ولما عرفت بأنني رزقت أنثى ركبني الهم ~~والحزن، وتوكد لي بأن مركزي يزداد ضعفا أمام امرأة القصر القوية. ~~وترامت إلي همسات الحريم بأن لعنة الكهنة قد حلت بي، وأنني لن ~~أنجب ذكرا ما حييت. # وفي تلك الأثناء جاءت تادوخيبا ابنة ملك ميتاني لتلعب دورها في طيبة. ~~وكان الملك أمنحتب الثالث قد سمع بجمالها، فطلب الزواج منها دعما ~~لأواصر الصداقة بينه وبين ميتاني. وكانت تيى تدرك بواعث زوجها ~~الحقيقية، ولكنها كانت دائما تسلط عقل الملكة العظمى على عواطف ~~زوجها، وتهيمن بقوة خارقة على الغيرة مكرسة جل وقتها للحكم. ~~وجاءت تادوخيبا تشق طريق طيبة في موكب فخم تتبعها ثلاثمائة جارية. ~~تسليت بسماع الأنباء وأنا غارقة في وحدتي وأحزاني، وحدثتني تي عن ~~موكب الأميرة الصغيرة وجمالها، وختمت حديثها بقولها: ولكن لا تعلو على ~~شمسنا شمس في الوجود! # وذاع في جنبات القصر أن الملك العجوز الذي أخذ المرض يكدره قد هام ~~بالعروس الجديدة التي في عمر أحفاده، وأنه غرق في بحر العسل، ولكن ~~باله لم يصف طويلا؛ إذ جاءت التقارير عن رحلة ولي العهد لتعصف بأمنه ~~وسعادته. ودعيت للاجتماع بالملك والملكة، فهالني أول ما هالني ما ~~حل بالملك من ضعف نتيجة لإفراطه في الحب واللهو. رغم ذلك بدا غاضبا ~~شرسا، وجعل يهتف: يا له من فتى طائش. # فقالت تيى: يمكن أن نسترد هيبتنا بعرض لجيش الدفاع في أنحاء ~~الإمبراطورية! # فقال لها ساخرا: لقد بدد الأحمق مدخره الموروث من الإجلال، ولن ~~يسترده مهما فعلنا. # فتساءلت بعد تردد: ألا يجوز أن يأسرهم بلطف أخلاقه؟ # فهتف بي: ما أنت إلا حمقاء مثله. # وقالت لي المرأة الداهية: كان بوسعك أن تعقليه! # فقلت لها وأنا أداري انفعالي: هيهات أن أقدر على ما تعجزين عنه يا ms81 ~~مولاتي! # فقالت متمادية في تحديها لي: ولكنك تشجعينه وأنت راضية! # فلوح أمنحتب الثالث بيده مهددا وقال: سأخيره حال عودته بين ~~الطاعة وبين الحرمان من ولاية العهد! # ورجعت إلى أحزاني مشفية على اليأس، ولكن تي أيقظتني في صباح اليوم ~~التالي، ثم همست في أذني: مات الملك يا مولاتي. # وثقل قلبي بالحزن، وجعلت أتساءل: ترى هل نفذ الملك وعيده قبل ~~وفاته؟ وهل يمكن أن تضحي تيى بابنها المعبود؟! وفي الفترة التي ~~حمل فيها الجثمان إلى دار التحنيط استدعتني الملكة، وقالت لي وهي ~~ترمقني من خلال عينيها الحمراوين من أثر البكاء: اعلمي أن الكهنة ~~اقترحوا علي المناداة بسمنخ رع أو توت عنخ آمون ملكا على أن ~~أتولى الوصاية على العرش. # لم أشك في تلك اللحظة في أنها أنزلت بي عقابها بكل ثقله وعنفه، ~~فقلت مستسلمة لقدري: قرارك دائما يصدر عن حكمة، وإني به ~~راضية! # فتساءلت بقسوة: أتنطقين عن صدق؟ # فأجبت بهدوء اليأس: وماذا أملك سوى ذلك؟ # فقالت بحدة: غلب الحب الحكمة، فرفضت الاقتراح! # فتنفست بعد غرق، وأعياني الكلام، فسألتني ساخرة: سعيدة؟ # فقلت بأمانة: نعم يا مولاتي؛ فإني أمقت الكذب! ~~- هل تعدينني بالدفاع عن العقل والتقاليد؟ # فقلت وأنا أتمزق: لا أستطيع يا مولاتي! # فنفخت مغيظة محنقة، وهتفت: إنك تستحقين العقاب، ولكنك جديرة ~~بالإعجاب أيضا، فلتواجها مصيركما بحكمتكما، ولتكن مشيئة ~~الآلهة! # وصرفتني مكفهرة الوجه، فعدت إلى جناحي سعيدة رغم الحداد، ~~وانهلت بالقبل على وجه ميريتاتون الصغير. وما لبث حبيبي أن رجع من ~~رحلته بقامته الطويلة النحيلة وأنسه المبدد للظلمات، فهرعت إليه ~~وعانقته بكل قوة حبي، وتفرس في وجهي وقتا ثم قال بطمأنينة: أخيرا ~~جاء الحب يا نفرتيتي! # فأذهلني قوله وعزاني، وقلت متلعثمة: إني أحبك من قبل أن تراك ~~عيناي. # فقال باسما: ولكنك لم تحبيني كزوج إلا هذه المرة! # فأذهلتني قدرته على قراءة القلوب فلم أنبس. ومثل أمام جثة أبيه قبل ~~الدفن، ورجع إلي بأثر البكاء في عينيه، ثم قال كالمعتذر: الموت ~~يهزني حقا، ثم إنني لم أحبه كما يجب! # وجلسنا على العرش في جو مليء ms82 بالتربص والتحدي، وسرعان ما ~~تجلت قوة حبيبي الكامنة كأعظم ما تكون القوة. وبدأ بعرض دينه على ~~رجاله، فأعلنوا إيمانهم به. ولم أشك أنا في صدقهم قياسا على نفسي، ~~ولكن الأحداث أثبتت أن أكثرهم لم يكونوا صادقين، أو أن إيمانهم لم ~~يبلغ درجة التضحية بالنفس، باستثناء مري رع الكاهن الأكبر. ولا أشك ~~اليوم في أن بصيرته الصافية لم تخدع بهم، وأنها نفذت إلى أغوار ~~قلوبهم، ولكنه كان يؤمن دائما بأن الحب كفيل بهداية الجميع في ~~النهاية، وأنهم سيعبرون مرحلة الإيمان السطحي إلى الإيمان الحقيقي ~~عندما يأزف الوقت، وكما فعلت أنا في علاقتي الزوجية به، بل أقول أكثر ~~من ذلك بأن نفرا منهم اقتنعوا بعدم أهليته للعرش، فحلموا بأن ~~يخلفوه في ذروة الأزمة، منهم حور محب، بل منهم أبي آي نفسه. وليس ~~الحدس مرجعي الوحيد في تصوري هذا، ولكني استخرجته بفطنة من بعض ~~المواقف، أو فيما عرض من حوار مثير في أيام الهزيمة؛ لذلك أراحني ~~جدا اختيار الكهنة لتوت عنخ آمون دونهم، وإن كنت أشك في أنهم يئسوا ~~حقا من تحقيق أحلامهم بطريقة أو بأخرى. على أي حال بدأ حكمنا في ذلك ~~الجو المتوتر، ولكننا كنا سعداء رغم كل شيء، وأخذت ميريتاتون تحبو ~~على حين تكونت ثمرة جديدة في بطني نتيجة للحب الكامل هذه المرة. ولم ~~يعرف امرأة غيري رغم أنه ورث حريم أبيه كما تقضي التقاليد، وفيه ~~الميتانية الجميلة تادوخيبا. # وزارتنا الملكة الوالدة تيى، فتوقعت متاعب من نوع ما. وصح ظني، ~~فقالت لابنها على مسمع مني: أيها الملك، إنك تهمل الحريم ... # فقال زوجي ضاحكا: إني موحد في الحب كما في الدين! # فقالت بجدية: ولكنك مطالب بالعدل. ولا تنس تادوخيبا ابنة صديقنا ~~توشراتا؛ فهي تستحق الرعاية إكراما لأبيها ... # ونظرت نحوي فزاغ عنها بصري وأنا في غاية الضيق، فقالت بدهاء: ~~نفرتيتي تثبت كل يوم أنها جديرة بالعرش؛ فلعلها توافقني على رأيي ~~... # فواظبت على صمتي كاظمة غيظي، على حين راحت تتحدث عن واجبات الملكة. ~~ولم أستطع أن أقهر رغبتي في زيارة الحريم؛ في الظاهر ms83 للتعارف، وفي ~~الحقيقة لرؤية الأميرة الجميلة. ووجدتها جميلة حقا، ولكن ثقتي ~~بنفسي لم تتزعزع، وتبادلنا كلمتين للمجاملة، وافترقنا عدوتين ~~سافرتين. وفي اليوم التالي جالست زوجي في جوسق بالحديقة؛ وإذا بي ~~أسأله: ماذا تنوي بالنسبة للحريم؟ # فأجابني ببساطة: لا رغبة لي فيه! # فقلت باحتجاج: ولكن الملكة الوالدة لا تكترث للرغبات! # فقال بغموض: إنها مولعة بالتقاليد! # فقلت بوضوح: أما أنت فإنك عدو التقاليد الأول. # فضحك بسرور وقال: صدقت يا حبيبتي! # وأظن أنه في ذلك الوقت تمت المقابلة المثيرة بيني وبين كاهن آمون ~~الأكبر، تمت بناء على طلبه وبوساطة أبي. وقال لي: مولاتي، لعلك ~~تعلمين بما جئت من أجله؟ # فقلت له دون مواربة: إني مصغية إليك أيها الكاهن الأكبر. # فقال برجاء: ليعبد الملك ما يشاء من الآلهة، ولكن لجميع الآلهة، وعلى ~~رأسها آمون، حق في الرعاية. # فقلت: إننا لا نتعرض بسوء لأي إله. # فقال برقة: إنني أطمح إلى دفاع الملكة عنا عند الضرورة! # فقلت بصدق: لا أستطيع أن أعد إلا بما يسعني الوفاء به. # فقال بأسى: كان أبوك واحدا منا، وبيني وبينه صداقة لا تنفصم ~~عراها. # فقلت: يسرني أن أسمع ذلك. # وذهب الرجل ولا شك عندي في أنه أضمر لي عداوة ثابتة. وكرس الملك ~~حياته كلها لرسالته، داعيا للحب بالحب، نافيا العنف والقهر والعقاب، ~~مخففا الضرائب عن الفقراء، حتى آمن الجميع بأن عهدا جديدا من ~~الخير يحل بأرض مصر. وجاءني المخاض فولدت ابنتي الثانية سيكيتاتون، ~~فخاب رجائي للمرة الثانية في إنجاب ولي للعهد. وكثر الحديث عن سحر ~~الكهنة، ولكن زوجي أحب المولودة من أول نظرة، وقال لي مواسيا: ~~سيجيء ولي العهد في حينه لا قبل ذلك. # وكمل تشييد معبد جديد لإلهنا الواحد في طيبة، وذهبنا في موكب ~~لافتتاحه، وإذا بالكهنة يجمعون أذنابا لهم، فتظاهروا في طريق الملك ~~وهتفوا لآمون. واستاء القصر لذاك التحدي السافر، وسهر الملك في ~~الشرفة مغتما على غير العادة، وراح يخاطب طيبة قائلا: طيبة، يا ~~مدينة الشر والأشرار، يا مثوى الإله الكاذب والكهنة الفاسقين، لا ~~أريدك بعد اليوم يا طيبة ms84 ! # وأمره الإله ببناء مدينة جديدة له، ونفذ الأمر، فرحل بك على رأس ~~ثمانين ألفا من المهندسين والعمال لتشييد مدينة الإله الواحد، وعشنا ~~في أثناء ذلك هانئين بسعادتنا الشخصية يتربص بنا جو عدائي شديد ~~التوتر. وأنجبت أنحس ياتون ونفر آتون مسلمة أمري لإلهي خالق الإناث ~~والذكور. وفي الوقت المناسب انتقلنا إلى المدينة الجديدة مصطحبين ~~معنا سمنخ رع وتوت عنخ آمون، أما الملكة تيى فأصرت على البقاء في ~~طيبة على كثب من كهنة آمون كي لا يقطع آخر خيط بين العرش ~~والمعابد. # ولما وجدتني في مدينة النور أخت آتون المتجلية في وحدة هندسية ~~متناسقة استخفني السرور، فهتفت في نشوة وبراءة: ما أجمل الجمال! ما ~~أعذب روحك يا إلهي! # وافتتحت المدينة بالصلاة في المعبد، وشدوت بنشيد الإله بصوت لم تسمع ~~المعابد أعذب منه، ثم ألقى الملك موعظته الأولى الشاملة، ورسم مري رع ~~كاهنا أكبر. وجرى نهر الحياة حاملا إلينا بركات السعادة والنصر، حتى ~~رجع إلي يوما من خلوته يلوح في وجهه الجد والتصميم، وقال لي: ~~أمرني إلهي بأن يعبد وحده في البلاد! # وفي الحال أدركت خطورة ما ينطوي عليه ذلك الأمر، فتساءلت: والآلهة ~~الأخرى؟ # فقال بثبات وعيناه تومضان: سأصدر أمري بإغلاق معابدها ومصادرة ~~أوقافها. # وران علي صمت حتى تساءل: لا تبدين سعيدة يا نفرتيتي؟ # فقلت بعجلة: إنك تتحدى كهنة البلاد أجمعين. # فقال ببساطة وثقة: إني على ذلك لقادر. # فقلت بعد تردد: ألا يسوقك ذلك لاستعمال العنف وأنت رجل الحب ~~والسلام؟ ~~- لن ألجأ إلى العنف ما حييت! ~~- وإذا تصدوا لأمرك بالمقاومة؟ ~~- سأوزع الأوقاف على الفقراء، ولن أتعرض لمتمرد بسوء قانعا ~~بدعوة شعبي إلى عبادة الإله الواحد وهجر معابد الشرك. # فانكشف عني الغم، وقبلته وأنا أقول: لن يتخلى عنك إلهك. # وصدر الأمر، وحدث ما لم أتوقعه، فنفذ بهدوء شامل، بفضل الإله، ~~وبقوة العرش المهيمنة على النفوس، وازددنا ثقة بغير حدود. وفي ~~العصاري كنا ننطلق في عربتنا الملكية بلا حرس نجوب شوارع أخت آتون ~~الواسعة، تحف بنا الجماهير المتحمسة والنخيل والصفصاف وأشجار ~~البلخ، محطمين حواجز الوهم ms85 بين العرش والناس، نكاد نعرف الناس جميعا ~~بملامحهم وحرفهم والبعض بأسمائهم، وحل الحب حقا محل الخوف ~~القديم، وتغنى الجميع بأعذب الألحان القدسية. وهمس أبي في أذني مرة: ~~أخشى أن تبددوا هيبة الملك. # فقلت له وأنا أضحك: نحن نعيش في الحقيقة يا أبي ... # وغزونا البلاد برحلاتنا المقدسة داعين لعبادة الواحد الأحد، ~~وأذهلنا الخصوم والأصدقاء بانتقالنا الدائم من نصر إلى نصر، ولم نكترث ~~لما أفضى به إلينا محو رئيس الشرطة من أنباء عن نشاط الكهنة السري ~~ومحاولتهم الدائبة لتأليب الناس علينا. ولم يعد سلوك مولاي يدهش أحدا ~~لانغماسه الكلي في عالمه المقدس، أما أنا فأدهشت الكثيرين حتى ~~سلموا بأنني لغز لا يحل؛ إذ كيف أهيم مثله في عالمه القدسي رغم ~~وعيي الكامل بواقع الشئون الإدارية والمالية للبلاد؟! فلعلهم لم ~~يصدقوا أنني كنت صنوه في الإيمان والحماس للرسالة، وكنت أشاركه ~~الحياة في الحقيقة، وأصدق كل كلمة تصدر عن لسانه الصادق الذي لم ~~يكذب قط. وقال لي ونحن ننتشي بذروة الفوز: عندما تتطهر الأنفس من ~~أدرانها ستحظى الآذان جميعا بسماع الصوت الإلهي، ويعيشون في ~~الحقيقة! # ذلك كان حلمه؛ أن يعيش الناس أجمعون في الحقيقة. # ورجعنا من رحلاتنا الموفقة، فوجدنا ميكيتاتون طريحة الفراش ~~تطالعنا بوجه آخر لم نره ولم نعرفه. وجثا إخناتون إلى جانب فراشها ~~وراح يصلي، وانتحيت بالطبيب بنتو من أقصى الحجرة، وقلت له: البنت ~~تموت يا بنتو. # فأجابني بأسى: قد بذلت ما في وسعي! # فقلت في حنق وقهر: إنهم يريدون بسحرهم أن يحرموه من أحب الكائنات إلى ~~قلبه ... # وسمعته يهمس بحرارة مخاطبا إلهه: لا تفجعني فيها يا إلهي، إني ~~أحبها ولا أطيق الحياة بدونها ... إنها أنضج من عمرها، وستكرس ~~حياتها لخدمتك ... # لكن روحها مضت تتسرب رويدا من قبضة حبنا حتى تركتنا متسامية ~~للنجوم. وانكببنا عليها نبكي ونولول مستسلمين لطغيان الحزن. وجعل ~~يخاطب إلهه: لماذا يا إلهي؟ لماذا تمتحن إيماني بشدة لا داعي لها؟ ~~لماذا تصارحني بقسوة بأنني ما زلت بعيدا عن معرفتك، لماذا تعاملني ~~بعنف وأنت الرحمة، وبجفاء وأنت الحبيب، وبغضب وأنا المطيع ms86 ، وبغموض ~~وأنت النور، لماذا إذن كسوتها بهذا الجمال ومنحتها هذا الذكاء؟ ولماذا ~~جعلتنا نحبها كل الحب ونعدها لخدمتك في معبدك؟ # وانتشلتنا من حزننا أحزان جديدة شملت داخل البلاد وخارجها مما ~~علمتها بالتفصيل كما ذكرت لي. ولعل أتعس الناس هم الذين يتداوون من ~~حزنهم بحزن أشد. وقابلنا الوزير ناخت، وعرض علينا الصورة بحذافيرها. ~~ولا أنكر أن عزيمتي اجتاحتها الكآبة وخامرني القلق، أما مولاي فقد ~~صمد أمام العاصفة كأنه الهرم الأكبر، وقال بثقة لا حد لها: لن يخذلني ~~إلهي، ولن أحيد عن الحب قيد ذرة رمل. # وعدتني قوته الخارقة فانتعشت روحي قاهرة جميع الهواجس والوساوس، ~~وندمت على ضعفي العابر. ولما ساءت الحال أكثر جاءتنا الملكة الوالدة ~~تيى، واجتمعت بنا بعد أن استقبلت رجالنا في قصرها بجنوب أخت آتون، ~~وبدأت حديثها قائلة: السماء مليئة بالغيوم. # ونقلت بيننا عينيها اللتين أحاط بهما الكبر وقالت: أخذت العهد من ~~رجالك بالوفاء لك في جميع الظروف والأحوال. # فسألتها: ترى هل داخلك الشك فيهم؟ # فقالت لي بعتاب: المحن تطالبنا بالتماس اليقين ... # فقال إخناتون: إلهي لا يبالي بالمحن! # فقالت بحدة: بل عما قليل ستنفجر الفتن. # فقال بثقة: لن يتخلى عني إلهي أبدا. ~~- لا أملك الحق في التحدث باسم الآلهة؛ إنهم أكبر من ذلك، وإني ~~أصغر من ذلك، ولكني أعرف ما يجري في دنيا الناس. # فقال بأسى: أمي، إنك غير مؤمنة ... ~~- لا تتحدث عما بيني وبين الغيب، حدثني كملك وأصغ إلي كملكة، ~~أقول لك تحرك قبل فوات الأوان، لديك جيش الحدود بقيادة ماي فمره ~~بالزحف على الإمبراطورية، ولديك قوات الحرس والشرطة فمرها بضرب ~~الفساد والمفسدين، أسرع قبل أن يتهاوى عرشك أنقاضا ... # فقال بحدة: لن آمر بسفك نقطة دماء واحدة. # فقالت في أسى عميق: لا تجعلني أندم على تمسكي لك بالعرش. # فهتف: لا يهمني العرش إلا باعتباره الوسيلة لخدمة الإله! # فنظرت إلي تيى وقالت: تكلمي أيتها الملكة؛ فلعلي لم أخترك إلا ~~من أجل هذه الساعة ... # فقلت بحماس لا يقل عن حماس مولاي: لن يخذلنا إلهنا يا ~~أماه. # فاكفهر وجهها المتغضن، وقالت ms87 بغضب: استحكم الجنون وانتصر ~~القدر. # وغادرت تيى أخت آتون حزينة مريضة، ولم يمتد بها العمر في طيبة ~~إلا أياما ثم فاضت روحها الكسيرة. ولم تمض أيام حتى طلب آي وناخت ~~وحور محب مقابلة الملك، فاستقبلناهم في الحال. ولما نظر إخناتون في ~~وجوههم قال باسما: لم تجيئوا لخير. # فقال آي: جئنا يا مولاي مدفوعين بولائنا للعرش والوطن ~~والإمبراطورية! # تساءل إخناتون: وماذا عن إيمانكم بخالق كل شيء؟ # فقال آي: ما زلنا نؤمن به، ولكننا مسئولون عن دنيانا يا مولاي ~~... # فقال إخناتون: لا قيمة لهذه المسئولية إذا لم تنبع من ذلك الإيمان ~~... # وعند ذاك قال ناخت: العدو يتوغل في الإمبراطورية، والولايات أعلنت ~~تمردها في البلاد، ونحن في الواقع محصورون في أخت آتون ... # فقال الملك بإصرار: لن يتخلى عني إلهي؛ وبالتالي لن أتخلى عن ~~رسالته! # وهنا قال حور محب: سوف تفرض الحرب الأهلية نفسها علينا! # فقال إخناتون: لن تقوم حرب أهلية. # فتساءل حور محب: هل نترك حتى نذبح كالأغنام؟ # فقال الملك: سألقى الجيش المهاجم وحدي بلا سلاح. # فقال حور محب بحزم: سيقتلونك ثم يقتلوننا، وطالما أنك مستمسك ~~بديانتك فتنح عن العرش وتفرغ لها ... # فقال بوضوح: لن أتنحى عن عرش الإله؛ فهي الخيانة! # ثم نظر في وجوههم وقال: إني أعفيكم من الولاء لي. # فقال حور محب: سنترك لجلالتكم مهلة للتدبر. # وذهبوا مخلفين وراءهم إنذارا نهائيا. وما كنت أتصور أن يلقى ~~فرعون مثل هذا الهوان، وتساءلت في حيرة بالغة: حتى متى يضن علينا ~~إلهنا بالنصر؟ وعجبت لإيمان حبيبي الراسخ، واقتنعت بأنني ما زلت دونه ~~بمراحل بخلاف ما كنت أعتقد. # وجاء حور محب لمقابلتي على انفراد، وقال لي: افعلي شيئا، افعلي ما ~~بوسعك، سيقتل حتما إذا أصر على موقفه، بل قد يقتل بيد أحد ~~رجاله! عليك أن تفعلي شيئا قبل فوات الفرصة ... # وتخايل لعيني شبح الموت والهزيمة، تسلل وهن إلى إرادتي، وشيء من ~~الشك إلى عقيدتي، وتساءلت في حيرة معذبة: كيف أنقذ حبيبي من الموت؟! ~~وخطر لي أنني إذا هجرته فلعل ثقته بنفسه تتزعزع فيذعن لمشيئة رجاله ms88 ، ~~ويتنحى عن العرش. أجل سيؤمن بأنني خنته كالآخرين، ولكنني لم أكن ~~أملك وسيلة أخرى. هكذا أقدمت على هجر حبيبي وقصري، فلذت بقصري الخاص ~~في شمال أخت آتون باكية العينين، دامية القلب. وزارتني أختي موت ~~نجمت، وأخبرتني بأن الملك مصر على عناده، وأنهم وجدوا الحل في إخلاء ~~المدينة وإعلان ولائهم للفرعون الجديد؛ وبذلك تنعدم دواعي الحرب ~~الأهلية، ثم سألتني بخبث: متى ترحلين إلى طيبة؟ # وكنت أقرأ أفكارها بوضوح، فقلت بخشونة: لقد تحققت نبوءة، وآن ~~للنبوءة الأخرى أن تتحقق، فاذهبي بسلام، أما أنا فسأبقى إلى جانب زوجي ~~وإلهي ... # وغمرتني أيام مثقلة بالتعاسة اقتلعت من قلبي جميع ذكريات السعادة ~~الماضية، فكأنني لم أذق للسعادة طعما على مدى عمري. قبعت في قوقعة ~~الشعور بالإثم، أرقب من نافذتي مدينة النور وأهلها يبادرون إلى هجرها ~~قبل أن تحيق بهم اللعنة. ترامى إلي هديرهم وبكاؤهم، وصراخ أطفالهم، ~~ونباح كلابهم، ورأيت تياراتهم لا تنقطع ماضية في طوابير، حاملة ما ~~خف من متاعهم، مندفعين نحو النيل أو الشمال أو الجنوب، وأغلقت ~~النوافذ والأبواب، تابعتهم نظراتي الحائرة حتى آخر حي، ثم رأيت الوحشة ~~تحل محلهم في المساكن والحدائق والشوارع، وتطوق الأشجار، ورأيت ~~الفناء يحلق في الجو مرسلا نذره الساخرة، فهتفت من قلبي الجريح: ~~أخت آتون ... يا مدينة النور ... يا مدينة الوحدة القاتلة ... قاسمينا ~~الحظ والمصير ... أين التراتيل والألحان ... أين قبلات النصر والحب ... أين ~~أنت يا إلهي الواحد ... لم تخليت عن المخلصين؟! # خلت المدينة، وأخذت تلفظ أنفاسها ساعة بعد أخرى. لم يبق من أهلها ~~إلا سجينان، حبيبي وأنا، ونفر من حرس الأعداء. ترى فيم يفكر، وكيف ~~يراني، وإلام آل إيمانه؟ وقررت أن أذهب إليه لنتكاشف ونصفي ~~الحساب، ولكني منعت من مغادرة القصر، وحيل بيني وبين مراسلته، فأدركت ~~أنه لم يبق لي إلا انتظار الموت في السجن، وكذلك حبيبي ومولاي. وسعيت ~~إلى إرسال رسائل بمطالبي البسيطة والمشروعة إلى الملك الجديد أو أبي آي ~~أو القائد حور محب، ولكن رئيس الحراس قال لي بحزم وخشونة: إنك ممنوعة ~~من أي اتصال بالخارج. # فتصبرت على ms89 أيام الوحدة والحزن بلا أمل، وغفلت عن معالم الزمن ~~غارقة في تأملات حزينة وصلوات متواصلة، حتى استرددت إيماني ~~خالصا بإلهي رغم كل شيء، بل وآمنت بأن النصر النهائي سيكون له وإن طال ~~الانتظار. وكبر علي أن أتصور أن حبيبي الذي عرفته أكثر من أي إنسان ~~يمكن أن ييئس أو ينهزم أو يفقد ثقته في إلهه الذي خصه بمناجاته دون ~~الناس جميعا. لقد فقد العرش والأتباع والمجد الدنيوي، ولكنه ظل ولا ~~شك هائما في الحقيقة مطلعا على الأبدية، سعيدا بين يدي إلهه لا ~~يجد وحدة ولا وحشة، منغمسا في الأنس والرضا والحب. # ولذلك فعندما جاءني رئيس الحرس وقال بصوته الجاف: أذن لي أن أبلغك ~~بأن الملك المارق قد فارق الحياة بعد مرض طويل، وأن بعثة ملكية ~~قامت بتحنيطه ودفنه تبعا للمراسم الفرعونية. # لم أصدق كلمة مما قيل. حبيبي لم يمرض مرضا أفضى به إلى الموت. ~~لعلهم اغتالوه ليؤمنوا نصرهم الزائف، ففارق الدنيا المارقة ليستقر ~~في قلب الخلود، وسوف ألحق به ذات يوم ليطلع على براءتي، ويمنحني ~~عفوه، ويجلسني إلى جانبه على عرش الحقيقة. ~~••• # وتلاشى الصوت العذب بعد الجهد، ولبثت مولاتي صامتة حزينة جليلة ~~تتحدى المحن. ودعتها بكل إكبار، وانصرفت على رغمي مفعم القلب ~~بأريج الجمال الفاتن والذكريات الآسرة. ~~••• # ولما رجعت إلى سايس استقبلني أبي بشوق، وراح يسألني عن رحلتي ~~وأجيبه، وامتد الحوار بيننا أياما وتشعب، وقلت له كل شيء ~~تقريبا، ولكني أخفيت عنه أمرين. # ولعي المتزايد بالأناشيد. # وحبي العميق لتلك السيدة الجميلة. ms90