######OpenITI# #META# URI: 1427NajibMahfuz.LayaliAlfLayla.Hindawi30519685 #META# Tags: novels #META# ID: 30519685 #META# Title: ليالي ألف ليلة #META# AuthorID: 71616385 #META# Author: نجيب محفوظ #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # شهريار‏ # شهرزاد‏ # الشيخ‏ # مقهى الأمراء‏ # صنعاء الجمالي‏ # جمصة البلطي‏ # الحمال‏ # نور الدين ودنيازاد‏ # مغامرات عجر الحلاق‏ # أنيس الجليس‏ # قوت القلوب‏ # علاء الدين أبو الشامات‏ # السلطان‏ # طاقية الإخفاء‏ # معروف الإسكافي‏ # السندباد‏ # البكاءون‏ # شهريار‏ # شهرزاد‏ # الشيخ‏ # مقهى الأمراء‏ # صنعاء الجمالي‏ # جمصة البلطي‏ # الحمال‏ # نور الدين ودنيازاد‏ # مغامرات عجر الحلاق‏ # أنيس الجليس‏ # قوت القلوب‏ # علاء الدين أبو الشامات‏ # السلطان‏ # طاقية الإخفاء‏ # معروف الإسكافي‏ # السندباد‏ # البكاءون‏ # | ليالي ألف ليلة # | ليالي ألف ليلة # تأليف # نجيب محفوظ # | شهريار # عقب صلاة الفجر، وسحب الظلام صامدة أمام دفقة الضياء المتوثبة، دعي الوزير ~~دندان إلى مقابلة السلطان شهريار .. تلاشت رزانة دندان، خفق قلب الأبوة بين جوانحه، غمغم ~~وهو يرتدي ملابسه: «الآن تقرر المصير .. مصيرك يا شهرزاد!» # مضى في الطريق الصاعد إلى الجبل على برذون يتبعه نفر من الحراس ويتقدمه حامل ~~مشعل في جو مشعشع بالندى وبرودة مستأنسة .. ثلاثة أعوام مضت بين الخوف والرجاء، بين ~~الموت والأمل .. مضت في رواية الحكايات، وبفضل الحكايات امتد الأجل بشهرزاد ثلاثة أعوام ~~.. غير أن للحكايات نهاية ككل شيء، وقد انتهت أمس، فأي قدر يرصدك يا ابنتي ~~الحبيبة؟! # دخل القصر الرابض فوق الجبل .. اقتاده الحاجب إلى شرفة خلفية تطل على الحديقة ~~المترامية .. بدا شهريار في مجلسه على ضوء قنديل واحد، سافر الرأس، غزير الشعر، ~~أسوده، تلتمع عيناه في وجهه الطويل، وتفترش أعلى صدره لحية عريضة .. قبل دندان ~~الأرض بين يديه .. داخلته رهبة - رغم طول المعاشرة - لرجل حفل تاريخه بالصرامة والقسوة ~~ودماء الأبرياء .. وأشار السلطان بإطفاء القنديل الوحيد، فساد الظلام، ولاحت بوضوح ~~نسبي أشباح الأشجار الفواحة .. تمتم شهريار: ليكن الظلام كي أرصد انبثاق ~~الضياء. # تفاءل دندان شيئا ما وقال: متعك الله يا مولاي بأطيب ما في الليل والنهار. # صمت .. لم يستطع دندان أن يستشف ما وراء وجهه من رضا أو سخط حتى قال بهدوء: ~~اقتضت مشيئتنا أن تبقى شهرزاد زوجة لنا. # وثب دندان واقفا، ثم انحنى على يد السلطان فلثمها بامتنان، ودمع الشكر يتحرك في ~~أعماقه. ~~- فليؤيد الله سلطانك إلى أبد الآبدين. # قال السلطان وكأنما تذكر ms001 ضحاياه: العدل له وسائل متباينة؛ منها السيف، ومنها ~~العفو، ولله حكمته. ~~- سدد الله خطاك إلى حكمته يا مولاي. # فقال بارتياح: حكاياتها السحر الحلال، تفتحت عن عوالم تدعو للتأمل. # ثمل الوزير ~~بفرحته صامتا، فقال السلطان: وأنجبت لي وليدا فسكنت عواصف النفس الهائجة. ~~- لتهنأ يا مولاي بالسعادة في الدارين. # تمتم السلطان باقتضاب: السعادة! # قلق دندان لسبب غامض .. ارتفع صياح الديكة .. قال السلطان وكأنما يخاطب نفسه: ~~الوجود أغمض ما في الوجود! # غير أن نبرته تخففت من الحيرة وهو يقول: انظر! # نظر دندان نحو الأفق فرآه يتورد بالسرور المقدس. # | شهرزاد # استأذن دندان في مقابلة ابنته شهرزاد .. قادته قهرمانة إلى حجرة الورد ذات السجادة ~~والستائر الموردة .. ذات الدواوين والوسائد المشربة بالحمرة .. هناك استقبلته ~~شهرزاد وأختها دنيازاد .. قال الرجل: ينوء ظهري بالسعادة، فالحمد لله رب العالمين. # أجلسته شهرزاد إلى جانبها على حين انسحبت دنيازاد إلى مقصورتها .. قالت شهرزاد: نجوت ~~من المصير الدامي برحمة من ربنا. # فغمغم الرجل شاكرا، فقالت بمرارة: ليرحم الله العذارى البريئات. ~~- ما أحكمك وما أشجعك! # فقالت هامسة: ولكنك تعلم يا أبي أني تعيسة! ~~- حذار يا ابنتي؛ فإن الخواطر تتجسد في القصور وتنطق! # فقالت بأسى: ضحيت بنفسي لأوقف شلال الدم. # فتمتم: لله حكمته. # فقالت بحنق: وللشيطان أولياؤه. # قال بتوسل: إنه يحبك يا شهرزاد. ~~- الكبر والحب لا يجتمعان في قلب، إنه يحب ذاته أولا وأخيرا. ~~- للحب معجزاته أيضا. ~~- كلما اقترب مني تنشقت رائحة الدم. ~~- السلطان ليس كبقية البشر. ~~- لكن الجريمة هي الجريمة .. كم من عذراء قتل، كم من تقي ورع أهلك، لم يبق في ~~المملكة إلا المنافقون. # فقال بحزن: ثقتي بالله لم تتزعزع قط. ~~- أما أنا فأعرف أن مقامي في الصبر كما علمني الشيخ الأكبر. # فقال دندان باسما: نعم الأستاذ ونعم التلميذة. # | الشيخ # يقيم الشيخ عبد الله البلخي في دار بسيطة بالحي القديم .. تنطبع نظرته الحالمة في ~~قلوب الكثيرين من تلاميذه القدامى والمحدثين، وتنطبع بعمق أبدي في قلوب ~~المريدين .. العبادة الكاملة عنده مقدمة ليس إلا؛ فهو شيخ الطريق، وقد بلغ منه مقام ~~الحب والرضا .. عندما ms002 غادر خلوته إلى حجرة الاستقبال أقبلت عليه زبيدة ابنته ~~المراهقة والوحيدة، وقالت بسرور: المدينة فرحانة يا أبي. # فتساءل دون مبالاة: ألم يصل بعد الطبيب عبد القادر المهيني؟ ~~- لعله في الطريق يا أبي، لكن المدينة فرحانة؛ لأن السلطان رضي بشهرزاد زوجة له، ~~وعدل عن سفك الدماء. # لا شيء يخرجه من هدوئه .. الرضا في قلبه لا ينقص ولا يزيد .. وزبيدة ابنة ~~وتلميذة ولكنها ما زالت في أول الطريق .. وسمعت على الباب طرقا فمضت قائلة: جاء ~~صديقك لزيارته المعتادة. # دخل الطبيب عبد القادر المهيني، فتعانقا، ثم اقتعد شلتة إلى جانب صديقه .. ودارت المناجاة ~~كالمعتاد على ضوء مصباح في كوة .. قال عبد القادر: عرفت - لا شك - الخبر السعيد. # فقال باسما: عرفت ما يهمني معرفته. # فقال الطبيب: الحناجر تدعو لشهرزاد بينا أنك أنت صاحب الفضل الأول. # فقال بعتاب: الفضل للمحبوب وحده. ~~- إني مؤمن أيضا، ولكني أتابع المقدمات والنتائج، لولا أنها تتلمذت على يديك ~~صبية ما كانت شهرزاد .. لولا كلماتك ما وجدت من الحكايات ما تصرف به السلطان عن ~~سفك الدماء. # قال الشيخ: يا صديقي، لا عيب فيك إلا أنك تغالي في تسليمك للعقل. ~~- إنه زينة الإنسان. ~~- من العقل أن نعرف حدود العقل. # فقال عبد القادر: من المؤمنين من يرون أنه بلا حدود. ~~- لقد فشلت في جذب كثيرين إلى الطريق، أنت على رأسهم. ~~- الناس مساكين يا مولاي، في حاجة إلى من يتعامل معهم ويبصرهم بحياتهم. # فقال الشيخ بثقة: رب روح طاهرة تنقذ أمة كاملة. # فتساءل الطبيب بامتعاض: علي السلولي حاكم حينا، كيف تنقذ الحي من ~~فساده؟! # فقال بأسى: لكن المجتهدين مراتب. # فقال بإصرار: إني طبيب، وما يصلح الدنيا هو ما يهمني. # فربت على يده برقة، فابتسم الطبيب وقال: ولكنك الخير والبركة. # فقال الشيخ: أحمد الله فلا السرور يستخفني، ولا الحزن يلمسني. ~~- أما أنا فحزين يا صديقي العزيز .. كلما تذكرت الأتقياء الذين استشهدوا لقول الحق، ~~واحتجاجا على سفك الدماء ونهب الأموال ازددت حزنا! # قال الشيخ: شد ما تأسرنا الأشياء! # فقال عبد القادر في رثاء: استشهد الشرفاء الأتقياء ms003 ، أسفي عليك يا مدينتي التي لا ~~يتسلط عليك اليوم إلا المنافقون، لم يا مولاي لا يبقى في المزاود إلا شر ~~البقر؟! ~~- ما أكثر عشاق الأشياء الخسيسة! # وترامت إليهما من أطراف الحي أصوات زمر وطبل، فأدركا أن الأهالي يحتفلون بالخبر ~~السعيد .. عند ذاك قرر الطبيب أن يذهب إلى مقهى الأمراء. # | مقهى الأمراء # يتوسط المقهى الجانب الأيمن من الشارع التجاري الكبير .. وهو مربع الأركان ~~واسع الساحة، يفتح مدخله على الطريق العام، وتطل نوافذه على حوار جانبية .. ~~تقوم في جوانبه الأرائك للسادة وتستقر في دائرة من وسطه الشلت للعامة .. يقدم ~~مشروبات شتى ساخنة وباردة تبعا للفصول، وبه أيضا أجود صنوف المنزول والحشيش .. ~~تشهد لياليه كثيرين من السادة أمثال صنعان الجمالي وابنه فاضل، وحمدان طنيشة وكرم ~~الأصيل وسحلول وإبراهيم العطار وابنه حسن، وجليل البزاز ونور الدين وشملول الأحدب .. ~~كما تشهد كثيرين من العامة أمثال رجب الحمال وزميله السندباد وعجر الحلاق ~~وابنه علاء الدين وإبراهيم السقاء ومعروف الإسكافي .. غلب المرح على الجميع في تلك ~~الليلة السعيدة، وسرعان ما انضم الطبيب عبد القادر المهيني إلى مجلس يضم ~~إبراهيم العطار وكرم الأصيل صاحب الملايين وسحلول تاجر المزادات والتحف .. ~~أفاقوا ليلتهم من خوف متسلط، واطمأن كل أب لعذراء جميلة، فوعده النوم بأحلام ~~تخلو من الأشباح المخيفة .. وترددت أصوات. ~~- الفاتحة على أرواح الضحايا ... ~~- من العذارى والرجال الأتقياء. ~~- وداعا للدموع. ~~- الحمد والشكر لله رب العالمين. ~~- وطول العمر لدرة النساء شهرزاد. ~~- شكرا للحكايات الجميلة. ~~- ما هي إلا رحمة الله حلت. # تواصل المرح والحديث حتى علا صوت رجب الحمال متسائلا: أمجنون أنت يا ~~سندباد؟ # فسأل عجر الشغوف بدس أنفه في كل شيء: ماذا جننه في هذه الليلة ~~السعيدة؟ ~~- يبدو أنه كره عمله وضاق بالمدينة، لا يريد أن يكون حمالا بعد اليوم. ~~- أيطمع في أن يتولى إمارة الحي؟ ~~- ذهب إلى ربان سفينة وما زال به حتى قبله خادما بها! # فقال إبراهيم السقاء: مجنون حقا من يعرض عن رزق مضمون على البر ليجري ~~وراء رزق مجهول فوق الماء. # فقال معروف الإسكافي: الماء الذي يستمد ms004 غذاءه من الجثث منذ قديم الزمان. # فقال السندباد بتحد: ضجرت من الأزقة والحواري، ضجرت من حمل الأثاث والنقل، لا أمل ~~في مشهد جديد، هناك حياة أخرى؛ يتصل النهر بالبحر، يتوغل البحر في المجهول، يتمخض ~~المجهول عن جزر وجبال وأحياء وملائكة وشياطين، ثمة نداء عجيب لا يقاوم، قلت ~~لنفسي جرب حظك يا سندباد وألق بذاتك في أحضان الغيب. # فقال نور الدين بياع العطور: الحركة بركة. # فقال السندباد: تحية جميلة من زميل الصبا. # فسأل عجر الحلاق ساخرا: هل تتمسح في السادة يا حمال؟ # فقال نور الدين: جلسنا جنبا لجنب في الزاوية نتلقى الدرس على يد مولانا عبد الله ~~البلخي. # فقال السندباد: وقنعت بمبادئ القراءة والدين شأن الكثيرين. # فقال عجر مواصلا سخريته: لن ينقص بذهابك البر ولن يزيد البحر. # عند ذلك قال له الطبيب عبد القادر المهيني: اذهب مصحوبا برعاية الله، ولكن اشحذ ~~حواسك، ليتك تسجل ما يصادفك من بديع المشاهدات؛ فقد أمرنا الله بذلك. متى ~~تسافر؟ # فقال متمتما: صباح الغد، أستودعكم الله الحي الباقي. # فقال رجب الحمال زميله: ما أحزنني لفراقك يا سندباد! # | صنعاء الجمالي # 1 # الزمن يدق دقة خاصة في باطنه فيوقظه .. مد بصره نحو نافذة قريبة من الفراش فرأى ~~من خلال خصاصها المدينة مسربلة في الظلام .. النوم سلبها الحركة والصوت ~~فاستكنت في صمت مفعم بهدوء كوني .. انفصل من جسد أم السعد الدفيء ~~هابطا إلى الأرض .. انغرزت قدماه في زغب سجادة فارسية .. مد ذراعه ملتمسا موقع ~~الشمعدان، فارتطمت بكثافة صلبة فجفل متسائلا: ما هذا؟! # جاء صوت غريب، لم يطرق أذنيه مثله من قبل .. لا صوت إنسان هو، ولا صوت ~~حيوان .. اجتاح حواسه، وكأنما انتشر في المدينة كلها .. ونطق الصوت في غضب: دست ~~رأسي يا أعمى؟! # صرعه الخوف .. ما به من الفروسية ذرة .. ما يجيد إلا البيع والشراء والمساومة .. ~~أكد الصوت قائلا: دست رأسي يا جاهل. # قال بنبرات مرتجفة: من أنت؟ ~~- أنا قمقام. ~~- قمقام؟! ~~- عفريت من أهل المدينة. # أوشك أن يتلاشى من الرعب فانعقد لسانه. ~~- آلمتني فحق عليك العقاب. # عجز لسانه عن أي ms005 دفاع، فواصل قمقام حديثه: سمعتك أمس يا منافق وأنت تقول ~~إن الموت علينا حق، فما بالك تبول من الخوف؟! # نطق أخيرا بضراعة: ارحمني، أنا رب عائلة. ~~- لن يحيق عقابي إلا بك أنت. ~~- ما فكرت لحظة واحدة في التعرض لك. ~~- يا لكم من مخلوقات مزعجة! لا تكفون عن الطمع في استعبادنا لتحقيق أغراضكم ~~الدنيئة .. ألم يشبع نهمكم باستعباد الضعفاء منكم؟ ~~- أقسم لك ... # فقاطعه: لا ثقة لي في قسم تاجر. # فقال: أسألك الرحمة والعفو. ~~- أي سبب يدعوني لذلك؟ # فقال بلهفة: قلبك الكبير. ~~- لا تحاول خداعي كما تخدع زبائنك. ~~- افعلها لوجه الله. ~~- لا رحمة بلا ثمن، ولا عفو بلا ثمن. # فشرق بالأمل المباغت فقال بحرارة: إني أفعل ما تشاء. ~~- حقا؟ # فقال بلهفة: بكل ما أملك من قوة. # فقال بهدوء مخيف: اقتل علي السلولي. # غرقت الفرحة في خيبة غير متوقعة، كسلعة وردت بعد أهوال من وراء البحار، ثم ~~تبين عند الفحص فسادها .. تساءل بذهول: علي السلولي حاكم حينا؟ ~~- دون غيره. ~~- لكنه حاكم، ويقيم في دار السعادة المحروسة، وما أنا إلا تاجر. # فهتف: إذن فلا رحمة ولا عفو. ~~- سيدي .. لم لا تقتله بنفسك؟ # قال بحنق: استأنسني بسحر أسود، وهو يستعين بي في قضاء مآرب لا يرضى عنها ضميري. ~~- لكنك قوة تفوق السحر الأسود! ~~- نحن بعد نخضع لقوانين معينة، دع المناقشة، لك أن تقبل أو أن ترفض. # قال صنعان بحرارة: أليس لك رغبات أخرى؟ لدي مال موفور وسلع من الهند والصين. ~~- لا تبدد الوقت سدى أيها الأحمق. # اشتد به الإغراء من جديد فنطق به اليأس قائلا: إني طوع أمرك. ~~- حذار أن تحاول خداعي. ~~- سلمت الأمر لقدري. ~~- ستكون في قبضتي ولو أويت إلى جبال قاف. # عند ذاك شعر صنعان بألم حاد في ساعده فصرخ صرخة جرفت أعماقه. # 2 # فتح صنعان عينيه على صوت أم السعد وهي تقول «ماذا أخرك في النوم؟» .. أشعلت ~~الشمعدان فجعل ينظر فيما حولها بذهول .. إن يكن حلما فما له يمتلئ به أكثر من اليقظة ~~نفسها؟! .. إنه حي لدرجة تجلب الذعر .. رغم ذلك ابتل ريقه ms006 برحيق النجاة فهيمن عليه ~~هدوء وامتنان .. رد العالم إلى نظامه بعد خراب شامل ونعم بعذوبة الحياة بعد ~~عذاب الجحيم .. تنهد قائلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. # نظرت أم السعد نحوه وهي تدس خصلات مبعثرة من شعرها داخل منديل رأسها ~~وقد طمس النوم على رونق وجهها بطبقة زيتية، فقال ثملا بالنجاة: الحمد لله الذي ~~أنقذني من كرب عظيم. ~~- الله يحفظنا يا أبا فاضل. ~~- حلم فظيع يا أم السعد. ~~- خيرا إن شاء الله. # وقادته إلى الحمام فأشعلت مصباحا في كوة، وتبعها وهو يقول: قضيت شطرا من الليل ~~مع عفريت. ~~- كيف وأنت الرجل التقي؟ ~~- سأقصه على الشيخ عبد الله البلخي، اذهبي الآن بسلام لأتوضأ. # راح يتوضأ .. عندما هم بغسل ساعده اليسرى توقف مرتعدا. ~~- رباه! # جعل ينظر بذهول إلى جرح كالعضة .. ليس وهما ما يرى؛ فمن مغارز الأنياب يبض الدم. # دار رأسه وغمغم: هذا هو المستحيل. # فزع قائما وهرول نحو المطبخ، تساءلت أم السعد وهي توقد الكانون: توضأت؟ # مد إليها ساعده قائلا: انظري! # شهقت المرأة متسائلة: ماذا عضك؟ ~~- لا أدري. # فاستحوذ عليها القلق وقالت: نمت على خير حال! ~~- لا أدري ماذا حصل. ~~- لو حدثت في النهار ... # قاطعها: لم تحدث في النهار. # تبادلا نظرة قلقة مضطربة بالخواطر المكتومة .. قالت بفزع: حدثني عن الحلم. # فقال بضيق: قلت إنه عفريت .. ولكنه حلم. # تبادلا النظرة مرة أخرى .. وتبادلا معاناة القلق .. قالت أم السعد بحذر: ليكن ~~الأمر سرا. # أدرك سر مخاوفها المتجاوبة مع مخاوفه .. إذا جرى ذكر العفريت فلا يدري ماذا ~~يحيق بسمعته كتاجر غدا، ولا ماذا تتعرض له سمعة كريمته حسنية وابنه ~~فاضل، قد يلد الحلم خرابا شاملا .. ثم إنه ليس على يقين من شيء .. قالت أم ~~السعد: الحلم حلم .. وسر الجرح يعلمه الله وحده. # فقال بيأس: هذا ما يجب التسليم به. ~~- المهم الآن أن تبادر إلى العلاج، فاذهب إلى صديقك إبراهيم العطار. # كيف يهتدي إلى الحقيقة؟ .. أرهقه القلق حتى أحنقه فجاش بالغضب .. شعر بأنه يمضي من ~~سيئ إلى أسوأ.. وجدانه جميعه يشحن بالغضب والحنق، وطبعه يسوء؛ فكأنه ms007 ~~يخلق من جديد على حال تناقض دماثته القديمة الراسخة، ولم يعد يطيق نظرات ~~المرأة، فكره نظراتها ومقت خواطرها ووجد رغبة في تحطيم كل قائم .. وفي ~~غفلة من ذاته الضائعة طعنها بنظرة غاضبة حانقة مستفزة كأنما هي المسئولة عن ~~محنته، ثم تحول عنها ذاهبا وهي تغمغم: ليس هذا بصنعان الذي كان! # وجد في الصالة فاضل وحسنية على ضوء كاب نضحت به ثقوب المشربية .. ارتسم في وجهيهما ~~انزعاج دل على ارتفاع صوته الهائج، فازداد غضبا، وصاح بهما بلا سبب وعلى غير عادة: ~~اغربا عن وجهي. # رد باب حجرته وراءه وراح يتفحص ساعده .. لحق به فاضل بشجاعة .. قال بقلق: ~~لعلك بخير يا أبي. # فقال له بفظاظة: دعني وحدي. ~~- كلب عضك؟ ~~- من قال لك ذلك؟ ~~- أمي. # أدرك حكمتها في إعلان ذلك فرضي، ولكن حاله لم تتحسن .. قال: أمر تافه، إني ~~بخير، ولكن دعني وحدي. ~~- لا بد من الذهاب إلى العطار. # فقال بضيق: لا حاجة بي إلى من يذكرني بذلك. # في الخارج قال فاضل لحسنية: شد ما تغير أبي! # 3 # غادر صنعان الجمالي داره دون صلاة لأول مرة في حياته مذ صار صبيا .. ذهب من ~~توه إلى دكان إبراهيم العطار .. صديق قديم وجار في الشارع التجاري .. ولما رأى ~~العطار ساعده قال متعجبا: أي كلب هذا؟! ولكن ما أكثر الكلاب الضالة! # وعكف على انتخاب جملة من الأعشاب، وهو يقول: عندي وصفة لا تخيب. # غلى الأعشاب حتى ترسبت مادة لزجة .. غسل الجرح بماء الورد .. غطاه بالمادة ~~وبسطها عليه بملعقة خشبية، ثم عصب الساعد بشاش دمشقي وهو يتمتم: بالشفاء ~~إن شاء الله. # وإذا بصنعان يقول رغما عنه: أو فليفعل الشيطان ما يريد. # تفرس إبراهيم العطار في وجه صاحبه المحتقن فعجب من تغيره وقال: لا تدع جرحا ~~تافها ينال من طبعك الحلو. # فمضى مكفهر الوجه وهو يقول: لا تأمن لهذه الدنيا يا إبراهيم. # ما أشد جزعه! .. كأنما اغتسل بماء شطة حامية .. الشمس حارة غليظة .. وجوه ~~العباد كئيبة .. وكان فاضل قد سبقه إلى الدكان فاستقبله بابتسامة مشرقة ضاعفت من ~~غيظه .. لعن ms008 الجو رغم ارتياحه المعروف لجميع الأجواء .. لا يكاد يرد تحية .. ولا ~~يرحب بأحد .. لا يستبشر بكلمة أو وجه .. لا يضحك لدعابة .. لا يتعظ بعبور ~~جنازة .. لا يسره وجه مليح .. ماذا جرى؟ ضاعف فاضل من نشاطه ليحول ما أمكن بين ~~أبيه والزبائن .. وأكثر من زبون سأل فاضل همسا: ما بال أبيك اليوم؟ # فيقول الفتى بامتعاض: به وعكة، لا أراك الله من سوء. # 4 # سرعان ما تكشف حاله لرواد مقهى الأمراء .. يقصدهم متجهما، يجلس صامتا، أو يحاور ~~محاورة الشارد .. كف عن تعليقاته الضاحكة .. يضجر سريعا فيغادر المقهى .. يقول ~~إبراهيم العطار: عضه كلب متوحش. # فيقول جليل البزاز: لقد فقدناه تماما. # ويقول كرم الأصيل صاحب الملايين وذو وجه القرد: حاله التجارية مزدهرة ~~جدا. # فيقول الطبيب عبد القادر المهيني: قيمة المال تتبخر عند المرض. # فيقول عجر الحلاق الوحيد بين الجالسين على الأرض الذي يدس نفسه أحيانا في ~~أحاديث السادة، يقول متفلسفا: ما الإنسان؟ .. عضة كلب أو قرصة ذبابة. # ولكن فاضل صنعان صاح به: أبي بخير، ما هي إلا وعكة تزول قبل شروق الصبح! ~~••• # لكنه توغل في حال يتعذر الهيمنة عليها .. وفي ليلة التهم من المنزول قدرا ~~مجنونا وغادر المقهى متوثبا لاقتحام المجهول .. كره الذهاب إلى داره فراح ~~يتخبط في الظلام مشعث العقل والإرادة تسوقه أخيلة معربدة .. تمنى فعلا يمتص ~~توتره الثائر ويريحه من العذاب .. وتذكر نساء من أهله شبعن موتا فتمثلن له ~~عاريات في أوضاع جنسية تطفح بالإغراء فأسف على أنه لم ينل من إحداهن وطرا ~~.. ومر بعطفة الشيخ عبد الله البلخي، ففكر لحظة في زيارته والاعتراف بين ~~يديه بما وقع له ولكنه أسرع مبتعدا .. وعلى ضوء مصباح مدلى من هامة أحد أبواب ~~الدور رأى بنتا في العاشرة ماضية في طريقها تحمل بين يديها سلطانية .. اندفع نحوها ~~معترضا سبيلها متسائلا: أين تذهبين يا عروس؟ # فقالت ببراءة: راجعة لأمي. # فغاص في الظلام حتى فقد البصر، وقال تعالي أريك شيئا طريفا. # حملها بين ذراعيه حتى اندلق ماء المخلل على جبته الحريرية، ومضى بها إلى ما تحت ~~سلم الكتاب ms009 .. حارت البنت في أمر حنانه الغامض، لم ترتح إليه، وقالت متشكية: ~~أمي تنتظر. # لكنه أثار حب استطلاعها بقدر ما أثار مخاوفها .. أغراها عمره - الذي ~~ذكرها بأبيها - بنوع من الاطمئنان .. خالط ذلك قلق مجهول، وتوقع لحلم ~~عجيب .. وندت عنها صرخة باكية تمزق لها وجدانه، وبعثت في مخيلته ~~المظلمة أطيافا مرعبة، فسرعان ما كتم فاها براحته المرتعشة .. لطمته إفاقة ~~مباغتة، فعاد إلى سطح الأرض وهمس متوسلا: لا تبكي .. لا تخافي. # وزحف اليأس حتى قوض أركان العالم .. ومن الخراب الشامل تناهى إليه وقع أقدام ~~تقترب .. وبسرعة قبض على عنقها الرقيق بيدين غريبتين عنه، وتردى في الهاوية كوحش ~~كاسر زلت قدمه .. أدرك أنه انتهى .. انتبه إلى صوت ينادي: بسيمة .. بنت يا ~~بسيمة. # قال لنفسه في يأس كامل: لا مفر. # وضح الآن أن الأقدام تقترب من مكمنه .. وضوء فانوس يتخايل .. دفعته رغبة ~~للخروج حاملا الجثة .. وإذا بوجود ثقيل يقتحم وجوده المتهافت فاقتحمته ذكرى ~~الحلم .. وسمع الصوت الذي سمعه منذ يومين يتساءل: أهذا ما تعاهدنا ~~عليه؟ # قال مستسلما: أنت حقيقة إذن ولست حلما! ~~- أنت مجنون ولا ريب. ~~- أوافق على ذلك ولكنك أنت السبب! # فقال الصوت بغيظ: ما طالبتك بشر قط. # فقال بحرارة: لا وقت للمناقشة، أنقذني لأفي لك بما تعاهدنا عليه. ~~- هذا ما جئت من أجله، ولكنك لا تفهم. # شعر بأنه يتحرك في فراغ في عالم شديد الصمت حتى سمع الصوت مرة أخرى: لن ~~يعثر لك أحد على أثر، فتح عينيك تر أنك واقف أمام باب دارك .. ادخل ~~آمنا، إني منتظر. # 5 # سيطر صنعان على ذاته بقوة خارقة، لم تشعر أم السعد بأن حاله قد ساءت أكثر ~~.. اختفى وراء جفنيه في الظلام وراح يتذكر ما فعله .. إنه شخص آخر .. القاتل ~~المغتصب شخص آخر .. نفسه تتمخض عن كائنات وحشية لا عهد له بها .. الآن يتجرد من ~~ماضيه ويطوي آماله ويقدم نفسه للمجهول .. لم ينم ولم تند عنه حركة تنم عن ~~أرقه .. في الصباح الباكر ترامى إليه صوت نعي .. غابت أم السعد ساعة ثم رجعت وهي ~~تقول: لك الله ms010 يا أم بسيمة. # غض بصره متسائلا: ماذا جرى؟ ~~- ماذا حدث للناس يا أبا فاضل؟ البنت اغتصبت وقتلت تحت سلم الكتاب، ~~طفلة يا ربي ولكن تحت جلد بعض الآدميين وحوشا مفترسة. # حنى رأسه حتى تشعثت لحيته فوق صدره وتمتم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ~~- هؤلاء الوحوش لا يعرفون ربا ولا رسولا. # وأجهشت المرأة بالبكاء. # جعل يسائل نفسه أهو العفريت؟ .. أهو المنزول؟ .. أهو صنعان ~~الجمالي؟! # 6 # خواطر الحي كله هائجة .. الجريمة حديث الحي التجاري كله .. قال له إبراهيم ~~العطار وهو يجدد له الدواء: الجرح لم يندمل ولكن زال خطره. # ثم وهو يلف ساعده بالشاش: سمعت بالجريمة؟ # فقال بامتعاض: أعوذ بالله. ~~- المجرم ليس آدميا، أبناؤنا يتزوجون في حال بلوغهم! ~~- إنه مجنون ولا شك. ~~- أو إنه أحد الصعاليك العاجزين عن الزواج. إنهم يزحمون الطرقات كالكلاب ~~الضالة. ~~- كثيرون يرددون ذلك. # فتساءل العطار متهكما: ماذا يفعل علي السلولي في دار الإمارة؟ # ارتجف لدى ذكرى الاسم، وتذكر العهد المعلق كالسيف فوق رأسه، ولكنه جاراه ~~قائلا: مشغول بمصالحه الخاصة وإحصاء الهدايا والرشاوى. # فقال العطار: فضله علينا نحن التجار غير منكور، ولكن عليه أن يتذكر واجبه ~~الأصلي ليبقى لنا. # فذهب وهو يقول: لا تأمن لهذه الدنيا يا إبراهيم. # 7 # علم حاكم الحي علي السلولي بما يقال عن الأمن من كاتم سره بطيشة مرجان .. ~~خشي أن تترامى الأقوال إلى الوزير دندان فيرفعها إلى السلطان، فاستدعى كبير الشرطة ~~جمصة البلطي وقال له: هل أتاك ما يقال على الأمن في عهدي؟ # لم يتغير هدوء كبير الشرطة الباطني لاطلاعه على أسرار رئيسه وانحرافاته وقال: ~~عفوا يا سيدي الحاكم، ما أهملت ولا قصرت في بث العيون، ولكن الجاني لم يترك ~~أثرا، لم نعثر على شاهد واحد، وقد حققت بنفسي مع عشرات وعشرات من الصعاليك ~~والمتسولين، ولكنها جريمة غامضة لم أعرف لها مثيلا من قبل. # فصاح به: يا لك من جاهل! اقبض على جميع الصعاليك والمتسولين، وإنك خبير بوسائل ~~التحقيق الفعالة. # فقال جمصة بحذر: ليس لدينا من السجون ما يتسع لهم. # فقال الحاكم محنقا: أي سجون يا ms011 هذا؟! أتريد أن تلزم بيت المال ~~بإطعامهم؟، سقهم إلى الخلاء، استعن بالجند، وائتني بالمجرم قبل جثوم الليل. # 8 # انقض رجال الشرطة على الخرابات يقبضون على المتسولين والصعاليك، ثم يسوقونهم ~~جماعات إلى الخلاء .. لم تجد شكوى ولا قسم ولم يستثن الشيوخ .. ~~واستعمل معهم العنف حتى جأروا بالاستغاثة بالله ورسوله وآل البيت .. وراح ~~صنعان الجمالي يتابع الأنباء بذهول وقلق .. إنه الجاني ما في ذلك من شك، ~~ولكنه يمضي مطلق السراح مجللا بالوقار .. مئات من الأبرياء يتعذبون بفعلته ~~النكراء، فكيف صار محور هذا الشقاء كله؟! .. وثمة مجهول يتربص به يهون ~~بالقياس إليه جميع ما سلف .. وهو ضائع تماما ومستسلم بلا شروط .. أما صنعان ~~القديم فقد مات واندثر .. لم يبق منه إلا ذاكرة حائرة تجتز ذكريات كالأوهام .. ~~وانتبه على ضجة تجتاح الشارع التجاري .. ها هو علي السلولي حاكم الحي يخترق ~~الطريق على رأس كوكبة من الفرسان .. إنه يذكر الناس بقوة الحاكم ويقظته ويتحدى ~~البلبلة .. مضى يرد تحيات التجار عن يمين وشمال .. هذا هو الرجل الذي ~~تعهد بقتله .. فاض قلبه بالخوف والمقت .. إنه سر عذابه .. ووقع الاختيار ~~عليه هو ليحرر العفريت من سحره الأسود! .. هو العفريت دون سواه .. نجاته ~~رهن بالقضاء عليه .. تسمرت عيناه في وجهه الغامق الريان ولحيته المدببة ~~وجسمه المائل إلى القصر .. وعندما مر أمام دكان إبراهيم العطار هرع إليه ~~المعلم إبراهيم فتصافحا بحرارة .. وعندما مر أمام دكانه حانت منه التفاتة ~~نحوه فابتسم، فلم يجد صنعان بدا من العبور إليه والمصافحة! وإذا بالسلولي يقول ~~له: سنراك قريبا بمشيئة الله! # رجع صنعان الجمالي إلى دكانه وهو يتساءل عما يعنيه .. هل يدعوه إلى مقابلة؟ ~~.. لماذا؟ .. هل يجد السبيل ميسرا من حيث لم ينتظر؟ .. ربطت قشعريرة بين ~~أعلاه وأسفله .. ردد قوله بذهول: سنراك قريبا بمشيئة الله! # 9 # ولما أخلد إلى النوم ليلا هيمن عليه الوجود الآخر وسمع الصوت يقول متهكما: تأكل ~~وتشرب وتنام وعلي أنا الصبر! # فقال بتعاسة: إنها مهمة شاقة لا يدرك مشقتها من له مثل قوتك. ~~- ولكنها أسهل من قتل البنت الصغيرة! # فتأوه قائلا: يا للخسارة ms012 ! .. طالما عددت من الصفوة الطيبة. ~~- لا تخدعني المظاهر. ~~- لم تكن مجرد مظاهر. ~~- نسيت أشياء يندى لها الجبين. # فقال بارتباك: الكمال لله وحده! ~~- لا أنكر أيضا مزاياك ولذلك رشحتك للخلاص! # فقال بجزع: لولا اقتحامك حياتي ما تورطت في الجريمة. # فقال بوضوح: لا تكذب، أنت وحدك مسئول عن جريمتك! ~~- الحق أني لا أفهمك. ~~- الحق أني أحسنت بك الظن أكثر مما ينبغي. ~~- ليتك تركتني وشأني! ~~- إني عفريت مؤمن، قلت هذا الرجل خيره أكثر من شره، أجل له علاقات ~~مريبة مع كبير الشرطة ولم يتورع عن الاستغلال أيام الغلاء، ولكنه أشرف ~~التجار، وذو صدقات وعبادة وذو رحمة بالفقراء؛ لذلك آثرتك بالخلاص، خلاص ~~الحي من رأس الفساد وخلاص نفسك الآثمة، وبدلا من أن تدرك الهدف الواضح انهار ~~بنيانك وارتكبت جريمتك البشعة. # تأوه صنعان واقعا في الصمت فواصل الصوت: الفرصة متاحة ما زالت. # فتساءل في حيرة: والجريمة؟ ~~- الحياة تتسع للتكفير والتوبة. # فتساءل بنبرة فيها ماء الأمل: ولكن الرجل في حصن منيع. # سوف يستدعيك إلى ~~مقابلته. ~~- إني أعجب لذلك! ~~- سوف يستدعيك، اطمئن واستعد. # فتفكر صنعان مليا، ثم تساءل: هل تعدني بالنجاة؟ ~~- ما اخترتك إلا من أجل النجاة. # ومن شدة الإرهاق استغرق صنعان في نوم عميق. # 10 # كان يتأهب للذهاب إلى المقهى عندما قالت أم السعد: رسول من قبل الحاكم ~~ينتظرك في المنظرة. # وجد كاتم السر بطيشة مرجان في الانتظار بعينيه البراقتين ولحيته القصيرة .. قال ~~له: الحاكم يرغب في لقائك. # خفق قلبه .. أدرك أنه ذاهب لارتكاب أخطر جريمة في تاريخ الحي .. لعله ضايقه أن ~~يكون بطيشة مرجان مطلعا على ملابسات الزيارة، ولكنه اطمأن إلى وعد قمقام .. قال ~~للرجل: انتظرني حتى أرتدي ملابسي. # فقام الرجل قائلا: بل أسبقك تلافيا من لفت الأنظار. # إذن فالرجل يحرص على سرية المقابلة ميسرا بذلك مهمته .. وراح يتدهن ~~بالمسك وأم السعد تراقبه، منطوية على قلق لم يفارقها منذ ليلة الحلم .. هيمن ~~عليها شعور بأنها تعاشر رجلا آخر، وأن صنعان القديم تلاشى في الظلام .. وفي غفلة ~~منها دس في جيبه خنجرا ذا مقبض من الفضة الخالصة ms013 تلقاه هدية من الهند. # 11 # استقبله علي السلولي في جوسقه الصيفي بحديقة الإمارة .. طالعه في جلباب فضفاض ~~أبيض، ورأس عار، فخفف عنه رهبة السلطة .. وقامت بين يديه مائدة حفلت بالقوارير ~~والكئوس والنقل، فبسط له المؤانسة والقرب .. أجلسه على وسادة إلى جانبه مستبقيا ~~مرجان بطيشة، وقال: أهلا بك يا معلم صنعان، تاجر أصيل وإنسان كريم. # فتمتم صنعان مداريا ارتباكه بابتسامة: الشكر لك يا نائب السلطان. # ملأ مرجان ثلاث كئوس، ساءل صنعان نفسه: هل يبقى مرجان إلى آخر الجلسة؟ .. لعلها فرصة ~~لا تتكرر فما العمل؟ وقال السلولي: ليلة صيف لطيفة، أتحب الصيف؟ ~~- أحب الفصول جميعا. ~~- إنك ممن رضي الله عنهم، ومن تمام رضاه أن نبدأ حياة جديدة مثمرة. # فقال صنعان مدفوعا بحب الاستطلاع: أسأل الله أن يتم نعمته علينا. # شربوا فتلقوا من الراح نشوة وانتعاشا .. وجعل السلولي يقول: طهرنا لكم الحي من الأوباش. # فقال بحزن دفين: نعم الحزم والعزم. # فقال بطيشة مرجان: لا نكاد نسمع الآن عن سرقة أو جريمة. # فسأل صنعان بحذر: هل اهتديتم إلى الجاني؟ # فضحك السلولي قائلا: المعترفون بالجريمة فاقوا الخمسين عدا! # ضحك مرجان أيضا، ولكنه قال: الجاني الحقيقي ضمنهم ولا شك. # فقال السلولي: إنها مشكلة جمصة البلطي! # فقال بطيشة: علينا أيضا أن نضاعف المواعظ في المساجد والموالد. # أوشك صنعان أن ييأس، ولكن السلولي أشار إلى مرجان إشارة خاصة فغادر المكان .. ومع ~~ذلك كان الحرس منتشرا في الحديقة، ولا يوجد مهرب، ولكنه لم يغفل لحظة عن وعد قمقام. # قال السلولي مغيرا لهجته: فلنطو حديث الجريمة والمجرمين. # فقال صنعان باسما: طابت ليلتك يا مولاي. ~~- الحق أني دعوتك لأكثر من داع. ~~- إني رهن الإشارة. # فقال بثقة: إني أرغب في الزواج من كريمتك. # دهش صنعان .. أسف لفرصة قدر لها الإحباط قبل أن تولد، ولكنه قال: هذا ~~شرف كبير وسعادة عظمى. ~~- وعندي أيضا بنت هدية لابنك فاضل! # فقال صنعان طاردا ذهوله: إنه شاب سعيد الحظ. # وصمت قليلا، ثم واصل: أما المطلوب الأخير فهو يتعلق بالمصلحة العامة! # فتجلت في عيني صنعان نظرة مستطلعة، فقال الحاكم ms014 : المقاول حمدان طنيشة قريبك ~~.. أليس كذلك؟ ~~- أجل يا مولاي. ~~- المسألة أنني اعتزمت شق طريق بحذاء الصحراء بطول الحي كله. ~~- مشروع رائع حقا. # فسأله بنبرة ذات مغزى: متى تجيئني به إلى هذا المكان؟ # اجتاحته موجة من السخرية وهو يقول: موعدنا مساء الغد يا مولاي! # فحدقه بنظرة ثاقبة وتساءل باسما: ترى على أي حال سيجيئني؟ # فقال صنعان بلباقة ودهاء: على الحال التي تتوقعها تماما. # فضحك السلولي وقال بمرح: أنت لبيب يا صنعان، ولا تنس أننا أهل! # خاف صنعان أن يباغته باستدعاء بطيشة مرجان .. قال لنفسه: «الآن .. أو تلاشت الفرصة ~~إلى الأبد.» .. ويسر الرجل له الأمر وهو لا يدري، فمد ساقيه وانطوى على ظهره طلبا ~~للراحة ثم أغمض عينيه .. كان صنعان يغوص في خيال الجريمة ويقذف بنفسه فيما تبقى له من ~~مصير .. استل خنجره .. سدده نحو القلب .. طعن بقوة مستمدة من التصميم واليأس ~~والرغبة الأخيرة في النجاة .. انتفض الحاكم انتفاضة عنيفة كأنما يصارع قوة ~~مجهولة .. تقلص وجهه وحملق بجنون .. هم بضم ساعديه كأنما ليقبض على ~~الخنجر ولكنه لم يستطع .. نطقت عيناه المذعورتان بكلام لم يسمع، ثم همد ~~إلى الأبد. # 12 # حملق في الخنجر غائب النصل والدم المتدفق وهو يرتجف .. انتزع عينيه بمشقة ونظر ~~نحو الباب المغلق بخوف شديد .. تمزق الصمت بنبض صدغيه .. ولأول مرة يلمح ~~القناديل المعلقة في الأركان .. ولمح أيضا قائما خشبيا مزخرفا بالأصداف عليه ~~مصحف كبير .. توسل بكل عذاباته إلى قمقام عفريته وقدره .. وغشيه الوجود ~~الخفي، وسمع الصوت يقول بارتياح: أحسنت. # ثم بمرح: الآن تحرر قمقام من السحر الأسود. # قال صنعان: أنقذني؛ فقد كرهت المكان والمنظر. # فقال بهدوء وعطف: إيماني يمنعني من التدخل بعد أن ملكت حرية إرادتي ~~.. # فقال بجزع: لا أفقه معنى لما تقول! ~~- عيبك يا صنعان أنك لا تفكر كإنسان. ~~- رباه! لا وقت للجدل، أتزمع تركي لشأني؟ ~~- هذا تماما ما يقتضيه واجبي. # فصاح: يا للفظاعة! لقد خدعتني .. ~~- بل منحتك فرصة للخلاص قلما تتاح لحي. ~~- ألم تتدخل في حياتي وتحملني على قتل هذا الرجل؟ ~~- كنت راغبا بحرارة في التحرر من شر ms015 السحر الأسود، فاخترتك لإيمانك، رغم ~~تأرجحك بين الخير والشر، قدرت أنك أولى من غيرك بإنقاذ حيك ونفسك. # فقال بيأس: لكنك لم توضح لي أفكارك. ~~- وضحتها بالقدر الكافي لمن يفكر. ~~- مكر غير محمود .. من قال إني مسئول عن الحي؟! ~~- إنها أمانة عامة، لا يجوز أن يتبرأ منها إنسان أمين، ولكنها منوطة ~~أولا بأمثالك ممن لا يخلون من نوايا طيبة! ~~- ألم تنقذني من ورطتي تحت سلم الكتاب؟ ~~- بلى، عز علي أن تنتهي بسبب من تدخلي أسوأ نهاية لا أمل فيها لتفكير أو ~~توبة، فارتأيت أن أمنحك فرصة جديدة. ~~- وها قد قمت بما عاهدتك عليه فوجب عليك إنقاذي. ~~- إذن تكون مؤامرة؛ دورك فيها دور الآلة، وتقف الجدارة والتكفير والتوبة ~~والخلاص. # فركع على ركبتيه قائلا بتوسل: ارحمني، وأنقذني. ~~- لا تبدد تضحيتك في الهواء. ~~- إنه مصير أسود! ~~- فاعل الخير لا تكربه العواقب. # هتف بذعر: لا أريد أن أكون بطلا. # فقال قمقام بأسى: كن بطلا يا صنعان، هذا قدرك! # ومضى الصوت يتلاشى وهو يقول: أستودعك الله، وأستغفره لي ولك. # ندت عن صنعان صرخة ترامت إلى بطيشة مرجان ورجال الحرس في الخارج. # | جمصة البلطي # 1 # سبحت روح صنعان الجمالي في سماء مقهى الأمراء فغشي روادها الكدر، شهدوا ~~محاكمته، سمعوا اعترافه الكامل، رأوا سيف شبيب رامة السياف وهو يطيح برأسه .. كانت ~~له منزلة طيبة بين التجار والأعيان، وكان من القلة النادرة التي يحبها الفقراء، ~~وأمام أولئك وهؤلاء ضربت عنقه، وشردت أسرته .. ذاعت قصته على كل ~~لسان، هزت أفئدة الحي والمدينة، استعادها السلطان شهريار مرات ومرات .. وفي جو ~~المقهى الملطف بطلائع الخريف، قال حمدان طنيشة المقاول: الله خالق الملك ~~وصاحبه، المتصرف في شئونه بما يشاء، يقول للشيء كن فيكون، من منكم كان يتصور ~~هذا المصير لصنعان الجمالي؟! صنعان يغتصب بنتا في العاشرة ويخنقها؟! صنعان يقتل حاكم ~~الحي في أول لقاء معه؟! # فقال إبراهيم العطار: باستبعاد العفريت تصبح الحكاية لغزا من الألغاز! # فقال الطبيب عبد القادر المهيني: لعلها عضة الكلب، هي الأصل، ثم تفرع عنها ~~خيالات مرض خبيث لم يعالج كما ms016 يجب! # فقال إبراهيم العطار محتدا: لا يوجد من هو أخبر مني بمداواة عضة الكلب، ~~آخرهم كان معروف الإسكافي .. أليس كذلك يا معروف؟ # فأجاب معروف من مجلسه في الوسط بين العامة: الحمد لله الذي أتم علي نعمة ~~الشفاء. # فتساءل عجر الحلاق: ولم لا نصدق حكاية العفريت؟ # فقال إبراهيم السقاء: إنهم يفوقون الآدميين عدا. # فقال سحلول تاجر المزادات والتحف: الموت في غنى عن الأسباب. # فقال معروف الإسكافي: لي مع العفاريت حكايات وحكايات. # عند ذلك قال شملول الأحدب، مهرج السلطان: علمنا أن العفاريت تتجنب دارك خوفا ~~من زوجتك. # فابتسم معروف مسلما بقضائه .. ولم تلق الدعابة نجاحا في الجو الكئيب .. وقال ~~جليل البزاز: ضاع صنعان وضاعت أسرته. # فقال كرم الأصيل، صاحب الملايين، والوجه الشبيه بالقرد: ومد يد العون لأسرته ~~يعتبر تحديا للإمارة، فلا حول ولا قوة إلا بالله. # فقال إبراهيم العطار: أخوف ما أخاف أن يفر الناس من أسرته اتقاء لشر ~~العفاريت. # فقال حسن العطار الابن: هيهات أن يغير شيء ما بيني وبين فاضل صنعان. # وعاد حمدان طنيشة المقاول يقول: يقول للشيء كن فيكون. # 2 # انطلق جمصة البلطي، كبير الشرطة، نحو النهر ليمارس هوايته المفضلة في ~~الصيد - كف نفسه أربعين يوما عن هوايته حدادا على رئيسه علي السلولي - وقد حزن ~~على القاتل أيضا - في باطنه - بحكم الجيرة والصداقة القديمة التي جعلت من الأسرتين ~~أسرة واحدة .. رباه! هو الذي قبض عليه، هو الذي رماه في السجن، هو الذي قدمه ~~للمحاكمة، ثم ساقه أخيرا للسياف شبيب رامة .. هو أيضا من علق رأسه بأعلى داره ~~وصادر أمواله وطرد أسرته من الدار إلى النار .. وعلى ما عرف به من شدة ~~وصلابة، فقد تكدر صفوه وحزن قلبه - له قلب؛ رغم أن كثيرين لا يتصورون ~~ذلك - بل أحب هذا القلب حسنية، كريمة صنعان، وأوشك أن يطلب يدها، لولا أن ~~دهمته الحوادث .. اليوم طاب الجو، وهامت في السماء سحائب خريف صافية، ولكن ~~حبه دهس تحت عجلة الأحداث .. ترك بغلته مع عبد، ثم دفع القارب إلى وسط النهر، ~~ورمى بالشبكة .. قطرات من الراحة ms017 في خضم العمل الشاق الوحشي .. ابتسم .. ~~سرعان ما تم التفاهم بينه وبين الحاكم الجديد خليل الهمذاني .. من أين يجيء ~~شهريار بهؤلاء الحكام؟! أسفر الرجل عن وجهه عند أول تجربة .. التجربة كانت أموال ~~صنعان المصادرة .. استولى على نصيب منها لا يستهان به، وألقم بطيشة مرجان، كما ~~ألقمه نصيبه .. وأضاف المتبقي إلى بيت المال .. استولى على نصيبه، بالرغم من حزنه ~~لمصير صديقه؛ معتذرا أمام نفسه بأن الرفض يعني تحديا للحاكم الجديد .. في قلبه موضع ~~للعواطف، وموضع للقسوة والجشع .. قال لنفسه: «من تعفف جاع في هذه المدينة.» .. وتساءل ~~ساخرا: «ماذا يجري علينا لو تولى أمورنا حاكم عادل؟!» .. أليس السلطان نفسه هو من ~~قتل مئات من العذارى، والعشرات من أهل الورع والتقى؟! ما أخف موازينه إذا قيس ~~بغيره من أكابر السلطنة .. تنفس بعمق .. حقا إنه يوم جميل .. السماء منقوشة بالسحب ~~.. الهواء معتدل، مضمخ برائحة العشب والماء، الشبكة تمتلئ بالسمك، ولكن أين حسنية؟ ~~أأسرة صنعان تقيم اليوم بحجرة بربع؟ .. بعد الجاه والجواهر والإصطبل .. أم ~~السعد تصنع الحلوى التي كانت تسحر بها ألباب الضيوف، وفاضل يسرح بها كبائع ~~جوال، أما حسنية فتنتظر عريسا لن يأتي .. هل حقا سخرك عفريت يا صنعان ~~أو أتلفتك عضة كلب؟! لن أنسى نظرتك الزائغة واستغاثتك بي: «أسرتي يا ~~جمصة» .. هيهات أن يجرؤ إنسان على مد يده إلى أسرتك .. ابنك فاضل أيضا ولد ذو كبرياء ~~.. ضعت يا صنعان وما كان كان .. إن يكن عفريتك مؤمنا حقا فليفعل شيئا .. عجيبة ~~هذه السلطنة، بناسها وعفاريتها .. ترفع شعار الله، وتغوص في الدنس .. وبغتة تحول ~~وعيه إلى يده .. ثقلت الشبكة مبشرة بالخير .. جذبها بسرور، حتى استوت فوق سطح ~~القارب .. لم ير بها سمكة واحدة! # 3 # ذهل جمصة البلطي .. ثمة كرة معدنية ولا شيء سواها .. تناولها حانقا، ~~قلبها بين يديه، ثم رمى بها في باطن القارب .. أحدثت صوتا عميقا مؤثرا .. حدث بها ~~شيء غير ملحوظ فتمخض عن انفجار .. انطلق منها ما يشبه الغبار مدوما في ~~الجو حتى عانق سحب الخريف .. وتلاشى الغبار تاركا وجودا خفيفا جثم عليه فملأ ms018 شعوره ~~بحضوره الطاغي .. ارتعب جمصة على إيلافه مواقف الخطر .. أدرك بسابق علمه أنه حيال عفريت منطلق من قمقم .. ما ملك أن هتف: الأمان بحق مولانا سليمان! # فقال صوت لم يسمع له مثيلا من قبل: ما أعذب الحرية بعد جحيم السجن! # فقال البلطي متوددا بحلق جاف: خلاصك تم على يدي. ~~- أخبرني أولا عما فعل الله بسليمان؟ ~~- مات سيدنا سليمان منذ أكثر من ألف عام. ~~- مباركة مشيئة الله، هي التي سلطت علينا إرادة آدمي لا يرقى ترابه إلى ~~نارنا، وذلك الآدمي هو الذي عاقبني على هفوة من هفوات القلب يغفر الله أكبر منها ~~برحمته. # فقال جمصة بأمل متصاعد: هنيئا لك الحرية، فانطلق واستمتع بها. # قال بسخرية: أراك تطمع في النجاة! ~~- بما كنت وسيلة إلى خلاصك! ~~- ما حررني إلا القدر. # فقال جمصة بلهفة: وكنت أداة القدر. # فقال بحنق: في سجني الطويل امتلأت بالحنق والرغبة في الانتقام. # فقال بضراعة: العفو عند المقدرة من شيم الكرام. ~~- بارعون أنتم في الحفظ والاستشهاد والنفاق، وعلى قدر علمكم يجب أن يكون حسابكم، ~~فالويل لكم. # فقال جمصة البلطي باستعطاف: نحن نخوض صراعا متواصلا مع أنفسنا والناس والحياة، ~~وللصراع ضحايا لا يحيط بهم حصر، والأمل لا ينعدم أبدا في رحمة الرحمن. # فقال العفريت في صرامة: الرحمة لمن يستحق الرحمة، ورحاب الله مفروشة بأزاهير ~~الفرص المتاحة لمن استمسك بالحكمة؛ لذلك لا تحق الرحمة إلا للمجتهدين وإلا أفسدت ~~الروائح الكريهة نقاء الجو المضيء بالنور الإلهي، فلا تعتذر عن الفساد بالفساد. ~~- نحن نؤمن بالرحمة حتى ونحن نضرب الأعناق ونجتز الرءوس. ~~- يا لك من منافق! .. ما عملك؟ ~~- كبير الشرطة. ~~- يا لها من ألقاب! هل تؤدي واجبك بما يرضي الله؟ # فقال جمصة بقلق: واجبي أن أنفذ الأوامر. ~~- شعار لا يصلح لتغطية الخبائث. ~~- لا حيلة لي في ذلك. ~~- إذا دعيتم لخير ادعيتم العجز، وإذا دعيتم لشر بادرتم إليه باسم الواجب! # وقع جمصة في حصار محكم، وهفت عليه نذر الوعيد، فتراجع إلى حافة القارب ~~وهو يرتعد .. في ذات الوقت شعر بنفاذ وجود جديد هيمن على المكان، فآمن ms019 بمقدم عفريت ~~آخر وأيقن بالضياع .. قال القادم الجديد مخاطبا الأول: هنيئا لك الحرية يا سنجام. ~~- الشكر لله يا قمقام. ~~- لم أرك منذ أكثر من ألف عام. ~~- ما أقصرها بالقياس إلى العمر، وما أطولها إذا انقضت في قمقم! ~~- وقعت أنا أيضا في شباك السحر وهو يضاهي السجن في عذابه. ~~- ما تصيبنا آفة إلا من بني آدم. ~~- في فترة غيابك وقعت أحداث وأحداث، فلعلك يهمك أن تلم بما فاتك. ~~- بلى، ولكني أريد أن أتخذ قرارا نحو هذا الآدمي. ~~- دعنا منه الآن، هيهات أن يفلت من يديك إذا أردته، ولكن لا تتخذ قرارا وأنت ~~حانق، فما هلك منا عفريت إلا فريسة لغضبه، هلم بنا إلى جبل قاف نحتفل ~~بتحريرك. # قال سنجام مخاطبا البلطي: إلى اللقاء يا كبير الشرطة. # مضى الوجود المهيمن يخف، حتى تلاشى تماما .. استرد جمصة حرية أعضائه، ولكنه ~~تهاوى فوق سطح القارب، خائر القوى وثملا بالأمان في آن. # 4 # وثب جمصة البلطي إلى الشاطئ، فاستقبله العبد منحنيا، ثم مضى يطوي الشبكة وهو يقول: ~~ما في الشبكة سمكة واحدة. # فقال جمصة بريق جاف: أكنت تنظر نحوي وأنا في القارب؟ ~~- طيلة الوقت يا مولاي. ~~- ماذا رأيت؟ ~~- رأيتك وأنت ترمي الشبكة، وأنت تنتظر، ثم وأنت تجذبها؛ لذلك أدهشني أن أجدها ~~فارغة. ~~- ألم تر دخانا ينتشر؟ ~~- كلا يا مولاي. ~~- ألم تسمع صوتا غريبا؟ ~~- كلا. ~~- لعلك غفوت! ~~- أبدا يا مولاي. ~~- ما كان بوسعه أن يشك فيما وقع له .. إنه حقيقي أكثر من الحقيقة نفسها .. ~~وقد حفر في ذاكرته اسم قمقام بمثل القوة التي حفر بها اسم سنجام .. فذكر ~~اعترافات صنعان في صورة جديدة، فخيل إليه أن صديقه القديم راح ضحية ~~تعيسة .. وتساءل بقلق عما يخبئه له الغيب. # 5 # طوى سره في صدره .. حتى رسمية زوجته لم تعلم به .. وهو سر يثقل على الصدر ~~والقلب، ولكن ما الحيلة؟ .. إذا فشا يوما أضر بمركزه وأفقده وظيفته .. ~~وأرق الليل متفكرا في العواقب مصمما على الحذر .. سنجام مؤمن فيما بدا، ~~وسيحفظ له جميل تحريره ولو صدفة .. نام عقب صلاة الفجر ساعة، ثم ms020 استيقظ على ~~حال أفضل .. كان بطبيعته قويا يتحدى الصعاب والوساوس .. لقد استأنس السلولي ~~والهمذاني، وليس سنجام بأشد مراسا منهما .. وقالت له رسمية وهما يشربان لبن ~~الصباح: أمس زارتني جارتنا القديمة أم السعد. # توترت أعصابه فجأة .. قدر خطورة الزيارة تقدير شرطي عالم ببواطن الأمور، ~~وقال بجفاء: أرملة مسكينة، ولكن ... # وتردد لحظة، ثم واصل حديثه: ولكن زيارتها لنا تضر بمركزي. ~~- حالها تقطع القلب. ~~- هكذا حال الدنيا يا رسمية، ولكن لندع ما لله لله! ~~- جاءت بأمل أن تعينها على تقديم التماس للحاكم برد أملاك الأسرة. # فهتف: يا لها من جاهلة! ~~- قالت إن الله لا يأخذ الأبناء بذنوب الآباء. ~~- شهريار نفسه هو الذي أصدر الحكم! # ثم قال بوضوح: صنعان كان صديقي ولكن ما قدر كان، ولعل قتل البنت بعد اغتصابها لا ~~يعد شيئا بالقياس إلى قتل حاكم الحي؛ فالسلطان يعتبر الضربة الموجهة إلى ~~نائبه موجهة إلى شخصه، وما زال السلطان سفاكا رغم تغيره الطارئ، فلا تشجعيها على ~~التردد عليك وإلا حلت بنا لعنة لا قبل لنا بها. # فوجمت المرأة منكسرة الفؤاد، فقال: إني في الحزن مثلك، ولكن لا حيلة لنا. # 6 # إنه صادق فيما قال .. حزنه على آل صنعان لم ينقشع، ومرجع ذلك ليس العشق وحده .. ~~أحب الرجل من قبل أن يحب كريمته .. وهو لا يخلو دائما من عواطف طيبة، ومن ~~ذكريات دينية، ولكنه لا يجد بأسا من ممارسة الانحراف في عالم منحرف .. الحق ~~أنه لا يوجد قلب في الحي كقلبه في جمعه بين الأسود والأبيض .. لذلك دعا فاضل ~~صنعان إلى داره في زيارة أحاطها بالكتمان .. جاء الفتى في زيه الجديد المكون ~~من الجلباب والصندل، زي البياع الجوال .. أجلسه إلى جانبه في المنظرة، وقال: ~~يسرني يا فاضل أنك تواجه مصيرك بشجاعة فائقة. # فقال فاضل: أحمد الله الذي أبقى علي ديني بعد ضياع الجاه والمال. # أعجب به حقا، وقال: استدعيتك احتراما لعهدنا القديم. ~~- بارك الله فيك يا سيدي. # فنظر إليه مليا، ثم قال: لولا ذلك لأبحت لنفسي القبض عليك. # فدهش فاضل متسائلا: تقبض علي؟ .. لماذا يا ms021 سيدي؟ ~~- لا تتظاهر بالجهل .. ألم يكفكم ما حاق بكم من شر؟! اسع لرزقك بعيدا عن مصاحبة ~~المخربين من أعداء السلطان! # فقال فاضل بوجه شاحب: ما أنا إلا بائع جوال. ~~- دع المناورة يا فاضل، لا شيء يغيب عن جمصة البلطي، ومهمتي الأولى كما تعلم ~~هي مطاردة الشيعة والخوارج. # فقال فاضل بصوت منخفض: لست منهم، وقد كنت تلميذا في مطلع حياتي للشيخ عبد الله ~~البلخي. ~~- وكنت أنا أيضا تلميذه، من مدرسة البلخي يخرج كثيرون؛ أهل الطريق، أهل ~~السنة، كما يخرج شياطين منحرفون عن الخط الأول. ~~- ثق يا سيدي من أنني أبعد ما يكون عن الشياطين .. ~~- لك رفقاء ورفقاء منهم! ~~- لا شأن لي بعقائدهم! # فقال محذرا: في البداية رفقة بريئة ثم تجيء النكسة، وهم مجانين، ~~يكفرون الحكام، ويغررون بالفقراء والعبيد، لا يعجبهم العجب ولا الصيام ~~في رجب، كأن الله اصطفاهم دون عباده، احذر مصير أبيك؛ فللشيطان طرق شتى، أما أنا ~~فلا أعرف إلا واجبي، وقد بايعت السلطان كما بايعت حاكم الحي على إبادة ~~المارقين. # فقال بنبرة فاترة: توكد يا سيدي من أنني أبعد ما يكون عن المارقين. # فقال جمصة: منحتك نصيحة أبوية فقدرها. ~~- شكرا لمروءتك يا سيدي. # وجعل يتفرس في وجهه بحثا عن مواقع الشبه بينه وبين حسنية أخته، انتشى لحظات ~~بالوجد، ثم قال: وثمة مسألة أخرى، أرجو أن تبلغ والدتك أن تقديم التماس ~~برد أملاك الأسرة يعتبر تحديا للسلطان، فلا حول ولا قوة إلا بالله! # فقال فاضل بتسليم: هذا هو رأيي أيضا يا سيدي. # وانتهت المقابلة في سرية كما بدأت، وتساءل جمصة: ترى هل يتاح له يوما أن ~~يستدعيه ليطلب منه يد حسنية؟! # 7 # لعل جريمة صنعان الجمالي هي الحدث الخطير الوحيد الذي وقع في خدمة جمصة البلطي ~~.. ولم يحمله أحد مسئوليته خاصة بعد ما عرف من تدخل العفريت فيه .. ~~وليس كذلك ما يقع في اليوم في الحي .. فقد تتابعت حوادث قطع طريق داخل سور ~~الحي وخارجه بكثرة مزعجة، فنهبت أموال وسلع واعتدي على رجال .. وغضب ~~جمصة البلطي غضب شرطي قدير حائز للثقة ms022 .. بث المخبرين في الأماكن النائية، ~~ونشر الدوريات نهارا وليلا، وتفقد الأماكن المشبوهة بنفسه، ولكن الحوادث ~~مضت في جريانها هازئة بنشاطه ولم يقبض على مجرم واحد. # وقال كرم الأصيل صاحب الملايين في مقهى الأمراء: كان حال الأمن أفضل على عهد ~~المرحوم السلولي. # فقال الطبيب عبد القادر المهيني ضاحكا: لم يوجد قاطع طريق على عهده ~~سواه! # فقال عجر الحلاق: جمصة البلطي في أسوأ أحواله. # وهو يطلع على أحوال السادة، وهو يقدم لهم خدماته - كحلاق - في دورهم. فقال ~~إبراهيم العطار: الأمن حياة التجارة، والتجارة حياة الأمة، أقترح أن يذهب ~~منا وفد إلى حاكم حينا الهمذاني. # 8 # ودعا خليل الهمذاني جمصة البلطي إلى دار الإمارة، وقال له بعنف: المدينة ~~تخرب وأنت تغط في النوم. # فقال كبير الشرطة بصوت منهزم: ما نمت وما قصرت. ~~- العبرة بالخواتيم. ~~- إن يدي مغلولتان. ~~- ماذا تريد؟ ~~- الصعاليك الذين سبق القبض عليهم ينطلقون الآن للانتقام. ~~- ثبت من اعتراف صنعان أنهم كانوا أبرياء. ~~- لذلك فهم ينتقمون، ولا مفر من اعتقالهم مرة أخرى. # فقال الحاكم بحدة: لقد سخط الوزير دندان على اعتقالهم في المرة الأولى، فلن أسمح به مرة أخرى. # فقال جمصة البلطي بأسى: على أي حال، إني أخوض معركة بقوة لا تعرف ~~الهوادة. # فقال الحاكم: لا بد من ضبط الأمن وإلا عزلتك! # هكذا غادر جمصة البلطي دار الإمارة يجر أذيال الإهانة لأول مرة في حياته. # 9 # غضب حيال الإهانة، فهيمنت عليه طبيعته القوية المتحدية .. غاصت نوازع الخير ~~فتوارت في أعماق بعيدة .. تصدى للهزيمة بوحشية رجل يستبيح أي شيء في سبيل ~~الدفاع عن سلطته .. لقد استوعبته السلطة وخلقته خلقا جديدا فتناسى الكلمات ~~الطيبة التي تلقاها على يد الشيخ في الزاوية على عهد البراءة .. سرعان ما جمع ~~أعوانه، فصب عليهم السيل الذي انصب عليه في بهو الإمارة، وفتح نوافذ الجحيم على ~~مصراعيها .. وكلما وقع حادث جديد، قبض على عشرات بلا دليل أو قرينة، وعذبهم بلا ~~رحمة .. وخفت تبعا لذلك متابعته للشيعة والخوارج، فضاعفوا من نشاطهم، وحرروا ~~الصحائف السرية تطفح بتجريم السلطان والولاة، وتطالب بالاحتكام إلى القرآن ms023 والسنة ~~.. وجن جنونه، فاعتقل الكثيرين حتى خيم الخوف على الحي جميعا، ومادت به ~~الأرض .. واستفظع الهمذاني عنف الإجراءات، ولكنه أغمض عينيه طمعا في الفرج .. ~~على ذاك كله ازدادت الحوادث عدا وعنفا. # 10 # انهزم جمصة البلطي، ولكنه أبى الاعتراف بالهزيمة .. وجعل يبيت ليالي عديدة ~~في دار الشرطة، حتى تسلط الإرهاق على قوته الخارقة .. وغلبه النوم مرة في حجرة ~~عمله، فاستسلم له كأسد جريح .. لم يفز بالراحة المنشودة، ولكنه طرح تحت ثقل ~~وجود غليظ احتل جوارحه .. همس في حيرة: سنجام! # فجاء الصوت مقتحما وجدانه: أجل يا كبير الشرطة! # فسأله مستنكرا: ماذا دعاك إلى الحضور؟ ~~- غباء من يدعون الذكاء! ~~- تنور عقله فجأة، لم تجر له في خاطر، فقال: الآن عرفنا سر قطاع ~~الطريق الذين لا يعثرون لهم على أثر! ~~- الآن فقط؟ ~~- من أين لي أن أخمن أنك صاحبهم؟! ~~- اعترف - رغم غرورك - بأنك غبي. # فسأله بتحد: كيف هان عليك نهب الأموال وذكر الله يتردد على لسانك؟! ~~- لم يصب غضبي إلا الطغمة المستغلة للعباد. # فتأوه قائلا وكأنما يحادث نفسه: سأفقد عملي من أجل ذلك. # إنك أيضا من الطغمة الفاسدة. # فقال بفخار: إني مثل أعلى في أداء الواجب. ~~- والمال الحرام؟ ~~- ما هو إلا فتات يتساقط من موائد الكبراء. ~~- عذر قبيح. ~~- إني أعيش في دنيا البشر. ~~- ماذا تعرف عن الكبراء؟ ~~- كل كبيرة وصغيرة، ما هم إلا لصوص أوغاد! # فقال الصوت متهكما: لكنك تحميهم بسيفك البتار، وتطارد أعداءهم الشرفاء من ~~أهل الرأي والاجتهاد. ~~- إني منفذ الأوامر، وطريقي واضحة. ~~- بل تطاردك لعنة حماية المجرمين واضطهاد الشرفاء. ~~- ما فكر رجل وهو يؤدي واجبي هذا إلا هلك. ~~- إذن أنت أداة بلا عقل. ~~- عقلي في خدمة واجبي فحسب. ~~- عذر من شأنه أن يهدر إنسانية الإنسان. # ولمح في وجدانه خاطر، فتفتحت له أبواب ونوافذ، فقال بدهاء: الحق أني لست ~~راضيا عن نفسي. ~~- محض كذب. # فقال بحرارة: لم أفلح أبدا في اقتلاع الهواتف الشريفة، إنها دائما تحاورني في ~~سكون الليل. ~~- لا أجد لها أثرا في حياتك. # فقال بلباقة: تعوزني قوة تسندني عند الحاجة! ~~- بل إنك ms024 تطارد الهواتف الشريفة كما تطارد الشرفاء. # فقال بتحد: إني أضع نفسي تحت الاختبار. ~~- أفصح عما تريد. ~~- اجعل قوتك في مساندتي لا في معاندتي. ~~- ماذا تريد؟ ~~- أهلك المجرمين، وأحكم الأمة حكما عادلا نقيا! # جلجلت ضحكة، ملأت الكون، وقال: تود أن تمكر بي لتحقيق أحلامك الدفينة في ~~القوة والسلطان! ~~- كوسيلة لا كغاية! ~~- ما زال قلبك غارقا في العبودية! ~~- جربني إذا شئت. ~~- إني عفريت مؤمن، ولا أتجاوز حدودي أبدا .. # فقال جمصة يائسا: إذن ابتعد عن طريقي بسلام. ~~- الحق أني فكرت بهدوء فوق جبل قاف، فاقتنعت بأنك أديت لي خدمة غير ~~منكورة، وإن تكن غير مقصودة، فقررت أن أرد الصنيع بمثله ودون تجاوز للحدود. # فقال بحيرة: ولكنك تفعل نقيض ما تقصد؟ ~~- يا لك من غبي! # فقال بتوسل: أوضح لي هدفك. ~~- لك عقل وإرادة وروح! ~~- ألق علي بصيصا من نور. ~~- لك عقل وإرادة وروح. # هم بالتوسل إليه، ولكن الآخر أطلق ضحكة ساخرة، ثم سحب وجوده بسرعة وتلاشى. # استيقظ جمصة البلطي على نقر الباب .. دخل وكيله ليخبره بأنه مدعو إلى لقاء ~~الحاكم الهمذاني. # 11 # تمنى لو ترك لنفسه ليتأمل، ولكنه لم يجد من الذهاب بدا .. ما توقع خيرا ~~من المقابلة .. لم يعد ينتظر خيرا على الإطلاق .. اختفت بروق الآمال في سماء ~~الخريف، وصمتت طبول النصر .. سيتأرجح طويلا بين الحاكم وعبث سنجام .. غاص في ~~دوامة لا قرار لها فوق متن بغلته في الطريق إلى دار الإمارة .. الطريق مفعم ~~بالحركة والصوت، تحاصره مطالب الحياة، الأعين تتابعه بازدراء .. لا سرور ولا غرور .. ~~انقضت أيام الاختيال .. حقير يقتات على الحقارة، هذا ما أقنعه به سنجام .. عزاؤه ~~الوحيد كان أنه سيف الدولة .. فل السيف، وتقوض الأمن، فأي وزن له؟! .. ~~لص قاتل، حامي المجرمين، ومعذب الشرفاء .. نسي الله حتى ذكره به عفريت من ~~الجن. # 12 # وجد خليل الهمذاني واقفا وسط البهو كرمح مستعد للقتال. قال جمصة بهدوء: سلام ~~الله عليك أيها الأمير. # فصاح الحاكم بصوت متهدج من شدة الغضب: انعدم السلام بوجودك. # فقال بحزن: إني أعمل حتى الموت. ~~- لذلك سرقت جواهر حريمي من أعماق ms025 داري! # فاق ذلك توقعه .. تساءل عما يريد سنجام .. وجم صامتا. # صاح خليل الهمذاني: ما أنت إلا حشاش أو شريك اللصوص. # قال بصوت غليظ: إني كبير الشرطة. # فصرخ: موعدنا المساء، وإلا عزلتك وضربت عنقك. # 13 # أي جدوى ترجى من البحث؟ ماذا يفعل رجاله حيال قوة سنجام؟ سوف يعزل ويفقد ~~شرفه وتضرب عنقه .. إنه مصير طالما ساق الناس إليه، فكيف يتهمه؟! .. لكن جمصة ~~لن يقبل مصيره دون دفاع، ودون دفاع شرس .. أمامه نهار واحد ولا وقت للتردد .. ~~ها هي حياته صفحة مبسوطة أمام عينيه .. شهادة مجسدة ومرعبة .. بدأت بعهد الله ~~وانتهت بعهد الشيطان .. عليه أن يزلزلها قبل الموت .. وخطر الشيخ على قلبه كما ~~تخطر نسمة شاردة في جحيم القيظ .. هفت محمولة بين طيات مقطرة من حنين .. ~~قال لنفسه: «هذا وقته» .. جذبه على أي حال من أعمق أعماقه، عندما هتكت الأحزان ~~القشرة الصلبة الملطخة بالدماء. # وجده في حجرة الاستقبال البسيطة كأنه ينتظر .. انحنى فوق يده صامتا، وتربع على شلتة ~~بين يديه .. تنشق الذكريات كعطر وردة محنطة، وتجسدت له في الفراغ آيات ~~وأحاديث، ومخلفات من النوايا الطيبة كالدماء .. ارتوى من السكينة حتى غلبه الحياء، ~~فقال بحزن: إني أقرأ شعورك نحوي يا مولاي. # فقال عبد الله البلخي بهدوئه الخالد: علم ذلك عند الله وحده، فلا تدع ما ليس ~~لك به علم. # فقال بحزن: أنا في رأي الناس شرطي سفاح. ~~- ترى لم يزورني السفاحون؟ # فقال متشجعا: ما أعذبك يا مولاي! الحقيقة أن لدي حكاية أود أن تسمعها. # فقال بزهو: لا رغبة لي في ذلك. ~~- يجب أن أتخذ قرارا، وهيهات أن يدرك مغزاه دون سرد الحكاية. ~~- القرار كاف لإدراك مغزى الحكاية. # فقال بقلق: الأمر يحتاج إلى مشاورة. ~~- كلا، إنه قرارك وحدك. # فقال بتوسل: اسمع حكايتي العجيبة. # فقال بهدوئه: كلا، يهمني أمر واحد. # فسأله بلهفة: ما هو يا مولاي؟ ~~- أن تتخذ قرارك من أجل الله وحده. # فقال بحيرة: لذلك أحتاج إلى الرأي. # فقال الشيخ بهدوء حازم: الحكاية حكايتك وحدك، والقرار قرارك وحدك. # 14 # غادر دار الشيخ موزعا بين الشك واليقين ms026 .. كان الشيخ يعرف حكايته وقراره، وكأنه ~~يبارك قراره تحت شرط أن يكون من أجل الله وحده؟! .. ألم يلعب اليأس دورا؟ ~~ألم يلعب الدفاع عن النفس دورا آخر؟ ألم تلعب الرغبة في الانتقام دورا ~~ثالثا؟ ترى هل يهون من شأن التوبة أن تسبق بمعصية؟! .. العبرة بالنية ~~الأخيرة وبالإصرار عليها حتى النهاية .. إنه على أي حال، يدفن جمصة القديم ~~ويبعث آخر جديد .. ولما قر قراره تنهد بارتياح عميق .. وتضاعف نشاطه ~~طيلة الوقت، فزار داره، وجالس رسمية زوجته وأكرمان ابنته، فجاش صدره بعواطف ~~حارة خفية، أشعرته بوحدته أكثر وأكثر .. حتى سنجام تركه لوحدته .. غير أن ~~تصميمه كان نهائيا ولم يعرف التردد .. وواجه أخطر موقف في حياته بشجاعة نادرة ~~وإقدام لا يلوي على شيء .. ورجع إلى مركز عمله فأفرج بقوته الذاتية عن الشيعة ~~والخوارج، في ذهول كامل شمل الجنود والضحايا .. وعند مطلع المساء، مضى من توه ~~إلى دار الإمارة .. أعرض عن النظر إلى الوجوه والأماكن في طريقه، كأنها لم تعد تعنيه ~~.. ورأى أخيرا خليل الهمذاني ينتظر في هدوء وتصميم، فلم يشك في أنه اتخذ ~~قراره أيضا .. ضمهما البهو في وحدة إلا من عذابات البشر المتجمعة وراء الوسائد ~~والطنافس .. وشهود من جميع الأجيال الغابرة .. لم يتبادلا تحية، وسأله الحاكم ببرود: ~~ماذا وراءك؟ # فأجاب جمصة البلطي بثقة: كل خير! # فتساءل الرجل بتفاؤل طارئ: أقبضت على اللص؟ ~~- من أجل ذلك جئت. # فقطب الحاكم متسائلا: أتظنه في داري؟ # فأشار جمصة إليه قائلا: ها هو يتكلم بلا حياء. # ذهل خليل الهمذاني وهتف: جننت ورب الكعبة! ~~- إنه الصدق يقال لأول مرة. # تحفز الحاكم للعمل، فامتشق جمصة سيفه وهو يقول: ستنال جزاءك الحق. ~~- جننت، إنك لا تدري ما تفعل. # فقال بهدوء: إني أقوم بواجبي! # فقال باضطراب وذعر شامل: عد إلى رشدك، إنك تلقي بنفسك إلى النطع. # فوجه إلى عنقه ضربة قاضية، فاختلطت صرخته المذعورة بخواره، واندفع مثل نافورة. # 15 # ألقي القبض على جمصة البلطي وانتزع السيف من يده .. لم يحاول الهرب .. ولم ~~يقاوم، آمن بأن مهمته قد انتهت .. لذلك حل به هدوء ms027 وصفاء ذهن، وعلت في ~~وجدانه موجة الشجاعة الخارقة، فشعر بأنه يخطو فوق جلاديه، وبأنه لا يبالي الموت ~~بأي قدر جاء .. وقال لنفسه: إن الإنسان أعظم مما تصور، وإن الدنايا التي ~~اقترفها لم تكن جديرة به على الإطلاق، وإن الإذعان لسطوتها كان هوانا دفعه إليه ~~السقوط والتنكر لطبيعته الإنسانية .. وقال أيضا: إنه يمارس الآن عبادة ~~صافية يغسل بطهرها قذر أعوام النفاق الطويلة. # وانتشر الخبر مع هواء الخريف فصار حديث العامة والخاصة، وفجر الذهول ~~تساؤلات لا حصر لها ولا عد .. وتضاربت النبوءات واحتدم هذيان المجاذيب ~~فانطلق الاضطراب يجتاح الحي والمدينة ويصعد بهرجه إلى القصر السلطاني .. ~~وما لبث أن انتقل الوزير دندان إلى دار الإمارة بالحي على رأس كوكبة من الفرسان. # 16 # استدعي جمصة البلطي مكبلا بالحديد للمثول أمام العرش في بهو الأحكام ~~.. وتبدى شهريار في عباءته الحمراء التي يرتديها إذا جلس للقضاء، على رأسه عمامة ~~عالية تتراسل في جنباتها فصوص الجواهر النادرة .. إلى يمينه وقف دندان، وإلى يساره ~~رجال السلطنة، على حين اصطف الحرس على الجانبين، أما وراء العرش فقد مثل ~~شبيب رامة السياف. # تجلت في عيني السلطان نظرة ثقيلة محملة بالفكر، ومضى يتفرس في وجه كبير ~~الشرطة مليا، ثم سأله: ألا تقر بفضلي عليك يا جمصة؟ # فأجاب الرجل بصوت قوي مثير للأعصاب: بلى، أيها السلطان. # فآنس السلطان منه تحديا لموقفه المكبل بالحديد، فقطب وسأل: أتعترف ~~بأنك قتلت خليل الهمذاني نائبي في حيكم؟ ~~- أجل أيها السلطان. ~~- ماذا دفعك إلى ارتكاب جريمتك الشنعاء؟ # فقال بوضوح ودون مبالاة بالعواقب: أن أحقق إرادة الله العادلة! ~~- ومن أدراك بما يريد الله سبحانه؟ ~~- هذا ما ألهمته خلال حكاية عجيبة غيرت مجرى حياتي! # انجذب وجدان السلطان نحو لفظة «حكاية» فتساءل: وما الحكاية؟ # روى جمصة البلطي حكايته .. مولده من أبوين من عامة الشعب، تلمذته في ~~الزاوية على يد الشيخ عبد الله البلخي، انفصاله عن الشيخ بعد تعلم مبادئ ~~الدين والقراءة والكتابة، قوة بدنه التي أهلته للخدمة في الشرطة، اختياره ~~كبيرا للشرطة لكفاءته النادرة، انحرافه خطوة فخطوة حتى انقلب مع الزمن ms028 حاميا ~~للمنحرفين وجلادا لأصحاب الرأي والاجتهاد، ظهور سنجام في حياته، أزماته ~~المتتابعة، وأخيرا توبته الدامية. # تابعه شهريار باهتمام .. وضح أنه انفعل بأقواله انفعالات متضاربة .. قال ببرود: ~~سنجام جمصة، عقب قمقام صنعان الجمالي، أصبحنا في زمن العفاريت الذين لا هم لهم ~~إلا قتل الحكام! # فقال جمصة: ما زدت على الحقيقة حرفا والله شهيد. ~~- لعلك تحلم بأن ينقذك ذلك من العقاب؟ # فقال باستهانة: إقدامي يقطع بأنني لا أبالي. # فقال شهريار بحيرة: سنجعل منك مثلا للمتمردين، فليضربن عنقك، ~~وليعلقن رأسك فوق باب دارك، ولتصادر أموالك. # 17 # في سجن تحت الأرض، وفي ظلام .. كافح آلامه واستمسك بشجاعته .. أثار حنق السلطان ~~فانتصر عليه .. تركه فوق عرشه يتعثر في هزيمته .. وتذكر بأسى رسمية وأكرمان .. وطافت ~~بخياله حسنية .. ستلقى أسرته من الهوان ما لقيته أسرة صنعان ولكن رحمة ~~الله أقوى من الكون .. وظن أن السهاد لن يفارقه ولكنه نام نوما عميقا لم ~~يستيقظ منه إلا على جلبة وضوء مشاعل .. لعله الصباح، وها هم أولاء الجنود قد حضروا ~~ليسوقوه إلى النطع .. سيكتظ الميدان بأهل الفضول وسيموج بالعواطف المتضاربة .. ~~ليكن .. ولكن ماذا يرى؟ يرى الجنود تنهال بالركلات على جمصة البلطي، وهذا يستيقظ ~~فزعا متأوها.. ما معنى هذا؟ أيحلم؟ إذا كان هذا هو جمصة البلطي فمن يكون هو؟! ~~كيف لا ينتبه إليه أحد وكأنما هو غير موجود؟! ذهل وخاف أن يفقد عقله .. بل ~~لعله فقد عقله .. إنه يرى جمصة البلطي أمامه .. الجنود تسوقه إلى الخارج .. وإنه ~~- بخلافه - شديد الفزع والانهيار .. وجد نفسه أيضا محررا من القيد، فعزم على ~~مغادرة السجن، وتبع الآخرين لا يلتفت إليه أحد .. رباه! .. المدينة منحشرة في ~~ميدان العقاب .. نساء ورجال وأطفال .. في الصدر السلطان ورجال الدولة .. النطع ~~في الوسط وشبيب رامة ونفر من المساعدين .. لم تحضر رسمية ولا أكرمان فهذا حسن .. ما ~~أكثر الوجوه التي عرفها وتعامل مع أصحابها! إنه ينتقل من مكان إلى مكان فلا ~~ينتبه إليه أحد .. أما جمصة البلطي فيقترب من النطع بين حراسه .. وجه واحد ~~تراءى له كثيرا حتى عجب لشأنه هو وجه ms029 سحلول تاجر المزادات والجواهر .. وعندما ~~هيمنت لحظة الصمت المؤثر، وخطف النطع الأبصار من جميع الجهات، خفق قلبه، ~~وخيل إليه أنه سيلفظ روحه عقب سقوط رأس الآخر. وفي اللحظة المفعمة بالصمت ~~ارتفع سيف شبيب رامة، ثم هوى كالصاعقة، فسقط الرأس، وختمت حكاية جمصة ~~البلطي. # توقع جمصة البلطي الموت ولكنه مر به وذهب .. وتضاعف ذهوله وسط تيار المنصرفين ~~حتى خلا الميدان تماما .. تساءل: «أأنا جمصة البلطي؟» وإذا بصوت سنجام يقول: كيف ~~تشك في ذلك؟ # فهتف الرجل في غاية من التأثر: سنجام؟! .. أنت صاحب المعجزة! ~~- إنك حي، وما قتلوا إلا صورة من صنع يدي! ~~- إني مدين لك بحياتي فلا تتخل عني. # فقال بوضوح: لا، الآن لا علي ولا لي، أستودعك الله. # فهتف مذعورا: كيف لي بالظهور أمام الناس؟! # فقال الصوت: هيهات أن يعرفك أحد، انظر في أول مرآة تصادفك. # | الحمال # 1 # من أعلى باب الدار تدلى رأس جمصة البلطي .. الرائحون والغادون ينظرون إليه، ~~يتوقفون قليلا ثم يذهبون، وجمصة البلطي ينظر مع الناظرين .. ينظرون بفضول أو ~~رثاء أو شماتة .. أما هو فينظر بذهول ولم يكن أفاق من كربه حينما شهد طرد زوجته ~~وابنته من الدار .. وقد مرا به دون اكتراث وهو متصور في صورة حبشي مفلفل ~~الشعر خفيف اللحية ممشوق القامة .. عجبه من منظر رأسه لا ينقضي، أما حزنه على ~~أسرته فلا نهاية له .. ويحوم حول الدار فتترامى إلى أذنيه التعليقات المتضاربة تحت ~~الرأس المعلق .. السادة - مثل كرم الأصيل والعطار والبزاز - يلعنونه بلا رحمة، ~~والعامة يرثون له .. وقد أشرف على مصادرة داره الحاكم الجديد يوسف الطاهر ~~وكاتم سره بطيشة مرجان وكبير الشرطة الجديد عدنان شومة .. فتساءل عما ذهب إلى ~~بيت المال وعما دس في الجيوب .. وظل قريبا من الرأس المعلق ينظر ويتأمل ويسمع ~~.. ورأى عجر الحلاق وهو يقول لإبراهيم السقاء مشيرا إلى الرأس: قتلوه جزاء الفعل ~~الخير الوحيد في حياته. # فتساءل السقاء: لم لم ينقذه عفريته المؤمن؟ # فقال الحلاق محذرا: لا تخض فيما لا تعلم. # فصدق معروف الإسكافي على قوله .. ورأى سحلول تاجر المزادات والتحف ms030 وهو ينظر ~~نحو الرأس بلا مبالاة، فتذكر نشاطه العجيب يوم الإعدام .. ولما كان التاجر ~~وحده فقد اقترب منه وسأله: هلا نورت غريبا بحكاية صاحب الرأس؟ # فحدجه سحلول بنظرة ارتجف لوقعها جسمه .. خيل إليه أنها نفذت إلى أعماقه، ~~فازداد الرجل في نظره غموضا على غموض .. وقال له سحلول وهو يمضي عنه: لا أعرف عنه ~~أكثر من الآخرين. # أتبعه ناظريه حتى اختفى، ثم قال لنفسه: «لعله ترفع عن محادثة حبشي غريب!» .. ~~وتذكر تاريخه - كشرطي سابق عالم بأحوال الناس - فشهد له بأنه التاجر الكبير ~~الوحيد الذي لم ينشئ علاقة مريبة معه أو مع الحاكم! .. ثم سرعان ما نسيه في زحمة ~~التأملات .. ورأى رجب الحمال ينضم إلى موقف عجر وإبراهيم ومعروف، فقصده مدفوعا ~~بخطة رسمها من قبل .. حياه وقال: إني حبشي مهاجر وأريد أن أعمل ~~حمالا! # فتذكر رجب صديقه الأول السندباد، ولكنه قال: هلم معي والله رزاق كريم. # 2 # حام بروحه وجسده حول أسرته .. ما قيمة الحياة إذا ما انفصل عن أسرته ورأسه؟! وظل ~~يتبع رسمية وأكرمان حتى استقرتا في حجرة بالربع الذي يقيم فيه آل صنعان .. ولم ~~يتردد فاكترى لنفسه حجرة في نفس الربع، وعرف بعبد الله الحمال .. وسره ~~في غيوم القلق أن أم السعد هي التي قادت أسرته إلى مأواها الجديد .. سره أن أم السعد لم تنس الجيرة القديمة .. ولم تنس سعي رسمية إلى ~~مساعدتها في محنتها .. وسوف تشارك رسمية زوجته في صنع الحلوى فسيسرح بها فاضل ~~صنعان لحساب الأسرتين .. سر بذلك أيما سرور، وسر أيضا بجيرته لهم، فيهنأ ~~برؤيتهم، ويطمئن على أحوالهم، ويمارس ما يتاح له من زوجية وأبوة وعشق من بعيد، من ~~موقع لا يدري به أحد .. وتوقع أن يتزوج فاضل من ابنته أكرمان كما اتفق مع صنعان، ~~وكما حلم هو يوما من الزواج من حسنية أخت فاضل. # واصل تلك الحياة الغريبة .. يشعر أحيانا أنه حي، وأحيانا أنه ميت. # 3 # أجل إنه عبد الله الحي وجمصة الميت معا .. تجربة غريبة لم يمارسها إنسان من ~~قبل .. يسعى إلى رزقه في رحاب زمالة رجب ms031 فيتذكر أنه حي .. يعبر الطريق تحت رأسه ~~المعلق أو يرى رسمية وأكرمان فيتذكر أنه ميت .. ولم يغفل أبدا عن معجزة إنقاذه ~~من الموت، فعزم على السير حتى النهاية، في طريق التقوى .. يجد سروره في العبادة، وينعم ~~في وحدته بذكر الله، ويناجي رأسه المعلق فيقول: «لتبق رمزا على موت الشرير الذي عبث ~~بروحي طويلا.» على أن صدره فاض بحنين دائم نحو شخصيته الزائلة .. تلك ~~الشخصية التي توجت حياتها بتوبة صادقة .. مثير جدا أن يموت الإنسان وهو ~~حي، أو يحيا وهو ميت .. فمن ذا يمكن أن يصدق أنه جمصة البلطي بجوهره الدفين؟! ~~وهل يحتمل أن ينفرد بهذا السر وحده إلى الأبد؟! حتى رسمية وأكرمان تنظران إليه ~~كغريب وافد من بلاد غريبة ..لذلك يشعر حيال نظرتهماغير المبالية بغربة قاسية وظلم معذب .. لم يفطنا ولو مرة واحدة إلى الحب الراسخ وراء ~~نظرته المسترقة .. لم يعكسا لأشواقه صدى .. تطل من عينيهما نظرة تجدد ~~تنفيذ الإعدام فيه كل صباح وكل مساء .. حتى حزنهما لذكراه لم يكن يمسه ~~بأنامل العزاء .. ويحز في نفسه ابتعادهما الوئيد عن ذكراه فيما يغوصان فيه من ~~هموم الحياة اليومية .. لن يصدقا الحياة الموهوبة له بمعجزة ولن يتقبلاها .. لقد ~~تجرعتا غصص موته، وعانتا كرباتها، وعرفتا الحياة بدونه، والخروج من ~~الوضع الجديد مزعج مثل الدخول فيه .. وهو لن يقدم على تقويض البناء الجديد ولا ~~يستطيعه .. من مات يجب أن يستمر في الموت رحمة بمن يحب .. وعليه أن يألف موته في ~~حياته الجديدة .. ليكن عبد الله الحمال لا جمصة البلطي .. ولتكن مسرته ~~في العمل والعبادة .. غير أن عمله يسوقه كثيرا إلى بيوت معارفه السابقين، وإلى ~~دور السادة والحكام .. عالم التقوى الظاهرة والفساد الكامن .. وأرجعه ذلك إلى التفكير في ~~ذاته وفي أحوال الناس .. كدر صفو سلامه الروحي. طارده الاعوجاج كأنما اقتحم ~~أعضاءه وأخل بوظائفها .. وقال إنه كما تنطلق الكواكب في نظام بديع فهكذا يجب أن ~~تجري أحوال العباد .. وتساءل في قلق: هل بقيت في الحياة بمعجزة لأعمل ~~حمالا؟! # 4 # جعل شهريار ينظر إلى أشباح الأشجار المتهامسة في ms032 الليل .. ربض السلطان في مجلسه ~~بالشرفة الخلفية رغم أن الخريف كان ينسحب أمام طلائع الشتاء .. إنه أقدر على ~~تحمل البرد منه على محاورة طوفان أفكاره .. والتفت نحو وزيره دندان متسائلا: ~~أتكره الظلام؟ # فقال الوزير بولاء: إني أحب ما يحب مولاي. # إنه يتساءل دائما: ترى هل تغير السلطان حقا أو أنها وقفة عابرة؟! ولكن مهلا ~~.. كان في ماضيه حاسما واضحا قاسيا بليد الإحساس، الآن سرعان ما تومض في عينيه ~~نظرة حائرة .. قال دندان: الأمة سعيدة وتلهج بالشكر. # فتمتم السلطان بخشونة: قتل علي السلولي وسرعان ما لحق به خليل ~~الهمذاني! # فقال دندان بإشفاق: الشر والخير كالليل والنهار. ~~- والعفاريت؟! ~~- أمام النطع يختلق المجرم ما يستطيع. # فقال بهدوء: ولكني أتذكر حكايات شهرزاد! # فخفق قلب دندان، وقال: لا بد أن يلقى القاتل جزاءه. ~~- الحق أني أوشكت أن أكتفي بسجن جمصة البلطي! # ثم بحنق: ولكني أعدمته جزاء وقاحته في مخاطبتي. # قال دندان لنفسه: إن مولاه لم يتغير منه إلا سطحه، ولكنه قال: على أي حال نال ~~الشقي جزاءه. # فقال بحدة: ونلت نصيبي من الكآبة. ~~- مولاي، لعلها وعكة طارئة. ~~- بل حال من الأحوال، وهل حدثتني حكايات شهرزاد إلا حديث الموت؟! # فقال الوزير بجزع: الموت! ~~- أمم تلتهمها أمم، يطرق بابها في النهاية طارق مصمم واحد هو هازم ~~اللذات! ~~- إنها مشيئة الله، أطال بقاءك. # فقال بصوت محايد: القلوب أسرار، والكآبة ماكرة، وقد تداوى الملوك السابقون في ~~الليل بالتجوال وتفقد الأحوال. # فقال دندان مستمسكا بطوق النجاة: التجوال وتفقد الأحوال، يا له من إلهام! # وقال لنفسه: «كائن لا حدود لقوته، قد يتكشف عن زهرة أو يتمخض عن زلزال.» # 5 # عبد الله الحمال ماض في دورانه بلا توقف .. في الأزقة المسدودة والحواري ~~الحلزونية وأحياء التجارة والحرف وطرق المراكب وميادين الرماية والصيد ~~والإعدام والبوابات الضخمة تقوم مقام الحدود، والروائح تنتشر كالعناوين؛ رائحة ~~العطارة النافذة والعطور المخدرة والأقمشة المدغدغة والأطعمة الفواحة ~~والجلود العطنة .. يمر برسمية وأكرمان، وأم السعد وحسنية، يلقي التحية ~~بلسان يتردد في هذا العالم وبقلب سكن في العالم الآخر .. وفي تجواله عرف فاضل ms033 ~~صنعان ووثق علاقته به .. من الناس من حفظ عهده مثل حسن العطار ونور الدين، ومنهم ~~من تجنبه تجنبا للشيطان .. وأشفق عبد الله من أن تتفشى حكاية العفريت فتقضي على ~~مستقبل أكرمان وحسنية اللتين يؤهلهما إعدادهما لخيرة الزيجات .. وأحب فاضل صنعان ~~لجده وتقواه وشجاعته فجعل من سلم السبيل محط راحته في نهار العمل يلتقيان فيه ~~ويتبادلان الحديث .. وذات مرة قال له: إنك شاب تقي لا تفوتك فريضة، فلم ~~لا تصون عفتك بالزواج؟ # فقال فاضل بأسى: لا قبل لي بنفقات الزواج. ~~- القليل يكفي! ~~- لي حياء وكرامة. # فقال عبد الله بإغراء: بين يديك أكرمان. # التقت عيناهما في ابتسامة كاشفة عن أسرار كثيرة، وقال فاضل: وأنت يا عم عبد ~~الله ناهزت الأربعين أو فتها دون زواج؟ # فقال الحمال بوضوح: إني أرمل، وأود أيضا أن أصون عفتي! ~~- يخيل إلي أنك في غير حاجة إلى خاطبة! # فقال بهدوء: ست رسمية أم أكرمان! # فضحك فاضل وقال: فلننتظر قليلا ثم نتقدم معا. ~~- ولم الانتظار؟ ~~- حتى تمحى ذكرى جمصة البلطي! # فانقبض صدره .. إنه أراد رسمية بدافع من وفائه وتقواه .. لو أطاع هواه ما اختار إلا ~~حسنية .. ويوم تقبله رسمية سيسعد من قلبه نصف ويبكيه نصفه الآخر. # 6 # كلما خلا إلى نفسه تساءل: «هل بقيت في الحياة بمعجزة لأعمل حمالا؟!» .. وتساءل ~~أيضا: «لم لم يهجرني سنجام في اللحظة الحرجة كما هجر قمقام صنعان الجمالي؟» .. ~~وامتلأ بالحيرة كوعاء مكشوف تحت المطر، فقادته قدماه إلى دار الشيخ عبد الله ~~البلخي. قبل يده وتربع أمامه وهو يقول: إني غريب. # فقاطعه الشيخ: كلنا غرباء. ~~- اسمك كالزهرة يجذب إليه شوارد النحلات. # فقال الشيخ: الفعل الجميل خير من القول الجميل. ~~- ولكن ما الفعل الجميل؟ .. هذه هي مشكلتي! ~~- ألم يصادفك عند مجيئك رجل حائر؟ ~~- أين يا مولاي؟ # فأجاب بهدوء: بين مقامي العبادة والدم؟ # فارتعد خوفا وقال لنفسه: إنه يرى ما وراء الحجاب .. وقال متنهدا: في الليلة ~~الظلماء يفتقد البدر. # فقال الشيخ: عرفت من التلاميذ ثلاثة أنواع. ~~- هم السعداء في جميع الأحوال. ~~- قوم يتلقون المبادئ ويسعون في الأرض، وقوم ms034 يتوغلون في العلم ويتولون ~~الشئون، وقوم يواصلون السير حتى مقام الحب، ولكن ما أقلهم! # فتفكر عبد الله مليا، ثم قال: ولكن العباد في حاجة إلى الرعاية. # فقال دون أن يتخلى عنه هدوءه: كل على قدر همته. # فتحدى تردده قائلا: إنما قصدتك يا مولاي ... # وعثر في الصمت كأنما ليجمع أفكاره فقال الشيخ: لا تحدثني عن مقصدك. ~~- لماذا؟ ~~- كل على قدر همته! # أسبل جفنيه غائبا عن اللقاء. # انتظر عبد الله أن يرفعهما مرة أخرى ولكنه لم يفعل، فانحنى لاثما يده وانصرف. # 7 # قال لنفسه: إن الشيخ اطلع على هواجسه فأحاله إلى ذاته .. عليه أن يسلم بذلك ما ~~دام الإنسان قد قبل الأمانة .. سيلقى الأشرار غدا الويل بفضل عزيمة تائب ومكر ~~شرطي خبير .. ومضى يمارس عمله وهو يتلقى صفاء وتركيزا .. ومن رحمة تنداح في قلبه ~~استمد عقله أفكارا لا تعرف الرحمة .. حادة كنصل السيف .. سرعان ما دهمته الحياة ~~بتناقضاتها الساخرة ومصائرها الدامية وهنائها الموعود .. وأبى التراجع؛ لأنه أبى أن ~~يستأثر بهدية الحياة دون ثمن .. عند ذاك تراءت له حسنية كأمل يبرق في سماء عالم ~~آخر .. وعند الأصيل آوى إلى سلم السبيل فوافاه فاضل صنعان إليه .. تبين له أن الشاب ~~وثب فوق الزمن بأسرع مما قدر .. قال فاضل: سأطلب يد أكرمان! # فقال بدهشة: كنت تفضل الانتظار وقتا؟ ~~- كلا، عدلت عن ذلك، وسأطلب يد ست رسمية نيابة عنك! # صمت عبد الله متفكرا .. لا شك أنها بحاجة إلى رجل في محنتها، وهيهات أن تطمع ~~فيمن هو أفضل منه! # وقال فاضل بمرح: ما أجمل أن تتزوج الأم وابنتها في ليلة واحدة! # ولما كان قد آنس إليه فقد أنشأ يقص عليه حكايتي صنعان الجمالي وجمصة البلطي. # 8 # ولما انتهى من حديثه المثير قال عبد الله معلقا: يعز من يشاء ويذل من يشاء. # فتمتم فاضل صنعان: كل على قدر همته! # فاقتحمته الجملة مثل رائحة الفلفل وتساءل: ترى هل تلقاها من المصدر نفسه؟! وقال ~~ممهدا لمجرى جديد من الحديث: ومن كمال الهمة الحذر. # ناجى كل منهما أفكاره الخاصة مليا، ثم قال عبد ms035 الله: نحن نوشك أن نصير أسرة ~~واحدة؛ لذلك أقول لك إن الحمال يدخل الدور التي لا يتاح دخولها إلا للصفوة. # حدس فاضل أن صاحبه مقبل على الإدلاء باعتراف ما فحدجه بنظرة متسائلة، فقال عبد ~~الله: في داري يوسف الطاهر الحاكم وعدنان شومة كبير الشرطة يدور الهمس أحيانا عن ~~أعداء الدولة. # فقال فاضل متظاهرا باللامبالاة: إنه أقل ما ينتظر. ~~- لا يتصور أحد أني أفقه معنى لما يدور أو أنني أمد إليه أذنا. ~~- ولكنك رجل غير عادي يا عم عبد الله، وهذا ما أعجب له! ~~- لا تعجب لفطنة رجل طالما تقلب بين البلدان والأحوال! # فقال فاضل بأريحية: الحق أني سعيد بك. # فمضى عبد الله في اعترافه قائلا: وهم قوم موسوسون، كلما تمادوا في الإجرام ~~تخايلت لأعينهم أشباح الشيعة والخوارج. ~~- أعرف ذلك تماما. ~~- لذلك قلت إنه من كمال الهمة الحذر. # فرمقه فاضل بارتياب، وسأله: ماذا تعني؟! ~~- إنك لبيب! ~~- كأنك تحذرني! ~~- لا بأس من ذلك. ~~- ما أنا إلا بائع حلوى، هل رابك مني شيء؟ # فابتسم ابتسامة غامضة وقال: إني أحب الحذر كما أحب الشيعة والخوارج! # فسأله فاضل بلهفة: من أيهما أنت؟ ~~- لا من هؤلاء ولا من أولئك ولكني عدو الأشرار! # وجد عبد الله بين يديه دعوة مفتوحة ولكنه كشرطي سابق آثر العمل بطريقته ~~الخاصة! # 9 # انطلق عبد الله الحمال كالسهم في سماء الجهاد كما تصوره .. نادى قوته القديمة ~~وأخضعها هذه المرة لإرادته الصلبة النقية .. وفي الحال سقط بطيشة مرجان كاتم السر ~~قتيلا .. وهو يمضي من دار الإمارة إلى داره عقب منتصف الليل، وبين حرسه، انقض من الظلام ~~سهم فاستقر في قلبه، فهوى فوق بغلته بين الرماح والمشاعل .. اجتاح الحرس المكان وما ~~يتشعب منه، وألقوا بالقبض على من صادفهم من المارة والمتسكعين والمكومين في ~~الأركان .. احترقت داره حزنا، وزلزلت دار الإمارة فغادرها يوسف الطاهر كالمجنون ~~على رأس قواته، وصعد الخبر إلى الوزير دندان فأرقه الفزع حتى الصباح .. ومنذ ~~الصباح انتشر النبأ في الحي ثم في المدينة فماجت الأنفس وفاضت بالظنون .. حلقة ~~جديدة في سلسلة مصرعي السلولي ms036 والهمذاني .. التحام جديد بدنيا العفاريت الغامضة .. ~~بل إنهم الخوارج أو الشيعة .. أو لعلها حادثة فردية تكمن وراءها غيرة امرأة أو ~~حسد رجل .. وأمطرت السماء مطرا غزيرا لم ينقطع طيلة النهار، فتراكم الوحل، وجرى ~~الماء مغطى بالزبد في الحواري والأزقة، فأفسد نظام الجنازة والدفن، منذرا بشتاء ~~قاس .. واندس عبد الله الحمال بين العامة في مقهى الأمراء مرهف الحواس ~~باهتمام خفي .. استقطب الحادث الحديث كله، وتناقضت الآراء بين أفكار السادة ~~المعلنة وهمسات العامة المتبادلة في الآذان .. ولمح عبد الله المعلم سحلول تاجر ~~المزادات والتحف وهو ينهمك في حديث طويل مع كرم الأصيل صاحب الملايين فانقبض ~~صدره .. إنه لم ينس نظرته النافذة تحت رأسه المعلق .. وتذكر أنه رآه ~~يحوم حول موكب كاتم السر وهو - عبد الله - يتأهب لإطلاق السهم، فكيف لم يقبض ~~عليه فيمن قبض عليهم؟ .. كيف غاب عن أعين الحرس؟ .. انقبض صدره وتوجس خيفة .. وعجب ~~كيف أنه الرجل الوحيد في الح الذي لم يطلع له على سر طيلة عهده برئاسة ~~الشرطة .. إنه مطلع على أحوال جميع السادة ما ظهر منها وما بطن إلا هذا الرجل، ~~فهو لغز مغلق! # 10 # لم تخف حمى المسئولين ولا إجراءاتهم القاسية، أما بقية الناس فمضوا يألفون ~~الحادث ويملون الخوض فيه، ثم يتناسونه .. وسرعان ما غلبت مطالب الحياة على أحداث ~~التاريخ، فقالت أم السعد أرملة صنعان لست رسمية أرملة جمصة البلطي: ببركة الله وحكمته ~~يرغب فاضل ابني في الزواج من أكرمان. # وتمت الموافقة في فرحة شاملة .. إنهن جميعا يعشن في واقع ولا يسمحن لحلم ~~غابر بأن يفسده .. وقالت أيضا أم السعد: أنت أيضا يا ست رسمية! # وأعلنت لها عن رغبة عبد الله الحمال في الزواج منها .. ضحكت رسمية ضحكة فاترة ~~لوقع المفاجأة .. ولم تسر بها ولم ترحب .. وقالت بحياء: الزواج لأكرمان ~~وحسنية لا لنا! # ثم عقب الصمت واصلت: جمصة لم يمت، ما زالت ذكراه حية في نفسي! # وسر فاضل وعبد الله، كل بما تلقاه .. أجل، استاء عبد الله لوأد عواطفه ~~ولكن جمصة الكامن فيه سر سرورا لا مزيد عليه ms037 . # 11 # احتفل بالزفاف في حجرة أم السعد .. شهدته الأسرتان، ودعي إليه عبد الله ~~الحمال فسوغ حضوره بهدية من العنبر والبخور قدمها للعروسين، وبما بذله في النهار ~~من كنس الفناء .. جاد بالهمة التي جاد بها ساعة تصدى لقتل بطيشة مرجان .. ثمل ~~بعبق الأسرة الحار الذي نفث في جوارحه سكرة باقية .. جاش صدره بالأبوة والزوجية ~~والحب خاشعا في الوقت نفسه تحت هيمنة التقوى وحب الله الرحيم .. استرد ثراء ~~وجدان قديم ونعم بالقرب، دافنا سره في بئر مترع بالأسى. # وتطوعت حسنية لإحياء زفاف شقيقها معتمدة على إجادتها في الشعر والغناء والصوت ~~الحسن، وعلى إيقاع الأكف أنشدت بصوت عذب: # يترجم طرفي عن لساني لتعلموا # ويبدي لكم ما كان صدري يكتم # ولما التقينا والدموع سواجم # خرست وطرفي بالهوى يتكلم # فطربوا جميعا، وطرب عبد الله حتى فاض قلبه بالدمع .. وقام ليلقي في المدفأة حطبا ~~فسمع على باب الحجرة طرقا .. مضى ليفتح، فطالعه في الظلام البارد ثلاثة أشباح .. قال ~~أحدهم: نحن تجار أغراب، سمعنا غناء جميلا فقلنا إن الكرام لا يصدون الغريب. # أشار فاضل إلى النساء فتوارين وراء ستارة تشطر الحجرة، ومضى نحو الأغراب ~~قائلا: ادخلوا بسلام .. ما هو إلا زفاف قاصر على أهله البسطاء. # فقال الرجل الغريب: ما نريد إلا الأنس بالناس الطيبين. # وقال أحد الآخرين: عندكم دفء جميل. # وجاءهم فاضل بطبق البسيمة والمشبك وهو يقول: ما لدينا سوى هذا، وهو ما نتعيش منه. ~~- نحمد الله الذي حلى ريقنا وأحلى ليلتنا. # ومال كبيرهم على أذن أحد الآخرين فغادر المكان مسرعا .. وخطف عبد الله من الكبير ~~نظرات فخيل إليه أنه لا يراه لأول مرة، وحاول أن يتذكر أين ومتى ولكن ~~خانته الذاكرة .. ثم رجع الرجل محملا بالسمك المقلي والمشوي فدب في الأنفس ~~نشاط، وسعدت بلذيذ المأكل، وقال فاضل ممتنا: ما يليق مسكننا بمقامكم. # فقال الرجل مجاملا: العبرة بأهل المسكن. # ثم برجاء: أسمعونا طربا؛ فالطرب ما أسعدنا بمعرفتكم! # فذهب فاضل إلى ما وراء الستار .. وقبل أن يستقر في مجلسه مرة أخرى تهادى صوت ~~حسنية منشدا: # لو علمنا مجيئكم لفرشنا ms038 # مهجة القلب أو سواد العيون # وفرشنا خدودنا والتقينا # ليكون المسير فوق الجفون # فطرب الجميع وهتف أحد الغرباء: تبارك الخلاق العظيم. # وسأل الكبير فاضل: كيف ملكت هذه الجارية وأنت على ما تزعم من فقر؟ # فقال فاضل: ما هي إلا شقيقتي. ~~- لها صوت مهذب ينم عن أصل كريم. # فوجم فاضل، فما كان من عبد الله الحمال إلا أن قال: وإنه لمن أصل كريم ~~اعترضته غدرة من غدرات الزمن. # فتساءل التاجر: ما حكاية تلك الغدرة؟ # فأجاب عبد الله الحمال: ما من أحد في مدينتنا إلا ويعرف حكاية التاجر صنعان ~~الجمالي! # فصمت التاجر لحظة ثم قال: سمعنا بها فيما سمعنا من أنباء مدينتكم العجيبة. # وتساءل زميله: ولكن هل تصدقون ما روي عن العفريت؟ # فتساءل فاضل بدوره: كيف لا، وقد جر علينا ما جر من كوارث؟! ~~- ولكن الوالي لا يستطيع أن يستدعي العفريت للشهادة أو التحقيق فكيف يقيم ~~العدل؟ # فقال عبد الله الحمال: على الوالي أن يقيم العدل من البداية فلا تقتحم العفاريت ~~علينا حياتنا! # فسأله كبير الغرباء: ترى هل تكابدون في حياتكم ظلما؟! # فأسعفه الحذر المكتسب من خبرته القديمة في الشرطة وقال: لنا سلطان عادل والحمد ~~لله، ولكن الحياة لا تخلو من غصص. # وتواصل الحديث ساعة حتى نهض الغرباء للانصراف. # 12 # خاض ثلاثتهم الظلام صامتين .. التفت التاجر الثاني نحو الأول، وقال: لعل مولاي قد ~~وجد التسلية المنشودة؟ # فتمتم الآخر: فرجة في غموم القلب. # ثم بعد قليل: لم تعد جلسة الشعراء تطربني ولا تهريج شملول الأحدب يضحكني. ~~- تولاك الله بالرعاية يا مولاي. # فقال مخاطبا نفسه: حلم قصير مذهل، لا تتخايل فيه حقيقة حتى تتلاشى. # انتظر الآخر أن يلقي السلطان ضوءا على قوله، ولكنه لزم الصمت حتى النهاية. # 13 # استقل فاضل وأكرمان بحجرة، فجمعت الحجرة الأخرى رسمية وأم السعد وحسنية .. على ~~بساطة الحياة نعم الزوجان بسعادة صافية، وتمنى فاضل لحسنية خاتمة سعيدة كخاتمته .. ~~وكان أحسن توفيقا في تناسي الماضي من النساء فهو يجد ما يشغله، وهن لا تمحى من ~~ذاكرتهن الأيام الخوالي بعزها وأضوائها .. وتوحد مع عبد الله ms039 الحمال حتى تبادلا ~~قراءة الأفكار وخواطر القلوب .. الرجل من معدنه، روحه أكبر منه، واهتمامه منجذب إلى ~~هموم البشر كأنه فقيه لا حمال .. لو استمع أحد المارة إلى ما يدور بينهما من ~~حديث فوق سلم السبيل لذهل ولظنهما رجلين خطيرين يتنكران في ثوبي بياع ~~وحمال .. وقال له يوما: فتحت لك قلبي، ولكنك توصد قلبك حيالي. # فنفى ذلك بهزة من رأسه، فقال: في حياتك سر ولست حمالا بسيطا. # فقال يطمئنه: كان لي مرشد في وطني، لا سر وراء ذلك. ~~- في ذلك ما يكفي. ~~- على أي حال نحن نرتوي من منبع واحد. # فقال فاضل بجرأة: لذلك سأسألك خدمة. # فحدجه بنظرة متسائلة، فقال بنبرة ذات مغزى: إنك بحكم عملك تتردد على الدور ~~جميعا! # فابتسم عبد الله بذكاء وصمت منتظرا، فقال: أتقبل أن تحمل الرسائل ~~أحيانا؟ # فقال باسما وهو يتذكر أكرمان بحنان: ثمة أقوام يجدون معنى حياتهم في السعي ~~إلى المتاعب. # فتجاهل قوله، متسائلا: هل تقبل؟ # فقال بهدوء: ما تشاء وأكثر. # 14 # أدى هذه المهمة الجانبية في يسر وأمان تامين، فلم يعتدها إضافة ذات ~~شأن إلى مهمته الأصلية، وهمومه الشخصية - رسمية، حسنية، تردده بين الحياة ~~والموت - لم تمح من صفحته، ولكنها لم تعد تزعجه، وتلاشت همومه العامة كما ~~تتلاشى أمواج النهر في المحيط .. وكان الرجل الثاني في برنامجه يوسف الطاهر أو ~~عدنان شومة أيهما أيسر، ولكنه قدم عليهما إبراهيم العطار لسبب عارض لم يخطر ~~في باله من قبل .. ذلك أنه حمل إليه لوازم فاختلفا على الأجر فلعنه التاجر الكبير ~~وأهانه .. واستقر السهم القاتل في قلب إبراهيم العطار وهو راجع إلى داره عقب سهرة ~~المقهى .. وانفجر الفزع في المدينة وانهمرت ذكريات مصارع السلولي وبطيشة مرجان ~~والهمذاني. # وجمع سلم السبيل بين عبد الله وفاضل في عنفوان الاضطراب المتفجر .. تبادلا ~~نظرات قلقة، وعبثا حاولا كتمان ارتياحهما .. تمتم عبد الله: يا لها من أحداث ~~مرعبة! # فحدس الآخر ظنونه، فقال ببراءة: ليس الاغتيال ضمن خطتنا! # فقال عبد الله متظاهرا بالحيرة: لعلها حادثة انتقام شخصي. ~~- لا أظن. ~~- لكنه لم يكن أفسد من ms040 غيره. ~~- يعرف الخاصة أنه يدس السم في أدوية أعداء الحاكم! # قال عبد الله لنفسه: إن صاحبه يعرف من أسرار الناس ما يعرفه، وربما أكثر .. ~~تساءل: إذا لم يكن الاغتيال ضمن خطتكم فمن فاعله؟ # فقال فاضل بضيق: الله يعلم، إنه يقتل ونحن ندفع الثمن. # 15 # عندما أطفأ الشمعة وآوى إلى فراشه، شعر بالوجود الغريب يدهمه فارتجف قلبه، وتمتم: ~~سنجام! # فسأله الصوت ببرود: ماذا فعلت؟ ~~- أفعل بطريقتي ما أعتقد أنه الخير. ~~- بل كان رد فعل لما ألحقه بك من إهانة. # فقال بحرارة: ما فعلت إلا أن قدمته، وكان دوره سيأتي عاجلا أو آجلا. # فقال سنجام: حسابك عند المطلع على ما في الصدور، فحذار يا رجل. # وتلاشى سنجام فلم يغمض له جفن. # 16 # فوق قبة جامع الإمام العاشر، في جلسة مفعمة بالهدوء، مترعة ببرد ~~الشتاء، متلفعة برداء الليل، جلس قمقام وسنجام .. تحتها تدفقت قوات الشرطة ~~مكشرة عن أنيابها، يتطاير الشرر من أعينها الثملة بالحمرة القانية. ~~همس قمقام في أسى: يا لعذاب البشر! # فقال سنجام كالمعتذر: ما فعلت إلا أن أنقذت روح جمصة البلطي من الجحيم. ~~- ما تدخلنا مرة في حياتهم وانتهى الأمر بما نود. ~~- والإغضاء عنهم فوق ما نحتمل. # ومر تحتهم في تلك اللحظة المعلم سحلول تاجر المزادات والتحف، فأشار إليه قمقام ~~قائلا: إني أغبطه على معاشرته لهم كأنه آدمي مثلهم! # فقال سنجام مشاركا: ولكنه ملاك، نائب عزرائيل في الحي، واجبه يقتضي الاختلاط ~~بهم ليل نهار، ويحل له ما لا يحل لنا. # فقال قمقام: لندع الله أن يلهمنا الصواب. # فردد سنجام: آمين. # 17 # اعترضت مسيرة عبد الله الحمال عثرة ضاق بها صدره .. كان يمضي بحمل كبير ~~من النقل والفاكهة المجففة إلى دار عدنان شومة كبير الشرطة .. ولم يكن كف عن تقييم ~~مصرع إبراهيم العطار، ما وراءه من جهاد صادق، وما تسلل إليه من غضب ورغبة في ~~الانتقام .. سبيل الله واضح ولا يجوز أن يخالطه غضب أو كبرياء، وإلا انهار البناء ~~من أساسه .. وكانت دار عدنان شومة تقوم في شارع المواكب والأعياد على مبعدة يسيرة ~~من دار ms041 الإمارة .. شارع وقور تقوم على جانبيه دور السادة والفنادق الكبرى، وبه ~~بستان وساحة بيع الجواري .. قال لنفسه وهو يدخل الدار: «سيجيء دورك يا عدنان ~~قريبا.» .. وعندما هم بالذهاب أوقفه عبد، ودعاه إلى مقابلة صاحب الدار .. ذهب إلى بهو ~~الاستقبال بقلب يخفق بالقلق .. نظر إليه الرجل بوجهه المستدير الصغير وعينيه ~~الضيقتين القاسيتين وهو يداعب لحيته، ثم سأله: من أي البلاد؟ # فأجاب عبد الله بخشوع: الحبشة. ~~- قيل لي إن سمعتك طيبة وإنه لا تفوتك فريضة! # فتلقى أول نسمة راحة وقال: بفضل الله ورحمته. # فقال بهدوء: لذلك وقع اختياري عليك. # تفشى المعنى المقصود في رأسه كما تتفشى رائحة قوية في مكان مغلق .. فكم من ~~مرة - وهو كبير الشرطة - وجه مثل هذا القول إلى رجل إيذانا بنظمه في سلك ~~عيونه السرية .. هو يعلم أن التملص من التكليف خليق بالقضاء عليه، وأنه لا ~~مفر من الطاعة. # وقال الرجل: بذلك تحوز الشرف في خدمة السلطان والدين. # تظاهر بالارتياح والسعادة والزهو .. أعطاه الأمارات التي يطمئن بها .. على ذاك. قال ~~له محذرا: احذر ما يردي الخائن في الهلاك. # فتمتم بغموض: تسرني الخدمة في رحاب الله. # فقال عدنان شومة: الدور مفتوحة لك بحكم عملك ولا ينقصك إلا بعض ~~الإرشادات. # هي الإرشادات المدونة في دفاتر سرية منذ عهد جمصة البلطي. # 18 # غادر دار عدنان شومة بحمل جديد أثقل من الحمل الذي جاء به .. ولدى اجتماعه ~~بفاضل صنعان أفضى إليه بسره الجديد .. فكر فاضل في الأمر طويلا، ثم قال: أصبحت ذا ~~عينين، عين لنا وعين علينا. # لكن عبد الله غرق في همه، فسأله: ألا تعتبر ذلك كسبا لنا؟ # فقال عبد الله بوجوم: إني مطالب بما يدل على إخلاصي في العمل! # فلاذ فاضل بالصمت متفكرا، فمضى عبد الله: أتساءل أحيانا هل دعاني الرجل لشكه ~~في أمري؟ # فبادره فاضل: إنهما أصحاب عنف فلا حاجة بهما إلى الحيلة. ~~- أوافقك، ولكن كيف أثبت إخلاصي؟ # فرجع فاضل للتفكير في الأمر، ثم قال: تقضي المصلحة أحيانا إرسال أناس منا إلى ~~بلاد بعيدة، سأدلك على أحدهم لتبلغ عنه بحيث ms042 يفلت في الوقت المناسب ~~«مصادفة»! # فقال عبد الله وعيناه تبرقان بالفكر: حل موفق، ولكن لا يجوز تكراره! # فقال فاضل مخاطبا نفسه: حقا إنها ورطة! ~~- ها أنت ذا تشاركني الرأي أخيرا. # وسأل نفسه هل يستطيع الاستمرار في تنفيذ مشروعه السري؟! وتشعث تفكيره فجأة ~~عندما رأى المعلم سحلول يعبر الطريق أمامهم مسرعا لا يلوي على شيء .. انقبض صدره ~~كالعادة ولكز فاضل بكوعه متسائلا: ماذا تعرف عن هذا الرجل؟ # فقال فاضل بنبرة طبيعية: سحلول تاجر المزادات والتحف، كان من أصدقاء أبي، ولعله ~~التاجر الوحيد الذي يملك صحيفة بيضاء. ~~- ماذا تعرف عنه أيضا؟ ~~- لا شيء. ~~- ألا يثير فضولك غموضه؟ ~~- غموضه؟! ما هي إلا البساطة الصريحة، رجل نشيط خبير، ولا شأن له بالآخرين، ~~ما الذي يدعوك للتساؤل؟ # فتردد قليلا، ثم قال: له نظرة نافذة لم أرتح إليها. ~~- لا أساس لظنونك تقوم عليه، إنه استثناء طاهر لقاعدة فاسدة. # تمنى أن يصدق رأيه وأن تكذب ظنونه. # 19 # أيقن من خبرته السابقة بأنه سيوضع تحت المراقبة أسوة بالمخبرين الجدد .. ~~هيهات أن يجد فرصة ليقوم بمغامرة جديدة إلا إذا أزاح عدنان شومة نفسه من طريقه ~~بضربة موفقة .. وتسلل إلى داره في لقاء سري، وقال له: عما قليل ستسقط ثمار ~~كثيرة، الحي مليء بالكفرة، ولكني أرى أن أتجنب التردد عليكم. # فقال عدنان شومة بسرور: سأعين لك وسيطا. ~~- هذا يكفي في الشئون العادية، أما الشئون الخطيرة فأفضل أن يقتصر الاتصال عليك. ~~- نتفق على ذلك فيما بعد. # فقال عبد الله بحماس: خير البر عاجله. # فقال عدنان شومة بعد تفكير: إني أتواجد أحيانا ليلا خارج سور الحي، أظنه ~~مكانا مناسبا. # وفاق تدبيره ما كان يأمل. # 20 # وبمعاونة فاضل صنعان قدم تقريرا عن شاب أعزب يقيم منفردا بحجرة في ربع ~~بعطفة الدباغين .. ولما انقضت القوة على مسكنه تبين لها أنه غادره لسفر ~~منذ دقائق! .. وغضب عدنان شومة وقال لعبد الله: أثرت ريبته دون أن تدري! # فوكد له أنه أدهى مما يتصور، ولكن الآخر صرفه غير راض عنه. # 21 # وزلزل دار الإمارة، والحي والمدينة، للعثور على جثة عدنان ms043 شومة خارج سور الحي .. ~~ماج شهريار نفسه بالغضب، وتخايلت لأعين الكبراء مخاوف مجهولة تزحف من مكامنها في ~~الظلام .. ونما إلى عبدالله من وسطه السري الرسمي أن البحث يتركز في كشف ~~الأسباب التي دعت كبير الشرطة للخروج سرا من سور الحي .. وكان هو أول من أتيح ~~له الاطلاع على سر ضحيته الذي كان يقصد دارا خاصة يلتقي فيها بجلنار وزهريار ~~شقيقتي يوسف الطاهر حاكم الحي .. الحق أنه عرف سيرة المرأتين منذ عهد ~~خدمته، ومن قبل أن يتولى يوسف الطاهر الإمارة .. لذلك دعاه كبير الشرطة إلى ~~مقابلته في جوسق بحديقة الدار ثم صرفه، ولكنه لم يرجع إلى الحي، بل لبد له في الظلام حتى ~~غادر الدار قبيل الفجر فتلقاه بالسهم القاتل .. الآن يتلاشى شعوره بالأمان، ولا ~~يستبعد أن يكون بعض خاصة عدنان شومة من النساء أو الرجال قد عرف سر المقابلة ~~بينه وبين الرجل .. قرر الهرب ولو إلى حين .. غادر الحي كله إلى ما وراء الخلاء ~~عند النهر على كثب من اللسان الأخضر، حيث اعتاد ممارسة هواية الصيد، نفس البقعة ~~التي التحم فيها بسنجام .. وجد نخلة فارعة فارتمى تحتها وأغرق في التفكير .. وأقبل ~~الليل وتجلت النجوم متواضعة، واشتد البرد .. ترى هل أحسن التدبير والتفكير أو ~~أن لهفته على تنفيذ مشروعه قد أفسدت عليه هدفه؟! ومتى وكيف يتاح له العمل مرة ~~أخرى؟ كيف يتجنب أعداءه وكيف يتصل بصاحبه فاضل صنعان؟ وفي سكون الليل ترامى إليه صوت ~~يقول: يا عبد الله! # نظر صوب مصدر الصوت، صوب النهر، وتساءل: من ينادي؟ # فقال الصوت بنبرة تبث الأمان والطمأنينة والسلام: اقترب. # دنا من النهر يسير في حذر حتى رأى صفحته معتمة تحت ضوء النجوم، ورأى شبحا ~~نصفه في الماء ونصفه مستند بساعديه فوق الشاطئ .. سأله: أأنت في حاجة إلى ~~مساعدة؟ ~~- أنت المحتاج إلى المساعدة يا عبد الله. # فسأله بقلق: من أنت، وماذا تعرف عني؟ ~~- أنا عبد الله البحري كما أنك عبد الله البري، وقبضة الشر تتوتر للقبض على ~~عنقك. ~~- سيدي، ماذا يبقيك في الماء؟ .. من أي الأحياء ms044 أنت؟ ~~- ما أنا إلا عابد في مملكة الماء اللانهائية. ~~- تعني أنها مملكة تحيا تحت الماء؟ ~~- نعم، تحقق بها الكمال وتلاشت المتناقضات، ولا ينغص صفوها إلا تعاسة ~~أهل البر. # فقال عبد الله منبهرا: عجيب ما أسمع، ولكن قدرة الله لا حد لها. ~~- كذلك رحمته، فاخلع ثيابك واغطس في الماء. ~~- لماذا يا سيدي؟ لماذا تطالبني بذلك في الليل البارد؟ ~~- افعل كما أقول قبل أن تطوق عنقك القبضة القاتلة. # وسرعان ما غاص عبد الله البحري في الماء تاركه لاختياره .. وبدافع من إلهام ~~ثمل خلع ملابسه وغاص في ماء النهر حتى اختفى تماما .. وإذا بالصوت يقول له: عد إلى ~~البر آمنا. # وما كاد يشعر بالأرض تحت قدميه حتى استقر قلبه بين ضلوعه وشعر بأنه جارحة من ~~جوارح السماء والأرض والليل، وشعر أيضا بالدفء .. عند ذاك غلبه النوم فنام نوما عميقا ~~هادئا، وكأنما النجوم لا تومض إلا لترعاه .. وصحا قبل انبلاج الصبح .. ونظر في مرآته ~~على ضوء أول شعاع يهبط، فرأى وجها جديدا لم يعرفه من قبل، فهتف: مباركة ~~العجائب إن تكن من صنع الله. # لا هو وجه جمصة البلطي ولا وجه عبد الله .. وجه قمحي، صافي البشرة، ولحية ~~مسترسلة سوداء، وشعر غزير مفروق ينسدل حتى المنكبين، ونظرة عينين تومض ~~بلغة النجوم .. أدرك الموت عبد الله كما أدرك جمصة البلطي من قبل .. وغاب فاضل ~~وأكرمان، ورسمية وحسنية، وأم السعد .. ولكن ثمة أصواتا جديدة تتجسد، ومغامرات جديدة ~~تقبل مع الشروق، ودنيا جديدة تنكشف عن عجائب مباركة. # 22 # طابت له الحياة في الخلاء على مقربة من اللسان الأخضر الممتد في النهر .. النخلة ~~جليسه، وصيد النهر غذاؤه، والهواء النقي أليفه، ورواد اللسان الأخضر من أهل ~~الصبوات والطرب مثار نقمته ومرتاد عفوه، أما راحة قلبه ففي مناجاة عبد الله ~~البحري .. ويجيء عابرو النهر بأنباء المدينة .. علم فيما علم أن الحاكم يوسف ~~الطاهر اختار حسام الفقي كاتما لسره وبيومي الأرمل كبيرا لشرطته .. علم أيضا أن ~~قوات الأمن تجتاح الحي كإعصار، وأنهم يبحثون عن عبد الله الحمال، وأنهم ~~ألقوا القبض على معارفه ms045 ، فسيق إلى السجن رجب الحمال، وفاضل صنعان وزوجته أكرمان .. ~~هكذا سرعان ما فني أمنه وجزع قلبه فتوثب من جديد للنضال. # 23 # لم يذهب ليقتل ولكن ليقدم نفسه فدية عمن يحب .. لم يستشعر رهبة ولا خوفا، ~~وسما به الإلهام فوق الوساوس .. قصد من توه بيومي الأرمل في دار الشرطة، وقال بهدوء ~~ورزانة: جئت لأعترف بين يديك بأني قاتل عدنان شومة! # فانتبه إليه كبير الشرطة متفحصا، وسأله: من أنت؟ ~~- عبد الله البري صياد سمك. # من منظره شك كبير الشرطة في جنونه، فأمر بتكبيله بالحديد اتقاء لخطره، ثم سأله: ~~ولم قتلت عدنان شومة؟ # فأجاب ببساطة: إنني مكلف بقتل الأشرار. ~~- من الذي كلفك بذلك؟ ~~- سنجام؛ ذلك العفريت المؤمن، وبوحيه قتلت خليل الهمذاني، وبطيشة مرجان، ~~وإبراهيم العطار. # فجاراه الرجل قائلا: سبق أن اعترف بقتل الهمذاني كبير الشرطة الأسبق جمصة ~~البلطي. # فهتف الرجل: في الأصل كنت جمصة البلطي! ~~- رأسه معلق بباب داره! ~~- وقد رأيته بعيني رأسي! ~~- وتصر على أنك صاحب الرأس؟ ~~- لا ريب في ذلك، وسوف تصدقني عندما تسمع حكايتي. ~~- لكن كيف ومتى ركبت هذا الرأس الجديد؟ ~~- دعني أطلب سنجام شاهدا. # فصاح الرجل: إنك جدير بالإقامة الدائمة في دار المجانين. # وأمر بإرساله من توه إلى دار المجانين، فمضوا به، وهو يصرخ: إلي يا سنجام .. ~~إلي يا عبد الله البحري. ~~••• # وقد عذب فاضل في السجن طويلا، ثم لم يجد الحاكم بدا من الإفراج عنه ومن ~~معه، آمرا - في الوقت نفسه - بمضاعفة الجهد للعثور على عبد الله الحمال. # | نور الدين ودنيازاد # 1 # غمر نور القمر أشجار البلخ بميدان الرماية، فالتمعت أزهارها البنزهيرية الناعمة ~~.. وغمر نور القمر أيضا قمقام وسنجام المستلقيين فوق غصن من أغصان الشجرة ~~الكبرى، في ليلة مازجت فيها أنفاس الشتاء المودع أنفاس الربيع المتحفز .. قال ~~قمقام: ما أطيب الزمن إذا جرى تحت رضا العناية! # فقال سنجام: إذا استقرت السكينة سمعت همسات الأزهار وهي تسبح بحمد الله. ~~- ماذا ينقص الإنسان ليحظى بنعمة الزمان والمكان؟ ~~- هذا ما يحيرني يا أخي، ألم يوهب العقل والروح؟ # وأرهف قمقام أذنيه في حذر، ثم ms046 تساءل: ثمة نذير في الجو؟ # عند ذلك حط فوق غصن قريب عفريت وعفريتة ثملين بالمجون، فهمس سنجام: ~~سخربوط وزرمباحة! # فهمس قمقام: الكفر والشر. # وضحك سخربوط ساخرا، وقال معلقا: نحن نستمتع بالكون بلا خوف. # فصاح به قمقام: لا سرور لمن خلا من الله قلبه. # فتساءلت زرمباحة ساخرة: حقا؟ # وتبادلت مع رفيقها الغرام، فتطاير من عناقهما الشرر .. اختفى قمقام وسنجام فند عن ~~حنجرتي سخربوط وزرمباحة هتاف انتصار، وقال لها: غبت عني دهرا. # فقالت ضاحكة: لعبت لعبة في معبد بالهند، وأين كنت أنت؟ ~~- قمت برحلة فوق الجبال. # فقالت زرمباحة بإغراء: رأيت لدى عودتي فتاة جميلة بهرني جمالها والحق يقال. ~~- أنا أيضا رأيت شابا جميلا في حي العطور لا نظير لجماله بين البشر. ~~- إن نظرة على فتاتي ستمحو من ذاكرتك صورة فتاك. ~~- هذه مغالاة لا مسوغ لها. ~~- تعال وانظر بعينيك. ~~- أين توجد فتاتك؟ ~~- في قصر السلطان نفسه. # وفي غمضة عين كانا في جناح البهاء بقصر السلطان .. تراءت فتاة آية في الجمال وكانت ~~تنزع عباءتها المطرزة بأسلاك من ذهب لترتدي حلة نومها المصنوعة من الحرير ~~الدمشقي .. قالت زرمباحة: دنيازاد أخت شهرزاد زوجة السلطان. ~~- جمالها يفوق الحياة حقا .. لم يحظى بهذا الجمال كائن سريع العطب؟ ~~- صدقت؛ فهو ما يتألق إلا أياما معدودات ثم يعبث به الزمن. ~~- لذلك تلذ الشماتة بهم. ~~- لهم عقل، ولكنهم يحيون حياة الأغبياء. ~~- لشد ما تبدو خالدة! ~~- لعلك الآن تسلم أنها أجمل من فتاك؟ # فقال سخربوط بعد تردد: لا أدري .. تعالي لتنظري بنفسك. # في أقل من لحظة كانا في دكان شاب آية في الحسن، كان يغلق الدكان ويطفئ السراج ~~ويهم بالذهاب .. قال سخربوط: هذا نور الدين بياع العطور. ~~- جماله فائق أيضا، من هو صاحبك؟ ~~- بياع كما ترين، وما يهمنا أصله. ~~- هو أليق الذكور بفتاتي وهي أليق الإناث به. ~~- يعيشان في مدينة واحدة ويفصل بينهما ما يفصل بين السماء والأرض. ~~- هذا هو العبث، فكيف نتهم نحن بأننا العابثون؟! ~~- كيف لا يتنافس الخطاب في فتاتك؟ ~~- مهلا، يتمناها كثيرون، منهم يوسف الطاهر حاكم الحي، ومنهم كرم ms047 الأصيل صاحب ~~الملايين، ولكن من الكفء لأخت السلطانة؟! ~~- زرمباحة، هذا الكون مثقل بالحماقة. # وهتفت زرمباحة بسرور: جاءتني فكرة. ~~- ما هي؟ ~~- فكرة جديرة بإبليس نفسه. ~~- أشعلت أشواقي! ~~- نجمع بينهما في دعابة ماكرة. # 2 # انبهرت عينا دنيازاد السوداوان .. إنه حفل زفاف سلطاني سيكون أحد أعاجيب الترف ~~والأبهة .. القصر يموج بأضواء الشموع والقناديل، يتلألأ بجواهر المدعوين والمدعوات، يهزج ~~بأغاني المطربين والمطربات .. حتى السلطان شهريار باركها، أهداها جوهرة الدخلة، قال ~~لها: مباركة ليلتك يا دنيازاد. # وانتظرت في المخدع آخر الليل في ثوب محلى بالذهب والمرجان والزمرد .. ودعتها ~~أمها وأختها شهرزاد، فانتظرت وحيدة في المخدع، وشرد ذهنها لا يشغلها إلا ترقبها ~~القلق وقلبها الخفاق .. انفتح الباب .. دخل نور الدين في أبهى حلة دمشقية وعمامة ~~عراقية ومركوب مغربي .. تقدم منها كالبدر في تمامه، وجلا القناع عن وجهها .. ركع على ~~ركبتيه .. ضم ساقيها إلى صدره .. تنهد قائلا: ليلة العمر يا حبيبتي. # ومضى ينزع ملابسها قطعة قطعة في صمت المخدع المليء بالألحان الباطنية .. # 3 # فتحت دنيازاد عينيها وقد نضحت الستارة بالضياء .. وجدت نفسها مغموسة في ذكريات النبع ~~المبارك .. شفتاها نديتان بالقبل، أذناها ثملتان بأعذب الكلمات، خيالها مفعم بحرارة ~~التنهدات .. العناق لم يبرح جسدها ولا الحنان .. هذه هي الصباحية .. ولكن .. سرعان ما ~~هبت عليها رياح الوعي الصارمة .. أين العريس؟ .. ما اسمه؟ .. متى تمت مقدمات ~~الزفاف؟ .. رباه! .. لم تخطب ولم تزف ولم يجر في القصر حفل .. إنها تنتزع ~~من الحلم كمن يساق إلى النطع .. أكان حلما حقا؟ ولكن العهد بالأحلام أن ~~تتلاشى لا أن ترسخ وتتجسد حتى لتلمس وتشم .. ما زالت ترى العريس رؤية العين ~~وتستشعر مسه وحنانه .. ما زالت الحجرة معبقة بأنفاسه .. وثبت إلى الأرض ~~فاكتشفت عريها، اكتشفت حبها المسفوح .. انقضت عليها رعدة نافذة ~~مرعبة .. هتفت في يأس: إنه الجنون. # ونظرت فيما حولها بذهول، وهتفت مرة أخرى: إنه الهلاك. # ولاح لها الجنون كوحش يطاردها. # 4 # أما صحوة نور الدين فكانت غاضبة ثائرة عندما رأى حجرة نومه البسيطة بمسكنه ~~القائم فوق دكانه بحي العطور .. أكان حلما؟ .. لكنه حلم عجيب له قوة الحقيقة ~~وثقلها ms048 .. ها هي ذي العروس بجمالها حقيقة لا يمكن أن تنسى أو تمحى من القلب ~~.. ومتى وكيف تجرد من ملابسه؟ .. ما زال يشم الشذا الطيب الذي لا نظير له بين عطوره ~~.. ما زال يرى المخدع الفاخر بستائره ودواوينه وسريره العجيب. ~~- ما معنى العبث مع مؤمن صادق مثلي؟ # ولم تعذبه الحقيقة وحدها ولكن أيضا عذبه الحب. # 5 # قهقهت زرمباحة وسألت سخربوط: ما رأيك في هذا العشق المستحيل؟ ~~- مداعبة فريدة حقا. ~~- لا عهد للبشر بمثلها. # فقال سخربوط مترددا: ليس دائما، إنهم مولعون بخلق الأوهام. ~~- ولكن كيف؟ ~~- ما أكثر الذين يتوهمون في أنفسهم الذكاء، أو الشعر أو الشجاعة! # فقالت مسترسلة في الضحك: يا لهم من حمقى! # فقال بحقد: إني أعجب لماذا فضلوا علينا؟ # 6 # سلمت دنيازاد بأن سرها أثقل من أن تحمله وحدها .. هرعت إلى جناح شهرزاد ~~عقب ذهاب شهريار إلى مجلس الحكم .. وما إن رأتها شهرزاد حتى قالت بقلق: ماذا بك يا أختي؟ # فجلست على وسادة عند قدمي السلطانة، ورفعت إليها عينين مستغيثتين، وقالت وهي ~~تنشج في البكاء: ليته كان مرضا أو موتا. ~~- أعوذ بالله، افترقنا أمس على خير حال. ~~- ثم وقع ما لا يقع في دنيا العقلاء .. ~~- حدثيني؛ فقد بددت طمأنينة نفسي. # فأسدلت عينيها ثم قصت عليها قصتها التي بدأت بزفاف وهمي وانتهت بدم حقيقي .. ~~تابعتها شهرزاد بقلق وريبة، ثم قالت برجاء: لا تخفي شيئا عن أختك. ~~- أحلف لك برب الكون أني ما أضفت إلى قصتي حرفا ولا نقصت منها. # فتساءلت شهرزاد: أيكون وغدا من رجال القصر؟ ~~- كلا .. كلا .. ما وقعت عليه عيناي من قبل. ~~- أي عقل يقبل قصتك؟ ~~- هذا ما أحدث به نفسي، إنها قصة شبيهة بقصصك العجيبة. ~~- قصصي مستوحاة من عالم آخر يا دنيازاد. # فقالت متنهدة: لقد وقعت أسيرة صدق عالمك الخفي، ولكني لا أريد أن أكون ~~ضحيته. # فقالت شهرزاد بأسى: سأعرف الحقيقة عاجلا أو آجلا، ولكني أخشى أن تدهمنا ~~الفضيحة قبل ذلك! ~~- هو ما يقتلني خوفا وغما. ~~- إن عرف السلطان حكايتك استيقظت من جديد شكوكه، وارتد إلى سوء ظنه بجنسنا، ~~وربما ms049 أرسل بي إلى الجلاد ورجع إلى سيرته الأولى. # فهتفت دنيازاد: معاذ الله أن يصيبك سوء من ورائي. # وتفكرت شهرزاد مليا، ثم قالت: فلنحفظ قصتك سرا، ولن يدري بها السلطان ولا ~~أبي .. سأدبر ما ينبغي فعله مع أمي، ولكن يجب أن تعودي إلى دارنا بحجة الحنين إلى ~~أهلك. # فتمتمت دنيازاد: ما أتعس حظي! # 7 # دعا نور الدين أمه كليلة الدمر، فجاءت عجوز متحركة الشفتين بتلاوة غير مسموعة، ~~يحمل وجهها النحيل آثار جمال قديم .. أجلسها إلى جانبه على كنبة خراسانية، وسألها: ~~هل زارنا غريب وأنا نائم؟ # فقالت بدهشة: ما طرقنا طارق. ~~- ألم يصدر عن حجرتي صوت؟ ~~- أبدا، إني أنام ولا تنام حواسي، وأخفت الأصوات يوقظني، لماذا تطرح أسئلة ~~غريبة؟ # فقال بعد تردد وحياء: لعله حلم، ولكنه ليس كالأحلام. ~~- ماذا رأيت يا بني؟ ~~- رأيتني في حضرة فتاة جميلة! # فابتسمت كليلة، وقالت: إنها دعوة من الغيب للزواج. # فقال بحدة: كانت حقيقة ملموسة ومشمومة، لا أدري كيف أشك فيها، ولكني لا أستطيع تصديقها ~~أيضا. # فقالت العجوز ببساطة: لا تشغل بالك وتزوج. ~~- هل سمعت من قبل عن حقيقة تتلاشى في حلم؟ ~~- ربنا قادر على كل شيء، ستنسى كل شيء قبل مرور ساعة. # فتنهد قائلا: نعم. # وكان يعلم أنه يكذب، وأنه لن ينسى، وأن قلبه يخفق بحب حقيقي، وأن محبوبه ~~كائن متجسد لا ينسى ولا يمحى أثره من الوجدان. # 8 # فتح نور الدين دكانه وطالع الناس بوجه جديد .. عرف طيلة عمره اليافع بجماله ~~الصافي وبحضور البديهة في المعاملة، ولكنه بدا ذلك الصباح الربيعي شارد اللب، ~~حائر الطرف .. يتساءل الذين يستبشرون بطلعته عما غيره واستأثر بخياله .. ويتساءل هو ~~طيلة الوقت عن حلمه العجيب الذي فاق الحقيقة في الوجود والدسامة والأثر .. وقد بلغ ~~العشرين من دون أن يتزوج لرغبة قديمة في الزواج من حسنية أخت صديقه فاضل صنعان .. ~~تردد قديما بين رزقه المحدود وثراء أبيها الواسع، وتردد بعد ذلك لمعارضة أمه في ~~الزواج من ابنة رجل خالط العفريت حياتهم .. قالت العجوز: ابعد عن الشر؛ فلا ندري عن ~~هذه الأسرار شيئا. # وأبقى ms050 على مودته لفاضل، تاركا حسنية للزمن، ولكن أين حسنية الآن؟ بل أين الدنيا ~~وما فيها؟ لا وجود إلا لتلك الصورة الباهرة والمخدع الوثير والسرير الذي يفوق في ~~حجمه غرفة نومه كلها .. لقد رأى رؤيا حقيقية، ومارس حبا حقيقيا، وها هو يحب ~~حبا يتضاءل بالقياس إليه أي حب حقيقي .. ها هو يعاني فتور الحياة ووحشتها ~~وكآبتها وحزنها الأبدي في البعد عنها .. أما شذاها فيعبق به أنفه، وأما ~~مناجاتها فتردد مع أنفاسه .. وتذكر صباه الذي أنفقه في كنف الشيخ البلخي ~~يتعلم القراءة والكتابة ومبادئ الدين .. عندما أخذ من ذلك كفايته وهم بتوديع ~~الشيخ قال له الرجل: ما أجدرك بالعشق! # فهم أنه يدعوه إلى الاستمرار معه، فقال له: والدي مريض، وعلي أن أحل محله في ~~الدكان. # فقال الشيخ: ما أقبل في صحبتي عاطلا. # فقال كالمعتذر: حسبي العبادة والتقوى. # وما أخلف الظن في ذلك وما حاد عن الصراط، وها هو يتذكر بتلقائية قول الشيخ: ~~«ما أجدرك بالعشق!» ترى هل يجدر به أن يزور الشيخ مستنصحا؟ .. ولكنه خاف، ~~وسلم بأن سره جدير بأن يطوى في الصدر .. راح يتابع تيار النساء المحجبات ~~.. هل يمكن أن تكون حبيبته إحداهن؟ إنها موجودة على أي حال، ما يداخله شك في ~~ذلك .. موجودة في مكان ما وفي هذا الزمان دون غيره .. لعل أشواقنا تهيم في جنون ~~مجدة وراء التلاقي .. لعل الذي صنع معجزة الحلم يعد بمعجزة أخرى تأويله ~~وتحقيقه .. لا يمكن أن يتلاشى حلم كهذا كأن لم يكن .. لا يمكن أن تشتعل أشواق بهذه ~~القوة دونما سبب أو غاية .. لا بد أن يصل العاشق .. بالعقل أو الجنون لا بد أن ~~يصل .. ولكن ما أضيع الباحث بلا دليل! # 9 # سعد الوزير دندان برجوع دنيازاد إلى داره الرحيبة، أما الأم فعانت وحدها - بعد ~~دنيازاد - معاشرة السر الأليم .. قالت لابنتها بحزن وغضب: زلت قدمك يا ~~دنيازاد. # فقالت دنيازاد باكية: إني مسلمة أمري لرب العالمين. ~~- لن تكون العاقبة خيرا. # فكررت باستسلام: إني مسلمة أمري لرب العالمين. # وعندما لاحت الأمارات كالنذير، أقدمت المرأة على إجهاض ابنتها ms051 مستغفرة ربها .. ~~وقالت بأسى: نحن نؤجل البلاء، ولكن ما العمل إذا جاء عريس؟ # فهتفت دنيازاد: لا رغبة لي في الزواج. ~~- وماذا نقول لأبيك إذا وجده كفئا؟ # فرددت دنيازاد: إني مسلمة أمري لرب العالمين. # وإذ خلت إلى نفسها تناست الأخطار المحدقة بها فلم تذكر إلا حبيبها الغائب .. ~~عند ذاك تستهين بالموت، ولا تأبه للعار، وتتساءل بوجد وعذاب: أين أنت يا حبيبي؟ ~~كيف وصلت إلي؟ ما سرك؟ ماذا يبعدك عني؟ ألم يأسرك جمالي كما أسرني ~~جمالك؟ ألم تلفحك النار المشتعلة في روحي؟ ألا ترق لعذابي؟ ألا تفتقد ~~حبي وأشواقي؟ # 10 # وعرض من الأحداث عارض اهتزت له القلوب .. فقد مضى المنادي على بغلته ينادي رعية ~~السلطان، مذيعا نبأ هجوم ملك الروم على أحد الثغور، ونهوض الجيش للجهاد ودفع الغزاة ~~.. جاشت الصدور بالقلق، واكتظت المساجد بالمصلين، وارتفع الدعاء للسلطان شهريار بالنصر ~~.. وفي المساء هرع الناس إلى مقهى الأمراء فامتلأ برواده من السادة والعامة .. وجمعت ~~أريكة واحدة بين حسن العطار بن إبراهيم العطار وفاضل صنعان ونور الدين .. لم يكن ~~للقوم من حديث إلا الحرب .. وسمع الطبيب عبد القادر المهيني وهو يقول: إنكم لم ~~تشهدوا غزوا للعدو، ما هو إلا عاصفة من الهلاك تجتاح المدن وأهلها. # فقال جليل البزاز: جيش الله لا يغلب. # فقال معروف الإسكافي: لله حكمته أيضا. # فقال رجب الحمال: قد تقع سفينة السندباد في الأسر! # فقال له علاء الدين بن عجر الحلاق: لا تفكر إلا في ذاتك وصاحبك! # عند ذاك قال عجر الحلاق: رأيت حلما عجيبا! # ولكن أحدا لم يسأله عن حلمه، لسوء ظنهم بصدقه، ولعلمهم بلهفته على إقحام نفسه في ~~شئون الآخرين. # وارتعد نور الدين لذكر الحلم، وقال لصاحبيه حسن وفاضل: ليس أعجب من الحلم في حياة ~~البشر. # فسمع صوتا يقول معلقا على قوله: صدق ما قلت يا بني. # فالتفت إلى الأريكة المجاورة، فرأى سحلول تاجر المزادات والتحف يرمقه باسما، فقال ~~له: إنك حكيم ومجرب يا سيدي. # فقال سحلول: من ملك الحلم ملك الغد! # مال إلى مناقشته بكل قلبه ولكن فاضل - مستذكرا ما ms052 سبق أن ردده صديقه الغائب عبد ~~الله الحمال - لكزه بكوعه خفية وهمس في أذنه: دعك منه. # فتساءل نور الدين: ولكنه ذو تجربة. # فهمس فاضل صنعان: إنه غامض أيضا كالحلم. # وسمع الطبيب عبد القادر المهيني وهو يقول: في تقديري أن جيش السلطان سينتصر ~~ولكن البومة ستنعق في بيت المال. # 11 # وجعل نور الدين يتنهد في أسى متسائلا، أما لهذا الشوق من نهاية؟ .. كلت عيناه من ~~النظر وأرهق القلب .. وراح يتجول في الطرقات، حينا في النهار، وحينا في الليل، ~~منجذبا بصفة خاصة إلى مواقع النساء في أسواقهن الأثيرة .. وأكثر من مرة يمر ~~أمام دار الوزير دندان في الوقت الذي تقف فيه دنيازاد وراء المشربية مستطلعة ولكنه ~~لا يراها ولا تراه .. وتتجلى له التجربة الفريدة خارقة من الخوارق مستقرة في ~~عزلة بعيدا عن مجال الأمل، أو تهامسه مرات كحقيقة مذهلة ستكشف له النقاب عن وجهها، ~~وقتما تشاء رحمة الله .. ومرة أخرى رأى في آخر الليل شبحا مقبلا .. تكشف له عندما ~~ألقي عليه ضوء فانوس معلق بأعلى باب دار عن وجه قزم .. إنه كرم الأصيل ~~صاحب الملايين فماذا أخرجه من داره الرائعة في مثل هذه الساعة من الليل؟ ماذا ~~يؤرقه وعم يبحث؟ .. ترى لو وقع أسير حلم مثله فهل كان يغني عنه ماله في ~~العثور على آسره؟! وانقبض قلبه لمرآه، لغير سبب واضح. # 12 # كرم الأصيل يحب المشي في الليل في الطرقات الخالية .. إنه صديق الأماكن، فما يخلو ~~مكان منه من عمارة أو بيت أو وكالة يملكها .. وله في داره الرحيبة زوجة وعشرات من ~~الجواري ولكنه لا يملك القلوب كما يملك البشر والأشياء .. بقدرته أن يغير المصائر ~~ولكنه عاجز عن تغيير صورته أو حجمه .. لذلك كثيرا ما تبدو له الدنيا كئيبة مثل وجهه ~~.. تدفعه المعاملة لغشيان الناس ولكنه يحب الوحدة والليل .. لا يحب الغناء ويضيق ~~بالسمر ويعشق المال ويعبد القوة .. لم يهنأ بقبوله نديما للسلطان، يؤدي الزكاة ولا ~~يمارس الصدقة، يعنى بلحيته ويعجب بها؛ فهي أجمل ما فيه بثرائها وتماديها، أنجب من ~~البنات عشرين ولم ينعم ms053 عليه بذكر واحد، وهو صاحب الملايين، وأغنى رجال الحي، ~~بل أغنى رجال المدينة. # وهو أيضا عاشق .. ولعل ذلك ما جعل نور الدين يتابع شبحه بقلب مبهم وتأثر ~~عميق. # 13 # ألقي عليه العشق عندما سقط النقاب عن وجه دنيازاد فوق الهودج في حفل عاشوراء .. ~~خفق قلبه الغارق في هموم الأعمال كما يبرق برق في سحاب مكفهر .. ومال نحو بيومي ~~الأرمل كبير الشرطة، وهو من عبيد جوده: من الجارية؟ # فأجابه باسما: دنيازاد أخت السلطانة! # انقبض صدره وأيقن أنها لا تشترى بالمال. # هكذا يمضي في الليل في رفقة من ذكريات غير سارة .. ولما لمح نور الدين تجاهله .. ~~إنه يحسده لجماله ويحتج غاضبا على حسده لشخص من البشر .. ومر بدار سحلول تاجر ~~المزادات والتحف .. قال لنفسه: «سيمسي ذلك الرجل منافسا لي في الثراء». وكان يعتبره من ~~القلة النادرة التي تلزم الآخرين باحترامها فكرهه أكثر مما يكره الآخرين .. واتجه نحو ~~داره وهو يقول: كرم الأصيل، عبد الله البلخي، من ذا يقرأ لنا الغيب؟ كان يجب أن ~~تكون ثروتي من السرور أضعاف أضعاف ما أحرزه! # 14 # قال له البواب: مولاي، حسام الفقي كاتم السر ينتظر عودتكم في البهو. # ماذا جاء به في هذه الساعة المتأخرة؟ .. مضى إليه من فوره .. تعانقا .. قال كاتم السر: ~~سيدي يوسف الطاهر حاكم الحي ينتظرك الآن في داره. ~~- أي أمر عاجل وراءك؟ ~~- لا أدري إلا أنه أمر هام. # ذهبا مسرعين .. وانفرد به يوسف الطاهر وهو يقول مداعبا: على قدر أهل العزم. # فتفحصه كرم الأصيل باهتمام، فواصل الرجل: انتصر جيشنا، أنت أول رجل تزف إليه ~~البشرى. # فتمتم في حيرة: منة من رب العالمين. # فحدجه الحاكم بنظرة طويلة، ثم قال: بيت المال تكلف فوق طاقته. # انقبض صدره وأدرك كل شيء، فقال يوسف الطاهر: السلطان في حاجة إلى قرض، ~~يسدد عقب جمع الخراج. # فتساءل فيما يشبه الدعابة: وما شأني أنا وذاك؟ # فضحك يوسف الطاهر، وقال: اختصك السلطان بذلك الشرف. # فتساءل دون ابتهاج: كم؟ ~~- خمسة ملايين من الدنانير! # لا مفر ولا اختيار، ولكن التمعت فكرة في رأسه الخبير ms054 في المساومة .. قال: فرصة ~~للقرب من السلطان والطموح إلى ثواب الرحمن. ~~- أحسنت. # فقال بهدوء: ولكن ثمة رجاء لم أكن أدري كيف أفصح عنه. # فصمت يوسف الطاهر باسما، فقال كرم الأصيل: يد دنيازاد، أملي الأخير في شرف القرب. # دهش يوسف الطاهر ولكنه لم يبد دهشة .. تذكر كم تمنى دنيازاد لنفسه .. حنق على ~~محدثه فوق ما تصور .. لكنه قال بهدوء: سيرفع الرجاء كما تشاء! # 15 ~~- وقع المحذور! # هكذا رددت الأم وهي في غاية الاضطراب، ودنيازاد كانت تتوقعه على أي حال .. قالت ~~الأم: جاء العريس، حظي برضا السلطان وموافقة أبيك! # ترى من يكون؟! هل ادخر القدر معجزة جديدة فيها الشفاء؟ تساءلت عيناها دون ~~أن تتفوه بكلمة، فقالت الأم: إنه كرم الأصيل صاحب الملايين! # قطبت دنيازاد وخطف اليأس دم وجنتيها، فقالت الأم: الفضيحة تدق الباب كالرعد. # فبكت دنيازاد قائلة: إني بريئة والله شهيد. ~~- هيهات أن تجدي مصدقا لحكايتك! ~~- الله حسبي. ~~- عنده العفو والمغفرة. ~~- أليس لي حق القبول أو الرفض؟ # فقالت الأم مستنكرة: إنها رغبة السلطان. # فتأوهت قائلة: ليتني أهرب من هذه الدنيا. ~~- تكون فضيحة أكبر وقد لا تسلم أختك من العواقب. # فأفحمت في البكاء حتى قالت أمها: ليت المشكلات تحل بالدموع. # فهتفت دنيازاد: لكني لا أملك إلا دموعي! # 16 # قال سخربوط لزرمباحة وهو يضحك بسرور: اللعبة تتمادى في التعقيد، وسوف تتمخض عن ~~عواقب مثيرة. # فقالت زرمباحة مشاركة في سروره: تسلية نادرة. ~~- ترى هل تنتحر الجميلة أم تقتل؟ ~~- الأجمل أن تقتل وينتحر أبوها. ~~- هل ثمة مجال للمزيد من العبث؟ ~~- بل ندع الأمور تجري في مجراها ما دامت في غير حاجة لتدخلنا. ~~- الحق أني أخاف. # فقاطعته متسائلة: مم تخاف يا حبيبي؟ ~~- أن يتسلل الخبر من حيث لا ندري. # فقالت بازدراء: لا تكن متشائما. # فضحك سخربوط ولم ينبس. # 17 # انتشر نبأ خطبة كرم الأصيل لدنيازاد في الحي، ساحبا وراءه ذيلا عريضا من البهجة ~~والتطلعات والسخريات .. حلم الفقراء بمطرة منهمرة من الصدقات من رجل لم يعرف حتى حب ~~الصدقة .. وفرح الأعيان بهذه المصاهرة بين السلطان وحيهم .. وجرت الهمسات منذرة ~~باقتران القرد ms055 بالملاك .. وناحت دنيازاد في وحدتها مناجية المجهول: «أين أنت يا حبيبي؟» .. ~~«متى تجيء لإنقاذي من الدمار؟» وراح نور الدين يتخبط بين الطرقات وقد أثار نبأ القران ~~أحزانه، مناجيا المجهول أيضا: «أين أنت يا حبيبتي؟» .. وتابع قمقام وسنجام المناجاة ~~المتبادلة في أسى عميق، حتى قال سنجام لزميله: انظر ماذا يفعل الزمان والمكان! # فقال له قمقام: إن أنات البشر من قديم تتدفق في نهر الحسرات بين الكواكب. # ومر تحت الشجرة المعلم سحلول مهرولا، فقال قمقام بصوت مسموع: إنه ماض إلى مهمة. # فقال سحلول بحيرة: أحيانا أتلقى أوامر غير مفهومة! # ومضى في سبيله. # 18 # انتهى سحلول إلى سور دار المجانين ووقف في الظلماء .. همس لنفسه: لولا الإيمان ~~لتساءلت عن معنى ذلك. # وسلط إرادته على الأرض فيما بينه وبين زنزانة جمصة البلطي فانشق نفق لا يستطيع ~~البشر شقه في أقل من عام .. وفي ثوان كان واقفا في الظلام فوق رأس جمصة ~~البلطي يسمع شخيره المنتظم .. هزه برفق، فاستيقظ متسائلا: من؟ # فقال له: لا أهمية لذلك، جاءك الفرج، هات يدك لأنطلق بك إلى الحرية. # استسلم جمصة له غير مصدق حتى غمره هواء الربيع الرطيب .. تمتم جمصة: يا رحمة ~~الله! من أنت أيها الغريب؟ من أرسلك؟ # دفعه سحلول وهو يقول: إلى مقامك المنعزل القديم على شاطئ النهر! # 19 # عندما ذهب الغريب قال جمصة البلطي لنفسه: ليس هذا من عمل الإنس، تذكر ذلك يا جمصة، تذكر وتفكر. # عاش بين المجانين حتى ألف الجنون .. أدرك أنه سر مغلق وكشف مثير .. تمنى أن ~~يغوص في أعماقه ويجابه تحدياته .. ولما أنعشه الهواء جرى قلبه إلى أكرمان ورسمية ~~وحسنية، تمنى لو يزور الربع ويخالط أنفاس الأحبة .. لكن من يكون؟ لقد حلقوا شعر رأسه ~~ولحيته وجلدوه مرتين، لا وجود اليوم لجمصة ولا لعبد الله .. إنه اليوم بلا هوية ولا ~~اسم، مليء بالأشجان والنزوع إلى التقوى .. أوى إلى النخلة عند اللسان من النهر .. ~~تذكر صديق الأحلام عبد الله البحري .. رجع يقول: كائن بلا هوية، غايته فوق ~~الأكوان، ولكن تذكر وتفكر، فلم يجئك الفرج بغير ما ms056 سبب! # 20 # حملت دنيازاد إلى السراي ليحتفل بزفافها في رحاب السلطان تنفيذا لرغبته ~~السامية .. اجتاحت رياح الرعب المثقلة بالغبار قلب العروس وشقيقتها صاحبة الحكايات ~~.. نصحت شهرزاد أختها بادعاء المرض ورجت السلطان تأجيل الزفاف حتى تبرأ من ~~مرضها .. واستدعي الطبيب عبد القادر المهيني فتولى العلاج، وسرعان ما ساورته ~~شكوك .. كان فطنا أريبا ذا خبرة بالنفوس لا تقل عن خبرته بالأجساد، فرجح لديه ~~أن العروس راغبة عن القرد، ولكنه تغابى بلباقة، متعاطفا مع رغبتها، دافنا ~~سرها في بئر مهنته المصون، فقرر أن العلاج سيطول .. غير أن كرم الأصيل ضاق ~~بالقرار، وساورته شكوك أيضا، فتضرع إلى مولاه أن يأذن له في عقد الزواج على أن يؤجل ~~الزفاف لحين الشفاء .. وافق السلطان، وجيء بكبير القضاة فعقد الزواج، وبذلك باتت ~~دنيازاد زوجة شرعية لكرم الأصيل صاحب الملايين .. وانتظر قوم بهجة الأفراح على ~~لهفة، وتوقع آخرون سقوط الكارثة. # 21 # وقادت أقدام نور الدين الحائرة صاحبها ذات مساء إلى النهر، فخلا إلى نفسه عند اللسان ~~.. في خلوة ناعمة بأنفاس الربيع، مشتعلة بألسنة الأشواق .. ترامى إليه صوت مناجاة ~~فأيقن أنه صوت عابد، فانجذب نحوه ناشدا راحة وسلوى .. عثر على الشيخ تحت النخلة ~~فأشفق من مقاطعته وجلس يستمع .. ولما انتهى الرجل سأله: من أنت؟ .. وماذا جاء بك؟ # فأجاب نور الدين: إني معذب، وأنت؟ من هذه الناحية يا عم؟ ~~- لا تهم النواحي من جعل قرة عينه في العبادة، ولكن ما سر عذابك؟ ~~- لي حكاية غريبة! # دفعته رغبة قوية للاعتراف فحكى له حلمه بتفاصيله وما أعقبه من جنون، ثم سأله: هل ~~تصدقني؟ # فأجاب الرجل: المجانين لا يكذبون. ~~- هل عندك تفسير للسر؟ ~~- وراءك ملاك أو شيطان ولكنه حقيقة! ~~- وكيف أبرأ من أشواقي؟ # فقال بهدوء: نحن نكابد أشواقا لا حصر لها لتقودنا في النهاية إلى الشوق الذي لا ~~شوق بعده، فاعشق الله يغنك عن كل شيء. # فقال نور الدين بعد صمت: إني مؤمن صادق العبادة، ولكنني ما زلت عاشقا لمخلوقات الله. ~~- إذن فلا تكف عن البحث. ~~- نال مني التعب والأرق. ~~- العاشق لا يتعب. # فقال باهتمام ms057 : يخيل إلي أنك ذو خبرة. ~~- عرفت رجلا لم يحرم ممن يحب فحسب، ولكنه حرم من الوجود ذاته! ~~- بالموت؟ ~~- بل في الحياة! ~~- هل داخلكما شك في عقلي؟ ~~- إنه الجنون نفسه. ~~- والعقل أيضا. # فقال بعد تردد: إنك تغمض وتزداد غموضا. # فتساءل بنبرة باسمة: إذن ماذا تقول عن حلمك؟! # 22 # ورجع نور الدين إلى المدينة يخوض بحار الظلمات .. لم يبل العابد غلته أو ~~بالكاد فعل .. فحثه على البحث ولم يعده بالظفر ولا أنذره باليأس، ثم وضح أنه من ~~المبتلين .. لم يخلق نور الدين للزهد في الدنيا ولكنه خلق لعشق الله في الدنيا .. على ~~ذلك فارق الشيخ عبد الله البلخي يوم فارقه .. لم يملك في تلك اللحظة إلا اليقين ~~بأن محبوبته كائنة في مكان ما، وأنها منطبعة بأثر حبه .. بذلك حدثته نسائم الربيع ~~الهائمة في الليل، كما حدثته ومضات النجوم الهابطة بين القباب والمآذن .. وهتف بصوت ~~مرتفع في وحدته: خفف عذابي يا لطيفا بالعباد. # وإذا بصوت عميق يسأل: من الشاكي في هذه الساعة من الليل؟ # انتبه إلى شبح رجلين يعترضان سبيله، فتساءل: أمن رجال الشرطة أنتما؟ # فأجاب صاحب الصوت: نحن تاجران غريبان نتسلى عن طول ليلنا بالمشي في حيكم العريق. ~~- أهلا بكما ومرحبا. ~~- ماذا تشكو أيها الشاب؟ # وقال زميله: الناس للناس، ولا تضيع الشكوى بين أهل المروءة. # فقال نور الدين مدفوعا بكرمه: أدعوكما إلى داري المتواضعة وهي قريبة. # وضمتهم حجرة أنيقة، وقدم لهما زلابية وقدحين من الكركديه .. حاما حول شكواه، سألهما عن ~~موطنهما، قالا إنهما من سمرقند .. حاما حول شكواه مرة أخرى .. قال: يبوح الحائر ~~بسره للغريب. # فقال ذو الصوت العميق: وقد يجد عنده ما لا يخطر على بال. # فقال نور الدين متنهدا: فلتمطرنا السماء مطرة غير متوقعة. # واندفع يحكي لهما حكاية حلمه العجيب حتى تلاشى صوته في صمت شامل وهو يرنو إليهما في ~~حياء .. ثم قال ذو الصوت العميق: تعارفنا بالقلوب كما يجدر بأهل الكرم، ولكن آن لنا أن ~~نتعارف بالأسماء، أما أنا فعز الدين السمرقندي، وهذا شريكي خير الدين الأنسي. # فقال نور الدين ms058 : نور الدين بياع الروائح العطرية. ~~- تجارة جميلة مثل وجهك. ~~- هل داخلكما شك في عقلي؟ ~~- معاذ الله، الله لا يضع جماله إلا حيث يريد أن يضع رضاه. ~~- هل صدقتماني؟ # فقال عز الدين: أجل أيها الشاب، إني جواب بلدان، وقد سمعت من حكايات الأولين ما لا ~~يخطر على قلب بشر؛ لذلك لا أشك في حقيقة حلمك. # فانتعش قلب نور الدين بالآمال، وتساءل: هل يمكن أن أبلغ المراد بالوصول إلى ~~محبوبتي؟ ~~- ما أشك في ذلك. # فتأوه متسائلا: ولكن كيف ومتى؟ # فقال الرجل: بالصبر والإصرار يتحقق الوصول. # وسأله خير الدين الأنسي: أأنت في حاجة إلى مال؟ # فقال متنهدا: لا أسأل الله إلا الوصول. # فقال عز الدين: أبشر بفرج الله القريب. # 23 # رأت شهرزاد السلطان منفعلا كما لم تره من قبل .. كان في الشرفة المطلة على الحديقة ~~وقد فرغ من صلاة الصبح وراح يتناول إفطارا من الحليب والتفاح .. عما قليل سيرتدي زيه ~~الرسمي ويذهب إلى مجلس الحكم، ولكنه يبدو في ساعته كطفل سعد باكتشاف جديد .. قال: ~~ليلة أمس صادفت في تجوالي حكاية كأنها إحدى حكاياتك يا شهرزاد. # فقالت باسمة رغم كربها الدفين: تكرار الحكايات آية صدقها يا مولاي. ~~- أجل، أجل .. أسرار الوجود شائقة وألذ من الخمر. ~~- متعك الله بالوجود وأسراره يا مولاي. # فقال بعد تمهل: الحق أنني في حركة دائبة لا تتوقف ولا يهدأ القلب، ~~يتنازعني بياض النهار وظلام الليل. # فقالت بمرح تغطي به على فتور روحها: هكذا الرجل الحي. ~~- مهلا، جاء دوري لأحكي لك حكاية غريبة. # وقدم لها حلم نور الدين بياع الروائح العطرية .. وانتبه إلى وجهها قائلا بدهشة: ما ~~أشد تأثرك يا شهرزاد! # فقالت كالمعتذرة: استيقظت اليوم متوعكة. ~~- لسعة رطوبة لا تلبث أن تزول وسوف يراك الطبيب، أما أنا فأريد أن أكلف ~~المنادين بالسير بالحكاية لأجمع بين العاشقين. # فقالت بحرارة: بل التمهل أولى بنا أن يتعرض بريئان لألسنة السوء! # ففكر مليا، ثم تساءل: ألست قادرا على حمايتهما؟! # وقالت شهرزاد لنفسها: إن هذا الرجل لم يكن يشغله إلا ضرب الأعناق، وما زال ~~شيطانه ذا سطوة ms059 لا يستهان بها، ولكنه لم يعد يستأثر به. # 24 # وقالت شهرزاد لأمها المقيمة في السراي بعلة رعاية دنيازاد في مرضها: ثمة ~~خارقة من الخوارق تطالبنا بمزيد من الحكمة. # فتنهدت الأم قائلة: لا يصلح قلبي لتلقي الحوادث الجديدة. ~~- أمي، لقد تجلت حقيقة صاحب الحلم! # ففغرت المرأة فاها، ثم تمتمت: لا تحدثيني عن الأحلام. ~~- ما هو إلا نور الدين بياع الروائح العطرية. # وقصت عليها مغامرة السلطان بحروفها .. عند ذاك قالت الأم بذهول: ما في وسع مثله ~~أن يتسلل بليل إلى سراي السلطان. ~~- لو صح ارتيابك يا أمي لهان عليها أن تهرب معه. ~~- ولكن ما الفائدة؟ أختك زوجة شرعية لكرم الأصيل، والكارثة تقترب ساعة بعد أخرى. ~~- وسوف ينادي المنادون بالحكاية، ولا يبعد أن تنكشف حقيقتها. # فزفرت الأم قائلة: الخطر يدهمنا. ~~- هي الحقيقة المرعبة. ~~- هل ننتظر كالمطروح فوق النطع؟ # فقالت شهرزاد باضطراب: إني خائفة، على دنيازاد وعلى نفسي أيضا، لا أمان للسفاك، ~~إن شر ما يبتلى به الإنسان أن يتوهم أنه إله. ~~- إنه كالموت، لا مفر منه. ~~- يتراءى لي أحيانا أنه يتغير. ~~- أبوك يقول ذلك أيضا. ~~- لكن ماذا يدور بداخله؟ .. ما زال في نظري لغزا غامضا لا أمان له. # فقالت الأم بقلق: قد تعجبه الحكاية وهي بعيدة، أما أن تقتحم داره وتتعامل معه فشيء ~~آخر، قد تعاوده وساوسه. ~~- وينقلب شيطانا كما كان أو أفظع. ~~- وما ذنبك أنت؟ ~~- أرى أن نشرك دنيازاد في همومنا. ~~- إني أشفق من ذلك كل الإشفاق. ~~- إلام نهرب من الحقيقة وهي تطوقنا؟ # واستأذنت القهرمانة مرجان في الدخول .. قدمت لشهرزاد رسالة وهي تقول بخوف: اختفت ~~سيدتي دنيازاد تاركة هذه الرسالة. # قرأت شهرزاد الكلمات الآتية: عفوا يا مولاي السلطان. # لا قبل لي بعصيان أمرك بالزواج من كرم الأصيل، ولا طاقة بي للزواج منه، فاخترت ~~أن أقضي على نفسي والله غفور رحيم. # شهقت الأم وأغمي عليها. # 25 # راح المنادون يذيعون الحلم العجيب ويدعون العاشقين للتلاقي في رحاب السلطان .. في ~~ذات الوقت تلقى السلطان نبأ انتحار دنيازاد بالحزن والسخط، وأصدر أمره بالعثور على ~~جثتها في أي موضع ms060 من الأرض .. وغضب كرم الأصيل غضبا شديدا دعاه إلى الاعتكاف بعيدا ~~عن شماتة الشامتين وسخرية الساخرين، فلم يكن يغادر داره إلا عند انتصاف الليل .. أما ~~يوسف الطاهر - حاكم الحي - فقد تلقى الخبر في دفقة امتزج فيها السرور بالحزن ~~العميق .. سر بتحرر دنيازاد من قبضة الرجل القرد، ولكنه حزن بعمق على موت الفتاة ~~التي تمناها لنفسه، والتي من أجلها فكر جادا في تدبير مؤامرة لاغتيال كرم الأصيل. # 26 # كان المجنون يتأمل في ظلمة الليل تحت النخلة عندما انتبه إلى شبح يقترب على ضوء ~~النجوم .. سمع صوت أنثى يحييه، وتقول: باسم الله أسألك أن ترشدني إلى سفينة تبعدني عن ~~المدينة. # فسألها برقة: أتهربين من فعل يغضب الله؟ # فقالت بحرارة: ما أغضبت الله في حياتي قط. # صوتها ذكره بأكرمان وحسنية، فمازج حنان الأرض أشواق السماء في قلبه، فقال برقة ~~مشعشعة بالندى: عليك بالانتظار حتى مطلع الفجر، والله يتولاك برحمته. ~~- هل أستطيع الانتظار هنا؟ # فابتسم ابتسامة لم ترها، وقال: خلق العراء للهاربين! أين تذهبين؟ ~~- أريد أن أبعد عن المدينة. ~~- ولكنك وحيدة ولعلك جميلة! # فلاذت بالصمت، فقال: لعل الله يعينك بيدي إن شئت؟ # فقالت بامتنان: ما أريد إلا أن تيسر لي السفر. # فتساءل بقلق: عهد الله إنك لم تخلفي وراءك أذى لإنسان؟ # فقالت بصوت متهدج وقد اطمأنت إليه: إني مظلومة، غادرت داري لأقتل نفسي، ثم خفت ~~أن يلقاني الله غاضبا. ~~- لماذا يا ابنتي؟ # فنشجت باكية، فهتف مخاطبا السماء: إنك أعلم أين تضع رحمتك. ~~- بريئة ومظلومة. ~~- ما أحب أن أتطفل على سر قلبك. # فاستسلمت قائلة: إنك من العباد الطيبين وإليك أبوح بسري. # وراحت تحكي حكايتها، فقاطعها متسائلا: أأنت صاحبة الحلم؟ # فهتفت متسائلة: كيف عرفت ذلك؟ ~~- عرفته من شريكك في نفس المكان، وسمعته بعد ذلك من المنادين. ~~- عقلي عاجز عن متابعتك، هل تعرف شريكي في الحلم؟ ~~- المنادون يرددون اسمه في كل مكان، إنه نور الدين بياع الروائح العطرية. # فقالت وكأنما تخاطب نفسها: المنادون؟! وراءهم السلطان! ياللعجب! نور الدين .. نور ~~الدين .. لكني متزوجة، بل إني ميتة. # وأكملت قصتها فقال ms061 الرجل: اذهبي إلى زوجك! # فهتفت بإصرار: الموت أهون. ~~- اذهبي إلى زوجك نور الدين! # فتساءلت بذهول: ولكنني زوجة شرعية لكرم الأصيل! # فقال بحزم: اذهبي إلى نور الدين ودعي الفجر يطلع! # 27 # قال سخربوط محتدا: ماذا أرى؟ .. الأمور تسير نحو حل سعيد! # فقالت زرمباحة مدارية مرارة: انتظر، مازال الطريق مليئا بالأشواك. # ولمحا تحت الشجرة سحلول يمضي مهرولا في الظلام، فتساءل سخربوط: مهمة طارئة أيها ~~الملاك؟ # وقالت زرمباحة: لعلها لنا لا علينا. # مضى سحلول دون أن يعيرهما التفاتة. # 28 # في الصباح الباكر غادر نور الدين داره ليفتح دكانه .. وجد عند الدكان فتاة محجبة ~~كأنما تنتظر .. عليها رداء من القز الدمشقي يفصح عن هوية سامية .. ~~تطلعت إليه باهتمام ثم ندت عنها آهة عميقة .. عجب لشأنها وتلقى من قلبه نبضات ~~موحية بإلهامات غامضة .. ما لبثت أن أسفرت عن وجه مضيء ورنت إليه بثبات ~~واستسلام وشغف .. مر دهر وهما غائبان عن الوجود وغائصان في حلم ينفث السحر ~~والوجد .. رقت نسائم الربيع، خف وزنهما، أفعما بشذا الزرقة السماوية .. ~~أنستهما السعادة الهابطة ذكريات العذاب والحيرة، فحل السلام بالأرض، وتلاحمت ~~الأيدي بحركة عفوية مثل غناء الطير .. هتف: كائن وحي، حقيقة لا حلم، هنا في ~~هذه الساعة من الزمان. # فهمست بصوت متهدج: نعم .. أنت نور الدين وأنا دنيازاد! ~~- أي رحمة هدتك إلى مقامي؟ # فتدافعت الكلمات من ثغرها تروي المأساة والفرج، فقال بنشوة: كان علينا أن نطمئن إلى ~~أن المعجزة لا تقع عبثا. ~~- ولكن الرعد أقوى من هديل الحمام. # فقال بإصرار: معا وإلى الأبد. ~~- كان ذلك قدرا مقدورا. ~~- لنذهب إلى السلطان. # فانطفأت شعلة حماسها، وهي تقول: ولكني متزوجة من كرم الأصيل. # فقال بحدة: وعد السلطان أقوى. # فقالت بأسى: والعثرات لها قوتها أيضا. # ولكنه كان من السكر في غاية. # 29 # انعقد المجلس السلطاني في الضحى وشهده كبار رجال الدولة .. مثل أمام العرش نور الدين ~~بياع الروائح العطرية، ودنيازاد أخت السلطانة .. قال السلطان متجهما: دهمتنا العجائب ~~الغامضة، وقد علمتنا الأيام والليالي بأن نخص العجائب باهتمامنا، وأن ندق باب ~~الغموض حتى تتفتح مصاريعه عن الضياء، غير أن ms062 هذه العجيبة المتنكرة في حلم ~~اقتحمت علي داري. # صمت السلطان فخفق قلب الوزير دندان، وشحب وجها دنيازاد ونور الدين .. قوى متضاربة ~~تتنازع قلب السلطان ولا شك .. ما زال المارد القاسي، سحرته الحكايات ولكنها لم تغير ~~من جوهره، وإذا به يقول ووجهه يزداد تجهما: ولكن وعد السلطان حق! # فزال الكرب عن قلوب كثيرة وأشرقت وجوه بنور الأمل .. وعند ذاك قال المفتي: ولكن ~~السيدة دنيازاد متزوجة بحكم الشرع. # فأصدر السلطان أمره إلى دندان، قائلا: أحضر كرم الأصيل. # فقام يوسف الطاهر حاكم الحي العتيق، وقال: مولاي، وجد كرم الأصيل ميتا ليلة ~~أمس غير بعيد من داره. # اجتاح الخبر القلوب فزلزلها، وسرعان ما تذكرت مصارع الحكام والأعيان .. وقام ~~بيومي الأرمل كبير شرطة الحي، فقال: عثر رجالنا على المجنون الهارب يهيم على وجهه ليلا ~~في الحي بعد بحث طويل خائب عنه فألقوا القبض عليه. # فسأله السلطان: هل تتهمونه بقتل الأصيل؟ ~~- إنه ينسب إلى نفسه الجرائم كافة في مباهاة وعزة. ~~- أليس هو الرجل المصر على الزعم بأنه جمصة البلطي؟ ~~- هو نفسه وما زال مصرا على ذلك. # وهنا قال يوسف الطاهر: نستأذن مولانا في ضرب عنقه؛ فهو آمن من إرجاعه إلى دار المجانين. # فقال السلطان: حدثني وزيري دندان بأن النفق الذي هرب منه لا يمكن أن يصنعه ~~بشر! # فقال بيومي الأرمل بتسليم: هو كذلك يا مولاي. # تردد السلطان طويلا حتى شعر المقربون بأن الخوف يساوره لأول مرة في ~~حياته، ولما أدرك دندان ذلك، قال بلباقة: ما هو إلا مجنون يا مولاي، ولكن به سر لا ~~يستهان به فليترك وشأنه .. وما من مملكة إلا وبها نفر من أمثاله لهم دورهم ~~في العناية الإلهية، أرى يا مولاي أن يترك وشأنه وأن يبحث عن القاتل بين الشيعة ~~والخوارج. # فقال السلطان، شاكرا في باطنه لوزيره لباقته: أحسنت النصيحة يا دندان. # ثم نظر إلى دنيازاد ونور الدين وقال: لكما الوعد فتزوجا، وسيكون لدنيازاد جميع ~~مخصصاتها من بيت المال. # وتجلل المجلس بالسلامة والسعادة. # | مغامرات عجر الحلاق # 1 # تبلبلت الخواطر لموت كرم الأصيل، ولكن عجر ms063 الحلاق شغل بنفسه عن الدنيا وما فيها، ~~في الظروف العادية لا يشغله شيء عن الأحداث؛ فهو طفولي عريق، ينسج من الحبة قبة، ~~ويعتبر في دكانه راوية قبل أن يكون حلاقا، ويستجلب بالأخبار والمبالغات الاهتمام ~~والرضا .. غير أن ابتسامة أعادت خلقه من جديد، وفجرت الأماني المكتومة من قديم .. ~~وهو قصير نحيل براق العينين، غامق السمرة، لا يخلو في الأصل من وسامة، ينطوي ~~على نهم لا يدري به سواه .. صاحبة الابتسامة متوسطة العمر، تكبره بعام أو عامين .. لم ~~تبسم إلى حلاق مثله؟ لعلها تحب الرجال، لعلها تغري بالأنوثة وبالجود، فما يشك أحد في ~~فقر عجر الحلاق .. يا إلهي، إنه يحب النساء، ولولا الفقر ما بقيت فتوحة زوجته الوحيدة ~~طيلة ذاك العمر .. لعله يحلم بالنساء كابنه اليافع علاء الدين ويحلم أيضا بالجاه ~~والطعام والشراب .. وقد واظبت على المرور أمام دكانه أياما متتابعات حتى تصدى لها، ~~فضربت له موعدا عند مدرسة السلطان عقب مغيب الشمس .. انتظر وهو يقول لنفسه: «جاء دورك ~~في الحظ يا عجر» .. لأول مرة يثني على الحظ ويسجد، لأول مرة يرحب بهبوط المغيب، لأول مرة ~~يأنس إلى الطريق وهو يقفر .. الدكاكين تغلق أبوابها، وهو يمتلئ بالانفعال والانتظار .. ~~ولما خلا الطريق أو كاد ظهر «المجنون» بجلبابه الفضفاض ولحيته المرسلة .. على غير انتظار ~~ظهر ليخترق الليل بأسراره .. هو المتطوع دائما بأنه مرتكب الجرائم الكبرى، والزاعم ~~بأنه جمصة البلطي قاهر الموت الذي غزا قلب السلطان الحجري فأطلق سراحه .. وعجر ~~يحبه كدعابة غامضة، ولكنه لم يرحب بظهوره في تلك الساعة الفاصلة .. وحدث ما أشفق ~~منه، فاقترب منه المجنون حتى وقف بإزائه، وقال له بصوته المليء: اذهب إلى بيتك؛ فلا ~~يخرج في الليل إلا ذو هدف. # فضحك عجر مغالبا توتره، وقال له: شعر رأسك ينمو مثل شجرة بلخ، ولحيتك تمتد طولا ~~وعرضا كالستارة، هلا زرتني في دكاني لأهذبك؟ # فنهره قائلا: عقلك فاسد فلا تطاوعه. ~~- يا لك من مجنون ظريف! # فمضى عنه وهو يقول: جاهل من ذرية جهلاء! # لم يبق وحده أكثر من دقيقة ثم أقبلت المرأة ms064 . # 2 # تجربة مشتعلة، يستهان فيها بالمجهول، بعد عشرين عاما من حياة زوجية يومية ~~.. قادته في الظلام المخفف بفوانيس الأبواب إلى دار شبه معزولة ببستان خارج السور .. ~~آمن بأن التي تقوده من أهل الجاه والثراء والفجور فسعد بذلك درجة بعد درجة .. غاصا ~~في مكان مظلم وشت به روائحه الزكية فأدرك أنه حديقة، ثم وجد نفسه في بهو ~~مضاء بقناديل في الأركان، يتصدره سرير وثير يتوسطه مجلس من الوسائد حوله مائدة ~~حفلت بالطعام والشراب .. غابت المرأة، ثم رجعت سافرة في جلباب حرير .. مكتنزة، حسنة ~~القسمات، أكبر مما حسب، ولكنها تسيل دلالا وخلاعة .. جرى بصره على المرأة والطعام ~~والشراب وقال لنفسه: «انظر كيف تتحقق الأحلام» .. قال وهو يتحفز: ليلتنا ليس في الليالي ~~مثلها. # ملأت كأسين وهي تقول ضاحكة: لا ينكر النعمة إلا جاحد. # وصفقت فجاءت جارية في العشرين، حاملة عودا، تشبه المرأة فكأنها أختها وتتفوق ~~بالشباب، وقالت المرأة: أسمعينا، لا يتم السرور إلا بالكمال. # لعب الشراب بالعقول كما لعب الوتر بالقلوب .. وبقحة عجر المعهودة أقبل على الشراب ~~والطعام والمرأة .. وتساءل مرات: متى يتم التعارف؟ ولكن ما أهمية ذلك؟ ليحذر ~~التسرع وليلعب دوره كما يجدر به .. إنه لا يشك في أنه بحضرة فاجرة .. لكنها ~~فاجرة تجود وتهب ولا تستغل .. إنه حلم لا يضيره إلا أنه لا يصدق. # 3 # وخصته بيوم الإثنين من كل أسبوع .. طمع في المزيد ولكنها تجاهلته .. نصح نفسه ~~بالقناعة .. تحامت أن تشير إلى هويتها فأيقن أنها من علية القوم .. لماذا لم تستقر ~~في سراي مع كبير من الأكابر؟ لعله الفجور أو البطر فأنعم بأيهما .. والجارية الشابة ~~شقيقتها بلا جدال .. غائصة ولا شك في الفساد .. وهي مذعنة ومطيعة للمرأة كأنها تابعة .. ~~وهي فتنة، وهما يتبادلان استراق النظر .. سيقع حتما في شباك الصغرى كما وقع في ~~الكبرى، وكل آت قريب .. إنه مجلس معبق بالشهوة والخيانة ولكنه يعمل للمرأة ~~ألف حساب .. وأحب الطعام والشراب مثلما أحب المرأة .. وبمرور الأيام أحب الطعام والشراب ~~أكثر .. يهجم على المائدة بوحشية وبلا حياء حتى بات فرجة مسلية للمرأتين .. حرص على ms065 ~~ألا يفضحه هواه بالجارية الشابة، وشجعته هي مستخفية وراء المزيد من الحذر .. شعر في مقهى ~~الأمراء بأنه أعلى مرتبة من الوجهاء، وأنه أسعد من يوسف الطاهر، وأنه شهريار آخر. # 4 # وذهب ليلة فلم يجد إلا الجارية الشابة .. البهو هو البهو ولكن المائدة خالية .. ~~وتساءلت عيناه في حيرة دون أن ينبس، فقالت الجارية: إنها مريضة وقد كلفتني ~~بالاعتذار. # خفق قلبه وبرقت عيناه وابتسم، فقالت: ينبغي أن أرجع مسرعة. # فقال بلهفة: إنها شديدة الثقة! # وتقدم خطوتين فاحتواها بين ذراعيه، فقالت دون أن تبدي مقاومة تذكر: من ~~يدري؟ ~~- ولكن الفرصة لن تفلت من يدنا. ~~- يا لها من مغامرة! ~~- إنك حرة مثلها .. لا شك أنك شقيقتها. # تخلصت منه بعذوبة وجاءت بالطعام والشراب .. أقبلا على الشراب بإفراط ليبددا مناخ ~~التوتر والفكر .. وتذاوبا في رغبة متأججة .. واعتليا قمة التحدي، فغابا عن الوجود .. ~~واستيقظ مبكرا .. قام يترنح برأس ثقيل .. أزاح الستار فتدفق ضوء المصباح .. حانت منه ~~التفاتة إلى ذكريات الليلة الماضية ففرت من فيه آهة وجحظت عيناه .. رأى الجارية ~~الجميلة مذبوحة! .. صفي دمها تماما، واستقر بها الموت .. متى .. من .. كيف .. هل ~~يهرب؟ ما أثقل رأسه! .. كأنما شرب في الخمر بنجا .. التهمة معلقة فوق رأسه .. فكر سريعا .. ~~وبلا منطق .. الحديقة .. دفن الجثة .. إزالة آثار الدماء .. هل في الدار من يراقبه؟ عليه ~~أن يعمل وأن يسلم نفسه للمقادر .. لا وقت للتفكير .. تقوض البناء كله .. ما كان كان .. ~~لازمه شبح المرأة الأخرى طيلة الوقت. # وعندما ألقى على المكان نظرة أخيرة، رأى عقدا ذا فص من الماس ملقى أسفل ~~السرير، فتناوله وهو لا يدري ماذا يفعل، ودسه في جيبه .. تسلل إلى الخارج وهو يقول: ~~ستكون معجزة إذا نجوت. # 5 # مضى عجر يتخبط في زنزانة كربه المقيم .. الجريمة تحاصره وتبسط قبضتها المتشنجة ~~لتخنق عنقه .. أعاهدك يا ربي على التوبة إذا أنقذتني .. رآه ابنه علاء الدين فسر ~~بعودته على حين كشرت فتوحة زوجته عن أنيابها، قال دون مبالاة: غلبني النعاس في ~~غرزة. # لعنته .. الحياة بينهما تجري مكتظة بالنقار والمودة .. فتح دكانه متأخرا عن ميعاده .. ~~استقبل ms066 الرءوس واللحى بعقل شارد يهيم في وديان الرعب .. كان ثمة شخص ثالث هو ~~القاتل بلا ريب .. لكن لماذا قتل الشابة الجميلة؟ .. الغيرة؟ غيرة رجل مجهول أم غيرة ~~امرأة؟ دائما تطارده صورة الأخت الكبرى .. قوية وفاجرة وقادرة على الكبائر .. هل تكتشف ~~الجثة؟ هل علم أحد بتسلله الليلي؟ هل يساق ذات يوم إلى السياف ليضرب عنقه؟ أعاهدك ~~يا ربي على التوبة إذا أنقذتني .. وفكر لحظات في الهرب .. العقد المستقر فوق بطنه يعد ~~ثروة ولكن عرضه للبيع قد يوقعه في شر أعماله .. كلا .. إنه لم يقتل ولن يهرب ~~والعناية الإلهية لا تنام .. أجل إن العناية الإلهية لا تنام، ولكن من هذا؟ نظر بصدر ~~منقبض إلى «المجنون» وهو يدخل الدكان فيقتعد الأرض في بساطة وهو يأكل مشمشة .. وكان ~~يشذب لحية الطبيب عبد القادر المهيني فقال للمجنون: ماذا جاء بك في النهار على غير ~~عادة؟ # فقال المجنون ببساطة: نهارك ليل يا عجر. ~~- أعوذ بالله من شر الكلام. # وضحك الطبيب قائلا: لا تخدعني يا رجل؛ فالجنون منتهى العقل. # فقال المجنون: إني شرطي قديم. ~~- ما زلت مصرا على أنك جمصة البلطي؟ ~~- والشرطي إذا توجه لله لم يتخل عن مهنته القديمة! # فقال عجر بضيق: ارحمني من جنونك فلست رائق البال. # فقال المجنون بهدوء: لا يدعوني إلا أمثالك يا جاهل. # فضحك الطبيب عاليا، وقال: إنه يدعى عادة إذا عجز علمنا عن الخدمة. # ونهض المجنون فمضى وهو يقول: الله ملجأ الحي والميت، والميت الحي. # ولما غيبه الباب قال عجر للطبيب: قلبي يحدثني الآن بأن هذا المجنون قاتل خطير. # فتمتم عبد القادر المهيني: ما أكثر القتلة يا عجر! # شعر عجر بأن المجنون مطلع على سره .. ترى أهو الذي ذبح الجميلة؟! متى تنكشف ~~الغمة يا رب السموات والأرض؟! # 6 # وليلة الإثنين جاءت .. موعد جلنار المنذر بالاحتمالات المبهمة .. إذا ذهب فإلى الجحيم ~~يذهب .. وإذا لم يذهب قدم الدليل على جريمة لم يرتكبها .. مضى إلى دار الجريمة والفزع .. ~~سلم نفسه إلى المقادر مقشعر البدن .. أخفى الحديقة من الوجود بغض البصر .. أما العنق ~~المنزوع من الجسد ms067 الجميل فقد لازمه خطوة خطوة .. رأى جلنار والمائدة فتلقى أول نسمة في ~~جو الصيف المشبع بالرطوبة .. عليه أن يكبح اضطرابه أن يفضحه .. عليه أن يمارس الحب فوق ~~فراش الدم .. الجثة تملأ المكان وتغطي على المرأة النهمة .. ما أعذب الهرب! .. أقبل على ~~الشرب بيأس .. المرأة هادئة باسمة .. أيسأل عن زهريار أم ينتظر؟ أيهما يشي بالريبة أكثر؟ ~~لكن جلنار بادرته متسائلة: أين زهريار؟ # فتساءل بدوره: ألم تحضر معك؟ # فحدجته بحيرة وهي تشاربه، ثم قالت: أرسلتها إليك حاملة اعتذاري. # فقال بقلب خافق جاف: تبادلنا كلمتين ثم افترقنا. ~~- اختفت كأنما تبخرت، يئس المجدون في البحث عنها، البيت مشتعل نارا. # فضرب كفا بكف، وتمتم: حدث عجيب حقا، هل ثمة ما يدعوها إلى الاختفاء؟ ~~- لا أدري عن ذلك شيئا ولا أتصوره! .. البيت مشتعل نارا. ~~- أي بيت يا جلنار؟ ~~- بيتنا يا عجر، أحسبتنا بلا أهل؟ ~~- وهذه الدار ما شأنها؟ ~~- ما هي إلا استراحة لنا أوقفناها على الطرب! # فتردد، ثم تساءل ورأسه مثقل بلا نشوة: من أهلك يا جلنار؟ # فقالت باسمة: ناس من الخلق، ماذا يهمك منهم؟ # فغاص في الهم أكثر، وتساءل بحزن: ترى أين أنت يا زهريار؟! ~~- أحزنك الخبر ولا شك؟ # فانقبض صدره، وقال بحذر: ما أنا إلا إنسان يا جلنار. # فداعبت لحيته قائلة: وإنسان طيب يا عجر. # وانتشت بالخمر فاقتربت منه .. أطبقت الكآبة متجسدة .. ران الإحباط على الطعام والشراب ~~وجفت ينابيع الرغبة .. جفل من المرأة بقدر ما توجس منها خيفة .. إنه كابوس ثقيل طويل ~~ويجب أن يتلاشى. # 7 # في الموعد التالي ذهب وكأنما يذهب إلى النطع، ولكن لم يستجب لطرقاته على الباب ~~أحد، ولم يفتح له بعد ذلك، فتلقى أول شعور بالراحة منذ اكتشاف الجريمة .. لعل ~~أهلها فطنوا أخيرا إلى سلوكها السري، لعلها نفرت منه، لعلها لحقت بأختها، ليكن من ~~أمرها ما يكون فقد انتهى قدر لا يستهان به من عذابه .. لن يقترب مرة أخرى من مقام ~~الجريمة، وسوف يقاوم لون الدم الذي يطارده، ولن يألو أن يذكر نفسه بأنه لم ~~يرتكب طيلة حياته جريمة قتل .. هيهات ms068 .. ولا قتل دجاجة مما يستطيعه .. وابتعدت ذكريات ~~الطعام والشراب والغرام، فقال لنفسه المنهزمة: لعلها لم تكن حقيقة قط .. وكل يوم يمر ~~يجود بهبة من الطمأنينة .. الخوف حق على المجرمين لا الأبرياء .. وهو بريء ما في ~~ذلك شك .. وكلما رسخت الطمأنينة دبت الحياة في الرغبة المكبوتة .. رجع يتذكر ليالي ~~الغرام والطعام ويتنهد .. ويتذكر العقد الثمين فوق بطنه المحروم من عرضه للبيع ويتأسف .. ~~إنه يحمل ثروة معطلة، وله تجربة مع السعادة لا تنسى، ويتفجر في أعماقه ~~النهم وأشواق اللذة .. وتساءل في حيرة: أليست التوبة أجدر بي؟ # ولكن ليالي جلنار أشعلت في وجدانه جنون النساء .. جالت عيناه متلصصة بين الحسان، ~~تنطلق من نار وترتد بنار أشد .. في إحدى جولاتها وقعت على حسنية بنت صنعان شقيقة ~~فاضل، فشجعه فقرها وسمعة أبيها المتوفى على الطمع فيها .. وانتهز فرصة مجيء فاضل ~~إلى دكانه ليشذب لحيته وشاربه فغالى في الترحيب به وسأله ببساطة عجيبة: يا سيد فاضل ~~صنعان، هناك من يطلب شرف القرب منك. # فتساءل فاضل بعقل خال: من يا عجر؟ # فقال بالبساطة نفسها: العبد لله. # صدم فاضل وكتم انفعاله .. قال لنفسه: لعل عجر أيسر في الرزق مني، ولكنه عجر وأنا فاضل، ~~وحسنية لا تقل في التهذيب عن شهرزاد نفسها .. تساءل ليكسب مهلة للتفكير: أختي؟ ~~- نعم. # فقال كالمعتذر: يبدو أن أحدهم سبقك يا عجر! # لاذ عجر بالصمت دون أن يصدقه .. لو سبقه سابق لعلم به. وهل يخفى عليه شيء مما يجري ~~في الحي كله؟ وغضب عجر .. كيف لا يعتبر فاضل طلبه منة، وهو يطلب القرب من بيت ~~حلت به لعنة الشيطان؟! # 8 # ازداد رغبة في الحب، ولم يكف عن التلهف على الجاه .. خاض في أجساد العذارى ~~كالمراهقين رغم أن ابنه علاء الدين لم يتزوج بعد .. وتقلب بين الوسائد في دور سحرية ~~على مثال الدور التي يدخلها أحيانا لخدمة أصحابها .. وكما وقع في حب حسنية تعلق قلبه ~~بقمر أخت حسن العطار .. حب أقوى من الأول .. وزاده قوة أنه حب ميئوس منه .. حب ~~مقضي عليه بالكتمان والأسى والعذاب .. ذهب يوما ms069 إلى دار العطار ليشذب لحية المعلم حسن، ~~فلمح البنت الجميلة ففقد راحة البال إلى الأبد .. لكنه لم يفقد الحلم .. إنه يهيم ~~بالدور العظيمة كدور العطار وجليل البزاز ونور الدين .. ونور الدين ما أسعده من شاب! .. ~~من بياع عطور بسيط لا يرتفع درجة عن عجر، ولعله دون ابنه علاء الدين في الجمال ~~والكمال، إلى عين من الأعيان، قريب وعديل للسلطان، وزوج لدنيازاد أخت شهرزاد، أليس ~~الله بقادر على كل شيء؟ # 9 # في قهوة الأمراء جلس كعادته كل ليلة .. عقب نهار صيف حار جاد الليل بنسمة طيبة .. ~~وجد نفسه أقرب ما يكون من أريكة المعلم سحلول تاجر المزادات، وأنهى الراوي فصلا من ~~سيرة عنترة فسكتت الرباب ونطق السمر .. قال عجر للمعلم سحلول وهو من زبائنه: لم تشرفنا ~~من زمن! # فقال الرجل باسما: سأزورك على غير انتظار ذات يوم! # وجاء حسن العطار وجليل البزاز وبصحبتهما فاضل صنعان فاطمأنوا إلى مجلسهم .. حياهم ~~عجر مغاليا في التودد والتقرب، فردوا تحيتهم بتحفظ .. إنه يلقي نفسه إلقاء على ~~السادة، ولكنه يرد دون تشجيع، حذرا من تطفله .. إنه اليوم أعلى من فاضل ولكنهم ~~يحفظون العهد القديم .. حلمه الدائم أن يقبل ليقدم خدماته نظير الاستمتاع بموائدهم .. ~~يفلح مرة ويخفق عشرات المرات فيتأجج نهمه .. اليوم فاضل غريمه بعد أن رفض يده، أما ~~حسن فيحوز النعمة التي لا أمل فيها .. سدد نحو مجلسهم أذنه على حين تظاهر ~~بالاسترخاء والنعاس .. إنهم يتحدثون عن سهرة جميلة احتفالا بقدوم سفينة البزاز ~~محملة من الهند .. سيكون طعام ولا طعام جلنار وسيجري الشراب .. سيملأ بياع ~~الحلوى بطنه كالأيام الخالية. ~~- الجو حار، نريد مكانا خارج الدور! # الصعلوك يعلن رغباته كأنه من السادة .. ويجيبه جليل: اللسان الأخضر، إنه جزيرة ~~خضراء! # فقال حسن العطار: ودعوت شملول الأحدب! # فقال جليل: ما أجمل أن يهرج لنا مهرج السلطان! # حتى المهرج! .. أما أنت يا عجر فما إن يبتسم الحظ لك حتى يجتاحه الدم البشري .. ونظر ~~نحو المعلم سحلول، وقال بأسف: إنك طراز وحدك في زهدك في اللهو يا معلم سحلول. # فقال المعلم بهدوء ms070 : هذا حق. ~~- إنك رجل كريم متواضع، وما كنت تأبى أن أكون نديمك. # فابتسم ولم يجب .. وتفكر قليلا كيف يحرضه على اللهو .. ونظر نحوه مرة أخرى فوجد ~~مكانه خاليا .. أجال بصره في المقهى فلم يعثر له على أثر .. هكذا يختفي فجأة وفي غمضة ~~عين، فما أغربه! ولكن عجر صمم على أن يشترك في سهرة اللسان الأخضر مهما كلفه الأمر ~~.. ولو توجت المغامرة بطرده! # 10 # اللسان الأخضر الممتد في عرض النهر مثل جزيرة نحيلة، ولا ضوء إلا ضوء ~~النجوم الخافت .. وغير بعيد ينطلق شبح النخلة يقوم أسفلها مثوى المجنون .. كان عليهم ~~أن يمدوا بساطا ويهيئوا سماطا، ويشعلوا نارا للشواء .. غير أن شبحا أقحم نفسه ~~بينهم متطوعا للخدمة وهو يقول: خدام السيادة! # لم يحظ الصوت بارتياح أو تشجيع وصاح جليل البزاز: عجر! يا لك من طفيلي ثقيل! # فقال بثبات ويداه لا تكفان عن العمل: طفيلي أي نعم، ولكن لست ثقيلا، وكيف يطيب ~~مجلس كهذا بلا خادم؟ # فقال حسن محذرا: على شرط أن تلزق فاك بالغراء! ~~- لن أفتحه إلا بعد إلحاح. # وارتفع صوت شملول الأحدب رفيعا كصوت طفل، وهو يقول له: كيف تدس نفسك يا صعلوك ~~بين الأكابر؟ # فحنق عليه، ولكنه انهمك في عمله مجهزا القوارير والكئوس، وراح يشعل النار .. ~~اندفعوا في الشرب .. تناول شملول عودا يماثله في الحجم، ومضى يدندن بصوته المثير للضحك، ~~وكان رغم ضآلته يجيش صدره بعظمة كونية .. وعقب أول كأس تستقر في جوف عجر نسي ~~عهده فتساءل: هل سمعتم بآخر نادرة من نوادر حسام الفقي كاتم سر الحاكم يوسف ~~الطاهر؟ # فصاح به حسن العطار: لا نحب أن نسمع، فأغلق فاك! # وتمادوا في الشراب على حين ترامى صوت غير مرئي المصدر يناجي «الواحد» فاتجهت ~~الرءوس نحو شبح النخلة .. وقال فاضل: إنه المجنون. # فتساءل جليل: ألم يجد مثوى غير ذلك ليفسد على اللسان الأخضر رواده؟ # فقال حسن العطار، مخاطبا فاضل: إنه يزعم أنه حموك جمصة البلطي. ~~- هكذا زعم، ولكن رأس جمصة المعلق يقول غير ذلك. # فقال شملول الأحدب: كل شيء جائز في هذه ms071 المدينة المجنونة! # عند ذاك قال عجر الحلاق: إن أردتم الحق ... # ولكن جليل قاطعه: لا نريد الحق ولا نحبه. # فصاح شملول: لا تذكرونا بالموت، بذلك أمر السلطان. # فسأل جليل: كيف تسامر السلطان يا شملول؟ # فقال شملول بعجرفة: لست ممن يفشون الأسرار يا أحقر الخلق! # ضحك الجميع إلا حسن العطار، فقد انفجرت نشوته غضبا فصاح به: أيتها الحشرة. # وغضب الأحدب فرمى بالعود ووثب قائما .. وما يدرون إلا وهو يبول على السماط بطعامه ~~وشرابه! .. وجموا موقنين بأن سهرتهم هدمت وتقوضت .. اشتعل السكر بالغضب ورموا الأحدب ~~بجمرات الحقد .. انقض عليه فاضل دافعا إياه على ظهره، ثم رفعه من قدميه الصغيرتين ومشى ~~به إلى حافة اللسان الأخضر، ثم غطسه في مياه النهر ثواني طويلة .. رفعه مرة ~~أخرى من الماء تاركا إياه يسقط على الأرض المعشوشبة وهو يرقد من الرعب .. وقام مترنحا ~~فتناول المجمرة ورماهم بها فتطايرت الجمرات المتقدة تلسع هذا وذاك .. بلغ منهم الحنق ~~مداه فاجتاحوه سكارى غاضبين، وانهالوا عليه لكما وركلا حتى تهاوى فاقد الوعي .. ~~تابعهم عجر جامدا ذاهلا .. تمتم: كفاكم يا سادة، إنه مهرج السلطان. # وانحنى فوقه في الظلام في صمت .. رفع رأسه وهمس: يا سادة، لقد قتلتم الأحدب! # تساءل جليل: واثق مما تقول؟ ~~- انظر بنفسك يا معلم. # شحن الصمت بالرعب .. شمت بهم عجر .. قال متماديا: جريمة من لا شيء تطرق باب ~~السلطان! # صاح حسن العطار: إنه الجنون. ~~- أي حظ أسود؟ ~~- أنضيع بلا سبب ولا ثمن! # وكان رأس عجر يطلق خيالات خارقة في جميع الجهات، ويثب من حلم إلى حلم .. أخيرا ~~قال بهدوء، وهو يشعر بالسيادة لأول مرة: خذوا حوائجكم واذهبوا. # فقال جليل: كيف نذهب تاركين وراءنا هذه الجريمة؟! # فقال عجر بنبرة آمرة: اذهبوا .. سوف تختفي الجثة ولن يعثر عليها الجن نفسه. ~~- أواثق أنت بنفسك؟ ~~- كل الثقة، وما توفيقي إلا بالله! # قال جليل بصوت متهدج: انتظر مكافأة لم يسمع بمثلها أحد. # فقال ببرود: إنه أقل ما أنتظر! ~~- ولكن لعل كثيرين في المقهى قد سمعوا بدعوتنا له إلى سهرتنا؟ ~~- أجل حصل، ولكنني لحقت بكم ms072 بلا دعوة، وأستطيع أن أشهد بأنه لم يلبث معنا إلا ~~ساعة ثم مضى وحده معتذرا بتوعكه، افهموا وتذكروا. # 11 # مع جثة الأحدب وحده .. تذكر زهريار والدم فارتعدت مفاصله .. لكن لا وقت للأفكار ~~المثبطة .. ليبعد عن الأرض المزروعة .. ليبحث عن حفرة في الصحراء .. عن مكان أمين ~~لحفظ الجثة حتى يحقق رغائبه .. لقد أهدرت جثة حظه السعيد وهاك جثة تعده ~~باسترداد ما فقد .. السرعة والستر مطلبه .. وترامى إليه صوت هتك الصمت: أيها السائر في ~~الظلام تخفف. # ارتعد كما لم يرتعد من قبل .. المجنون .. دائما يخترق وحدته .. ما عليه إلا أن يلف ~~الجثة الصغيرة بطرف عباءته .. مد يده ثم سحبها بعنف كالملدوغ .. ثمة حركة أم ~~لعلها نبضة .. ثمة نفس كالأنين .. رباه! الأحدب لم يمت .. وترامى الصوت كرة ~~أخرى: تخفف! # اللعنة .. ما زال يطارده .. قاتل زهريار الجميلة .. لم قتلها؟ لم لم يقتل جلنار؟ ~~حمل شملول على كتفه اليسرى وغطاه بجناح عباءته الأيمن .. همس له: اطمئن يا شملول .. ~~صديقك عجر .. سأمضي بك إلى الأمان. # هل تضيع المكافأة؟ هل تتلاشى الرغائب؟ آه لو به قدرة على القتل! ولكن .. أجل خطرت ~~له فكرة .. أن يخفيه في داره حتى ينال ما يشتهي .. استولت عليه الفكرة ولم يكن ممن ~~يقلبون الأفكار على شتى وجوهها. # 12 # نظرت فتوحة إلى الأحدب الضئيل بلا حراك بذهول، فقال لها عجر: اسمعي وأطيعي. # فقالت ساخرة: إنه لا يصلح للطعام. # فقال بحرارة: سنعد له مكانا مريحا في العلية، ليبق أياما معدودة حتى ~~يسترد صحته. ~~- ولماذا لا تذهب به إلى أهله؟ ~~- إنه نجمة الحظ التي ستجلب لنا السعادة، وتنقلنا من حال إلى حال .. قدمي له ما يحتاج ~~إليه، وأحكمي إغلاق باب العلية، لن يطول ذلك، وسأخبرك بجميع ما ينبغي لك ~~معرفته. # 13 # لم يكد ينام من ليلته ساعة .. وتوثب للعمل منذ الصباح الباكر .. إنه يوم ~~فاصل في الحياة كلها، ويجب أن تحدث فيه جميع المعجزات بلا تأجيل .. ليكن جريئا ~~مقتحما وبلا حياء وهو لم يكن ذا حياء قط .. ما هي إلا فرصة واحدة، وهيهات أن ~~تتكرر، وكل شيء بمشيئة ms073 الله .. وقرر أن يبدأ بأغلى صيد، فقصد دار حسن العطار قبل ~~موعد ذهابه إلى دكانه .. جاءه الشاب في المنظرة الوثيرة وهو يتساءل بلهفة: ماذا ~~وراءك يا عجر؟ # فأجاب بنبرة مليئة بالثقة: كل خير يا معلم، لك الأمان حتى آخر العمر. # فشد على ذراعه، وقال: موفق بإذن الله، هل قابلك المعلم جليل؟ ~~- كلا بعد .. أردت أن أبدأ بالرأس. ~~- إليك ألف دينار حلالا لك. # فقال بهدوء: بل عشرة آلاف يا معلم. # قطب حسن مذهولا، وتساءل: ماذا قلت؟ ~~- عشرة آلاف دينار! ~~- لكنها ثروة ينوء بها أكرم الأغنياء؟ # فقال بالهدوء نفسه: هي قطرة من بحرك، وحياتك لا تقدر بمال قارون نفسه. ~~- اقتنع بخمسة آلاف، وسوف يتمها جليل البزاز عشرا! ~~- لن أفرط في درهم منها. # لاذ حسن بالصمت مليا، ثم قام متثاقلا، فغاب قليلا، ثم رجع بالآلاف المطلوبة، وهو ~~يتمتم: لا رحمة لك. # فأقبل يدسها في جيبه وهو يقول محتجا: سامحك الله، ألم أنقذ أعناقكم من سيف ~~شبيب رامة؟! ~~- لكن طمعك أفتك من سيفه. # فتجاهل تعليقه قائلا: بفضل الله سيصير عجر من الأعيان ويستثمر أمواله مع الأفذاذ من ~~أمثال المعلم سحلول .. بذلك يصير أهلا لتحقيق أحلامه الحقيقية. # فتساءل بسخرية خفية ينفس بها عن حقده: وما أحلامك الحقيقية؟ # فقال بهدوء وجرأة مذهلة: أن أطلب شرف القرب منكم في يد أختكم المصونة. # انتتر قائما وهو يهتف: ماذا؟! # فقال ببرود: لا تشعرني باحتقارك، لا حق لك في ذلك، كلنا من صلب آدم، ولم يفرق ~~بيننا فيما مضى إلا المال، ولا فرق اليوم بيننا. # فكظم حسن غيظه دفعا لسوء العاقبة، وقال متملصا من حرجه: ولكن لا بد من موافقتها ~~كما تعلم. # فقال وهو يرمقه بنظرة ذات معنى: ستوافق من أجل إنقاذ رأس أخيها المحبوب. # فقال وهو يتنهد بعمق: طلبك يخلو من الشهامة. # فقال بيقين: الحب لا يؤمن إلا بالحب. # ساد صمت، فغاصا معا في حر اليوم المتصاعد، حتى قال حسن: فلنؤجل ذلك إلى حين. # فقال بقوة: موعدنا العصر. ~~- العصر! ~~- عصر اليوم للعقد ولنؤجل الزفاف. # قام منحنيا له تحية، وذهب ms074 وهو يشعر بجمرات الحقد المتطايرة من نظراته تحرق ظهره. # 14 # قبل أن يستدير الصباح كان قد حصل من جليل البزاز على عشرة آلاف دينار، ومضى عنه ~~مشيعا بحقده المكتوم .. قال إن عليه أن يوثق علاقته بكبير الشرطة بيومي ~~الأرمل اتقاء لأي غدر في المستقبل .. عليه أيضا أن يلتحم بحاكم الحي وكاتم ~~سره كما يفعل الأثرياء، وفي ذلك ما فيه من العزة والأمان .. أما فاضل صنعان فقد ~~خلا به في دكانه وهو يمر أمامه .. تفحصه بزراية وسأله: ماذا عندك لي جزاء إنقاذ ~~رأسك يا فاضل؟ # فضحك فاضل مرتبكا، وقال: عندي رأسي فهي أثمن ما أملك. # فقال عجر بمرارة: سبق أن رفضت يدي بإباء. # فقال فاضل معتذرا: لك علي أن أكفر عن خطئي. # فصمت لحظات، وقال: وهبني الله من هي خير منها، ولكن تذكر أنني أنقذت رأسك بلا ~~مقابل مراعاة لفقرك! # 15 # وفي عصر اليوم تمت المراسيم الشرعية لزواج عجر من قمر العطار في جو أشبه ما ~~يكون بجو المآتم .. تركز هم عجر في الاحتفاظ بشملول الأحدب في داره حتى تزف ~~إليه العروس .. من ناحية أخرى اكترى دارا جميلة وشرع يعدها لاستقبال العروس .. ~~ولم يكن مطمئنا للمستقبل كل الاطمئنان، فخدعته ستنكشف عاجلا أو آجلا، أكثر ~~من ذلك ستعلم فتوحة بزواجه من قمر وتتجمع سحب المتاعب والأكدار .. غير أنه قد ينجو ~~من السقوط إذا ضم إليه عروسه فانضم بطريقة ما إلى آل العطار، وإذا استثمر ماله ~~فواتاه الربح الوفير والثراء المقيم .. وذهب إلى السوق فقابل المعلم سحلول، وقال له: ~~لدي مال أريد أن أستثمره عندك فأنت خير المستثمرين. # فسأله سحلول، ولم يكن يعلن عن دهشته قط: من أين لك المال يا عجر؟ ~~- الله يرزق من يشاء. # فقال باقتضاب: لا أشرك أحدا في مالي. # فقال برجاء: علمني؛ فالتعليم ثواب. # فابتسم سحلول قائلا: مهنتي لا تعلم يا عجر، انتظر حتى يرجع السندباد. # وتوجه من فوره إلى نور الدين عديل السلطان، فسأله الشاب في شيء من الارتياب: ~~أتقسم لي على أن المال جاءك من الحلال؟ # فاضطرب قلبه ولكنه ms075 أقسم، فقال له نور الدين: ستبحر سفينة في هذا الشهر، ارجع ~~إلي في نهاية الأسبوع. # مضى خائفا من مغبة القسم الكاذب، ولكنه تعهد أمام ضميره بأن يكفر عن ~~ذنوبه بالحج والصدقة والتوبة. # 16 # أدرك عجر أن أقدام الزمن تنذر بتحطيم آماله، وأنه لا يستطيع أن يوقفها .. ليس في ~~وسعه أن يحتفظ بالأحدب في سجنه إلى الأبد، ولن يوجد في المدينة مستقر آمن له .. لم ~~يبق له إلا أن يستولي على عروسه ثم يهرب بها في أول سفينة .. في بلاد بعيدة يبدأ ~~حياة جديدة، حياة الثراء والحب والتوبة .. ودافع عن نفسه أمام نفسه فقال إنه ~~لم يكن شريرا، ولكنه فعل ما فعل بدافع الحرمان والعجز .. أعطاه الله حظ الفقراء ~~وشهوات الأغنياء فما ذنبه؟ وذهب عند المساء إلى مقهى الأمراء فمضى من توه - ~~بأقدام ثابتة - إلى مجلس حسن العطار وجليل البزاز وفاضل صنعان .. أوسعوا له مرغمين ~~.. قال لنفسه: كنت أمس محتقرا وأنا اليوم بغيض حتى الموت .. لكنه سيحسم أمره مع العطار ~~في نهاية السهرة وينطلق من الغد إلى دنيا الأحلام الجميلة .. ورأى فاضل يحملق في مدخل ~~المقهى بذهول داعيا صاحبيه للنظر .. اتجه نظره نحو المدخل فرأى شملول الأحدب يرميهم ~~بنظرة حمراء ملتهبة وهو ينتفض من شدة الانفعال. # 17 # تخطف اليأس والرعب روحه .. اقترب منهم بخطى سريعة متقاربة حتى وقف أمامهم ~~متحديا .. صرخ بصوته الرفيع كالصفير: الويل لكم يا غجر! # ركز أولا على عجر، وقال: تحبسني في دارك مدعيا ضيافة لم أطلبها؟! # لم ينبس عجر، فواصل الأحدب: أطلقتني امرأتك عقب ما نما إليها من نبأ زواجك، فانتظر ~~الرعد في بيتك. # ثم راجعا إلى الثلاثة: تضربون رجل السلطان يا أوغاد! لكل قوي من هو أقوى منه ~~وأفتك، وسوف تنالون الجزاء الحق. # وغادر المقهى مصفر الوجه من الغضب، في خطى متقاربة سريعة، مخلفا وراءه عاصفة ~~من الضحك .. ولكن تجمدت أوجه الرجال الثلاثة، ثم اجتاحهم الخوف والغضب .. ألهبوا عجر ~~بنظرات حاقدة وهمس حسن العطار: وغد محتال، أرجع النقود وافسخ العقد. # وقال جليل البزاز: أرجع النقود وإلا هشمنا عظامك ms076 . # قال عجر: حسبته أول الأمر ميتا والله شهيد. # قال حسن: ثم انقلبت مجرما محتالا، النقود والفسخ. # قال باستقتال: احذروا الفضيحة، سيذاع سر السكر والعربدة والعدوان، خير من ~~ذلك أن تسترضوا الأحدب قبل أن يرفع شكواه إلى مولاه، أما ما أعطيتم من مال فاعتبروه ~~تكفيرا عن آثام حياتكم. ~~- الويل لك، لن تفلت بدرهم يا محتال. # نهض الرجل بغتة وغادر المكان وكأنما يفر فرارا. # 18 # تلاشى الأمان من دنياه .. وانطفأ سراج الأمل .. إنه زوج قمر ولكنها أبعد عنه من ~~النجوم، وهو غني ولكن الموت يتهدده، وهو أدرى الناس بالتعاون الخفي بين العطار ~~والبزاز من ناحية ويوسف الطاهر الحاكم وحسام الفقي كاتم السر من ناحية أخرى .. ~~وفتوحة رابضة في الدار متلهفة على عودته لتغرز أنيابها في عنقه .. ما أضيق الدنيا! .. ~~وهام على وجهه .. غفا ساعات فوق سلم السبيل .. انزوى في أقصى الحي النهار كله .. لا ~~شك في أن أعداءه استرضوا الأحدب وهم عاكفون الآن على تدبير الانتقام منه .. وفي ~~المساء وجد نفسه الهائمة في ميدان الرماية، وفجأة جذب بصره ضوء مشاعل وضوضاء غير ~~مألوفة. # 19 # ماذا يجري في الميدان؟ قوة من رجال الشرطة تحيط بعدد عديد من الصعاليك وتسوقهم ~~بعنف نحو مكان مجهول .. وصادف رجلا قريبا يقول بصوت مسموع: يا له من قرار ~~عجيب! # لم يكن الرجل في حقيقته إلا العفريت سخربوط متنكرا في صورة إنسانية رافلا في ~~جلباب ينطق بحسن المكانة .. سأله عجر: أي قرار يا سيدي؟ # ففرح سخربوط لاستدراج عجر، وقال: فليكرم الله مولانا السلطان؛ فقد تنبأ له فلكي ~~القصر بأن حال المملكة لن يصلح إلا إذا تولى شئونها الصعاليك، فأمر مولانا ~~بالقبض على الصعاليك ليختار منهم شتى القيادات. # فذهل عجر وتساءل: أموقن أنت مما تقول؟ # فقال سخربوط بدهشة: ألم تسمع المنادين؟ # وثب قلبه من الجذل .. أي موجة من البشر تكتسح الأحزان كلها بانطلاقة واحدة؟ ~~إنها المنقذ من العذاب واليأس، والمبشر بالنجاة والسيادة .. ماذا في وسع ~~أعدائه أن يفعلوا إذا أطل عليهم غدا من شرفة الحكام؟ ولم يتردد دقيقة واحدة ~~فاندس في زمرة ms077 المقبوض عليهم مستسلما لتيارهم. # 20 # مضى التيار نحو دار الحاكم يوسف الطاهر .. حشد المقبوض عليهم في الفناء تحت ~~حراسة قوية وعلى ضوء المشاعل .. جاء يوسف الطاهر يتبعه حسام الفقي، فحياهما كبير ~~الشرطة بيومي الأرمل، ثم قال: هؤلاء من أمكن القبض عليهم هذا المساء وسيجيء ~~الآخرون تباعا. # فتساءل يوسف الطاهر: أتضمن بذلك حقا أن تنمحي الجرائم والسرقات وقطع ~~الطرق؟ # فقال بيومي الأرمل: هو المأمول يا مولاي. # وبإشارة من الحاكم راح الجنود يجردون المقبوض عليهم من ملابسهم الرثة .. ~~وذهل عجر طيلة الوقت وأيقن من أنه ساق نفسه إلى مصيبة تخف بالقياس إليها ~~مصائبه .. وانهالت السياط عليهم فمزق صراخه الجو من قبل أن يأتي دوره .. ~~ولكنه نال نصيبه .. ولما أخذوا يمضون بهم إلى السجن صاح عجر مخاطبا الحاكم: يا ~~نائب السلطان، انظر بحق الله المتعال فإني لست منهم، أنا عجر الحلاق، كبير ~~الشرطة يعرفني، ويعرفني كاتم السر، إني صديق نور الدين عديل السلطان! # انتبه إليه بيومي الأرمل، فدهش وسأله: لكني لم أقبض عليك يا عجر. # فصاح عجر: اختلاط الأمر وفعل الشيطان. # وأمر يوسف الطاهر بإطلاق سراحه ورد ملابسه إليه، غير أنه انتبه إليه باهتمام ~~فجأة، نحو اللفة حول وسطه فارتعد عجر وأخفاها بذراعيه .. وداخل الحاكم شيء من ~~الريبة فأمر بنزعها وفحص ما بذراعه .. ولما رأى العقد ذا الجوهر صاح: عقد زهريار! .. ما ~~أنت إلا لص قاتل، اقبضوا عليه. # 21 # بدأ اليوم التالي بالتحقيق مع عجر .. حكى الرجل حكايته وأقسم بأغلظ الأيمان على ~~صدقها .. تطوع حسن العطار وجليل البزاز فشهدا عليه بالكذب والاحتيال .. قضى يوسف ~~الطاهر بضرب عنقه .. واحتشد الحي ليشهد ضرب عنقه في الميدان، وقبيل الشروع في ~~التنفيذ جاء الوزير دندان في موكب مهيب. # 22 # سرعان ما جمعت حجرة القضاء بدار الحاكم بين دندان ويوسف الطاهر وحسام الفقي ~~وبيومي الأرمل وعجر الحلاق .. قال دندان: أمرني مولاي بإعادة المحاكمة. # فقال يوسف الطاهر: سمعا وطاعة أيها الوزير. # فقال دندان: وافاه «المجنون» بأخبار أراد أن يتحقق منها. # فدهش يوسف الطاهر، وقال: ذلك المجنون المصر على أنه جمصة ~~البلطي؟ ~~- هو ms078 بعينه. ~~- وهل صدقه مولانا السلطان؟ # فقال دندان بخشونة: إني هنا لأحقق معكم لا لتحققوا معي. # وساد صمت مجلل بالرهبة، فسأل دندان يوسف الطاهر: ألك شقيقتان، إحداهما ~~حية والأخرى مختفية؟ # فقال يوسف الطاهر: أجل يا سيدي الوزير. ~~- وهل مارسا حياة داعرة فاجرة؟ # قال يوسف الطاهر بصوت متهدج: لو عرفت ذلك ما سكت عنه. # فقال دندان: بل إنهما أسكتاك من قبل أن تتولى الإمارة بالإغداق عليك من المال ~~الحرام! # فقال الحاكم: ما هي إلا خيالات رجل مجنون. # فالتفت دندان نحو حسام الفقي كاتم السر، وقال: يقال إنك تعرف كل شيء عن هذه ~~القضية، فبأمر السلطان أدل بما عندك، واحذر الكذب فقد يتسبب في ضرب عنقك. # انهار حسام الفقي تماما، فقال لائذا بالنجاة ما وسعه ذلك: جميع ما قيل حق لا ريب فيه. # فسأله دندان متجهما: ماذا تعرف عن اختفاء زهريار؟ ~~- حققت في ذلك بنفسي، فتبين لي أن أختها جلنار هي التي قتلتها بدافع ~~الغيرة. # ودعي عجر للكلام فحكى حكايته من ساعة عشقه لجلنار حتى دس نفسه بين الصعاليك ~~المقبوض عليهم. # 23 # رفعت القضية بحذافيرها إلى السلطان شهريار، فأمر بعزل يوسف الطاهر لفقدان ~~الأهلية، وعزل حسام الفقي لتستره على رئيسه، وجلد حسن العطار وجليل ~~البزاز وفاضل صنعان للسكر والعربدة، ومصادرة أموال عجر الحلاق وإطلاق سراحه. # وخلا دندان إلى ابنته شهرزاد فقال لها: لقد تغير السلطان، وتخلق منه شخص جديد ~~مليء بالتقوى والعدل. # ولكن شهرزاد قالت: ما زال جانب منه غير مأمون، وما زالت يداه ملوثتين بدماء ~~الأبرياء. ~~••• # أما عجر فقد تناسى خسارته في فرحة النجاة .. وسرعان ما فسخ العقد بينه وبين قمر، ~~ومضى إلى النخلة غير بعيد من اللسان الأخضر، فانحنى أمام المجنون المتربع تحتها ~~وقال بامتنان: إني مدين لك بحياتي أيها الولي الطيب. # | أنيس الجليس # 1 # شهريار ودندان يغوصان في الليل، يتبعهما شبيب رامة، وقد تلاشت حركة الإنسان .. على ~~ضوء المصابيح المتباعدة لاحت الدور والحوانيت والجوامع نائمة، وخفت حرارة ~~الصيف، وومضت النجوم في الأعالي .. تساءل شهريار: ما رأيك فيما كان؟ # فقال دندان: سليمان الزيني ms079 رجل مأمول كحاكم .. كذلك كاتم سره الفضل بن ~~خاقان. ~~- إذا نامت الرعية نام الخير والشر، الجميع شغوفون بالسعادة ولكنها كالقمر المحجوب ~~وراء سحب الشتاء، فإذا وفق حاكم الحي الجديد سليمان الزيني تساقطت قطرات من ~~السماء مطهرة الجو من بعض ما ينتشر فيه من الغبار. ~~- سيكون ذلك بفضل الله المتعال وبيد مولانا السلطان وحكمته. # فقال شهريار بعد تفكير: ولكن القسوة يجب أن تبقى ضمن وسائل السلطان! # فتفكر دندان بدوره، ثم قال بحذر: الحكمة - لا القسوة - هي ما يقصد مولاي. # فضحك السلطان ضحكة مزقت صمت الليل، وقال: ما أنت إلا منافق يا دندان، ماذا ~~قال المجنون؟ قال إن الرأس إذا صلح صلح الجسم كله .. فالصلاح والفساد يهبطان من ~~أعلى، غمزني بجرأة لا تكون إلا للمجانين، ولكنه عرف سر القضية .. كيف تهيأ له ~~ذلك؟ ~~- من أدراني يا مولاي بما يدور في رءوس المجانين؟ ~~- زعم أنه أحاط بالأسرار مذ كان كبيرا للشرطة. ~~- ما زال يصر على أنه جمصة البلطي، وهو ادعاء يكذبه رأس جمصة البلطي ~~المعلق على باب داره .. لعله حقا من رجال الغيب. # فقال شهريار وكأنما يناجي نفسه: علمتني شهرزاد أن أصدق ما يكذبه منطق الإنسان، ~~وأن أخوض بحرا من المتناقضات، وكلما جاء الليل تبين لي أني رجل فقير! # 2 # قالت زرمباحة لسخربوط: أخشى أن يركبنا الضجر. # فقال سخربوط مشجعا: بل ستتاح فرص وتخلق فرص يا تاج الذكاء. # وترامى صوت قمقام من أعلى الشجرة، وهو يقول: إذا تردد التذمر بينكما فهو ~~البشرى بالرضا. # فقالت له زرمباحة ساخرة: ما أنت إلا عجوز عاجز. # فقال سنجام من مجلسه لصق قمقام: الأرض تشرق بنور ربها، ونحو النور يتطلع ليل نهار ~~جمصة البلطي ونور الدين العاشق، حتى عجر استقر في دكانه وتاب عن تطلعاته .. أما شهريار ~~السفاح فثمة نبضة هدى تقتحم عليه هيكله المليء بالدم المسفوك. # فقال سخربوط هازئا: ما ترى من الأشياء إلا ظلها الأخرس، وما تحت الرماد إلا ~~جمرات نار وسيوقظك الغد من غفوة العمى. # 3 # بدأت الحركة بصوت ناعم كالحرير ثم انفجرت بهزيم الرعد .. في ذات ms080 ليلة بمقهى ~~الأمراء خرج عم إبراهيم السقاء عن أدبه المعهود، وقال بصوت مرتفع دل على شدة ~~تأثره وانفعاله: حملت في صدر النهار الماء إلى الدار الحمراء. # فسأله شملول الأحدب بصوته الرفيع: وأي جديد في هذا يا أحمق؟ # فقال السقاء وهو سكران بالانفعال: لمحت صاحبة الدار، تبارك الخلاق العظيم ~~! # ضحك الجالسون على الأرض والمتربعون على الأرائك، وقال معروف الإسكافي: انظروا إلى ~~جنون الشيخوخة. # فقال عم إبراهيم بأسى: نظرة منها تملأ الجوف بعشرة دنان من خمر الجنون. # فقال الطبيب عبد القادر المهيني: صفها لنا يا عم إبراهيم. # فهتف الرجل: إنها لا توصف يا سيدي، ولكني أسأل الله الرحمة والغفران. # وبعد ليلتين قال عم رجب الحمال: دعيت اليوم لحمل نقل إلى الدار الحمراء. # شد الانتباه من فوره، وبدا فريسة لعاطفة قهارة، فقال: لمحت ست الدار، ~~أعوذ بالله من عنف الجمال إذا طغى. # لنا الله .. ليس الأمر بالهزل .. انطلق أصحاب الأشواق يستطلعون .. انطلقوا إلى سوق ~~السلاح حيث تقوم الدار الحمراء .. دار كبيرة هجرت زمنا لهلاك أصحابها في وباء .. ~~تركت عارية وماتت حديقتها .. حتى اكترتها امرأة غريبة من بلد مجهول مصحوبة ~~بعبد واحد .. وفي الليل العميق يترامى من وراء أسوارها غناء عذب ونغم ساحر .. قالوا ~~لعلها غانية! # وإذا بعجر الحلاق يتحدث عنها بجنون لكل زبون يقصده .. يقول: عصفت بتوبتي ~~وأصابتني بسهم العذاب الأبدي. # ويقول: دعتني لتهذيب خصلات شعرها وتقليم أظافرها، لو كانت سيدة محتشمة ~~لدعت بلانة ولكنها نار الله الموقدة! # وعرف أن اسمها «أنيس الجليس» وتضاربت الأقوال في وصفها حتى أثارت الشك في عقول ~~الواصفين، فمن قائل إنها بيضاء شقراء، ومن قائل إنها سمراء خمرية ~~صافية، ومن منوه ببدانتها إلى متغزل في رشاقتها .. هيج ذلك مكامن الأشواق ~~فتوثب الأعيان والموسرون لاقتحام المجهول. # 4 # يوسف الطاهر أول من قام بالمبادرة .. منذ عزله وهو ثري يعاني البطالة والضجر ~~فجاءه الفرج .. مع الليل ذهب إلى الدار الحمراء وطرق الباب .. فتح له العبد، وسأله: ~~ماذا تريد؟ # فأجابه بجرأة رجل حكم الحي زمنا: غريب ينشد مأوى عند أهل الكرم. # غاب العبد ms081 وقتا، ثم رجع موسعا للقادم، وهو يقول: أهلا بالغريب في دار الغرباء. # أدخل إلى بهو مزين الجدران بالأرابيسك، مفروش بالأبسطة الفارسية، ~~والدواوين الأنطاكية، محلى بتحف الهند والصين والأندلس، أبهة لا ترى إلا ~~في دور الأمراء. # وهلت امرأة محجبة، تشي قامتها المتوارية في طيلسانها الدمشقي ~~بالجلال، فجلست متسائلة: من أي البلاد يا غريب؟ # فقال وهو يتلقى من الحيوية زادا كالخمر: الحق أني من عشاق الحياة. ~~- خدعتنا وحق السلطان. # فقال بحماس: عذري أن قارئ الكف تنبأ لي بأني أعيش للجمال وأموت في سبيله. # فقالت بنبرة جادة: إني امرأة متزوجة. # فتساءل بقلق: حقا؟ # فاستدركت: ولكني لا أدري متى يلحق بي زوجي؟ ~~- يا له من قول غريب! # فتمتمت متهكمة: ليس دون قولك غرابة. # وبدلال أزاحت النقاب عن وجهها فسطع جمال قد خلق على هواه وحقق شوارد ~~أحلامه .. تلاشى العقل فركع على ركبتيه .. أخرج من جيبه حقا عاجيا ففتحه ووضعه ~~بين قدميها كاشفا عن جوهرة ناطقة بمثل ضوء الشمس .. همس بصوت متهدج: حتى جوهرة ~~التاج لا تليق بقدميك. # انتظر الحكم المقرر للمصير، فقالت بنعومة: مقبولة تحيتك! # فانتفض بفرحة الأمل، أحاط ساقيها بذراعيه، وهوى رأسه فلثم قدميها. # 5 # كانت مبادرة يوسف الطاهر بمثابة فتح الباب لأمواج الجنون الهادرة الصاخبة التي ~~تدفقت لتغمر الحي كالطوفان وتصيبه في أغنى أبنائه، أما الفقراء فكانت لهم الحسرة ~~.. باتت الدار الحمراء بسوق السلاح قبلة لحسام الفقي وحسن العطار وجليل البزاز ~~وغيرهم .. حملت الهدايا في إثر الهدايا، وسلبت القلوب والجوانح، وتاهت ~~العقول وشردت، وسيطر الإسراف والسفه، ونحيت العواقب وتلاشى الزمن فلم ~~تبق إلا الساعة الراهنة، ومضت الدنيا تضيع في إثر الدين .. وأنيس الجليس ساحرة ~~فاتنة، تحب الحب، تحب المال، تحب الرجال .. لا يرتوي لها طمع ولا تكف عن طلب .. ~~الرجال يستبقون بجنون بحكم الحب والغيرة، لا يستأثر بها أحد، ولا يزهد فيها ~~أحد، منحدرين بقوة واحدة نحو الضياع. # 6 # لم يعرف المعلم سحلول النشاط كما عرفه في تلك الأيام .. إنه رجل المزادات ~~وأول من يحضر عند حلول الإفلاس .. سقط أول من سقط حسام الفقي ms082 .. لم يهمه ضياع ~~المال بقدر ما أهمه ضياع أنيس الجليس .. لم يكربه مصير النساء والأولاد كما أكربه ~~الحرمان .. قال للمعلم سحلول: لا يستطيع أن يدمر الإنسان مثل نفسه. # فقال الرجل بغموض: ولا يستطيع أن ينجيه مثل نفسه. # فقال الفقي ساخرا: أفلست المواعظ من قديم. # ولحق به في السقوط جليل البزاز، ثم حسن العطار، أما يوسف الطاهر فترنح على ~~حافة الهاوية .. وقال عجر الحلاق لسحلول معلقا على نشاطه المتصاعد: مصائب ~~قوم! # فقال سحلول دون مبالاة: هم الجناة وهم الضحايا . # فتنهد عجر قائلا بأسى: لو رأيتها يا معلم لهفت نفسك إلى الجنون. ~~- ما هي إلا بسمة شيطان. ~~- إني أعجب كيف لم تقع في هواها! # فقال سحلول باسما: جرت المقادير بأن يوجد عاقل واحد في كل مدينة مجنونة. # وذات ليلة وسحلول يخوض الظلام متمهلا اعترضه قمقام وسنجام فتبادلوا تحية ~~مقدسة، وقال قمقام: انظر إلى العبث يعصف بالمدينة. # فقال سحلول: لقد عشت ملايين من السنين فما يدهشني شيء. # فقال سنجام: ستقبض أرواحهم ذات يوم وهي تنز إثما. ~~- وقد تسبق التوبة حلول الأجل. ~~- لماذا لا يسمح لنا بمساندة الضعفاء؟ # فقال سحلول بوضوح: وهبهم الله ما هو خير منكم؛ العقل والروح! # 7 # مضى حسام الفقي ثملا مترنحا إلى الدار الحمراء وطرق الباب الكبير .. فاضت ~~كأس جنونه فساقته إلى باب النجاة، ولكن لم يفتح له أحد، فصاح في الليل ~~غاضبا: افتح يا مفتح الأبواب. # ولكن لم يكترث بندائه أحد، فانزوى تحت السور في قهر وعناد .. وما لبث أن رأى ~~شبحا قادما حتى رأى وجهه تحت ضوء المصباح المعلق، فعرف فيه رئيسه القديم ~~يوسف الطاهر فاشتعل بيقظة غاضبة .. طرق الرجل الباب فسرعان ما فتح له .. ~~اندفع حسام الفقي في أثره، ولكن العبد اعترض سبيله قائلا: معذرة يا معلم حسام. # فلطمه على وجهه بحنق، فقال له يوسف الطاهر برقة: أفق، واسلك كما يليق ~~بك. # فتساءل بغلظة: ضاع المال والدين فماذا يبقى لي؟ # تحول عنه ليمضي في سبيله، ولكن الآخر وثب عليه كنمر وطعنه في قلبه بخنجر ~~مسموم .. عند ذاك صرخ ms083 العبد صرخة أفزعت النيام. # 8 # قبض على حسام الفقي الذي لم يحاول الهرب .. نظر إليه بيومي الأرمل برثاء، وقال: ~~أسفي عليك أيها الصديق القديم! # فقال حسام بهدوء: لا تأسف يا بيومي، ما هي إلا قصة قديمة يستدفئ بها العجائز .. ~~قصة الحب والجنون والدم. # 9 # وقال العبد لأنيس الجليس: حبيبتي زرمباحة، عما قليل سيشرف دارنا بيومي ~~الأرمل كبير الشرطة. # فقالت المرأة: كما رسمنا يا سخربوط .. ونحن في الانتظار. ~~- دعيني أقبل الرأس الحاوي للعبقرية. # 10 # لم تستغرق محاكمة حسام الفقي إلا ساعات ثم ضرب عنقه .. واجتمع الحاكم سليمان ~~الزيني بكبير الشرطة وحضور كاتم السر الفضل بن خاقان والحاجب المعين بن ساوي .. قال ~~الزيني مخاطبا بيومي الأرمل: ما هذا الذي قال الشهود؟ عشرات الرجال يفلسون .. ~~رجلان يفقدان حياتهما بسبب امرأة غريبة داعرة .. أين كنت يا كبير الشرطة؟ # فقال بيومي الأرمل: الدعارة إثم سري، ونحن منهمكون في مطاردة الشيعة ~~والخوارج! ~~- لا .. لا .. إنك عين الشريعة .. حقق مع المرأة .. صادر مالها الحرام، استدرك ~~ما فاتك قبل أن تسأل أمام السلطان. # 11 # وقف بيومي الأرمل بين نخبة من رجاله في بهو الاستقبال بالدار الحمراء ينظر فيما حوله ~~ويتعجب .. ترى هل تفوق سراي السلطان هذه الدار في شيء؟! وجاءت المرأة مقنعة الوجه، ~~محتشمة الجسد. ~~- أهلا بكبير الشرطة في دارنا المتواضعة. # فقال بخشونة: لا شك في أنك علمت بالجريمة التي ارتكبت عند مدخل دارك؟ # فقالت بتأثر: لا تذكرني بها فلم يغمض لي جفن منذ ارتكابها. # فقال بحدة: لا أصدق كلمة مما تزورين، أجيبي عن أسئلتي بالصدق، ما اسمك؟ ~~- أنيس الجليس. ~~- اسم مريب، من أي البلاد جئت؟ ~~- أمي من الهند وأبي من فارس وزوجي من الأندلس! ~~- متزوجة؟ ~~- نعم، وقد تلقيت من زوجي رسالة ينبئني فيها بقرب قدومه. ~~- أتمارسين الدعارة بعلمه؟ ~~- أعوذ بالله، إني امرأة شريفة. # فهز رأسه ساخرا: وما شأن الرجال الذين يترددون عليك؟ ~~- أصدقاء من سادة البلد ممن يطيب لهم الحديث في الشريعة والأدب. ~~- عليك اللعنة، ألذلك أفلسوا وتقاتلوا؟ ~~- إنهم كرماء ولا ذنب لي، وما كان يصح في آدابنا أن أرفض هداياهم ms084 ، ولا أدري كيف اندس ~~الشيطان بينهم. # فقال بنفاد صبر: لدي أمر بمصادرة مالك الحرام. # أشار إلى رجاله فانتشروا في الدار ينقبون عن الحلي والجواهر والنقود .. في أثناء ذلك ~~لبثا وحيدين صامتين .. خطف من نقابها نظرات مستطلعة بلا ثمرة. أما هي فلم تجزع .. استسلمت ~~للقدر أو هكذا بدت، ثم تساءلت في عتاب: هل أعيش بعد اليوم من بيع أثاث داري؟ # رفع منكبيه استهانة، فأزاحت النقاب عن وجهها قائلة: معذرة، حر الصيف لا يطاق. # نظر بيومي فصعق .. لم يصدق عينيه ولكنه صعق .. التصق بصره بوجهها فلم يستطع أن يسترده .. ~~سبح في بحر الجنون المتلاطم .. فقد القوة والوظيفة والأمل .. دفن كبير الشرطة بيديه ~~فانبعث من قبره مائة عفريت وعفريت .. دفعته آلاف الأيدي فكاد يتهاوى لولا سماعه عربدة ~~أعوانه في الحجرات .. الرقباء والعيون قادمون، أما بيومي الأرمل فقد ضاع إلى الأبد .. ~~وعادت تقول متوسلة: أسألك المروءة يا كبير الشرطة. # أراد أن يجيب إجابة خشنة تناسب المقام .. أراد أن يجيب إجابة ناعمة تناسب المقام .. ~~لكنه غرق في الصمت. # 12 # عند منتصف الليل فقد صبره، فطار مستخفيا إلى الدار الحمراء .. مثل بين يديها مستسلما ~~وهو يقول لنفسه: «إنها القدر الذي لا ينفع معه حذر ولا ينتفع لديه بمثال» .. تجاهلت ~~حاله وقالت بأسى: لم يبق لدي ما تصادره يا كبير الشرطة. # فقال بذل: لقد قمت بواجبي، ولكن ثمة جانبا للرحمة. # ورمى عند قدميها بدرة مكتنزة .. ابتسمت بعذوبة، وتمتمت: يا لك من رجل شهم! # ركع على ركبتيه في خشوع، أحاط ساقيها بذراعيه، ثم سجد لاثما قدميها. # 13 # تصاعدت أنات شكوى من مستحقي بيت المال، وتهامس كتاب البيت بأن المال لا يصرف في ~~وجوهه الشرعية كما أمر الزيني .. وبلغت الأنباء الحاكم فبث العيون وشدد المراقبة .. وكلف ~~كاتم سره الفضل بن خاقان وحاجبه المعين بن ساوي بالتحقيق السري .. وقرر أخيرا ~~استدعاء كبير الشرطة بيومي الأرمل، وقذف في وجهه بالبيانات الصادقة .. بدا الرجل ~~مستسلما وغير مبال، فعجب لشأنه، وسأله: أرى فيك شخصا آخر لم أعهده من قبل؟ # فقال الرجل بأسى: تقوض البناء القديم ms085 يا مولاي. ~~- ما تصورت أن تغتال أموال المسلمين. # فقال بالنبرة نفسها: اغتاله المجنون الذي حل في. # وحوكم بيومي الأرمل فضرب عنقه .. حل محله المعين بن ساوي .. صودرت أموال أنيس ~~الجليس مرة أخرى .. ولزم حارس بابها ليمنع أي رجل من الدخول. # 14 # ورفع أمرها إلى المفتي، ولكنه أفتى بأنه لم تقم بينة شرعية على فسقها، وكان المعين ~~بن ساوي يمارس عمله في مقر الشرطة عندما استأذنت امرأة في مقابلته .. نظر إلى نقابها ~~الكثيف بلا مبالاة وسألها: من أنت؟ وماذا تريدين؟ # فأجابت بعصبية: أنا أنيس الجليس المظلومة. # فانتبه الرجل إليها باهتمام وسألها بخشونة: ماذا تريدين؟ # فأزاحت النقاب عن وجهها، وقالت: صادرتم مالي، أصبحت مستحقة للصدقة والزكاة فاكتبني ~~عندك ضمن المستحقات. # لم يفقه معنى كلمة مما قالت .. نسي أشياء لا تحصى كما نسي نفسه .. عبثا حاول أن يستمد ~~من ضميره قوة .. زلت قدمه فتردى في الهاوية .. سمع صوتها يتردد مرة أخرى من دون أن ~~يفقه له معنى .. أخيرا سألها وهو يلهث: ماذا قلت؟ # فقالت متجاهلة حاله: اكتبني عندك في المستحقات للزكاة والصدقة. # تساءل وهو يلقي بتاريخه من النافذة: متى أبعث لك بحاجتك؟ # فقالت بدلال: سأنتظرك عقب صلاة العصر. # 15 # اشتعلت نشاطا ومقدرة .. قالت إنه يوم الفصل والنصر .. ضحكت طويلا كما ضحك سخربوط .. ~~وفي الحال قصدت كاتم السر الفضل بن خاقان .. تكررت اللعبة والمأساة .. ضربت له موعدا ~~عقب صلاة المغرب .. أما سليمان الزيني فكان موعده عقب صلاة العشاء .. نور الدين عاشق ~~الروح وعديل السلطان وافق على الذهاب بعد العشاء بساعتين، وقد حرر لها رقعة لمقابلة ~~الوزير دندان وأخرى للقاء السلطان شهريار بحجة أن تظفر بالعدل والإنصاف عند أي منهما ~~.. هوى الرجال جميعا وتطلع كل إلى موعده وقد فقد رشده .. حتى دندان وشهريار! # 16 # في موعده جاء المعين بن ساوي بدقة فلكية تعكس عيناه معاناة عاشق قديم .. رمى بالبدرة ~~في خفة طفل سعيد، لم ير من الوجود الفخم إلا كوكبه الساطع، وثمل بالنشوة حتى استقر عند ~~قدميها .. ليس في الجلسة إلا بروق الوعود السعيدة المحتدمة ولا مكان بها ms086 للعواقب .. شرب ~~من يد العبد تارة ومن يدها أخرى، وتمادى في أفانين الهوى حتى تجرد من ثيابه فارتد للعصر ~~البدائي .. وهو يندفع بها نحو الفراش اندفع العبد داخلا مهرولا، وانكب على أذنيها ~~فأسر إليها بسر خطير كما بدا .. وثبت واقفة، أسدلت على جسدها البض طيلسانها وهمست ~~محمومة: زوجي وصل. # أفاق الرجل من سكرته بضربة قاضية فشدته من يده إلى حجرة جانبية، ثم أدخلته في ~~صوان، أغلقته بإحكام، وهي تقول من خلال رجفة الاضطراب والذعر: ستذهب بأمان في الوقت ~~المناسب. # فهتف الرجل: إلي بثيابي. # فقالت وهي تبتعد: إنها في الحفظ والصون، اصمت، لا صوت ولا حركة وإلا هلكنا! # 17 # تتابعت الرجال .. الفضل بن خاقان .. سليمان الزيني .. نور الدين .. دندان، شهريار .. ~~استسلموا للنداء الآسر، ثملوا بالنشوات المعربدة، ثم سيقوا عرايا إلى الأصونة، وترامى ~~إليهم صوت أنيس الجليس وهي تضحك ساخرة، فأدركوا أنهم وقعوا في شرك محكم .. ~~قالت: غدا في السوق سأعرض الأصونة للمزاد بما فيها .. # وضحكت مرة أخرى وواصلت: سوف يشاهد شعب السوق سلطانه ورجال دولته وهم يباعون عرايا! # 18 # ولما رجعت إلى البهو رأت أمامها «المجنون» واقفا في هدوء .. انزعجت مرتجفة .. ماذا ~~جاء به؟ كيف اقتحم دارها؟ هل سمع حديثها للرجال؟ سألته: كيف دخلت داري بلا دعوة ولا ~~استئذان؟ # فقال بهدوئه: رأيت الرجال يتتابعون فثار شوقي للمعرفة. # صفقت بيديها منادية العبد، فأدرك ما تريد، فقال: لقد ذهب! # فسألته غاضبة: إلى أين؟ ~~- دعينا منه وأكرمي ضيفك. # بدا مفروق الشعر مسترسله .. غزير اللحية، حافي القدمين، في جلباب أبيض ~~فضفاض، ينبعث من طوقه شعر صدره .. أتوقعه في شراكها؟ أقبلت ولكن في فتور .. لأول ~~مرة لا يحدث وجهها أثره .. إنه فتنة ولكن للعقلاء لا المجانين .. اقتربت من المائدة ~~متثنية وقالت: إن كنت تريد طعاما فكل. # فقال بازدراء: لست متسولا. # فتساءلت مدافعة اليأس: إليك الشراب. ~~- رأسي مليء بالدنان! ~~- لا يبدو عليك سكر. ~~- ما أنت إلا عمياء. # فقطبت مستوحشة، وسألته: ماذا تريد؟ # فسألها بدوره: كيف تعيشين في قصر مهجور خال من وسائل الحياة كافة؟ # فنظرت فيما حولها بقلب منقبض ms087 وتساءلت: ألا يعجبك هذا الجمال كله؟ ~~- لا أرى إلا جدرانا تتردد بينها أنفاس الوباء القديم. # جاء دورها لتتعرى كالآخرين .. استسلمت ضعيفة أمام جنونه المقتحم .. انهزم الإغراء كما ~~انهزم التمويه .. ولته ظهرها لتفكر .. تحركت شفتاه بتلاوة خفيفة .. لم تسعفها ~~المقاومة اليائسة .. وزحف عليها ما يشبه النوم الثقيل .. تراخت أعصابها .. تركت تيار ~~التغير يتدفق .. مضت قسمات وجهها تذوب وتنداح فصارت عجينة متورمة .. تقوضت ~~القامة الفارهة وطارت منها الملاحة والرشاقة .. بسرعة عجيبة لم يبق منها إلا نقاط منفصلة ~~.. استحالت دخانا ثم تلاشت غير تاركة أي أثر .. في أعقابها اندثرت الأرائك والوسائد ~~والأبسطة والتحف .. انطفأت القناديل .. فنيت، فساد الظلام .. حمل ركام ثياب الرجال ~~فقذف بها من نافذة، ومضى نحو حجرة الأصونة. # 19 # قال المجنون يخاطب من في الأصونة: لن أعفيكم من العقاب، ولكني اخترت لكم عقابا ~~ينفعكم ولا يضر العباد. # فتح الأقفال بسرعة، ثم غادر المكان. # 20 # تسلل الرجال من الأصونة في حذر وإعياء يترنحون من الإرهاق .. لم يفتح أحد منهم فاه ~~من القهر والخجل .. عراة الأجساد عراة الكرامة يتخبطون في الظلام .. يفتشون عن ملابسهم، ~~عن أي ملابس، عن أي شيء يستر العورة .. الوقت يمضي لا يرحم، والنور يقترب، والفضيحة ~~تومض في الظلام .. جالوا في الظلام يستكشفون المكان بأذرعهم الممدودة .. لا أثر لشيء .. ~~لا أثر لحياة .. وهم أو كابوس .. أما الفضيحة فحقيقة .. إنه الذل واليأس .. واسترشدوا ~~بالجدران نحو الباب الخارجي ودبيب الزمن يتلاحق خلفهم .. وما إن تنفسوا هواء الطريق حتى ~~تشهدوا وبعضهم بكي .. المدينة خالية .. فرصة وأي فرصة .. انطلقوا حفاة عرايا في ~~ظلمة الليل .. بصقهم المجد وعلاهم الخزي، وكسا الإثم وجوههم بطبقة من القصدير المذاب. # | قوت القلوب # 1 # كان المجنون يترنم بأوراد الفجر في مطلع الخريف عندما تناهى إليه تحت النخلة صوت ساكن ~~الماء مناديا .. هرع إلى حافة النهر وهو يقول: أهلا بأخي عبد الله البحري ~~.. # فقال الصوت: إني أعجب لشأنك. ~~- لماذا؟ ~~- طالما قتلت المنحرف لانحرافه، فما بالك تجنب الآثمين الفضيحة؟ # فقال المجنون بأسى: أشفقت أن يصبح الصباح فلا تجد الرعية سلطانا ولا وزيرا ولا ~~حاكما ولا ms088 كاتم سر ولا رجل الأمن فيأخذها أقوى الأشرار. ~~- وهل أجدت حكمتك؟ ~~- أراهم يعملون وقد ملأ الحياء قلوبهم وقد خبروا ضعف الإنسان. # فهمس عبد الله البحري: في مملكتنا المائية نجعل الحياء شرطا ضمن شروط عشرة يجب أن ~~تتوافر في حكامنا. # فقال المجنون متنهدا: ويل للناس من حاكم لا حياء له. # 2 # تأخر الوقت برجب الحمال خارج البوابة .. ولدى عودته في الظلام رأى أشباحا تفتح ~~مدفنا وتدخله .. وعجب لما يدعوهم لذلك قبيل الفجر، فأغراه قلبه باقتحام لغز غير يسير ~~.. وما لبث أن تسلق السور فانبطح على بطنه وراح ينظر نحو الفناء على ضوء شمعة خافت ~~أمسك بها شبح .. رأى نفرا من العبيد تفتح قبرا منعزلا كأنما أعد للخدم، ثم رآهم ~~يحملون صندوقا فيودعونه القبر ويهيلون عليه التراب .. انتظر حتى فارقوا المكان .. فكر ~~أيضا في الذهاب ولكن الصندوق ألح عليه .. ماذا يحوي؟ ولماذا دفنوه في هذه الساعة ~~المتأخرة؟ .. ولم تعفه نفسه من المتاعب فوثب إلى الفناء .. وبهمة وإصرار فتح ~~القبر واستخرج الصندوق .. ولولا قوته وتمرسه بحمل الأحمال ما استطاع أن يفعل .. وعالج ~~الصندوق حتى فتحه وأشعل شمعة يحتفظ بها في رحلاته، وألقى نظرة فارتعد إشفاقا ورعبا .. ~~ثمة جارية كالبدر في تمامه مكشوفة الوجه، في ثوب لا كفن، ميتة ولا شك ولكنها ~~تبدو كنائمة .. أدرك أن ملابسات الدفن تومئ إلى جريمة ما .. كما أدرك أنه ورط ~~نفسه في مأزق ما كان أغناه عنه .. وفي الحال توثب للفرار دون أن يفكر في إعادة ~~الصندوق إلى قبره أو إغلاقه. # 3 # وعندما وثب إلى الخلاء وجد أمامه شبحا فتقلص قلبه، ولكنه سمع صوت المعلم سحلول ~~تاجر المزادات يتساءل: من هنا؟ # فأجاب مخفيا ارتباكه ما استطاع: رجب الحمال يا معلم سحلول. # فسأله ضاحكا: ماذا كنت تفعل في الداخل؟ # فأجابه على البداهة: ربنا أمر بالستر يا معلم. # أراد أن يوحي إليه بأن وراء السور امرأة، فضحك سحلول وتساءل متهكما: ألا يوجد ~~في هذه المدينة رجل فاضل؟! # 4 # استعبده الخوف .. لم يعرف من قبل المآزق الخطيرة .. لاح له النطع كمصير مظلم .. صلى ~~الفجر ms089 بجسده، أما عقله فاستأثرت به الوساوس .. سوف تكتشف الجثة .. يشهد سحلول برؤيته ~~وهو يثب من فوق سور المدفن .. وهو الحمال المرشح لحمل الصندوق .. فإما الهروب وإما ~~الاعتراف بالحقيقة قبل أن تكتشف .. وهو مرتبط بالأهل والأرض .. ليس كقرينه السندباد ~~الغائب في البحر .. وهو أيضا ممن يعطف عليهم المعين بن ساوي كبير الشرطة .. فليقصده ~~وليعترف بين يديه بكل شيء. # 5 # عقب الصلاة عزم على لقاء المعين بن ساوي، ولكنه رآه مسرعا فوق بغلته وبين حرسه .. ~~تبعه على الأثر فوجده ماضيا نحو دار الزيني ينتظر منصرفه. وكان سليمان كبير الشرطة ~~ثائرا، وكانت داره تعاني اضطرابا شاملا .. لقي الحاكم كبير الشرطة ساخطا وقال له ~~بغضب: ما هذا الذي جرى في دار الإمارة؟ هل رجعنا إلى أيام الفوضى؟ # فوجم المعين وسأل عما جرى، فقال الحاكم: جاريتي قوت القلوب لا أثر لها، كأن الأرض ~~ابتلعتها. # فذهل المعين وتساءل: متى حدث ذلك؟ ~~- رأيتها أمس، والآن لا وجود لها. ~~- ماذا قال أهل الدار؟ ~~- يتساءلون مثلي وقد ركبهم الخوف. # تفكر المعين قليلا، ثم قال: لعلها هربت! # فاحتقن وجه سليمان الزيني بدم أسود، وصاح: كانت أسعد الجواري، عليك بالعثور عليها. # نطق بها بثورة وعيد واضحة. # 6 # أمام باب الدار وجد رجب الحمال في انتظاره .. تقدم منه حاني الرأس، وقال: مولاي .. ~~لدي ما أقوله. # فقاطعه بحدة: اغرب عن وجهي .. أهذا وقت كلام يا غبي؟ # فقال الحمال بإلحاح: حلمك يا سيدي .. إنها جريمة قتل .. الجثة خارج البوابة، ~~والتأجيل حرام. # انتبه الرجل إلى قوله متسائلا: أي جريمة؟ .. وما دخلك فيها؟ # فقص عليه القصة بسرعة ولهوجة والآخر يتابعه باهتمام متزايد. # 7 # مع أول شعاع للنور حمل الصندوق إلى بهو دار الإمارة .. أحدق به سليمان الزيني والمعين ~~بن ساوي ورجب الحمال .. قال كبير الشرطة بحزن: اهتديت إلى مكان قوت القلوب وجئت بها، ~~ولكنها للأسف جثة هامدة! # ارتجف سليمان الزيني رغم رزانته تحت ضغط عواطفه .. فتح المعين بن ساوي الصندوق .. ~~انحنى فوقه الزيني بوجه يطفح بالحزن مغمغما: «إنا لله وإنا إليه راجعون» .. أغلق ~~المعين الصندوق وهو يتمتم: أطال الله ms090 بقاءك وهون من أحزانك. # صاح سليمان: الويل للمجرم .. اكشف لي الأسرار التي أطاحت بسعادتي. ~~- مولاي .. ما زال اللغز لغزا .. كيف غادرت الدار؟ أين قتلت؟ من قتلها؟ إليك يا مولاي ~~شهادة تطوع بها هذا الحمال. # وروى له الشهادة، فرمى الزيني رجب بنظرات من نار، وقال له: أيها القذر، أنت أنت ~~القاتل، أو عندك خبره. # فهتف الحمال مرتعدا: ورب السموات والأرض ما أخفيت عنكم كلمة واحدة. ~~- اخترعت أسطورة تتستر بها على فعلتك. ~~- لولا صدقي ما ذهبت بنفسي إلى كبير الشرطة معترفا بما شاهدت. # غير أن المعين بن ساوي فاجأه بما لا يتوقع، قائلا: في هذا كذبت يا رجل .. (ثم ~~متلفتا إلى الحاكم) .. لقد قبض عليه في مكان الجريمة. # فذهل رجب .. لم يصدق أذنيه .. سأله: ماذا قلت؟ # فكرر الرجل: لقد قبض عليك ولم تجئ بنفسك. ~~- أنت تقول ذلك؟ # فقال بازدراء مصطنع: الواجب فوق الرحمة. # فصرخ في وجهه: لن تفلت من الله يا مفتري. # فقال له الزيني: اعترف وجنب نفسك أهوال التعذيب. # فقال رجب بيأس: كبير الشرطة كذاب .. لا علم لي بشيء سوى ما قلت. # وتذكر الواقعة الوحيدة التي أخفاها فواصل: أحضروا المعلم سحلول تاجر المزادات فقد ~~رأيته قريبا من المدفن. # 8 # جيء بالمعلم سحلول .. لم يغير شيء من هدوئه المألوف .. سئل عما دعاه للتواجد قرب المدفن ~~في تلك الساعة من الليل، فقال: تستوي جميع الأمكنة والأزمنة عندي بحكم عملي. # وقص عليهم حكاية ضبطه مصادفة لرجب وهو يثب من فوق السور .. فسأله المعين: أتعتقد أنه ~~القاتل؟ # فقال بهدوء: لا بينة لدي، ثم إنه لا يوجد قاتل بلا قتيل، فأين القتيل؟ ~~- في هذا الصندوق. # فابتسم ابتسامة غامضة، وقال: دعوني أره. # فتح المعين الصندوق ونظر سحلول إلى الجثة مليا، ثم قال: الجارية ما زالت تنبض ~~بالحياة. # ترقرق الأمل في عيني الزيني ورجب، على حين صاح به المعين: أتسخر منا يا مجرم؟! # فقال مخاطبا الزيني: أسرع بإحضار طبيب وإلا ضاعت الفرصة. # 9 # جاء الطبيب عبد القادر المهيني، وفي الحال عكف على فحص «الجثة» .. رفع رأسه وقال: ما ~~زالت حية ms091 ! # ندت عن الزيني آهة سرور، على حين اصفر وجه المعين بن ساوي حتى حاكى وجوه الموتى .. ~~وواصل عبد القادر: دس لها قدر من البنج يكفي لقتل فيل! # وراح يعالجها حتى لفظت ما في بطنها وحركت رأسها .. صاح الحمال: الحمد لله رب ~~المظلومين. # وقال سحلول وهو يختلس من كبير الشرطة نظرة خفية: سوف تكشف لنا سر الحكاية. # 10 # مضت مدة مشحونة بالصمت والانفعالات، حتى عادت قوت القلوب إلى وعيها .. رأت وجه الزيني ~~أول ما رأت فمدت له يدها مستغيثة، فقال برقة: لا تخشي شيئا يا قوت. # فهمست: إني خائفة. ~~- إنك بين أحضان الأمان فابتسمي. # لمحت المعين بن ساوي فاضطربت هاتفة: هذا الوحش. # ساد صمت مذهل .. قالت: لا أدري كيف أخذني إلى دار خالية، هددني بالقتل إذا لم أذعن ~~لرغباته الدنيئة، ثم لم أعد أدري شيئا حتى الساعة. # تركزت الأعين فوق كبير الشرطة .. صاح الزيني: أيها الكلب الخائن. # جرده من سيفه وخنجره، وهو يقول: ما أسرع أن يدب الفساد من جديد! # وأمر بسجنه حتى يحقق معه بنفسه، على حين أعلن براءة الحمال وتاجر المزادات، ~~واستبقى المعلم سحلول قليلا، فقال له: إني مدين لك بالكثير يا معلم سحلول، ولكن ~~خبرني ألك خبرة بالطب؟ # فأجاب باسما: كلا يا مولاي، ولكن لي خبرة بالموت! # 11 # قال سليمان الزيني للمعين بن ساوي: ما تصورتك خائنا أبدا، وظننت أن المحنة التي ~~وقعنا فيها جميعا قد طهرتنا، وأن حياتنا ستقوم على العدل والنقاء، وإذا بك تخون ~~الأمانة وتستهين بالكرامة وتتمادى في الفسق والجريمة. # فقال المعين: لا أنكر شيئا مما تقول، لقد أعلنا توبة، ولكن الشيطان لم يتب بعد. ~~- لا عذر لك، ولأجعلن منك عبرة لكل معتبر. ~~- مهلا .. لست صيدا سهلا، والشر انبثق من دارك. ~~- عليك اللعنة. # فقال بهدوء: لي شريك هي الست جميلة زوجتك. # ارتجف الرجل غاضبا، وصاح: ماذا قلت؟ ~~- دعتني بدافع الغيرة، وأغرتني بالتخلص من جاريتك المفضلة قوت القلوب. ~~- خائن ومفتر. ~~- يجدر بك أن تحقق مع زوجتك أولا. ~~- زعم باطل، لن ينجيك من النطع. # فقال الرجل بتحد: سأطالب بتحقيق ms092 عادل، وسيجري علي ما يجري عليها .. فالشريعة فوق ~~الجميع. # 12 # ما بين يوم وليلة شاخ سليمان الزيني وتهدم .. ولم تتوان، فقرر ست جميلة حتى ~~أقرت بتدبيرها .. تصدى للحقيقة بحيرة بالغة .. إعلان الحقيقة يعني القضاء على أم ~~أولاده كما يعني القضاء على مركزه .. والحق واضح، ولكن تبين له أنه أضعف من أن يتخذ ~~القرار الحق .. وجد نفسه منحدرا إلى العفو عن الاثنين، كي تبقى جميلة في داره كما ~~يبقى المعين في وظيفته .. واتخذ القرار المتهالك وفقد شرفه. # غير أن قوت القلوب صارحته بأنه لا بقاء لها في داره بعد اليوم، ولا أمان لها ~~فيها .. فاضطر إلى عتقها وتزويدها بالمال، وتركها تذهب آخذة معها قلبه. # 13 # خفقت قلوب بالأسى .. تناجى قمقام وسنجام، والمجنون وعبد الله البحري .. حزنوا لسقوط ~~التائبين .. أما قوت القلوب فعاشت وحيدة في دار جميلة .. عاشت في أمان من الحاجة ولكن في ~~غشاء من الوحشة .. ومع أن سيدها استجاب لطلبها وأكرمها، ولكنها لم تعفه من الملامة ~~لتفريطه فيها، ومرارة الوحدة تشتعل جحيما بالحب الخائب .. وسعى إليها طلاب الزواج حبا ~~وطمعا، فرفضتهم جميعا .. رفضت حسن العطار، كما رفضت جليل البزاز .. ورغب فيها آخرون ~~عن بعد كالمعين بن ساوي، وتساءل رجب الحمال أليس من حق من أحيا ميتا أن ~~يملكه؟ # 14 # ووقعت أحداث بسيطة لم ترمش لها أعين المدينة ولكنها هزت أفئدة أصحابها .. تزوج ~~إبراهيم السقاء من ست رسمية أرملة جمصة البلطي .. وعرض بيت المال دار جمصة البلطي ~~للبيع فأمر سليمان الزيني بدفن رأس جمصة في مقابر الصدقة .. ولم يفت المجنون أن يشهد ~~دفن رأسه، وقال لنفسه: إنه أول إنسان يشيع نفسه إلى دار البقاء .. وسعد بزواج أرملته ~~من إبراهيم السقاء؛ لأن وحدتها أمست تنغص عليه صفوه .. وثقل على المعين بن ساوي ~~الشعور بالنبذ، فبدأ صفحة جديدة في التعاون المريب مع التجار والأغنياء .. وأمطرت ~~السماء في ذلك الخريف على غير عادة. # 15 # وكان ثلاثة أشباح يخترقون الظلمة صامتين .. وتحت دار قوت القلوب نادتهم أوتار عود ~~وصوت شجي تهادى إليهم يناجي رطوبة الخريف: # من عادة الدهر إدبار ms093 وإقبال # فما يدوم له بين الورى حال # كم أحمل الضيم والأهوال يا أسفي # من عيشة كلها ضيم وأهوال! # ثقلت خطاهم حتى توقفت، وهمس أحدهم: هذا مطلبنا يا دندان! # طرق شبيب رامة السياف الباب، ففتحت جارية تسأل عن الطارق. # فقال شهريار: دراويش من رجال الله ينشدون مؤانسة شريفة. # غابت الجارية قليلا، ثم رجعت فقادتهم إلى حجرة استقبال ناعمة الوسائد والمفارش قد ~~أسدل على ديوانها الرئيسي ستار يحجب صاحبة الدار .. تساءلت قوت القلوب: تريدون ~~طعاما؟ # فقال شهريار: بل نريد مزيدا من غناء. # فكررت الصوت على مقام جديد حتى سبح الرجال في طرب رائق .. وقال شهريار: أأنت ~~مغنية يا هذه؟ # فهمست: كلا يا رجال الله. # فقال السلطان: صوتك ينطق بحزن دفين. ~~- وأي حي يخلو من حزن؟ # فتساءل برقة: ماذا يحزنك ودارك ناطقة بالنعيم؟ # فلاذت بالصمت، فعاد شهريار يقول: احكي لنا حكاياتك فصناعتنا في الحياة مداواة القلوب ~~الكليمة. # فشكرته ثم قالت: سري لا يباح به يا رجال الله. # وأصرت على الصمت، فاستأذنوا في الانصراف والسلطان ضيق الصدر بصمتها .. ومال على أذن ~~دندان قائلا: آتني بسر هذه المرأة الصامتة. # 16 # مطالب السلطان جبال ثقال، لا تنزاح عن كاهله حتى يحققها، وهو أعلم بغضبه إذا خاب ~~له مطلب، وما زال السلطان متأرجحا بين الهدى والضلال فلا تؤمن غضبته .. لذلك ~~استدعى حاكم الحي سليمان الزيني .. وصف له موقع دار قوت القلوب، وقال: في الدار امرأة ~~غامضة، ذات صوت عذب، وهم خفي، يريد مولانا السلطان فؤادها صفحة مبسوطة لا خفاء ~~فيها. # زلزلت نفس الزيني، وأدرك أنه مسوق إلى الاعتراف .. سيتحرى دندان عن الحقيقة لدى كل من ~~يأنس عنده قدرة على كشف الأسرار من الرجال، وعلى رأسهم الفضل بن خاقان .. ستهدى إليه ~~الحقيقة عاجلا أو آجلا، فليكن على الأقل صاحب الفضل في الاعتراف تقربا من ~~السلطان .. وهو ذو خلق؛ فلم يطمئن قلبه لحظة بتصرفه ويفضل عنه بأي سبيل. # وأفضى إلى الوزير دندان بمكنون سره. # 17 # ولما تلقى شهريار الحقيقة من وزيره غضب وهتف: لا بد من ضرب عنقي المعين وجميلة ~~زوجة ms094 الزيني. # غير أن غضبه فتر فجأة .. لعله تذكر هروبه ليلا عاريا والإثم يطارده. ولعله تذكر ~~أن الزيني والمعين كانا من خيرة الرجال. على أنه فصل الرجلين من عملهما، وصادر ~~أموالهما، كما أمر بجلد جميلة والمعين .. ووهب قوت القلوب عشرة آلاف دينار، وسألها ~~بعطف: ماذا تطلبين أيضا يا جارية؟ # فقالت قوت القلوب: أسألك يا مولاي العفو عن سبيل الزيني. # فتبسم السلطان وسألها: يبدو أنك ما زلت تحبينه. # فغضت بصرها حياء، ولكنه قال بحزم: لقد صدر أمرنا بتولية الرجال الجدد ولا رجوع ~~فيه، بذلك يصبح الفضل بن خاقان حاكما، وهيكل الزعفراني كاتم سر، ودرويش عمران ~~كبيرا للشرطة. # فشفت عيناها عن دمع يود أن ينطلق، فقال شهريار: بيدك أنت أن تعفي عنه ~~ولعلك خير له من الإمارة! # فلثمت موطئ قدميه، وهمت بالانصراف، فسألها: ماذا نويت يا جارية؟ # فأجابت ببساطة وبعينين مغرورقتين: العفو يا مولاي. # | علاء الدين أبو الشامات # 1 # هتف جمصة البلطي في هدأة الليل تحت النخلة: «اللهم حررني من أمس .. اللهم حررني ~~من غد». # وإذا بصوت سنجام يقول له: نحن نحب ما تحب، ولكن بيننا وبين الناس حاجز من ~~المقادير. # ولعلعت ضحكة زرمباحة، ثم قالت: لماذا خلق الشهد والخمر؟ # وكان شهريار ماضيا في جولاته الليلية مع رجليه، فقال لدندان: تمر بي هواتف ~~متلاحقة، ولكني دائر الرأس في مقام الحيرة. # 2 # نحيل القوام، مشرق الوجه، ناعس الطرف، فوق كل خد شامة، يهم بولوج المراهقة في ~~حياء .. رمقه عجر الحلاق، وقال: تعلمت ما أنت في حاجة إليه، فخذ العدة واسرح، والله ~~يرزقك. # وتمتمت فتوحة: ربنا يكفيك شر أولاد الحرام. # وذهب الفتى نشيطا مستبشرا، فقال عجر وكأنما يخاطب نفسه: له جمال نور الدين، فاللهم ~~أسبغ عليه حظه. # فقالت فتوحة: حجابي فوق صدره يصده عن طريق أبيه. # فرماها عجر بنظرة سامة ولكنه لم ينبس. # 3 # مضى يعمل في الطريق والدكاكين، وكل من تقع عليه عيناه يقول: تبارك الخلاق العظيم. # واختار سلم السبيل ساعة الراحة، فنشأت مودة سريعة بينه وبين فاضل صنعان بياع الحلاوة .. ~~ومرة دعاه إلى مسكنه بالربع، فرأى ms095 زوجته أكرمان وأمه أم السعد وأخته حسنية .. تحركت ~~مراهقته خفية، فارتطمت بورعه وتربيته الدينية التي تلقاها في الكتاب، فجعل يعتل ~~بالعلل كلما دعاه فاضل إلى مسكنه .. ولمس فاضل ورعه فقال له: إنك فتى جدير بكلمات الله ~~المستكنة في قلبك. # فغمغم علاء الدين: إنه من فضل ربي. # فسأله بحذر: ما شعورك عندما ترى المعاصي تجتاح الناس؟ # فتمتم: الحزن والأسف. ~~- وما جدوى ذلك؟ # فتبدت الحيرة في عينيه وتساءل: ماذا تريد أيضا؟ ~~- الغضب! # وكررها ثم قال: المرعى الطيب جدير بالأسد. # 4 # أشرق الحي بمولد سيدي الوراق .. زحفت المواكب، وتلاطمت الأعلام، وتجاوبت الدفوف ~~والمزامير .. اجتمع أهل الخير وأهل النفاق حول جفان الثريد .. ولاح في مجالس الخاصة ~~سحلول، وحسن العطار، وجليل البزاز، وسليمان الزيني، والمعين بن ساوي، وشملول الأحدب، ~~وحضر أيضا فاضل صنعان، وعجر الحلاق، ومعروف الإسكافي، وإبراهيم السقاء، ورجب ~~الحمال .. جاء أيضا - بمفرده لأول مرة - علاء الدين أبو الشامات .. أجلسه فاضل إلى ~~جانبه، وهو يقول: لو بعث الوراق لامتشق السيف! # ابتسم علاء الدين ابتسامة من يزداد خبرة بمعرفة صاحبه .. فقال فاضل بنبرة ذات مغزى: ~~ما دام الطيبون لا يمتشقون السيوف! # قال علاء الدين ببراءة: يتحدثون كثيرا عن توبة مولانا السلطان. # فقال فاضل بسخرية: أحيانا يتوب عن توبته، ويقينا أنه ليس أحق المسلمين ~~بالولاية! # انجذبت عينا علاء الدين نحو الركن الأيمن، فهجر حديث صاحبه ولو إلى حين .. ثمة شيخ ~~نحيل بهيج الوجه ذو نظرة آسرة .. خيل إليه أنه لم ينظر نحوه مصادفة .. وجد ~~عيني الشيخ في انتظاره .. ثمة دعوة خفية من هناك واستجابة من هنا .. ارتاح إليه كما ~~يرتاح السليم إلى بهجة الوردة المتفتحة .. ولاحظ فاضل انصرافه عن حديثه إلى الشيخ، فقال ~~له: الشيخ عبد الله البلخي رأس الولاية. # فتساءل علاء الدين بأريحية: لماذا ينظر إلي؟ # فقال فاضل بغموض: ولماذا تنظر إليه؟ # فهمس: الحق أني أحببته. # فقطب فاضل ولم يجد ما يقوله. # 5 # غادر علاء الدين المولد وحده مترع الصدر بأصداء الأناشيد .. سبح في الظلام تحت ضوء ~~النجوم الخافت ونسمة الخريف تلاطفه .. إذا بصوت عميق مؤثر يدركه ms096 مناديا: يا علاء ~~الدين. # فتوقف وقلبه يناجيه أن هذا الصوت من ذاك الشيخ يصدر، لحق به الشيخ وقال له: أنت ~~مدعو لصداقتي. # فقال بحياء: نعم الدعوة يا مولاي، ولكن كيف عرفت اسمي؟ # فلم يجبه وواصل: داري معروفة لمن يريد. # فقال كالمعتذر: عملي يستغرق نهاري كله. ~~- إنك لا تدري ما عملك. ~~- لكني حلاق يا سيدي. # فلم يحفل بإجابته وسأله: لماذا حضرت مولد الوراق؟ ~~- أحب الموالد من صغري. ~~- ماذا تعرف عن الوراق؟ ~~- إنه ولي من الصالحين. ~~- إليك قصة رويت عن لسانه، قال: «أعطاني شيخي بعض وريقات بقصد أن أرميها في النهر، ~~فلم يطاوعني قلبي على هذا العمل، ووضعتها في بيتي وذهبت إليه وقلت له قد أديت أمرك، ~~فسألني وماذا رأيت؟ فقلت: لم أر شيئا، فقال: لم تعمل بأمري .. ارجع فارمها في النهر، ~~فرجعت متشككا في العلامة التي وعدني بها، ورميتها في النهر، فانشق الماء وظهر صندوق ~~وفتح غطاؤه حتى سقطت الوريقات فيه، فقفل والتقت المياه، فرجعت إليه وأخبرته بما حصل ~~فقال لي: الآن رميتها، فسألته أن يبين لي سر ذلك، فقال: قد كتبت كتابا في التصوف ~~لا يمكن أن يناله إلا الكمل، فطلبه منى أخي الخضر، وقد أمر الله المياه أن تأتيه به.» # فذهل علاء الدين ولاذ بالصمت، فمضيا معا على مهل، والشيخ يقول: ومن أقواله المأثورة: ~~«فساد العلماء من الغفلة، وفساد الأمراء من الظلم، وفساد الفقراء من النفاق.» # فتمتم علاء الدين منتشيا: ما أعذب حديثه! # فقال بصوت ارتفع درجة في هدأة الليل: فلا تكن من قرناء الشياطين. # فتساءل مدفوعا بشوق ساخن: من هم قرناء الشياطين؟ # فأجابه الشيخ: أمير بلا علم، وعالم بلا عفة، وفقير بلا توكل، وفساد العالم في فسادهم. # فقال علاء الدين بحماس: أريد أن أفهم. ~~- الصبر يا علاء الدين، ماهي إلا بداية تعارف على مشهد من النجوم، وداري معروفة لمن ~~يريد. # 6 # حلم علاء الدين تلك الليلة بأن «المجنون» جاءه بجلبابه المسدول على اللحم، وقال ~~له: أرسل لحيتك. # فعجب لطلبه، فقال المجنون: ما هي إلا شبكة للصيد. # فقال علاء الدين ms097 : ولكني حلاق لا صياد. # فصاح المجنون: خلق الإنسان ليكون صيادا. # 7 # على طبلية الفطور حكى لوالديه حكاية الشيخ عبد الله البلخي، ففرحت فتوحة وقالت: بركة ~~من ربنا. # أما عجر فاستمع إليه بفتور، وقال: ما أنت إلا حلاق، وإنك لمتدين بما فيه الكفاية، ~~فاحذر المغالاة. # وبسبب هذا الاختلاف تشاجر الزوجان وتقاذفا بكلمات قارصة. # 8 # وفوق سلم السبيل راح يصغي لحديث فاضل بدهشة، ثم سأله: إنك حانق على رجالنا ~~الأجلاء. # فسأله فاضل: هل عرفتهم عن قرب؟ ~~- أحيانا يصحبني أبي معه إلى دورهم كمساعد له، فرأيت عن قرب الفضل بن خاقان ~~حاكم حينا، وهيكل الزعفراني كاتم السر، ودرويش عمران كبير الشرطة. ~~- لا يعني هذا أنك عرفتهم. ~~- رجال عظام، واحد فقط انقبض قلبي لمرآه هو حبظلم بظاظا بن درويش عمران، خيل ~~إلي أن به شبها بالشيطان! ~~- هل رأيت الشيطان؟ ~~- لا تسخر منى، ما هو إلا شعور. # تنهد فاضل صنعان قائلا محادثا نفسه: الأوغاد! ~~- كيف أسأت الظن بهم؟ ~~- لا دخان بلا نار! # فتفكر قليلا، ثم قال: الله موجود. # فهتف فاضل: لكننا ضمن أدواته التي يصنع بها الخير أو يمحق الشر! # فنظر إليه في عينيه متسائلا: ماذا تريد يا فاضل؟ # فقال بغموض: أطمع أن أجعلك صديقا وزميلا! # 9 # جلس في حجرة الاستقبال البسيطة بدار البلخي ينتظر دخوله .. إنها أول زيارة يقوم بها ~~في أول الليل .. وكان سمع أباه عجر يروي حكاية عن الشيخ أكربته وأحزنته .. قال: إن ~~درويش عمران كبير الشرطة، خطب الابنة الوحيدة للشيخ لابنه حبظلم بظاظا .. إنها ابنة ~~تقية نقية أخذت العهد عن أبيها، وفائقة الجمال .. وتذكر صورة حبظلم بظاظا الشيطانية وما ~~يقال عن سيرته فاستاء وتضاعف حزنه .. ومضى أبوه في روايته فقال: إن الشيخ شكر واعتذر، ~~ولكن لا شك في أن كبير الشرطة قد غضب، وإذا غضب كبير الشرطة فلا أمان للمغضوب عليه .. ~~وقد سأل أباه: ألا يدرك الشيخ البلخي هذه الحقيقة؟ # فأجاب عجر: معروف عن الشيخ أنه لا يخشى إلا الله، ولكن هل يخشى كبير الشرطة ~~الله؟! # وجاء لزيارته بقلب ثقيل بالحزن له .. ولكنه ما ms098 كاد يراه مقبلا مشرقا حتى نسي حزنه ~~وأدرك أنه حقا لا يخشى إلا الله. تربع الرجل على شلتة في الصدر، وسأله: ما شعورك ~~وأنت تزورني لأول مرة؟ # فقال علاء الدين صادقا: أشعر كما لو كنت أعرفك منذ ولدت. # فقال باسما: لكل منا أب آخر والسعيد منا من يكتشفه. ~~- وحديثك في ليلة المولد أسر قلبي. ~~- نحن نشد إلى الطريق الأكفاء الضالين، ماذا قال أبوك؟ # اضطرب علاء الدين وقال: إنه يريدني على أن أكرس قلبي لعملي. # فقال جادا: إنه نائم ويأبى أن يصحو، ولكن كيف تقيم نفسك يا علاء ~~الدين؟ # لم يدر بماذا يجيب، فسأله متبسطا: أي مسلم أنت؟ ~~- إني مسلم صادق. # فتساءل: هل تصلي؟ ~~- الحمد لله. ~~- أرى أنك لم تصل قط. # فنظر إليه بدهشة، فقال الشيخ: الصلاة عندنا تؤدى بعمق فلا يشعر صاحبها بمس النار ~~إذا أحرقته. # فصمت علاء الدين مغلوبا على أمره، فقال الشيخ: فعليك أن تقبل الإسلام من جديد لتصير ~~مؤمنا حقا، وعندما يتم لك الإيمان تبدأ الطريق من أوله إذا شئت. # ظل علاء الدين صامتا، فقال الشيخ: لا أهون من مشقة الطريق بمعسول الكلام، فنور ~~الخلاص ثمرة مضنون بها على غير أهلها، والله يتقبل منك ما دون ذلك، ولكل على قدر همته. # وخيم الصمت، حتى شقه علاء الدين متسائلا: أيقتضي ذلك أن أتخلى عن عملي؟ # فأجاب بقوة: لكل شيخ طريقة، أما أنا فلا أقبل إلا العاملين. # فقال علاء الدين: سوف أجيء بقلبي وقدمي. # فقال: لا تجئ إلا إذا دفعتك رغبة لا تقاوم! # 10 # أقبل على فاضل صنعان في ملتقى السبيل شخصا جديدا .. توجس فاضل ريبة فهمس بنفاد صبر: ~~حتى متى تتركني في مقام الأمل؟ # فقال علاء الدين: إني في مقام الحيرة. ~~- اهتديت إلى دار الشيخ؟ ~~- أجل، كيف عرفت ذلك؟ ~~- أعرف أثره. # ثم مستدركا: وقد طفت به طويلا! ~~- أنت؟! ~~- نعم. ~~- إنه شيخ طاهر. # فحنى رأسه مسلما، وهو يقول: هو ذلك وأكثر. ~~- لعل الصبر خانك فانقطعت؟ ~~- تلقيت على يديه تربية لا تزول آثارها، ولكني آثرت البقاء على الفناء. ~~- لا أفهم يا ms099 صديقي. ~~- اصبر، الفهم لا يتيسر إلا مع الزمن، أود أن أراك من جنود الله لا من ~~دراويشه! ~~- حقا إني لفي حيرة. # فقال فاضل: المنطلق من الإيمان دائما وأبدا، الطريق واحد في الأول ثم ينقسم بلا مفر ~~إلى اتجاهين .. أحدهما يؤدي إلى الحب والفناء، والآخر إلى الجهاد. أما أهل الفناء ~~فيخلصون أنفسهم، وأما أهل الجهاد فيخلصون العباد. # وغرق علاء الدين في تفكير عميق نسي به الوقت. # 11 # كان درويش عمران كبير الشرطة، وابنه حبظلم بظاظا يمضيان على بغلتين من مقر الشرطة إلى ~~دارهما والشمس تؤذن بالمغيب .. وعند منعطف ميدان الرماية طالعهما فجأة المجنون، فاعترض ~~سبيلهما صائحا في وجه درويش عمران: زر صاحبك المعين بن ساوي وبلغه السلام! # وذهب الرجل إلى حال سبيله، فتساءل حبظلم: ماذا يريد المجنون؟ # فقال كبير الشرطة: لا يحاسب مجنون على قول أو فعل. # لكنه أدرك أنه يذكره بمصير كبير الشرطة وأنه يشير إلى انحرافاته .. ابنه أيضا ~~أدرك ذلك رغم تساؤله، بخاصة وأنه يقوم بالوساطة عادة بين التجار وأبيه .. وقال حانقا: ~~للمجانين مكان لا يبرحونه. # فقال درويش عمران: إنه يحظى بعطف مولانا السلطان. # فقال حبظلم بازدراء: إنه يخافه فيما أرى. ~~- احذر لسانك يا حبظلم! # فهتف الشاب: أي هوان يا أبي؟! ألم يكفنا أن الشيخ المنحرف رفض يدي. # فقطب درويش عمران دون أن ينبس. # 12 ~~«من كان سروره بغير الحق فسروره يورث الهموم، ومن لم يكن أنسه في خدمة ربه فأنسه يورث ~~الوحشة.» # بين دروس الدين يلقيها الشيخ على علاء الدين، تفيض كأسه بنثار الكلم المضيئة كأنما ~~يناجي بها ذاته، ولكن الفتى يتلقاها مبهورا. ~~- كل من عليها فان إلا وجهه، ومن يفرح بالفاني فسوف ينتابه الحزن عندما يزول عنه ~~ما يفرحه، كل شيء عبث سوى عبادته، الحزن والوحشة في العالم كله ناجم عن النظر إلى كل ما ~~سوى الله. # وتذكر علاء الدين أحلامه وأحاديثه وأفعاله، فتبدت له الدنيا غشاء من الألغاز، ~~وتذكر أباه وأمه فهيمن عليه الأسى. ~~- من رزق ثلاثة أشياء مع ثلاثة أشياء فقد نجا من الآفات؛ بطن خال على ms100 قلب ~~قانع، وفقر دائم مع زهد حاضر، وصبر كامل مع ذكر دائم. # وقال علاء الدين لنفسه: إننا نصلي للرحمن الرحيم باسم الرحمن الرحيم .. وإذا بالشيخ ~~يسأله: فيم تفكر يا بني؟ # فخرج من غفوته مورد الخدين، وقال: لن يخرجني من حيرتي إلا لطف الرحمن. ~~- عليك قبل أن تتلقى الخمر أن تطهر الوعاء وتنقيه من الشوائب. # فقال برجاء: نعم المرشد أنت! ~~- ولكن «الآخر» يقحم نفسه علينا وهو غائب! # فأدرك أنه يشير إلى فاضل صنعان، فتساءل: كيف تراه يا مولاي؟ ~~- شاب نبيل عرف ما يناسبه وقنع به. ~~- أهو على ضلال؟ ~~- إنه يجاهد الضلال على قدر همته! # فقال علاء الدين بسرور: الآن اطمأن قلبي. ~~- ولكن عليك أن تعرف نفسك. ~~- إنه فقير ولكنه غني بحمل هموم البشر. ~~- مذهب للسيف ومذهب للحب. # فصمت علاء الدين، فقال الشيخ: طوبى لمن تم له تحويل القلب من الأشياء إلى رب ~~الأشياء، ليس يخطر الكون ببالي، وكيف يخطر الكون ببال من عرف الكون؟ # واصل الشيخ بعد ذلك درسه. # 13 # وذات ليلة استقبله الشيخ في الحجرة نفسها، ولكنه رأى ستارة مسدولة في ركنها الأيمن، ~~فغزته خواطر الشباب .. وقال الشيخ: اسمع يا علاء الدين. # تحركت أوتار عود من وراء الستار وأنشد صوت عذب: # ليلي بوجهك مشرق # وظلامه في الناس ساري # والناس في سدف الظلا # م ونحن في ضوء النهار # سكن الصوت ولكن صداه واصل نفاذه إلى الأعماق .. قال الشيخ: هذه زبيدة ابنتي، وإنها ~~لمريدة صادقة. # غمغم علاء الدين منتشيا: أنعم وأكرم. ~~- لقد رفضت أن أعطيها لابن كبير الشرطة. # ثم مواصلا بعد صمت: ولكني وهبتها لك يا علاء الدين. # فقال بنبرة مرتعشة من التأثر: ما أنا إلا حلاق متجول. # فأنشد الشيخ: # زائر نم عليه حسنه # كيف يخفي الليل بدرا طلعا؟ # ثم قال: من ذل في نفسه رفع الله قدره، ومن عز في نفسه أذله الله في أعين عباده. # 14 # عقد لعلاء الدين على زبيدة .. انتقل الفتى إلى دار الشيخ الكبير .. شهد الوليمة ~~البسيطة عجر وفتوحة وفاضل صنعان والمعلم سحلول وعبد القادر المهيني .. ووفد المجنون ~~بلا ms101 دعوة فجلس إلى يمين العريس .. وعقب الوليمة مضى عجر إلى داره بصحبة نفر من خاصته، ~~فدارت أرطال النبيذ، وراح يرقص ويغني حتى مطلع الفجر. # 15 # ولم تمض على ليلة الزفاف أيام حتى تكدر صفو الحي بأحداث أليمة، فزحف عليه وباء ~~الشر بوجهه الكالح .. فقدت جوهرة نادرة من دار الإمارة، جزعت لفقدها حرم ~~الحاكم الفضل بن خاقان، وتذكر بها الحاكم أحداث الفوضى التي تنتاب الحي بين الحين ~~والحين من اغتيالات وسرقات تنكشف عن أبشع المؤامرات وتنتهي بقتل الحاكم أو عزله .. ~~وصب الرجل غضبه على درويش عمران كبير الشرطة، ولكن الرجل نفى عن جهازه الغفلة، ووعد ~~بالقبض على الفاعل والعثور على الجوهرة. # وأطلق كبير الشرطة مخبريه في كل مكان من الحي .. وبناء على ما تلقى من ~~معلومات اقتحم دار الشيخ عبد الله البلخي غير مبال بتذمر الأهالي، وفتشها تفتيشا ~~دقيقا، وإذا به يعثر على الجوهرة في صوان علاء الدين، كما عثر به على رسائل تقطع ~~بتعاونه مع الخوارج، هكذا قبض على علاء الدين وألقي به في السجن، فتقررت محاكمته ~~بصفة عاجلة. # 16 # في تلك الأثناء شاع الحزن في قلوب الناس .. لم يحرق الحزن زبيدة وحدها، ولا فتوحة وعجر ~~وحدهما، ولكن القلوب تألمت لمصير الفتى الجميل، وأصرت على تبرئته مما رمي به، وأشارت ~~إلى كبير الشرطة وابنه حبظلم بظاظا باعتبارهما المدبرين للجريمة .. وزاد من شك الناس ~~ظهور نعمة مفاجئة على المعين بن ساوي فآمنوا بأن المدبرين استعانا بخبرته السابقة ~~كرئيس للشرطة في تنفيذ ما بيتا .. والتمس عجر الرأفة عند الفضل بن خاقان وهيكل ~~الزعفراني ولكنه وجد منهما الزجر والرفض .. وحث الشيخ عبد الله البلخي على السعي ~~مستعينا بمهابته، ولكن لم تند عن الشيخ كلمة أو حركة .. وتلاحقت الإجراءات بسرعة ~~مذهلة فحوكم علاء الدين وقضي عليه بالنطع. # 17 # وفي صباح يوم بارد من أيام الخريف، سيق علاء الدين إلى النطع في حراسة مشددة، ~~وسط جمهور غفير من أهل الحي، جمع بين الرسميين والكادحين .. لم يصدق علاء الدين ما ~~يحدث .. وكان يصيح: إني بريء والله شهيد. # زاغ بصره ms102 بين الوجوه المحملقة، المشفقة والشامتة، ورفع وجهه إلى السماء المتوارية ~~وراء السحب مسلما أمره إلى خالقه .. تناهى إليه صراخ أمه وزوجته فارتجف قلبه .. تذكر ~~رغم ذهوله أنه كان يأمل أن يخرج من حيرته إلى سيف الجهاد أو الحب الإلهي، ولم يخطر ~~بباله قط سيف الجلاد .. وتطلع كثيرون إلى معجزة تقع في اللحظة الأخيرة كما حدث ~~لعجر وغيره، ولكن السيف ارتفع أمام أعينهم في جو قاتم ثم هوى مبددا الآمال، فانفصل ~~الرأس النبيل الجميل عن الجسد. # 18 # في دار الشيخ تأوه عجر هاتفا: ابني بريء. # وولولت زبيدة: بريء طاهر وحسبي الله. # وتربع الشيخ صامتا وهادئا .. لم يفعل شيئا وحتى الحزن لم يعلنه .. وقالت له ابنته: ~~إني معذبة يا أبي. # وقال له عجر بعنف: لم تحرك ساكنا كأن الأمر لا يعنيك. # نظر إلى ابنته دون مبالاة بعجر، وقال: الصبر يا زبيدة. # ثم استطرد بعد صمت: إليك حكاية شيخ جليل قال: «سقطت في حفرة وبعد مضي ثلاثة ~~أيام مرت علي قافلة من المسافرين فقلت أناديهم، ثم انثنيت عن عزمتي قائلا: لا، ~~إنه ليس من الصالح أن أطلب المساعدة إلا من الله تعالى، ولما اقتربوا من الحفرة ~~وجدوها في وسط الطريق فقالوا لنسد هذه الحفرة حتى لا يقع فيها أحد، فقلقت قلقا ~~شديدا حتى فقدت كل رجاء، فبعد أن سدوها وسافروا دعوت الله تعالى وسلمت نفسي للموت ~~وتركت كل رجاء في بني الإنسان، فلما جن الليل سمعت حركة على ظاهر الحفرة فأنصت لها ~~فانفتح فم الحفرة، ورأيت حيوانا كبيرا كالتنين أرسل إلي ذيله، فعلمت أن الله قد ~~أرسله لنجاتي، فأمسكت بذيله وسحبني، فناداني صوت من السماء: «إنا قد نجيناك من الموت ~~بالموت». # | السلطان # 1 # مضى الرجال الثلاثة يخوضون الظلماء في ثياب تجار غرباء، شهريار ودندان وشبيب رامة .. ~~اقتربت منهم أشباح ثلاثة ولما حاذتهم سألهم أحدهم: ماذا تفعلون في هذه الساعة من ~~الليل؟ # فأجاب شهريار: تجار غرباء يتداوون من الضجر بأنسام الربيع. # فقال صاحب الصوت: أنتم ضيوفي يا غرباء. # فدعوا له بالبركات، ومضوا جماعة واحدة وشهريار يتساءل ms103 : ترى من يكون مضيفنا ~~الكريم؟ # فقال صاحب الصوت: صبرا يا سادة يا كرام! # 2 # ساروا حتى شاطئ النهر .. اتجهوا نحو سفينة تنتظر، تشع منها أضواء المصابيح كالكواكب ~~.. تساءل شهريار: نحن مرتبطون بالسوق فهل ترومون سفرا؟ # فأجاب صوت آخر: أيها الغرباء، إنكم بحضرة مولانا السلطان شهريار، فأدوا له تحية ~~الملك، واحمدوا الله على حظكم السعيد. # عقدت الدهشة ألسنة الرجال الثلاثة .. أي سلطان؟ وأي شهريار؟ وتجمدوا في ذهولهم ~~فلم تند عنهم حركة .. عند ذاك صاح صاحب الصوت الثاني: التحية يا غرباء. # أفاق شهريار من ذهوله .. صمم على خوض التجربة حتى نهايتها .. سرعان ما انحنى أمام ~~السلطان المزعوم فتبعه في الحال دندان وشبيب رامة .. قال: نضر الله وجه أمير المؤمنين ~~وأطال عمره وأدام عهده .. # تبعوه ضمن الحاشية حتى جلس على عرش تحت مظلة في أعلى السفينة، فاتخذوا مجالسهم فوق ~~وسائد مطروحة على فسحة منبسطة فيما أمام العرش .. وأقلعت السفينة في جو ربيعي تحت ~~بسمات النجوم الساهرة. # 3 # رست السفينة إلى شاطئ جزيرة .. استقبلها الحرس بالمشاعل .. همس شهريار الحقيقي في أذن ~~دندان: إنها لمملكة جديدة ونحن نيام! ~~- لعله الحشيش يا مولاي؟ ~~- ولكن مم ينفقون على هذه المظاهر الباذخة؟ # فقال الوزير بقلق: عما قليل تنطق الحقيقة بلسانها الخفي. # دخلوا سرادقا مثيرا، فوجدوا سماطا حافلا بالأطعمة والأشربة في انتظارهم .. تحلقه ~~جمع غفير من رجال المملكة، فأصابوا من الطعام حتى شبعوا، ومن الشراب حتى توهجت أرواحهم ~~بالنشوة والبهجة .. وأنشدت جارية من وراء ستار: # لسان الهوى في مهجتي لك ناطق # يخبر عني أنني لك عاشق # فهمس شهريار في أذن دندان: يا لها من مأدبة ملكية وما نحن إلا رعية .. # وعند لحظة معينة صاح السلطان الآخر: آن لنا أن نعقد المحكمة الإلهية .. # فسأل دندان مولاه: ألا نستأذن في الانصراف حتى نرسل الجند لمحاصرتهم قبل أن ~~يتفرقوا؟ # فقال شهريار: بل نبقى لأشهد بعيني ما يجري مما لم يجر لي في خاطر .. # وسرعان ما رفع قوم السماط .. وجيء بمنصة محكمة فنصبت في صدر السرادق .. جلس ~~عليها السلطان الآخر، وقف إلى يمينه وزيره، وإلى ms104 يساره السياف .. وانبعث في الأركان ~~الحراس شاهري السيوف .. وجلس شهريار الحقيقي وتابعاه ضمن قلة من الصفوة أذن لها ~~بمتابعة محكمة العدل الإلهي. # 4 # قال السلطان الآخر من فوق المنصة مخاطبا الصفوة الحاضرة: أحمد الله الذي يسر لي ~~التوبة بعد انغماسي في سفك الدماء البريئة ونهب أموال المسلمين، إنه سبحانه واسع ~~الرحمة والمغفرة. # فامتقع وجه شهريار الحقيقي، ولكن لم تند عنه حركة واحدة .. وواصل السلطان الآخر ~~حديثه قائلا: هذه المحكمة تنعقد للتحقيق في شكوى مرفوعة من رجل بسيط، لو صح ما جاء بها ~~لكشف عن جريمة بشعة، اغتيلت فيها البراءة لحساب الخسة والدناءة والظلم، والله المستعان ~~أولا وأخيرا، فليدخل صاحب الشكوى عجر الحلاق .. # ودخل الرجل، فوقف أمام المنصة في حذر وخشوع، فقال له السلطان: ما شكواك يا عجر؟ # فقال الرجل بصوت متهدج: ابني الوحيد علاء الدين راح ضحية مؤامرة وحشية غادرة. ~~- ما التهمة التي ضرب عنقه من أجلها؟ ~~- التآمر ضد السلطان وسرقة جوهرة الست قمر الزمان زوجة الحاكم الفضل بن خاقان. ~~- من المدبر للمؤامرة في رأيك؟ ~~- حبظلم بظاظا وأبوه كبير الشرطة درويش عمران، وقد استعانا بالمعين بن ساوي المنبوذ ~~لانحرافاته، فنجح في سرقة الجوهرة كما نجح في دسها في صوان علاء الدين مع رسائل مزورة ~~تنطق بخيانته لمولانا السلطان. ~~- وما الدافع وراء المؤامرة؟ ~~- الانتقام من علاء الدين؛ لأنه تزوج زبيدة كريمة ولي الله البلخي الذي رفض أن ~~يزوجها من حبظلم بظاظا لسوء خلقه وخلقه. ~~- هل لديك دليل على ما تقول؟ ~~- براءة علاء الدين فوق أي دليل، سل عنه أهل الحي جميعا، والمؤامرة حقيقية ~~يؤمن بها الجميع، ولو كان عندي دليل واضح لأنقذت عنق البريء الطاهر، ولكني أضع ~~أملي على عدل السلطان وتأثيره الذي لا يقاوم. # وفي الحال نحى السلطان عجر، واستدعى حاكم الحي الفضل بن خاقان، فمثل الرجل بين ~~يديه تنطق قسمات وجهه بالرهبة والانكسار .. قال له السلطان: أيها الحاكم، لا شك عندي في ~~أنك من الصالحين، لقد اخترتك بعد تربية وتجربة، أستحلفك بالله العظيم أن تفضي ~~إلي بسر هذه القضية؛ فلا ms105 شك عندي في أنك عليها مطلع. # بسط الحاكم راحتيه مغمغما: اللهم فاشهد. # ثم قال مخاطبا مولاه: عقب مصرع علاء الدين نما إلي ما يتهامس به الناس من براءته ~~وإجرام الآخرين، فانزعجت انزعاج رجل نشأ متشبعا بمبادئ الدين الحنيف، وبثثت ~~عيوني بين الرجال والأحياء، فظفروا بالحقيقة من فم المعين بن ساوي وهو سكران، فما كان ~~مني إلا أن هممت بالإيقاع بالمجرمين، غير أني ... # صمت الحاكم مليا، ثم قال بذل: غير أني ضعفت يا مولاي؛ فأنا الذي حاكم علاء الدين ~~وقضى بضرب عنقه، خفت عواقب الكشف عن الحقيقة وإعلانها؛ فمن قتل نفسا فقد قتل الناس ~~جميعا. # فقال السلطان: وخفت العواقب على سمعتك ومركزك كحاكم! # فنكس الرجل رأسه ولاذ بالصمت .. فسأله السلطان: هل علم كاتم سرك بالحقيقة؟ # فقال الرجل بأسى: نعم يا مولاي. # قال السلطان مخاطبا الجميع: لله حكمته في خلقه، أما نحن فلنا الشريعة .. لذلك قضينا ~~بضرب أعناق المعين بن ساوي، ودرويش عمران، وحبظلم بظاظا، كما قضينا بعزل الفضل بن خاقان ~~وهيكل الزعفراني مع مصادرة أملاكهما! # 5 # وجيء بالنطع والمجرمين فتحرك السياف .. عند ذاك لم يتمالك شهريار الحقيقي من أن ~~يقف قائلا بصوت جهوري: كفوا عن هذه المهزلة! # توثب الحراس، وهتف السلطان من فوق المنصة: من أذن لك بالكلام أيها الغريب ~~المجنون؟ # فنهره السلطان قائلا بحزم: أفق من جنونك أنت، إنك تخاطب السلطان شهريار. # ألجمت المفاجأة الألسنة، وقف إلى جانبي السلطان دندان وشبيب رامة شاهري سيفيهما .. ~~أما السلطان فأخرج من جيبه خاتم الملك ولوح به في وجه الآخر .. أفاق السلطان الزائف من ~~ذهوله فوثب من فوق المنصة، ثم سجد بين يدي السلطان، وقال بنبرة مرتعشة: عبدك ~~إبراهيم السقاء. ~~- ما معنى هذه المهزلة؟ # فقال الرجل وهو ينتفض من الرعب: عفوا يا مولاي .. إيذن لي برواية حكايتي واغفر لي ~~حماقتي. # 6 # قص إبراهيم السقاء قصته على السلطان بمجلسه الصيفي بالقصر .. قال: منذ صباي يا ~~مولاي وأنا من المتوكلين على الله، أكدح من الفجر حتى المغيب، رزقي محدود وقلبي قنوع ~~وسلوتي في الجوزة .. ويسر الله لي نعمة ms106 كبيرة فتزوجت من أرملة جمصة البلطي، ولم أكن ~~أحلم بأكل اللحمة إلا في عيد الأضحي .. ولما قتل ابن صديقي عجر الحلاق انقلبت موازيني، ~~وسمعت ما يتهامس به الناس، فهيمن علي حزن لم أعرفه من قبل وقلت إننا نحن الفقراء ليس ~~لنا إلا الله .. وكان القدر يخبئ لي مفاجأة لا تخطر بالبال، فعثرت على كنز خارج ~~البوابة وصرت من أغنى الأغنياء .. فكرت - وهو المألوف - أن أستأثر بالمال وحدي، ولكن ~~حبي للفقراء دفعني إلى سبيل آخر، فصممت على إنشاء مملكة وهمية نهيم فيها جميعا ~~يدا واحدة. # تبسم شهريار، وقال مقاطعا: الحشيش استهلك عقلك. ~~- لا أنكر ذلك؛ فالفكرة لا تخطر إلا ببال حشاش، وتحمس الصعاليك لها أيما تحمس ~~.. وقع اختيارنا على تلك الجزيرة المهجورة، توجت نفسي سلطانا، واخترت من الحفاة الجياع ~~الوزراء والقادة ورجال المملكة، ولم نكن نتلاقى لتمثيل لعبتنا إلا في الليل، فننقلب من ~~صعاليك متشردين إلى رجال مملكة عظام، نأكل ما نشتهي ونشرب ما نحب، ونتبادل الأحاديث ~~في شئون المملكة؛ كل بحسب موقعه ودرجته .. ولما كانت المؤامرة التي أهلكت علاء الدين ~~تلح علينا، فنعقد كل ليلة محكمة يأخذ فيها العدل مجراه بعد أن عز عليه ذلك في الدنيا. # فتساءل السلطان ساخرا: وأضعت الكنز يا حشاش؟ ~~- لم يبق منه إلا القليل، ولكنا اشترينا به سعادة لا تقدر بمال! # 7 # سر شهريار بحكاية إبراهيم السقاء سرورا لا مزيد عليه، ولكنه قال لدندان: وافني ~~بما يشاع عن مصرع علاء الدين بن عجر الحلاق. # فقال الوزير: ستجد المفتاح يا مولاي عند الفضل بن خاقان، فاستدعه ولك عليه ~~التأثير الأكبر. # فتساءل السلطان: أترى أن نسترشد بما فعل السلطان إبراهيم السقاء؟ # فقال دندان: الحق يا مولاي أنها كانت محاكمة عجيبة تقطع بأن الحشيش لم يستهلك كل ~~عقله. # فقال شهريار: لا أخفي عنك أني أعجبت بالحكم أيضا! # هكذا جرت الأمور، فوقع الظالمون، فضربت أعناق المعين بن ساوي، ودرويش عمران، وحبظلم ~~بظاظا، وعزل الفضل بن خاقان، وهيكل الزعفراني، وصودرت أملاكهما. # | طاقية الإخفاء # 1 # قال سخربوط بفتور: عباس الخليجي حاكم الحي، سامي ms107 شكري كاتم السر، خليل فارس كبير ~~الشرطة، لا يتوقع منهم انحراف قريب. # فتساءلت زرمباحة بسخرية: لماذا؟ ~~- جاءوا في إثر تجربة مريرة أطاحت بالمنحرفين. ~~- دعنا من الحكام حتى يفسدهم الحكم، وانظر إلى ذلك الفتى الهمام فاضل صنعان! # فقال سخربوط ساخطا: إنه مثال حي للعمل المفسد لنوايانا وخططنا. ~~- يا له من هدف جدير حقا بمهارتنا وحيلنا! # فتسرب المرح إلى صوته وهو يقول: إنك كنز لا يفنى يا زرمباحة. ~~- فلنفكر معا في لعبة طريفة جديرة بنا. # 2 # وكان فاضل صنعان يخلد إلى الراحة فوق سلم السبيل في أعقاب نهار حار من فصل الصيف .. ~~إنه يفتقد دائما علاء الدين ويترحم عليه من قلب مكلوم .. ويتساءل في غضب متى يجيء ~~الفرج؟ .. وانتبه إلى رجل مشرق الصورة، بسام الثغر، يقبل نحوه، فيجلس إلى جانبه .. ~~تبادلا تحية، ولكن الرجل أولاه اهتماما كأنما جاء من أجله .. انتظر فاضل أن يفصح ~~الرجل المشرق عن خواطره، ولما لم يفعل قال: لست من حينا فيما أعتقد؟ # فقال الرجل بمودة: صدقت فراستك ولكنني اخترتك. # فحدجه بحذر، تلقنه من مطاردة المخبرين، وسأله: من أنت؟ ~~- لا أهمية لذلك، المهم حقا أنني من رجال الأقدار، ومعي لك هدية. # فقطب فاضل في حذر أشد وهو يتساءل: من مرسلك؟ .. أفصح فإنني لا أحب ~~الألغاز! # فقال باسما: وإني مثلك تماما، إليك الهدية ففيها الغناء عما عداها. # أخرج من جيب جلبابه طاقية مزخرفة بتهاويل ملونة لم ير مثلها من قبل، وأحكم ~~لبسها على رأسه فسرعان ما اختفى عن الأنظار في غمضة عين. ذهل فاضل وقلقت عيناه فيما ~~حوله بخوف .. وتساءل: أحلما أرى؟ # فسمع صوت الرجل يتساءل ضاحكا: ألم تسمع عن طاقية الإخفاء؟ .. هذه هي بين يديك. # ونزع الرجل الطاقية فعاد متجسدا كما كان في مجلسه .. تتابعت ضربات قلب فاضل في عنف ~~وانفعال، وسأله بلهفة: من أنت؟ ~~- الهدية حقيقة ملموسة، ولا أهمية لسؤال بعد ذلك. ~~- هل تنوي إهداءها لي حقا؟ ~~- من أجل هذا قصدتك دون العالمين. ~~- ولماذا أنا بالذات؟ ~~- ولماذا يعثر إبراهيم السقاء على الكنز؟ .. ولكن لا تبدد كنزك كما بدد ms108 ~~كنزه! # قال لنفسه: إن الدنيا تخلق من جديد، وإن العناية تخصه بهذه الهدية لإنقاذ ~~البشر .. وسرعان ما أفعم قلبه بإلهام نبيل .. وإذا بالرجل يسأله: فيم ~~تفكر؟ ~~- في أشياء جميلة تسرك. # فتساءل بحذر: خبرني عما ستفعل بها؟ # فقال بتألق: سأفعل ما يمليه علي ضميري. # فقال الرجل: افعل أي شيء إلا ما يمليه عليك ضميرك! # فبردت نظرة عينيه وغشيتها الخيبة والانزعاج، وسأله: ماذا قلت؟! ~~- افعل أي شيء إلا ما يمليه عليك ضميرك، هذا هو الشرط، وأنت حر فيما تقبل أو ~~ترفض، ولكن احذر الخداع فعنده تفقد الطاقية، وقد تفقد حياتك أيضا. ~~- إذن فأنت تدفعني للشر يا هذا؟ ~~- شرطي واضح، لا تفعل ما يمليه عليك ضميرك، ولك ألا ترتكب شرا أيضا. ~~- فماذا أصنع بها؟ ~~- بين هذا وذاك أشياء كثيرة لا تنفع ولا تضر، وأنت حر. ~~- لقد عشت حياة كريمة. ~~- واصلها كما تشاء ولكن بعمامتك لا بالطاقية، ثم ماذا جنيت منها؟ .. الفقر والسجن ~~بين الحين والحين. ~~- هذا شأني. # قام الرجل قائلا: آن لي أن أذهب، فماذا تقول؟ .. # وجب قلبه بلهفة .. إنها فرصة لا تلوح مرتين .. لم يستطع رفضها .. قال بثقة: هدية ~~مقبولة، ولا خوف علي منها. # 3 # بدءا من صباح اليوم التالي انطلق فاضل صنعان مثل الهواء، يحل في أي مكان ولا يرى .. ~~هيمنت عليه التجربة السحرية الجديدة .. جرب أن يكون روحا خفية متنقلة، فأنساه السرور كل ~~شيء حتى سعيه اليومي في سبيل رزقه .. شعر بالاختفاء أنه يعلو ويسود، ويتساوى مع ~~القوى الخفية، وأنه يملك زمام الأمور، وأن مجال الفعل يترامى أمامه بلا حدود .. ~~إنها عطلة فريدة يستريح بها من جسمه وأعين الناس وقوانين البشر .. وتصور ما كان يمكن ~~أن تيسره لوغد من الأوغاد فشكر الحظ الذي خصه بالرعاية .. ومن فرط سروره لم ينتبه لنفسه ~~إلا حين حلول المساء .. هناك تذكر أن أكرمان وأم السعد ينتظران دراهمه المعدودة ~~لإعداد العشاء وشراء المواد اللازمة لصنع الحلوى .. جزع وأدرك أنه لا يستطيع أن يرجع ~~إلى مسكنه بالربع فارغ اليدين .. ومر بدكان قصاب وكان يحصي ربح يومه على ms109 حين ~~تنحى صبيه جانبا .. قرر أن يستولي على ثلاثة دراهم هي مقدار ربحه اليومي متعهدا ~~بردها عند الميسرة .. ولم يجد بدا من دخول الدكان وأخذ الدراهم .. وخرج إلى ~~الطريق منقبض الصدر لتورطه لأول مرة في حياته في السرقة .. ونظر نحو الدكان فرأى ~~القصاب ينهال بالضرب على الصبي ثم يطرده متهما إياه بالسرقة! # 4 # بعد العشاء فكر في التخفيف عن نفسه بزيارة مقهى الأمراء تحت الطاقية .. ثمة فرص ~~للمداعبة البريئة مع أخذ الحيطة في ألا يتورط في فعل شائن كما تورط في دكان ~~القصاب .. رأى الوجوه المألوفة لأول مرة من دون أن تستطيع رؤيته .. جرى بصره بسخرية على ~~حسن العطار، وجليل البزاز، وعجر الحلاق، وشملول الأحدب، والمعلم سحلول، وإبراهيم ~~السقاء، وسليمان الزيني، وعبد القادر المهيني، ورجب الحمال، ومعروف الإسكافي .. سمع ~~عجر الحلاق يتساءل: ماذا أخر فاضل صنعان؟ # فأجاب شملول الأحدب بصوته الرفيع ضاحكا: لعل مصيبة دهمته! # قرر أن يعاقب المهرج .. جاء النادل يحمل أقداح الكركديه، وإذا بالصينية تندلق فوق رأس ~~الأحدب وتغمره بسوائلها .. وثب الأحدب صارخا على حين وقف النادل مبهوتا .. أخفى الرجال ~~ضحكات ساخرة .. لطم المعلم صبيه وراح يعتذر لمهرج السلطان .. ومبالغة في الاسترضاء ~~جاء المعلم بنفسه بالكركديه، وإذا به ينصب فوق رأس سليمان الزيني! .. انتشر الذهول ~~والسرور الخفي، وأكثر من صوت صاح: إنه الحشيش والمنزول. # وأفلت الزمام من عجر فتناسى أحزانه وضحك ولكنه لم يهنأ بضحكة، فتلقى على قفاه صفعة ~~مدوية .. التفت مغضبا، فرأى وراءه معروف الإسكافي، فضربه بقبضته في وجهه، وسرعان ~~ما اشتبكا في معركة .. وساد الظلام إثر حجر أصاب الفانوس .. وفي الظلام انهالت الصفعات، ~~فثار الغضب والتحموا في صراع في الظلام، وعلا الصراخ حتى تناثروا في الطريق على حال قبيحة ~~من الجنون والخوف. # 5 # مارس حياته المألوفة مخفيا الطاقية في جيبه لحين الحاجة إليها .. قال إنه لم ~~يجن منها حتى الآن إلا أن سرق، وارتكب سخافات لا معنى لها .. ساوره قلق وضيق .. قال ~~إنه ما كان بوسعه أن يتجاهل فرصة نادرة مثلها .. ولم يكن لديه مجال للتأمل، ولكن ~~ما ms110 جدوى ذلك كله؟ .. وإذا تعذر عليه صنع خير بالطاقية فما عسى أن يفعل بها؟ .. وكان ~~يستريح على سلم السبيل بعد الغروب على مبعدة يسيرة من بياع بطيخ متجول فرأى شاور ~~مقبلا نحو الرجل لابتياع بطيخة .. ارتعدت مفاصله لرؤيته؛ فهو سجان اشتهر بتعذيب إخوانه ~~.. رآه يمضي بالبطيخة نحو زقاق قريب حيث يقيم فيما بدا له فتبعه .. ولما أمن المارة لبس ~~الطاقية فتلاشى .. وكأنما نسي تعهده فاستل السكين التي يقطع بها الحلوى .. فليجرب على ~~الأقل كيف يحول «الآخر» بينه وبين ما يود أن يفعل .. لحق بالسجان وهو عنه لاه .. وجه إلى ~~عنقه طعنة قاتلة فسقط غارقا في دمه. # أثمله شعور بالنصر .. يستطيع أن يفعل ما يشاء .. ولم يبرح المكان ليتابع الحدث .. شاهد ~~التجمهر على ضوء المشاعل .. جاءت الشرطة .. سمع أن السجان لفظ اسم بياع البطيخ قبل أن ~~يلفظ أنفاسه .. رأى الشرطة وهي تقبض على البياع البريء .. تعجب فاضل من ذلك وانزعج له ~~.. ماذا كان بين السجان والبياع مما جعله يوقع به؟ استفحل انزعاجه وقال لنفسه: لا مفر ~~من إنقاذ الرجل البريء. # عند ذاك رأى صاحب الطاقية أمامه وهو يقول له: حذار أن تخون العهد. # فذعر فاضل متسائلا: ألم تتركني أقتل المجرم؟ # فقال الآخر: كلا .. لم تقتل المجرم، ولكنك قتلت توءمه، وهو رجل طيب لا غبار ~~عليه! # 6 # من السرقة للسخف ثم الجريمة .. سقط في الهاوية .. ولما ضرب عنق بياع البطيخ في ~~اليوم التالي هيمن عليه يأس مطلق .. هام في الطرقات على وجهه كالمجنون .. كره نفسه ~~لدرجة كره معها الدنيا وأحلامه الخالدة .. همس لنفسه: الاعتراف والجزاء الحق، هذا ما بقي ~~لي. # فرأى أمامه الآخر وهو يقول: حذار! # فصاح به غاضبا: عليك اللعنة. # فتلاشى وهو يقول: أهذا جزاء من سلمك مفتاح القوة واللذة! # وتمطى السخط في ذاته مشعشعا بالجنون الأحمر، فراح يسكر مناديا الشياطين من مكامنها ~~.. وتذكر خواطر مثقلة بالشهوة كانت تداعبه فيطردها بالإعراض والتقوى .. تجسدت في إشعاعات ~~جنونه الأحمر في صورتين؛ قمر أخت حسن العطار، وقوت القلوب زوجة سليمان الزيني .. قال ~~لنفسه ما دامت ms111 الخمر قد ألقيت في جوفي فما خوفي من السكر؟ .. لم يبق لي إلا حسن ~~الامتثال للعنة .. فلأرفع نفسي إلى السماء ولتنطلق الشياطين من قماقمها .. وليقدم العذاب ~~مكللا بالضحايا. # 7 # وتساءلت قمر العطار. ~~- لماذا فاضل صنعان؟ .. يا له من حلم! # ولكنها لمست للحلم آثارا لا تنكر، فذهلت وقالت كأنه الشيطان. استحوذ عليها الرعب ~~وتخايل لعينيها الموت. # وقالت قوت القلوب: إنه كابوس .. ولكن لماذا فاضل صنعان وما خطر لي في وجدان قط؟ # ولكن عن الكابوس تولدت آثار حقيقية فانفجر فيها الفزع .. واكتشف سليمان الزيني سرقة ~~نقوده .. وجاء خليل فارس كبير الشرطة .. وكتمت قوت القلوب خبر الكابوس .. وأطبقت عليها ~~فكرة الموت. # 8 # حافظ على حياته اليومية نهارا، ولم يتخلف عن مقهى الأمراء .. وردد كثيرا في نفسه: ~~رحمك الله يا فاضل صنعان .. كنت فتى طيبا مثل علاء الدين وأفضل. # وصادفه المجنون في تجواله، فقدم له بعض الحلوى كعادته معه، ولكن المجنون لم يمد ~~يده هذه المرة ومضى لسبيله وكأنه لم يره .. ارتعب وحامت حوله المخاوف كالذباب .. ~~المجنون لم يتغير لغير ما سبب .. لعله شعر بالشيطان وراء جلده .. غمغم: علي أن أخشى ~~المجنون. # فرأى الآخر صاحب الطاقية يبتسم إليه مشجعا ويقول: صدقت، وليس هو الوحيد الجدير ~~بالخشية. # فقطب صنعان وشعر بذل، ثم قال بحدة: دعني وشأني. # فقال بهدوء: اقتل المجنون، لن يشق عليك ذلك. ~~- لا تقترح علي؛ فلا يدخل ذلك في الاتفاق. ~~- يجب أن نصير أصدقاء؛ لذلك أنصحك أيضا بأن تقتل البلخي ذلك الشيخ المخرف. ~~- لسنا أصدقاء، ولن أفعل شيئا إلا بمحض حريتي. ~~- أسلم بهذا تماما، ولن تندم، إنك تتعذب بحكم تغيير العادة، ولكنك ستبلغ الحكمة ~~الباهرة وتفهم الحياة كما ينبغي لك. # فصاح فاضل: إنك تسخر مني. ~~- أبدا .. إني أحرضك على قتل أعدائك قبل أن يقتلوك. # فقال بقرف: دعني وشأني. # 9 # وقعت أحداث مثيرة للشجن .. فقد افترس مرض غامض في وقت واحد تقريبا امرأتين جميلتين ~~فاضلتين؛ قمر العطار، وقوت القلوب امرأة سليمان الزيني .. ولم ينفع في إنقاذهما إخلاص ~~عبد القادر المهيني وخبرته .. وبموتهما حمل الطبيب هما خفيا احتار ms112 كيف يتعامل معه .. ~~هل يصمت صونا لسمعة أصدقائه؟ .. هل يخشى أن يغطي صمته على مجرم وجريمة؟ تفكر الرجل ~~طويلا، ثم مضى إلى مقابلة خليل فارس كبير الشرطة .. قال له: سأطرح عليك همي لعل الله ~~يهدينا إلى سواء السبيل. # وتنفس الرجل بعمق، ثم استطرد: ليس مرضا ما أصاب قمر شقيقة حسن العطار وقوت القلوب ~~امرأة سليمان الزيني؛ فقد تبين لي أنهما تناولتا سما قتلهما ببطء. # تمتم كبير الشرطة باهتمام: انتحار! .. لماذا؟ .. جريمة قتل، كيف؟ ~~- قبيل احتضار كل منهما لفظت باسم فاضل صنعان بتقزز ورعب. # فهز الرجل رأسه باهتمام متصاعد، فقال الطبيب: خلاصة ما فهمته أنهما حلمتا ذات ~~ليلة بأنه اعتدى عليهما، ثم وضح لهما أن ثمة آثارا تقطع بأن الحلم كان حقيقة ~~واقعة. ~~- هذا مذهل .. هل خدرهما؟ ~~- لا أدري. ~~- أين وقع الحلم؟ ~~- في فراشهما بداريهما. ~~- هذا مذهل حقا .. وكيف تسلل إلى الدار؟ .. وكيف خدرهما حتى يقضي وطره؟ .. أله شركاء ~~في الدارين؟ ~~- لا أدري. ~~- هل فاتحت حسن والزيني في الموضوع؟ ~~- لم أجد الشجاعة الكافية. ~~- ماذا تعرف عن فاضل صنعان؟ ~~- شاب لا غبار عليه، وهو من خيرة الشبان. ~~- ثمة شبهة لم يقم دليل عليها بعد، أنه من الخوارج. ~~- لا علم لي بذلك! # فقال كبير الشرطة بحزم: سألقي القبض عليه في الحال، وأجري معه تحقيقا دقيقا. # فقام عبد القادر قائلا: لعلك تجري تحقيقك في كتمان رحمة بسمعة المرأتين. # فقال خليل فارس دون مبالاة: كشف الحقيقة هو ما يهمني في المقام الأول! # 10 # ألقي القبض على فاضل صنعان، وسيق من فوره إلى السجن. اهتم حاكم الحي عباس الخليجي ~~بالقضية، واستدعى للقائه حسن العطار وسليمان الزيني، وباغتهما بالسر الذي أشفق الطبيب ~~من قذفهما به .. كأن ضربة عنيفة أطاحت برأسيهما، وهان بالقياس إليها الموت نفسه .. أمر ~~الرجل باستدعاء فاضل صنعان من السجن ليحقق معه بنفسه، فجاءه خليل فارس وحده وهو يقول ~~بخزي عظيم: هرب المجرم ولا أثر له في السجن! # فثار الحاكم ثورة جائحة، وانهال على كبير الشرطة بالتقريع والاتهام، فقال الرجل ~~بحيرة ممزقة: هروبه لغز لا حل ms113 له، كأنه عمل من أعمال السحر الأسود. # فصرخ الحاكم: بل إنه فضيحة ستزعزع أركان الثقة. # وانطلق المخبرون في كل مكان كالجراد .. وجيء بأكرمان زوجة فاضل وحسنية أخته وأم السعد ~~والدته، ولكن التحقيق معهن لم يسفر عن شيء، وقالت أكرمان وهي تبكي: زوجي أشرف الرجال، ~~ولا أصدق عنه كلمة سوء واحدة! # 11 # أدرك فاضل صنعان أنه أصبح في عداد الأموات .. لا حياة له بعد اليوم إلا تحت الطاقية ~~كروح ملعونة هائمة في الظلام .. روح ملعونة، لا حركة لها إلا في مجال العبث أو الشر، ~~محرومة من التوبة أو فعل الخير، صار شيطانا رجيما، تأوه من الحزن فتجسد أمامه صاحب ~~الطاقية متسائلا: لعلك في حاجة إلي؟ # فحدجه بنظرة محنقة، فقال له ملاطفا: لا حد لسلطانك ولن يعوزك شيء. # فهتف: إنه العدم. # فقال ساخرا: اسحق الأفكار القديمة وانتبه إلى حظك الكبير! ~~- الوحدة .. الوحدة .. والظلام .. ضاعت الزوجة والأخت والأم، وضاع الأصحاب. # فقال بهدوء: أصغ إلى نصيحة مجرب، بوسعك أن تتسلى كل يوم بحدث يزلزل البشر. # 12 # واجتاحت الحي حوادث غامضة فأنستهم القضية والمجرم الهارب .. يدفع وجيه من فوق ~~بغلته فيقع على الأرض .. يصيب حجر رأس سامي شكري كاتم السر فيشجه وهو بين حراسه ~~.. تختفي جواهر ثمينة من دار الحاكم .. تشتعل النار في وكالة الأخشاب .. ينتشر العبث ~~بالنساء في الأسواق .. يركب الرعب الخاصة والعامة .. يندفع فاضل صنعان في طريقه الوعر ~~مخمورا باليأس والجنون. # واجتمع الحاكم عباس الخليجي بالشيخ عبد الله البلخي والطبيب عبد القادر المهيني ~~والمفتي، وقال لهم: إنكم صفوة حينا، وأريد أن أسترشد بآرائكم فيما يقع لنا، فما ~~تشخيصكم له وما العلاج الذي تقترحونه؟ # وقال الطبيب: ما هي إلا عصابة من الأشرار تعمل بحرص ودهاء، فنحن في حاجة إلى مزيد ~~من السهر على الأمن. # وتفكر قليلا ثم واصل: ونحن في حاجة أيضا إلى إعادة النظر في توزيع الزكاة والصدقات. # فقال الحاكم: أعتقد أن المسألة أخطر مما تفترض، ما رأيك يا شيخ عبد الله؟ # فأجاب الرجل باقتضاب: ينقصنا الإيمان الصادق! ~~- ولكن الناس مؤمنون. # فقال بأسى: كلا .. الإيمان ms114 الصادق أندر من العنقاء. # عند ذاك قال المفتي بصوت خشن: ثمة من يمارس علينا السحر الأسود، ولا أتهم إلا ~~الشيعة والخوارج! # 13 # وسيق إلى السجون جميع من حامت حولهم الشبهات .. ضجت دور كثيرة بالشكوى .. ولأول مرة ~~يفيق فاضل صنعان من يأسه .. عجب لنفسه وتساءل: أما زال في قلبه متسع للتأمل والندم؟! ~~عاودته ذكريات قديمة كما تهفو نسائم على نار متأججة .. ومضى يفكر في توجيه عبثه إلى ~~متجه جديد .. غير أن صاحب الطاقية تمثل له بنظرته المحذرة وهو يتساءل: ألم ~~تشف بعد من دائك القديم؟ # فاجتاحه الغيظ، ولكنه كظم نفسه بذل، وقال: إن تهريب هؤلاء سيكون قمة العبث! ~~- تذكر اتفاقنا. # فتساءل بحدة: أي خير ثمة وراء تهريب أعداء الدين؟ ~~- إنهم في رأيك الهداة، وما أنت إلا أحدهم، فلا تحاول العبث بي. # فقال بتصميم ورجاء: دعني أفعل ما أشاء، ثم افعل بعد ذلك ما بدا لك! # وإذا بالطاقية تنزع من فوق رأسه فيتجسد في زحمة السابلة بميدان الرماية .. فزع من وقع ~~المفاجأة .. وقبل أن يفيق من فزعه أعاد الآخر الطاقية إلى رأسه وهو يقول: التزم بما ~~تعاهدنا عليه لأعاملك بالمثل. # 14 # لكنه لم يسعد بالنجاة .. شاعت في مذاقه مرارة راسخة .. تساءل كيف يمكنه أن ينقذ ~~أقرانه وإخوانه .. اختنق بالقبضة الحديدية التي تطوقه .. إنه عبد الطاقية وصاحبها كما ~~أنه أسير الظلام والعدم .. كلا، إنه لا يسعد بالنجاة ويخجل منها .. وحتى اليأس مهما ~~ارتكب من حماقات لم تستطع أن تقتلع من قلبه أنغامه القديمة .. وحن إلى بعث فاضل القديم ~~بأي ثمن .. أجل، إن فاضل القديم مضى وانقضى، ولكن ما زال في الطريق متسع لعمل .. ومن ~~أعماق الظلمات ومض شعاع .. انتعشت روحه لأول مرة منذ دهر .. وبث حياة في إرادته .. تفجرت ~~شجاعته في صورة إلهام صاعد .. ورفعته موجة استهانة وتحد فوق الحياة والموت فتطلع من ~~فوق ذروتها إلى أفق واعد .. واعد بالموت النبيل .. بذلك يسترد فاضل صنعان ولو جثة ~~هامدة .. ولم يتردد فمضى بعزم جديد نحو دار الحاكم .. ومر به المجنون وهو يردد: «لا ~~إله إلا الله ms115 ، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير». # فتمادى في النشوة والاقتحام .. وما ارتعب عندما تراءى له «الآخر»، فقال له: إليك عني. # ونزع الطاقية من فوق رأسه ورمى بها في وجهه قائلا: افعل ما بدا لك. # قال له: سوف يمزقونك ويمثلون بك. # فهتف: إني أعرف مصيري خيرا منك. ~~- سوف تندم حيث لا ينفع ندم. # فصاح: إني أقوى منك. # توقع مشفقا أن يبطش به، ولكنه تلاشى وكأنما غلب على أمره. # 15 # أثارت محاكمة فاضل صنعان الخواطر كما لم تثرها محاكمة من قبل .. وانفجرت اعترافاته في ~~المدينة مثل إعصار .. ولأن الصفوة ما زالت تعتبره أحد أبنائها، ولأن العامة ~~اعتبروه أحدهم، فقد تبلبلت الأفكار أيما تبلبل، وتضاربت العواطف كالدوامات ~~الصاخبة .. واستقبل ميدان «العقاب» سيلا لا ينقطع من النساء والرجال من كافة الطبقات .. ~~واختلطت همسات الإشفاق بصرخات الشماتة، كما يختلط أنين الرباب بعربدة السكارى .. ولما ~~تراءى الشاب من بعيد استبقت إليه الأبصار .. تقدم بين حراسه بخطوات ثابتة ووجه هادئ ~~وامتثال خاشع. أمام النطع انهمرت عليه الذكريات في موجة واحدة متفجرة بالشهب .. تماوجت ~~وجوه أكرمان والبلخي وجمصة البلطي وعبد الله الحمال والمجنون .. التحم الحب ~~والمغامرة ودفاتر الدعوة وآلاف اللقاءات المدثرة بالظلام في الأقبية والخلوات .. وتبددت ~~الطاقية وصاحبها كعثرة بلا قرار يفوح من أعماقها الإغراء محطما قمقمه عن شهواته ~~المكبوتة .. وتجلى أخيرا نصره المأساوي جاذبا معه شبيب رامة السياف .. تلقى ذلك في ثوان ~~بقوة خارقة وسرعة مذهلة، فرفض الأسى بإباء، وواجه مصيره ببرود واستعلاء، فرأى فيما ~~وراء الموت إشراقة تبهر الأعين .. ولكنه رأى أيضا معلما من معالم الآخرة متمثلا ~~في صورة المعلم سحلول تاجر المزادات والتحف .. دهش لمرآه فأفاق من رؤيته وسأله: ماذا جاء ~~بك يا معلم؟ # فأجاب وهو يتغير من النقيض إلى النقيض: جاء بي ما جاء بك. # فهتف بدهشة أكبر: أنت ملاك الموت! # ولكنه لم يرد. فقال في شجاعة: أريد العدل! # فقال بهدوء: الله يفعل ما يشاء. # | معروف الإسكافي # 1 # لا يفوق مرحه الظاهر إلا أشجانه الباطنة .. رزقه محدود وامرأته فردوس العرة نهمة جشعة ~~شرسة مليئة بالقوة ms116 والعنف .. حياته جحيم بين الكدح والزوجية .. لا يمر يوم دون أن تنهال ~~عليه ضربا وسبا وهو يرتعد بين يديها خوفا وذلا .. يتمنى شجاعة يطلقها بها، يحلم ~~بموتها، يود الهرب، ولكن كيف وإلى أين .. قال إنه أسير كما كان فاضل صنعان أسيرا ~~لشيطان .. ولعله لا خلاص له - مثله - إلا بالموت. # وذات ليلة التهم من المنزول فوق طاقته، ومضى إلى قهوة الأمراء والدنيا لا تسعه من ~~السلطنة .. ونظر في وجوه أصحابه، وقال بصوت سمعه جميع الرواد: أقول لكم سرا لا يصح أن ~~يخفى عنكم. # هم عجر الحلاق أن يهزأ به ولكنه تذكر حزنه فعدل عنه. # أما معروف فقال: أقول لكم الحق إني عثرت على خاتم سليمان! # فهتف به شملول الأحدب: تأدب أمام أسيادك يا تيس. # وسأله إبراهيم السقاء: ويبدو أنك انتفعت به، أين القصور، أين الخدم، أين الجاه ~~والسيادة؟! # فقال: لولا تقوى الله لفعلت ما لا يخطر ببال بشر. # فقال له رجب الحمال: أعطنا آية واحدة لنصدقك. ~~- ما أيسر ذلك علي! ~~- عظيم .. ارتفع نحو السماء ثم اهبط سالما. # فقال معروف في مناجاة: يا خاتم سليمان ارفعني إلى السماء. # عند ذاك صاح به سليمان الزيني: كف عن هذرك عليك. # ولكنه انقطع فجأة عن الكلام .. معروف نفسه اجتاحه رعب غريب .. شعر بقوة تقتلعه من ~~مجلسه، ومضى يعلو ببطء وثبات، حتى وقف جميع الرواد فزعين ذهلين .. واتجه نحو باب المقهى ~~وخرج منه وهو يصرخ «أغيثوني»، ثم ارتفع حتى اختفى في ظلمة ليل الشتاء .. تجمهر الرواد في ~~الطريق أمام المقهى، تصايح الناس بالواقعة، انتشر الخبر كأنه أشعة الشمس في نهار ~~الصيف .. وإذا به يهبط رويدا رويدا حتى يتجلى شبحه في الظلمة ويرجع إلى مجلسه الأول، ~~ولكن على حال لا توصف من الإعياء والفزع .. وأحدق به الجميع من الخاصة والعامة وانهالت ~~عليه الأسئلة: أين وجدت الخاتم؟ ~~- متى وجدته؟ ~~- ماذا أنت فاعل به؟ ~~- صف لنا العفريت. ~~- متى تحقق أمانيك؟ # وقال له عجر: لا تنس أصدقاءك. # وصاح به إبراهيم السقاء: إخوانك الفقراء. # وقال له رجب الحمال: اجعلها كما ينبغي ms117 لها أن تكون. # وقال سليمان الزيني: لا تنس الله؛ فهو صاحب الملك. # لم يفقه مما قيل شيئا .. ولم يدر كيف وقع ما وقع .. أي سر امتلكه؟ أي معجزة ~~تحققت على يديه؟ هل يعترف لهم بالحقيقة؟ حذر فطري أسكته .. إنه يريد أن يخلو إلى نفسه ~~.. أن يسترد أنفاسه، أن يتأمل ويتأمل .. ونهض من مجلسه دون أن ينبس، فأكثر من صوت هتف ~~به: لا تتركنا حيارى، بل ريقنا بكلمة طيبة. # ولكنه غادر المقهى دون أن يلقي نظرة على أحد. # 2 # مضى نحو داره في مظاهرة من الرجال والنساء اكتظ بهم الطريق .. تنافسوا في الاقتراب منه ~~فسقط منهم قوم وداس بعضهم البعض .. وصاح بهم: اذهبوا وإلا أرسلتكم إلى الآخرة. # وفي أقل من دقيقة تفرقوا في فزع واضطراب حتى تلاشت أصواتهم، فلم يجد أمامه إلا ~~فردوس العرة زوجته تنتظره أمام الدار وبيدها مصباح وهي تقول: يعطي الملك لمن يشاء. # لأول مرة منذ دهر تبتسم في وجهه، فحدجها بنظرة غليظة ولطمها لطمة فرقعت في سكون ~~الليل وصاح بها: أنت طالق، فاذهبي إلى الجحيم. # صرخت فردوس: تستعبدني بفقرك، وتطردني حال إقبال الحظ؟! ~~- إن لم تذهبي في الحال حملك العفريت إلى وادي الجن. # فصرخت المرأة من الفزع، وهرولت لا تلوي على شيء .. ابتسم أيضا أول ابتسامة صافية منذ ~~دهر طويل، ودخل مأواه المكون من حجرة ودهليز. # 3 # ما معنى ذلك يا معروف؟ أهو حلم أم حقيقة؟ هل حل بك سر حقا؟ ونظر فيما حوله، في ~~الحجرة شبه العارية وتمتم بحذر: يا خاتم سليمان ارفعني ذراعا واحدة فوق ~~الأرض! # انتظر في لهفة وإشفاق، ولكن لم يحدث شيء .. انقبض قلبه وغاص في صدره غريقا في ~~خيبة مرة .. ألم أحلق في الجو؟ .. ألا يشهد على ذلك أهل الحي؟ .. ألم تنهزم ~~العرة لأول مرة؟ .. وقال من قلب جريح: يا خاتم سليمان، ايتني بصينية فريك بالحمام! # لم ير إلا خنفساء تزحف فوق طرف الحصيرة المتهرئة .. نظر إلى الخنفساء طويلا ثم أجهش في ~~البكاء. # 4 # طمر خيبته المرة في أعماقه .. جعلها سره الدفين، وأقام سدا بينه ms118 وبين لسانه .. قال: ليكن ~~من الأمر ما تجري به مشيئة الله .. ولكن أليس عليه أن يذهب إلى دكانه ليصلح الأحذية ~~والمراكيب والصنادل؟ وهل يهضم الناس سلوكه هو المالك لخاتم سليمان؟ وإن لم يفعل فهل ~~يهب ذاته التعيسة للموت جوعا؟ غير أنه صادف خليل فارس كبير الشرطة عند باب عطفته ~~وكأنما كان في انتظاره .. تلقاه بابتسامة متوددة غير معهودة، فأدرك بذكائه أن ~~القوم ينظرون إليه بوصفه مالك خاتم سليمان .. خفق قلبه بأمل جديد، وصمم على تمثيل دوره ~~بمهارة تناسبه حتى يقضي الله أمره .. قال له الرجل برقة: صبحك الله بالسعادة يا ~~معروف. # فقال بتحفظ دهش له هو نفسه: وصبحك بمثلها يا كبير الشرطة. # تكلم بثقة من يملك القوة التي لا يطمح إليها بشر. # قال الرجل: حاكم الحي يود مقابلتك. # فقال دون مبالاة: على الرحب والسعة، أين؟ ~~- في المكان الذي يروقك! # يا أولاد الخنفساء يا جبناء .. قال: في داره كما يقضي بذلك الأدب. # فقال بيقين: ستلقى العناية والأمان. # فقال ضاحكا في استهانة: لا خوف علي من أي قوة في الأرض! # فقال خليل فارس وهو يداري امتعاضا، وربما خوفه: سنكون في انتظارك في الضحى. # 5 # رأى من اهتمام الناس ما ينذر بتجمهر جديد فرجع إلى مسكنه الحقير .. ورأى عجر الحلاق ~~فأخبره بأنه أصبح أحدوثة المدينة لا الحي وحده .. وأن معجزته هزت أركان القصر ~~السلطاني .. ولما علم بالمقابلة الوشيكة بينه وبين الحاكم، قال عجر: لا تبال بأحد ~~فإنك أقوى رجل في الدنيا، والناس الآن بين اثنين؛ من يخشى قوتك حرصا على جبروته ومن ~~يرجوها رحمة بضعفه. # فقال مداريا حزنه الخفي بابتسامة: تذكر يا عجر أنني من عباد الله المطيعين. # فدعا له بالفوز والنجاح. # 6 # وجد في انتظاره في بهو الاستقبال عباس الخليجي الحاكم، وسامي شكري كاتم السر، وخليل ~~فارس كبير الشرطة، والمفتي، ونفرا من الأعيان .. تأملوا رثاثة ملابسه بدهشة، ولكن ~~الحاكم دعاه إلى الجلوس إلى جانبه على سريره مرحبا به غاية الترحيب، فجلس بثقة، هدفا ~~للنظرات المستطلعة المحترقة المذعورة .. قال الحاكم: علمت أنك ملكت خاتم ~~سليمان ms119 . # فقال بثقة ونبرة لم تخل من نذير: إني على استعداد لإقناع من في قلبه شك. # فقال الحاكم: بل أردت أن أعرف - في نطاق مسئوليتي - كيف ملكته؟ ~~- لم يسمح لي بإفشاء السر. ~~- كما ترى، إن تشريفك داري يقطع بثقتك بي، وهو ما أحمد الله عليه. # فقال بدهاء: الحق أنه لا شأن لذلك بثقتي بك؛ فلا أنت ولا غيرك بمستطيع أن ~~يمسني بسوء. # فأحنى الحاكم رأسه موافقا ومداريا تأثره في آن، وقال: رأيت أنا وإخواني أن من ~~واجبنا أن نتبادل الرأي معك، الله يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، ولكننا مطالبون بعبادته ~~في جميع الأحوال. # فقال بجرأة: ما أجدر أن توجه خطابك لنفسك ولإخوانك! # فامتقع وجه الحاكم، وهو يقول: حقا، لقد تولينا السلطة في أعقاب تجارب مرة، ولكننا ~~ملتزمون بالشريعة منذ ولينا. # فقال بنفس الجرأة: العبرة بالخواتيم. ~~- لن يرى منا أحد إلا ما يسر، ولتكن لنا قدوة في مولانا السلطان شهريار. ~~- غير منكور أنه فتح صفحة جديدة، وإن لم يبلغ الكمال المنشود بعد. ~~- الكمال لله وحده. # ونظر الحاكم نحو المفتي، فقال المفتي: لي كلمة يا معروف، تقبلها من رجل لا يخشى إلا ~~الله وحده، الله يمتحن عباده في السراء والضراء، وهو الأقوى دائما وأبدا، وهو ~~سبحانه يحاكم القوي من خلال قوته كما يحاكم الضعيف من خلال ضعفه .. وقد ملك قبلك آحاد ~~خاتم سليمان فكان وبالا عليهم، فلتكن في امتلاكك له آية للمؤمنين وموعظة للمشركين. # ابتسم معروف منتفخا بقوة من ساد الموقف، وقال: اسمعوا أيها الرجال الكبار، إنه ~~لمن يمن الطالع أن خاتم سليمان قدر أن يكون من نصيب رجل مؤمن يذكر الله بكرة ~~وعشيا، إنه قوة لا قبل لقوتكم بها ولكني أدخرها للضرورة، كان بوسعي أن آمر الخاتم ~~بتشييد القصور وتجييش الجيوش والاستيلاء على السلطنة، ولكنني قررت أن أتبع طريقا آخر. # تنفس الحاضرون بارتياح لأول مرة، فانهال عليه الثناء من كل جانب .. عند ذاك قال وقلبه ~~يخفق: ولكن لا يجوز أن أهمل نعمة أتاحها الله لي. # فتطلعوا إليه باهتمام فقال: يلزمني في ms120 الحال ألف دينار لأصلح به شأني. # فقال الحاكم بارتياح: سأراجع حساب ما تحت يدي من مال، فإن لم يكف طلبت معونة من ~~مولاي السلطان. # 7 # ونال معروف ما تمنى من مال وأغدق عليه الأعيان الهدايا بغير حساب .. ابتاع قصرا وكلف ~~المعلم سحلول بتأثيثه فخلق له منه متحفا .. وتزوج من حسنية صنعان أخت فاضل .. وقرب إليه ~~صحبه عجر الحلاق، وإبراهيم السقاء، ورجب الحمال، وأمطر الفقراء بجوده، وحمل الحاكم ~~على توفير أرزاقهم ورعايتهم واحترامهم، فحلت بشاشة الأنس في وجوههم محل تجاعيد ~~الشقاء، وأحبوا الحياة كما يحبون الجنة. # 8 # وذات يوم دعي إلى مقابلة السلطان شهريار، فمضى إليه وهو يبسمل ويحوقل ويتمنى ~~السلامة .. استقبله السلطان في مثواه الشتوي والمعروف ببهو المرجان، تفرس فيه بهدوء ~~وقال: أهلا بك يا معروف، لقد سمعت بأذني في جولاتي الليلية ثناء العباد عليك فشاقني ذلك ~~إلى رؤيتك. # فقال معروف وهو يغالب خفقان قلبه: نعمة هذا اللقاء عندي أغلى من خاتم سليمان نفسه يا ~~مولاي. ~~- شعور كريم لرجل كريم. # فحنى معروف رأسه، وهو طيلة الوقت يتساءل عما يفعل لو طالبه السلطان بمعجزة .. أتنصرف ~~يا معروف من القصر إلى النطع؟ .. قال السلطان متسائلا: كيف عثرت على الخاتم يا ~~معروف؟ # فأجاب وقلبه ينقبض: تعهدت بحفظ السر يا مولاي. ~~- لك العذر يا معروف، ولكن ألا أستطيع أن أراه من بعيد من دون أن أمسه؟ ~~- ولا هذا أيضا يا مولاي، ما أتعسني لعجزي عن تحقيق رغبتك! ~~- لا عليك من ذلك. ~~- شكرا لرحمتك يا مولاي. # فقال بعد تفكير: إني أعجب لشأنك؛ فلو شئت الجلوس على عرشي ما منعتك قوة في ~~الأرض! # فهتف معروف مستنكرا: معاذ الله يا مولاي، ما أنا إلا عبد مؤمن، لا تغريه قوة بالتعرض ~~لمشيئة الله. ~~- إنك مؤمن حقا، والخاتم في يد المؤمن عبادة! ~~- الحمد لله رب العالمين. # فسأل السلطان باهتمام: هل حظيت بالسعادة يا معروف؟ ~~- سعادة بلا حدود يا مولاي. ~~- ألا يفسد الماضي عليك سعادتك أحيانا؟ ~~- ما مضى سلسلة من تعاسات تلقيتها من الآخرين، ولكني لم أرتكب ما أندم عليه! ~~- هل تنعم ms121 بالحب يا معروف؟ ~~- الحمد لله، لي زوجة تهب السعادة مع أنفاسها. ~~- جميع ذلك بفضل الخاتم؟ ~~- بفضل الله يا مولاي! # فصمت السلطان مليا، ثم سأله: أتستطيع أن تهب السعادة للآخرين؟ ~~- لا حدود لقوة الخاتم، ولكنه لا يستطيع اقتحام القلوب. # تجلى في أعماق عيني شهريار فتور يوحي بخيبة الرجاء، ولكنه ابتسم قائلا: دعني أراك ~~وأنت ترتفع في الفراغ حتى تمس عمامتك نقوش قبة البهو! # انقض الطلب عليه كقمة جبل قذف بها زلزال، تطايرت آماله هباء وأيقن بالهلاك .. قال ~~بحرارة: لا يليق في حضرة السلطان إلا الأدب. ~~- إنما تطير بناء على طلبي. ~~- مولاي، إني عبدك معروف الإسكافي. ~~- أتدين لي بالطاعة يا معروف؟ # أجاب من حلق جاف: الله شهيد على ذلك. ~~- إني آمرك يا معروف! # نهض من مجلسه فتربع في وسط البهو .. ناجى ربه في سره: «ربي لتكن مشيئتك .. لا تدع كل ~~شيء يتلاشى كحلم» .. ومن قلب مكلوم يائس همس: ارتفع يا جسدي حتى تمس عمامتي السقف. # وأغمض عينيه مستسلما لمصيره الأسود. ولما لم يحدث شيء هتف من قلب معذب: «الرحمة يا ~~مولاي!» .. وقبل أن ينبس بكلمة أخرى دبت في قلبه حيوية ملهمة فخف وزنه وتلاشى خوفه .. ~~وإذا بالقوة المجهولة ترتفع به في هدوء ووقار وهو متربع على لا شيء، والسلطان يتابعه ~~مذهولا متخليا عن رصانته، مغلوبا على أمره .. حتى مست عمامته القبة المرجانية، ثم ~~مضى يهبط رويدا حتى استقر في مجلسه .. هتف السلطان: ما أتفه السلطنة! .. ما أتفه ~~الغرور! # ولم يستطع أن يعقب بكلمة؛ فقد فاق ذهوله ذهول السلطان نفسه! # 9 # عجز عجزا تاما عن إدراك ما يقع له .. وقد حاول أن يستغل قوته الخفية في داره فلم ~~تستجب له، ولكنه حمد الله على النجاة .. ليكن من أمر قوته ما يكون .. ولتختف ما شاءت ~~ما دامت تبادره بالنجاة في المواقف الحاسمة .. وطرد وساوسه وتوكل على الله .. وكان جالسا ~~في حديقة داره يتشمس عندما طلب مقابلته رجل غريب .. حسبه ذا حاجة فأمر بإحضاره .. قدم ~~عليه يرفل في عباءة فارسية فاخرة .. طويل العمامة، مهذب اللحية، مترفع ms122 النظر، فلم يداخله ~~شك في علو منزلته .. أجلسه بترحاب متسائلا: من الضيف الكريم؟ # فأجاب باقتضاب وبنبرة مثل طرقة المطرقة فوق معدن صلب: أنا صاحب هذا القصر! # فأخذ معروف وقال بحدة: أي هذيان؟! # فأعاد الرجل قوله بقوة أشد: إني صاحب هذا القصر. # فصاح به: إني صاحبه دون شريك. # تحداه بنظرة وقحة، وقال ما أنت إلا دجال محتال! # فصاح معروف غاضبا: مجنون وقح! ~~- لقد خدعت الجميع، حتى السلطان الأحمق، ولكنني أعرفك أكثر مما تعرف نفسك. # فقال منذرا: في وسعي أن أحولك إلى هشيم تذروه الرياح! # فقال ساخرا: إنك لا تحسن إلا رتق النعال أو إصلاحها، أتحداك أن تصنع بي ما ~~يضر! # غاص قلبه متراجعا ساحبا معه ثقته بنفسه، ولكنه تساءل بصوت خانته نبرته رغم تماسكه: ~~لعلك لم تسمع عن المعجزة في مقهى الأمراء؟ ~~- لم أسمع عنها؛ لأنني أنا الذي صنعتها، فلا تحاول خداعي، وأنا الذي أنقذتك من ~~العجز في حضرة السلطان. # توسل في سره إلى خاتم سليمان أن يمحق الرجل محقا .. ولما لم يحدث شيء انثنى ~~جذعه تحت ثقل اليأس فتساءل في خوف: من أنت؟ ~~- إني سيدك وولي نعمتك. # تأوه ولاذ بالصمت، فقال الآخر: بيدك أن تحفظ النعمة إذا شئت! # فسأله بصوت لا يكاد يسمع: ماذا تريد؟ # فقال بهدوء: اقتل عبد الله البلخي والمجنون! # فاجتاحه الرعب وقال بانكسار: إني أعجز من أن أقتل نملة! ~~- أدبر لك الوسيلة! ~~- لم تستعين بي وأنت القوي؟ ~~- لا شأن لك بذلك. # تذكر الشرك الذي سقط فيه فاضل .. تذكر مآسي صنعان الجمالي وجمصة البلطي .. قال ~~بضراعة: أستحلفك بالله أن تعفيني من مطالبك. # فقال الآخر ساخرا: ليس أسهل علي من أن أقنع الحاكم باحتيالك، إنهم لا يأمنون ~~جانبك، ويتمنون هلاكك ليتحرروا من استعبادك المهذب لهم، ستدعى سريعا لصنع معجزة ~~أمامهم، وإذا أخفقت - ولا بد أن تخفق - انقضوا عليك كالنمور. # تجلت في عينيه نظرة يائسة حزينة عمياء، ولكن الآخر لم يرحمه فقال: إني منتظر ~~رأيك. # فهتف بحدة: اغرب عن وجهي، لا أستطيع تركيز فكري في حضورك. # فقام قائلا: سأغيب عنك ms123 ساعة، وإذا لم تدعني جاء كبير الشرطة بديلا عني! # قال ذلك وذهب. # 10 # تركه في جحيم مستعر .. هو يقتل عبد الله البلخي والمجنون؟! أجل، إنه حريص ~~على النعمة ولكنه طيب وضعيف ومؤمن .. وتجاذبته التخيلات، ولكنه كان يتشبث دائما بالأرض ~~عند حافة الهاوية .. وفي ظلمات العذاب أشرق عليه خاطر سعيد .. لم لا يهرب بحسنية ~~والمال؟ واندفع نحو الدار فأمر زوجته بارتداء عباءتها، وعبأ نقوده في بقجة .. سألته ~~زوجته عما يعنيه ذلك، فأخبرها بأنها ستعرف السر عندما يصلان إلى بر الأمان .. وامتطيا ~~بغلتين وانطلقا وفي نيته أن يذهبا إلى مرفأ النهر .. لكنه رأى وهو يقترب من نهاية ~~الشارع خليل فارس كبير الشرطة قادما على رأس قوة من الجند. # 11 # انفجرت الفضيحة فدوت طبولها في أركان المدينة .. ومشى الرواة باعترافات معروف ~~الإسكافي في كل مكان .. اطمأنت قلوب وتدحرجت قلوب إلى الهاوية .. عرف أن النطع ~~سيستقبل معروف عما قليل وأنه سيلحق بفاضل صنعان، وعلاء الدين .. خرج الفقراء ~~والمساكين من أكواخهم إلى الميادين بلا تدبير .. اندفعوا وراء مشاعرهم القلقة الدفينة .. ~~وفي تجمع لا مثيل له .. وجدوا أنفسهم جسما عملاقا لا حدود له، يجأر بالاحتجاج والخوف ~~من المستقبل .. سيتلاشى معروف فيتلاشى الرزق وتكفهر لهم الوجوه من جديد، تبودلت أنات ~~الشكوى في هيئة همسات مبحوحة، ثم غلظت واحتدمت بالمرارة، ثم تلاطمت كالصخور، وبسبب من ~~القوة المتجسدة المخلوقة من عدم تأجج الغضب .. شعروا بأنهم سد منيع بتكتلهم، ~~وأنهم طوفان إذا اندفع: معروف بريء. ~~- معروف رحيم. ~~- معروف لن يموت. ~~- الويل لمن يمسه بسوء. # وما إن نادى صوت بالذهاب إلى دار الحاكم حتى اندفعت الجموع كأنها سيل ينصب من ~~فوق قمة جبل تبعث في الجو هديرا .. وعند أول شارع دار الإمارة اعترضهم الجنود ~~المدججون بالسلاح .. سرعان ما نشبت معركة بين السهام والزلط، تواصلت في عنف تحت غيم ينذر ~~بالمطر .. وقبيل الغروب دوت طبول وصاح مناد: كفوا عن الشغب .. مولانا السلطان قادم ~~بنفسه. # تحاجز الفريقان وساد الصمت .. جاء الموكب السلطاني في قوة كبيرة من الفرسان، ودخل ~~شهريار دار الإمارة محوطا برجال دولته .. استغرق ms124 التحقيق طيلة الليل .. وخرج المنادي ~~قبيل الفجر ورذاذ يتساقط في نعومة يغسل الوجوه المشتعلة بالقلق .. توقع العباد توقعات ~~كثيرة ولكن لم يبلغ بهم الخيال ما حصل .. صاح المنادي: جرت مشيئة السلطان بنقل الحاكم ~~إلى رياسة حي آخر، على أن يقلد ولاية الحي معروف الإسكافي! # تعالت الهتافات مدوية، وثمل العباد بالفوز المبين. # | السندباد # 1 # رفع معروف حاكم الحي - بكل خشوع - اقتراحا للسلطان بنقل سامي شكري كاتم السر، وخليل ~~فارس كبير الشرطة إلى حي آخر، على أن يتفضل السلطان بتعيين نور الدين كاتما للسر، ~~والمجنون كبيرا للشرطة باسم جديد هو «عبد الله العاقل» .. ومن عجب أن السلطان استجاب ~~له، ولو أنه سأله: أتطمئن حقا إلى المجنون كبيرا لشرطتك؟ # فقال معروف بثقة: كل الاطمئنان يا مولاي. # فدعا له بالتوفيق، ثم سأله: ماذا عن سياستك يا معروف؟ # فقال الرجل بتواضع: عشت عمري يا مولاي أصلح النعال حتى استقر الإصلاح في دمي. # وقد قلق الوزير دندان، فقال للسلطان عقب انصراف معروف: ألا ترى يا مولاي أن حكم ~~الحي أصبح بيد نفر لا خبرة لهم؟ # فقال السلطان بهدوء: دعنا نقدم على تجربة جديدة. # 2 # وكان رواد مقهى الأمراء يتسامرون في مرح يوافق ما طرأ على حيهم عندما ظهر في مدخل ~~المقهى رجل غريب، نحيل القامة مع ميل للطول، أسود اللحية، رشيقها، يستقر في عباءة ~~بغدادية، وعمامة دمشقية، ومركوب مغربي، وبيده مسبحة فارسية حباتها من اللؤلؤ ~~النفيس .. انعقدت الألسنة وانجذبت نحوه الأبصار .. وبالرغم من أنه غريب إلا أنه ~~أجال بينهم عينين باسمتين مشبعتين بألفة أهل الدار .. وعلى حين فجأة، وثب رجب الحمال ~~قائما وهو يصيح: سبحانك ربي، ما أنت إلا السندباد! # قهقه القادم بحبور، تلقى بين ذراعيه رفيقه القديم فتعانقا بحرارة .. وسرعان ما تلاقت ~~الأيدي في مصافحة صادقة، ثم مضى إلى موضع خال جنب المعلم سحلول ساحبا معه صديقه وهذا ~~يقاوم في حياء هامسا: هذا مكان السادة! # فقال السندباد: أنت وكيل أعمالي منذ الساعة! # وسأله شملول الأحدب: كم عاما مضت في غيابك يا سندباد؟ # فقال بحيرة: الحق أنني نسيت ms125 الزمن! # فقال عجر الحلاق: كأنها عشرة قرون! # فقال الطبيب عبد القادر المهيني: رأيت عوالم وعوالم، ماذا رأيت يا سندباد؟ # فنعم الرجل بالاهتمام كثيرا، ثم قال: لدي ما يسر ويفيد، وكل شيء بأوانه .. ~~صبركم حتى أستقر. # فقال عجر: نحدثك نحن عما وقع لنا! ~~- ماذا فعل الله بكم؟ # فأجابه حسن العطار: مات كثيرون فشبعوا موتا، وولد كثيرون لا يشبعون من الحياة. هبط ~~من الأعالي قوم وارتفع من القعر قوم، أثرى أناس بعد جوع، وتسول آخرون بعد عز، وفد على ~~مدينتنا عدد من أخيار الجن وأشرارهم، وآخر أخبارنا أن ولي حكم حينا معروف الإسكافي. # فهتف السندباد: حسبت الأعاجيب قاصرة على رحلاتي، الآن يحق لي العجب. # وقال إبراهيم السقاء: لا شك أنك أصبحت من الأغنياء يا سندباد! # فقال بامتنان: الله يهب الرزق لمن يشاء بغير حساب. # فسأله جليل البزاز: هلا حدثتنا عن أعجب ما صادفك؟ # فلوح بالمسبحة الفارسية قائلا: كل شيء مرهون بوقته، علي أن أبتاع قصرا، وأفتح ~~وكالة لعرض النوادر من نفائس الجبال وأعماق البحار ومجهول الجزر، وسأدعوكم قريبا لعشاء ~~أقدم فيه غرائب الأطعمة والأشربة، ثم أروي لكم رحلاتي العجيبة. # 3 # في الحال وقع اختياره على قصر بميدان الفرسان، فعهد إلى سحلول مهمة تأثيثه وتزيينه، ~~وفتح وكالة جديدة في السوق أشرف عليها من اليوم الأول رجب الحمال، وفي أثناء ذلك زار ~~الحاكم، وما إن خلا إليه حتى تعانقا عناق الرفاق القدامى .. وحكى له معروف حكايته بنفسه، ~~فحكى له ما شاهد وما وقع به في رحلاته السبع، وقال له السندباد بعذوبة: إنك أهل ~~لمنصبك. # فقال بإيمان: إني خادم الفقراء برعاية الله. # وزار معلم صباه الشيخ عبد الله البلخي، فقبل يديه، وقال له: لم أمكث في ~~رحابك إلا ما اقتضته التربية الأولية، ولكني ربحت منك كلمات أضاءت لي الظلام في ~~الملمات. # فقال الشيخ ملاطفا: لا جدوى من بذرة صالحة إلا في أرض طيبة. # فقال بحماس: لعلك راغب في سماع مغامراتي يا مولاي؟ # فقال الشيخ باسما: ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم من اتبع العلم واستعمله. ~~- ستجد ms126 فيها يا مولاي ما يسرك. # فقال بفتور: طوبى لمن كان همه هما واحدا، ولم يشغل قلبه بما رأت عيناه وسمعت ~~أذناه، ومن عرف الله فإنه يزهد في كل شيء يشغله عنه. # وتم له الاستقرار، ودعا أصحابه إلى الوليمة، وهناك روى لهم ما حدث له في رحلاته ~~السبع، ومنهم انتشر في الحي، ثم في المدينة، فهزت الأفئدة وأشعلت الأخيلة. # 4 # وذات يوم استدعاه حاكم الحي معروف وقال له: أبشر يا سندباد، مولانا السلطان شهريار ~~يرغب في رؤيتك. # فسر بذلك أيما سرور، ومضى من فوره إلى القصر بصحبة كبير الشرطة عبد الله العاقل ~~.. غير أنه لم يتشرف بالمثول بين يدي السلطان إلا أول الليل فذهبوا به إلى الحديقة ~~.. جلس حيث أجلس في ظلمة شاملة، وأنفاس الربيع تنفذ في أعماقه أخلاطا من روائح الزهور ~~تحت سقف يومض بالنجوم .. كان السلطان يتحدث بهدوء ولطف فاطمأن قلبه وزايلته الرهبة ~~وحل الأنس والحب .. سأله عن عمله الأول وعن حظه من العلوم وعما جعله يعزم على الرحلة ~~.. فأجاب بإيجاز يناسب المقام، وبصراحة وصدق .. قال شهريار: حدثني قوم عن رحلاتك، فرغبت ~~أن أسمع منك ما تعلمته منها إن كنت حظيت منها بعلم نافع، فلا تكرر إلا ما تقتضيه الضرورة. # فتفكر سندباد مليا، ثم قال: الله المستعان يا مولاي. ~~- إني مصغ إليك يا سندباد. # ملأ الرجل صدره بالأريج الطيب، ثم قال: تعلمت يا مولاي أول ما تعلمت أن الإنسان ~~قد ينخدع بالوهم فيظنه حقيقة، وأنه لا نجاة لنا إلا إذا أقمنا فوق أرض صلبة؛ فإنه ~~لما غرقت سفينتنا في رحلتنا الأولى سبحت متعلقا بلوح من ألواحها حتى اهتديت إلى جزيرة ~~سوداء، شكرنا الله، أنا ومن معي، وجلنا في أنحائها نفتش عن ثمرة، ولما لم نجد تجمعنا ~~على الشاطئ متعلقة آمالنا بأي سفينة تعبر .. وما ندري إلا وأحدنا يصيح: الأرض ~~تتحرك! # نظرنا فوجدناها تميد بنا فركبنا الفزع، وإذا بآخر يصيح: الأرض تغرق. # أجل، كانت تغوص في الماء! ورميت بنفسي في الماء .. وضح لنا أن ما ظنناه أرضا لم يكن ~~إلا ظهر ms127 حوت كبير، أزعجته حركتنا فوقه فمضى إلى عالمه يحف به الجلال .. وسبحت مسلما ~~أمري للمقادر حتى ارتطمت يداي بصخور، ومنها زحفت إلى جزيرة حقيقية يجري فيها الماء ~~وتكثر الفاكهة، عشت بها زمنا حتى مرت بي سفينة فنجوت بها. # فتساءل السلطان: وكيف تفرق بين الوهم والحقيقة؟ # فقال بعد تردد: علينا أن نستعمل ما وهبنا الله من حواس وعقل. # فهز السلطان رأسه، وقال: استمر يا سندباد. # فقال السندباد: تعلمت أيضا يا مولاي أن النوم لا يجوز إذا وجبت اليقظة، وأنه ~~لا يأس مع الحياة؛ فقد ارتطمت السفينة بصخور ناتئة فتحطمت وانتقل من عليها إلى ~~جزيرة، جزيرة جرداء لا ماء فيها ولا شجر، ولكننا حملنا معنا أغذية وقرب مياه، ورأيت ~~صخرة كبيرة على مبعدة يسيرة فقلت أنام في ظلها ساعة .. ونمت، وصحوت فلم أجد لإخواني ~~أثرا، ناديت فلم أسمع مجيبا، عدوت نحو الشاطئ فرأيت سفينة تنحدر وراء الأفق، ~~ورأيت الأمواج تهدر منشدة نشيد اليأس والموت، أدركت أنها انتشلت أصحابي، وأنهم في ~~نشوة النجاة نسوا صاحبهم النائم وراء الصخرة، لا نأمة تصدر عن حي، ولا شيء يعلو عن ~~سطح الأرض الجرداء إلا الصخرة، ولكن أي صخرة؟! نظرت بعيني اللتين أحدهما الفزع فتبين لي ~~أنها بيضة لا صخرة كما بدت لعيني المرهقتين، بيضة في حجم بيت كبير، بيضة أي ~~طائر؟! ودهمني الفزع من ذاك العدو المجهول وأنا أغوص في خلاء الموت البطيء .. وإذا بنور ~~الشمس ينطفئ وينتشر جو أسمر كالمغيب فرفعت بصري فرأيت كائنا كالنسر ولكنه يفوقه في ~~الحجم مئات المرات، رأيته يهبط وئيدا حتى يرقد فوقها، أدركت أنه يحتويها ليطير بها، ~~فخطرت لي فكرة جنونية فربطت نفسي في طرف ساقه الشبيه بالصاري، وحلق بي طائرا فوق ~~الأرض، فبدا لعيني كل شيء صغيرا تافها، كأنما لا ينبض به أمل أو ألم، حتى حط فوق ~~قمة جبل، ففككت رباطي وزحفت إلى ما وراء شجرة فارعة لم أر مثلها من قبل، واستراح ~~الطائر ساعة ثم واصل رحلته نحو المجهول فقهرني النوم، ولما استيقظت كانت الشمس تشتعل في ms128 ~~الضحى، التهمت من حشائش الأرض ما أسكت جوعي ورويت عطشي من نقرة مترعة بماء صاف، عند ~~ذاك انتبهت إلى أن الأرض تعكس إشعاعا يبهر البصر، فتفحصته فتكشف لي سطح الأرض عن ماس ~~حر، وتحرك طموحي رغم تعاستي، فقلعت منه ما استطعت وصررته في سروالي، وانحدرت فوق السطح ~~حتى انتهيت إلى شاطئ، حيث أنقذتني سفينة عابرة. # قال شهريار بهدوء: إنه الرخ الذي نسمع عنه ولا نراه، إنك أول إنسان يسخره ~~لأغراضه يا سندباد، فاعلم ذلك أيضا. # فقال سندباد بحياء: إنها مشيئة الله المتعال. # ثم واصل حديثه قائلا: تعلمت أيضا يا مولاي أن الطعام غذاء عند الاعتدال ومهلكة ~~عند النهم، ويصدق على الشهوات ما يصدق عليه؛ فقد تحطمت السفينة كسابقتها فوجدنا أنفسنا ~~في جزيرة يحكمها ملك عملاق لكنه كريم مضياف، رحب بنا ترحيبا فاق جميع آمالنا، ولم يكن ~~لنا في كنفه إلا الاسترخاء والسمر، وقد قدم لنا من صنوف الطعام وألوانه ما لا يخطر ~~ببال، فأقبلنا على الطعام كالمجانين، غير أن كلمات قديمة تلقيتها في صباي عن مولاي ~~الشيخ عبد الله البلخي صدتني عن الإفراط ويسرت لي وقتا طويلا للعبادة، على حين أنفق ~~أصحابي وقتهم في التهام الطعام والنوم الثقيل في أعقاب الامتلاء، فازداد وزنهم زيادة ~~فظيعة واكتظوا باللحم والدهن، فانقلبوا كالبراميل .. وجاء الملك ذات يوم فتأملنا رجلا ~~رجلا، ثم دعا أصحابي إلى قصره والتفت إلي قائلا في ازدراء: إنك كالأرض الصخرية ~~لا تثمر. # فحزنت لذلك .. وخطر لي أن أتسلل بليل لأرى ما يفعل أصحابي، فرأيت رجال الملك وهم ~~يذبحون الربان، ويقدمونه للملك فالتهمه بوحشية وتلذذ .. فطنت في الحال إلى سر كرمه، ~~وهربت إلى الشاطئ حتى أنقذتني سفينة. # تمتم السلطان: أبقاك تورعك يا سندباد. # ثم قال وكأنما يحادث نفسه: ولكن الملك أيضا في حاجة إلى الورع! # استبقى السندباد صدى تعليق السلطان دقيقة، ثم واصل حديثه قائلا: تعلمت أيضا يا مولاي ~~أن الإبقاء على التقاليد البالية سخف ومهلكة؛ فقد غرقت السفينة وهي في طريقها إلى ~~الصين، فلذت ومعي نفر من المسافرين إلى جزيرة ms129 غنية معتدلة الجو يسودها السلام ~~ويحكمها ملك طيب، وقال لنا: سأعتبركم ضمن رعاياي. لكم ما لهم، وعليكم ما عليهم. # فسررنا بذلك ودعونا له .. ومبالغة في إكرامنا وهبنا من جواريه زوجات جميلات .. فطابت ~~لنا الحياة وتيسرت المعيشة .. وحدث أن توفيت إحدى الزوجات فجهزها الملك للدفن، وقال ~~لصاحبنا الأرمل: يؤسفني فراقك، فإن تقاليدنا تقضي بدفن الزوج حيا مع زوجته الميتة، ~~وهو يجري على الزوجة إذا سبقها الزوج إلى النهاية. # فارتعب صاحبنا، وقال للملك: ولكن ديننا لا يكلفنا بذلك. # ولكن الملك قال له: لا شأن لنا بدينكم، وتقاليدنا مقدسة. # ودفن الرجل حيا مع جثمان زوجته، فتكدر صفونا، وتجهم لنا المستقبل .. وجعلت أراقب ~~زوجتي مشفقا، وكلما اشتكت توعكا خفيفا زلزل كياني كله .. وعندما جاءها المخاض ساءت ~~حالتها فما كان منى إلا أن هربت إلى الغابة حتى عبرت سفينة ذات يوم قريبا من الشاطئ ~~فألقيت بنفسي في الماء، وسبحت نحوها وأنا أستغيث، حتى انتشلتني وأنا على وشك الغرق. # فغمغم السلطان وكأنما يخاطب نفسه: التقاليد هي الماضي، ومن الماضي ما يجب أن يصبح ~~في خبر كان! # خيل إليه أن لحديث السلطان بقية فآوى إلى الصمت، غير أن شهريار قال: استمر يا ~~سندباد. # قال السندباد: تعلمت أيضا يا مولاي أن الحرية حياة الروح، وأن الجنة نفسها لا ~~تغني عن الإنسان شيئا إذا خسر حريته؛ فقد لقيت سفينتنا عاصفة أودت بها، فلم ~~ينج من رجالها أحد سواي .. قذف بي الموج إلى جزيرة فيحاء، معتدلة الجو، غنية بالثمار ~~والجداول، فشبعت، وارتويت، واغتسلت، ومضيت في جنباتها مستطلعا، فصادفني عجوز ملقى ~~تحت شجرة، لا حول له ولا قوة، فتوسل إلي قائلا: إني عاجز كما ترى، فهلا حملتني إلى ~~كوخي؟ # وأشار بذقنه ناحية فما ترددت عن حمله .. ورفعته فوق منكبي، وسرت به إلى حيث أشار .. لم ~~أعثر لكوخه على أثر فسألته: أين مأواك يا عم؟ # فقال بصوت قوي غير الذي خاطبني به أول مرة: الجزيرة مأواي، وهي جزيرتي، ولكني في حاجة ~~إلى من يحملني! # فأردت إنزاله عن كاهلي، ولكني عجزت عن زحزحة ms130 رجليه عن عنقي وضلوعي، كأنما هو بناء ~~مثبت بالحديد، فتوسلت إليه بدوري: اتركني وستجدني عند الحاجة في خدمتك. # ولكنه ضحك ساخرا مني متجاهلا لتوسلاتي .. هكذا قضى علي أن أعيش عبدا له، فلم يطب ~~لي صحو ولا نوم، ولم أهنأ بلذيذ المأكل والمشرب، حتى خطرت لي فكرة فجعلت أعصر عنبا في ~~نقرة، وتركته حتى تخمر، ثم أسقيته منه حتى سكر، وتراخت عضلاته الفولاذية فرميته عن ~~كاهلي، وتناولت حجرا فحطمت به رأسه وأنقذت العالم من شره .. وسكنت في الجزيرة زمنا ~~سعيدا لم أدره حتى أنقذتني سفينة. # فتنهد شهريار قائلا: ما أكثر ما يستعبدنا في هذه الدنيا! ماذا تعلمت أيضا ياسندباد؟ # فقال السندباد: أيضا تعلمت يا مولاي أن الإنسان قد تتاح له معجزة من المعجزات ولكن ~~لا يكتفي بأن يمارسها ويستعلي بها، وإنما عليه أن يقبل عليها مستهديا بنور من الله ~~يضيء قلبه؛ فقد غرقت السفينة كسابقاتها ولذت أنا بجزيرة تستحق أن أدعوها بجزيرة ~~الأحلام .. جزيرة غنية بالحسان من كل لون وشكل .. مال قلبي إلى إحداهن فتزوجت منها ~~وسعدت بها .. ولما اطمأن القوم إلي ركبوا تحت إبطي ريشا وأخبروني بأنني أستطيع أن ~~أطير وقتما أشاء .. وسررت بذلك جدا وتوثبت لاقتحام التجربة التي لم يجربها إنسان قبلي ~~.. غير أن زوجتي قالت لي سرا: احذر أن تذكر اسم الله وأنت في الجو وإلا ~~احترقت! # وفي الحال أدركت أن دم الشيطان يجري في دمائهم، فنفرت منهم وطرت مصمما على الهرب، ~~وسبحت في الجو طويلا ولا هدف لي إلا مدينتي حتى بلغتها بعد أن آيست من ذلك، فالحمد لله ~~رب العالمين. # صمت الملك مليا، ثم قال: لقد رأيت من عجائب الدنيا ما لم تره عين بشر، وتعلمت ~~دروسا عن معاناة وخبرة، فاهنأ بما رزقك الله من مال وحكمة. # 5 # قام شهريار وصدره يجيش بانفعالات طاغية .. غاص في الحديقة فوق الممشى الملكي شبحا ~~ضئيلا وسط أشباح عمالقة تحت نجوم لاحصر لها ولا حد .. أطبقت على أذنيه أصوات ~~الماضي فمحت ألحان الحديقة، هتاف النصر، زمجرة الغضب، أنات العذارى، هدير ~~المؤمنين ms131 ، غناء المنافقين .. نداءات اسمه من فوق المنابر .. تجلى له زيف المجد الكاذب ~~كقناع من ورق متهرئ لا يخفي ما وراءه من ثعابين القسوة والظلم والنهب والدماء .. ~~لعن أباه وأمه، وأصحاب الفتاوى المهلكة، والشعر والشعراء، وفرسان الباطل، ولصوص ~~بيت المال، وعاهرات الأسر الكريمة، والذهب المنهوب المهدر في الأقداح، ~~والعمائم والجدران والمقاعد والقلوب الخاوية، والنفس المنتحرة، وضحكات الكون ~~الساخرة. # ورجع من رحلته عند منتصف الليل، فاستدعى شهرزاد فأجلسها إلى جانبه وهو يقول: ما أشبه ~~حكايات سندباد بحكاياتك يا شهرزاد! # فقالت شهرزاد: جميعها تصدر عن منبع واحد يا مولاي. # صمت كأنما لينصت إلى همس الغصون وزقزقة العصافير، فتساءلت شهرزاد: هل ينوي مولاي ~~الخروج إلى إحدى جولاته الليلة؟ # فقال بفتور: كلا. # ثم بصوت منخفض: أوشكت أن أضجر من كل شيء. # فقالت بإشفاق: الحكيم لا يضجر يا مولاي. # فتساءل بامتعاض: أنا؟! .. الحكمة مطلب عسير، إنها لا تورث كما يورث العرش. ~~- المدينة اليوم تنعم بحكمك الصالح. ~~- والماضي يا شهرزاد؟ ~~- التوبة الصادقة تمحق الماضي. ~~- وإن حفل بقتل الفتيات البريئات والأفذاذ من أهل الرأي؟ # فقال بصوت متهدج: التوبة الصادقة. # ولكنه قاطعها: لا تحاولي خداعي يا شهرزاد. ~~- ولكني يا مولاي أقول الحق. # فقال بخشونة وحزم: الحق أن جسمك مقبل وقلبك نافر. # فزعت .. كأنما تعرت في الظلام، هتفت محتجة: مولاي. ~~- لست حكيما ولكنني لست أحمق أيضا، طالما لمست احتقارك ونفورك. # تمزقت نبراتها وهي تقول: علم الله ... # لكنه قاطعها: لا تكذبي، ولا تخافي، لقد عاشرت رجلا غارقا في دماء الشهداء. ~~- كلنا نلهج بحسناتك. # فقال دون مبالاة بقولها: أتدرين لم أبقيت عليك قريبا مني؟ لأني وجدت في ~~نفورك عذابا متواصلا أستحقه، أما ما يحزنني فهو أنني أومن بأنني أستحق جزاء ~~أشد. # فلم تتمالك أن بكت، فقال برقة: ابكي يا شهرزاد؛ فالبكاء أفضل من الكذب. # هتفت: لا أستطيع أن أتقلب في نعمتك بعد الليلة. # فقال محتجا: القصر قصرك، وقصر ابنك الذي سيحكم المدينة غدا، أنا الذي يجب أن أذهب ~~حاملا ماضي الدامي. ~~- مولاي! ~~- على مدى عشر سنوات عشت ممزقا بين الإغراء والواجب، أتذكر ms132 وأتناسى، أتأدب وأفجر، ~~أمضي وأندم، أتقدم وأتأخر، أتعذب في جميع الأحوال، آن لي أن أصغي إلى نداء الخلاص، ~~نداء الحكمة. # قالت بنبرة اعترافية: إنك تنبذني وقلبي يتفتح لك. # فقال بصرامة: لم أعد أبحث عن قلوب البشر. ~~- إنه قضاء معاكس يعبث بنا. ~~- علينا أن نرضى بما قدر لنا. # فقالت بمرارة: مكاني الطبيعي هو ظلك. # فقال بهدوء لا يتأثر بالانفعالات: السلطان يجب أن يذهب بما فقد من أهلية، أما ~~الإنسان فعليه أن يجد خلاصه. ~~- إنك تعرض المدينة لأهوال. ~~- بل إني أفتح لها باب النقاء وأهيم على وجهي باحثا عن خلاصي. # مدت راحتها إلى راحته في الظلام، لكنه سحب يده قائلا: انهضي لمهمتك، لقد أدبت ~~الأب، وعليك أن تعدي الابن لمصير أفضل. # 6 # ظن السندباد أنه سينعم بمسرات العمل والسمر حتى نهاية العمر، ولكنه رأى حلما .. ~~ولما استيقظ لم ينس الحلم ولم يتلاش أثره .. ما هذا الحنين؟ هل قدر له أن يمضي ~~العمر تتقاذفه أمواج البحار؟ من ذا الذي يناديه من وراء الأفق؟ أيريد من الدنيا أكثر ~~مما أعطته؟ أغلق وكالته مساء ومضى إلى دار عبد الله البلخي وهو يقول: عنده الرأي .. ~~ولمح في طريقه إلى حجرة الشيخ زبيدة ابنته فمادت به الأرض واجتاحه هدف جديد ~~للزيارة لم يخطر بباله من قبل .. وجد الشيخ ووجد معه الطبيب عبد القادر المهيني .. جلس ~~حائرا مترددا، ثم قال: جئت يا مولاي طالبا يد كريمتكم. # فثقبه الشيخ بنظرة باسمة، وقال: كلا، دفعك للمجيء دافع آخر! # فبهت السندباد ولم ينبس .. فقال الشيخ: ابنتي مذ قتل زوجها علاء الدين قد كرست ~~نفسها للطريق. # فتمتم السندباد: الزواج لا يصد عن الطريق. ~~- قالت كلمتها النهائية في ذلك! # تنهد السندباد آسفا، فسأله الشيخ: ماذا دفعك إلي يا سندباد؟ # فأطال الصمت كفاصل بين الادعاء والحقيقة، ثم همس: القلق يا مولاي. # فتساءل عبد القادر المهيني: هل أصاب تجارتك الكساد؟ # فقال السندباد: إنه قلق من لا يجد سببا ملموسا للقلق. # فقال الشيخ: أفصح يا سندباد. ~~- كأنما تلقيت دعوة من وراء البحار! # فقال عبد القادر المهيني ببساطة ms133 : سافر؛ ففي الأسفار سبع فوائد. # فقال السندباد: رأيت في الحلم الرخ يرفرف بجناحيه. # فقال الشيخ: لعلها دعوة إلى السماء. # فقال في تسليم: إني من رجال البحر والجزر. # فقال الشيخ: اعلم أنك لا تنال درجة الصالحين حتى تجوز ست عقبات، أولاها أن تغلق باب ~~النعمة وتفتح باب الشدة، والثانية أن تغلق باب العز وتفتح باب الذل، والثالثة أن تغلق ~~باب الراحة وتفتح باب الجهد، والرابعة أن تغلق باب النوم وتفتح باب السهر، والخامسة أن ~~تغلق باب الغنى وتفتح باب الفقر، والسادسة أن تغلق باب الأمل وتفتح باب الاستعداد للموت. # فقال بأدب: لست من هؤلاء الصفوة، ولكن باب الصلاح يتسع لآخرين. # فقال الطبيب عبد القادر المهيني: نطقت بالصدق. # فقال الشيخ للسندباد: إذا أردت أن تكون في راحة فكل ما أصبت، والبس ما وجدت، ~~وارض بما قضى الله عليك. # فقال السندباد: حسبي أني أعبد الله يا مولاي. # فقال الشيخ: اطلع الله على قلوب أوليائه؛ فمنهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة حرفا ~~فشغلهم بالعبادة. # فقال الطبيب مخاطبا الشيخ: لقد رأى وسمع، إني أغبطه. # فقال الشيخ: طوبى لمن كان همه هما واحدا، ولم يشغل قلبه بما رأت عيناه وسمعت ~~أذناه. ~~- انهمرت النداءات من ألف عجيبة وعجيبة. # فردد الشيخ: # أنا في الغربة أبكي # ما بكت عين غريب # لم أكن يوم خروجي # من بلادي بمصيب # عجبا لي ولتركي # وطنا فيه حبيبي # فنظر المهيني إلى الشيخ مليا، ثم قال: إنه راحل يا مولاي فودعه بكلمة ~~طيبة! # فابتسم الشيخ برقة، وقال للسندباد: إذا سلمت منك نفسك فقد أديت حقها، وإذا سلم منك ~~الخلق فقد أديت حقوقهم. # فهوى السندباد على يده فقبلها، ثم نظر إلى الطبيب ممتنا، وهم بالقيام غير أن ~~الطبيب وضع يده على منكبه وقال: اذهب مصحوبا بالسلامة، ثم عد محملا بالماس ~~والحكم، ولكن لا تكرر الخطأ. # فتجلت في عيني السندباد نظرة حيرى، فقال المهيني: لم يطر الرخ بإنسان قبلك، ~~فماذا فعلت؟ تركته عند أول فرصة منجذبا ببريق الماس. ~~- بل لم أكد أصدق بالنجاة. # فقال المهيني بحماس ms134 : الرخ يطير من عالم مجهول إلى عالم مجهول، ويثب من قمة الواق إلى ~~قمة قاف فلا تقنع بشيء؛ فهي مشيئة ذي الجلال! # وكأن السندباد قد شرب عشرة أرطال من الخمر. # | البكاءون # 1 # هجر العرش والجاه والمرأة والولد .. عزل نفسه مقهورا أمام ثورة قلبه، في وقت تناسى ~~فيه شعبه آثامه القديمة الماضية .. اقتضت تربيته زمنا غير قصير .. لم يقدم على ~~الخطوة الحاسمة حتى استفحل في باطنه الخوف وهيمنت رغبته في الخلاص .. غادر قصره بليل، ~~عليه عباءة خفيفة وبيده عصا، مستسلما للمقادير .. أمامه سبيل للسياحة كما فعل السندباد، ~~وسبيل إلى دار البلخي، وثمة مهلة للتدبر .. قادته قدماه إلى الخلاء قريبا من ~~اللسان الأخضر فترامى إلى أذنيه صوت غريب .. أنصت تحت هلال في السماء الصافية فأيقن ~~من أنه يسمع نحيبا جماعيا! .. قوم يبكون في هذا الخلاء؟ مضى نحو مصدر الصوت في حذر ~~حتى استقر وراء نخلة .. رأى صخرة كالقبة، ورجالا يتربعون حيالها في خط مستقيم .. لا ~~يكفون عن البكاء .. ثار فضوله وتناوبته الأفكار .. وإذا برجل منهم ينهض فيمضي إلى ~~الصخرة وينهال عليها ضربا بقبضته، ثم يرجع إلى مجلسه ويواصل البكاء مع الباكين .. ~~أحد شهريار بصره فعرف في الرجال جملة من رعاياه السابقين، سليمان الزيني، والفضل ~~بن خاقان، وسامي شكري، وخليل فارس، وحسن العطار، وجليل البزاز .. فكر أن يقتحم ~~مجلسهم ليكشف سرهم، ولكن الحذر شده إلى موقفه .. وقبيل الفجر قام أحدهم وقال: آن لنا ~~أن نرجع إلى دار العذاب! # فكفوا عن البكاء وقاموا وهم يتواعدون على اللقاء غدا، ثم مضوا نحو المدينة ~~كالأشباح. # 2 # ما معنى هذا؟ # اقترب من الصخرة .. دار حولها دورة كاملة .. ما هي إلا صخرة في صورة قبة غير مستوية يمر ~~بها العابر فلا تثير اهتمامه .. دنا منها فتحسس سطحها فوجده خشنا .. هوى عليه بقبضته ~~مرات، ثم هم بالتحول عنها عندما صدر منها إليه صوت قوي متحرك .. تكشف أسفلها ~~عن مدخل مقوس الهامة فتراجع مرتعدا من الخوف، لكنه رأى نورا هادئا عذبا، ~~ونسمت رائحة زكية مخدرة .. زايله الخوف بتلقائية، وقال له صوت خفي ms135 : إن ~~هذا الباب هو ما تاق الرجال إلى فتحه وما أحرقوا الدموع من أجله .. اقترب منه، أدخل ~~رأسه متطلعا فجذبته فتنة طاغية .. ما كاد يدخل حتى أغلق الباب وراءه ولكن فتنة المكان ~~استحوذت عليه كله .. منير بلا ضوء .. عذب المناخ بلا نافذة، متضوع بشذا طيب بلا ~~حديقة .. أرضه بيضاء ناصعة قدت من معدن مجهول، جدرانه زمردية، سقفه مزركش بمهرجان من ~~الألوان المتناغمة، في نهايته بوابة متلألئة كأنما طعمت بالماس، مضى بلا تردد ~~متناسيا ما وراءه، ظن أنه سيبلغ البوابة في دقيقة أو دقيقتين، ولكنه مشى ~~طويلا والممر باق على حاله لا يقصر، والفتنة من الجوانب تتدفق .. أشفق من أن يكون ~~طريقا بلا نهاية، لكنه لم يفكر في الرجوع ولا في التوقف، وطاب له المشي العقيم إلى ~~الأبد .. ولما أوشك أن ينسى أن لمشيه غاية، وجد نفسه يقترب من بركة صافية تقوم فيما ~~وراءها مرآة مصقولة، وسمع صوتا يقول: افعل ما بدا لك. # سرعان ما لبى رغائبه الطارئة، فخلع ملابسه وغاص في الماء .. دلكته نبضات الماء ~~بأنامل ملائكية وتسللت إلى باطنه أيضا .. خرج من الماء فوقف أمام المرآة، فرأى نفسه ~~جديدا في إهاب فتى أمرد، قوي الجسم، متناسقه، بوجه مليح، ينضح فتوة وشبابا، ~~وشعر أسود مفروق، وقد طر بالكاد شاربه .. همس: سبحان القادر على كل شيء! # والتفت إلى ملابسه فوجد بديلها سروالا من الحرير الدمشقي، وعباءة بغدادية، وعمامة ~~خراسانية، ونعلا مصريا، فارتداها، فصار آية تسر الناظرين. # وواصل السير فوجد نفسه أمام البوابة، ووجد أمامها صبية ملائكية لم يرها من قبل، سألته ~~باسمة: من أنت؟ # فأجاب بحيرة: شهريار. ~~- ما صناعتك؟ ~~- هارب من ماضيه. ~~- متى تركت بلدتك؟ ~~- منذ ساعة على الأكثر. # فما تمالكت أن ضحكت قائلة: ما أضعفك في الحساب! # وتبادلا نظرة طويلة، ثم قالت الصبية: انتظرناك طويلا، المدينة كلها تنتظرك. # فتساءل في دهشة: أنا؟! ~~- تنتظر العريس الموعود لملكتها المعظمة. # وأشارت بيدها، ففتحت البوابة، مرسلة صوتا كأنين الرباب. # 3 # وجد شهريار نفسه في مدينة ليست من صنع بشر، كأنها الفردوس جمالا وبهاء وأناقة، ~~ونظافة ms136 ورائحة ومناخا، تترامى بها في جميع الجهات العمائر والحدائق، والشوارع ~~والميادين المكللة بشتى الأزهار، وتنتشر فوق أديمها الزعفراني البرك والجداول، ~~سكانها نساء، لا رجل بينهن، ونساؤها شباب، وشبابها جمال ملائكي .. وانتبهن إلى القادم، ~~فهرعن إلى الطريق الملكي المؤدي إلى القصر، وسجدن بين يديه، وهن ينشدن نشيد الشكر ~~.. ومضى هو مع الصبية إلى القصر. # 4 # انبهر بالقصر كأنه أحد صعاليك شعبه .. آمن بأن قصره القديم لم يكن سوى كوخ قذر .. ~~قادته الصبية إلى قاعة العرش .. الملكة تضيء على عرشها بين جناحين من صبايا كاللآلئ. # سجدت الصبية بين يدي الملكة وقالت: عريسك الموعود يا صاحبة الجلالة. # ابتسمت الملكة ابتسامة أفقدته لبه .. سجد بدوره وهو يقول: ما أنا إلا عبد مولاتي. # فقالت الملكة بصوت عذب كأجمل الألحان: بل أنت شريكي في الحب والعرش. # فقال بصدق وأمانة: يقتضي الواجب أن أصارحك بأنني عشت في الماضي حياة طويلة ~~حتى شارفت الشيخوخة. # فقالت الملكة بعذوبة: لا أدري عما تتحدث. ~~- إني أتحدث عن قبضة الزمن يا مولاتي. # فقالت بسرور: ما عهدنا الزمن إلا صديقا وفيا، لا يطغى ولا يغدر. # فغمغم شهريار: سبحان الله القادر على كل شيء! # واحتفلت المدينة بالزواج أربعين يوما. # 5 # ومضى الوقت في حب وتأمل، وللعبادة أيضا وقتها، وهي تمارس في الشراب والغناء ~~والرقص. # وتبين لشهريار أنه بحاجة إلى ألف عام لاكتشاف خبايا الحديقة وإلى ألف عام أو أكثر ~~لمعرفة أبهاء القصر وأجنحته .. ويوما - وكان بصحبته الملكة - مر بباب صغير من الذهب ~~الخالص، في قفله مفتاح من الذهب المحلى بالماس، التصقت به بطاقة كتب ~~عليها بخط أسود «لا تقرب هذا الباب» فسأل الملكة: لم هذا التحذير يا حبيبتي؟ # قالت بعذوبتها المألوفة: نحن نعيش ها هنا في حرية مطلقة؛ فمجرد النصيحة يعتبر في ~~عرفنا إهانة لا تغتفر. ~~- ألم يصدر منك كأمر ملكي؟ # فقالت بهدوء: صيغة الأمر غير مستعملة عندنا إلا في الحب، وقد وجد كما تراه منذ ~~ملايين السنين! # 6 # وسأل زوجته مرة وهو يداعبها: متى يكون لنا وليد؟ # فتساءلت في ذهول: أتفكر في ذلك ولما يمض على ms137 زواجنا إلا مائة عام؟! ~~- مائة عام فقط؟ ~~- بلا زيادة يا حبيبي. # فتمتم: حسبتها أياما معدودة. # قالت بأسف: لم يمح الماضي من رأسك بعد. # قال كالمعتذر: إني سعيد على أي حال سعادة لم يعرفها آدمي من قبل .. فقبلته ~~قائلة: ستعرف السعادة الحقيقية عندما تنسى الماضي تماما. # 7 # وكلما مر بالباب المحرم نظر نحوه باهتمام، وكلما غاب عن الجناح القائم به رجع ~~إليه .. ألح على فكره ووجدانه، وجعل يقول لنفسه: كل شيء واضح إلا هذا الباب! # 8 # وضعفت مقاومته ذات يوم فاستسلم لنداء خفي .. انتهز غفلة من الخادمات، فأدار المفتاح ~~.. انفتح الباب بيسر عن نغم ساحر، وشذا طيب، ودخل مضطرب القلب، كبير الأمل، انغلق ~~الباب، فتجلى له مارد لم ير أقبح منه .. انقض عليه فرفعه بين يديه كعصفور .. هتف شهريار ~~نادما: دعني بربك! # وكأنما قد استجاب له فأرجعه إلى الأرض. # 9 # نظر فيما حوله بجنون، وتساءل: أين أنا؟! # الصحراء والليل والهلال والصخرة والرجال والنحيب المتواصل، شهريار وعصاه وهواء ~~المدينة الفاسد .. صرخ من قلب مكلوم: # هوى بقبضته على الصخرة مرات حتى بض الدم منها، ثم هتف: الرحمة .. الرحمة. # ولكن دهمته الحقيقة واجتاحه اليأس .. تقوس ظهره وطعن في السن .. ودون اختيار مضى نحو ~~الرجال بخطى متعثرة، وارتمى في آخر الصف .. وسرعان ما انخرط في البكاء مثلهم تحت الهلال. # 10 # قبيل الفجر ذهب الرجال كالعادة، ولكنه لم يذهب ولم يكف أيضا عن البكاء .. وإذا برجل ~~يمضي في الليل وحيدا، فاقترب منه، وسأله: ماذا يبكيك يا رجل؟ # فقال شهريار بضيق: لا شأن لك بذلك. # فقال الآخر وهو يتفرس في وجهه بإمعان: إني كبير الشرطة، وما جاوزت حدودي. # قال شهريار: لن تعكر دموعي صفو الأمن! # فقال عبد الله العاقل وهو يتمادى في تفرس وجهه: دع هذا لتقديري وأجبني. # صمت شهريار مليا، ثم قال، وكأنما غفل عن الموقف كله: جميع الكائنات تبكي من ألم ~~الفراق! # فسأله وهو يبتسم ابتسامة غامضة: أليس لك مأوى؟ ~~- كلا. ~~- هل يطيب لك أن تقيم تحت النخلة قريبا من اللسان الأخضر؟ # فقال دون مبالاة: ربما. # قال الرجل برقة ms138 : إليك قول رجل مجرب، قال: «من غيرة الحق أن لم يجعل لأحد إليه ~~طريقا، ولم يؤيس أحدا من الوصول إليه، وترك الخلق في مفاوز التحير يركضون، وفي ~~بحار الظن يغرقون، فمن ظن أنه واصل فاصله، ومن ظن أنه فاصل مناه، فلا وصول إليه ~~ولا مهرب عنه، ولا بد منه» # قال عبد الله العاقل ذلك، ثم ذهب صوب المدينة. ms139