######OpenITI# #META# URI: 1434CabdGhaffarMakkawi.ZaytunaWaSindiyana.Hindawi40268630 #META# Tags: biographies :: poetry #META# ID: 40268630 #META# Title: الزيتونة والسنديانة: مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه: هكذا تكلم عبد الله #META# AuthorID: 46308160 #META# Author: عبد الغفار مكاوي #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # تمهيد‏ # 1 - غربة في الوطن‏ # 2 - عناق خطوط الطول‏ # 3 - وطن في الغربة‏ # 4 - هكذا تكلم عبد الله‏ # 5 - هكذا يريدوننا‏ # 6 - حوار مع عادل قرشولي‏ # 7 - هكذا تكلم عبد الله‏ # 8 - قصائد مختارة‏ # قائمة بأهم مؤلفات الشاعر ومترجماته‏ # تمهيد‏ # 1 - غربة في الوطن‏ # 2 - عناق خطوط الطول‏ # 3 - وطن في الغربة‏ # 4 - هكذا تكلم عبد الله‏ # 5 - هكذا يريدوننا‏ # 6 - حوار مع عادل قرشولي‏ # 7 - هكذا تكلم عبد الله‏ # 8 - قصائد مختارة‏ # قائمة بأهم مؤلفات الشاعر ومترجماته‏ # | الزيتونة والسنديانة # | الزيتونة والسنديانة # | مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه: هكذا ~~تكلم عبد الله # تأليف # عبد الغفار مكاوي # | تمهيد # (أ) زيتونة وسنديانة. # ربما كانت هذه الاستعارة هي أصدق وصف لحياة «عادل سليمان قرشولي»، ~~وإنجازه الأدبي والثقافي، ورسالته التي كرس لها جهوده ووهبها وجوده، ~~هذا الشاعر السوري الأصل الذي يعيش ويوجد نفسه يعامل ممنعمل ويعلم ~~ويبدع، ويشارك مشاركة فعالة في الحياة الشعرية والثقافية في مدينة ~~«ليبزيج» الألمانية منذ ما يقرب من أربعين عاما متصلة. # إنه شجرة زيتون في دمشق، وشجرة سنديان تضرب جذورها في ليبزيج، ~~والشجرتان اللتان تتعانق أغصانهما وتتشابك في الضلوع، تلقيان ~~ظلالهما الندية فوق مدينتين، وأدبين، ولغتين، وتراثين، وحضارتين، ~~وتقيمان جسور المودة والحوار والتفاهم والتقارب بين شاطئين يبدو ~~للنظرة الضيقة وحدها، كأنما لا يمكن أن يلتقيا أبدا، أو كأن لعنة ~~«كولريدج» المشهورة: «الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا» ستظل تلاحقهما ~~بغير أمل في لقاء أو عناق. ~~(ب) شجرة زيتون في أرض الطفولة، وشجرة سنديان في المهجر. # الأولى تمد جذورها في دمشق، في أعماق الطفولة، والحلم، والذكريات، ~~والشوق. # والثانية تنشر ظلالها في «ليبزيج»، مدينة الكتب، والعلم والفكر، ~~والموسيقى، والهواء الموبوء بدخان المصانع وغبار الفحم. # زوج مختلف مؤتلف معا في وجدان الشاعر الذي ما فتئ - على مدى ~~أربعة عقود من الزمان - يزاوج بين القطبين الأخضرين، ويتسلق ~~الجذعين الراسخين في صميم كيانه، ويبذل كل ما يستطيع لإتمام الزفاف ~~بين الثلج ودفء الشمس، في محاولة دائبة لتحسس الطريق إلى «الآخر»، ~~ورأب الصدع أو الشرخ الذي يباعد بينهما ويعذبه ويمزقه ليل ~~نهار: «آه أيها الشوق، لا تخنق البراعم ms01 في الضلوع المتشعبة ~~الغصون.» # والشوق يحمله لشجرة الزيتون العجفاء التي تسخو بالزيتون، وتختزن ~~الشمس في عروقها وتحط على مرساتها الخضراء حمامة نوح، والشوق يحركه ~~أيضا نحو شجرة السنديان التي يتقطر منها المطر المتواصل، وتصنع من ~~أوراقها المتكاثفة سقفا لحبه الكبير. # 1 # ويبقى البلد البعيد - الذي تستقر فيه وفي أحلامه وذكريات ~~طفولته عنه شجرة الزيتون - وشما على الجبين، تميمة حول الرقبة، ~~نبيذا معتقا في الذاكرة، بل نفسا يتردد في الصدر، وصورة تمسك ~~بها يداه عندما يتوه في أدغال المدن الغريبة، كما يمسك الطفل برداء أمه ~~في زحام البازار. # 2 # وتناديه أصوات اللهفة والحنين من ذلك البلد البعيد، فيلهث داخل ~~الشبكة الواسعة التي أحكم خيوطها البلد الآخر، وهو يتحسس الطريق إلى ~~حضن الأم. ويظل البلد البعيد هو الوطن الذي تتشبث أشواقه وذكرياته ~~بجذورها الضاربة في حواريه الضيقة، وأزقته المتعرجة وملاعب طفولته ~~وصباه، وأيام شبابه الباكر بأحزانه وأفراحه وكفاحه في سبيل لقيمات ~~خبز تملأ الجوف، ولقيمات من خبز الشعير الذي بدأ ينضج تحت شمسها. ~~ويبقى البلد الأجنبي، الذي جاء إليه بإرادته الحرة وفوق جبينه أحلام ~~خضراء، هو الوطن الذي استطاع - بعد الكد والمرارة، والتحدي والمعاناة ~~في تخطي أسواره الشائكة - أن يرسخ فيه جذوره، ويستظل فيه بنعناعة حبه ~~الذهبية الخضراء، وينتزع الإعجاب والاحترام والاعتراف والتكريم أيضا ~~من الآخر العنيد المتصلب، الذي لم ينجح كل النجاح في تخطي أحكامه ~~وتحيزاته المسبقة ضد الشرقي والعربي بوجه خاص. # مع ذلك يبقى الشرخ داخل الجذور، ويظل الجرح يصرخ من ألم الفصام ~~بين الطرفين المتباعدين. ولا يجد الغريب في بلدين، والمواطن في وطنين ~~في نهاية المطاف من سبيل أمامه إلا أن يسلك طريق «الإنسان الكلي» أو ~~«الأديب الكوني» - إذا صح هذان التعبيران - الذي يثبت جذوره في مركز ~~العالم وقلبه النابض، ويأخذ هذا العالم والإنسانية كلها بين جفونه ~~في الصحو والمنام، ويعلو فوق الشروخ والصدوع والجروح ليطل على «الكل» ~~من فوق شجرته الشعرية، أو على الأقل ليستظل بظلها الوارف وهو قرير ~~العين مرتاح الضمير، بينما لسان حاله يقول: بلداي ووطناي الاثنان، نحن ms02 ~~اقترنا بالزواج إلى أن يفصل الموت وحده بيننا، وها أنا ذا الآن هنا، ~~بينكم ومعكم، ولن أتخلى عن نفسي أو عنكم، أو عن بلد جئتها وعلى ~~جبيني أحلام خضراء. # 3 # وليس معنى هذا الكلام عن «الكل» و«العالم» أن شاعرنا قد أصبح - ~~وبخاصة في إنتاجه المتأخر - كوزموبوليتانيا (مواطنا عالميا) فاقد ~~الجذور، أو إنسانا معلقا في الفراغ كما افترض ابن سينا. إنه يحب ~~«الشجرة التي تسكنها العصافير» - أي السنديانة - في شتاء ليبزيج، مثلما ~~يحب النسمة المنعشة في أمسيات دمشق تحت ظل شجرة الزيتون. ودمشق لا ~~تغيب أبدا عن باله، فهو يحمل على لسانه وفي مسام جسده وروحه طعم ~~طفولته في شوارعها وحاراتها و«غوطتها»، كما يحمل غبار أزقتها الضيقة، ~~المتمسكة بجدائل الجبل الهرم، على نعل حذائه، وهو حين يزورها زيارة ~~قصيرة للمشاركة في ندوة ثقافية أو مهرجان مسرحي يؤرقه ويهتف به ~~الحنين إلى سنديانة ليبزيج التي تقاوم الشتاء، أو إلى النعناعة ~~الخضراء الذهبية التي تنتظر أن تظله بظلها الحنون. وأي غرابة في هذا ~~وهو الذي يتمسك بجذور هويته لا يفرط فيها لحظة، كما يتشبث بالجذور ~~التي مدها في تربة الحضارة المكتسبة واللغة والأدب اللذين وجد ~~فيهما السكن والوطن؟ أليس «الجسر» أيضا - إلى جانب الزيتونة ~~والسنديانة - استعارة معبرة عن معنى حياته، ومغزى إبداعه المتواصل إلى ~~اليوم؟! ~~(ج) أجل، لقد استقر في وعي الشاعر - منذ وطئت قدماه أرض «ليبزيج» ~~في أوائل الستينيات للدراسة بها - استقر فيه أنه وسيط بين ثقافتين، ~~وجسر ممدود بين مدينتين ولغتين وأدبين وعالمين. ربما عذبه هذا ~~الوعي، وما يزال يعذبه، لكنه يتحمل قدره وعبئه بجدارة وكبرياء، كما ~~يتذوق في نفس الوقت بهجته ومتعته الممزوجة في كثير من الأحيان بالألم ~~والعناء. ومنذ أن كتب أول قصيدة «عربية» في حياته وهو في الخامسة عشرة ~~من عمره، حتى كتابته لقصائد «هكذا تكلم عبد الله» (1995م)، ومنذ أن كان ~~أصغر الأعضاء سنا في اتحاد الكتاب العرب بدمشق في منتصف الخمسينيات، ~~إلى أن انتخب رئيسا لفرع اتحاد الكتاب الألمان في محافظة ليبزيج بعد ~~إعلان الوحدة ms03 الألمانية بين الشطرين السابقين، ومنذ أن هرب من بلده ~~بعد إغلاق اتحاد الكتاب، وصدور أمر باعتقاله حتى استقراره في ~~ليبزيج سنة 1961م، ثم حصوله على جائزة الفن التي قدمتها له سنة ~~1985م، وعلى جائزة «أدالبير فون شاميسو» - التي تمنح لأفضل كاتب ~~بالألمانية من أصل أجنبي - من الأكاديمية البافارية للفنون الجميلة ~~(1992م)، منذ هذه المحطات الفاصلة بين عهدين ومفرقي طرق حاسمين، ~~وحياة الشاعر - الذي دخل العقد السابع من عمره قبل خمس سنوات - تسير ~~على إيقاعها المألوف الغني بالصدق والإخلاص والرضا بالإنجاز ~~المتحقق، والأمل في المزيد من الجهد لاستكمال بناء الجسور، التي ~~يكافح منذ الستينيات لمدها بين الشاطئين. صحيح أن هذه الحياة لم تخل ~~أبدا من التوتر الذي يعانيه كل من يعيش على الحدود الفاصلة بين ~~عالمين، بل يعيش في الصدع أو الجرح الفاصل بين حدودهما، لكن هذه ~~التجربة الأساسية هي مصدر وحيه، ومنبع عذابه وسعادته أيضا، وهي التي ~~جعلته يصف نفسه أحيانا بأنه زيتونة وسنديانة متعانقتان في ضلوعه، ~~وأحيانا أخرى بأنه جسر «يتحرك تحت نور الحب، ويمتد من خط طول إلى ~~خط طول»، # 4 # وأحيانا ثالثة بأنه كالراقص على الحبل بين هنا وهناك، ~~بين هذا وذاك ولا هذا ولا ذاك، بين وطن عانى فيه الغربة، وغربة وجد ~~فيها وطنا، أو بالأحرى موطنا للغريب. ~~(د) من الشعراء من يكتب الشعر، ومنهم من يكتبهم الشعر. وإذا كان ~~عبقري الشعر الفرنسي رامبو يقول: «أنا لا أكتب، وإنما أكتب (بصيغة ~~المبني للمجهول).» وكان عبقري الشعر الإيطالي «أنجاريتي» قد نشر أعماله ~~الشعرية والنثرية الكاملة، تحت هذا العنوان الدال: «حياة إنسان». فإلى ~~أي حد يمكن أن نلتمس سيرة حياة الشعراء بين سطور قصائدهم؟ هل يمكن ~~ببساطة أن نتتبع حياة الشاعر من تتبعنا لمراحل تطور شعره بالعربية والألمانية؟ # 5 # الأمر بطبيعة الحال أعقد مما نقول ونتصور، والفن - والشعر بوجه ~~خاص - من الرهافة والدقة والصعوبة والخفاء، بحيث يتعذر أن يكون مجرد ~~مرآة عاكسة لحياة صاحبها بصورة مباشرة، ومع ذلك فقد اعتمدت في هذا ~~الكتاب، الذي أعتبره مجرد مدخل متواضع إلى حياة ms04 عادل قرشولي وشعره، ~~اعتمدت في المقام الأول على شعره المكتوب بالألمانية، واستقرأت من ~~نصوصه مراحل تطور فكره واتساع آفاق رؤيته وشمول نظرته - لا سيما في ~~آخر دواوينه - إلى ماهية الشعر والعالم والإنسان، وكذلك ماهية ~~«الرسالة أو المهمة» التي حمل عبئها، كما سبق أن قلت، بجدارة ~~وكبرياء، ولذة ومتعة لم تنج من التوتر والقلق والعذاب، لتصل في ~~النهاية - وهذا هو حدسي ورجائي - إلى الطمأنينة والرضا بالتحقق ~~والنضوج. # لقد بدأ في كتابة شعره بالألمانية في مطلع الستينيات، بعد رحلة ~~مضنية وشاقة في بحور اللغة الألمانية، وتعمق لا نظير له في دروب ~~أدبها السفلية والعلوية، وفي نصوص أدبائها وشعرائها القدامى ~~والمحدثين والمعاصرين. أحس منذ أن بدأ دراسته في ليبزيج أنه دخل ~~معركة تحد وإثبات للذات الفردية والجماعية، وأن عليه أن يكسبها ~~وينتصر فيها مهما كان الثمن، كما شعر، منذ ذلك الحين، بأنه قد فقد ~~ظله الذي لازمه منذ مولده عندما فقد المخاطب العربي الذي كان ~~يتوجه إليه بشعره، واكتشف أن فقدان اللغة معناه أن يعيش بغير ظل ~~ولا هوية. ولكيلا تصل أزمة الهوية إلى أقصى حدودها، وجد نفسه مضطرا ~~للكتابة باللغة التي يتكلم بها الناس، وتنطق بها الأحداث الجارية من ~~حوله، أي وجد نفسه أمام أحد اختيارين لا بديل عنهما: # إما أن يغرس جذرا في اللغة والثقافة المكتسبة والجديدة عليه، وإما ~~أن يدفن نفسه في قبر الصمت. واختار الأول بطبيعة الحال حتى يؤكد ~~لنفسه أنه لم يفقد ظله ولا هويته؛ أي إنه حي وفعال ومشارك. وبعد ~~أن خاطب الآخر بلغته، وانتزع منه الاعتراف والإعجاب، بل والانبهار ~~بشعره الذي قدمه وقرأه عليه في البداية (وتمثله قصائد مجموعته الأولى ~~«كحرير من دمشق» التي ترجمت في معظمها عن قصائد عربية أو بمعنى أدق ~~أعيد إبداعها في الألمانية بمساعدة بعض أصدقائه من الشعراء ~~المقربين إليه)، بعد ذلك لم يشعر بالارتياح لذلك الإعجاب والانبهار، ~~وتأكد له أنه يرجع بالدرجة الأولى إلى الصور والأخيلة المنسوجة ~~بخيوط عربية أو شرقية؛ أي إنه يختزل إلى ما هو عجيب وغريب ومثير ~~وطريف ms05. وكان أن تحول بعد ذلك إلى التعبير بنفسه عن نفسه، والتخلص من ~~تأثير من تأثر بهم في تلك المرحلة من شعراء كلاسيكيين أو ~~معاصرين، وبالأخص بريشت، أو من خاصة أصدقائه الذين جذبوه معهم إلى ~~موجة الشعر الجديد، أو الموجة السكسونية في مطالع الستينيات، وكانوا من ~~روادها وفرسانها الجسورين. # 6 # والكتاب يتابع هذه التحولات بقدر الطاقة من خلال النصوص ~~الشعرية نفسها، ويرصد اتجاه القصيدة إلى مخاطبة الذات ومناجاتها، بعد ~~استبعاد المخاطب القديم، وتجاوز التحدي والصراع المرير مع الآخر، ومع ~~ظروف الحياة اليومية المحبطة، وذلك في إطار رؤية يمكن - إذا صح ~~التعبير - أن توصف بأنها رؤية صوفية أرضية، وربما استطعنا أن نقول ~~باختصار: إن القصيدة في مرحلتها الأخيرة قد تخلت عن طابع الدعوة ~~والنداء والتبشير الذي ميز عددا كبيرا منها في البداية (مع الإيمان ~~الراسخ للشاعر ولجيله، سواء في عالمنا العربي أو في قسم كبير من ~~العالم الغربي في الستينيات بأن الكلمة فعل، وأن كلمة الشاعر يمكن ~~وينبغي أن تغير العالم) كما تخلت عن جدليتها المعرفية إلى ~~جدلية الصورة التي أضافت الجمالية إلى العقلانية. ونستطيع أن نقول ~~على الإجمال إن هذا الشعر في تحولاته المختلفة قد حافظ على طابعه ~~الجدلي، بل إن صورة المثلث الجدلي المشهور تكاد تغريني بتطبيقها على ~~تطوره المتصل؛ فالضلع الأول من هذا المثلث الشعري يقدم الموضوع ~~الممتلئ بالحنين للوطن وبتجارب الغربة المؤلمة (كحرير من دمشق)، والضلع ~~الثاني يقدم الموضوع ونقيضه في صراعهما وتوترهما بين ضدين أو ~~نقيضين يمثلان عالمين وثقافتين، كما يصور عذاب الذات الشاعرة ~~ومحاولاتها الدائبة لنصب الجسور بينهما (عناق خطوط الطول، وطن في ~~الغربة)، أما في المرحلة الثالثة والأخيرة فيتخلق مركب جديد يصالح ~~بين الضدين من خلال الروح الفلسفية والرؤية التأملية والصوفية، ~~التي لا نبالغ إذا قلنا إنها وصلت إلى جوهر الشعر أو الشعر الخالص، ~~أو روح الشعر التي لا تخضع للمقاييس التقليدية، ولا تندرج تحت الأطر ~~الفنية المعتادة؛ لأن الشاعر هنا لا يصدر إلا عن ذاته، ولا يتجه إلا ~~إلى ذاته، ولأنه يتدفق من نبع داخلي ms06 خاص وكلي في الوقت نفسه، ~~فيلتقي بالإنسان في كل مكان وزمان # 7 ~~(راجع قصائد «هكذا تكلم عبد الله» التي تجدها بين يديك في ~~هذا الكتاب). ~~(ه) لم يقتصر إبداع عادل قرشولي على الشعر الذي عاش له، واحتل نقطة ~~المركز من دائرة حياته وعطائه. فهو كاتب مقال سياسي، وناقد أدبي، ~~وباحث مسرحي معروف بدراساته عن مسرح بريشت بخاصة وآفاق تلقيه في ~~العالم العربي، ومحاور قدير تتسم محاوراته التي يزخر بها العديد من ~~الصحف والمجلات الألمانية والعربية بالموضوعية والدقة والعمق، ومترجم ~~أمين، من اللغتين وإليهما، لعدد كبير من المسرحيات والقصائد لكتاب ~~وشعراء معاصرين ومرموقين، فضلا عن همه واهتمامه الدائم بالأحداث ~~والقضايا العربية، ومبادرته لتعرية الخداع والتزييف الإعلامي الذي أحاط ~~وما يزال يحيط ب «سيناريو» حرب الخليج والعدوان المتجدد لدولة الإرهاب ~~الإسرائيلية على الفلسطينيين والعرب، وموجات العداء للأجانب في ~~ألمانيا، ودفاعه عن الحق والحقيقة في مواجهة الأحكام المغرضة ~~والتحيزات المسبقة التي تروجها أجهزة إعلامية كاسحة ومتآمرة وموجهة ~~ضد العرب والمسلمين بوجه عام (راجع الفصل الأخير من هذا الكتاب). ~~ولما كانت القائمة المختصرة بأهم مؤلفاته ودراساته الواردة في ختام ~~الكتاب ستلقي بعض الضوء على هذه الجهود المتميزة والمشرفة، فلا بأس من ~~ذكر طرف منها في هذا التمهيد السريع. # نشر الشاعر حتى الآن ديوانين بالعربية (موال في الغربة 1967م، ~~والخروج من الذات الأحادية 1985م)، وخمسة دواوين بالألمانية (كحرير من ~~دمشق 1968م، وعناق خطوط الطول 1978م، وموطن في الغربة 1984م، ولو لم ~~تكن دمشق - ويضم مختارات من دواوينه السابقة - 1992-1993م، وهكذا تكلم ~~عبد الله 1995م). والجدير بالذكر أن بعض قصائده المختارة قد نشرت مع ~~قصائد لكبار الشعراء من ألمانيا الشرقية السابقة، في أكثر من خمس عشرة ~~مجموعة منتخبة (أو أنثولوجيا)، أصدرتها دور نشر ألمانية مختلفة قبل ~~الوحدة وبعدها، بجانب مجموعة أخرى منتخبة من الشعر الألماني المعاصر ~~ظهرت بالإنجليزية في عددي شهري أكتوبر ونوفمبر سنة 1998م، من مجلة ~~شعر الأمريكية. # 8 # أما عن ترجمة الشعر، فقد نقل إلى الألمانية عددا كبيرا من ~~القصائد - التي لم يبلغ إلى علمي أنها ms07 نشرت في كتاب - لمجموعة من ~~الشعراء العرب المتميزين؛ من أهمهم: أدونيس، ومحمود درويش، وسميح ~~القاسم وغيرهم، كما ترجم إلى العربية قصائد رائعة لأستاذه وراعيه جورج ~~ماورر، نشرها مع مقدمة طويلة عن شخص «ماورر» وشعره، تحت عنوان إحدى ~~القصائد الملحمية المطولة للشاعر «ما هو خاص بنا» (1981م)، كما نقل إلى ~~العربية أيضا مجموعة من قصائد بعض أصدقائه وزملائه في الدراسة - ولم ~~يبلغ إلى علمي أيضا أنها نشرت في كتاب - ومن أهمهم: صديقه الشاعر ~~«فولكر براون»، الذي نقل له كذلك إلى العربية مسرحيته الشعرية «تشي ~~جيفارا أو مدينة الشمس» 1986م. # ونأتي إلى حقل المسرح ودراساته وترجماته فيه، فنذكر في البداية أن ~~أطروحته الجامعية للدكتوراه - التي حصل عليها في سنة 1970م - كانت عن ~~مسرحية «بريشت» التعليمية «الاستثناء والقاعدة» وصور استقبالها أو ~~تلقيها في العالم العربي، مع مناقشة للجوانب المختلفة من سوء الفهم، ~~وسوء التفسير لمنهج «بريشت» ونظريته عن المسرح الملحمي (أو بالأحرى ~~السردي)، وقد شاءت الصدفة التاريخية وحدها أن يكون كاتب هذه السطور ~~هو أول من ترجم إلى العربية نصا مسرحيا لبريشت (وإن كان قد ~~سبقه غيره إلى الكتابة عن بريشت، راجع مقدمة الطبعة الثانية لكتابي ~~«قصائد من بريشت»، القاهرة، دار شرقيات، 1999م). وأن يكون هذا النص ~~الأول هو تلك المسرحية نفسها التي نقلتها - قبل أن يتاح لي التعمق ~~في الألمانية - عن الفرنسية، ونشرت في مجلة «الهدف» سنة 1957م، قبل أن ~~تصدر مع مسرحيته الأخرى التعليمية «محاكمة لوكوللوس» سنة 1966م عن ~~سلسلة المسرح العالمي التي كانت تصدر في القاهرة. ومع أنه لم يقدر ~~لي الاطلاع على هذه الأطروحة، فقد عرفت لأول مرة من فم الشاعر نفسه - ~~عندما تشرفت بلقائه وصحبته في القاهرة في شهري يناير وفبراير من ~~هذا العام - أن ترجمتي المتواضعة لم تكن هي الترجمة العربية الوحيدة، ~~ولا كانت كذلك ترجماتي التالية لعدد كبير من قصائد «بريشت» ومسرحياته ~~الطويلة والقصيرة. والأهم من كل هذا أن الشاعر قد توفر بعد ذلك على ~~دراسة الموضوع نفسه، وتوسع فيه، حتى أصدر بحثه الهام بالألمانية عن ms08 ~~«بريشت» في المنظور العربي، وهو الذي نشره له مركز دراسات بريشت في ~~برلين سنة 1982م، كما ترجم إلى العربية في نفس الوقت على وجه التقريب ~~أربع مسرحيات للكاتب والشاعر الشهير، وهي: «أوبرا، ازدهار، وانهيار ~~مدينة مهاجوني» (التي شاءت الصدفة - مرة أخرى ودون علم مني بسبق ~~ترجمتها - أن ترجمتها ترجمة شعرية في سنة 1990م، وأن تصدر قبل ~~عامين ضمن مطبوعات المشروع القومي للترجمة عن المجلس الأعلى للثقافة ~~بالقاهرة)، و«قائل نعم وقائل لا»، # 9 # و«دانزين»، و«ثمن الحديد». # وقد أجرى الشاعر مجموعة من الحوارات الهامة والشاملة عن بريشت، ~~والبريشتية، والمسرح الملحمي وبريشت في المرآة العربية في عدد من ~~المجلات العربية المخصصة للثقافة المسرحية مثل: مجلة الحياة المسرحية ~~(السورية، 1980-1981م)، ومجلة فضاءات مسرحية (التونسية، 1986م)، ~~والعالم الثقافي (المغربية، 1994م)، وذلك مع السيد مصطفى عبود، والسيدة ~~خيرة الشيباني، والدكتور عبد الرحمن بن زيدان. # ويطيب لي أخيرا أن أذكر أن الشاعر قد ترجم إلى الألمانية - ~~بالاشتراك مع زوجته المستعربة الفاضلة السيدة ريجينا قرشولي - مجموعة ~~من المسرحيات العربية، لنخبة من الكتاب والشعراء العرب، وهي مجموعة ~~نتمنى أن تظهر في أقرب وقت في سوق الكتاب الألماني، وفوق خشبة ~~المسارح في المدن الأوروبية المختلفة، وهذه هي المسرحيات مع تواريخ ~~ترجمتها: رأس المملوك جابر، لسعد الله ونوس (1973م)، وعلي جناح ~~التبريزي وتابعه قفة، لألفريد فرج (1976م)، والمفتاح ليوسف العاني، ~~والعصافير تبني أعشاشها بين الأصابع، لمعين بسيسو (1979م)، ومؤسسة ~~الجنون، لسميح القاسم (1979م)، وديوان الزنج، لعز الدين المدني، ~~والرفيق سمعان، لجلال خوري، وأهل الكهف 74، لمحمود دياب، وعلى رصيف ~~المقاومة، لحمدة خميس (1979م). # ولا بد من القول في الختام: إن محاوراته ومساهماته بالخطب ~~والمقالات والدراسات، في الصحف والمجلات والحوليات والمؤتمرات والكتب ~~والإصدارات التذكارية - لا سيما عن بريشت وجورج ماورر - أكثر من أن ~~تحصى، ومن شاء أن يطلع على البيبليوجرافيا الوافية، حتى سنة 1999م، ~~عن مؤلفاته وترجماته ومقالاته وحواراته، فليرجع إلى الأطروحة ~~الجامعية التي كتبتها عن حياته وأعماله السيدة «فريدريكه هيندلر»، ~~وقدمتها إلى جامعة دريسدن (من ص89-105). ويشرفني أن أشيد بفضلها ms09، وأن ~~أقول إنني قد أفدت منها فائدة لا تقدر، وذلك بصرف النظر عن اهتمامها ~~الأساسي بالظروف الاجتماعية والسياسية التي عاش الشاعر في ظلها ~~وبعدها - إلا فيما ندر - عن تحليل النصوص وتفسيرها. # 10 ~~(و) رأينا كيف كافح عادل قرشولي طوال العقود الثلاثة التي سبقت قيام ~~الوحدة الألمانية في سبيل أن يغرس جذوره، ويمد جسوره في اللغة ~~والأدب والثقافة الجديدة عليه، بحيث أصبحت وطنه وسكنه، وشعر وهو يشارك ~~فيها ويبدع بها أنه يعيش في بيته. لم يخطر على باله أبدا أن ينسب ~~إبداعه إلى الأدب الذي يسمى بأدب المهاجرين أو اللاجئين أو أدب ~~العمال الأجانب. فلما تحققت الوحدة بين الشطرين، وبدأ البحث العلمي في ~~الاهتمام الجاد بأدب المهاجرين، نشب الخلاف حول إنتاجه: هل ينتمي إلى ~~هذا الأدب الأخير كما رأى معظم النقاد والباحثين من ألمانيا الغربية، ~~أم هو جزء لا يتجزأ من الأدب الألماني الذي نشأ في ظل الحكم ~~الاشتراكي في ألمانيا الديمقراطية السابقة؟ وأثار موقف أولئك ~~الباحثين غضب الشاعر وسخطه، إذ وجد أنهم لم يهتموا إلا بجانب واحد ~~من إنتاجه الشديد التنوع، وأنهم أغفلوا الاعتراف به، والحفاوة التي ~~لقيها في ألمانيا الشرقية السابقة كشاعر وعضو فعال في اتحاد الكتاب ~~بها، منذ الثمانينيات، إغفالا تاما، مع أنه لم يصنف نفسه ولا ~~صنفه أي ناقد في تلك الفترة الطويلة داخل دائرة أدب المهاجرين أو ~~أدب الأجانب، كما أنه اعتبر نفسه واعتبره الجميع عضوا بارزا في جسد ~~الحركة الشعرية والنقدية في ذلك البلد الذي سمى نفسه «البلد الأفضل». ~~ولا يقلل من هذه الأهمية أن أصله الأجنبي قد لعب دورا لا يستهان به ~~في إنتاجه الشعري الذي يدور حول الغربة في الوطن أو حول الوطن في ~~الغربة، وأن اسمه لم يذكر مرة واحدة - كما تقول الباحثة السابقة ~~الذكر في أطروحتها (ص121) - في أي معجم أدبي أو تاريخي للأدب القومي ~~نشر في ذلك البلد الأفضل. # والواقع أن تصنيف الأديب و«إدراجه» في خانة محددة لا يخرج عنها لا ~~يمكن أن يجلب معه إلا الظلم له ولأدبه. وأحسب ms10 أن الحقيقة التاريخية ~~والموضوعية تقول بأفصح لسان وأوضح بيان: إن المعول في كل الأحوال ~~على قيمة الأدب نفسه بما هو أدب؛ فالأدب هو الأدب. والأدب الجيد هو ~~الذي يبقى، ولا ضير عليه أن يوصف بأنه أدب أجانب أو بأنه جزء من ~~الأدب القومي. وأعتقد أن هذا يصدق على كتابات عدد لا حصر له من ~~المهاجرين الأجانب، بلغات أخرى ليست هي لغتهم الأم، لا سيما باللغتين ~~الفرنسية والإنجليزية. وأعتقد أيضا أن إعجاب القراء بالشعر الذي نشر ~~له، وأعيد طبعه أكثر من مرة في مدينة ميونيخ بعد إتمام الوحدة ~~الألمانية «مثل ديوانيه: لو لم تكن دمشق (1992م)، وهكذا تكلم عبد الله ~~(1995م)، اللذين أصدرتهما دار نشر أكسيون آيس» هو ~~الدليل الواضح على الاهتمام بالشعر ~~الصادق في ذاته، بغض النظر عن اسم صاحبه، أو اسم البلد، أو خط ~~الطول الذي جاء منه. ~~••• # لقد ظل زملاؤه وأصدقاؤه في فرع اتحاد الكتاب بمنطقة ليبزيج - طوال ~~العقود الثلاثة السابقة لقيام الوحدة الألمانية - يعتبرونه واحدا ~~منهم. ولم يكن تعبيره الشعري - بصوره ~~الشرقية والعربية المذهلة - هو وحده مصدر إعجابهم به، بل إيمانه ~~القوي الصادق بالتكامل الإنساني والوحدة الجوهرية التي تجمع شتى ~~الثقافات والحضارات والبشر، إلى جانب اعتزازه بأنه مواطن في ~~ثقافتين وحضارتين، وتمسكه الدائم بهويته السورية والعربية. وعندي أن ~~إنتاجه الشعري والنثري بالألمانية هو جزء لا يتجزأ من مجموع ~~الإنتاج الأدبي في ألمانيا الشرقية السابقة، بشرط أن نفهم من هذا أنه ~~ينتمي لأدب الناقدين والمحتجين، لا أدب المجارين والممالئين الذين ~~يؤثرون السلامة، فيصمتون أو يقولون آمين (راجع الفصل الثاني من هذا ~~الكتاب). ~~(ز) تنوعت ألوان التكريم وصور الثناء على إبداع شاعرنا، ودوره ~~الأدبي والثقافي بوصفه «وسيطا» وبناء للجسور. ويكفي أن نتذكر ~~التقرير الذي كتبه راعيه الطيب «ماورر» في مطالع الستينيات عن شعره ~~المبكر، وقال فيه: «إن لغته غنية بالصور المذهلة التي تشبه باقة زهور ~~طازجة، قطفت من فورها.» # ويمكننا أن نذكر عشرات التعليقات النقدية على دواوينه وبحوثه، ~~والإشكالات المرتبطة بحياته وإنتاجه (كالكتابة بلغتين والانتماء ~~لثقافتين وتراثين)، بالإضافة إلى ms11 «الوثائق» المتعلقة بحصوله على ~~جائزة الفن التي قدمتها له مدينة ليبزيج في سنة 1985م، وجائزة ~~«أدالبير فون شاميسو» التي منحتها له الأكاديمية البافارية للفنون ~~(1992م)، وإلى «الشهادات» التي أدلى بها بعض أصدقائه - الذين يعدون ~~اليوم من كبار الشعراء - سواء في تقييمهم لأحد كتبه، أو غداة ترشيحه ~~لعضوية فرع اتحاد الكتاب الألمان في محافظة ليبزيج «قبل انتخابه منذ ~~سنتين بالإجماع رئيسا له»، أو لإحدى الجوائز السابقة. # لنقرأ معا هذه السطور من «الوثيقة» التي تليت أمام جمع حاشد من ~~المثقفين، قبل تسليمه الجائزة البافارية في مدينة ميونيخ: «إن شعر - ~~المحتفى به - يجمع بطريقة موفقة وبارعة بين الشرق والغرب في صور ~~مألوفة وغير مألوفة، ومقالاته رؤى نقدية نافذة لعالم يزداد على الدوام ~~اضطرابا، ويهدد فيه الفرد بالضياع. وأعماله تنطق بالكمال الشكلي ~~والغنى الفكري الذي يميز الشاعر الحقيقي، كما تعبر أيضا عن حكمة ~~مواطن عالمي.» # ولعل أروع شهادة قدمت عنه في معرض الحديث عن ديوانه الأخير «هكذا ~~تكلم عبد الله» وبمناسبة عيد ميلاده الستين، هي التي عبر عنها بحب ~~وصدق نادر صديقه الشاعر الشاب توماس بيمه: ~~«إن قرشولي يقول لنا بغير ادعاء، ولكن بإصرار: انظروا كم هي جميلة ~~لغتكم التي أصبحت لغتي، وهو يخجل كل الذين فقدوا ثقتهم بألمانيتهم، ~~ولم يعودوا يستخرجون منها ما تحتوي عليه من غنى وجمال. إن هذا العمل ~~(أي الديوان السابق الذكر) هو صدفة سعيدة للأدب، وهبة من ربات الفن ~~التي لا تمنح رجلا تخطى نصف عمره كل هذه الطاقة الإبداعية، إلا فيما ~~ندر.» # وربما كانت الشهادة التالية التي تهز الوجدان بحق، وتملأ قلب ~~العربي بالغبطة والرضا والفخار، هي تلك التي قدمها له صديقه الصدوق ~~ورفيق رحلته الشعرية منذ أن تزاملا في معهد الأدب الذي سبقت الإشارة ~~إليه، وهو الشاعر فولكر براون في اللؤلؤة الصافية التي تشع أضواؤها ~~وظلالها في هذه الأبيات: # 11 # شجرة زيتون ودود، ناصعة، # بجانب شجرة السنديان العجفاء # الجذور من مكان بعيد بعيد، # لكن الغصون الكثيفة تتعانق في الريح. ~~••• # أنت، أيها الشاعر، بين الألمان # مواطن في الغربة، # ونحن ms12 الألمان نشعر معك # بأننا لم نعد غرباء في الوطن. ~~(ح) ويبقى عادل قرشولي - مع نخبة من أدبائنا العرب ~~الذين يعيشون في لندن وباريس، ويكتبون بالإنجليزية أو الفرنسية - ~~ظاهرة فريدة في المشهر الأدبي والثقافي العام في ألمانيا وأوروبا ~~والعالم العربي. وقد عرضنا في الصفحات السابقة لمشكلة انتماء إنتاجه ~~للأدب الألماني المحلي أو القومي، أو أدب المهاجرين والأجانب، ~~وأجبنا على هذه المشكلة، أو بالأحرى شبه المشكلة؛ بإيماننا الحاسم ~~بأدبية الأدب وإنسانيته وشموله وعالميته. ويبدو أن المسألة لم تحسم ~~بمثل هذه السهولة عند شاعرنا العربي-الألماني؛ إذ جعلته يخوض صراعا ~~طويلا، ويدخل في تحد قاس ومرير ل «الآخر» وثقافته حتى استطاع أن ~~يحقق في ذاته الشعرية والإنسانية ذلك «العناق» الذي عنون به ~~واحدة من أهم دواوينه: «عناق خطوط الطول 1978م»، وأن يجعل من شخصه ~~وشعره جسرا عربيا حيا ممدودا نحو «الآخر العربي» بالمحبة والسلام ~~والمروءة والحقيقة، على الرغم من كل شيء، على الرغم من الحملات ~~الدعائية الضارية، والحصار الإعلامي الغربي الزائف والمزيف ليل ~~نهار، وتسليط ربيبته دولة الإرهاب إسرائيل على إخوتنا وأبنائنا في ~~الأرض السليبة، وعلى وجودنا ومستقبلنا كله. # يقول شاعرنا في أحد الحوارات التي أجريت معه: «كانت الألمانية ~~بالنسبة لي لغة مصطنعة أو مكتسبة، وأنا أميل أحيانا لوصف قراري بكتابة ~~القصائد بالألمانية بأنه كان قرارا طائشا، ومع ذلك فقد كان قرارا ~~قدريا لا مفر منه. لقد عرفت من سيرة حياتي أن دوري هو دور الوسيط. ~~وإذا كان للأدب أن يؤدي دور الوسيط، فلن يمكنه أن يفعل ذلك إلا ~~بالاتجاه من الداخل للخارج، وبالنظر إليه في كليته لا من جهة كونه ~~دعوة أو نداء، أو تحريضا على تبني قضية معينة.» ثم يطل على رحلة ~~حياته وكفاحه ويقلب بين يديه حصادها الناضج، فيقول في حديثه الهام ~~مع السيدة ليلى حوراني (بجريدة السفير، في يوم الجمعة الرابع عشر من ~~شهر يوليو عام 2000م): «أنا شخصيا لم أعد أخاف الآخر؛ لأنني رأيت ~~أنني قبلت بتحديه، وتمكنت على صعيد شخصي من أن أواجهه، بل وأن أكسب ~~هذا ms13 التحدي في مجالات كثيرة. إذا عممت تجربتي في هذه المساحة، ~~أقول: ليس علينا أن نخاف الآخر؛ لأنني على ثقة بأن لدينا من التراكمات ~~الإبداعية ما يمكن أن يصمد لعملية التنافس مع الآخر. نعم لو لم يكن ~~إبداعنا محاصرا على كل الأصعدة، لكنا استطعنا أن ندخل بدون خجل ~~ساحة المنافسة العالمية.» # والكلام - كما يقال - لا يحتاج لتعليق. إنه يجسد ويؤكد وجود ذلك ~~«الحاضر/الغائب» الذي لم نكن في يوم من الأيام أشد حاجة إليه منا ~~في هذا الوقت الذي تسحقنا فيه طاحونة تواطؤ الآخر مع ربيبته ~~العدوانية، وتجاهله وصمته المريب، ذلك هو الثقة بأنفسنا. ~~(ط) من طبع الشعراء، والممسوسين بإلهام من ربات الفن ألا يرضوا عن ~~أنفسهم. أحيانا ينظر الواحد منهم وراءه «بغير غضب»، وربما بشيء من ~~الرضا أو الغبطة بنجاح حققه أو إنجاز أتمه. لكن الصوت لا يلبث أن ~~يناديه ويؤرق سكون لياليه حتى آخر نفس في صدره «لا لم تحقق حتى الآن ~~ما كنت تحلم به وتتمناه» هذا شيء طبيعي ومألوف يجربه كل من أصابته ~~لعنة الفن والإبداع، أو بالأحرى نعمته. ومع أن ذلك الصوت لا يتوقف ~~أبدا عن فتح الجروح وكي الجلد والروح، فإنني أعتقد أن من حق شاعرنا ~~- ومن حقنا أيضا معه - أن ينظر إلى الوراء وإلى الإمام - بعد طول ~~المشقة والعناء، وبالرغم من كل العقبات والمرارات - بقدر غير قليل ~~من الطمأنينة والرضا، ومن الامتنان والحمد والعرفان بعد كل شيء. وها هو ~~ذا اليوم يتحسس بيده - أو بيد حكيمه العاقل الملهم عبد الله - نبض ~~الكون الذي يخربه الظلم، ويفترسه التعصب، يصرخ مع المعذبين ~~والمضطهدين، ويهمس مع العشاق والمحبين، وينشر سجادة كلماته على طريق ~~الأمل، ويدق بإصرار على أبواب الحقيقة، منتظرا في صبر وبلا يأس أن ~~يرد عليه صوت واحد، يقول له: ادخل! لو تردد يوما هذا الصوت في ~~سمعه، لو أحس بنبضه يسري في دمه وجلده وعظمه، هل سيكون في الوجود ~~من هو أسعد منه؟ أليست هذه الدعوة إلى رحاب الحقيقة هي الجزاء الأوفى ~~عن ليالي الأرق ms14، والقبلة الدافئة فوق الجبين المرهق والعيون ~~المتعبة، والبلسم الشافي للجروح التي لا تنفك تفتحها سكين البحث عن ~~مقطع له رنين الإيقاع الحلو، أو عن كلمة يفوح منها عطر الحقيقة ~~والصدق؟ (راجع قصيدة عزاء للذات، من ديوانه «عناق خطوط الطول»، 1978م، ~~ص20.) ~~(ي) وأخيرا يكفيه أن يهتف به نداء الحقيقة قائلا: طوبى لك ولشعرك! ~~أديت وظيفة الفن والفكر والشعر الجوهرية، فكنت خير وسيط عدل ونعم ~~الجسر المشرف. واستطعت - كما يقول صديقك الروائي هيدوتشيك # 12 ~~- أن تحمي نفسك من الشرين الخطرين: من التكيف مع ثقافة ~~الآخر إلى حد الذوبان والتشوه وضياع الهوية، ومن التصلب على تراثك ~~الخاص إلى حد التقوقع والتمزق واليأس. إنك استطعت أن تتحدى وتواجه ~~وتصمد، ثم تحلق بجناحي طائرك الشعري، وتشدو بغناء العالم والأرض ~~والإنسان. وبذلك استحقت شجرتك الشعرية أن تكون - كما جاء في فاوست - ~~هي شجرة الحياة الذهبية الخضراء قبل أن تكون شجرة زيتون أو شجرة ~~سنديان. واستحق شخصك وشعرك أن يقفا في نفس الصف الذي تقف فيه «جسور» ~~أخرى مباركة، وسفراء مشرفون لحضارتنا وثقافتنا وكرامتنا وعدالة ~~قضايانا؛ مثل: نجيب محفوظ، وأحمد زويل، ومجدي يعقوب، وفاروق الباز، ~~ومحمد غنيم، ورمزي يسى، وغيرهم من عشرات، وربما مئات، النابغين العرب ~~المنتشرين بأدبهم وعلمهم وفنهم في مدن الآخر وجامعاته ومكتباته، ~~ينتزعون منه الاحترام والتقدير والإعجاب، ويخترقون حواجز التحيز ~~والتعالي والتجاهل التي يتمترس وراءها، في مناطق مهمة، ويفرضون عليه - ~~في غابة عالمنا الذي تدوي فيه طبول القوة ووحوشها - أن يعيد النظر ~~في مواقفه المتجنية علينا، كما اضطر أن يفعل مع بلاد أخرى في ~~الشرق الأقصى، والبعيد استطاعت أن تفرض عليه احترامها. ~~(ك) وأكرر في النهاية أن هذا الكتاب لا يعدو أن يكون مجرد مدخل ~~أولي إلى حياة شاعرنا وإنتاجه الزاخر، ودوره المرموق في مد الجسور ~~والجذور، ومواجهة جدران الجهل والتجاهل والصلف والغرور بما فطرنا ~~عليه من الصبر والتسامح، والشجاعة والحكمة، والثقة التي تشتد حاجتنا ~~إليها اليوم أكثر من أي وقت آخر في تاريخنا القديم والوسيط والحديث. ~~والكتاب في النهاية تحية حب وتقدير وعرفان ms15 بقلم واحد من أحباب ~~الشاعر وأصدقائه وعارفي فضله الذين يعيشون في العالم العربي وعلى ضفاف ~~النيل. # القاهرة في أبريل 2001م # عبد الغفار مكاوي # الفصل الأول # | غربة في الوطن # (أ) لم يبدأ كتابة الشعر في المهجر أو المنفى أو الموطن الجديد الذي ~~راح يبحث فيه عن وطن؛ فقد عرف في وطنه السوري كشاعر واعد، وصحفي ~~مناضل، وأصغر الأعضاء سنا في اتحاد الكتاب، الذي اتسم في أواخر ~~الخمسينيات بالتوجه الاشتراكي والتقدمي. # رأت عيناه النور في دمشق في اليوم الرابع عشر من شهر أكتوبر، سنة ~~1936م لأسرة كردية ميسورة الحال، تتألف من الأم والأب صاحب الضيعة - ~~سليمان قره شولي - وسبعة إخوة وأخوات. كان في الخامسة عشرة من عمره، ~~عندما بدأ كتابة الشعر، وكانت أول قصيدة بطبيعة الحال قصيدة حب. ~~وتوالت بالفصحى والعامية السورية قصائده التي نلمس في بعض ما ترجمه ~~منها إلى الألمانية، في أول دواوينه بهذه اللغة، وهو «كحرير من دمشق» ~~1968م، تأثره الشديد بالتراث الشعبي العربي، وارتباطه القوي بالطبيعة، ~~وموهبته الفطرية في التفكير بالصورة الفنية الموحية، وتشخيص الجمادات ~~والمعنويات: ~~«تحت الصفصاف وفوق الأحجار، يمشي سالم السلمان، جبهته سمراء ~~كالسنبلة الناضجة، يلمع في عينيه فرح الشموس، وصفاء الأقمار يطوف على شفتيه.» # 1 ~~(ب) تأكدت له فطرته الشعرية، وتملك الأدب حياته ووجدانه، وبدأ يزوغ ~~من المدرسة ويتردد على المكتبات العامة. وفي كتيب بديع عن رامبو، ~~ربما يكون هو الذي صدر في الخمسينيات في سلسلة «اقرأ»، التي كانت ~~تنشرها دار المعارف عن هذا الصعلوك الفرنسي العبقري، لفت نظره ~~عبارة تقول: «من العبث أن نبلي سراويلنا على مقاعد المدرسة.» وكان أن ~~ترك بالفعل المدرسة الثانوية، وهو ما يزال في الصف السابع، وباع كتب ~~المدرسة؛ ليشتري بثمنها كتبا من روائع الأدب العالمي. بل لقد أسس ~~وهو في السادسة عشرة من عمره مع بعض زملائه التقدميين صحيفة صودرت ~~على الفور بعد ظهور أول أعدادها؛ بسبب هجومها الناري على الحكومة، ثم ~~أخذ يعمل من سنة 1952م حتى سنة 1958م، في صحف سورية مختلفة، ويشرف على ~~برنامج الطلبة في إذاعة ms16 دمشق، ويتصل بعدد كبير من أدباء بلاده ~~ومثقفيها اليساريين، ويواصل كتابة قصائده التي نشر بعضها في بيروت ~~والقاهرة، مثل قصيدته عن المجاهدة الجزائرية «جميلة بوحريد»، التي ظهرت ~~في كتاب ضم قصائد أخرى لعدد من كبار الشعراء، مثل عبد الرحمن ~~الشرقاوي، وصلاح عبد الصبور، وفؤاد حداد، وصلاح جاهين ... حتى جاءت أزمة ~~السويس، والعدوان الثلاثي على مصر (1956م)، فانخرط بشعره في أتون العمل ~~السياسي والوطني الملتهب بالثورة والغضب، والآمال العريضة التي راحت ~~تحلق وسط الدخان والنيران كالحمامات المحترقة. # ولا بد أن والده الذي كان له بمثابة الصديق الأكبر قد حذره في ~~هذه الفترة من حياته من الأمرين معا: من التوجه التقدمي والماركسي، ~~ومن الشعر الذي يحكم منذ الأزل على من يكتبونه بالحياة والموت ~~جوعا. ~~(ج) وتمت الوحدة السيئة الحظ بين مصر وسوريا. وأمر عبد الناصر في ~~سنة 1959م بمصادرة ووقف جميع الأحزاب والتنظيمات الجماهيرية، ومنها ~~اتحاد الكتاب الذي كان الشاعر قد انضم إليه في سنة 1958م. ولم تلبث ~~موجة الاعتقالات أن اتسعت حلقاتها الجهنمية، لتشمل عددا كبيرا من ~~الكتاب والشعراء والمثقفين. ولم يكد الشاعر يسمع عن صدور الأمر ~~باعتقاله، حتى اتخذ أول قرار مهم في حياته، وهو الهرب إلى ~~المنفى: # تكلموا عن الطغاة، # رددت كلامهم، # قالوا: الجوع فظيع، # رددت كلامهم، # كورت قبضتي كالآخرين، # رمقتني عيون الحراس من حارة إلى حارة، # لا، لم تقف أمي في الشرفة، # لم تلوح لي كما تلوح الأمهات في الأفلام، # كانت تغطي شعرها بالطرحة البيضاء الشفافة، # توجهت نحو القبلة وأخذت تصلي، # لم يعانقني أبي كما يعانق الرجال الرجال، # بل أشعل سيجارته في صمت، # نفث غضبه في الدخان في صمت، # وعندما ذهبت لم أكن أعرف أن القبلة التي وشمت بها ~~يديهما، # كانت قبلة موت غريب. # 2 # بهذه النغمة القاتمة - التي تستحضرها القصيدة المكتوبة ~~مع قصائد أخرى في الثمانينيات - ودع الشاعر وطنه. وربما تلفت قلبه، ~~مذ بعدت عنه طلول دمشق، وبدأ الترحال والتجوال من بيروت إلى ميونيخ ~~إلى برلين الغربية لمدة عامين ثقيلين، طاردته فيهما خناجر الجوع ~~والإهانة، ربما تلفت قلبه ms17 إلى شجرة الزيتون الشعرية التي كان قد غرسها ~~في تربة وطنه، وتحتم عليه أن يتركها وراءه. ~~(د) ابحث عن وطن في جنة العمال والفلاحين. # هكذا قال الشاعر الواعد لنفسه، وهو يجرب في بيروت حياة اللاجئ ~~الشريد، ويعاني مرارة القلق والشك والجري وراء لقمة العيش، ويرضى ~~بأي عمل مقابل وجبة الغداء أو العشاء. كان عليه أن يقضي سنتين ما ~~بين بيروت وميونيخ وبرلين الغربية، قبل أن يصل إلى ألمانيا الشرقية ~~السابقة للدراسة والإقامة فيها. رفض الحزب الشيوعي اللبناني أن ~~يسانده في منفاه؛ لأنه لم يكن عضوا فيه (ولن يكون عضوا في أي حزب ~~سياسي علني أو سري)، وساعدته الصدفة وحدها على الحصول على تذكرة ~~سفر مخفضة السعر؛ لحضور معرض الكتاب الشهير في مدينة ليبزيج سنة ~~1959م، والاتصال بصديق أردني يعمل في إذاعة برلين الشرقية، ووضع ~~قدمه في النهاية على أرض أوروبية. # واستقبل الشاعر استقبالا طيبا من اتحاد الكتاب ببرلين، مما ~~شجعه على طلب اللجوء، وحول إلى معسكر لتجميع اللاجئين في «فورستين ~~فالد»؛ للإقامة به عدة أسابيع، ريثما يبحث طلبه الذي لم يلبث أن فوجئ ~~برفضه بعد أن ثبت للسلطات، أنه لم يكن عضوا في الحزب الشيوعي ~~السوري، وبعد رفض ممثل هذا الحزب في برلين الموافقة على أن يضمنه ~~لديها. وقرروا ترحيله إلى سوريا فأصر على الرفض، وهدد ~~بالانتحار، ثم وافقوا على لجوئه إلى برلين الغربية التي يستطيع منها ~~- قبل إقامة السور الشهير وإغلاق الحدود - أن يتصل بصديقه الوحيد الذي ~~سبق ذكره. # كانت أيامه في المنفى مرة وقاسية، وضاعف من مرارتها وقسوتها أنه ~~يجهل اللغة التي يتكلم بها الناس، وإذا نطق ببعض كلماتها المبتورة ~~عرض نفسه للسخرية، فضلا عن رفضه للقيم والأهداف التي يتصارع عليها ~~الناس في غابة المجتمع الرأسمالي الذي وجد نفسه فيه. وانتقل إلى ~~ميونيخ للعمل على «السير» تسع ساعات كل يوم مقابل أجر لا يقيم ~~الأود. وعانى فظاعة الاغتراب والوحشة والبرد في الغرف والأنفاق ~~غير المكيفة، والبرودة والمهانة التي يتجرعها العمال الغرباء كل ~~يوم، لكنه لم يتوقف عن كتابة ms18 قصائده التي سجل فيها تجاربه ونشر ~~بعضها، بعد أن أعاد إبداعها وصياغتها الشعرية بعض أصدقائه كما سنرى ~~بعد قليل، في أول ديوان نشره بالألمانية وهو: «مثل حرير من دمشق». ~~ويكفي أن نطالع هذه السطور من قصيدة جدران، التي لم أتوصل أيضا إلى ~~أصلها العربي: # وحيد أنا، # لا عزاء لي هنا في العيون الزرقاء. # لا عزاء، # ظلال النجوم لا تجلب لي النسيان، # لا تجلب النسيان. # أمام النافذة يتساقط الثلج على الطرق الخالية، # بلا هدف، # على الحقول الجرداء، وعلى حواجز الحدود يتساقط الثلج ~~أبيض. # وجد نفسه يعامل ممن حوله كعامل أجنبي معوق أو طفل ~~متخلف العقل. لم تشفع له قراءاته لرامبو وبودلير، وتولستوي، ~~وماياكوفسكي، وناظم حكمت، ونيرودا، وجوته، وهيني، ولم يمكنه الفتات ~~الذي حصله من اللغة الغريبة من تخطي الحواجز والأسلاك الشائكة إلى ~~«الآخر» الذي لم يضن عليه بالتهكم، ولم يرحمه من الشراسة والصلف ~~والغرور. وحاول في ميونيخ وبرلين أن يمد جسر اللغة بينه وبين ~~الآخرين، فخذله الحصاد البائس الذي كان يلتقطه من الأعمال المهينة ~~التي يزاولها، ولا يساعده على تحمل نفقات التعلم. كانت قوة الصدمة ~~أكبر من قوة الاحتمال والصبر. وكاد المغترب - المفعم بحكم طبيعته ~~بالإصرار والثقة والأمل - أن يفقد كل أمل أو ثقة في نفسه وفيمن ~~حوله. # لقد كان أقسى ما يلقاه كشاعر أن يفقد اللغة والمخاطب الذي اعتاد أن ~~يتوجه إليه، وهو ما يساوي فقدان الظل والهوية. فهل ستساعده المنحة، ~~التي حصل عليها بمحض الصدفة أو المعجزة للدراسة في بلد الاشتراكية ~~والديمقراطية والأخوة والتضامن الإنساني، على أن يجد في اللغة ~~الجديدة وطنه الجديد؟ وهل سيستطيع الشعر الذي سينظمه بها أن يجذب ~~إليه أذن المخاطب الجديد وعينه ووجدانه؟ ~~(ه) وحصل على المنحة المأمولة في سنة 1961م للدراسة بمدرسة المسرح في ~~ليبزيج. لم يتردد لحظة واحدة عن مغادرة ألمانيا الغربية التي قاسى فيها ~~الأمرين، والرجوع إلى بلد اليوتوبيا (المدينة الفاضلة)، التي طالما ~~طافت بها أحلامه وأحلام جيله. وبدا كل شيء في الأيام والأسابيع ~~الأولى، وكأنه يعيش بحق في الجنة: «في اليوم ms19 الأول الذي قضيته في ~~بيت الصداقة أعطوني غرفة مدفأة، وأخذتني معلمتي إلى المجمع ~~الاستهلاكي، فاشترت لي معطفا وبذلة وسلمتني ثلاثمائة مارك اشتريت ~~منها جهازا لتشغيل الأسطوانات (جراموفون)، مع السيمفونية السادسة ~~لتشايكوفسكي. ما زلت أذكر هذا إلى اليوم. لقد شعرت بأنني إنسان، ~~وأصبحت جمهورية ألمانيا الديمقراطية في نظري هي الفردوس .» # 3 # ولازمه الشعور في تلك الأيام والشهور الأولى، بل حتى اليوم الحاضر، ~~بالامتنان نحو البلد الذي آواه، وما يزال يؤويه إلى الآن، حتى نسي ~~أو كاد ينسى أن سلطاته البيروقراطية قد رحلته قبل ذلك بسنتين إلى ~~برلين الغربية، ليشقى فيها وفي غيرها من المدن المتوحشة، ولكنه ~~الإحساس بالوفاء والعرفان الذي لم تخمد جذوته أبدا في صدره، وإن ~~كانت نارها قد ضعفت خلال عقد الثمانينيات الذي تعرض فيه للضغوط ~~النفسية الثقيلة، والذي سبق انهيار التطبيق الاشتراكي وتوحيد ~~الشطرين: ~~«إني أكسر هذا السور العالي، سور الشكر الذي يفصل بيننا، أكسره حجرا حجرا.» # 4 # وساعدته موهبته اللغوية الفائقة، مع الظروف النفسية والاجتماعية ~~والسياسية الطيبة التي أحاطت به، إلى الحد الذي جعله يقدم أول ~~قراءة لقصائده بالعربية، مع ترجمتها الألمانية، أثناء الفترة التي ~~قضاها في معهد «هيردر»، الذي التحق به لتعلم اللغة. ~~(و) وأشرق في أفق حياته ربيع آخر عندما تمت الموافقة في سنة 1963م ~~على التحاقه ب «معهد الأدب في ليبزيج»، وهو المعهد الذي كان يحمل اسم ~~الشاعر التعبيري والثوري المعروف، وأول وزير للثقافة في «ذلك البلد ~~الأفضل» وهو يوهانيس ي. بيشر. كان قرشولي هو الشاعر الأجنبي الوحيد ~~في هذا المعهد بين زملائه من الشعراء والكتاب الشبان. وتفرد المعهد ~~يرجع إلى اقتصاره على قبول شباب الشعراء والكتاب الذين سبق أن أثبتوا ~~مواهبهم الإبداعية في الكتابة الأدبية، شعرية كانت أو قصصية أو ~~مسرحية أو نقدية ... إلخ، بحيث يتولى أساتذة المعهد من كبار الشعراء أو ~~النقاد صقل هذه المواهب، وتفجير الطاقات الإبداعية، ومدها بالوقود ~~المعرفي والجمالي والحرفي والفني المتجدد. # وينظر الشاعر - الذي جاوز الستين من عمره - إلى الوراء بكل الحب ~~والعرفان بفضل هذا المعهد عليه؛ ففيه تعرف على ms20 عدد كبير من أعز ~~أصدقائه من الشعراء الأحرار رواد # 5 # ما سمي في أوائل الستينيات بالموجة السكسونية الجديدة، ~~وفيه انهمر عليه الحنان والرعاية من شاعر اشتراكي كبير، كان يقوم ~~بتدريس فن الشعر والإبداع الشعري لطلابه الذين أصبح عدد كبير منهم من ~~الأعلام المرموقين في ساحة الشعر الألماني المعاصر، ذلك هو معلمه ~~وراعيه الطيب الودود «جورج ماورر» الذي يستحق اللقاء القدري الفريد ~~الذي جمعه بتلميذه العربي وقفة قصيرة نتحدث فيها عنه ~~باختصار. ~~(ز) شاءت الصدفة السعيدة، كما قلت، أن يلتقي شاعرنا بعد التحاقه ~~بمعهد الأدب بشاعر كبير ومعلم عظيم يملك علم الأستاذ وحنو الأب ~~وطيبة ونقاء قلب الطفل. كان ذلك المعلم والشاعر والأب الحنون «الفارع ~~الطول ذو العينين العميقتي الزرقة، والجبهة العريضة» كان هو جورج ~~ماورر (1907-1971م) أحد أعظم شعراء العصر، كما قال عنه الشاعر الفرنسي ~~الكبير أراجون. # 6 # كان الرجل يقوم بتدريس «مادة» الشعر. وكان تلاميذه - كما سبق القول ~~- مجموعة من الشعراء والكتاب الشبان الذين «يبحثون عن المعرفة وعن ~~كيفية تملك ناصية الحرف، وذلك بفضل خبرة معلم يملك ناصية الحرف، ~~ويحمل في جعبته ألف معرفة ومعرفة.» # 7 # راح المعلم والشاعر الاشتراكي الكبير يبحث مع تلاميذه عن أصواتهم ~~الخاصة، ويهديهم في الوقت نفسه إليها، يكشف لهم عن الطاقات الكامنة ~~فيهم من جهة، وفي الواقع من جهة أخرى. وكان منهجه في التعليم يتلخص ~~في هذه العبارة الذهبية: «ليس هناك بلسم شاف وحيد، فلكل كائن طريقته ~~الخاصة في الوصول للهدف، ولكل شاعر قصيدته الخاصة به دون سواه، ولكل ~~قصيدة روحها وعالمها الإيقاعي والشعوري والفكري المستقل بها». وكان ~~المعلم واقعيا بالمعنى الشعري الشامل لهذه الكلمة، ولذلك أخذ بأيديهم ~~ليبحثوا ويتحركوا في اتجاه «مشتل الواقع» وانطلاقا منه، ويكتشفوا ~~بأنفسهم الطاقات الكامنة في «واقعهم» الباطن، وفي الواقع التاريخي ~~الراهن والماضي والمستقبل بكل ما يختزنه قلبه الجياش بالتجربة ~~البشرية الشاملة من صور وصراعات وأساطير ورموز عند كل الشعوب، وفي كل ~~الحضارات. وباختصار: علمهم من خلال دروسه المفعمة بالحب، ومن خلال ~~أشعاره الغنية بالتعاطف والشجاعة والأمل، علمهم الرؤية الكلية للواقع ~~الحسي ms21 والتواصل الودي بين البشر كافة. # والقارئ الذي يطلع على كتاب عادل قرشولي عن هذا الشاعر والمعلم ~~الكبير، ويعايش القصائد البديعة التي ترجمها إلى العربية، سيدرك، في ~~تقديري، مدى تأثيره المباشر وغير المباشر عليه في كثير من الدوائر ~~التي يتحرك فيها شعره، والإشكاليات الفكرية والفلسفية والإنسانية التي ~~تشغل عقله وقلبه: علاقة الأنا مع الآخر، وحدة الذات مع الكون، تواصل ~~الإنسان مع الإنسان والطبيعة، وتراث الأجيال البشرية كلها بغير تفرقة ~~بينها. وسوف يرى القارئ أيضا أن التلميذ السابق قد تأثر بأستاذه ~~تأثرا ملحوظا في نظرته المتفائلة، بل الطوباوية، إلى الواقع ~~والمستقبل، والثقة العميقة بالأدب والفن، وقدرتهما على تغيير العالم ~~والعلاقات الإنسانية، من خلال التواصل الحي الفعال بين الذات ~~والآخر (الذي يمكن أن يكون هو الإنسان أو الطبيعة، أو الحضارة البشرية، ~~أو الماضي أو المستقبل ...) ومن خلال التوحد مع الآخرين، مع الأرض ومع ~~الكون كله. # يقول شاعرنا في قصيدة طويلة وجميلة أهداها إلى ذكرى معلمه وراعيه، ~~وجعل عنوانها: «خضرة النعناعة» (من ديوانه: لو لم تكن دمشق، 1999م، ~~الطبعة الثالثة، ص13-14)، وذلك بعد أن يعرف ببلاد الخرافات والحكايات ~~التي جاء منها «بلاد الألف شمس وشمس، والألف بؤس وبؤس» إلى المدن ~~الكبرى المزدهرة التي دارت فيها عجلة التقدم وسبقت بلادنا التعيسة ~~بمائة عام في أقل تقدير، وانتشرت عليها ظلال اللامبالاة والعقلانية ~~الباردة التي لا قلب لها، بحيث تجمدت الفراشات الذهبية - التي كانت ~~ترفرف في صدر الشاعر قبل مجيئه إليها - فوق غاباتها الثلجية، ونثرت ~~الرياح الجليدية الشك في أغانيه، وبعثرت الألوان من ريشته، ومزقت ~~أوراق عقد الياسمين الذي كان يطوق رقبته ... حتى جاء المعلم الحنون ~~«فألقى بالأصداف النبوية على الثلج، ودل الشاعر الشاب على الطريق إلى ~~قاع النبع، وإلى الكنز الكامن في الغابات الثلجية الأخرى»، أعطاه ~~الكلمة «الخاصة بنا» (إشارة إلى القصيدة المطولة التي ترجمها الشاعر ~~إلى العربية، وجعلها عنوانا لكتابه السابق الذكر عنه)؛ لكي نتحكم ~~في السحاب، ونحتفل بعرس الطبيعة، ونخزن الماء وراء السد، ونواجه خط ~~الموت الفاصل بلا خوف؛ لأن الأولى بالخوف هو قناع ms22 الأحياء الجامد. ~~وتستمر القصيدة، في القسم الرابع منها بوجه خاص، في تضمين سطور دالة ~~من قصائد ماورر، هذا الشاعر الذي رصد حركات التقدم في الواقع الاشتراكي ~~الذي عاصره على مهاد رحب من معرفته الواسعة بنضال الإنسان وتضحيات ~~الأجيال، عبر ألوف السنين من تاريخ البشرية. # نعم لقد أعطاه سر الكلمة الشعرية، وأعاد إلى قلمه «خضرة النعناع»، ~~وأكد له صدق البيتين الشهيرين اللذين كتبهما أمير الشعر الألماني ~~«جوته» في ديوانه الشرقي الشهير: # 8 # من لم يستطع أن يقدم لنفسه الحساب، ~~«عما تم من تطور» خلال ثلاثة آلاف عام؛ # فليبق معدوم الخبرة يتخبط في الظلام، # وليعش من يوم ليوم «ويتنقل من باب لباب». ~~(ح) والتحق الشاعر الشاب في سنة 1966م بالمعهد التابع ~~لجامعة ليبزيج لدراسة المسرح واللغة والأدب الألماني، حيث تفرغ بعد ~~ذلك بسنوات لإعداد أطروحته للدكتوراه عن «التلقي العربي لمسرحية ~~بريشت التعليمية «الاستثناء والقاعدة»»، ومناقشة ما شاب هذا التلقي - ~~سواء في ترجماتها العربية المختلفة أو في التعليقات، والدراسات ~~النقدية عنها وعن مسرح بريشت - من خلط وسوء فهم لمنهجه في المسرح ~~الملحمي (راجع ما سبق أن ذكرته في التمهيد عن هذا الموضوع). ~~(ط) كان الشاعر - كما سبق القول - قد فقد المخاطب العربي وفقد ~~معه، أو صور له القلق أنه فقد معه، الظل والهوية. # بدأت محاولاته لمد جذوره في اللغة الجديدة وفي الوطن الجديد. لكن ~~محاولاته لكتابة الشعر بالألمانية بقيت متعثرة طوال عقد الستينيات، ~~إذ اقتصر شعره الذي يسجل تجارب هذه المرحلة (وقد جمعه في أول ديوان ~~صدر له بالألمانية، وهو كحرير من دمشق، 1968م) على بعض القصائد التي ~~كتبها بالعربية، ثم ترجمت، بفضل بعض أصدقائه الذين ذكرناهم، ترجمة ~~شعرية إلى الألمانية. وجاءت معجزة الحب ل «النعناعة الشقراء» التي ~~تعرف عليها في الجامعة، فشدت على يده وقلبه أثناء كفاحه لمد ~~الجذور في الأرض واللغة والأدب والثقافة والحضارة الغريبة عليه، ~~واستطاعت أن تمسح العرق عن جبينه، وتخلصه من تردده في تلك المرحلة ~~عن البقاء في تلك الأرض. # صمم الحبيبان على عقد الرباط المقدس، بالرغم من نصائح ms23 بعض مواطني ~~الشقراء بالابتعاد عن الأجنبي الأسمر الشعر والجبين، وتم الزواج في ~~سنة 1964م، ووضع أساس الأسرة السعيدة التي يلتئم شملها اليوم مع الابن ~~والابنة والحفيدتين. صحيح أن الحبيبين قد لقيا ما لقيا من ~~متاعب البيروقراطيين هنا وهناك، ولكن الصحيح أيضا أن الظروف ~~المواتية وقفت في صفهما لإتمام المعجزة: انفرجت الأحوال في سوريا ~~بعد إنهاء الوحدة السيئة الحظ، ورفع أمر القبض على الشاعر، فتمكن ~~بعد الزواج بعام واحد (1965م) من زيارة وطنه في صحبة زوجته، بل شاءت ~~معجزة الحب أن تغير الزوجة تخصصها الأصلي في الأدبين الروسي ~~والألماني، وتتفرغ لدراسة اللغة والأدب العربي الحديث، حتى أصبحت اليوم ~~من ألمع وأقدر مترجميه إلى الألمانية، بجانب قيامها بتدريسهما منذ ~~سنوات طويلة في قسم اللغات الشرقية بجامعة ليبزيج. # 9 # ولم يمض وقت طويل حتى توج الزواج بحصول الزوجين على ~~الدكتوراه، وعلى وظيفة للتدريس بنفس الجامعة التي التقيا فيها ~~وتخرجا منها. # لم تخل الحياة في الواقع اليومي بطبيعة الحال من المتاعب والضغوط ~~النفسية، ولم ينج إحساس الشاعر بنفسه كشاعر من الألم والضيق؛ بسبب ~~النظر إليه في تلك الفترة، وإلى شعره كشيء خرافي غريب أو عجيب أو جذاب، # 10 # مع اختزال الشعر إلى هذه الغرابة وغض النظر عن قيمته ~~الفنية والجمالية في ذاتها ولذاتها. لكن المعجزة استطاعت أن تكتسح ~~المتاعب والمنغصات الصغيرة، وترفع الحواجز الفاصلة بين بلدين ~~وحضارتين، وتؤكد للزوجين أنهما يعيشان «في بيتهما»، وتعين الأيدي ~~الطيبة المتعانقة على تعميق الجذور في وطن الغربة، بل استطاعت المعجزة ~~أن تنقله من مرحلة تقديم قصائده العربية الأصل في ترجمتها الشعرية، ~~إلى مرحلة كتابة الشعر مباشرة بالألمانية؛ لكي يتسنى له أن يشارك ~~مشاركة فعالة في الحياة الأدبية والاجتماعية، ويخاطب قارئه الجديد ~~بلغته، فيزداد تقديره له جماليا وإنسانيا، بدلا من النظر إليه، ~~كما حدث في عقد الستينيات، كشاعر خرافي وغرائبي، أو زهرة عجيبة في ~~زهرية معزولة، أو تحفة شرقية نادرة ومثيرة. # حقا ما أعجب وما أطيب المعجزة التي أعانته على مواجهة هذه ~~المخاطرة الضرورية، دون أن يضطر في نفس الوقت للتخلي ms24 عن هويته أو ~~التنكر لذاتيته الأصيلة. # الفصل الثاني # | عناق خطوط الطول # (أ) عرف منذ البداية أن الحياة حوار، وأن الشعر حوار، ولأنه بفطرته ~~ومعتقده الفكري جدلي أصيل، فقد عرف أيضا أن الحوار يفترض الخلاف ~~والتعارض والتضاد، وأنه يقوم على الدوام على الصراع بين ~~قطبين أو طرفين متناقضين يحرص المفكر، مثل كيركجارد ونيتشه، على ~~استمراره؛ تعبيرا عن صيرورة الوجود وتناقض العالم والوجدان، أو يسعى ~~بكل جهده، مثل هيجل وماركس، إلى التأليف بينهما في مركب جديد، يتحقق ~~معه التجانس والوئام بعد الحرب والصراع والخصام. ثم لا يلبث هذا ~~المركب أن يواجه نقيضا جديدا يدخل معه في الحوار أو الصراع، وتدور ~~العجلة الجدلية وتدور حتى تصل، أو لا تصل للتأليف بينهما في مركب ~~آخر. # هل ينتمي عادل قرشولي إلى الفريق الأول، أم إلى الفريق ~~الثاني؟ # الإجابة حاضرة، ناصعة كضياء الشمس: لقد شاء لنفسه، وشاء له قدره أن ~~يكون بحياته وشعره وسيطا جدليا، أو جسرا ممدودا بالمحبة ~~والتفاهم والمودة والاحترام المتبادل بين لغتين وأدبين، ~~وحضارتين أو عالمين مختلفين، لم يكن ذلك أبدا، ولن يكون أمرا ~~سهلا؛ لأنه، كالحياة والشعر، عملية متصلة تجري كنهر الصيرورة ~~الجياش بالحركة والتدفق، وسط النتوء والصخور، وتتعرض للأنواء ~~والأعاصير، وتفرض عليها الضرورة أن تخترق الحواجز والقيود ~~والسدود. ~~(ب) كان على الشاعر - بعد صدور ديوانه الأول بالألمانية الذي عرفنا ~~قصته، وخلال ما يقرب من عشر سنوات - أن يخوض معارك مختلفة، ويمر ~~بأزمات قاسية: تعمق اللغة الأخرى والأدب الآخر إلى حد التمكن من ~~التوجه للمخاطب الجديد بلغته، ومشاركته في هموم حياته ومجتمعه ~~وثقافته؛ المرور بأزمة خلق شعري من نوع ~~فريد نتيجة التصميم على الكتابة ~~بلغة جديدة، والتوجه لمخاطب جديد؛ التخلص من أوهام كثيرة وعزيزة عن ~~«جنة العمال والفلاحين»، وازدياد الوعي بحقيقة الواقع الذي يخنقه الملل ~~واللامبالاة، وتهيمن عليه الأوامر والتعليمات والشعارات. يوارب الباب ~~أحيانا لنسمات من الحرية، ثم لا يلبث أن ينفد صبره عندما تهب ~~تيارات النقد والتمرد والغضب، فيعيد فتح أبواب العقوبات والمحظورات ~~والمعتقلات على مصاريعها. ثم المعاناة من طغيان تأثير ms25 الآخر الذي ~~عايش شعره وفكره عدة سنوات، حتى لمس جذوره واستظل بفروعه؛ لا سيما ~~بريشت ومجموعة الشعراء المقربين منه، الذين سبحوا مع الموجة ~~الجديدة، وجذبوه للسباحة معهم إلى الحد الذي أحس معه بخطر تهديد ~~ذاتيته الفنية وهويته الشخصية والقومية. مع ذلك لم تتوقف الجهود ~~المبذولة لعبور الأزمات ومد الجسور، وتحسس الطريق للعثور على «الوطن» ~~الشعري الحقيقي داخل الذات، في أعمق طبقاتها الواعية ~~واللاواعية. ~~(ج) و«عناق خطوط الطول» (1978م) هي المجموعة الشعرية، التي تسجل ~~مشاهدها وصورها ذبذبات تلك الزلازل التي هزت كيانه، ومزقته بين ~~عالمين ووطنين ولغتين وثقافتين، وذلك قبل أن يطمئن لنجاحه في ~~مد الجسور وغرس الجذور، ولمس الحقيقة الباطنة في عالمه ~~الباطن: # هناك وهناك، # هنا وهناك. # أين أكون أنا في بيتي؟ ~~••• # في لغتين تصاغ الجملة. # في عالمين تمسك اليدان بالأشياء. # في الحلم تكلمني أمي بالألمانية، # وتكلمني بالعربية زوجتي السكسونية. ~~••• # من خط طول إلى خط طول # تقفز أحلامي خفيفة الأقدام، # تمتد فروع شجرتي، # وكل زهرة تحمل # وشم قوافل الشمس القديمة العهد، # التي تنبض خلال عروق شجرتي. ~~••• # آه # يا خطوط الطول! # أنت يا غصون شجرة السنديان، # وشجرة الزيتون، # تعانقي بقوة، # بقوة أشد # داخل ذاتي. # والجزء الأول من أجزاء القصيدة الأربعة يؤكد تمزق ~~الأنا الشاعرة بين ال «هنا» وال «هناك»، وتوترها بين القطبين ~~المتنابذين اللذين تمثلهما هاتان الكلمتان، وتعبران بهما عن اتجاهين ~~مختلفين تنتفي عن كل منهما الراحة والاستقرار والأمان، ولا بد من ~~البحث عنهما في شيء يوحد بينهما، أو يصل بين شاطئيهما. # ويأتي السؤال المحدد عن الوطن: أين أكون في بيتي؟ في هذا الشاطئ أم ~~ذاك؟ على هذا القطب أم القطب الآخر؟ يتبين من الأبيات التالية ~~استحالة التمسك بأحدهما دون الآخر، سواء بالنسبة للإنسان «في عالمين ~~تمسك اليدان بالأشياء»، أو بالنسبة للشاعر والشعر ف «الجملة تصاغ في ~~لغتين». وتتكاثف الأمور، ويتعقد الموقف، وتتشابك خيوطه بعد ذلك، ~~فالسؤال عن الوطن الذي يبدو بسيطا وواضحا لا تظهر له إجابة واضحة ~~وبسيطة مثله. إن العالمين يختلطان أو يمتزجان، ولكن هذا يحدث في ~~الحلم ms26، وفي الحلم وحده يبدو عثور الشاعر على الوطن أمرا ممكنا؛ ~~ففروع شجرته تنتشر، وتمتد فوق خطوط الطول. والشجرة نفسها رمز للجذور ~~الثابتة في الأرض، وللنفس الكبيرة التي لا تستريح؛ حتى توحد في ذاتها ~~بين العالمين. # غير أن ينابيع الطفولة لا تجف أبدا، بل تسري نابضة في عروق ~~الشجرة التي تحمل أزهارها وأثمارها وشم قوافل الشمس القديمة قدم ~~طفولة الشاعر وصباه وأجيال سبقته، وأخرى ستجيء بعده. # ونسمع التنهيدة فنشعر بأن صحوة الواقع قد جاءت في أعقاب نشوة ~~الحلم باللقاء، أو العناق الذي لم يتحقق بعد. وتتخذ خطوط الطول ~~مضمونا محددا ومعنى مجسدا؛ فالسنديانة الألمانية والغربية، ~~وشجرة الزيتون السورية والعربية يمثلان الحضارتين المختلفتين ~~اللتين يتحرك بين شاطئيهما شراع «الأنا» الشاعرة التي تحاول - ولو في ~~الحلم - أن تقرب بينهما إلى حد التوحد في عمق الذات، الذات التي ~~ضربت الشجرتان جذورهما في صميمها، وبقيت متشبثة بجوهرها ~~وسرها. # وإذا كانت قصائد الشاعر تزخر بالتعارضات والصراعات بين طرفين أو ~~قطبين يحاول أن يجمع بينهما: بين شجرة زيتون وشجرة سنديان، بين الصراخ ~~والصمت، والحب والموت، بين النقد إلى حد الغضب والتمرد والرضا، ~~إلى حد الاعتكاف والعكوف على الذات، فإن «عين الشاعر الثالثة»، أو ~~حدسه الكاشف الذي لا يخطئ، يدله دائما على أن العالم لا يرى على ~~الحقيقة إلا في كليته، وأنه إذا كان يتمزق بين تناقضاته وأطرافه ~~المتصارعة، فإنه لن يجد العالم - كما يقول بيت مشهور للشاعر رلكه - إلا ~~في الباطن وحده. ولا غرابة بعد هذا في أن تنتهي القصيدة بأمر ملح ~~ومعبر عن القلق، ونفاد الصبر: «تعانقي بقوة، بقوة أشد، داخل ذاتي ~~...» ~~(د) لم يكن الطريق إلى كتابة الشعر بلغة أخرى غير لغة الأم بالطريق ~~السهل؛ فقد شعر في مطلع الستينيات - كما سبق القول - بأنه قد فقد ~~ظله الذي لازمه منذ مولده في نفس اللحظة التي ترك فيها وطنه. ~~ولم يقتصر الأمر على فقدان المخاطب العربي الذي كان يتوجه إليه ~~بشعره المبكر ويتأثر به، كما يؤثر عليه خلال عملية إبداعه، وإنما بلغ ~~حد الإحساس المهول بفقدان ms27 الهوية، وجد نفسه في حالة عجز مطلق عن ~~التعبير للآخرين عما يجيش في كيانه، كما وجد الآخرين يعاملونه كأنه طفل ~~متخلف، أو معوق. وبعد أن تحرر من الظروف المهينة التي أحاطت ~~بالفترة الأولى من وجوده في المهجر، واستقرت قدماه في مدينة ليبزيج؛ ~~وجد نفسه في مواجهة اللغة التي يتكلم بها الناس، وتنطق بها الأحداث ~~الجارية من حوله، أمام أحد اختيارين لا بديل له عن أحدهما: فإما أن ~~يغرس جذرا في اللغة والثقافة الجديدة عليه، وإما أن يدفن نفسه بنفسه ~~في قبر الصمت. وكان عليه بطبيعة الحال أن يختار الأولى؛ حتى يؤكد ~~لنفسه أنه حي وفعال ومشارك، وحتى يتمكن من وضع قدمه في صميم الساحة ~~الثقافية الجديدة التي وجد نفسه فجأة على هامشها. # 1 # وبقي الطريق إلى كتابة قصائده الأولى بالألمانية طريقا شاقا ~~مضنيا؛ فقد سبقته جهود طويلة في دراسة اللغة والأدب الألماني، وتاريخه ~~(إلى حد تكليفه بعد ذلك بالقيام بتدريسه في نفس الجامعة)، وفي ~~الاطلاع على نماذجه الكبرى في شتى عصوره، والتعمق في تذوق بعض قممه ~~الحديثة والمعاصرة، وبالأخص شعر بريشت والأجيال التالية المتأثرة به ~~سلبا أو إيجابا، بالإضافة إلى الإنتاج الشعري لطائفة من أصدقائه ~~وزملائه في معهد الأدب الذين سبق الحديث عن موجتهم الجديدة. ~~(ه) ومرت القصيدة الألمانية، ~~التي بدأ في كتابتها منذ منتصف الستينيات، بعدة تحولات. كانت في ~~الأصل - كما يؤثر أن يسميها - قصائد ظرفية عبرت عن لحظة آنية ~~عاشها، ثم رفعها التشكيل الشعري من حدث جزئي وهامشي إلى حدث ~~كلي وعام. ولست أدري على وجه التحديد؛ هل كتبت القصائد الأولى في ~~الأصل بالعربية قبل أن يترجمها بنفسه، ويضيف إليها أصدقاؤه الألمان ~~لمساتهم الإبداعية، أم أنها ترجمت مباشرة عن قصائد عربية سابقة، ~~وبقيت من حيث الموضوع والشكل متأثرة بالتراث الشعري العربي، ~~واحتفظت بلغة غنية بالصور المذهلة، ونهلت مضامينها من ينابيع الحب ~~والحنين للوطن، والنضال في سبيل الحرية والكرامة والسلام والأخوة ~~البشرية، وسائر المثل، والأحلام التقدمية التي جعلت من الخطاب ~~الشعري دعوة ونداء ورسالة تبشيرية وتحريضية؟ لست أدري هل كان ms28 الأمر ~~على هذه الصورة أو تلك؟ فالذي أدريه - من كلام الشاعر نفسه في حوارات ~~ومناسبات عديدة - أن هذه القصائد الأولى قد لفتت إليها أنظار القراء، ~~وبهرت المستمعين الذين تحمسوا لها حماسا جارفا في الندوات التي ~~كانت تلقى فيها؛ بسبب السحر الشرقي الذي يسري فيها، والمناخ العربي ~~الذي كان يظللها، والصور والأخيلة والاستعارات والتشكيلات ~~الجمالية التي عمل الموروث الشعري العربي، مع ذكريات الطفولة والصبا ~~في أزقة دمشق وأمسياتها الحلوة، عملهما في غزل نسيجها؛ أي إنها قد ~~جذبت إليها العيون والآذان بسبب «غرائبيتها»، أو ما فيها من عناصر ~~عجيبة وغير مألوفة. وقد كان هذا على وجه الدقة هو الذي دفع الشاعر ~~على الثورة والغضب؛ فقد رفض أن يكون تحفة شرقية، أو زهرة مجلوبة من ~~بلد بعيد، وهكذا تحولت القصيدة الألمانية من وسيلة ضرورية واضطرارية ~~للتواصل مع الآخر، إلى بنية جمالية متفردة تنتزع الإعجاب بقيمتها ~~الفنية في ذاتها، لا بسبب ما تحتويه بالضرورة من توابل شرقية وعربية، ~~إلى أن أصبحت في النهاية - وبالأخص في ذروة تجلياتها الشعرية على لسان ~~عبد الله في الديوان الذي سنجده في هذا الكتاب - أصبحت مناجاة ذاتية ~~أو صوتا ثانيا يعبر عن حوار الذات مع ذاتها. مر الشاعر بأزمة ~~إبداع استمرت معه قرابة العشر سنوات، قبل أن يصدر ديوانه الذي يضم ~~القصائد التي كتبها بالألمانية مباشرة، ودون الحاجة إلى وسيط من ~~الأصدقاء لإعادة إبداعها وصياغتها صياغة شعرية. ولا شك أن قراءه ~~«الآخرين» قد أحسوا، وهم يطالعون أبيات «عناق خطوط الطول» (1978م)، ~~أو يستمعون إليها من فم صاحبها، أنهم أمام شعر حقيقي لا شعر ~~«غرائبي»، يستثير إحساسهم الموروث بالشرق، أو يرضي أحكامهم وتحيزاتهم ~~المسبقة عن العرب وحضارة العرب. ولعل أول صدى لهذا الاستقبال ~~الجديد هو الذي دعا أحد النقاد لأن يمنحه «المواطنة الشعرية لجمهورية ~~ألمانيا الديمقراطية». # 2 # ويضم الديوان - الذي اقتبسنا منه قصيدة العنوان، التي وقفنا معها في ~~بداية هذا الفصل وقفة قصيرة - قصائد متنوعة الموضوعات ما بين السياسة ~~والنقد الاجتماعي، وحياة اللاجئين أو المهاجرين، فضلا عن موضوع الحب ~~الذي كان ms29، ولا يزال هو سند وجوده. ~~(و) كان هدفه من هذا الديوان هو أن يوحد في شخصه بين خطوط الطول؛ ~~غير أن العقبات التي تحول دون هذا التوحيد كادت أن تصل إلى حد ~~الارتطام بجدران المستحيل. وأول هذه العقبات هي مشكلة الحياة والكتابة ~~بلغتين، وبخاصة بعد أن اتخذ قراره الحاسم بأن ينطق لسانه الشعري ~~مباشرة بالألمانية، وأن يخاطب المتلقي الجديد بلغته، ويعبر عن همومه ~~التي يعيشها معه، ويشاركه فيها بالعاطفة والفعل، ولا يقف موقف المتفرج ~~الذي يتخفى وراء قناع الأجنبي، أو المنفي أو اللاجئ والمستبعد. ~~وجد نفسه كمن يبدأ من جديد، وأحس أنه يحيا وينطق ويكتب بلسانين، ~~وأن ذلك يضاعف وجوده في شخصين، أو يشقه نصفين، ولكنه ظل إلى اليوم، ~~كما يقول صديقه الناقد والشاعر هاينز تشيخوفسكي، في تعقيبه على ديوانه ~~«لو لم تكن دمشق» (1992م): ظل يحمل العبء الثقيل بجدارة وكبرياء، وبقدر ~~غير قليل من الحكمة والالتزام والبهجة والمتعة أيضا. # كان على يقين من أنه منفي في اللغة الجديدة، وأن اللغة التي يكتب ~~بها ستبقى مختلفة عن لغة أهلها الذين نشئوا عليها وفيها؛ إذ يتحتم ~~عليه أن يجدد خلقها في كل قول أو فعل تواصلي، وأن يجعلها ~~متطابقة مع حالة المنفي أو اللاجئ التي لا ينكرها، وإن حاول جهده أن ~~يتجاوزها، بحيث تصبح في حقيقتها ووظيفتها لغة للتواصل والأمل، تصبح ~~بيته وملاذه، ومحط رجائه وثقته في المستقبل. صحيح أنها لم تكن ~~لتصبح بالنسبة إليه «لغة الأم»، إذ يستحيل على الإنسان أن يستبدل بأمه ~~أما أخرى، ولكنها استطاعت أن تحتل مكان «الحبيبة» التي تستند إليه ~~كما يستند إليها، وتلجأ إليه كما يلجأ إليها كلما أعوزه التعبير عن ~~هواجسه وشكوكه، وأحزانه وأفراحه، وذكرياته وأشواقه، وكلما أراد أن ~~يشعر بأنه مشارك في الأحداث والتغيرات التي تتم في وطن الغربة الذي ~~اختاره بإرادته الحرة وطنا ثانيا، وآمن بقيمه العليا وتوجهاته ~~الأخيرة، وإن تزايدت شكوكه مع الزمن في صحة تطبيقها وممارستها على أرض ~~الواقع. ~~(ه) هكذا تغيرت اللغة التي جعلها وطنه وسكنه، وبدأ ينظم بها ms30 شعره. ~~وتغير المخاطب الذي قصده بهذا الشعر المعبر عن تعاطفه معه، ومشاركته ~~له بالرأي والفعل، والقادر، تبعا لإيمانه الراسخ مع معظم أبناء جيله ب ~~«الكلمة - الفعل»، على تغيير العالم. وكان من الطبيعي أن تتغير أغراض ~~هذا الشعر وموضوعاته عما كانت عليه من قبل، تستوي في ذلك قصائده ~~السابقة بالألمانية، أو بالعربية التي غلبت عليها النغمة العاطفية ~~والحنين للماضي، ولم تكترث باتخاذ موقف نقدي من مشكلات الحاضر وأزماته، ~~حتى إذا شغله الشعر الحديث بعمق، وبالأخص شعر بريشت، حاول أن يصل إلى ~~الوحدة الجدلية التي تؤلف في قصائده بين العقل والعاطفة، بحيث لا يطغى ~~أحدهما عليه؛ ذلك لأن لغة الشاعر، على حد تعبيره في مقال نشره في عام ~~1965م، بجريدة الشعب التي تصدر في مدينة ليبزيج: «ينبغي أن تكون حوارا ~~بين عقله وقلب القارئ، أو بين قلبه وعقل القارئ، فاللغة التي تتجه من ~~العقل إلى العقل هي لغة العلم، أما اللغة التي تتجه من القلب إلى ~~القلب فهي لغة المحبين.» # كانت عقلانية بريشت الجدلية ~~قد سيطرت عليه فترة من الزمن، حتى أيقن بأنه لن يصل إليه إلا إذا تخلص ~~من تأثيره عليه، وكسا عقلانيته بثوب الصورة والاستعارة النابعة من ~~فطرته، ومن موروثه العربي المغروس في دمه. وهكذا «أخذت الاستعارة، لا ~~الفكرة الواضحة كالبلور، هي التي تقود قلمي، وبدا لي وكأنني لست أنا ~~الذي يشكل شعري، بل إن الشعر هو الذي يشكلني ويؤثر على الرؤية وزاوية ~~النظر، بل وأحيانا على أسلوب الأداء.» # 3 ~~(ح) وكما تخلص من العناصر «الغرائبية» التي جذبت المتلقين إليه في ~~البداية، استطاع كذلك أن يتخلص من تأثير بريشت، وتأثير أستاذه «ماورر» ~~وسائر الشعراء - وبالأخص أصحاب الموجة السكسونية الجديدة - الذين تأثر ~~بهم إلى درجة المحاكاة في بعض الأحيان أو المعارضة في أحيان أخرى. # 4 # كان عليه أن يجد نفسه أولا قبل أن يجد طريقه للخلاص من ~~أزمته الطويلة، وقد وجدها عندما وجد كذلك مكانه بين التيارات الأدبية ~~المتلاطمة من حوله، وعرف أن دوره الحقيقي هو الجمع بين تراثه الأدبي ~~الموروث، وبين التراث ms31 الألماني والعالمي في وحدة واحدة، أي عندما تأكد ~~لديه الوعي بمهمته وواجبه في الحياة والشعر؛ مد الجسور بين أدبين ~~وتراثين وعالمين، وترك جذور السنديان والزيتون تتعانق بقوة في داخله، ~~كما تتعانق خطوط الطول. # الفصل الثالث # | وطن في الغربة # (أ) يستحيل على أي قول أو فعل - بل يستحيل على الصمت نفسه - أن يخلو ~~من السياسة. ومن رابع المستحيلات أن يخلو قول أو فعل أدبي من موقف أو ~~وجهة نظر، مباشرة أو غير مباشرة، عما يحدث في بلد الأديب، أو في ~~العالم من أحداث تتصل بقضايا وأسئلة ومشكلات كبرى في حياة البشر، ~~كالحرب والسلام، والحرية والاستعباد، والعدل والظلم والاضطهاد، والفقر ~~والجوع ... إلخ. # وقد آمن عادل قرشولي منذ البداية بأنه شاعر سياسي ملتزم، وإن كان قد ~~حرص منذ البداية أيضا على أن ينأى بنفسه عن الأحداث السياسية التي ~~تجري كل يوم، وعن الدخول في أي حزب سياسي علني أو سري. شعر منذ ~~الستينيات شعورا عميقا بأنه سياسي، كما أحس إحساسا جارفا بأن أي ~~حدث سياسي هام، ومن ثم أي حدث إنساني يقع في بلده أو خارجها، يهز ~~وجدانه إلى الحد الذي يجبره على تشكيل تجربته له في شكل ~~فني. # ويتجلى هذا الموقف السياسي والإنساني العام - الذي لم يزل الشاعر ~~ملتزما به التزاما أساسيا - منذ بداية محاولاته لكتابة القصيدة ~~الألمانية في أوائل الستينيات. يكفي أن نستشهد على هذا بإحدى قصائده ~~المبكرة التي استجاب لها جمهور الشباب الذين استمعوا إليها في إحدى ~~الندوات، التي كان وما يزال حريصا على قراءة مختارات من شعره فيها، ~~وهي قصيدته «نداء من أجل فيتنام»: # أريد أن أهز الحالمين في الشوارع، # أن أنتزع فنجان القهوة من اليد الهادئة المطمئنة، # أن أقف في القاعة حيث يسبحون في سماوات «باخ» الإلهية، ~~وأصرخ فيهم، # أصرخ بملء حنجرتي: # في فيتنام يتصاعد الدخان من الأدغال، # في فيتنام تحترق غصون الأشجار، # والجلد الناعم والشفاه. # ومن الواضح أن هذه القصيدة تحرض غير المكترثين على ~~أن يكترثوا بما يدور حولهم، وتدعو البرجوازي الصغير - الذي اعتاد في ~~كل مكان ms32 ألا يبالي بشيء يخرج عن حدود جسده ومصالحه - تدعوه لأن ~~يهتم بما يرتكب في العالم من مظالم، لن ينجيه الجمود واللامبالاة ~~من الاحتراق بنارها بعد أجل قريب أو بعيد. والعجيب والجدير أيضا ~~بالذكر أن هذه القصيدة تحولت في ذلك الحين إلى شعار رفعه ~~المحتجون على حرب فيتنام في مظاهراتهم الحاشدة، بل برزت أبياتها ~~على لافتة علقت داخل المحطة الرئيسية للسكة الحديدية في مدينة ~~ليبزيج، كما قام بتلحينها أحد كبار الموسيقيين (يواخيم فير تسلاو)، ~~وظهرت نوتتها الموسيقية في كتاب صدر في نفس المدينة سنة 1968م. ومع ~~أن الاتجاه لإدماج الأحداث السياسية الهامة وتضمينها في نسيج الشعر كان ~~اتجاها شبه عام بين الشعراء عندنا وعندهم في تلك الفترة، فلا بد من ~~القول بأن ذلك كان أمرا طبيعيا بالنسبة للشاعر الذي اشتعل كيانه ~~بالمبادئ الاشتراكية، والذي ذاق مرارة تجربة المنفى والجوع والاضطهاد، ~~ولم يقف أبدا لا في شعره، ولا في نثره، موقف المتفرج من القضايا ~~والأحداث والمحن التي ألمت ببلاده العربية، مثل: مجزرة صابرا ~~وشاتيلا، وحرب الخليج، وانتفاضة أطفال الحجارة. ~~(ب) مع ذلك، فبالرغم من كل الدعايات والمزاعم العالية الصوت باسم ~~التضامن الإنساني والأخوة البشرية، ومساندة الشعوب النامية في مساعيها ~~للتحرر والاستقلال، كانت تتحرك تحت هذا السطح الرسمي البراق - ~~كالدود في العسل - ألوان مختلفة من اضطهاد الأجانب في ألمانيا ~~الديمقراطية السابقة. يروي لنا الشاعر كيف شارك في مظاهرة كبرى باسم ~~الشعب وصرخ مع الجموع: «نحن الشعب»، ومع ذلك اضطر أن يقول لنفسه أو أن ~~يجد من يقول له: نحن؟ كيف تقول نحن؟ أنت بالذات مستبعد. ~~فالأجنبي يبقى أجنبيا، حتى لو حاول بكل كيانه أن يحيا حياة المواطن ~~في البلد الغريب، وما قيمة أن أقول للشاب الذي يصيح حتى يشق ~~حنجرته: «اخرجوا أيها الأجانب»؟! ما قيمة أن أقول له: لقد عشت يا ~~بني في هذه المدينة عمرا أطول من عمرك، وربما كنت أعرف أجدادك ~~الألمان، مثل جوته، وهيني وكلايست، وهيجل، وباخ وغيرهم، خيرا من ~~معرفتك بهم؟! سوف يظل يصرخ مصوبا نحوي رصاص كلماته: «اخرجوا ms33 أيها ~~الأجانب!» وأحاول من جانبي أن ألتمس له الأعذار والمعاذير حتى لا ~~أجن؛ لجهله، وصغر سنه، وقلة خبرته، ونزعته الإقليمية، ومعاناته من ~~البطالة، وتعرضه للبث الإعلامي الذي ينفث سوء الظن بالآخرين. آه! وكم ~~وصفوني، ونادوا علي بأسماء مختلفة: أنت يا حادي الجمال، يا تركي، يا ~~ياباني، أو أنت أيها الأسود! # وكم تعرض أيضا لضغوط نفسية حادة كالتهديد بسحب إقامته، أو منعه من ~~الدراسة والحصول على عمل، بحيث لم يشعر أبدا قبل إتمام الوحدة بين ~~الشطرين السابقين، لا بالأمان ولا بضمان إقامته بصورة دائمة. أضف إلى ~~ذلك أن الأجانب لم يكن يسمح لهم بتكوين تنظيمات أو اتحادات خاصة بهم، ~~وأن البحث العلمي في الأدب المكتوب بأقلام الأجانب لم يكن قد بدأ ~~بصورة جدية، ولا خصصت له جوائز معينة. وإذا كان قد حصل في فترة ~~متأخرة نسبيا (في سنة 1986م) على جائزة الفن التي تمنحها مدينة ~~ليبزيج لأديب أجنبي يكتب بالألمانية؛ فإن ذلك دليل ناصع على تفرد ~~إنتاجه وتميزه، واستحالة تجاهله إلى الأبد. # 1 ~~(ج) «كابية يا صاحبي، هي كل النظريات، # لكن شجرة الحياة الذهبية خضراء.» # ربما لم يشعر أحد بصدق هذه العبارة، التي جاءت على لسان الشيطان في ~~فاوست الأولى، مثلما شعر بها شاعرنا المغترب الشاب، ولكي تخضر شجرة ~~حياته وشعره الذهبية الخضراء في الأرض الغريبة، ويدخل في حوار مع ~~الوجوه الثلجية العابسة، ويتعايش مع ملل الحياة اليومية وكآبتها، ويكظم ~~في نفسه ذكريات طفولته الحلوة في الوطن البعيد الذي اضطهده واضطره ~~للهرب منه، ويدخل متاهة اللغة والأدب والثقافة الجديدة عليه، ويتعرف ~~على سراديبها المعتمة وأنفاقها العميقة، ويصمد في صراعه مع وحوشها ~~الضارية، ويداري السلطة الغبية الغاشمة التي تنهمر من عليائها الأوامر ~~والتعليمات، ولا ترضى بغير الخضوع والخنوع والطاعة العمياء، كان عليه ~~أن يصبر ويصبر، ويقاوم ويتعلم، ويخطو كل يوم خطوة إلى الأمام، ثم ~~ينتظر وينتظر؛ حتى تخضر شجرته الذهبية، وتمد ظلال الجسور بينه وبين ~~الآخرين. # وحدثت معجزة الحب، فتحققت معها معجزة الشعر، وبدأت ~~الشجرة تخضر، وما زالت تزدهر وتثمر. ~~(د) لنصحب الشاعر ms34 الشاب خطوات على درب حياته اليومية الجديدة ~~ونستمع - من خلال بعض قصائده - إلى نبض لحظاتها الأولى كما يسجلها في ~~مناجاته لذاته. إنه يحس في هذه المرحلة بأنه بلا جذور ولا بيت. هو ~~أنى ذهب غريب لا بيت له، وحيثما سار لا يجد الأرض التي يغرس فيها ~~جذوره. سيقول بعد ذلك بوقت طويل في آخر دواوينه (هكذا تكلم عبد الله): ~~«إن من لا يغرس جذرا لا يؤسس لنفسه وطنا، ومن لا وطن له في وطن ما ~~لا جذر له، ومن فقد الجذر فقد الثمرة، ومن فقد الثمرة فقد الجذر.» ~~لكنه الآن وحيد، من خلفه البحر ومن أمامه الهاوية، لا عجب إذن أن ~~يقول لنفسه: أرقص على حبل بين جحيم وجحيم. والجحيم تصنعه لحظات حياته ~~اليومية ومفرداتها المتكررة؛ الريح الثلجية للبسمات التي تستقر ~~كالسكاكين في عظامه، عريه المعروض على الأنظار في الواجهات الزجاجية ~~لأولئك الذين يطعمونه، عواصف القلق التي تنفذ في مسامه، فيرتجف ~~ويتجمد حتى الموت، ويصرخ في طلب الدفء وفي انتظار مطر الحوار الذي يدق ~~نوافذ الآمال الذابلة ويمد - بقوته الناعمة - الجسور التي تصل بين ~~الشفاه والآذان. # 2 # بيد أن الوقت لم يحن بعد للشعور بالدفء، والدخول في الحوار وإقامة ~~الجسور. إنهم - في ظل الحياة اليومية الكابية الكئيبة - يفرضون عليه ~~ألا يقترب منهم بصورة حميمة، أن يتقبل صدقاتهم بالحمد والشكر، أن ~~يحفر لنفسه قبرا داخل نفسه، أن يتطوع بالإبلاغ عن نفسه في «اللجنة ~~المركزية للخنوع والخانعين»، أن يحني رقبته كالأعمى لبلطة التعليمات العمياء. # 3 # هل يمكن أن تكون هذه حياة؟ أليس في هذا إنكار للذات وإلغاء للوجود؟ ~~دع عنك أن تبقى ثمة فرصة للحوار، أو للحب، أو للشعر والفكر، مع ~~انقطاع كل فرصة للتعبير. # وتحتم عليه أن يتمرد ويثور، ولكي يتمرد ويثور تحتم عليه أن يتعلم ~~ويتعلم. وأول ما كان عليه أن يتعلمه هو أن يستوطن اللغة الجديدة، أن ~~يجد فيها وطنه وبيته ويمد فيها جذوره؛ حتى لا يجد نفسه - كما يقول ~~بيتر فايس - بلا لغة، ولا يسقط في العي والخرس. # واستمرت الثورة ms35 مع المضي قدما في التعلم. وتفتحت زهور الشجاعة ~~والثقة بالنفس والاعتداد بالهوية من قلب دوامة الخطر؛ خطر أن تسقط ~~القنبلة، أو تنهار السماء، اليوم أو غدا، فوق الرأس. # لم يكن بد من الرفض وعدم القبول؛ رفض التسليم بالعجز، و«انتظار ~~سقوط الموت فوق الجمجمة الهشة للعالم». # 4 # لقد بلغ الآن من التعمق في جذور اللغة وفروعها، وتشرب ~~عصارتها، وتذوق ثمراتها، ذلك الحد الذي يمكنه من تحدي الموت تحت بلطة ~~التعليمات المفروضة من أعلى، ورفض قبول الصدقات التي تقدم له، ~~والتمرد على قول «آمين» لكل معتقد يلزمونه به. رفض أن يبلغ عن نفسه، ~~أو يتطوع بإرادته في طوابير الواقفين أمام بوابة «اللجنة المركزية ~~للخانعين»، رفض الرقص على الحبل الممدود بين جحيم وجحيم. باختصار: ~~اختار أن يكون نفسه، أن يمد في الأرض الجديدة جذره، ويرعى شجرته. # 5 ~~(ه) بعد غرس الجذر يأتي حوار المطر الهامس مع آذان الأشجار. يأتي ~~مد الجسر بين الأنا والآخر المحبوب في صبر وهدوء، بعدما نضجت ~~اللغة، واختمرت عصارة الكلمة الشعرية في الجذر والجذع والبراعم، ~~وتألقت الخضرة في الأغصان والأوراق، عندما لمسها شعاع الحب ~~الذهبي: # أخضر زيتوني كالزيتونة، # أخضر ذهبي كالورقة في فرع الشجرة، # أخضر عشبي يشبه ظل الواحة في الصحراء، # أخضر زيتوني ذهبي عشبي باللون الفاتح، أو باللون ~~الغامق، # لكن هو أخضر دوما حبك. # 6 # وانهمرت القصائد تقيم الجسور بين ذاته وذاته، وبينها ~~وبين الآخر المحبوب، كأنها همسات المطر في سمع الشجرة، أو لمسات ~~لمسام العالم في الظلمة أو غبش الفجر. وعندما دعا حبيبته - التي ~~أصبحت زوجته - في قصيدة بعنوان «قلق» (وهي القصيدة التي يستهل بها ~~ديوانه: وطن في الغربة) أن تدثره بجلدها الدافئ؛ كانت هذه الدعوة في ~~حقيقتها تحديا لكل رياح الغربة والقلق، واعترافا بأنه قد وجد ذاته ~~في هذا الآخر المحبوب، كما وجد الآخر ذاته فيه، وأنه لن يعرض عاريا ~~في الواجهات الزجاجية للذين يطعمونه، ولن يخشى بلطة تعليمات السلطة، ~~ولن يشكو من اقتلاع الجذور بعد أن وجد الحب، فوجد معه الوطن وربيع ~~الحياة، والشعر الأخضر الذهبي. ~~(و ms36) هكذا كانت السنوات العشر لعقد الثمانينيات هي سنوات المنفى ~~الداخلي. وعلى الرغم من النجاح الذي تحقق لشاعرنا فيها - ضمه إلى ~~اتحاد الكتاب في جمهورية ألمانيا الديموقراطية، وحصوله على جائزة ~~مدينة ليبزيج - فقد عكف على مناجاته لذاته، وبحثه عن وطن أو «موطن» ~~في الغربة. هل يا ترى سيهتدي إليه ويسكن فيه؟ # تقدم كاتبان مرموقان - هما فولكر براون وهلموت ريشتر - باقتراح ضمه ~~إلى اتحاد الكتاب بوصفه رفيق الطريق الذي يشرف الاتحاد بعضويته، ~~وصاحب صوت فريد، واسم معروف في الشعر الألماني، والشعر العربي على ~~السواء. ومع ذلك استمرت النظرة إليه كشاعر سوري مهاجر يكتب بلغتين، ~~لا كأديب منتم للأدب الألماني نفسه. وبقيت مسافة البعد بين «الهو» ~~و«النحن» قائمة؛ بالرغم من الثناء الذي انهال على شعره وشخصه، ~~والتقدير لمشاركته الفعالة في الحياة الثقافية وفي مشكلات البلد ~~الآخر، وتعاطفه مع شعبه، وتبنيه للكفاح في سبيل تحقيق المدينة ~~الاشتراكية الفاضلة في الواقع. ظل هو الأجنبي، المهاجر، الناطق ~~بلسانين، والكاتب بلغتين. ولم يعدم في بعض المواقف المتأزمة التي ~~حاول فيها أن يرفع صوته، ويمارس حقه الطبيعي في النقد والاحتجاج على ~~الفساد والاستبداد والكذب والظلم، لم يعدم من يصرخ في وجهه: «أنت ~~أجنبي، ولا داعي لأن تتدخل في شئوننا.» أو من يقول له في غضب: «إذا ~~كان هذا البلد لا يعجبك، فلماذا لا ترجع إلى بلدك؟» # لكن كيف يفعل هذا أو يفكر فيه بعد أن أصبح له وطن في ليبزيج، ~~وضربت شجرة شعره وحبه بجذورها في تربة هذه المدينة؟! # إن ديوانه «وطن في الغربة» يضم مجموعة من القصائد التي تحمل هذا ~~العنوان: «مرثيات ليبزيج»، وفي أبياتها ينطق أمله وخيبة أمله في وقت ~~واحد، معاناته من الاغتراب، وإصراره على المواطنة في البلد الذي جاء ~~إليه بإرادته واختياره، وما يزال ~~يعيش فيه ويشارك ويكتب ويعلم ويبدع، دون أن يخطر على باله لحظة واحدة ~~أن يتخلى عنه، حتى لا يتخلى عن نفسه، مهما لقي من جفاء وجحود، ~~ومهما طارده القلق طوال السنوات العشر خوفا من سحب التصريح بإقامته ~~الذي كان ms37 عليه أن يجدده سنويا، كما كان عليه ليضمن تجديده: أن يوقع ~~على عقد شديد الإجحاف مع الجامعة. # هكذا امتزج الرجاء باليأس بالغضب في قصائد هذه المرثيات. كم حاولت ~~الأنا الشاعرة أن تواجه صمت الآخر، وتباعده، وتعاليه في بعض الأحيان ~~بأن تمد له يد الأخوة والتعاطف، وتبدي استعدادها لمشاركته في حمل ~~همومه: # أنا أيضا أحمل العبء معكم عن طيب خاطر. # لو شاء أحد أن يقول: # كم هو ثقيل على الظهر المحني لهذا البلد! # 7 # لكن هذا المسلك الأصيل لم يكن ليمنع الأنا من إعلان ~~غضبها على الكسل، والجمود، واللامبالاة التي تظهر أحيانا على الوجوه ~~الحجرية في المطاعم والمتاجر والمكاتب، تلك الوجوه المتبرمة الساخطة ~~على كل محاولة للخروج «من إسفنج الجدران الأربعة المقدسة». # 8 # ومع ذلك، فإن كل مظاهر الجفاء أو العداء لا يمكنها أن تقتلع جذر ~~انتمائه للتربة الجديدة. فهناك الزوجة والأطفال والأصدقاء والأماكن، ~~والذكريات التي تجعل من هذه المدينة - ذات الهواء الفاسد الملبد ~~بغبار الفحم - وطنا يعتز به، دائم الشوق إليه، حتى في أحلام نومه ~~ويقظته. فهو في أحد هذه الأحلام يتخيل أنه يدق باب أي بيت، ثم يدخل ~~ويتسلق التماثيل النصفية المتصلبة لسكانه؛ حتى يصل إلى الصدر، ~~وتخرج التماثيل من جلدها السميك، وتستقبل الزائر كما يجب أن يستقبل ~~الضيف قائلة له: اجلس يا أخي على مائدتنا، قل لنا ما الذي أضناك طول ~~النهار، وأنت تجوب وحيدا هذه الشوارع الخالية؟ ثم يرى - في الحلم ~~بطبيعة الحال - أنه يسند جلده المشبع بأحلام يقظته الرطبة على جلدهم الدافئ. # 9 # ومع الأحلام يطير به بساط الآمال متجها نحو إنسان يناديه في ~~الليل، أو صدر أو جلد دافئ، أو عين طفل ينظر إليه كما يتمنى هو أن ~~ينظر للعالم، أو شارع مشمس في اللحظة التي يتجمد فيها من البرد، ~~وربما يحمله إلى «سيزيف» يدحرج الصخرة أسفل الجبل، أو إلى «بروميثيوس» ~~يقبض على النار، ولا يتركها تسقط من يده، أو صديق يفكر فيه، ويشعر أن ~~القلق يعذبه في هذه الليلة، فيطوقه بدرع الصداقة والمحبة والثقة؛ ~~لأنه مختلف عن ms38 ذلك «الآخر» الذي انطلق - وليس في سلة رأسه سوى أرقام ~~- ليقطع عليه تحليقه في الطريق اللبني. # 10 ~~(ح) نعم، لقد صمم على الحياة في هذه المدينة التي جعلها وطنا له؛ ~~رغم إحساسه أحيانا بالاغتراب، ورغم تأزمه وتمزقه بما يراه، ~~ويلمسه من تناقضات الواقع الذي يعايشه ويشارك فيه. وهو في سبيل هذه ~~المحاولات الدائبة لغرس الجذور في الوطن الآخر لا يتردد، حتى عن أن ~~يزجر أشواقه لوطن الطفولة، وأن يكبت «نداءات» الوطن المتكررة في ~~الصحو والمنام بالعودة إليه، هذه العودة التي ستبدو بغير شك - وسط ~~المعارك التي يخوضها لتثبيت وجوده في الوطن الآخر - أشبه بالفرار أو ~~الهروب. من أجمل ما يصور ذلك: قصيدته التي جعل عنوانها ~~«أورفيوس»: # هذا النداء المغري للجبل الأجرد، وللحارات الكابية ~~للطفولة. # هذا النداء من خلفك، # لا تتبعه، # لا تتلفت وراءك، # ولا تدر كل يوم، # صندوق الغناء بهذا الحنين # إلى غير مكان. # 11 # إن محاولاته للتعايش مع الوطن الجديد والحضارة الجديدة ~~قد كلفته الثمن الغالي. وأغلى ثمن هو أن يمر بأزمة هوية يطحنه ~~فيها الشعور بأنه «لا هو هنا ولا هناك»، أو يعذبه الوعي بأنه وقع في ~~الشرخ أو الصدع أو الجرح الفاصل بين العالمين، وأخيرا الإحساس في ~~عمق ليل الأزمة أو فوق ذروتها، بأنه قد تخلى عن نفسه كما تتخلى ~~الشجرة الخضراء عن أوراقها، وأنه بذل كل ما في طاقته؛ ليمد جسرا ~~بينه وبين الآخر فلم يزده هذا - في بعض تجاربه على الأقل - إلا بعدا ~~عنه أو نفيا له. ~~«كي أصل إليكم، أسقط عن نفسي، حتى قبل الخريف، ورقة ورقة.» # 12 # وإذا كانت شجرته قد ذبلت قبل حلول الخريف، وتساقطت أوراقها، بل إن ~~«كلمة الطفولة» قد سقطت عنها أيضا، ولم تعد ورقتها تتدلى منها، فإنه ~~يشعر مع ذلك شعورا واثقا بأن الثمرة من كفاحه وعنائه في الوطن الآخر ~~قد أوشكت على النضوج، وأن عصارتها بدأت بالفعل تفجر القشرة؛ من ~~فرط سعادتها وفرحتها بالنضوج. # 13 # وعندما تدلهم عليه أزمته الباطنة طوال الثمانينيات، لا يجد ~~أمامه إلا الملاذ الأخير الذي يلجأ إليه بعد ms39 أن يئس من عبث الأحلام ~~والأشواق المستحيلة، وبعد أن تعذب عذاب الشخصيتين الإغريقيتين ~~الممزقتين، وانفض عنه بعض الأصدقاء، وتنكر له بعض الزملاء، وهل ~~سيكون هذا الملاذ غير الزوجة الحبيبة التي يأوي إليها وهو يقول: «لم ~~يبق سواك، بحثت يدي في الليل عن حرير شعرك الدمشقي، كلمتك التي ~~تنتشلني من ليلي الثقيل، تحملني فوق جناحين أبيضين إلى قلب ~~النهار، أنت أيها الصيف الذي يسكنني في عز الشتاء، كلما لمس ~~جلدك جلدي.» # 14 ~~(ز) في هذا الملاذ وجد وطنه في الغربة، عرف صدق الكلمة التي قالها ~~له أبوه العجوز الحكيم قبل موته: «سيكون الحب وحده هو وطنك.» # في هذا الوطن، الذي يتشبث فيه «بكتفي امرأة شقراء يحبها»، سيجد كل ~~ما يجعل للإنسان وطنا: الأصدقاء، والأماكن، والذكريات. لقد سقط سقطة ~~«إيكاروس» على الأرض التي أحبها، ولم يشأ أبدا - برغم الإحباط ~~والأوهام الخادعة والآمال الخائبة - أن يغادرها أو يموت على أرض ~~سواها: ~~«أبدا لم أرد أن أحيا أو أموت إلا هنا.» # 15 # وهنا هو المكان الوحيد الذي أكدت له الذاكرة - كما يعبر فرويد عن ~~معنى كلمة الوطن - أنه لا يشعر فيه بالغربة، وأنه يستطيع فيه أن يعمل ~~وأن يحب. # 16 # وهنا هي ليبزيج التي يشتاق إليها حين يكون في دمشق، ويشتاق إلى دمشق ~~حين يكون فيها: ~~«بلداي الاثنان وأنا، مرتبطان برابطة الزواج، حتى يفرق الموت ~~بيننا.» # وهنا يمكنه أن يقول للآخرين الذين يعيشون معه ويعيش معهم: «أنا لا ~~أتخلى عن نفسي أو عنكم.» # 17 # وهنا - برغم الوحدة والزهد - يريد أن يتواصل ويشارك ويعمل، ولا ~~يغيب عن المشهد، يريد ألا يعامل كزهرة في بيت زجاجي. # 18 # وهنا تتعانق خطوط الطول، ويزف دفء الشمس إلى برد الثلج، ويزدهر ~~عالم يوتوبي، ولكنه واقعي فريد؛ لأنه عالم إنساني يحيا فيه الغريب ~~ويشعر بإنسانيته، برغم الصدع أو الجرح الذي يدميه، وبرغم العذاب ~~الذي يقاسيه لكي يمد الجسور بين شاطئين، ويغرس الجذور في بلدين ~~ولغتين وتراثين وحضارتين. ~~(ط) لكن الاهتداء إلى الوطن والسكن فيه وإليه، لا يعني بأي حال من ~~الأحوال أن ينكفئ الشاعر على ms40 نفسه داخل جدرانه الأربعة الخرساء، ولا ~~أن يقنع بحياة البرجوازي الصغير الذي ختم على جبينه بخاتم ~~اللامبالاة، ووقف عاجز الحيلة في طوابير الخانعين أو اليائسين. وهو لا ~~يعني أيضا أن يرضى بالسكوت على الكذب والظلم والصمت المنتشر حوله ~~كالوباء. لقد صمم على أن يرفع صوته النقدي، حتى لو اصطدم بسوء ~~الفهم من بعض أقرانه والمستمعين إليه، بل حتى لو جاهره أحدهم بالعبارة ~~الوقحة : «إن كانت الأحوال عندنا لا تعجبك، فلماذا لا ترجع إلى وطنك؟» ~~ولقد آثر ألا يتحول إلى شيطان أخرس، وصمم على أن يستجيب لنداء تراثه ~~الساري في دمه، ولا يسكت عن الحق. وها هو ذا يقول في قصيدة معبرة عن ~~أزمته في السنوات العصيبة التي سبقت ~~قيام الوحدة الألمانية ضمن مجموعة قصائده «مرثيات ليبزيج»، التي سبقت ~~الإشارة إليها تحت عنوان «واحد لم يسكت»: # كثيرون هم الذين يفهمونني، # وكثيرون لا يفهمونني، # مع أن الذين لا يفهمونني يصرخون، # فإن الذين يفهمونني يسكتون، # أنا أفهم الذين لا يفهمونني عندما يصرخون، # ولا أفهم الذين يفهمونني عندما يسكتون، # ولأن الذين يفهمونني يسكتون، # فلا بد لي أن أصرخ، # ولأنني أصرخ لا يفهمني أولئك الذين يفهمونني، # أحد الذين يفهمونني، # سمع صرخة قلقي ولم يسكت، # فتم السكوت عنه. # 19 ~~(ي) مضى الشاعر يدافع عن مبادئه ومثله، ويرفع صوته ~~احتجاجا على الأحوال السيئة في ظل التطبيق الفاشل للاشتراكية، ويواصل ~~مشاركة الناس العاديين آلامهم وهمومهم، كما يواصل في الوقت نفسه ~~الدفاع عن وجوده وبقائه في مجتمع «اليوتوبيا»، الذي لجأ إليه ~~باختياره، ثم جرب بعد ذلك قسوة خيبة الأمل فيه، وضرورة التحرر من ~~كثير من أوهامه السابقة، وإن بقي على انتمائه إليه، والتزامه بروح ~~مبادئه ومثله بالرغم من سوء الحظ الذي أصابها على أيدي الموظفين ~~البيروقراطيين، والمنظرين والدعاة الدجالين أو الجلادين. # واضطر الشاعر أن يدخل باختياره في سجن الصمت، وفي منفاه الداخلي، ~~بعد تجاهل صوته، والسكوت عن صراخه إلى حد الاستنكار، في بعض ~~الأحيان، لتعاطفه ومشاعر حبه، وأخوته للآخر الذي يشاركه العيش في ~~مجتمع واحد ومدينة واحدة. ومن الطبيعي أن ms41 يجنح في بعض ما كتبه خلال ~~الأزمة من شعر إلى التأمل الفلسفي، والنظر من أعلى لعله يتجاوز أزمة ~~الذات، ولا يختنق في سجنها أو منفاها الاختياري، ولكنه ظل على وعيه ~~وإيمانه بأن الشعر هو الذي يبقى، وبأن الكتابة هي الضمان الوحيد ~~لإثبات الوجود، وظل إرسال حمامات كلماته فوق سطوح المدن النائمة هي ~~الرسالة التي لا يكف عن إبلاغها، ما بقي على قيد الحياة : # الموت يرقد على بيضته المعدنية، # بلا انقطاع في رحم الأرض، # أرسل حمامات كلماتي؛ لتطير فوق أسطح المدن النائمة، # وألقي في بحار اللامبالاة زجاجات بريدي، # بلا انقطاع. # 20 ~~(ك) اسمعه وهو يقول في أحد أحاديثه التي ترجع إلى ~~عام 1986م: ~~«إن الشعر عندي هو أسلوب وجودي، والتوقف عن الكتابة يعني في نظري أن ~~أتوقف عن الحياة. إنني لا أستطيع أن أعيش بدون تواصل مع الغير. هذه ~~خاصية إنسانية. والكتابة هي الطريقة التي أتواصل بها مع الآخرين. وحل ~~المتناقضات، أو تقديم إمكانيات حلها هي إحدى وظائف الشعر، أي نوع من ~~العلاج. فإذا تناول المخاطب إنتاجي الأدبي في يده، فربما جرب هذا ~~الأسلوب في العلاج، وربما استطاعت القصيدة أن تؤثر عليه كما أثرت ~~على الشاعر، أي ربما عالجت بعض أزماته وتناقضاته، وجعلته أقدر على ~~التعايش مع عالمه.» # 21 # والواضح من العبارات السابقة أن وظيفة الشعر هنا قد انسحبت إلى ~~الباطن، وربما تكون قد كفكفت من طموحها القديم لتغيير العالم أو ~~الواقع، الذي لا تغيره الكلمة بسهولة كما يأمل الكتاب والشعراء منذ ~~القدم. وهذا الاتجاه إلى الذات أو عالم الباطن لا يعني التقوقع أو ~~الانكفاء، أو الكف عن الفعل والتواصل، ولا يتنافى على الإطلاق مع ~~الحفاظ على علاقته الأمينة الخالية من الكذب أو المداراة أو ~~المداهنة، بالمجتمع الذي اختار الحياة فيه، ولم يصده سقوط أقنعته عن ~~مواصلة المشاركة الفعالة في بنائه. وهو كذلك لا يتنافى مع الحفاظ على ~~«الرسالة» الأبدية للكلمة في الإبلاغ والتنبيه والتنبؤ، والتحذير ~~والتبشير أيضا بالمستقبل الأفضل والأعدل والأكمل، مع الحرص على ~~الدوام - ورغم انتقاله من مخاطبة الآخر إلى مناجاة ms42 الذات - على ~~دوره الجوهري في إقامة الجسور بين الشاطئين البعيدين. # ذلك - في تقديري المتواضع - هو الطابع الذي ما يزال غالبا على ~~شعره، على الرغم من غلبة الاتجاه للمناجاة الذاتية على إنتاجه خلال ~~السنوات العشر الأخيرة، وبالأخص في آخر دواوينه الذي تجده في هذا ~~الكتاب، وهو: «هكذا تكلم عبد الله». # الفصل الرابع # | هكذا تكلم عبد الله # (أ) لجأ الشاعر إلى منفاه الداخلي، ورجع الشعر إلى جوهره ~~الحقيقي من الذات إلى الذات. # واستمر البحث - خلال عقد الثمانينيات - عن الهوية، وعن دور ~~الشاعر والكاتب الذي يرى نفسه كالراقص على حبل بين عالمين - أو ~~جحيمين كما سيقول في إحدى قصائده المتأخرة - بين وطن أصلي يشعر مع ~~الزمن بالاغتراب عنه، ووطن يرى بعينيه كيف تتحطم فيه «يوتوبيا» أحلامه ~~الاشتراكية، وينظر إليه أهله بعد العمر الطويل الذي قضاه معهم نظرتهم ~~إلى غريب أو أجنبي. ومع أنه قد حصل في منتصف الثمانينيات - كما عرفنا ~~من قبل - على جائزة الفن من مدينة ليبزيج، مما أكد الاعتراف بقيمة ~~إنتاجه وتميزه، فقد راح شعر المناجاة الأسيان يتدفق منه ~~بالألمانية والعربية، وبالأخص في مجموعة قصائد سماها «الموت الغريب»، ~~وضمت إلى قصائد أخرى مختارة من دواوينه السابقة في منتخب، سماه ~~«لو لم تكن دمشق» (1992م، من ص72 إلى ص83). # لم تكن هذه القصائد مجرد تعبير عن الواقع السياسي والاجتماعي ~~واليومي الخانق (كما في قصائد عميقة الدلالة على ذلك الواقع مثل ~~رابسودية قاتمة، وتعلم المشي والقفص) التي تجدها مع قصيدتي «غربة» ~~و«موت غريب» مع المختارات المنشورة في الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب، ~~بل كانت في صميمها مخاطبات ومناجيات للآخر الوحيد الذي بقي له، وهو ~~ذاته، غلب عليها طابع التأمل الفلسفي في حكمة الوجود والمعنى ~~والمصير، والحب والموت والغربة والرحيل والوصول، والذات والآخر، والشوق ~~للاتحاد بالكل دون الضياع والذوبان فيه ... إلى آخر ذلك من الموضوعات ~~والأسئلة الكبرى، التي اتجهت إليها رؤية جديدة وحكمة نضجت على نار ~~التجربة والزمن. والذي يهمنا الآن هو أن هذه القصائد الأخيرة - التي ~~كتبت بين سنتي 1981م و1991م - تضم ms43 عددا من القصائد التي جاءت على ~~لسان عبد الله، وكانت أشبه بالطلائع المعلنة عن أحاديثه وتأملاته، ~~ونصائحه الحكيمة التي سيضمها بعد ذلك ديوانه الأخير «هكذا تكلم عبد ~~الله» (من هذه القصائد: الجذر، الحبل، الإنسان الجديد، الجنون، ~~الجسر). # لفت الديوان الأخير (1995م) أنظار القراء والنقاد فور ظهوره، لا ~~بسبب الغلاف الأزرق البديع الذي نثرت على أرضيته الألف باء العربية ~~بحروف ذهبية ذات بريق لامع كبريق النجوم في سماء صيف صافية، ولا بسبب ~~العنوان الذي يذكرنا لأول وهلة بعنوان كتاب نيتشه الشهير «هكذا تكلم ~~زرادشت»، قبل أن نكتشف أنه لا تربطه أية صلة من قريب أو بعيد، لا ~~بزرادشت الإيراني القديم ولا بنيتشه فيلسوف الإنسان الأعلى، وإرادة ~~القوة والعود الأبدي للشبيه (ربما باستثناء نوع من الصوفية الدنيوية، ~~أو الأرضية التي يشتركان فيها من بعيد، وبصور مختلفة مع روح التصوف ~~الطبيعي والدنيوي الذي نجده في عصور ومذاهب مختلفة في الشرق والغرب)، ~~بل لا تربطه صلة موضوعية حميمة بمخاطبات ومواقف المتصوف الإسلامي ~~الشهير، من القرن الخامس الهجري والعاشر الميلادي، وهو «النفري» الذي ~~تأثر به عدد كبير من شعرائنا وأدبائنا العرب المعاصرين، ولم يأخذ ~~شاعرنا منه سوى شكل الخطاب وصيغته، التي يبدأ بها قصائده «هكذا تكلم ~~عبد الله أو وقال عبد الله»، كما يبدأ بها النفري مخاطباته. وإذا ~~كان عبد الله لا يتوقف عن قوله ولا عن خطابه لآخر يحاوره باستمرار، ~~فإننا سرعان ما نكتشف أن الأمر من البداية إلى النهاية لا يخرج عن ~~كونه «مونولوجا»، أو مناجاة تهمس بها ذات الشاعر لذاته، وتصبح فيها - ~~على الرغم من الجدل الدائر بين قطبين أو طرفين - هي الأنا والآخر في ~~وقت واحد. ~~(ب) فقدت هذه الذات - التي انقسمت كالخلية الواحدة إلى ذاتين، ~~وراحت تتأمل نفسها الأخرى في مرآتها - فقدت كل أمل في قدرة الكلمة على ~~تغيير الواقع، وفي قدرة الواقع نفسه على إحداث أي تغيير فيه. وأخذت ~~الذات تراجع كل المفاهيم التي عاشت عليها وآمنت بها. حتى مفهوم ~~الوطن فقد اسمه المحدد، وتحول إلى رغبة دائمة، وبحث ms44 لا ينتهي عن ~~مكان يمكن أن تصل إليه الذات وتستريح فيه: ~~«أن أصل مرة أخرى لأي مكان، أن أخلد للراحة مرة أخرى، أن أكون ~~مرة أخرى هناك، حيث تعلم الذاكرة علم اليقين.» # ومن الصعب تحديد هذا المكان الذي يريد الشاعر أن يصل إليه، بعد أن ~~عانى الكثير وقاسى الكثير من الغربة في الوطن، ومن البحث عن وطن في ~~الغربة. كان الفرق واضحا بين الوطنين خلال تطور حياته وشعره، ابتداء ~~من «كحرير من دمشق»، الذي تفصل قصائده بينهما فصلا واضحا، إلى «عناق ~~خطوط الطول» الذي حاول أن يوحد بينهما داخل ذاته، إلى «وطن في ~~الغربة» اهتدى إليه ومد - بفضل معجزة الحب - جذوره فيه. لكنه الآن - ~~في مخاطبات عبد الله لذاته - يتبين استحالة الفصل بين الوطن الأصلي ~~ووطن الغربة، كما يكف عن محاولة التوصل إلى مركب ثقافي أو حضاري ~~يؤلف بينهما، إذ يمكن أن تتجاور الاختلافات والتناقضات والمقومات ~~الخاصة بجانب بعضها، وتلقي الأضواء بعضها على بعض، وتلغي الحواجز ~~الغليظة التي تفرق بينهما. # أين إذن سيكون مكانه ومستقره؟ # لا بد أنه سيكون بينهما، في النقطة التي يقيم فيها الجسر الواصل ~~بينهما بالتفاهم والاحترام المتبادل، والأخوة والتجانس والسلام، في ~~حضن حضارة بشرية واحدة تضم مختلف الثقافات الفردية التي تتحاور مع ~~بعضها حوارا حيا لا ينقطع «ولا يكترث بالصيحات المشبوهة عن صدام ~~الحضارات، واللغو الفارغ المريب عن عولمة تروج لها، وتفصلها على ~~مقاسها قوة أو قوى جشعة مهيمنة»: ~~«إن هويتي ليست عربية ولا ألمانية، ولكنها عربية وألمانية معا، لا ~~يوجد في داخلي صراع أو خلاف بينهما فحسب، وإنما يتم كذلك العناق.» # 1 # وقد جاءت كلمة التقدير والثناء التي ألقيت عنه، بمناسبة ~~حصوله على جائزة «أدالبير فون شاميسو»، # 2 # واقتبسنا فقرة هامة منها في سياق التمهيد لهذا الكتاب، ~~جاءت تأكيدا للمعنى الأصيل من حوار الحضارات، وأقصد به المعنى ~~الشعري والإنساني المحض لهذا الحوار، بعيدا عن كل ثرثرة سياسية أو ~~علمية، أو إعلامية لم تتوقف طوال السنوات الأخيرة عن الخوض في بحار ~~الزيف والكذب والخبث والخداع. ~~(ج) وبنية قصائد ms45 «هكذا تكلم عبد الله» تقوم على الجدلية التي يتلاقى ~~فيها - كما يتصادم ويتصارع - السؤال والجواب، والفعل ورد الفعل، ~~والإيجاب مع السلب، أو السلب مع الإيجاب. ومع أن ترتيب القصائد قد ~~روعي فيه أن توضع القصيدة في مواجهة قصيدة أخرى نتوقع منها أن تمثل ~~الطرف الآخر، في سياق الحوار الجدلي بين وجهتي نظر متقابلتين، فإننا لا ~~نلمس الجدلية والتقابل الضدي بصفة دائمة، إذ يحل الاستطراد ~~والتكامل أحيانا محل التضاد والتعارض، كما يمكن أن تطوف بنا القصائد ~~في عوالم وتجارب، ومناطق شديدة التنوع، وأن تضعنا في مواضع الحيرة ~~والشك، وعدم الفهم حيال الغموض الذي يلف بعضها في ضبابه، ويحيطها بما ~~يسميه «جوته» ب «السر المكشوف» الذي ربما تستطيع البصيرة وحدها أن ~~تنفذ إليه وتتعاطف معه. # ومع ذلك يمكن القول بوجه عام: إن عبد الله يمثل الذات الحكمية ~~التي تعلم وتوجه وتراجع وتقيم، وتشجع وتعزي وتلوم وتعاتب، ~~وتقوم أيضا بتعرية جميع الأقنعة. كل ذلك من خلال الصدق المطلق، ومن ~~منظور الدليل المحنك الذي رأى وعرف، وراح يهدي نفسه بنفسه إلى طريق ~~الوصول للعالم، والآخر، والحياة، والنور، والحب، كما يساعد الآخر - ~~الذي هو هو ذاته - على العلو والارتفاع فوق الصغائر والإساءات، وفوق ~~مرارة الواقع الذي سقطت أقنعته، وخاب الأمل فيه، وغادره كل وهم ~~تعلق به، بل فوق الموت نفسه الذي ينصحنا وينصح نفسه بأن نرحب به ~~ونعيش. وإذا كنا نلتقي في كثير من القصائد بذات أخرى ترد على عبد ~~الله، فتشرح أو تبرر وتوافق أو تعترض، وتذكر بقسوة الزمن والواقع ~~والظروف التي حالت بينها - كما تقول عبارة نيتشه الشهيرة - وبين أن ~~تصير ذاتها، فينبغي ألا ننسى أن هذه الذات الأخرى لا تجد نفسها إلا ~~في ذات عبد الله، كما لا يجد عبد الله نفسه إلا فيها. وتلك هي الحكمة ~~الأساسية التي تقوم على وحدة الذات والآخر وعناقهما وتداخل نسيجهما، ~~مثل تداخل قوس قزح مع قوس قزح. # وتبدأ مناجاة الذات لذاتها - على لسان عبد الله - بالهموم والعذابات ~~الكبرى التي شغلتها في حياتها وعبرت عنها في ms46 شعرها. وأول هذه الهموم ~~وأفدحها هو هم الوطن الذي يحق لكل إنسان ويتحتم عليه أن يمد فيه ~~جذره. لهذا يتكلم عبد الله بصيغة الأمر الجازمة الحاسمة: اغرس جذرا ~~تؤسس وطنا؛ لأن من لا وطن له في وطن ما، لا جذر له، ومن لا جذر له ~~لا يحمل ثمرة، ومن لا يحمل ثمرة فهو وحيد مهجور مثل الفرع ~~اليابس. # ويرد عبد الله بلسان عبد الله، أو ترد الذات الأخرى على الذات التي ~~تجد نفسها فيها، فتقول: مكان يحويك، زمن يحملك، قوس قزح يغزل في داخلك ~~ويتعانق مع قوس قزح، هناك فحسب تكون حياة. # ولا تلبث المناجاة أن تقلب جمرات الهواجس والشكوك في أعماق الذات ~~التي ما فتئت ترقص على حبل، عن يمينها الغربة وعن شمالها الغربة، لا ~~الشرق فيها شرق، ولا الغرب فيها غرب، وهي تواصل الرقص، وتنتظر كالقارب ~~الذي نكس شراعه، أو الشاطئ الذي ما زال ينتظر في صمت. الغربة ليست ~~عنها بغريبة؛ لأنها تعشش في الجذر، وهي لا تملك إلا الشوق إلى المطلق ~~يدعوها في ليلات الوحدة خلف تخوم جبال سبعة. ويذكرها عبد الله أو ~~تذكر نفسها بأن الوطن الأصلي هناك، وأنه أقرب إليها - على الرغم من ~~مسافة البعد - من قرب اليد لليد، والحدقة للعين، والطفل لصدر ~~الأم. # وأول الطريق لقهر الغربة هو الحفاظ على الهوية، والصمود في وجه الذل ~~والإهانة ممن قدموا له الطعام والشراب بيد لا تعرف الحب، ثم صرخوا ~~فيه لينصرف خارجا إلى العمل: «دع الحبة التي يلقونها عند قدميك، ~~وحلق جائعا مع الطيور الصغيرة» «كن كالشجرة المشتاقة لمقدم الربيع، ~~تلتف عارية بالريح الثلجية، وتقاوم الموت.» # إن الوطن هناك، مهما اضطهده ذات يوم، شمسه الأليفة مختبئة في العيون ~~العطشى التي تتابعه وترعاه، وفي جرحه القديم المر الذي يطلب منه ~~عبد الله أن ينثر عليه البلسم ليندمل ويطيب. والوطن تحت قدميه في البلد ~~الغريب الذي آوى إليه بإرادته واختياره الحر. وما عليه إلا أن يمد ~~يده للآخر، أن يأخذ يده المرتعشة من البرد في يده، أن يعطيه ms47 كرسيا، ~~ويمد له مائدة ويعيره أذنيه عندما يتكلم. # لا خلاص من الغربة إلا من خلال هذا الآخر الكامن فيه - عليه أن يبحث ~~عنه في داخله، وعلى ذلك الآخر أن يبحث عن نفسه فيه، الآخر هو أنت ~~وأنت هو، والجسر الواصل بينكما هو وحده الحياة - وأنت الذي تبحث فيه ~~عنه، وهو الذي يبحث عنه فيك، عليك أن تبقى أنت أنت، وعليه أن يبقى هو ~~هو، وعليكما معا أن تحافظا على الجسر الذي يربط بينكما؛ إذ ما قيمة ~~الحياة وأي ثمن تساويه لو تحطم هذا الجسر؟! # نعم، كيف تصبح حياتك لو تعمد الآخر أن يحطم هذا الجسر؟ ألم تجرب ~~كيف عاملك بجفاء، وكيف اختزل وجودك الإنساني والشعري في صيغ ~~وكليشيهات باردة جوفاء، سماك الأجنبي والمهاجر واللاجئ، وأبى عليك أن ~~تجد نفسك فيه، كما رفض أن يبحث عن نفسه فيك؟ # لا بأس في هذا ولا ضير. إن عبد الله يتشبث بالجسر ويدعوك للتشبث ~~به، يوصيك أن تصير كما كنت، حين لم يكن لك وجود إلا في الآخر، يعلمك ~~أن تصبح ذاتا بحق، لا قوام لها ولا بقاء إلا بالذات الأخرى، وفيها ~~ومنها إليها. ~~(د) هذه الذات الأخرى التي وجدت نفسك فيها كما وجدت نفسها فيك، ~~التي أغنتك بثرائها عن فقر القلوب الأخرى، وظللتك بشعرها الناعم ~~كالحرير الدمشقي عندما افتقدت الظل في الهجير، ومنحتك الدفء في الثلج ~~والصقيع، وطرقت بابها بلا خوف حين قرع غراب الوحشة والفراق نافذتك، ~~واحتوتك ببسمتها ومدت لك شفتيها بالندى الأخضر، حين عبست الوجوه ~~الثلجية، وعاهدت نفسك أن تأخذ وجهها معك وبين جفونك، في صحوك ومنامك ~~طول العمر، وحتى آخر لحظة. هذه النعناعة الذهبية الشقراء - كما ~~سميتها - هي جسرك الذهبي إلى العالم والأرض والحياة والإنسان. بفضلها ~~ستنسى غربتك، ولن تحفرها في جلدك، ستقاوم وتسترد الثقة فيما تقول ~~وتفعل، وتنسى اليد التي امتدت إليك بالإساءة، وتعنون الألم بالفرح ~~والفرح بالألم، وستنتظر المطر فترقص على حبلك بين مطر ومطر، لا بين ~~جحيم وجحيم، كزهرة عباد الشمس متحديا الهواء الخانق. وسوف تشد ~~النعناعة ms48 على يدك بحنان الزوجة والأم والأخت وابنة العم والحبيبة، ~~فتكسر بنفسك شرنقتك العمياء وتخرج منها؛ بحثا عن الظلال الرطيبة في ~~وهج الشمس، وتمد جسورك من خط طول إلى خط طول، ويجد قاربك الوحيد ~~مرساه على شواطئ العالم، وفي قلب المخلوقات. # عندئذ تدخل في «الماوراء الأرضي»، الذي دخل فيه اسبينوزا وجوته ~~ونيتشه والنفري، والمتصوفون الطبيعيون، أو الأرضيون، كأنك ديونيزيوس أو ~~تموز جديد يهبط في الهاوية الأعمق للحقيقة، في النبع الأعمق للحياة ~~ليبعث من وسط اللجة كالنجم الطاهر في وهج الفجر. ستكون نهرا يذوب ~~فيك المطر، وشجرة تنضج فيك العصارة، وتطرح الثمر، وسوف تتوحد ~~بالكائنات، وتتوحد الكائنات فيك، تنفذ إلى مسامها وتنفذ في مسامك، تكون ~~الماء والسمكة والموجة والزيتونة، وتغني مع البلبل للأشجار وتطرق ~~بالأحلام الخضراء نوافذ هذا العالم، ثم تسكن هذا العالم فلا تهجره ~~ولا يهجرك، تتنشق روائحه بكل حواسك، وتستقر في لحظته الأبدية التي ~~تتنفسها بكل مسامك، تدخل فيها لتحتضن نفسك ومسبحة صلواتك، ثم تخرج من ~~شرنقتها لترفرف في الحياة كالفراشة الإنسان، أو الإنسان الفراشة، نحو ~~النور الساطع والزهر الندي، بعد أن جربت وتقبلت وتخليت عن التدخل ~~في مجرى الحياة، وتحررت من أوهامك السابقة بتغيير الواقع والناس، ~~لكنك أبدا لم تتخل عن دورك في أن تكون جسرا ممتدا من خط طول إلى ~~خط طول جسرا يصل إلى قلب العالم وإلى قلب الإنسان - بنيته من كلماتك ~~وأشعارك، وما زلت تبنيه - لكن هل وصلك هذا الجسر مع الآخر ووصله بك، ~~أم حالت دون لقائكما أفكار خاطئة وأحكام مسبقة تحصن وراءها ~~وتحجر في قيودها وأغلالها، وعششت في عقله وفي رؤيته لك، منذ العصور ~~القديمة والوسيطة إلى يومنا الحاضر؟ # الفصل الخامس # | هكذا يريدوننا # (أ) في هذه الأيام التي ترتفع فيها موجات التعصب المقيت بين ~~الأفراد والشعوب، وتتمزق الكرة الأرضية بين شقي رحا التكتل والتوحد ~~من ناحية، والتفرق والتجزؤ من ناحية أخرى، تتأكد الوظيفة الأزلية ~~للفكر والشعر والكتابة في إنقاذ الأرض والبشرية والسلام، ومساندة ~~الحرية والحق والعدل والتسامح والحوار. ويقف كثير من شعراء العالم ~~وكتابه ms49 ومفكريه كالسد المنيع في وجه الطوفان الكاسح، يقاومون بفكرهم ~~وشعرهم وكتابتهم، وأحيانا بوجودهم الحي ولحمهم العاري، سيول ~~التزمت والكراهية والاضطهاد، وضيق الأفق والأحكام الجاهزة المغرضة، ~~التي يتقاذفها الجميع ضد الجميع. # لا شك أن الشاعر تعرض، خلال حياته الحافلة في «موطنه» في الغربة، ~~لألوان لا حصر لها من الأحكام المسبقة، الواعية واللاواعية، عن شخصه ~~وثقافته وحضارته العربية التي نما فيها وانتمى إليها، وتخللت كل ~~مسامه وخلايا جسده وروحه. وقد عبر عن ذلك صراحة أو ضمنا في كثير من ~~قصائده، ومن أدلها على تحيز تلك الأحكام المغرضة وفظاظتها وجهلها: ~~هذه القصيدة بعنوانها الذي يشبه أن يكون علامة اتهام: هكذا يريدوننا: # 1 # جمل وراء جمل، # ورجل يتدثر بالعباءة وهو حافي القدمين. # رمل يصل إلى حافة السماء، # رمل هو المستقبل، # رمل وجمال، # هكذا نقف في واجهات العرض التي يملكها # أولئك الذين يكسبون منها عيشهم. ~~(ب) وقد شارك عادل قرشولي - قبل إتمام الوحدة ~~الألمانية - بمحاضرة هامة # 2 # عنوانها: «ديموقراطية للألمان وحدهم، أو سطوة الحكم ~~المسبق؟» وذلك ضمن المحاضرات والندوات التي عقدت في أواخر شهر فبراير، ~~سنة 1990م، في قاعة أبوللو بدار الأوبرا الشهيرة في برلين، تلبية ~~لدعوة من وزارة الثقافة في حكومة ألمانيا الديموقراطية السابق، وبعض ~~دور النشر الكبرى في شطري ألمانيا الشرقية والغربية، وعرضت فيها مجموعة ~~مرموقة من الأدباء والشعراء والفلاسفة والعلماء والصحفيين خلاصة ~~أفكارهم وتجاربهم الشخصية، وآمالهم ومخاوفهم، حول حاضر ألمانيا ~~ومستقبلها. ويكفي أن نذكر بعض الأسماء التي اشتركت مع شاعرنا في عرض ~~تأملاتها، التي ظهرت بعد ذلك في كتاب أصدرته دار نشر الأمة: الروائي ~~جنتر جراس، وفيلسوف العلم كارل فريدريش فون فيسيكر، والكاتب المسرحي ~~رولف هوخهوت. # يبدأ الشاعر محاضرته بقراءة قصيدة تتضمن بين سطورها لمحات من سيرة ~~حياته وفكره، على مدى ثلاثة عقود من الزمن في مدينة ليبزيج، كما تحدد ~~مواقفه الثابتة - رغم كل التجارب المريرة أو بسببها - من الحياة في ~~البلد الذي اختار بإرادته الحرة أن يعيش فيه، وصمم على أن يكون ~~الزواج بينهما عهدا من الوفاء، والعرفان لا يفصمه إلا الموت. تلك ms50 هي ~~قصيدة «وطن في الغربة» التي عنون بها آخر مجموعة شعرية ظهرت له ~~بالألمانية - سنة 1984م - في ألمانيا الشرقية السابقة. # لنقرأ معا بعض المقاطع التي سيتناولها الشاعر في محاضرته بالتحليل، ~~أثناء تعرضه للحديث عن الأحكام المسبقة، التي انغرست بذورها السامة ~~في مخيلة الكثيرين من الألمان والغربيين عن الشرقيين بوجه عام، والعرب ~~بوجه خاص، فحالت بينهم وبين الرؤية الصحيحة والحكم السليم اللذين ~~يقوم عليهما التسامح، والحوار المبني على الاحترام المتبادل: # ما الذي جئت أبحث عنه في هذا البلد، # الذي جئت إليه بإرادتي الحرة، # وفوق جبيني أحلام خضراء، # هل أعيش هنا لأنزوي بين جدراني الأربعة، # محاطا بالأوراق المزهرة التي فرشت بها، # أم لكي أقلب في الإعلانات بحثا عن التحف ~~القديمة، # أم عن مزرعة ريفية بعيدة عن القبضات المكورة لهذا ~~العالم؟ # هل أعيش هنا لأحصل على كل شيء، # خلسة من تحت موائد المحلات؟ # لأشتري، بالعملة الصعبة، شيئا من الرفاهية؟ # لأتكلم ليل نهار عن ملاءات الأسرة، # بينما تسلبني راحة النوم صرخات الأطفال الفزعة، # قبل سقوط القنابل؟ # إن جلدي يحس خنجر الجوع # الذي يلاحقه من خط طول إلى خط طول، # عبر الحارات المخيفة في ضواحي المدن. ~~(ج) جاء الشاعر إلى هذه المدينة بأحلام خضراء فوق ~~جبينه، وصمم منذ البداية على عدم التخلي عن نفسه، ولا عن الناس ~~الذين عاش معهم وما زال يعيش. شارك في حياتها الاجتماعية والسياسية ~~والثقافية مشاركة فعالة، تبنى قضاياها وآمن زمنا - قبل أن يجرده ~~واقع التطبيق البائس من أوهامه - بمشروعها الاشتراكي اليوتوبي: «إذ أين ~~أستطيع، إن لم يكن هنا، أن أنشر سجادة عملي العريضة أمام التاريخ، ~~وعلى طرق الصداقة التي أطلق عليها اسم السلام الحي؟ أين - إن لم يكن ~~هنا - يمكنني أن أتدرب على المشية المنتصبة للبشرية، لأملأ قدر ~~الكرة الأرضية باللبن والنبيذ لا بالرصاص، ولكي أقول أخيرا: لم ~~تكن المعارك ضربا من العبث، ولا كانت حزمة السهام التي رشقت في ~~صدورها، أليس هذا جديرا بأن يزن كل شيء؟» # لكن الحياة لم تكن سهلة على الإطلاق. وكثيرا ما بلغ اليأس والغضب ms51 ~~بالشاعر إلى الحد الذي تصور معه أن يكون: دون كيشوت جديد، أو ميخائيل ~~كولهاز آخر، # 3 # وأنه لا يكاد يتوقف مثلهما عن شق حنجرته من الصراخ في ~~وجه طواحين الهواء الفارغة المملة، والعيون الخرساء الصماء. صحيح أنه ~~يتمسك في هذا البلد بكتفي المرأة التي يحبها ويستند إليها، لكن ضميره ~~لم يسمح له أبدا بأن يعيش في غيبة عن همومها ومواجع أهلها، ولا بأن ~~ينكفئ على نفسه كالزهرة الصامتة في غرفة نظيفة، أو بيت زجاجي مريح، ~~والسبب في هذا بسيط؛ فقد صمم منذ البداية على أن يكون زواجه من ~~البلدين - سوريا وألمانيا أو دمشق وليبزيج - زواجا أبديا لا يفصم ~~رباطه المقدس إلا الموت: ها أنا ذا أحيا بينكم ومعكم، ولن أتخلى عن ~~نفسي ولا عنكم، هنا في هذا البلد الذي جئت إليه، وفوق جبيني أحلام خضراء. # 4 # كان زواجه من هذا البلد وثقافته التي انطبع بها زواج عمر ومصير. ~~وقد اقتضت الأمانة والصدق أن يعترف بأن هذا الزواج عهد لا يرد؛ إذ ~~لا يمكن أن يكون المكان الذي عشنا فيه، وعاشت لنا فيه ذكريات، ~~وتعلقنا به وبأهله ومعالمه بعلاقة حميمة، لا يمكن أن يكون قطارا ~~يهبط منه الإنسان في أي محطة يشاء. وكيف يفعل هذا مع بلد أصبح له وطنا ~~في الغربة، تعلم فيه وعلم، وترك بصماته على حياته الثقافية، ~~وأحب وتزوج وصار له فيه أولاد وأحفاد؟ # ومع ذلك فإن اعترافه - إذا جاز القول - اعتراف نقدي، ينطلق من ~~الطموح لا من الواقع الذي جربه. أراد - كما فعل كثيرون غيره - أن يغرس ~~بكلماته وأعماله سجادة عريضة على طريق الصداقة، والسلام الحي بين ~~الأفراد والشعوب والثقافات، بحيث يمشي عليها التاريخ بجلال وكبرياء. ~~لكن الواقع القبيح كان يعاقبه كل يوم على حماسه وتفاؤله، فلم يبق ~~أمامه إلا أن يتشبث بمبدأ الأمل ويرفع رايته، وأن يتمسك بكتفي المرأة ~~التي أحبته وأحبها وتزوجها؛ حتى لا يسقط أو يجن. كما رفض في الوقت ~~نفسه أن يغيب عن الساحة، أو يعتزل في برج زجاجي أو غرفة نظيفة ~~مريحة. # وما أكثر ms52 ما ووجه في الندوات التي يدعى إليها لقراءة شعره، بهذا ~~السؤال: إذا كانت الأحوال عندنا لا تعجبك، فلماذا لا ترجع إلى وطنك؟ ~~وهو سؤال كان يجيب عليه مؤكدا أنه لا يعتبر أن حياته في ألمانيا ~~الشرقية هي حياة في المنفى، أو أنه يعيش فيها لأسباب سياسية؛ فهو ~~يحمل جواز سفر سوري، ويزور وطنه الأصلي مرة على الأقل كل عام؛ ليشارك ~~في المهرجانات المسرحية والندوات الشعرية التي تقام في دمشق. ومع ذلك؛ ~~فإن رجوعه لم يكن بالبساطة التي يتصورها السائل، ولم يخطر على باله ~~أن ينتقل إلى ألمانيا الغربية التي كان في استطاعته أن يعبر إليها دون ~~حاجة لاختراق الحواجز، أو القفز فوق السور المخيف والأسلاك الشائكة. لم ~~يفعل شيئا من ذلك؛ لأنه ارتبط بهذا البلد بروابط العمل والزواج ~~والأولاد والأحفاد والأصدقاء والذكريات واللحظات التي تعشش تحت ~~الجلد، ولا يستطيع العشب أن يغطيها. # عاش الشاعر في هذا البلد - حتى اليوم الذي ألقى فيه تلك المحاضرة - ~~ما يقرب من ثلاثين سنة، عاش في قلق دائم، مهددا بسحب التصريح ~~بإقامته في أي وقت، إذا لم تجدد له الجامعة عقد العمل (إذ نص القانون ~~الخاص بالأجانب، الذي صدر بألمانيا الشرقية، في الثامن والعشرين من شهر ~~يونيو سنة 1979م، على أن الإقامة يمكن أن تحدد زمانيا ومكانيا، ~~وأن تمنع أو تلغى دون حاجة لإبداء الأسباب)، لكن هذا القلق الذي ~~ظل مسلطا كالسيف فوق رقبته، لم يجعله يسكت على الظلم والكذب ~~الذي كان يراه ويعانيه كل يوم، كما لم يكن على استعداد لأن يشتري ~~بالكذب يوما واحدا، يمد له بعد انتهاء مدة إقامته. ~~(د) ويتطرق الشاعر لظاهرة العداء للأجانب، فيقدم أمثلة مؤلمة ~~تكشف عن أبعاد هذا الخطر الداهم، ثم يطرح هذا السؤال المرعب: كم من ~~الوقت سيمضي قبل أن تعلق على واجهات المحال العامة هذه اللافتة ~~الملعونة: «ممنوع للكلاب والأجانب». منعت ابنة شقيقه، المولودة في ~~برلين، من اللعب في الفترة الأخيرة مع أترابها من الأطفال الذين اعتادت ~~أن تلعب معهم، إذ فوجئت بصوت خشن يقول لها ms53: إن الألعاب مقصورة على ~~الألمان. وتهجم أحدهم على السلة التي كانت تحملها سيدة عربية في ~~السوبر ماركت، وأفرغها من قطع الخبز التي كانت تعتزم شراءها؛ بحجة ~~أنها لا تحمل معها بطاقة هوية، مع أن العاملين في المحل الذي تتسوق ~~منه يعرفونها جيدا، بالإضافة إلى أنها تسكن بجواره وتتردد عليه منذ ~~وقت طويل. وبالقرب من مسكن للطلاب يقيم به بعض الأجانب مع زملائهم، ~~علقت لافتة نقشت عليها هذه الكلمات: «الديموقراطية للألمان ~~وحدهم»، ثم أضيفت إليها بعد ذلك علامة استفهام (ربما أراد بها صاحبها ~~أن يعيد الذين كتبوها التفكير في عبارتهم الاستفزازية، ولا يتصوروا ~~أنها حقيقة جازمة لا تقبل المناقشة). وفي مقهى فندق مشهور بمدينة ~~برلين طلب الشاعر قهوة، فسألته النادلة - ربما بعد أن لاحظت ملامحه ~~الأجنبية - إن كان من نزلاء الفندق؟ ولما أجاب بالسلب؛ رفضت أن تلبي ~~طلبه. وجلس على كرسي في قاعة الاستقبال لينفس قليلا عن غضبه، فشاهد ~~ثلاثة رجال، رجح أن يكونوا من الألمان الغربيين يتجهون إلى المقهى، ~~ويتناولون المشروبات على راحتهم، وتشجع فقام إليهم، وسألهم إن كانوا ~~من نزلاء الفندق، فاكتشف من كلامهم أنهم ليسوا من نزلائه، ولا من ~~الألمان، وإنما هم من الهولنديين. # ويواصل الشاعر كلامه فيقول: إن هذه المشاعر العدائية ليست جديدة، ~~وإنما كانت دائما كامنة تحت السطح، حتى أظهرتها الظروف السياسية ~~الأخيرة، ثم يتذكر ما حدث له قبل عدة سنوات، عندما أطل من نافذة ~~مسكنه في ليلة عيد الميلاد، فرأى كتابة على زجاج سيارته. وعندما نزل ~~من بيته؛ ليتبين حقيقة الأمر وجد هذه الكلمات: «اخرجوا أيها الأجانب»، ~~فكانت هدية عيد ميلاد لم يحسب لها أي حساب. # تلك أمثلة وحالات قدمها كمواطن أجنبي؛ ليبين مدى تأثيرها على سائر ~~الأجانب، ومدى تأكيدها لسلطان الأحكام المسبقة، وخطرها على علاقات ~~التعايش والتسامح بين الأفراد والشعوب والحضارات. فكيف تظهر هذه ~~الأحكام، وكيف تفلت من عقالها بين الحين والحين؟ ~~(ه) يحلل عالم النفس الاجتماعي «ألكزندر ميتشرليش» نشأة الأحكام ~~المسبقة، وأساليب استخدامها في كتابه «على الطريق إلى المجتمع غير ~~الأبوي»، ويقرر بحق ms54 أن كل محاولة للتعرف على مدى تأثير الأحكام المسبقة ~~ستظل محاولة قاصرة، وأقل بكثير من الواقع الحقيقي. ويضيف الشاعر ~~بعض أفكاره حول هذا الموضوع، فيبين كيف يتمكن الحكم المسبق من إنسان ~~بالرغم من أن تجربته الشخصية تخالفه تمام المخالفة، وكيف نخدع أنفسنا ~~بهذا الحكم أو ننخدع عن طريقه؛ فالحكم المسبق مرتبط على الدوام بنوع ~~من الاستعداد للقيام برد فعل متطابق مع ذلك الحكم الذي يثيره ويوجهه. ~~وهذا الاستعداد للقيام برد الفعل يتعامل مع موضوعه، وكأنه معروف ~~لصاحبه عن خبرة شخصية، بينما هي مملى من الحكم المسبق ذاته، حتى ولو ~~كانت الخبرة والتجربة الشخصية تتناقض معه (أي مع الحكم)، ويروي الشاعر ~~مثلين بسيطين على ذلك، نكتفي بتقديم واحد منهما. # فقد نظم بعض الطلبة العرب العاملين في أحد المصانع بمدينة ليبزيج، ~~تظاهرة يعلنون بها تضامنهم مع زملائهم. وكان بين هؤلاء الطلبة شاب ~~عربي له شعر أشقر وعينان زرقاوان. وأراد رئيس العمال أن يستدعيه، ~~فسأل أحد زملائه عن اسمه، ولما أجاب الزميل بأن اسمه هو «عبد المجيد» ~~تملكته الدهشة، وصاح مناديا على الشاب: «ها! أنت يا أسود! تعال هنا» ~~كان من الصعب عليه فيما يبدو أن ينطق بالاسم المعقد. وهنا تدخل الحكم ~~المسبق أو استخرجه هو من لاوعيه الباطن؛ ليعفيه من النطق بالاسم. ~~فالطالب عربي، ولهذا يلزم كذلك أن يكون أسود، على الرغم من أن رئيس ~~العمال نفسه طالما داعبه قبل ذلك؛ بسبب شعره الأشقر. # من هذا المثل البسيط يتضح كيف يوجه الحكم المسبق ردود أفعالنا ~~وجهة معينة، تكون في الغالب نحو التخريب والتدمير. وهذا على وجه ~~التحديد هو الذي يعتمد عليه الغوغائيون المحرضون على كراهية الأجانب ~~والخوف منهم، ومن كل ما هو أجنبي أو غريب. ولما كانت الأحكام المسبقة ~~تعبر عن جانب مهم من جوانب الخضوع والطاعة التي تكمن جذورها الخفية ~~في أعماق اللاوعي، فإن أولئك المحرضين يبرعون في تحريك الآليات ~~التي تظهر هذا الجانب اللاواعي، في صورة الواقع الحقيقي. # يقول اسبينوزا في كتابه «الأخلاق»: «إن الإنسان الذي يتصور أن الشيء ~~الذي ms55 يكرهه سوف يدمر، سيجد في ذلك شعورا باللذة». والتحليل ~~النفسي والاجتماعي الحديث يعبر عما يقوله اسبينوزا بصورة أخرى؛ ~~فعندما يلصق حكم مسبق بموضوع معين - أو شخص، أو فئة من الناس، أو ~~شعب بأسره - فإن هذا الموضوع يحاط بهالة من الغرابة السحرية ~~الخطيرة التي يصعب التنبؤ بتأثيرها وعواقبها. بذلك يتيح الحكم المسبق ~~للدوافع العدوانية الضاغطة فرصة الإرضاء أو الإشباع. ويسقط الإنسان ~~إحساسه الشخصي بالإحباط، أو بالذنب على غيره، وتنشأ الأحكام المسبقة ~~التي تنشط وتنتشر بصورة جماعية؛ من خلال إحساسات متفق عليها ضد ~~موضوعات متفق عليها. ومن ثم يصبح الموضوع الذي ألصق به الحكم ~~المسبق في متناول قبضات مشاعر الكراهية والعدوان الساعية للتنفيس عن ~~نفسها. وكلنا يعلم كيف استغلت أمثال هذه المشاعر في ظل الأنظمة ~~الفاشية، والشمولية والدكتاتورية، على اختلاف صورها، منذ الحرب ~~العالمية الثانية، حتى الوقت الحاضر، وكيف كلفت ملايين الناس ~~أرواحهم، كما نرى ونسمع كل يوم عن تصاعد الكراهية في أوروبا ضد ~~الأجانب، وعن شحن وسائل الإعلام الموجهة والمغرضة للأوروبيين والغربيين ~~بالعداء نحو العرب والمسلمين، ولصق الكلمة التي تدل على العربي، وعلى ~~الفلسطيني بوجه خاص، بصفة الإرهابي الذي يخبئ الخنجر تحت جلبابه ~~أو عباءته، دون أن يتذكروا لحظة واحدة أن هذا الإرهابي كما يسمونه ~~هو في الحقيقة رافض ومقاوم للاحتلال والإذلال، والاغتصاب اليومي لأرضه ~~وبيته ووجوده ومستقبله. ~~(و) هل نحن حقا عاجزون عن مواجهة سطوة الأحكام المسبقة؟ لو صح ~~هذا لكانت مصيبة مميتة. إن الدساتير الحديثة في كل الدول التي تصف ~~نفسها أو توصف بأنها دول ديموقراطية تنص صراحة على عكس المفهوم ~~السائد من الأحكام المسبقة، كما يشيع اليوم عبر أجهزة الإعلام ~~الجبارة، أعني أنها تنص على الحرية والتسامح نحو الأجانب، ولكن ~~السؤال هو: إلى أي حد يلتزم مواطنو هذه الدول، وممثلو السلطة فيها ~~من الناحية العملية والسلوكية بالواجبات التي تنص عليها دساتيرهم عن ~~الحرية والتسامح والحقوق المدنية ... إلخ؟ إن الحكم المسبق - وهو بطبيعته ~~حكم خاطئ أو مغرض - يقوم دائما على الجهل، كما يمكن في كثير من ~~الأحيان أن يثيره ms56 الإحساس بالإحباط والتخوف من الآخر وسوء الظن به، ~~فضلا عن ضيق الأفق، وسيطرة النزعات العصبية أو الإقليمية أو العنصرية ~~أو الطائفية ... إلخ. إنه - أي الحكم المسبق أو المتحيز - يضع الحقائق ~~الفعلية خلف قناع، ويشوهها عن عمد، كما يوجهه ويحفز عليه وينفخ فيه ~~النار منطق زائف مغلوط، يحتاج دائما إلى كشفه وتسليط ضوء الوعي ~~عليه، حتى لا يقع التعايش السلمي. وواقع حياة الناس بعضهم مع بعض ~~ضحية هذا التزييف والتشويه القاتل الذي يمكن، بل يحدث كثيرا، أن ~~تترتب عليه كبرى المصائب. # ما السبيل إذن للتخلص من الأحكام المسبقة والارتفاع فوقها؟ السبيل ~~الوحيد هو قدرة الفرد على الشعور بواقع الآخر والتعاطف معه، واستعداده ~~للخروج من مخابئ سوء الظن وأوهام الدفاع عن النفس التي يتحصن ~~وراءها؛ لكي يلتقي بالآخر ويحاوره ويفهمه، ويضع نفسه داخل ظروفه ~~وأحواله. وهنا يمكن للأدب والثقافة، بوجه عام، أن تؤدي دورا لا ~~يستهان به في هدم الأحكام المسبقة، والتقريب بين الأفراد والشعوب ~~تحت سقف المودة والسلام والاحترام، والاعتراف المتبادل. ولا شك أن ما ~~نطلق عليه اسم «الأدب العالمي» - الذي كان جوته أول من بشر به، ~~وأعلن في أحاديثه الشهيرة مع إكرمان أنه يمثله ويمارسه بالفعل - قد ~~قام وما زال يقوم بدوره في تشييد بناء الإنسانية المتحابة، والأخوة ~~العالمية المستندة إلى تعدد الآداب، وتنوع الثقافات، وتفاعلها في إطار ~~حضارة كونية واحدة. ولا شك أيضا أن الخصوصيات التي يتميز بها كل ~~أدب قومي، بسبب مادته نفسها والمخاطب الذي يتوجه إليه، هي الأقدر من ~~غيرها على اكتشاف الآخر، أو الغريب والأجنبي عنا، بحيث نرى وجهه ~~الإنساني، ونمزق عنه القشرة التي شوهته، أو ما زالت تشوهه بفعل ~~الصراعات المحتدمة على المصالح المتعارضة. إن الأدب هو الذي يقدم ~~لنا وجه الآخر بملامحه الحقيقية، وهو الذي يجعلنا نسمع صوته ونحس ~~نبضات قلبه وآلام جسده ونفسه. والإنسان الذي نقترب منه إلى هذه ~~الدرجة يصعب علينا بعد ذلك أن نلصق عليه لافتة الحكم المسبق، أو ~~نحفر عليه وشم التحيز الأسود. ولما كان الأدباء نوعا من البشر لا ms57 ~~يستطيع - بحكم طبيعته، والهدف من عمله وحياته - أن يتخلى بسهولة عن ~~«يوتوبياه»، أو حلمه بالمدينة البشرية الفاضلة والعادلة، وإذا كان هذا ~~الحلم قد فشل حتى الآن في أن يصبح حقيقة، أو يقترب خطوة واحدة من ~~الحقيقة (بعد أن أصبحت كرتنا الأرضية ساحة مخيفة بجوس فيها الاضطراب ~~والتعصب، والعنصرية والإرهاب، والصراع على القوة والسيطرة، بجانب ~~أشباح الجوع والفقر والظلم، والتزمت والأحكام المغرضة ... إلخ)، فليس ~~معنى هذا الفشل أن نلعن الحلم نفسه، أو أن نتخلى عنه. لقد حلمت ~~الإنسانية دائما بالسلام والتواصل. والأدباء الحقيقيون هم الذين ~~علموها على الدوام أن تحلم هذا الحلم، وما زالوا يواصلون السير ~~أمامهم ومعهم على طريق الأمل الصعب. أجل، لا خيار أمام البشر اليوم، ~~ولا بديل عن الحياة والعمل مع بعضهم ولبعضهم إلا ببديل واحد هو: خراب ~~الأرض، وفناء الجنس البشري. صحيح أن الهوة الفاصلة بين الحلم ~~والواقع مظلمة ونازفة الجروح، وعميقة القرار، لكن مهمة الكاتب والكتابة ~~هي أن تعلم الناس كيف يعملون على بناء الجسر الواصل بينهما، ولن يقام ~~هذا الجسر حتى يتعلموا كيف يتواصلون مع بعضهم، كأفراد وشعوب وحضارات، ~~ولن يتواصلوا حتى يتخلصوا من الأحكام المسبقة التي تعشش تحت ~~جلودهم، وتحول بينهم وبين التلاقي والتحاور على أرض مشتركة، هي في ~~النهاية أرضنا وأرض الجميع التي أصبحت اليوم مهددة بالاندثار بأكثر ~~من خطر، وأكثر من سبب، ربما يكون هذا كلاما مكرورا إلى حد الملل، ~~ولا جديد فيه، لكن الحاجة الملحة والمحنة القائمة لا تمنع من تكراره ~~على كل قلم وكل لسان، والصراخ به بأعلى الأصوات ودق كل الطبول ~~والأجراس. ~~(ز) هذا الشاعر الذي ظل طوال حياته - على حد تعبيره في ديوانه ~~الأخير - ينظر للآخر ويتمعن فيه ببطء، بل يتعاطف معه، ويمد له جسور ~~المحبة والتواصل، ويفرد ذراعيه كجناحي طائر وحيد وحزين ليضيئا الشرق ~~والغرب، ويجمعا شتات خطوط الطول؛ لتتعانق في صدره وشعره ونثره. ولم ~~يتردد - كما عرفنا من محاضرته السابقة - عن مواجهة عدوانية الآخر ~~الألماني نحو الأجانب، وحثه على التخلص من أحكامه المسبقة - ماذا ~~يفعل هذا ms58 الشاعر، وهو يشهد الآثار الوحشية المدمرة لهذه الأحكام على ~~بلاده وأهله - هذه الأحكام التي يرفع الآخر الغربي - الأوروبي ~~والأمريكي - لافتاتها، ويبثها ليل نهار من وسائل اتصاله الكاسحة، ~~وتمولها وتحركها جهات معروفة تقلب بها نيران أحقادها وأطماعها في ~~أرضنا ومواردنا وحاضرنا ومستقبلنا، بل وفي تاريخنا وتراثنا الماضي ~~نفسه - لا شك أن هذه الأحكام ليست شيئا جديدا ولا مفاجئا - فربما ~~انغرست بذورها السامة في الوعي واللاوعي الغربي منذ العصور الوسطى، ~~بل ربما منذ أن صاغ أرسطو نظريته المتعالية في المقارنة بين شعوب ~~الشمال - ومنهم الإغريق الأذكياء الأحرار - وشعوب الجنوب والشرق الذي ~~يمشون كالقطيع وراء الطاغية والمستبد الأوحد. لكنها اليوم حملات ~~ضارية تقتحم جيوشها الكهرومغناطيسية كل الأبواب، وتنفذ من كل ~~الجدران، وتعمل عملها الخفي والمعلن في أدمغة الأفراد والنظم ~~والدول، والقوى المهيمنة؛ لتدبير العدوان تلو العدوان على وجودنا ~~وثرواتنا وحقوقنا وكرامتنا. وعندما يتم العدوان بالفعل، ينفتح الجرح ~~الذي طالما انبثقت منه أشعاره، وارتفع صوت ندائه وشجوه وشجنه، فيقول ~~شعرا في «الرابسودية الفلسطينية» على أثر الغزو الصهيوني الوحشي ~~للبنان، ومذبحة صابرا وشاتيلا التي لم يقلل مر السنين من بشاعتها ~~وفظاعتها، ثم يقوله نثرا في العديد من المقالات التي تنشرها كبريات ~~الصحف في ليبزيج، وفي الأحاديث التي تجري معه في كثير من الصحف ~~الأجنبية والعربية عن «سيناريو حرب الخليج»، أو تمثيليتها السقيمة ~~اللئيمة التي ألفت وغزلت خيوطها وخطوطها في كل من واشنطون، وتل ~~أبيب. ~~(ح) في مقال شجاع وصريح - نشرته جريدة الشعب في ليبزيج في ملحقها ~~الأدبي والثقافي في اليوم السابع عشر من شهر مارس سنة 1991م - عن ~~تمثيلية حرب الخليج، يسلط الشاعر - بعد انتهاء الهجوم البري بقليل - ~~الأضواء الكاشفة على بعض زواياها الخفية التي لا يعرفها إلا العربي. ~~فقد سكتت الأسلحة أخيرا، وبدأ ~~أدعياء السلام المنتصرون ينادون من كل الجهات داعين لنظام عالمي ~~جديد يفرضون عليه سلامهم هم - ولم لا، وقد تحطم الجيش العراقي الذي ~~صوروا للناس أنه رابع جيوش العالم، وانقشع غبار المعركة - التي ~~وصفها جنود الحلفاء، بأنها عملية صيد للبط - عن عشرات ms59 قليلة من ~~الضحايا في صفوف المنتصرين، وعشرات الألوف، التي بلغت الخمسين أو ~~المائة ألف ضحية، من المهزومين. لم يضغط صدام على الزر الذي تنطلق منه ~~أسلحة الدمار الشامل المزعومة لإبادة اليهود - كما تخوف من ذلك أدباء ~~كثيرون في الغرب - ولم ينجح في الظهور بمظهر هتلر ثان، كما صورته ~~الاستعارات الصحفية والمبالغات الإعلامية. لقد كان، وما يزال، كارثة ~~على شعبه، وعلى المنطقة بأكملها - حتى عندما كان الرؤساء الذين حاربوه ~~وهزموه، لا يزالون يجاملونه ويسلحونه - ومع ذلك فليس هو الكارثة ~~الوحيدة، لا في المنطقة ولا في العالم. # واختفاؤه من على سطح الأرض - سواء بفرض الموت السياسي أو الطبيعي ~~عليه - لن يجلب نعمة السلام المنتظر لا على العرب ولا على اليهود ~~(وذلك من وجهة نظر الشعوب لا الحكام). إن الكاتب نفسه قد تمنى اختفاء ~~صدام، وما يزال يتمناه، فقد أمر باغتيال عدد من أعز أصدقائه، وقضى ~~على الآلاف من أهله الأكراد بالغازات السامة، واضطر نحو مليون من ~~أنبغ أبناء العراق - من شعراء ومفكرين وفنانين تشكيليين وكتاب قصة ~~ومسرح - إلى الحياة في المنفى. ولكن الكاتب لم يكن ليوافق بضمير ~~مستريح على أن يكون ثمن اختفائه هو هذا العدد الفلكي من الضحايا، لا ~~سيما أن هذه التمثيلية الدامية لم تستطع أن تحل مشكلة واحدة من ~~المشكلات التي تعاني منها شعوب المنطقة. أجل، لقد كانت الحقيقة هي أول ~~ضحايا هذه الحرب المدبرة والمدمرة. # قيل بعد الهجوم البري لتحرير الكويت: كل شيء قد انتهى، لكن هل انتهى ~~حقا؟ وما الذي انتهى بالضبط؟ وما الجدوى الآن من إثبات أن هذه الحرب ~~كان من الممكن تجنبها، لا سيما أن الهجوم البري قد نفذ، على ~~الرغم من إعلان العراق استعداده للانسحاب بلا قيد ولا شرط، وقبل ~~ساعتين بالتحديد من موعد انعقاد مجلس الأمن، في الساعة الرابعة من ~~اليوم نفسه؛ للنظر في حل المشكلة بالطرق السلمية؟ مع أن العالم كله قد ~~سمع بأن الموضوع برمته يتم تحت إشراف المنظمة الدولية، وبتوجيه ~~منها، ثم ما فائدة القول الآن بأن الأمر في هذه ms60 الحرب لم تكن له صلة ~~لا بالقانون الدولي، ولا بالأخلاق، ولا بحقوق الإنسان، ولا بأمن ~~المنطقة، ولا حتى بتحرير الكويت؟! # إن شرطي العالم والقوة رقم واحد فيه قد أعطى نفسه شيكا على بياض، ~~كتب عليه رقم واحد، وأمامه ما شاء من أصفار يحصلها الآن - ومنذ عشر ~~سنوات - من بترول أرض الخليج، ومن قوت أهاليه ومستقبلهم. وهو يقف في ~~كل لحظة على أهبة الاستعداد؛ لشن حربه العسكرية أو الاقتصادية أو ~~السياسية على كل من يفكر من العالم الثالث أو الرابع أو الخامس، ~~في مقاومته، أو الخروج على طاعته. # هي لعبة، أو تمثيلية، أو سيناريو ألفه - أو بالأحرى ألف له - ~~وقام هو بتنفيذه كما اختار بنفسه أول ممثل يطأ بقدمه خشبة المسرح، ~~وتولى بنفسه إسقاطه من عليها. والمهم في الأمر أن اللعبة ما تزال ~~مستمرة، سواء بذلك الممثل الغبي الذي كان أول من سقط على الخشبة، أو ~~بغيره. والأهم من ذلك أن الشرطي الأول - مع المؤلف الحقيقي لتمثيليته ~~المتكررة - هو الذي يحدد مسار الحدث المسرحي، ويجمع حصيلة شباك ~~التذاكر. والشعوب؟! يمكنها أن تصفق وأن تهتف، أن تضحك وتبكي أيضا. ~~يمكنها كذلك، بل هي مضطرة أن تساهم في نفقات العرض بالتبرعات أو ~~بتحمل أعباء ضرائب جديدة. أما التمثيلية نفسها فلا يجوز لها ولا ~~لحكوماتها أن توقفها أو تغيرها؛ لأنه هو المتحكم الأول والأخير في ~~تحديد توقيتها ومسارها، وأحداثها وشخصياتها. # ليس هناك حرب عادلة وأخرى ظالمة. الحرب هي الحرب. ولا بد في هذا ~~الزمن المجنون - زمن القنابل النووية والأسلحة الكيماوية والبيولوجية - ~~لا بد من إدانتها والحيلولة دون وقوعها أيا كانت دوافعها وأسبابها، ~~إذ يستحيل أن تكون هذه الدوافع والأسباب عادلة أو مقدسة. وعلى الألمان ~~- الذين يتمتعون بسمعة طيبة في العالم العربي، ولا يرزحون تحت عبء ~~تاريخ استعماري - عليهم أن يتحملوا مسئوليتهم، ويقوموا بدورهم في ~~إيجاد حل سلمي دائم وعادل للصراعات المحتدمة في المنطقة العربية، ~~التي اصطلح خطأ على تسميتها بالشرق الأوسط. # لم تنته التمثيلية المكشوفة، ولم يسدل الستار بعد. والشاعر الذي ما ~~فتئ - كما ms61 سبق القول - ينظر للآخر ويتعاطف معه، ويتمعن فيه ببطء، هو ~~نفسه الذي ما يزال يحاول مد جسور التواصل والتفاهم والاحترام ~~المتبادل، والحوار العاقل البناء بين البلاد واللغات والحضارات - وهو ~~ما يزال يردد - كما جاء في قصيدة المتجول، من ديوانه الأول «كحرير من ~~دمشق»: «المودة تجلب للربيع ابتسامته، للجائع طحينه، وللعطشان عزاء ~~وماء، تجلب له كنز السعادة، كنز السعادة، وما يزال صوته ~~كشاعر يحمل نبرة الأنبياء ~~ورسالتهم الخالدة. هل سيسمعه البشر الذي ينطق صوته بعذابهم ؟ وهل ~~سيسقط المطر الخير كما يتمنى، أم تستمر اللعبة الدامية - خصوصا على ~~خشبتنا - دون أن ينتبه الجمهور، ويقاوما ويوقف العرض؟» «أعلم تماما أن ~~محاولتي كشاعر لتغيير شيء في هذا العالم محاولة محدودة جدا. ومع ذلك ~~يمكن أن تتسبب في وقت من الأوقات في ارتفاع موجة عالية». هذا ما قاله ~~الشاعر في أحد أحاديثه. وأعتقد أن كل من يشاركه الإيمان بقيمة الكلمة ~~(الفعل) التي يوجهها ضمير فني، وإنساني صادق ونزيه - يمكن أن يشاركه ~~هذا التفاؤل، ويرفع معه راية الأمل. ~~(ط) حاصر الوحش الإسرائيلي بيروت (1982م)، وقفت جيوشه ودباباته ~~ومدافعه - كالهولي الإغريقية المجنحة، والطاهش المخيف في الحكايات ~~الخرافية اليمنية - على أسوار المدينة المنكوبة لتمنع الدخول إليها، ~~أو الخروج منها - لا، بل لتجبر أبناء فلسطين الذين لجئوا إليها - بعد ~~مطاردات لم تهدأ كلابها المسعورة التي لاحقتهم من الناصرة إلى ~~نابلس، ومن نابلس إلى إربد، ومن إربد إلى صور، ومن صور إلى بيروت؛ ~~لتجبرهم على الخروج من آخر معاقلهم، لكن إلى أين؟ # تورمت سماء بيروت بدخان الحرائق، وتلبدت فوقها سحب الرعب، ~~ودوت طلقات الرصاص، وانفجارات القنابل، لتصنع الجحيم - في الوقت ~~الذي راحت فيه أيادي الحقد والغدر تنسج خيوط أفظع جريمة، وأبشع ~~مجزرة في النصف الأخير من القرن العشرين - على كثرة الجرائم والمجازر ~~التي ارتكبت فيه أخذت الأيدي القذرة تنسج من بعيد، وتركت التنفيذ - ~~ويا للعار! - لأياد عربية راحت تحفر أبشع قبر جماعي لنفوس وأجساد ~~عربية حية. تلك هي محرقة صبرا وشاتيلا التي دبرها النازيون الجدد، ~~وتهون بالقياس إليها محارق النازيين ms62 القدامى. خطط لها الإرهاب ~~الإسرائيلي، ونفذها الإرهاب الكتائبي (راجع تفاصيلها المخيفة في ~~رواية بهاء طاهر الرائعة: الحب في المنفى). # ماذا يفعل الجذر العربي الضارب في أرض الساكسون البعيدة، وقد ~~زلزلته محنة الأهل وشرخته، وجرحته أوجاع أبناء الوطن؟ هل يملك إلا أن ~~يطلق صرخاته الخرساء، وينزف دماءه الشعرية لتصب في الجرح الفلسطيني ~~النازف أبدا في كل قلب عربي؟ وماذا يملك شاعر مغترب أمام سيل الصور ~~المروعة والمرعبة التي تنشر في الصحف، وتبث على الشاشات، وترج ~~حتى ضمائر الذين خرس صوت ضميرهم، ودفن تحت طبقات وطبقات من التبلد ~~والتعالي واللامبالاة والغطرسة؟ # ها هو الشاعر يطلق صرخته، أو يسجل صوت الصرخة الخرساء: ~~«أي عيون أطلقت هذه الصرخة الخرساء، أهي زوجة أم أم؟ ومن الذي بقي ~~على قيد الحياة؟ ويختلط عليه الأمر فيتساءل: أم أنني أنا الذي أصرخ؟ ~~ويستمر الحصار. وتمر الأيام بطيئة وثقيلة كخطوات تنين يفح الحريق ~~والخراب. # النار تطلب بيروت لآخر رقصة، وعلى الحد الفاصل بين شظايا القنابل ~~وطلقات الرصاص، صرخة فزع لطفل وعين يقظة لبندقية، وبين موت وموت، ~~تقفون الآن يا أهلي هناك وأحبابي، فيما أرجو أحياء ... نعم، تقفون وقفة ~~جذع الشجرة التي تغني أغنية المهد لورقة الخريف، وتبشر بمقدم الربيع ~~وهي شامخة القامة ما تزال.» # ويرد الشاعر - على لسان أحد الناجين القليلين من ~~المجزرة - على المتشدقين في أجهزة الإعلام بمحارق اليهود، ~~والمتسولين بها الشفقة والعملات الصعبة، أولئك الذين يحشون بنادق ~~كلماتهم العدوانية بحروف «آوشفيتس»، أو غيره من معسكرات الاعتقال ~~النازية، فيقول لهم: # لا تصوبوا فوهات هذه البنادق نحوي، # لا تصوبوها نحوي أنا، # فأنا أيضا نجوت من جحيم. # 5 # ويتذكر قصيدة كتبها شاعر نمسوي شريف وشجاع، لم يمنعه ~~أصله اليهودي من أن يقول كلمة حق نطق بها ضميره المأزوم، بعد أن رأى ~~وسمع وشاهد أخبار مذبحة سابقة في أيام النكسة الستة، وذلك هو إريش ~~فريد الذي كتب يقول: # عندما كنتم مضطهدين، # كنت واحدا منكم، # كيف أبقى معكم بعدما اضطهدتم غيركم؟ # 6 # يتذكر شاعرنا هذه الأبيات - أو هذه الماسات الناصعة ~~بنور الحقيقة والنابضة بغضبة ms63 الضمير الحي - فيصل خيوطه الشعرية ~~بخيوطها، ويرد على مزاعم الضحايا المضطهدين المحاصرين بالأعداء، ~~الذين هم في الواقع جلادون أقسى وأكثر وحشية من أقسى الوحوش ~~فيقول: # لكن من الذي أعطى الحق، # لمن أصبحوا اليوم مضطهدين، # أن يتكلم أحد منهم، # باسم من اضطهدوا بالأمس؟ # وأي إله، # منح القدسية، # هبة لأحفاد المقدسين، # إلى الأبد؟ # وينتهي الحصار، ويخرج الفدائيون إلى منافي أخرى ~~مؤقتة، لكن ليل بيروت، الذي بدده صباح التحرير، يظل يفرخ الكوابيس ~~في مخيلة الأطفال الناجين من محرقة النازيين الجدد: # الأطفال الذين نجوا، # يحلمون طول النهار، # باللحم الممزق والرقاب المذبوحة. # والأطفال الذين نجوا لم تعد لهم أمهات، # وربما لم يعد لهم آباء، # ولا حديقة يلعبون فيها كما يلعب الأطفال. # الأطفال الذين نجوا، # سيحملون البنادق ذات يوم في أيديهم؛ ليستردوا الأرض التي ~~أخذت منهم. ~~(ي) وكبر الأطفال الذين يحملون البنادق والحجارة، ~~استردوا جزءا ضئيلا من الأرض التي ما تزال مهددة من قبل الغاصب، ~~وما يزال القسم الأكبر منها محتلا بجيوشه وآلاته الحربية الضخمة، ~~التي يهديها له الشرطي الأكبر والأوحد في العالم. وجنود الغاصب يضطهدون ~~الطفل الفلسطيني، ويلاحقونه من بلد إلى بلد، ومن قبر جماعي إلى قبر ~~جماعي. وينظر الشاعر إلى أحد هؤلاء الجنود، فيتذكر الحقل والبيت ~~المسلوب: # ربما كان هذا الجندي يجلس الآن، # تحت شجرة برتقال، # فوق عشب قطع أخيرا، # في مستوطنة بنيت في حقل، # كان أبي يفلحه لما أردته رصاصة، # ربما كان هذا الجندي يشرب الآن قهوته، # بيد لا تزال تشعر بالطمأنينة، # في الوقت الذي لا يلعب فيه أطفاله مع أطفالي. # 7 # وكيف لأطفال لا تملك من أسباب المقاومة والدفاع عن ~~النفس سوى لحمها العاري، وقطع حجارتها التي تواجه بها دبابات ~~الأعداء وصواريخهم، كيف لهم أن يلعبوا مع أطفال وضع آباؤهم في أيديهم ~~السكاكين؟ ~~(ك) وتمر الأيام والشهور والسنين. وتشتعل نار انتفاضة الأقصى ~~بوقود الغضب من استمرار الاحتلال والعدوان الوحشي، والسخط على الوعود ~~الكاذبة والتصفيات الغادرة والمفاوضات المهينة، وطول انتظار السلام ~~«العادل والدائم» داخل سجن كبير يحاصر بالجوع سكانه، وتهدم بيوتهم ~~وتسرق أرضهم، وتقتلع ms64 جذورهم، ويتحول الوطن إلى ذكرى بعيدة، ~~وحلم يبدو كالمستحيل. وبعد أن يتآمر صمت العالم على عذابهم وتعذيب ~~أعدائهم لهم، ينطق الأطفال والصبية والشباب اليائسون بالكلمة الوحيدة، ~~التي سمحت لهم بها لغة العالم الأخرس، يلجئون إلى كلمة الحجر: # قل لهم: إنك تقف تحت مطر الرصاص المنهمر عليك، # على طرف إصبع واحد، # وسوف يصدقونك، # قل لهم: # إنك ترى كل يوم شمس الموت في الظهيرة، # وهي تدور حول الأرض، وسوف يصدقونك، # قل لهم: أنت أيضا تريد السلام الدائم والعادل، # لتشارك فيه الآخرين، # لكن الآخرين لا يريدون إلا سلامهم هم، # ويلوون كلمتك في أفواههم، # وها أنت الآن تراهم، # بأطراف أصابعك، # وتقول بصوت دام: # إن لغة هذا العالم لا تسمح لك # إلا بكلمة واحدة، # هي الحجر. # ولا يملك القارئ في النهاية إلا أن يسأل: كيف تتحول ~~الكلمة الشعرية والأدبية بدورها إلى فعل يغضب ويقاوم ويغير؟ متى تتعلم ~~من أطفال الحجارة، وتعيد النظر في شكلها ومضمونها والهدف منها، ~~وتستعيد قدرتها على الإنقاذ والإيقاظ من كهوف الركود والتبلد والهوان؟ ~~ومتى تتخلص من تجاربها العبثية والنرجسية المتهافتة، وتجرب أن ~~تساعد متلقيها على الإجابة الضرورية على السؤال الكبير الوحيد، في ~~مواجهة الذين يقتلعون جذورها، ويدمرون بيوتنا، ويحطمون جسورنا، ~~ويشوهون تاريخنا، ويسرقون حاضرنا ومستقبلنا: هل نوجد أو لا ~~نوجد؟ # سوف نوجد حتما ونزدهر، وننتزع الاحترام من الآخرين يوم نتعلم ~~ونتكلم لغة الفعل، لغة الجذر والجسر والحجر، لغة الشعر الذي يبقى ~~ويعمر؛ لأنه يؤثر ويغير. # الفصل السادس # | حوار مع عادل قرشولي # - يشرفنا ويسعدنا في هذه الأيام بزيارته لمصر الشاعر المرموق في ~~اللغتين الألمانية والعربية، والعالم الكبير في الأدب الألماني الحديث، ~~الدكتور عادل قرشولي الذي ينحدر من أصل سوري، ويعيش ويعمل ويبدع منذ ~~مطلع الستينيات إلى اليوم الحاضر في مدينة ليبزيج. التحق في ذلك ~~الحين بمعهد الأدب في هذه المدينة العريقة؛ ليدرس الأدب الألماني، ~~ويتخصص في علوم المسرح وفنونه، ثم حصل على الدكتوراه برسالة عن ~~تلقي مسرح بريشت في العالم العربي في سنة 1970م. والجدير بالذكر، ~~والفخر أيضا، أنه تولى في هذا ms65 المعهد نفسه - بعد تخرجه عام 1964م - ~~تدريس الأدب الألماني الحديث في جامعة ليبزيج، قبل أن يعمل في معهد ~~الاستشراق من عام 1969م، حتى تفرغه للكتابة الحرة منذ سنة 1993م. وقد ~~صدرت له حتى الآن خمس مجموعات شعرية باللغة الألمانية، هي على ~~الترتيب: كحرير من دمشق (1968م)، وعناق خطوط الطول (1978م)، ووطن في ~~الغربة (1984م)، ولو لم تكن دمشق (1992م)، وهكذا تكلم عبد الله ~~(1995م)، بالإضافة إلى ديوانين بالعربية؛ «الخروج من الذات الأحادية»، ~~نشره اتحاد الكتاب العرب في دمشق سنة (1985م)، و«موال في الغربة» الذي ~~صدر في ألمانيا، عام (1967م). # حصل الشاعر عن إنتاجه الأدبي والعلمي على جائزتين رفيعتين هما؛ ~~«جائزة الفن» التي تعتبر الجائزة الأدبية الكبرى لمدينة ليبزيج سنة ~~1985م، وجائزة «أدالبير فون شاميسو» التي قدمتها له أكاديمية ~~الفنون في مدينة ميونيخ سنة 1992م، وهي أهم جائزة تقدم لكاتب من أصول ~~أجنبية؛ تقديرا لإنتاجه الذي يمثل إغناء للأدب الألماني. # وعادل قرشولي شخصية فريدة ذات جوانب متعددة، هي أشبه بشجرة شعرية ~~وارفة، حاولت - ونجحت في محاولتها المضنية نجاحا مذهلا - أن تمد ~~جذورها في تربة وطنين، وترتوي من ينابيع تراثين، وتنشر ظلالها ~~الندية فوق أدبين وعالمين وحضارتين ولغتين. وإذا كانت الغربة هي ~~الموضوع الأساسي والإشكالية الكبرى، التي طبعت جهوده الإبداعية ~~والنقدية بطابعها وحركتها في دوائرها، فإنه بشعره وفكره وحياته - وسط ~~الصراعات والتناقضات، والمصادمات التي لم تتوقف سيطرتها على ~~العالم وتعذيبها للبشرية - يمثل في تقديري جسرا عظيما ممدودا ~~بالمودة والتواصل والمشاركة الإنسانية العميقة بين شاطئين يبدوان ~~متباعدين أشد التباعد، وإن كان الشعر والحب يقرب بينهما كل القرب. ~~ولا شك أن مثل هذه الحياة الخصبة التي أغناها صاحبها بإنتاجه ~~الغزير في الشعر والدراسة والترجمة من وإلى اللغتين - أو قل الوجودين ~~الحميمين في وقت واحد - لا شك أنه يثير تساؤلات لا آخر لها عن ~~مواجهة الغريب لغربته وتحديه لها، ثم تجاوزها، لا سيما في ديوانه ~~الأخير الذي سبقت الإشارة إليه، إلى آفاق إنسانية تتسم بالشمول ~~والعمق معا. ومن هذه التساؤلات كان حواري معه عن ms66 قليل من كثير، يوحي ~~به فكره وإنتاجه ونجاحه في انتزاع الاعتراف، والإعجاب به من الآخر؛ من ~~ذلك إشكالية الكتابة بلغتين، والعلاقة بين الذات والآخر، وانعكاس ~~الفكر الجدلي على صوره الشعرية التي ظلت محتفظة بسحرها الشرقي ~~والغربي، بجانب السؤال عن تأثير بريشت عليه، فضلا عن بعض الشعراء ~~والنقاد الألمان الذين احتفوا به، وكتبوا عنه، وأصبحوا من أعز ~~أصدقائه، دون أن أنسى، قبل ذلك كله وبعده، مواقفه الشجاعة من بعض ~~القضايا القومية التي لم يتردد لحظة عن التعبير عن آرائه الجريئة ~~فيها، دفاعا عن الحق، وتصديا للتحيز المسبق والإعلام ~~المغرض . # بعد السلام والترحيب به في وطنه الثاني، والعودة بالذاكرة إلى ~~اللحظات النادرة، من اليوم العشرين من شهر مارس الماضي، التي قضيناها - ~~زوجتي وأنا - في ضيافته ببيته العامر بالدفء في ليبزيج، ونحن في ~~طريقنا إلى مدينة فيمار، بدأت بسؤاله عن إشكالية الكتابة بلغتين، ~~وكيف توصل - بعد كفاح طويل - إلى استيعاب اللغة الأجنبية إلى حد ~~التفكير والشعور من خلالها، وكتابة الشعر بها، وترجمة بعض روائع ~~الشعر والمسرح العربي الحديث إليها، فضلا عن ترجمة بعض روائعها ~~المسرحية والشعرية - لبريشت وغيره - إلى لغته العربية، فتفضل بقوله: ~~لا شك أن هذه إشكالية معقدة ومتشابكة جدا، وهي تختلف في حقيقة ~~الأمر من تجربة إلى أخرى، كما أنها ليست ظاهرة جديدة في الأدب ~~العالمي، وإنما ترجع إلى العصور القديمة؛ فهناك كثيرون كتبوا ~~باليونانية واللاتينية مع، وفي العصور الحديثة كتب بيكيت مثلا ~~بالإنجليزية والفرنسية، كما كتب بيتر فايس بالسويدية والألمانية، حتى ~~إن الشاعر راينر ماريا رلكه كتب قصائد بالفرنسية. # أنا شخصيا لم أكتب القصيدة الألمانية إلا بحكم الضرورة، بل أكاد ~~أقول بحكم الصدفة؛ فقد أتيت إلى ألمانيا في مطلع الستينيات، وكانت لي ~~تجربة شعرية غضة باللغة العربية انشرخت قبل أن تكتمل وتتكون لها ~~ملامح متفردة. وقد اعتبر بعض الأصدقاء الذين يكبرونني في السن أنها ~~كانت تجارب متميزة بالنسبة لجيلي آنذاك، ولذلك ضممت إلى رابطة ~~الكتاب العرب في تلك الفترة في الخمسينيات. وأنت تعرف أن هذه الرابطة ~~كانت تضم أصواتا أدبية ms67 هامة معبرة عن تلك المرحلة؛ نذكر منها: ~~البياتي، وحنا مينا، وشوقي بغدادي، وعبد الرحمن الشرقاوي، على سبيل ~~المثال لا الحصر. لم تكن قصائدي الأولى في الحقيقة ذات نبرة مرتفعة، ~~بل كانت على العكس تماما تتميز نتيجة قراءاتي الأولى للشعراء ~~الرومانسيين العرب أمثال جبران، وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، ~~والأخطل الصغير، وأمين نخلة، وأحمد زكي أبي شادي، وشعراء المهجر ~~اللبنانيين بصفة خاصة، أقول تتميز بإيقاعات هامسة. وقد بدأ توجهي ~~للقصيدة السياسية في حقيقة الأمر بعد العدوان الثلاثي على مصر، وكنت ~~آنذاك في العشرين من العمر، ومن يقرأ قصائدي في تلك المرحلة يرى أنها ~~كانت تحاول المزاوجة بين الرومانسي والسياسي، ولي مثلا قصيدة عن ~~جميلة بوحريد، نشرت مع قصائد مماثلة عن هذه المجاهدة الجزائرية في ~~القاهرة، سنة 1957م أو 1958م، على ما أذكر، إلى جانب قصائد للشرقاوي، ~~وحجازي، وصلاح عبد الصبور، وفؤاد حداد، وفي هذه القصيدة كنت أحاول ~~أيضا هذه المزاوجة. ~~- هل تذكرون نص هذه القصيدة أو غيرها مما يمثل تلك المرحلة؟ ~~- هذه أولا هي قصيدة «يد الفارس»، التي ترجع إلى عام 1958م، وكنت قد ~~أهديتها إلى المجاهدة الجزائرية العظيمة: # يا يدا تطرق أبواب السجون! # يا يدا تزرع في الصدر الشجون! # يا يدا تقطف من كل العيون # دمعة الحب الحنون! # اقطفي من قلب عيني ابتسامة، # وارشقيها في فم ما زال طفلا، # لم يدغدغه الزمان. # لم يلملم ضحكة الجيران، # لم يكد يولد حتى انطفأت في قلبه الألحان. # آه يا ضحكتنا! # يا ويله من يطفئ الألحان # في فم كالكرز الراحل يذوي، # ويله # من غضبة الإنسان. # وهاتان قصيدتان تسري فيهما أنفاس الرومانسية الناعمة ~~الحالمة، بما فيها من همس وعذوبة وحنان، والقصيدة الأولى بعنوان ~~«وشوشة»، وترجع على ما أذكر إلى سنة 1955م: # كالحفيف، # كالعيون الناعسات # حين تحكي. # كعناق الأمسيات الحالمات # للنخيل، # كرفيف الآه في ثغر حزين، # وشوشتني، # وسكرت # أنا من دون نبيذ. # وبلا تمر وتفاح لذيذ، # أو عنب، # أنا بالبحة أسكر # وأغيب، # وأنا أشهى حبيب، # يوم أسكر. # لا تخافي؛ # قلت لليل الظليل # أن يطول، # أن ms68 ينادينا إذا اهتز السحر، # أو أفاق، # ليس في الليل سوى ذاك العزول. # أنا لا أخشى الرفاق، # ورفيقي ذلك الحلو القمر، # لا تحدق! # تغضب الهمسة إن قلت الحكاية، # وكفاية # أن أقول وشوشتني. # أما القصيدة الثانية، وهي تحت عنوان «القمر الصغير»، ~~فيرجع تأليفها إلى سنة 1956م: # القمر الصغير # حلو كبرتقالة، كعاشق صغير، # خيوطه تحيك للرفاق # ستائر الحرير؛ # ليستريحوا في المساء تحتها، # من تعب الكفاح والإصرار والمسير، ~~... فراشة ألوانها مواسم الربيع، # برقة تضمنا، # برفة تضيع # فراشة لا تستريح، دائما تطير. # والقمر الصغير # في صدرها، يغفو كبرتقالة، كعاشق صغير. # وأنت يا حبيبتي، # عيناك نجمتان حلوتان، # ملؤهما تدور أضواء من الحنان. # عيناك تنسجان لي ستائر الحرير؛ # كي أستريح تحتها # من تعب الكفاح والمسير، # وكي أصوغ للرفاق # مواسم الحرير. # والقمر الصغير، # قلبي أنا، أضحى كبرتقالة، كعاشق صغير. # وقد كتبت في تلك الفترة بعض القصائد بالعامية السورية. ~~ومن الطريف أن أذكر أن الشاعر عبد الرحمن الخميسي، رحمه الله، كان في ~~دمشق، وحضر لي أمسية شعرية في منتصف الخمسينيات. واستغربت إعجابه ~~آنذاك بإحدى القصائد، التي ألقيتها بالعامية الدمشقية بعنوان «خيطان ~~من مخمل». وعندما عاد إلى القاهرة نشر هذه القصيدة في إحدى الصحف ~~المصرية - لعلها الجمهورية - مع مقدمة تحدث فيها بود ومحبة عن هذا ~~الشاعر الشاب، ولدي حتى اليوم صورة تجمعنا في اتحاد الكتاب. # بعنيكي غنيى، # ورد وعسل ونجوم سحريى، # بتقول بدها تروح، # بتقول ما بتروح، # محيرا، # يمكن غزلها قلب شو مغزل، # بخيطان من مخمل، # ومسهرا، # مثل أنا مرات شو بسأل، # مدري عيونا سود، # مدري شهل فيه لوان ورود، # مدري مثل فيى، # بنهار صيف وشوب، # مدري عسل بيدوب، # مدري سماويى، # لكن بعود بقول، # شو همني لونا، # هالبنت وعيونا، # شو همني ما دمت عم بغزل، # للناس وبحمل، # كل قلب كل عطشان للفي والميى، # من عنيكي غنيى، # ورد وعسل ونجوم سحريى. ~~- أظن أن هذه النغمة الهامسة كانت مبشرة بتطوركم ~~الجدلي اللاحق، الذي بلغ ذروته في شعر الحكمة الذي تفيض به قصائد ~~مجموعتكم الشعرية الأخيرة بالألمانية، وهي «هكذا تكلم عبد الله»، كما ms69 ~~تبين أن عالم الباطن هو العالم الذي تمتحون من ينابيعه، كما تستكن ~~فيه نواتكم الشعرية والإنسانية والصوفية، المحبة للعالم والمتعاطفة مع ~~الوجود في كل تجلياته والمرتبطة بآلام البشر وعذاباتهم. ~~- أنا في الحقيقة شاكر لهذا السؤال الجوهري. هناك كثيرون كتبوا عن ~~الجدلية في قصائد «هكذا تكلم عبد الله»، واعتبروا أنها ناجمة عن تأثري ~~ببرتولت بريشت، لكنني لدى مراجعتي لقصائد يرجع عهدها إلى مطالع العمر، ~~لاحظت أن هذه النبرة الجدلية موجودة في تلك القصائد، وأن مصدرها ~~الأساسي لم يكن هو بريشت، وإنما ساعد هذا الشاعر والكاتب المسرحي ~~الكبير على نمو تلك البذرة بعض الشيء، ثم ازدادت نموا بعد اطلاعي ~~بشكل أساسي على التراث الصوفي، واكتسبت بعدا آخر ونضجا، جعلها تؤلف ~~بين الجدل والمناجاة. ~~- ولعلها تختلف أيضا عن جدلية بريشت في أنها لم تقتصر على العقلاني ~~والمعرفي، وإنما نجحت في التوفيق بين المعرفي والجمالي، أو في أن تكسو ~~العقلاني بغلالة الصورة الشعرية الساحرة المغروسة الجذور في بستان ~~الشرق، والغنية بعصارة تراثه التخيلي. ~~- في بداية كتابتي للقصيدة الألمانية في مطلع الستينيات، كانت ~~الجدلية في بعدها المعرفي تتغلب على البعد الجمالي، أذكر من ذلك ~~قصيدة كانت بعنوان «دياليكتيك» (جدل)، أقول فيها على ما أذكر: # لأنني أحبك، # أحب العالم. # لأنني أحبك، # أجده جميلا. # لو كان في مقدوري أن أكرهك # لكرهت العالم، # وكرهت نفسي. # ولأن العالم في ذاتي # لكرهت نفسي، # ولأنني لا أريد أن أكره نفسي، # فأنا أحبك. # إن الجدل هنا يقتصر على المقولة، دون تصوير هذه ~~المقولة، في صورة شعرية لها استقلاليتها الجمالية. أعتقد أن بعض ~~قصائد «هكذا تكلم عبد الله» تمكنت من التركيز على البعد الجمالي، ~~الذي من خلاله يتجلى المعرفي في جدليته. ~~- ربما يؤكد هذا حقيقة الجدل الذي طالما «رفع» نفسه - بتعبير هيجل - ~~وتجلى في صيغ وأشكال مختلفة، بدليل أنك استطعت في هذه المجموعة ~~الأخيرة أن تصل إلى مركب النقيضين، وأن يتمثل هذا المركب في رؤيتك ~~الشاملة وتعاطفك الكلي مع العالم والأرض والإنسان. لكنني أحب أن ~~أنتقل من الجدلية في ذاتها إلى جدلية أخرى ms70 مهمة تتعلق بصراع الذات ~~مع الآخر. كيف استطعتم تجاوز مرحلة الصراع مع الذات الأخرى الألمانية، ~~وتمكنتم من تحديها وتخطيها نحو ذات شخصية تناجونها وتخاطبونها، وإن ~~كانت في تقديري قد أصبحت ذاتا شعرية شاملة، لا مجرد ذات فردية أو ~~شخصية؟ ~~- ليكن مصطلح «الصوفية» مدخلا للإجابة على هذا التساؤل؛ فقد قربني ~~بعض النقاد في هذه المجموعة بالذات من الصوفية، غير أن الصوفية في ~~اعتقادي، إن نظرنا إليها من منظور فلسفي، تعني بدرجة رئيسية بمفهوم ~~وحدة الوجود، وبالحلول في الذات الإلهية. لقد أخذت من الصوفية - ~~فلسفيا - موضوعة وحدة الوجود، وبدأت أفكر من خلالها في علاقتي مع ~~الآخر. ولكن الآخر بالنسبة لي آخر أرضي. من هنا، ولرفضي فكرة ~~الذوبان في الآخر، أردت أن أسبر ماهية العلاقة بيني وبين هذا ~~الآخر، في إطار وحدة الوجود التي تضمنا نحن الاثنين. لذلك فأنا لا أريد ~~فلسفيا التوحد المطلق مع الآخر؛ لأن في هذا التوحد نفيا للذات. ~~ونفي الذات يعني أن تتخلى عن الذاكرة، ومن ثم عن الهوية فالإنسان ~~بدون ذاكرة لن يعود إنسانا، ولن يستطيع التحاور مع الآخر. والآخر ~~بالنسبة لي ليس فردا ما، فقد يكون حبيبة أو صديقا أو وطنا أو طبيعة ~~أو كونا. ومن هنا ينبغي أن أكون مع هذا الآخر علاقة تواصلية يحكمها ~~الود؛ لكي يحل الوئام. ~~- يمكنني أن أضرب مثلا شعريا لما تقوله، من مجموعتك الشعرية ~~الأخيرة «هكذا تكلم عبد الله». سآخذ أولا القصيدة التي لا تفارقني ~~الصورة المائلة فيها بكثافة وقوة: # وقال لي: # هو يبحث فيك عنه، # وأنت تبحث عنك فيه. # هو يبقى هو، # وأنت تبقى أنت، # على النوافذ المغلقة. # يقرع، بجانحين مضمومتين كقبضتين، # غراب البين. # وفي قصيدة أخرى من المجموعة نفسها تقول: # كن مرة أنا، # وكن مرة أنت؛ # لأنك لو اقتصرت على أن تكون أنا؛ # لأصبحت أنا وحيدا مع نفسي. # ولو اكتفيت بأن تبقى أنت وحسب؛ # صرت حبة رمل في الريح. # أما هذه الأبيات فتلقي الضوء على إشكالية «الأنا ~~والآخر»، بعبارة بسيطة خالية من أي تجريد فلسفي: # وقال لي: # الآخر هو ms71 أنت وأنت هو. # الجسر الواصل بينكما هو الحياة. # وماذا تساوي الحياة # لو تحطم الجسر؟ # ومع ذلك كله، فهل يحق لي أن أحدس بنوع من التأثر ~~بنيتشه، فيما تسمونه «التصوف الأرضي، أو الدنيوي» أو ربما برؤية جوته ~~المتجهة دائما إلى الأرض والعالم، والمشبعة في شعره ونثره بوحدة ~~الوجود؟ وهل يكمن وراء قصائدك في هذا الموضوع بعض التأثر بالأبعاد ~~الواسعة، التي اتخذتها إشكالية الذات والآخر في الفلسفة المعاصرة، لا ~~سيما فلسفة الوجود؟ أم أن الأمر بعيد عن ذلك كله، وربما يرجع - ~~وهذا مجرد فرض أو تخمين توحي به قراءاتي قبل سنوات في الفلسفة ~~الشرقية - إلى البوذية التي تقول بعض نصوصها ببساطة: أنت هو الآخرون، ~~والآخرون هم أنت؟ ~~- قرأت مثل الكثيرين من جيلي «هكذا تكلم زرادشت» في ترجمتها العربية، ~~لفيلكس فارس. والحقيقة أنني لم أعد قراءة هذا الكتاب بالذات لنيتشه ~~ثانية، إلا بعد نشر مجموعتي الأخيرة «هكذا تكلم عبد الله». لا أعتقد ~~بوجود تأثر جوهري في هذا الكتاب بنيتشه، وحتى بالمفهوم الذي سميته ~~الصوفية الأرضية؛ إلا بالتوجه إلى الأرضي، إلى الملموس والمحسوس. لكنني ~~أختلف معه في موقفه من علاقة الأنا بالآخر؛ لأنه في نهاية المطاف - ~~وخاصة إذا بسطنا نظرياته كما فعل الكثيرون في زمن النازية - يفسح في ~~المجال لمفهوم تسلطي بين الأنا والآخر، وهذه النظرة الاستعلائية ليست ~~بالتأكيد هي نظرتي. إنني بالفعل أكثر قربا من جوته، الذي تأثر كما ~~تعرف بسبينوزا، وكذلك من هيردر وليسينج؛ لأنهم كانوا ينطلقون في ~~مواقفهم من المنطلقات الإنسانية لفكر عصر التنوير. أما بالنسبة لفلسفة ~~الوجود وما تبعها من فلسفات معاصرة كالوجودية مثلا، فلا شك أن ~~المرء يقرأ في حياته، إن لم يكن باحثا متفرغا، ما يتناسب ~~واهتماماته. ولا يكون التأثر عادة مطلقا، بل مضادا في أحيان ~~كثيرة. لا شك أن مفهوم الوجوديين مثلا عن الإنسان كمشروع يمتلك ~~الإنسان صياغته، وتكوين عناصره بنفسه، وما يستتبع ذلك من الشعور ~~بالمسئولية، والالتزام تجاه الذات مفهوم جدير بالنظر فيه، وهو هام ~~بالنسبة للعلاقة مع الآخر كما أفهمها، لكن تعميم مصطلح الوجود ورفض ms72 ~~التفريق المعرفي بين المادة والوعي، أي بين الذات والموضوع، ونفي ضرورة ~~وجود العلم، أو القدرة على التوصل إلى أية معرفة علمية، كما نرى عند ~~هيدجر، لا يتفق مع مفهومي عن العالم. كما أنني لا أعتبر الآخر جحيما، ~~بل صنوا وشرطا لوجودي، ليس لوجودي دونه قيمة حقيقية. ومن هنا يكون ~~علي عندئذ أن أبحث عن صيغ للتواصل الودي معه. ~~- أعطيتم بريشت قدرا كبيرا من جهدكم ووقتكم. وأشهد أنني قرأت في ~~بعض حواراتكم ما صحح بعض مفاهيمي عنه، على الرغم من أن طول انشغالي ~~بشعره ومسرحه قد أوهمني في مرحلة من حياتي بأنني صرت حجة فيه. هل ~~يمكن أن تحدثنا عن صلتكم بهذا الشاعر والكاتب المسرحي المناضل ~~والمحير معا، وعن بعض ذكريات عملكم في الأرشيف الخاص به في ~~برلين، وعكوفكم على نصوصه الكثيرة التي لم تنشر في حياته؟ ~~- عظمة بريشت تكمن بالضبط في أنه بالفعل محير، شأنه في هذا شأن كل ~~كاتب وفنان عظيم، غير أن كثيرين ممن كتبوا عنه من النقاد والدارسين ~~العرب، خاصة أولئك الذين اعتمدوا فيما كتبوه على مصادر غير ألمانية، ~~حولوا هذه الحيرة المتمردة المبدعة إلى ألغاز لا حل لها. هذا على ~~وجه الدقة هو ما دعاني لكتابة أطروحة الدكتوراه عن بريشت، ومستويات ~~التلقي العربي له في الستينيات. وحين تواكب كاتبا بعظمة هذا المسرحي ~~والشاعر والمنظر، وأنت في ريعان شبابك، لا يمكنك أن تتخلص بسهولة ~~من سطوة تأثيره. وفي الاحتفال بالمئوية البريشتية أقام بعض من عملوا ~~مع بريشت وعرفوه شخصيا عن قرب، ندوة تحدثوا خلالها عن تجاربهم معه. ~~وقد فوجئت حين تلقيت دعوة لإلقاء مداخلة في هذه الندوة؛ لأني للأسف ~~الشديد لم أتعرف عليه شخصيا رغم عملي لفترة طويلة في أرشيفه، وفي ~~مسرحه، وتعرفي على زوجته هيلينه فيجل وحبيباته، إلا أنهم طلبوا مني ~~- لمعرفتهم بتأثري به وترجمتي لبعض مسرحياته وأشعاره - أن أقدم هذه ~~المداخلة. وقد ألقيتها بعنوان «طريقي الطويل إلى بريشت». والأطروحة ~~الأساسية في هذه المداخلة هي أنني وصلت إلى بريشت حين تمكنت من ~~الانفصال عنه. في بدايات ms73 تأثري به حاولت كتابة القصيدة الجدلية، وقصصت ~~الأجنحة التخييلية للصورة الشعرية. كانت الجدلية عندي تقدم نفسها ~~في إطارها المعرفي، وفي أدق الكلمات، أي إن التكثيف الشديد للقصيدة، ~~والاستجلاء المعرفي في الصورة الشعرية كانا، في حقيقة الأمر، أهم ما ~~تعلمت من بريشت، ووجدته بشكل مختلف في النصوص الصوفية. ~~- ولكن صلتك ببريشت لم تقتصر على تأثرك الشعري به، بل قدمت بعض ~~الدراسات عنه، كما ترجمت بعض نصوصه إلى العربية. هل يمكن أن تحدثونا ~~عن ذلك؟ ~~- إضافة إلى اهتمامي الشخصي بالتعرف على أعمال بريشت، بحثت في هذه ~~الأعمال، وخاصة كما أسلفت في أساليب التلقي العربي له . وكتبت بعض ~~الدراسات بهذا الشأن في محاولة مني لتصحيح بعض المفاهيم التي اعتقدت ~~أنها خاطئة، أو حدث بشأنها سوء فهم ما. ونشرت كتابا باللغة الألمانية ~~صدر عن مركز بريشت للدراسات في برلين، بعنوان «بريشت في المنظور ~~العربي»، كما كتبت مجموعة من الدراسات في مجلة الحياة المسرحية السورية ~~تختلف عن الكتاب السابق الذكر، وأفكر في الوقت الحاضر في إصدارها في ~~كتاب، إلى جانب دراسات وحوارات هنا وهناك، إضافة إلى أربعة نصوص ~~مسرحية، وبعض قصائده التي ترجمتها إلى العربية. ~~- مع أنكم تصالحتم - في شعركم وحياتكم - مع الوطن الجديد في ليبزيج، ~~ومددتم جذوركم فيه، فإنكم لم تنسوا الوطن السوري الأصلي ولا الوطن ~~العربي في مجموعه، وتصديتم في شعركم، وفي كثير من مقالاتكم للدفاع ~~بشجاعة وحكمة عن بعض القضايا العربية، وقلتم كلمتكم بكل جرأة، في ~~كثير من المحن التي ألمت بالعرب، أو ما زالت تلم بهم، مثل محنة ~~فلسطين وحرب الخليج والعداء للعرب والإسلام، ومشكلة التحيز والتعصب ~~بوجه عام في الإعلام الغربي والألماني. هل تحدثوننا عن هذه القضية ~~الشائكة بشيء من التفصيل؟ ~~- لست أدري إن كانت قد حدثت ~~بالفعل مصالحة بيني وبين الحضارة التي أعيش فيها الآن، كل ما هنالك أن ~~الصراع الذي دار بين الداخل والخارج في هذا الواقع تحول في فترة ما ~~إلى صراع داخل الذات بين حضارتين وعالمين ولغتين، ولكن لم يعد هناك ~~صراع فقط بين هاتين الحضارتين ms74، بل أصبح يحدث بين الحين والحين بينهما ~~عناق أيضا في داخل الذات. وبحكم وجودي هناك كنت أجدني مضطرا ~~للرد أحيانا على ما يصدر من مغالطات أو مواقف عدائية تجاه تاريخنا ~~وحضارتنا. لقد ذكرت بعض القضايا العربية التي كتبت فيها، ومن ذلك ~~مثلا: الرابسوديا الفلسطينية، التي تضم إحدى عشرة قصيدة، كتبتها خلال ~~الحصار الإسرائيلي لبيروت، وقدمت لها باستشهادين لكاتب ألماني ولشاعر ~~نمساوي من أصل يهودي، هما: أرنولد تسفايج، وإريش فريد. قرأت للأول ذات ~~مرة في رسالة وجهها لصديق له عام 1942م، يقول فيها حرفيا: إننا لم ~~نهرب من فاشية لنقع في براثن فاشية جديدة. قال هذا بعد أن هاجر إلى ~~فلسطين هربا من النازية، ولكنه غادرها بعد انتهاء الحرب العالمية ~~الثانية، وعاد إلى ألمانيا. أما إريش فريد؛ فكتب عام 1967م، بعد حرب ~~حزيران قصيدة بعنوان: «اسمعي يا إسرائيل»، استشهدت بمطلعها الذي يقول ~~فيه: # عندما كنتم مضطهدين، # كنت واحدا منكم. # كيف لي أن أبقى كذلك، # وقد تحولتم إلى مضطهدين؟ ~~- أنتم من جيلي الذي آمن بأن الكلمة فعل، أو ينبغي أن ~~تكون فعلا مؤثرا؛ لتغيير الواقع الداخلي والخارجي، وبأن الشعر يمكنه ~~- على حد تعبير بريشت - أن يغير العالم والسلوك الفردي والجماعي، ~~وإلا كان عبثا أو زخرفة أو تجارب لغوية لا طائل وراءها. ما رأيكم ~~الآن في مدى قدرة تأثير الشعر بعد أن انفصل أو كاد - لا سيما في بلادنا ~~العربية - عن جمهوره، وخصوصا بفضل قصيدة النثر وشعرائها، وبعد أن أصبح ~~مصيرنا يدبر ويصنع بأيدي غيرنا، وتستلب إرادتنا الحرة وعدالة ~~قضايانا كل يوم على مرأى ومسمع من العالم المتفرج الأخرس؟ ~~- أعتقد أننا، كجيل آمن بضرورة مساهمة الفرد في عملية التغيير، ~~أسأنا إلى حد ما فهم ميكانيكيات (آليات) دور الأدب في عملية التغيير ~~هذه، بل وما زلنا نفعل ذلك أحيانا. لا شك أن حيوية الحياة تكمن في ~~التغير والتحرك، وأن الجمود هو الموت. تقول وبحق: إن الكلمة ينبغي أن ~~تكون فعلا مؤثرا لتغيير الواقع الداخلي والخارجي، ليست المشكلة في ~~هذه الحقيقة. المسألة هي كيفية تحول ms75 الكلمة، والكلمة الأدبية في ~~خصوصيتها تحديدا، إلى فعل. نحن لم ندرك الجدلية بين الداخل والخارج ~~بشكل كاف. عممنا الواقع الخارجي، وأهملنا الواقع الداخلي إلى حد ~~بعيد. واستعرنا تقييماتنا للخاصية الفنية الجمالية، وتلك هي المعضلة ~~الحقيقية، من مدى تطابق النص أو اللوحة، أو العرض المسرحي مع الخارجي ~~ذاك. وكان فهمنا لبريشت ينطوي في هذا الإطار. لم نفهم البعد الفلسفي ~~لما كان يتطلع إليه من خلال محاولة كشف الآليات التي تحرك بنية هذا ~~الخارج؛ من خلال بنية الذات نفسها لدفع هذه الآليات إلى حيز وعي الفرد. ~~والحس بالمناسبة جزء لا يستهان به من تكوين الوعي؛ لأنه من محركات ~~السلوك. # أنا لا أرى أن الشعر انفصل عن جمهوره بفضل قصيدة النثر وشعرائها، بل ~~أعتقد أنه لاتساع المساحة التي اغتصبتها قصيدة النثر لنفسها مسببات ~~موضوعية علينا بحثها؛ لفهم هذه القصيدة دون إجحاف أو تعميم. الانفجار ~~الهائل الذي طرأ على دور وسائل الإعلام في الاستيلاء على الحيز ~~الأكبر من عملية تكوين الوعي، وخاصة على مساربه اللاواعية والحسية ~~هو أحد هذه الأسباب. وقد جعل هذا الأمر الشاعر يدرك أن دور قصيدته في ~~عملية التنوير السياسي والاجتماعي الذي يمكن أن يحولها إلى فعل ~~حقيقي انحسر إلى حدوده الدنيا. ولا شك أن اكتشاف الوهم في إمكانية ~~تحقيق الحلم القومي بفركة خاتم، والرغبة في الموازنة بين تطلعات ~~الفرد، وتطلعات الأمة، وإعطاء تطلعات الفرد ما تستحق من اهتمام، لعب ~~دورا كبيرا في عملية ما نسميه انحسارا، ولكن هل هو حقا انحسار؟ ~~أم أنه ليس سوى تغير في عمليتي الإبداع والتلقي، وبالتالي في آليات ~~التأثير؟ هذا تساؤل لا بد من التفكير فيه. أنا أرى على كل حال أن ~~هذا التغير جعل القصيدة العربية تتخلص من سطوة الخارجي المطلقة، ومن ~~استعارة المعايير الجمالية باعتبارها حكما قيمة من هذا الخارجي، ~~وتخصيصا من السياسي والاجتماعي وحدهما، وهذا بحد ذاته إنجاز. في هذا ~~الإطار يمكن في اعتقادي أن تندرج قصيدة النثر. ما يمكن أن نضع حوله، ~~ربما، علامة استفهام هنا هو عدم الالتفات في أحيان ms76 كثيرة إلى المعرفي؛ ~~باعتباره عنصرا من عناصر الجمال بما فيه الكفاية. ثمة خشية من الإشارة ~~إلى المعرفي؛ لأنه حدث فيما مضى خلط بين المعرفي من جهة، والسياسي أو ~~الاجتماعي في إطاره الظرفي المباشر من جهة أخرى. لعل هذا هو الذي قد ~~يولد أحيانا الانطباع بالعبثية والزخرفية. ولكن ما حققته قصيدة ~~النثر في تراكماتها، وفي تجلياتها المبدعة هو مع كل ما يمكن أن يقال ~~فيها قفزة نوعية نحو العصر. ~~- هل يمكنكم أن تحدثونا عن بعض الشعراء الذين تأثرتم بهم على ~~المستوى الشعري والإنساني، مثل معلمكم وصديقكم جورج ماورر الذي وضعتم ~~كتابا عنه، وبعض أصدقائكم المقربين، مثل الشاعر فولكر براون، والشاعرة ~~سارة كيرش، والشاعر المسرحي هينر موللر، والروائي فيرنر هايدوتشيك، ~~وتوماس بومه، وغيرهم؟ ~~- جورج ماورر كان يعتبر من أهم الشعراء والمنظرين للشعر في ألمانيا ~~الشرقية، وكان أستاذا لمادة الشعر في معهد الأدب الذي درست فيه. كما ~~كان يعتبر من جهة أخرى أبا روحيا لكثيرين من الشعراء الشبان ~~آنذاك؛ أمثال فولكر براون، وسارة، وراينر كيرش، وهاينس تشيخوفسكي، ~~وغيرهم. وكان هؤلاء يختلفون معه في تطلعاتهم ومواقفهم الجمالية، وحين ~~كان أحدنا يعطيه مثلا قصيدة حب لبحثها في الدرس، كان يأتينا في ~~الأسبوع التالي حاملا معه أمثلة من قصائد الحب كما كتبها المصريون ~~القدماء والإغريق والصينيون؛ ليصل بنا بعدئذ إلى الشعر المعاصر، لا ~~ليقارن بين ما كتب وبين قصائدنا، بل ليقول لنا بدءا: إن لكل شاعر ~~نبرة صوت خاصة به، ولكل مرحلة توجهات مشتركة وتباينات، وأن علينا أن ~~نبحث عن نبرتنا الخاصة، عن تفردنا، ولكن دون أن ننسى أننا نعيش في ~~عصر له سماته. كان يبحث عن التفرد في إطار الوحدة الكلية؛ فقد كان ~~يرى العالم بمجمله في كل عشبة. ولم يكن يريد أن يجعل من كل منا جورج ~~ماورر صغيرا. كان يحاول اكتشاف مواطن الضعف ومواطن القوة في النص نفسه ~~ليشير إليها، حتى لقد كتبت سارة كيرش بعد وفاته: إننا أصبحنا نخشى أن ~~نعطيه حين مرض قصيدة من قصائدنا؛ لأننا كنا ندرك أنه سيقضي أياما ms77 ~~طويلة في البحث والتنقيب، قبل أن يحدثنا بشأنها. وقد جمعتني به بعد ~~تخرجي صداقة دامت حتى وفاته. أما فولكر براون الذي حاز هذه السنة على ~~جائزة بوشنر، وهي أهم جائزة أدبية ألمانية، والذي تم تكريمه ~~بالمناسبة بناء على اقتراح مني في مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة، ~~فتعود صداقتي معه إلى مطالع الستينيات، حين كان يدرس الفلسفة في ~~ليبزيج. وقد كان من أهم المساهمين في الموجة الشعرية في الستينيات، وهو ~~يعتبر إلى جانب هاينر موللر من أهم المسرحيين في شرق ~~ألمانيا. # لقاءاتي بهاينر موللر كانت في الحقيقة عابرة. زارني في ليبزيج ~~وزرته في برلين، وكنا نتعانق حين نلتقي، لكن معرفتي به لم ترق إلى ~~مستوى الصداقة، لا أريد الاسترسال، فلو فعلت لما انتهينا. أنا لم أعش ~~على كل حال، كما تعرف، طيلة أربعين سنة من وجودي في مدينة ليبزيج، على ~~هامش المشهد الثقافي. أول أمسية شعرية أقيمت لي كانت في المعهد العالي ~~للفنون المسرحية بعد وصولي إلى المدينة بأشهر. درست في معهد الأدب، ~~ساهمت في معظم أمسيات الموجة الشعرية الشهيرة. حضرت جل المؤتمرات ~~الأدبية، وإلى ما هنالك. ولا شك أنني تعرفت خلال ذلك بالضرورة على عدد ~~كبير من الكتاب، كما ربطتني بكثير منهم صداقات ما زال بعضها قائما ~~منذ سنوات طويلة. والتقيت بكتاب عالميين كثيرين، مثل ناظم حكمت، ~~وبابلو نيرودا، وياشار كمال، وعزيز نيسين، وأستورياس، الذي أجريت معه ~~بالمناسبة في منتصف الستينيات حوارا نشر في مجلة عربية. ورغم أن هذه ~~اللقاءات كانت عابرة، إلا أنها تترك بلا شك أثرها البالغ على شاب ~~قادم من حي شعبي في الشرق. لم يستطع أن ينفض غبار أزقته عن ~~أهدابه. ~~- أعرف عنكم الثقة الوطيدة بقيمة الإبداع العربي قديمه وحديثه، ~~ماضيه وحاضره. وقد أكدتم أكثر من مرة، في حوارات أجريت معكم، إيمانكم ~~الراسخ بمستقبل زاهر للأدب العربي، وإمكان استقباله، والترحيب بعطائه ~~على المستوى العالمي، على الرغم من كل العقبات التي توضع في طريقه، ~~والأحقاد التي تؤلب عليه وعلى الحضارة التي نما وازدهر في ظلها من ~~قبل ms78 الجهات الإعلامية المعروفة بتحيزها وعدائها لنا، هل يمكن أن ~~تحدثونا في هذا الموضوع بشيء من التفصيل، وعن مواقف تلك الجهات ~~الإعلامية منكم؟ ~~- حين تبتعد عن الشيء تراه في كليته. وأنا بحكم وجودي بعيدا عن ~~جزئيات المشهد الثقافي العربي، بكل ما فيه من تطلعات ورغبات ومهاترات ~~أنظر إلى المنتوج بتراكماته. وحين أستعرض ما تراكم من إبداعات خلال ~~العقود الأخيرة من حياتي الواعية، أرى أن العرب قدموا على كل الأصعدة ~~الإبداعية منجزات يمكن أن تصمد بالفعل لكل منافسة مع الآخر، كما أكرر ~~دائما، وليس في مقدور المرء تجنب التكرار في حوارات كهذه. هذه قناعة ~~مبنية ليس على رغبة ذاتية أو إيمان طوباوي، بل على أسس حقيقية راسخة. ~~كل ما هنالك أن ثقافتنا كانت محاصرة حصارا جائرا، وكان من الصعب ~~اختراقه لفترة طويلة. ألاحظ أن هذا الحصار بدأ يتهاوى في السنوات ~~الأخيرة. ازداد الاهتمام بترجمة هذا الأدب إلى الألمانية في الآونة ~~الأخيرة بشكل ملحوظ، خاصة بالنسبة للأعمال الروائية. ورغم كل ما ~~يمكن أن نبديه من ملاحظات حول عملية اختيار الأعمال المترجمة، ونوعية ~~بعض الترجمات، إلا أن هذا الاهتمام بحد ذاته مبشر. لم يعد الحصار ~~في هذا الإطار محكما كما كان من قبل. أصبحت تحدث هنا وهناك اختراقات ~~هامة، رغم أن هذا الاختراق لا يحدث في الغالب إلا من قبل أفراد ~~مغامرين، أو من قبل دور نشر صغيرة، ورغم حدوثه أحيانا من منطق ~~الحصار نفسه. الأمر الذي لم يحدث فيه اختراق هو عملية تسويف وترويج ~~ما يترجم عن العربية والتعمية، والتحيز الواضح في وسائل ~~الإعلام. ~~- وأخيرا: هل يمكن أن توجهوا كلمة للأدباء والمبدعين العرب من جيل ~~الشباب، تضمنونها بعض ملاحظاتكم على الإنتاج الحاضر - وبالأخص على ~~قصيدة النثر التي تتابعونها باهتمام - من منظور شامل يؤهلكم له ~~كفاحكم الطويل لاستيعاب أدب الآخر، ونجاحكم في كتابة شعركم وبحوثكم ~~بلغته، وفي انتزاع الاعتراف بإنتاجكم من عديد من نقاده وشعرائه، ~~وهيئاته الثقافية التي منحتكم جوائزها المرموقة، ورشحتكم بجدارة لرئاسة ~~اتحاد الكتاب في ولاية ليبزيج، التي تعيشون فيها منذ ما ms79 يزيد على ~~الأربعين سنة؟ ~~- ليس لدي في الحقيقة ما أضيفه على ما سبق وذكرته؛ إلا التأكيد ~~على ثقتي ثانية بأننا مؤهلون بالفعل لأن ندخل معركة المنافسة مع ~~الآخر، دون أي خجل. وربما كان علينا ألا نجعل الآخر يطل برأسه كثيرا ~~على لحظتنا الإبداعية، وألا نسمح له بأن يملي علينا قصيدتنا، لكن كل ~~تأثر مع ذلك مشروع. وكل تجريب ضروري. ومن يمتلك التراث الذي تمتلكه ~~العربية لا بد له من أن يكون فخورا من ناحية، وحذرا من ناحية أخرى؛ ~~لأن سطوة هذا التراث العظيم قد تتحول أحيانا إلى قيد. وأرجو أن تسمح ~~لي هنا أن أعبر عن امتناني لك وسعادتي الحقيقية بهذا الحوار الذي ~~يجريه معي إنسان أجله، وأحترم ما قدمه للمكتبة العربية، خاصة ~~وأنه من الزملاء العرب القلائل الذين تمكنوا من الاطلاع على كتاباتي ~~الألمانية باللغة التي كتبت بها، وليس عن طريق الترجمة. وهو ما لم ~~يحدث إلا في حالات نادرة، فأنت تعرف أن ما يكتب بالألمانية لا يلقى ~~نفس الاهتمام الذي يلقاه ما يكتب بالفرنسية، أو بالإنجليزية. # الفصل السابع # | هكذا تكلم عبد الله # النص الكامل للديوان # وقال لي: # كل كاتب يقرأ كتابته، وكل قارئ يحب قراءته. # النفري، متصوف من القرن الخامس الهجري # ج # وقال لي: # انظر للآخر وتمعن فيه ببطء. # الجذر # هكذا تكلم عبد الله وقال لي: # لم تعد أنت أنت؛ # لأنك لو كنت أنت نفسك؛ # لما رضيت بما ترضى به. # وقال: # من يفقد الجذر يفقد الثمرة، # ومن يفقد الثمرة يفقد الجذر. # اعلم مع ذلك أن الجذر بغير الثمر عقيم، # والعقم كالحجر جاف. # وقال: # اغرس جذرا تؤسس وطنا؛ # لأن من لا وطن له في وطن ما # لا جذر له. # ومن لا جذر له، لا يحمل ثمرة. # أما من لا يحمل ثمرة؛ # فهو وحيد مهجور، # مثل الفرع اليابس. # لم تنبس شفتاي إلا بدمعة # فرت من العين. ~~••• # وقال لي: # مكان يحويك، # زمن يحملك، # قوس قزح مغزول في داخلك بقوس قزح. # هناك فحسب تكون حياة، # ويكون زمانك لا زمنيا، # ومكانك غير مكاني ms80. ~~••• # وقال: # القوارب نسيت الريح، # ونكست رءوس الأشرعة. # الشاطئ ما يزال ينتظر، # وينتظر. # الرقص على الحبل # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # الغربة عن يمينك، # وعن شمالك الغربة؛ # لأنك ترقص على حبل. # وقال: # السؤال يقف في طريق السؤال، # وكذلك الجواب في طريق الجواب؛ # لأنك ترقص على حبل. # وقال: # لا الشرق فيك شرق، # ولا الغرب غرب؛ # لأنك ترقص على حبل. # وقال: # أغمض عينيك، # وأسرع في جريك، ما وسعتك القدرة؛ # لأنك ترقص على حبل. ~~••• # وقال لي: # أقرب من قرب اليد للبدن، # ومن قرب الحدقة للعين. # أقرب من قرب الذكرى للذاكرة، # ومن قرب الطفل لصدر الأم، # يبقى البلد النائي # بالنسبة لك. ~~••• # لكني قلت: # الغربة ما هي عني بغريبة. # في الجذر تعشش «هذي» الغربة، # ودواما # يتوجه شوق للمطلق. # يدعوني # في ليلات الوحدة، # خلف تخوم جبال سبعة. # اخرج من هنا # هكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # قدموا لك كرسيا لتجلس عليه، # لكنك لم تجلس. # أعدوا لك المائدة لتأكل، # لكنك لم تمد يدك. # كأسا ناولوك، # لكن شفتيك لم تلمساه. # قال: # أسأت إلى واجب الضيافة، # وإلى حق المضيف. # غير أني قلت: # أولا تسمع # كيف يصرخون في صائحين: # الطعام على المائدة ينبغي عليك أن تتذوقه؟ # إذا فكل! # الخمر في الكأس يجب أن يلذ طعمها في فمك. # إذا فاشرب! # انهض وانصرف للعمل، # هنالك في الخارج. ~~••• # وقال لي: # دع الحبة التي يلقونها عند قدميك، # بيد لا تعرف الحب. # وحلق جائعا # مع الطيور الصغيرة. # وقال: # نحو الوطن الذي اضطهده # يتوجه الغريب على الدوام، # وهو يستشعر الغربة. # سندباد # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # انثر البلسم على الجرح القديم المر، # وارجع إلى بلدك، # قضيت يوما كاملا في رحلاتك، # وربما قضيت ألف عام. # فتحت كل صدفة # في بحار الغربة الغريبة، # عاما بعد عام بعد عام. # ارجع إلى بلدك # فتش عن الشمس الأليفة # المختبئة في العيون العطشى. # انشر لآلئك؛ # إذ ما جدوى الكلمة # المختنقة فوق شفاه مضمومة. # ما قيمة لؤلؤة بالنسبة للجيد الأبيض، # إن بقيت كامنة في الصدفة؟! ~~••• # وقال لي: # لا توجد ينابيع # كأنهار العسل ms81، # ولا سنابل تتدلى # كعناقيد العنب # في جنة الغربة. # الجنون # وهكذا تكلم عبد الله قائلا لي: # لو تركت عينيك للجنون؛ # لما رأيا إلا ما تودان رؤيته. # لو تركت يديك للجنون؛ # لقبضتا على الجمر، # وصفعتا الطاغية. # لو تركت شفتيك للجنون؛ # لحطمتا القفل الذي يغلقهما. # لو تركت قدميك للجنون؛ # لنبذتا الحبل # الذي ترقص عليه. # لو تركت ذاكرتك للجنون؛ # لأجاب السؤال على السؤال، # واقترنت النظرة بالرؤيا. # حكاية الشوق # وهكذا تكلم عبد الله قائلا لي: # انتسب لابتسامة أحفادك الطازجة. # اضرب بقدميك في أغوار صخور # جديدة على الدوام. # دمعة منسابة، # تلك الشامة الأبية على وجنتيك. # وقال لي: # وحدها ذاكرة السماوات الواسعة ، # ما زالت تنسج الزرقة الصافية الرائعة. # وفي الذاكرة وحدها ما زالت تتهامس # النوافذ العجوز، # في الحارات الضيقة المتعرجة # وتروي حكاياتها لبعضها البعض. ~~••• # وقال لي: # لا تدع الغربة تصطادك # في شبكتها. # انظر للآخر وتمعن فيه ببطء. # عندئذ لن تقوى لحظات الغربة # أن تنفذ في داخلك، # وتتخبط حائرة فيه. # رياح مسرعة # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # أعط الغريب كرسيا، # مد للغريب مائدة، # زود الغريب بطعام وشراب. # وقال: # أعر أذنك للغريب عندما يتكلم، # خذ في يديك يديه؛ # فهما ترتجفان من البرد. # وقال: # ربما اضطررت مثله أيضا ذات يوم # أن تضع قدميك # في حذاء الريح المسرعة. ~~••• # وقال: # بشوقها لمقدم الربيع، # تلتف الشجرة العارية، # بالريح الثلجية، # وتقاوم الموت. # المتردد # وهكذا تكلم عبد الله وقال لي: # الريح تلوي أنفك، # أكثر من شتاء يزحف عليك. # لقد طال بك التردد. # وقال: # ها أنت ذا الوحيد بلا شبكة ولا صيف، # بين فكي البحر ومخالب الصحراء. # العمق ما هو بعميق. # من يتجاسر يكسب الكنوز. # ومع بدء الرحلة تنفتح الصدفة، # وتكشف لك عن اللؤلؤة. # والضاحك هو الذي سبق له البكاء. # وقال: # هذه سفينة جديدة لمن لا يخافون؛ # ربما تكون آخر سفينة لك. # اركب قبل أن تخنقك الغربة، # ويجوفك الشك. # اركب، # اغزل شبكتك، # اطرحها، # أبد شجاعة الملاحين، # تجلد الريح وجوههم، # لكنهم ينشرون أشرعتهم # عاما بعد عام. # الشوق # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # معلق أنت على ms82 هذا الصليب، # لكن الصليب نفسه صار محببا إليك. # دمك جرى في شقوقه، # توحدت به كما توحد بك. # لن يمكنه أن يفلت منك، # ولن يسعك أن تفلت منه. # وقال لي: # المجدلية تضمخ قدميك بالعنبر، # المجدلية تنعشك بقطرة ماء منعش. # وقال لي: # اخنق الوهج في صدرك، # أسكت الشوق في ضلوعك. # أما أنا فقلت: آه! # المسافر # هكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # طويل هو السفر، وأنت وحيد في القطار. # لا شيء إلا الجبال في البعيد. # لا شيء إلا اليباب والأزقة الضيقة. # قال لي: # لا أحد يتبعك، # لا أحد يضطهدك، # لا أحد يوقف سيرك. # الناس يختفون، وهم يتراجعون للوراء ، # وجوههم لا تلمس الذاكرة، # نظراتهم عابرة، # أصواتهم غير مسموعة، # أما أنا، فقلت: # ليتني أستطيع أن أصل مرة أخرى إلى مكان، # أن أستريح مرة أخرى، # أن أعيش حيث تعلم الذاكرة علم اليقين! ~~••• # وقال لي: # أنت ترى الأفق يترامى أمامك، # ولا تقوى على الوقوف على قدميك، # يدك وحدها هي التي تمتد # من حين إلى حين، # بغير إرادتها. # س # وقال لي: # أنت هو ذلك الذي تبحث عنك فيه، # وهو ذلك الذي يبحث عنه فيك. # الآخر # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # لا يكون أحد خارجك، # إلا وهو كائن فيك. # وقال لي: # الآخر هو أنت وأنت هو. # الجسر الواصل بينكما هو وحده الحياة. # ماذا تساوي الحياة # لو تحطم الجسر؟ # وقال لي: # أنت تبتعد بنفسك عن نفسك، # عندما يبتعد الآخر عنك. # وقال لي: # لا تطلق الرصاصة # على صدر أخيك؛ # وإلا سقطت في قبره. ~~••• # أما أنا فقلت: # الآخر يقتلني # يوما بعد يوم. # لم لا يسقط # هو في قبري؟ ~~••• # وقال لي: # أنت الذي تبحث فيه عنك، # وهو الذي يبحث عنه فيك. # أنت تبقى أنت، # وهو يبقى هو، # بجناحين مضمومين كقبضتين، # يقرع النوافذ المغلقة # غراب البين. ~~••• # وقال لي: # صر كما كنت، # حين لم تكن، # إلا في الآخر # ذاتا. ~~••• # وقال لي: # كالراقص على الحبل، # يقف المهاجر # على حد السكين، # ظمآن # بين مطر # ومطر. ~~••• # وقال: # حتى فوق العشب الناضر # يتيبس # الفرع المبتور. ~~••• # وقال لي: # إن ms83 من تحتقره في صمت # يصرخ في وجهك # باحتقار. ~~••• # وقال لي: # لم يبق شيء يمكنه أن يوقف الرحيل # نحو شمس تضيء كل شيء. # الوهج المعتم للجوع # يخفر بميسم النار، فوق جبهة الجائع العالية، # وشم نفاد الصبر. # الضوء الساطع # وهكذا تكلم عبد الله قائلا لي: # في السنبلة أسكنتك الشمس ذات يوم، # فطلعت كحبة حنطة، # كجسر ممدود بالمودة. # وقال: # لكن في يوم من الأيام، # ناداك الضوء الساطع، # بصوت مرتفع، # فخلعت قميص الحنطة، # ولبست قميص الختم. # وتحت زحف حذائك العسكري، # تهدم الجسر # صار ترابا. ~~••• # وقال لي: # أشرق في سنبلة، # وستشرق فيك # الشمس. ~~••• # أما أنا فقلت: # كيف لي أن أشرق في سنبلة # دفنتها بنفسي # في صدري؟ ~~••• # وقال لي: # لا، # ليست الشمس. # إن الصورة الأولى لكل عالم # واكتمال، # كل جمال مرئي # هو أنت. # الإنسان الفراشة # 1 ~~⋆ # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # لا تدق بقبضتك على جدران مقدسة. # لا تصرخ! # أنت الدودة داخل شرنقة. # وقال لي: # فراشة تريد أن تكون، # والفراشات تحب النور. # وفي النور يتربص الموت؛ # لكنك هنا في أمان، # ما دمت مستقرا في شرنقتك. ~~••• # لكني قلت: # في الشرنقة ظلام، # ومظلم هو الموت. # دعني أرفرف في الحياة، # ولو مرة واحدة، # نحو النور الساطع، # والزهر الندي. ~~••• # وقال لي: # أو لم تبق فينا نخلة؟ # أو لم تبق عاصفة تهزنا # بالشفقة أو بالحب، # بحيث تسقط بلحة # حلوة الطعم؟ # كرم الأرض # 2 # وهكذا تكلم عبد الله قائلا لي: # كالثور في الحلبة، # هذه البشرية # التي تتقدم دائما # نحو الموت. # وقال: # المدن المقدسة تتدنس بالعمى، # بخناجر بشعة. # يلاحق البشر على الدوام # حبال أوردتهم، # وسوف يصرخ الجرح في ذهول # ذات يوم أعمى. # وقال لي: # ثم تزحف البرودة الثلجية على العالم، # ولن تبقى شجرة، # لا رفة جناح ولا صيحة فرح أو ألم. # وقال: # لكن الكرم قد تم حرثه، # أزيلت منه الحجارة وبني فيه برج، # وحفرت معصرة. # لم إذن هذه الأعناب الفاسدة؟ # ومن ذا الذي لا يزال يجدل تاج الشوك؟ # أما أنا فقلت: # أنا عطشان، # آه يا شجرة الزيتون! # خذيني تحت ظلك الرطب. # ر # وقال لي ms84: # لكنك لا تعرف الشيء؛ # لأنه لديك مجرد اسم. # المخالب # وهكذا تكلم عبد الله قائلا لي: # أنت عطشان وينابيعك جافة؛ # لأن عالمك مر كالعلقم، # وصوتك واهن كالتنهيدة. # وقال: # لا ينبثق النبع من الصخر. # رملا يبقي الأفق المترامي وقيظا. # وفي القيظ يكمن العطش، # وفي العطش يكمن السراب، # وفي السراب يكمن الموت. # وقال: # لتنزع من عالمك السراب. # تحتاج مخالب؛ # لتشق الصخر، # تحتاج مخالب. # ولتروي في الرمل البذر بماء النبع، # تحتاج مخالب. # لكنك لا تملك من المخالب إلا صوتك، # وصوتك واهن كالتنهيدة، # وكالعلقم مر عالمك. ~~••• # وقال: # كأمواج البحر، # ومن لا نهاية إلى لا نهاية، ~~(تتردد) صيحات العشاق بالنشوة، # حين تتمايل الجدران الشاحبة، # في غبش الضوء # على الإيقاع وترتج. # السؤال # هكذا تكلم عبد الله قائلا لي: # العالم يضيق على مقاس نظرتك، # لكنه لا يضيق إلا في عينيك. # وقال: # إذا انغلقت على نفسك دون العالم؛ # فلن تجد أي مفتاح # لأي قفل. # غير أن من يفقد السؤال # يفقد الجواب. # ومن يفقد الجواب # يفقد نفسه، # وتنسى عيناه السير، # وتلتحم شفتاه # بالعدم. ~~••• # لكنني قلت: # أريد أن أجد الراحة # في جلدي النحيل، # وأجد مخدة بالليل في سريري. # بيد أن كل إجابة تحاول # أن تداعب شعري بيد ناعمة # تبادرني على الفور بسؤال. ~~••• # وقال لي: # لا تسلم كلمتك للكذب، # ولا تعتبر كل ما تفكر فيه، # وكل ما تقوله # عبثا وهراء. ~~••• # وقال لي: # اليد التي تضربك على الخد الأيمن # لا تعطها الخد الأيسر. # كما نسيت المطر الذي سقط # في الخريف الماضي، # انس التي تستحق النسيان. ~~••• # وقال لي: # العشب تنامى # فوق قبور مهجورة، # على مدى حاضر بأكمله. # الأفعى تخلع جلدها # وتوهمك بالهروب، # محتمية بتضخم الذكرى. # العناق # 3 # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # تحت قباء القهر، # يمكن في بعض الأحيان لتنهيدة # أن تمحو القهر دون عنف. # لكن من حملوا للشارع التنهيدة، # سرعان ما يرقدون كالحصى، # فوق الشوارع المسفلتة حديثا. # وقال لي: # من محطات الأحلام المفروضة بقرار، # ينطلق القطار نصف فارغ # إلى المستقبل الوردي. # الأذرع الممدودة للعناق تسد كل أفق. # قضمة واحدة في التفاحة الحلوة # تطرد ms85 الفردوس. # حتى الخطوة نفسها تتقهقر في الخطوة. ~~••• # وقال: # حتى الطغاة # بعد أن يطهرهم التاريخ، # ويغسلهم غسلا # يصنعون تراثا # من حين إلى حين. ~~••• # وقال لي: # خطواتك تسبقك بسرعتها، # نفاد الصبر يطاردك # من لحظة إلى لحظة. # الفخ ينتظر # بصبر شديد. ~~••• # وقال لي: # الأحجار (البشرية) الصلعاء، # العاشقة لروعتها # تتعامل مع أحلامك الخضراء، # كما تتعامل كل الأحجار العارية # مع الأحلام الخضراء. # الإنسان الجديد # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # في وجدانك تنمو لك أسنان. # الحيوان الوحشي يمسكك من كتفيك، # ويهزك؛ # ليوقظك من نوم عميق. # لكنك بعيد عن الأسرار # التي يثقلونك بها، # مستغرق في إيقاع رقصك، # الذي يهبط بك إلى الجحيم. # أنت لا تشدو بالأغاني # التي يضعونها في فمك. # أنت نفسك الحيوان الوحشي # الذي يمسكك من كتفيك، # ويهزك ويهزك ويهزك. # الإشاعة # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # غير مرئية كالهواء، # تنساب الإشاعة في كل المسام. # وكالظلمة العصية على الفهم، # تلف قبل طلوع الفجر # كل الأضواء بحجاب مخيف. # النظرات العابرة # تخترق الجرح كرصاصات الكلمات. # وقال لي: # ابتر ذراعك بنفسك؛ # فالوشم الأسود للإشاعة # لا تمحوه دمعة. ~~••• # وقال لي: # الحجر قاس. # الفولاذ صلب. # القطرة الهاربة من الصنبور # حكيمة. # 4 # الأشياء وأسماؤها # وهكذا تكلم عبد الله فقال لي: # لكل شيء اسم، ولكل اسم شيء، # لكنك لا تعرف الشيء؛ # لأنه لديك مجرد اسم. # وقال: # ليس الشيء هو اسمه، # وليس الاسم هو الشيء؛ # فأنت إذ تسمي الشيء باسم # يتغير الشيء، # ويثبت الاسم. # وقال لي: # سم الاسم بالشيء، # لا الشيء بالاسم؛ # إذ لو قلت ما قاله الآخرون من قبلك، # لما قلت غير القشرة. # 5 # وإن قلت القشرة # قلت الخدعة، # وإن قلت الخدعة # قتلت الشيء باسمها. ~~••• # لكنني قلت: # الماضي يحمل الأبدية # إلى لحظتي. # وبغير الأبدية # تكون اللحظة # شاطئا بلا بحر. ~~••• # وقال لي، # وهو يغادر المحطة الأخيرة: # للصمت # يحتضن الغريب نفسه # ومسبحة صلواته. # كلمة شحيحة # بجوار كلمة شحيحة، # 6 ~~••• # وقال لي: # تنفس بكل مسامك # هذه اللحظة بالذات. # لا تمسك بالهواء # أزفره للتو، # وعد بعالم # في الطيش المقدس # لكلماتك. # 7 # ح # وقال: # الموت # كالحب، # كمال. # الشمس والثلج # وهكذا تكلم ms86 عبد الله، وقال لي: # المطر يذوب في النهر، # وفي العصارة المثمرة للشجرة. # كن نهرا أو شجرة. # وقال لي: # لن يعود المطر مطرا، # ولن تصبح العصارة ثمرة # بغير شمس أو وهج. # لكني قلت: # من أين الشمس؟ # ومن أين الوهج، # وما زال الثلج يحاصرني؟ ~~••• # وقال لي: # استحم في النبع الأقدم لوهجها. # اجمع الأصداف من الشواطئ اللانهائية. # انشر اللآلئ في القرار الأعمق للبحر. # ادخل أنت وصرخة لذاتك الخرساء، # شاهقا نفسا بعد نفس، # 8 # في الماوراء الأرضي. # 9 ~~••• # وقال لي: # في الغابة الأزلية # تجتث أشجار الحياة، # شجرة بعد شجرة. # وعشبة بعد عشبة، # تنمو الطحالب البرية # وتنمو. ~~••• # أما أنا فقلت: # اصمدي يا أمنا الأرض، # يا امرأة من أنفاسي، # يا جزيرة # لقوارب متوحدة # في الكون. # قسمة # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # دع العالم يسقط، # إن شاءت له البشرية أن يسقط. # وقال لي: # حين تستنفد الحياة نفسها؛ # لن تكون على قيد الحياة. # ولن يتسنى لك أن تعلم # أنه لم تعد ثمة حياة. # لكن في الكون تسبح الكواكب، # والكائنات الجوهرية لا تسأل. # وقال لي: # عندما يكون للحياة أن تحيا؛ # فلن يمنعها شيء من الحياة. ~~••• # وقال لي: # لا تتدخل # في مجرى الحياة، # اكتف بتجربة # ما تقدمه لك الحياة؛ # لتجربه. ~~••• # وقال لي: # ليس بوسعك أن تحرك شيئا؛ # أنت تحرك. # إن نهر الحياة الوحشي يسيل، # وأنت تسبح، # مثل قطعة خشب # فوق ظهره المحني. ~~••• # لكني قلت: # ترى على أي شاطئ # سيقذف النهر الوحشي # ذلك البدن؟ # وأي عفن # سيحلل الروح ببطء؟! ~~••• # وقال لي: # نظام الطبيعة # هو التوازن، # هو بقاء الشجرة والبلبل. # وإلا لما بقي # سوى العدم. ~~••• # وقال لي: # القرود التي لم تعد تجد # جوزة واحدة. # أضحت تنتظر اليوم # أن تغدو من جديد بشرا. # 10 ~~••• # وقال لي: # صرختك الأولى # تشد القوس، # ترسل إلى صدرك # سهم الموت المؤكد. # لكن مسافة البعد # بين الصرخة # والصمت # اسمها الحياة. ~~••• # وقال لي: # تقبل ما يأتيك، # لا تنتظره. # رحب بالموت، # وعش. ~~••• # وقال لي: # بين الأزل الأقدم، # والأبد اللامتناهي: # أنت الجسر؛ # فلا تنأ بنفسك، # لا تنأ عن الطرفين. ~~••• # لكني قلت: # القبر هو المحطة ms87 الأخيرة # للحيرة، # لكن الكمال بلا لغة، # والموت لا يعرف # غير كلمات قليلة. # الموت # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # طوبى لمن لا يقترب منه الموت! # لكن على الأمل في الحياة، # يضمك جدار الموت حريصا عليك. # وقال: # الموتى وحدهم يعلمونك # ألا تكون ميتا في الحياة. # في الموت وحده تكون بكليتك؛ # لأن الموت، كالحب، كمال. # ولحظة الموت، كالجماع. # ليست إلا الكمال، # ليست إلا شهقة متصلة. ~~••• # لكني قلت: # من أعماق لا تسبر # تطلع جنية، # شعاعا # بعد شعاع. # وتضيق عيوني عاجزة # عن أن تتملاها. # دوي النور لهذا الفجر # على (شط) البحر. # الألم # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # خناجر تشق وجدانك؛ # لأنك تشتاق إلى الشوق، # حين يغيب الشوق. # وقال: # الألم يعضك، # والأرق، # حتى ينام فيك الشوق. # لكني قلت: # لو نام الشوق بقلبي؛ # لخشيت # أن يطعنني الخنجر أثناء النوم، # فلا أشعر # بالألم. # مساء ومرح # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # صاحب الأسماك # بعيونها المستديرة. # اسأل الماء: لماذا يسيل؟ # اسأل الموجة: إلى أين تسير؟ # اسأل الزيتونة: لماذا تسمى زيتونة؟ # اسأل البلد البعيد: # لماذا يبقى قريبا كل القرب؟ # وقال: # غن مع البلبل # للأشجار المستغرقة في التفكير. # كن للمطر سحابة صيف. # وبرفق، # أطرق بالأحلام الخضراء # نوافذ هذا العالم. # ب # والجسر يمتد # من خط طول، # إلى خط طول. # قطار الضباب # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # خنجر الجوع يطاردك # من غرفة تعذيب إلى غرفة تعذيب، # حتى تستقر في الغربة # على أرصفة حزينة. # وقال: # كأن يديك شبحا يدين، # كأن عينيك حصاتان # في خرابة الوجه. # وكأن جسدك تحويلة # لقطار التاريخ الضبابي، # الذي تسوقه الغربة # من شوق # إلى شوق. # تغير الأثر # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # لا تحفر الغربة في جلدك، # تقبل وقاوم. # عنون الفرح بالألم، # والألم بالفرح؛ # لأن الحجر وحده هو الذي يحفظ الأثر الأبدي ~~للمطرقة. # أما الماء فيصقل برشاقة كل الشقوق. # وقال لي: # لا تكن حجرا ولا ماء. # انظر هناك لزهرة عباد الشمس؛ # كيف ترتفع مزدهرة # متحدية الهواء الخانق، # غريبة عن الحقل في زهرية غريبة؟! # وقال لي: # اكسر شرنقتك ms88 العمياء، # ابحث في وهج الشمس عن ظلال # رطيبة، # وبالثلج أدفئ نظرتك. # وصول # اطرق بابها # بلا خوف، # ادخل وأفرغ حقيبتك، # دق المسمار في الحائط، # استيقظ في عينيها، # ثم نم فيهما (مساء). # جفت شفتاك من التجوال، # كرمل الصحراء، # وندى أخضر شفتاها. ~~••• # وقال لي: # أنت وحدك هو بيتك. # أدخل الضيوف، # واقتسم حلمك معهم. ~~••• # وقال لي: # قل لها، # لمن تحبها: # إنها جميلة، # وستصبح جميلة، # بقدر حبك لها. # البدن # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # في (حضن) العالم مكنون # لا متناه هذا البدن، # ومترام كالبحر، # كالزغرودة، # كالأفق، # كوطن تلجأ له # أطراف أصابع منفية. # وإذا يتمدد # فوق فراش ضيق، # يبدو أشبه بالحدقة، # في عين ضيقة (النن). # المطاردة # وهكذا تكلم عبد الله قائلا لي: # لا تطارد الزمن. # هذا الحيوان الخرافي الأعمى، # لا تهرب منه؛ # وإلا طاردك بلا رحمة. # تنشق بكل حواسك # روائح العالم، # وكأن كل لحظة # بلا زمن. ~~••• # وقال لي: # خذ الوردة في يدك، # قبلها قبلة عاشق، # وكعاشقة لدى القبلة الأولى، # سيحمر وجهها، # تحت الندى، # الوردة. ~~••• # وقال لي: # الوحيد الذي لا يهجرك أبدا # هو أنت وحدك، # لكن لو هجرك العالم؛ # فلن تصل إلى أي أنا. ~~••• # وقال لي: # كن مرة أنا، # وكن مرة أنت؛ # لأنك لو اقتصرت على أن تكون أنا؛ # لأصبحت أنا وحيدا مع نفسي. # ولو اكتفيت بأن تبقى أنت وحسب؛ # صرت حبة رمل في الريح. # استشعار الطقس # وهكذا تكلم عبد الله قائلا لي: # في صبح يوم مبكر، # وفجأة، # عندما تتلبد السحب، # وتحضن الحرارة المطر، # قبل أن (يومض) البرق، ~~(ويدوي) الرعد، # سيتوقف القلب المتعب. # عندئذ يسقط المطر، # عندئذ تصبح السماء زرقاء، # عندئذ تتغنى الطيور، # ثم ترتفع الشمس # متجددة الفرح. ~~••• # وقال لي: # عندما ترحل ذات يوم، # ستأخذ وجهها معك، # بين جفونك، # ولكن أعضاءكما الواهنة ما زالت # تتساند، # كالمحبين. # وتشيخان ما زلتما معا كالمحبين. # وما زال الصباح يتدفق من عينيك، # وينساب في الصباح، # شعاعا غائما بعد شعاع # في عينيها. ~~••• # وقال: # في ضباب # الحب اللانهائي، # لا تصل نظرتك الكدرة # إلى روحها. ~~••• # لكني قلت: # أغمض عيني، # وفمها مضموم # على شفتي. # بين ms89 الجفون # تستكن # كلمات # عينيها. # الجسر # وهكذا تكلم عبد الله، وقال لي: # على النعناعة يتحرك، # فوق الصخرة يتحرك، # تحت الجسر يتحرك، # نور الحب المتألق. # وقال: # النعناعة تزهر في النعناعة، # الصخرة تستقر في الصخرة، # الجسر يمتد في الجسر، # وفي الطفولة يتجذر الجذر. # لكني قلت: # النور يلقيني في النعناعة؛ # النعناعة تجعلني أزهر في الصخر. # الصخر يجذرني في الجسر، # والجسر يمتد # من خط طول، # إلى خط طول. # الفصل الثامن # | قصائد مختارة # حتى الشوق الأخير # أنتمي للجذر. # هذا الجذر أين؟ # أنتمي لل «بين بين» # لاهثا ما بين جرحين إلى آخر شوق. # أدفع الصخرة نحو القمتين. # يشتهيني الماء حينا، # تشتهيني النار حينا، # وأنا محترق بالماء، # ظمآن إلى النيران # بين الخطوتين. # القدم المبتورة # يعبرني هذا الشرخ كسهم، # من شوق الجرح لجرح الشوق. # لا ينصفني حتى دم قلبي، # ينساب كنهر دون شواطئ، # في غيبوبة هذا العشق. # لا يخصب مرج قبول في صحراء الغربة # إلا ويحاصره طوفان الرفض. # هل وطن هذا الجسد البض؟ # هل قيد وجه دمشق؟ # أتوتد في هذا الشرخ كمصلوب # من جرح الشوق لشوق الجرح، # تحت القدم المبتورة؟ # لا أرض، # لا أرض! ~~(عن ديوان الخروج من الذات ~~الأحادية، دمشق، منشورات اتحاد ~~الكتاب العرب، 1980م، ص5-6) # النورس # أقول أحبك، أنسى الترنح ما بين قطبين، أنسى بأني # وأني وأني، وأنسى الخريف الذي لفني بالتيبس. # أعرف أن الزمان يجف رويدا رويدا، بقلبي مثل سواقي ~~الطفولة، # مثل الوريد تخثر فيه التطلع نحو التطلع. # ألمح وجهي طفلا عفيفا، وألمح وجهك جنية جئتني من وراء ~~البحار، # ومن خلف كل التلال، # كأنك من حارتي جئت، من لهفتي جئت أما وأختا وابنة ~~عم، # وجئت كلون المرح، # أحبك قلت، وأطبقت كل شفاه الكلام. # وأطبقت قلبي وقلت أنام # قليلا؛ # لعلي أحط الرحال أخيرا وأنت إلى جانبي في المنام، # ولكنني # أتشوق للشوق تلك المسافة بيني وبينك جرح، # وشرخ وصوت # اصطدام. # وتلك الشرارة بيني وبينك عمر ودوحة ذكرى ونبع فرح. # أقول: أحبك، أخشى عليك من الحب، أخشى على الروح أن ~~تستجيب # لصرخة طفل عفيف وراء البحار. # أقول: أحبك همسا ms90 لذاتي، # وألمح سوسنة سيخ نار بصدري، # وألمح شرخا حميما أضمده بالقصائد، # أجلد نفسي؛ لأني أحبك، # أقلع جذري، وأمشي وراءك، # مثل النوارس أمشي وأمشي بدون قوارب، دون بحار ودون ~~انتظار. # حوار مع الموت المعلن # يتقدم مني الموت، # أراه، # أقول له لا تتعجل، # ما زال لدي أمور لم أنجزها. # فيقول سينجزها غيرك يوما، لست وحيدا فوق الأرض. # أقول لدي نصوص لم أكتبها، فيقول: سيكتبها غيرك بعد # رحيلك في الفجر. # أقول أنا: لا يعرفني أحد غيري، فيقول: تعفف، # لا يوجد نص أصل، لا يوجد قول فصل، # فأقول: ولكني البحر؛ لأني القطرة في الموجة، لا موجة ~~دوني، # لا بحر. # فيقول بخبث ملحوظ: نصفك إبليس والنصف ملاك، # فبأي النصفين الآن تراك؟ # فأقول: # ولا أعرف ما قلت. # في الحقيبة # حملت معي # على نعل الحذاء # أزقة الطفولة الضيقة، # المتمسكة # بجدائل الجبل الهرم. # وفوق العينين # عود النعناع الطري، # على حافة الساقية # تحت شجرة الزيتون. # وفي الشعر # النسمات الحنون للأمسيات الدمشقية. # حملت معي # على الذراع العاري # آثار وخزات قوافل الشمس # المحملة بشوق أجدادي. # للفيء المنعش # في واحات يسودها السلام. # وفي الروح # حملت طهارة الأنبياء، ~~«كما ذكرتها الكتب»، # ووحشية الجبال الجرداء، # وحملت معي # على الشفتين. # من أمي الكآبة، # ومن أبي الظمأ # نحو الينبوع الناري # للنساء جميعهن. ~~(لو لم تكن دمشق، ميونيخ، 1992م، ص7) # العمامة القديمة # 1 # ضعوا عن رأسي # هذه العمامة القديمة، # حطموا الأغلال في حكاياتكم # عن ألف ليلة وليلة. # مزقوا صورتي هذه # من مجلاتكم المصورة وكتب أطفالكم؛ # فأنا لست «الحاج خالف بن عمر»، # ولا البدوي المتنقل على جمل، # ولا شيخ النفط ذا الأسنان المستعارة. # 2 # كنت مقيدا إلى الجمل # لأربعمائة عام متصلة، # مسجونا في الصحاري # لأربعمائة عام. # مسدودة كانت جميع نوافذ الضوء، # في بيتي المنسوج من شعر الغنم، # طوال أربعمائة عام. # وعلى مدى أربعمائة عام # كان عرقي يتحول بقدرة ساحر إلى ذهب # يعرض في واجهات أولئك # الذين كان علي أن أطعمهم. # 3 # لكن لماذا لا تسمونني الكندي، # أو الرازي أو ابن رشد؟ # أولئك الذين حملوا إليكم ذات يوم # نور التقدم. # أو تسمونني ms91 على الأقل # عادل قرشولي؟ # لماذا لا تزالون تحلمون بالحريم # باسمي أنا؟ # لقد مزقت أختي من زمن طويل # عن وجهها حجاب أمي الأسود؛ # فلماذا لا تزالون ترفعونه عاليا كأنه رايتي، # وتلونون وجهي بألوانه؟ # 4 # كلا # لم يعد وطني هو الحمام التركي فحسب، # الذي استحم فيه الخلفاء والباشوات وإذا شئتم علي بابا # والأربعون حرامي. # طفل هو اليوم وطني في موكب العصر، # صحيح أنه ما يزال يقف بإحدى قدميه، # في القرون الوسطى. ~~(وأنا أعرف هذا أيضا) # لكنه يقف بقدم أخرى، # في فجر يوم جديد، # تتساقط عنه أسنانه اللبنية، # ويخرج # من نفق البؤس الذي يبدو بلا مخرج. # إنه يقف # على خشبة العالم المضاءة بنور ساطع. # 5 # ضعوا إذا عن رأسي # هذه العمامة القديمة، # فكوا أسري وتعالوا # انظروا إلي كما أنا هناك، # حيث يتدفق العرق الملحي من الجباه، # في الشمس الصاعدة عند السد. # لنفحمكم # حيث الشمعة لا تريد أن تضاء، # إلا في ليلة الحب، # حيث القطار الحديدي يمد لسان الدخان # للجمل، # وحيث العاصفة تحتضن؛ # لتكسر قيود القهر؛ # لتنفض الغبار المتراكم؛ # لتطفئ أفران التضخم الفكري. # وماذا عساي أن أبحث عنه، إن لم يكن هذا # تحت الظلال المنعشة في غابات النخيل # الشامخة؟ ~~(لو لم تكن دمشق، ص23-24) # زيتونة وسنديانة # زوجان متباينان # في ذاتي، # نمو حذر # نحو الآخر. # آه أيها الشوق! # لا تخنق البراعم في الضلوع # المتشابكة الأغصان، # زيتونة عجوز # سخية بهدايا الزيتون، # مستودع للشموس # مطار أخضر لحمامة نوح، # أظفارها عنيدة، # تتمسك بأرض ظمأى # مغروزة بالصبار. # آه أيها الشوق! # لا تخنق البراعم في الضلوع # المتشابكة الأغصان. # هيا إلى السنديانة # المبتلة برداء لا نهائي من مطر # أغصان متكاثفة بلا جذع. # سطح لحبنا # ومن ثقب الباب تتلصص الشمس # أحيانا. ~~(وطن في الغربة، هاله وليبزيج، 1984م، ص71) # موت غريب # مقتلع من جذوري، # متنام مع موت غريب # أنزع نفسي من نفسي، # ليلة # بعد ليلة. ~~••• # قبر مفتوح # جلدي الرقيق، # برودة النظرات الشريرة # تتسلل بلا عائق # داخلة خارجة. ~~••• # مستديرا للخلف، # أنطلق # في النهار القادم. # غربة # صماء هي زرقة سماء الحمام، # مسموم هو النبيذ، # واليد الممدودة من ms92 حجر. ~~••• # والبلد # البعيد والقريب # يعلمنا منذ كنا في رحم الأم # أن نحفظ عن ظهر قلب # كلمتي: # الابتعاد، # والغربة. # قفص # غرفة # بلا نوافذ، # من يسكنون فيها # ينظمون العالم # وفق منظورهم. # تعلم المشي # القدم تقف مرة أخرى # على الأرض. # القدم الأخرى تتبعها، # والقدمان تقفان متجاورتين. ~~••• # قدم تسبق الأخرى # تتساءل وتتساءل # خلال دغل كثيف # من الأسئلة. ~~(القصائد الأربع الأخيرة عن مجموعة ~~قصائد «موت غريب» من ديوانه «لو لم ~~تكن دمشق»، ميونيخ، الطبعة الثالثة، ~~1999م، ص73-83) # | قائمة بأهم مؤلفات الشاعر ومترجماته # (1) المؤلفات ~~(1-1) مجموعات شعرية ~~() بالعربية # موال الغربة، دمشق، 1967م. # الخروج من الذات الأحادية، دمشق، مطبعة ~~اتحاد الكتاب العرب، 1981م. ~~() بالألمانية # Wie Seide aus Damascus. ~~Berlin, Verlag Volk und Welt, ~~1968 ~~. # كحرير من دمشق، برلين، دار نشر الشعب ~~والعالم، 1968م. # Umarmung der Meridiane, ~~Halle-Leipzig, Mitteldeutscher Verlag, ~~1978-2., veränderte Auflage ~~1982 ~~. # عناق خطوط الطول، هاله وليبزيج، دار نشر ~~ميتلدويتش، 1978م، الطبعة الثانية ~~1982م. # Daheim in der Fremde. ~~Halle-Leipzig, Mitteldeutscher Verlag, ~~1984 ~~. # وطن في الغربة، هاله وليبزيج، دار نشر ~~ميتلدويتش، 1984م. # Wenn Damascus nicht Wäre, ~~Gedichte. München, 1992, AL ~~Verlag ~~. # لو لم تكن دمشق، قصائد، ميونيخ، 1992م، دار ~~نشر أكسيون آيس. # Also Sprach Abdulla. ~~München, AL Verlag, ~~1995 ~~. # هكذا تكلم عبد الله، ميونيخ، دار نشر أكسيون ~~آيس، 1995م. ~~(1-2) دراسات نقدية ~~() بالألمانية # Das Lehrstück “Die Ausnahme ~~und die Ragel” von Bertolt Brecht und ~~die arabische Brecht-Rezeption Eine ~~Auseinandersetzung mit einigen ~~Missverständn issen und ~~Fehlinterpretationen in der arabischen ~~Rezeption von Brechts Methode des ~~epischen Theaters. Dissertation, Leipzig ~~1970 ~~. # المسرحية التعليمية «الاستثناء والقاعدة» ~~لبرتولت بريشت والتلقي العربي لبريشت، مناقشة ~~لبعض أوجه سوء الفهم وسوء التفسير في التلقي ~~العربي لمنهج بريشت في المسرح الملحمي، أطروحة ~~جامعية، 1970م. # Brecht in arabischr Sicht. ~~Abhandlung. Brecht-Zentrum der DDD, ~~Berlin, 1982 ~~. # بريشت في المنظور العربي، دراسة، مركز ~~دراسات بريشت في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، ~~برلين، 1982م. # Mein langer Weg zu Brecht, ~~in: Leipziger Brecht-Begegnungen ~~1923-1994, Texte zur Literatur, Heft5, ~~Rosa-Luxemburg-Stiftung Sachsen 1998, S. ~~105-111 ~~. # طريقي الطويل إلى بريشت، في لقاءات بريشت ~~الليبزيجية (نسبة إلى مدينة ليبزيج) ~~1923-1994م، نصوص أدبية، الكراسة الخامسة، ~~مؤسسة روزا لوكسمبورج في سكسونيا، 1998م، ~~ص105-111. # Die Figur des Shylock in ~~heutiger Sicht, in: Shakespeare ~~Jahrbuch, hrsg. Von Anselm Schlösser und ~~Armin-Gerd Kuckhoff, Bd. 113, Hermann ~~Böhlaus Nachfolger, Weimar 1977, S. ~~64-71 ~~. # شخصية شيلوك من منظور معاصر، في كتاب شكسبير ~~السنوي، نشره أنسيلم شلوسر وأرمين جيردكوكهوف، ~~المجلد 113، خلفاء هيرمان بولاوس، فيمار، ~~1997م، ص64-71. # Über Georg Maurer, in: ~~Bleib ich, was ich bin. Teufelswort ~~Gotteswort. Zum Werk des Dichters Georg ~~Maurer, Gerhard Wolf Janus Press Gmbt, ~~Berlin, 1998 ~~. # عن جورج ماورر، في: هل أبقي ما أنا عليه؟ ~~كلمة الشيطان وكلمة الله، عن أعمال الشاعر ~~جورج ماورر، مطبعة جيرهارد، فولف يانوس، ~~1998م. # Adonis-Verwandlungen eines ~~Liebenden. Sechs Kleine Bemerkungen über ~~einen grossen Dichter, in: Das Arabische ~~Buch, 1992 ~~. # أدونيس، تحولات عاشق، ست ملاحظات صغيرة عن ~~شاعر كبير، نشرت في كتاب الشعراء العرب، ~~برلين، الكتاب العربي، 1992م. ~~() بالعربية # بريشت في المرآة العربية، دمشق، مجلة الحياة ~~المسرحية، 1980-1981م. # تطور بريشت نحو المسرح الجدلي، دمشق، ~~مجلة الحياة المسرحية، ع22-23 ، 1984م. # الأطروحات العصية ms93 في المشاريع المسرحية، ~~تونس، مجلة فضاءات مسرحية، ع5-6، ~~1986م. # تحولات خيال الظل، دمشق، مجلة الحياة ~~المسرحية، ع9، 1979م. # شخصية شيلوك في كوميديا تاجر البندقية، ~~دمشق، مجلة الحياة المسرحية، ع2، ~~1977م. # ملاحظات حول أوبرا ماهاجوني، تأليف برتولت ~~بريشت وترجمة ع. ق، دمشق، مجلة الحياة ~~المسرحية، ع17-18، 1981م. ~~(2) المترجمات ~~(2-1) إلى العربية # برتولت بريشت: أربع مسرحيات: ازدهار وانهيار ~~مدينة ماهاجوني، دانزن، قائل نعم وقائل لا، ما ثمن ~~الحديد، دمشق، وزارة الثقافة، 1989م. # ما هو خاص بنا، شعر لجورج ماورر، مع مدخل إلى ~~عالم ماورر الشعري، بيروت، دار الفارابي، ~~1981م. # غيفارا أو دولة الشمس، مسرحية لفولكر براون، ~~دمشق، وزارة الثقافة، 1991م. # بروميثيوس، قصيدة لغوته، دمشق، مجلة الآداب ~~الأجنبية، ع35-36، 1983م. # أنشودة الفرح، قصيدة لشيللر، دمشق، مجلة الموقف ~~الأدبي، ع157-158، 1984م. ~~(2-2) إلى الألمانية (مسرحيات ينتظر أن تظهر قريبا في ~~كتاب) # سعد الله ونوس: رأس المملوك جابر، 1973م. # ألفريد فرج: علي جناح التبريزي وتابعه قفة، ~~1976م. # حمدة خميس: على رصيف المقاومة، قصيدة درامية، ~~1979م. # يوسف العاني: المفتاح. # معين بسيسو: العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع، ~~1979م. # سميح القاسم: مؤسسة الجنون، 1979م. # عز الدين المدني: ديوان الزنج. # جلال خوري: الرفيق سمعان. # محمود دياب: أهل الكهف، 1974م. ~~(2-3) قصائد وقصص لم تنشر بعد في كتاب (عن الألمانية ~~وإليها) ~~(1) # قصص مترجمة إلى الألمانية: ~~(أ) # دومة ود حامد: للطيب صالح. ~~(ب) # الترام: لجمال الغيطاني. ~~(2) # قصائد عربية مترجمة إلى الألمانية: # من شعر: محمود درويش، وأدونيس، وعبد الوهاب البياتي، ~~وأمل دنقل، وعباس بيضون، وحسن عبد الله، وعبده وازن، ~~وبول شاوول، وسركون بولس، وعبد القادر الجنابي، وسعدي ~~يوسف، وأمجد ناصر، وعبد الله زريقة، ومهدي أخريف ~~وآخرين. ~~(3) # قصائد ألمانية مترجمة إلى العربية: # من شعر: جوته، شيللر، هلدرلين، فلهلهم بوش، بريشت، ~~جونتر آيش، إنجيورج باخمان، إيريش فريد، فولكر براون، ~~إنسينسبرجر، سارة كيرش، دورس جرونباين، وآخرين. ms94