######OpenITI# #META# URI: 1442NawalSacdawi.AdabUmmQillatAdab.Hindawi96024730 #META# Tags: novels #META# ID: 96024730 #META# Title: أدب أم قلة أدب #META# AuthorID: 84163053 #META# Author: نوال السعداوي #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # ثمن الكتابة‏ # أدب أم قلة أدب؟‏ # على بحيرة مارينا‏ # حالة فتاة من دفتر أحوال عيادتي‏ # ماجي تفقد السلطة‏ # البنات تعيش‏ # عودة المكبوت‏ # صديقتان‏ # بيوتيفول‏ # ليس لها مكان في الجنة‏ # الأم السويسرية القاتلة‏ # قصة فتحية المصرية‏ # موت كاتب كبير‏ # ثمن الوهم‏ # سقوط رئيس دولة عظمى1‏ # قصة الانتخابات في مصر1‏ # ثمن الكتابة‏ # أدب أم قلة أدب؟‏ # على بحيرة مارينا‏ # حالة فتاة من دفتر أحوال عيادتي‏ # ماجي تفقد السلطة‏ # البنات تعيش‏ # عودة المكبوت‏ # صديقتان‏ # بيوتيفول‏ # ليس لها مكان في الجنة‏ # الأم السويسرية القاتلة‏ # قصة فتحية المصرية‏ # موت كاتب كبير‏ # ثمن الوهم‏ # سقوط رئيس دولة عظمى1‏ # قصة الانتخابات في مصر1‏ # | أدب أم قلة أدب # | أدب أم قلة أدب # تأليف # نوال السعداوي # | ثمن الكتابة # | مقدمة قصيرة # لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف ~~صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم ~~بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس. # تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور. # لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة. # أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب ~~الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال ~~الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها ~~الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة ~~العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات ~~والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث ~~الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل ~~قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد. # اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون ~~وإدارات الرقابة ms01 على النشر والكتابة والمصنفات الفنية. # يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في ~~وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت ~~القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح ~~وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو ~~حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ ~~حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وإنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب ~~بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة ~~نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص ~~فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو ~~الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها ~~الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة ~~البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول ~~مادة أو أول كتلة مادية في الوجود. # وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد ~~في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي ~~والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا. # وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، ~~كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى ~~له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ~~ونقلها إلى قرنه الثاني. # ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. ~~- لا، معقول يا سوسو، أمال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ ~~- منين يا حاج منصور؟ ~~- لما الثور ms02 يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز ~~الأرض. # يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. ~~- لا، معقول يا سوسو. ~~- الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. ~~- جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. ~~- لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. ~~- سامعك يا خويا. ~~- جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو ~~أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو ~~الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. ~~- أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ ~~- أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة ~~الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ ~~أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد ~~والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا ~~تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في ~~بيته. ~~- مين قال لك الكلام ده؟ ~~- الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. ~~- الباشا بنفسه يا سوسو؟ ~~- أيوة يا حاج منصور. ~~- لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! ~~- لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. ~~- مش معقول يا سوسو. ~~- مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. ~~- لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ ~~- إيه يا حاج! # وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك. # تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار ~~بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت ~~على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد ~~وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد ms03 الصباحات، دون سابق إنذار ، ~~يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين ~~والمعتقلات بمناسبة العيد. ~~- أي عيد؟ # الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح ~~الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم ~~في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر ~~الأحمر. # لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة ~~والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ ~~الأجداد. # كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، ~~وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. ~~- كم عمرك؟ ~~- مش فاكرة. ~~- مش معقولة انتي. ~~- انتي اللي مش معقولة. ~~- ازاي؟ ~~- إيه يهمك من عمري؟ ~~- عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. ~~- ليه؟ ~~- مش عارفة. ~~(انتهت المقدمة) # 1 # نوال السعداوي # القاهرة # 22 مارس 2017 # | أدب أم قلة أدب؟ # في طفولتي كانت لي صديقة وحيدة، تقول ما لا يقوله الناس، لم يكن عقلي يلتقط كل ما تقوله، ~~وإن أدركه جسدي بقشعريرة خفيفة لا تخلو من اللذة، يشوبها بعض الخوف أو الإحساس بالإثم، ~~كأنما أنا المسئولة يوم الحساب عما تقوله صديقتي. لم يكن عقلي يفهم كلمات كثيرة غامضة ~~يرددها الناس كل يوم، منها كلمة الإثم ويوم الحساب. أسمعهم يقولون إن الغامض هو المستور، ~~أما صديقتي فكانت تقول إن الغامض هو الظاهر أمام عيوننا وآذاننا، وتقول أيضا إن الناس لن ~~يفهموها، وإن فهموها أنكروها وتنكروا لها، من أجل إثبات براءتهم غير البريئة، كما تقول ~~صديقتي، فهي ترى عوراتهم المستورة بورق الشجر، مثل زرقاء اليمامة، ورأت المستور مكشوفا، ~~والناس مثل النعامة تخفي رأسها في الرمال وتظهر العورة فوق السطح. # في المدرسة قبل دخولنا الجامعة، كتبت صديقتي بعض أبيات من الشعر على قصاصة ورق، وقعت في ~~يد الناظرة، فأصدرت قرارا بفصلها، لحسن حظها خرجت صديقتي من المدرسة، وكتبت قصيدة أخرى ms04 ~~قالت فيها إذا اشترط أبي على أمي الإخلاص مقابل الإنفاق، فهل أشترط الإخلاص على زوجي لأني ~~أنفق مثله؟ ما علاقة الإنفاق أو الفلوس بالإخلاص في علاقات الحب والجنس أو الزواج؟ # لم تكن صديقتي تكتب الشعر أو النثر كما يكتبه الناس، كانت تكتب لنفسها، لا تنشر ما تكتبه، ~~لا ترسله هدية لنقاد الأدب، داخل كتاب، وتقول: إن قرأ نقاد الأدب كتاباتها، فسوف ~~يتهمونها بالفجور؛ لأنها تحاول الفصل بين الفلوس والشرف، أكاد أفهمها رغم الاضطراب ~~والقشعريرة، فأنا لم أتزوج أستاذ في الجامعة إلا بعد أن دفع لي المقدم عشرين ألفا، ~~والمؤخر تم تحديده في العقد خمسين ألفا، أضاعفه إلى مائة ألف في كلامي مع الناس، ويصبح ~~المقدم أربعين ألفا، والمؤخر مائة ألف. كنت أتصور أن قيمتي تزيد بازدياد ما يدفعه الرجل ~~لي. وقالت صديقتي إن العكس هو الصحيح، قيمة المرأة تنحدر بمقدار ما يدفعه الرجل لها. أكاد ~~لا أفهم، وإن فهمت يشتد اضطرابي، كأنما أدرك مدى انحداري، مدى سقوطي في البئر المظلم، ليس ~~معي إلا جسدي، أشعله بعود ثقاب لأرى الطريق أمامي، جسدي هو الشمعة الوحيدة المضيئة، في كل ~~خطوة يكمن الخطر، يتغير شكله في كل لحظة تمر، لا يمكن أن أعيش اللحظة مرتين، أو أنزل البحر ~~الواحد أكثر من مرة، كل شيء يتحرك، حتى الأرض تحت قدمي، فوق شاشة الكمبيوتر تبدو الذرة مثل ~~الكرة الأرضية، تموج بالحركة اللانهائية، دائرة داخلها عدد لا نهائي من النقط، تزداد ~~كثافتها عند المركز، حيث يكون الإلكترون وحيث لا يكون، لا يمكن التأكد من أي حقيقة مادية، ~~فما بال الحقيقة غير المادية أو الروحانية؟ # وتقول صديقتي: أغلب الناس سقطوا في البئر مثلي، أصبح الجنس أو الجسد هو المكان أو طريق ~~السقوط، وإذا سقط الرئيس الأكبر للقوة العظمى في العالم، فهل ينجو الآخرون؟ # وكتبت صديقتي قصيدة أخرى تقول فيها: رغم انكشاف جسد المرأة، فهو أكثر غموضا من المستور ~~وراء عظام الجمجمة، أو ما يسمونه العقل أو الروح، تكشف صديقتي في كتاباتها الروحية ~~الغامضة عن أسرار الجسد العاري ms05، وتقول إن الروحانيات في أغلب بلاد العالم حطمت أرواح الناس، ~~تحت اسم «الروح» سقط الملايين من البشر قتلى، شربت الأرض دماءهم، تحت اسم الصليب المعقوف أو ~~غير المعقوف، تحت اسم الشمس أو القمر أو الهلال، كوكب الزهرة، نجمة داوود، المطرقة والمنجل، ~~السيف والكتاب المقدس، تحت اسم الحرب النظيفة أو غير النظيفة، تحت اسم السلام العادل أو غير ~~العادل. # وتبتسم صديقتي في أسى وتقول: منذ اكتشاف العملة والسوق، لم يعد الشرف موجودا في الحب ~~أو الحرب، في الشرق أو الغرب. إذا اشترى الرجل لمرءوسته في العمل أو زوجته في البيت هدية من ~~السوق الأبيض أو الأسود، فهل يشترط الإخلاص مقابل العملة، وإذا خان الرجل زوجته رغم وجود ~~العقد، فهل تخلص المرءوسة أو العشيقة الحرة بدون عقد؟ ألا تبيع المرأة الرجل في السوق بمثل ~~ما اشتراها؟ أيهما يدفع أكثر يكسب الشرف! ألا تمدد العملة كل شيء حتى قرارات الحرب ~~العظمى؟ # تقول صديقتي: إنه البئر المظلم، يسقط فيه المتنافسون والمتنافسات في السوق الحرة، والحرية ~~هنا لمن يملك العملة، الإنفاق مقابل الطاعة في البيت أو المكتب. وتكتب صديقتي تقول: ماذا ~~يشترط الرجل العاجز عن الإنفاق؟ سؤال آخر يرد إلى الذهن، وماذا تشترط المرأة القادرة على ~~الإنفاق؟ # صديقتي بعد أن طردتها الناظرة، سافرت إلى مكان آخر هادئ تكتب فيه الشعر. اشتغلت في معبد ~~يلجأ إليه الناس للتخفف من آثامهم، قبل الخروج يدفعون شيئا في صندوق النذور تكفيرا عن ~~الذنب، يخرجون بأرواحهم النظيفة المغسولة من الإثم، وكتبت صديقتي قصيدة صغيرة تقول فيها: لم ~~يكن معي قطعة واحدة من العملة أدفعها، وبقيت ذنوبي معي وروحي غير نظيفة! وقعت القصيدة ~~بالصدفة في يد خادم المعبد الأمين، ناولها لسيده دون أن يفتحها، قرأها سيد المعبد وأصدر ~~قراره مثل الناظرة، الفصل النهائي دون محاكمة، دافعت صديقتي عن شرفها وطالبت بمحاكمة علنية ~~أمام الناس. # لم يسمع أحد ما تقول، كانوا جميعا داخل البئر العميق، والمحاكمات كلها سرية، حكموا عليها ~~غيابيا بالكفر، أباحوا دمها، هربت في الليل إلى مكان آخر بعيد، وكتبت ms06 قصيدة جديدة تقول ~~فيها : لماذا يخافون المحاكمات العلنية؟ وإذا عرف الناس المستور، هل يسقط المعبد على من ~~فيه؟ # خمسة وثلاثون عاما مرت، ثم التقيت بصديقتي صدفة، كنت أمشي في الشارع أتكئ على ~~عكازي، أصابني التهاب في المفاصل وترهل في العضلات، لم أكن أتحرك إلا داخل البيت، أو داخل ~~المكتب، أربعة جدران لا تدخلها الشمس، ألف رأسي خوفا من الهواء وعيون الناس، أغلق الأبواب ~~والنوافذ حتى لا يسمع الجيران صوت زوجي. منذ اكتشفت بالصدفة أن له عشيقة وهو يزعق كي لا أرى ~~شيئا، ضعف بصري من قلة الرؤية، ضعف سمعي من قلة الزعيق داخل البيت والضجيج في الشارع، لم ~~يعد في إمكاني عبور الشارع دون أن يمسك يدي. # كانت صديقتي تمسك يدي وأنا أعبر الشارع، لم أعرفها، كانت تبدو شابة ممشوقة الجسم، تتحرك ~~بسهولة، تجتاز الشارع كأنما هو بيتها، يدها حانية حول يدي، تسألني عن أحوالي، أسألها عن ~~قصائد شعر في الدرج لا يقرؤها أحد أو واحدة إلا هي، أخفي عكازي وراء ظهري وأسألها، كيف ~~انتشلت نفسها من البئر؟ تواصل الضحك وتقول لي: الطريق بسيط نحو الصعود من القاع، يبدأ ~~بكلمتين اثنتين لا غير «أريد نفسي.» إن رفضني العالم فأنا أكسب نفسي، كنت أظن أنني ابنة ~~أبي، ثم اكتشفت أني ابنة أمي، كلنا أبناء وبنات أمهاتنا، هذا العالم كله خرج من رحم ~~المرأة، إنه مكان مقدس؛ أعني رحم المرأة، هذا الجزء من جسدي، الذي كان مبعث الخزي والعار، ~~فأصبح المكان حيث الشرف والفخر، كان سبب السقوط، فأصبح سبب الصعود. # تركتني صديقتي واقفة فوق الرصيف، أذناي مسدودتان بأصابعي، رأسي ملفوف بالقماش السميك، ~~كلمة «رحم» المرأة تخدش حيائي، مع أنني أقرأ كل يوم عن العشيقة السرية لأكبر رئيس دولة في ~~عالمنا وسائله المنوي على فستانها الشهير ... ولا شيء يخدش حياء العالم إلا قصيدة شعر تقول ما ~~لا يقوله الناس، لا ينشرها أحد، وإن تسربت إلى آذان نقاد الأدب، قالوا إنها لا تنتمي إلى ~~الشعر أو الأدب، تجاهلوها بالصمت والإنكار، باعتبارها قلة أدب. # القاهرة ms07، أغسطس 1998 # | على بحيرة مارينا # دعتني إحدى الصديقات القديمات لزيارتها في الفيلا التي تطل على بحيرة «مارينا» على الساحل ~~الشمالي. كانت المرة الأولى التي أذهب إلى هذا المكان الجديد، الذي يرتبط في خيال الكثيرين ~~بالطبقة الجديدة صاحبة الملايين أو البلايين. أخذت معي المايوه لأسبح في البحيرة، وكتابا ~~أقرأ فيه إن شعرت بالملل، فأنا أعرف صديقتي منذ الدراسة في كلية الطب، وأعرف لماذا تدعوني ~~بكل هذا الإصرار رغم فتور العلاقة بيننا منذ الانفتاح. فجأة انقلب زوجها من الحديث عن ~~الاشتراكية والقطاع العام إلى الحديث عن الرأسمالية والقطاع الخاص. # تذكر أن خاله الباشا مات بالذبحة الصدرية بعد أن فرض عليه جمال عبد الناصر الحراسة، ~~والأرض التي ملكتها العائلة الكريمة أخذتها الدولة، ولم يبق إلا الشقة الكبيرة في الزمالك ~~والعمارة في المعادي، لكن الله فتح عليه منذ أيام الانفتاح الأولى، فهو يعرف دنيا المال ~~والاستثمار، ويسافر إلى باريس ولندن وجنيف ونيويورك، ويتكلم ثلاث لغات، ينحني حين يصافحني ~~قائلا: «أهلا نوال هانم.» كلمة هانم تخرج من بين شفتيه الرقيقتين مع دخان السيجارة ~~الفاخر. # كان اليوم مشرقا، الشمس تتألق فوق المياه الرقراقة تلامس الشاطئ في موجات صغيرة ناعمة ~~ناعسة، ارتديت المايوه، وأسرعت لألقي نفسي في البحيرة كالطفلة، كنت أنجذب إلى المياه ~~الزرقاء الصافية أكثر من التحف الفاخرة التي كدستها صديقتي في الفيلا. والشبكة الثمينة ~~المرصعة بالفصوص المشعة التي انشبكت بها ابنتها لأحد كبار التجار أو رجال الأعمال، نطقت ~~كلمة «الأعمال» كأنها هي إحدى المقدسات الجديدة، وأسألها: ما هي هذه الأعمال؟ فترد بكلمة ~~إنجليزية أكثر غموضا هي «البزنس». # تمددت بالمايوه على الرمال تحت أشعة الشمس، تركتني صديقتي وراحت تشرف على أمور الفيلا ~~ووليمة الغداء، تحلو القراءة على الشاطئ وهواء البحر واليود والأكسجين تملأ الرئتين، فتحت ~~الكتاب وبدأت أقرأ، عيناي تتركان الصفحة وترمقان الوجوه والأجسام التي تتمشى على الرمال، ~~بنات رشيقات بالمايوه المكشوف أعلى الفخذين، وبنات سمينات مترهلات داخل الفساتين الواسعة ~~الطويلة، رءوسهن ملفوفة بالحجاب، يتصببن بالعرق، يرمقن البنات السابحات في المياه بحسد، ~~يختفي الحسد تحت نظرة ازدراء ms08 أو حركة امتعاض بالشفتين الممطوطتين. # لمحت وجه فتاة تلف رأسها بإيشارب أحمر، يتدلى من أذنيها قرط ضخم يلمع تحت الشمس، بشرتها ~~بيضاء مدهونة بالأصباغ والمساحيق، شفتاها مصبوغتان بلون أحمر قان، تتعثر في ذيل فستانها ~~الحريري الطويل، يتأرجح جسمها المربع الممتلئ فوق كعبين عاليين ينغرزان في الرمل، إلى ~~جوارها تمشي أمها، تكاد تشبهها إلا أنها أكبر سنا، تلف رأسها بطرحة بيضاء مثل العائدات ~~من الحج، ابتسمت الأم حين لمحتني وقالت: إزيك يا دكتورة. تذكرت ملامحها، كنت أشتري منها ~~الجبنة البيضاء والبسطرمة، زوجها البقال اسمه محمد، مربع سمين أبيض، يكاد يشبه زوجته، كان ~~يرتدي جلبابا، فجأة تغير البقال محمد في أيام الانفتاح، بدأت أرفف جديدة تملأ الدكان، ~~تتكدس عليها زجاجات المياه المعدنية المستوردة، وسڤن أب، وشويبس، واللبان الأمريكي تشوجام، ~~وارتدى محمد بدلة وحذاء جلديا أسود، بدت عليه سمات الأفندية، اتسع دكانه واشترى قطعة ~~الأرض المجاورة، بنى عليها عمارة عالية، في الدور الأرضي أقام معرضا كبيرا للسيارات. أصبح ~~يأتي إلى الدكان داخل سيارة مرسيدس تحول الدكان إلى سوبر ماركت، كانت ابنته طفلة، لا بد ~~أنها هذه الفتاة التي تمشي إلى جوار أمها، سمعتها تقول لي: شفناكي في الدش يا دكتورة مع ~~واحد شيخ مش فكره اسمه، كان عصبي شوية، لكن ليه يا دكتورة مش لابسة الحجاب؟ مش حرام كده ~~المايوه؟ # جلست الأم وابنتها معي بضع دقائق، دار الحوار عن الحرام والحلال، ترهف الابنة أذنيها ~~المثقلتين بالقرط الضخم، ربما تستمع لأول مرة في حياتها إلى أن المايوه ليس حراما فوق شاطئ ~~البحر، فالمفروض أن البحر للسباحة، والسباحة رياضة ممتعة من حق النساء والرجال وليس الرجال ~~فقط. # جاء البقال محمد، الذي أصبح برونزي اللون، يرتدي «مايوه ملون»، جسده سمين مترهل، له كرش ~~قبيح المنظر، إلا أنه يشمخ بأنفه بكبرياء ونوع من الغطرسة، قال: «أهلا يا دكتورة» بطرف ~~لسانه. ربما لم يعجبه أن تجلس ابنته وزوجته مع امرأة ترتدي المايوه، يتحدث إليهما بلهجة ~~خشنة، يأمرهما بالعودة إلى الفيلا، نطق كلمة الفيلا بالفاء، رنت في أذني «الفلة ms09» مثل سدادة ~~الزجاجة من الفلين . # أصبحت جالسة وحدي على الرمال، لم أعد قادرة على القراءة، أريد أن أتابع هذه الطبقة ~~الجديدة التي تتحرك أمامي على شاطئ بحيرة مارينا، تكونت في السنوات العشرين الأخيرة منذ ~~الانفتاح، منهم من أطلق عليهم اسم «القطط السمان»، رأيتهم يمشون على الشاطئ بأجسامهم ~~السمينة القصيرة، يشبهون القطط المستأنسة في البيوت، أردافهم متهدلة، إلا أن عيونهم تلمع ~~كعيون القطط الجائعة، سيقانهم رفيعة مشدودة، حركتها سريعة متوترة، يدخلون بها مسرعين إلى ~~البنك المركزي، منه ينطلقون إلى مكاتب أصحاب النفوذ، في مجالات الاستثمار أو التنمية ~~والاستيراد والتصدير، في الغرفة التجارية، وفي الغرفة المظلمة، حيث يعدون أوراق البنكنوت، ~~ولا يمكن لهم أن يدفعوا ضرائب، فالمفروض أنهم لا يملكون شيئا، الأموال كلها ليس لها مكان، ~~يمكن أن تطير فوق البحار إلى جزر الباهاما، أو جزر أخرى وراء الشمس والقمر، لا يمكن لأحد أن ~~يمسكها، إلا إذا بدأ القط السمين يلعب بديله، يتحرش بالقطط الكبار، أو يتمادى ويتجاوز ~~الحدود المرسومة، حينئذ يعلقون الجرس في عنقه، يظهر مانشيت في الصحف بالحبر الأحمر، اضبط ~~القط السمين قبل أن يهرب خارج البلاد، أو اضبط القطة السمينة التي هربت! # لمحت أحد الصحفيين المعروفين يتمشى الهوينا على شاطئ البحيرة، يدخن البايب، عيناه شاردتان ~~في الأفق، إنه ضيف دائم على موائد الوزراء، يتشمم الأخبار وراء البحار، يرقب حركة القطط ~~السمينة من الذكور والإناث، قلمه يطل من جيبه العلوي، له غطاء من ذهب، كل كلمة منه توزن ~~بالدولار أو الدينار أو الاسترليني، يأتيه الشيك فوق مكتبه قبل أن يكتب عنوان المقال، قد ~~يتحول القط السمين فجأة إلى بطل قومي، وقد ينقلب البطل القومي فجأة إلى قط سمين، إنها صاحبة ~~الجلالة الصحافة! # لمحني الصحفي المشهور وقال: «أهلا يا دكتورة.» ثم ابتعد مسرعا يتطلع نحو السماء، ~~رأيت ثلاث طائرات هليكوبتر ملونة تتسابق في الفضاء قرب الشاطئ داخلها رءوس شباب يلعبون في ~~الجو. ربما يمتلك الواحد منهم طائرة هليكوبتر أو سيارة مائية تمشي فوق الرمل أو فوق البحر، ~~ربما يكون ابن هذا ms10 الصحفي الشهير داخل إحدى هذه الطائرات يملكها أبوه أو صديق أبيه من كبار ~~القطط السمينة، وكلهم يعشقون الصحافة وأضواء الإعلام، يتنافسون على الظهور أمام الرأي ~~العام، يحركون السبحة بين أصابعهم علامة التقوى والإيمان، تفوح أنفاسهم برائحة الخمر ~~والنساء والمخدرات. # ثم لمحتها تمشي بجسمها الطويل الممشوق داخل مايوه أسود مزين عند البطن بفص من اللؤلؤ ~~أو الترتر، تهز جسمها برشاقة الراقصات وهي معروفة وسط راقصات البطن، يمشي إلى جوارها زوجها، ~~يرتدي مايوها من النوع الديني المحتشم، يغطي ركبته، ربما هو سعودي أو كويتي أو من الدوحة، ~~يملك مسجدا وعددا من العمارات أو المحلات، ربما هو في السلك الدبلوماسي أيضا، فهو يحمل ~~في يده التليفون «المحمول»، يشتري في الصحف المساحات للإعلان عن البضائع في محلاته، سيارات ~~أو تليفزيونات أو كومبيوترات، يشتري من جامعة كاليفورنيا درجة الدكتوراه، يشتري أيضا لنفسه ~~حراسة خاصة بودي جارد. إن مات فجأة برصاصة مكتومة الصوت أو سم تضعه له زوجته في الشراب، ~~يظهر نعيه في أكبر الصحف في صفحة كاملة أو نصف صفحة بالبنط العريض، ولا يمضي على موته أيام، ~~حتى ترقص زوجته الفنانة في إحدى حفلات الزفاف بالقاعة الواسعة في فندق الخمس نجوم، ثم ~~تتزوج في السر أحد الأمراء في بلد من بلاد الخليج. # كنت جالسة على شاطئ بحيرة مارينا، في يوم من أيام يوليو 1988، أستمتع بالفرجة على أنواع ~~الرجال والنساء من الطبقة الجديدة، وجاءت صديقتي القديمة تدعوني إلى وليمة الغداء، مائدة ~~طويلة رصت عليها الصحون، أطباق لا أعرف اسمها تنطقها بالفرنسية، وأطباق أعرفها مثل الفول ~~المدمس والطعمية والعدس أبو جبة، وفخذة خروف مشوية. صديقتي تتفاخر بكل ما تملك، وأنا أفقد ~~شهيتي. تملأ الصحن أمامي بالطعام، لم أعد آكل اللحم الضأن. ليه يا نوال؟ شرحت لها أن لحم ~~الضأن يحتوي على كميات كبيرة من الدهن. سألتني بدهشة: «عاملة ريجيم يا نوال؟ مش ~~معقول!» # رمقت جسمها السمين المترهل بنظرة من طرف عيني، وقالت: «خلاص عجزنا يا نوال، ومافيش متعة في حياتنا إلا الأكل.» # حين عدت إلى بيتي أحسست ms11 أن جسمي خفيف، رشيق، وضعت نفسي تحت الدش، غسلت رمال شاطئ مارينا، ~~وصور الأجساد فوقه، وشعرت بسعادة! # القاهرة، يوليو 1998 # | حالة فتاة من دفتر أحوال عيادتي # منذ العام الماضي بدأت تحملق في الليل بلا نوم، وإن نامت رأت الطوفان يغرق الأرض، وسيدنا ~~نوح يركب السفينة ويمضي بدونها، ترى نفسها في الآخرة، ماشية فوق الصراط من تحتها النار، ~~قدماها داميتان، جسمها يتأرجح قبل أن يسقط، تفتح عينيها فتجد نفسها راقدة فوق سريرها ملفوفة ~~بالبطاطين، غارقة في عرقها، تقرأ الفاتحة، تحمد الله أنها لم تمت بعد وأمامها فرصة للتوبة، ~~تنهض إلى الحمام، تغتسل خمس مرات، ثم ترتدي الثوب الواسع الطويل، حول رأسها تلف القماش ~~السميك، تقف أمام الله لتصلي، لا شيء يظهر منها إلا ثقبين صغيرين موضع العينين في القماش ~~الأسود. بعد الصلاة تجلس في حجرها كتاب الله، تقرأ وتستغفر الله على ذنبها الكبير، ليس في ~~حياتها إلا هذا الذنب، منذ ولدت وهي تنام على صوت أبيها يرتل القرآن. منذ الطفولة لم ير ~~وجهها رجل غريب. طوال سنين الدراسة لم تكلم أحدا، وبعد التخرج اشتغلت في مكتب ليس فيه ~~أحد، مخزن بالدور السفلي في متحف صغير مهجور لا يزوره أحد، تجلس إلى مكتبها وأمامها الدفتر، ~~تسجل عدد المومياء التي تأتي للتخزين أو المخزونة من قبل، تنفض عنها التراب بفوطة صفراء، ~~ثم تعدها وتسجل الرقم في الدفتر، تغلق الدفتر وتضعه في الدرج، ثم تفتح كتاب الله ~~وتقرأ حتى يحين موعد الانصراف. تحمل حقيبتها وتعود إلى بيتها ماشية على قدميها. مسافة ساعة ~~ونصف، تقطعها بخطوة متزنة محكومة، ولا شيء في جسمها يهتز من تحت الثوب الواسع ~~السميك. # رأسها الملفوف بالقماش الأسود مطرق إلى الأرض، في الحر والبرد تمشي المسافة مرتين في ~~الذهاب والعودة، لا تركب الأوتوبيس حتى لا يحتك بها أحد من الخلف، ولا تركب «تاكسي» وحدها ~~مع سائق غريب. وفي البيت تغتسل من تراب الطريق، وتتوضأ وتصلي قبل أن تأكل، وبعد الأكل تنام ~~وتحت وسادتها كتاب الله. تصحو على صوت أبيها يناديها لتعد له ms12 الطعام. بعد أن يأكل، يصلي ~~ويدعو الله أن يحمي ابنته من الشيطان، لولا المائة والأربعين جنيه كل شهر ما جعلها تخرج من ~~البيت، وهو رجل عجوز بلا مورد، وهي بلا زوج يعولها. لم يتقدم إليها إلا ابن أخته العاطل بلا ~~دخل، لو أرسل الله إليها زوجا ميسور الحال لما خرجت من البيت. # في غرفتها كانت هي أيضا تركع وتصلي. لم تكن تطلب من الله أن يرسل لها زوجا، أي زوج. ~~فكرة الزواج طردتها من رأسها منذ الطفولة، ماتت أمها تنزف بعد أن ضربها زوجها قبل النوم. ~~الموت مكتوب، لكنها تريد الموت بطريقة أخرى غير الضرب، ليس في حياتها رجل، أي رجل. ولا تعرف ~~شيئا عن ذلك الجنس الآخر. وإذا ما وصلها من عند الجيران صوت موسيقى أو غناء سدت أذنيها ~~بأصابعها، وأحكمت إغلاق النوافذ والأبواب. # ثم جاء ذلك اليوم في أبريل الماضي، كانت جالسة إلى مكتبها كعادتها، انتهت من عد ~~الموميات والتماثيل المخزونة، اكتشفت وجود تمثال لم يكن موجودا بالأمس. راجعت الدفتر ~~والأرقام، ثم أغلقت الدفتر ووضعته في الدرج، فتحت كتاب الله، وبدأت تقرأ بلا صوت ورأسها ~~مطرق. بينما هي تقرأ، تحركت عيناها من خلال الثقبين الصغيرين في القماش الأسود، ودارتا حول ~~الموميات والتماثيل، ثم استقرتا على وجه ذلك التمثال. تقاطيع وجهه منحوتة بشكل عجيب، ~~وأعجب ما فيها عيناه، تنظران نحوها بحركة في «النني» لم ترها من قبل في أي تمثال آخر. ~~استغفرت، واستغاثت بالله من الشيطان، وأطرقت برأسها مرة أخرى لتواصل القراءة. لكن عينيها ~~كانتا تتحركان بغير إرادة لتنظر إلى التمثال، كان صغيرا، أصغر من التماثيل الأخرى، والتراب ~~يغطيه، كأنما أهمل في المخازن سنين. مسحت عنه التراب، ووضعته قرب النافذة، وعادت تقرأ في ~~كتاب الله. لكن عينيها تحركتا من خلال الثقبين الصغيرين مشدودتين نحو وجهه، عيناه فيهما ~~الحركة الغريبة، مسحوبتان إلى أعلى قليلا كعيون قدماء المصريين. أمسكته في يدها داخل ~~القفاز الأسود، وراحت تبحث عن علامة أو حروف تكشف عن اسمه أو العصر الذي عاش فيه. لم يكن ~~هناك ms13 شيء. عادت إلى مقعدها وراء الكتب، واستقرت عيناها فوق السطور في كتاب الله. لكن سؤالا ~~بدأ يدور في رأسها: # ألم ير أحد من قبلها هذه الحركة في عينيه؟ # لم يكن معها في المتحف إلا موظفة عجوز تقوم بأعمال الإدارة، تهبط إليها من حين إلى حين ~~تفتش وتراجع الدفتر، تمر بعينيها على التماثيل واحدا واحدا، وقد تتوقف عند تمثال يلفت ~~نظرها ... مرت عيناها ذلك اليوم من فوق التمثال الصغير دون أن يلفت نظرها شيء. وتحيرت، ولماذا ~~لم تر المديرة في عينيه الحركة التي هي رأتها؟ وأصبح السؤال يشغلها كل يوم، منذ أن تدخل ~~مكتبها وتجلس ... تتحرك عيناها وحدهما لتستقران على وجه التمثال، الحركة في عينيه ما تزال، ~~وقد أصبحت الآن حركة خاصة بها وحدها، لا ينظر بهاتين العينين إلا لها، وهي منذ رأتها للمرة ~~الأولى لا تكف عن النظر إليها، وإذا حركت رأسها بعيدا أو خرجت من المكتب، ظلت عيناه أمامها ~~تطلان عليها بهذه النظرة، كأنه يعيش هذه اللحظة وليس منذ سبعة آلاف عام. ليس في نظرته غطرسة ~~الفراعنة الآلهة، وليس فيها خضوع العبيد من الشعب. ماذا فيها؟ لم تعرف. وفي كل يوم تستولي ~~عليها رغبة المعرفة، تزيد يوما عن يوم كالرغبة الآثمة، وأصبحت كلما جلست إلى كتبها تتلفت ~~حولها تخشى أن تهبط المديرة فتضبطها وهي تنظر في عينيه. أكثر ما كانت تخشاه أن يصدر أمر ~~ينقله إلى مخزن آخر. وأصبحت حين ترقد في السرير لا تنام. ماذا يحدث لو ذهبت في الصباح إلى ~~مكتبها فلم تجده؟ كانت منذ وجدته تسير إلى مكتبها بخطوة أسرع، وما إن تفتح الباب وتدخل، حتى ~~تتحرك عيناها من خلال الثقبين، تبحثان عن وجهه بين وجوه التماثيل الأخرى ... وما إن ترى ~~الحركة في عينيه، حتى تنفرج شفتاها المطبقتان عن تنهيدة خافتة من تحت القماش الأسود. # ودخلت ذات يوم إلى مكتبها فلم تجده، بحثت في كل المخزن، لم يكن هناك، في كل ركن، بين أرجل ~~التماثيل الكبيرة فوق الأرض، حيث ترقد مئات التماثيل الصغيرة، لم يكن هناك ms14. # وعادت إلى مكتبها تجلس. لم تستطع أن تدون شيئا في الدفتر، ولم تستطع أن تقرأ سطرا في ~~كتاب الله، رأسها مطرق وقلبها ثقيل. أين ذهب؟ مكانه بالقرب من النافذة خال، والكون كله أصبح ~~خاليا، ولا شيء في حياتها، لا شيء. يدها من تحت القفاز الأسود باردة، وفي عروقها يكف الدم ~~عن الحركة، ومن حولها لا ترى إلا الموت على شكل تماثيل من الحجر، وهي أيضا تموت هذه اللحظة ~~جالسة إلى مكتبها. # ثم رفعت عينيها بحركة مندفعة كاندفاعة الهواء في الصدر قبل النفس الأخير، ورأته واقفا ~~في مكانه مختفيا وراء ضلفة النافذة. ولم يكن للمديرة لو هبطت في تلك اللحظة أن تعرف ماذا ~~حدث، مظهرها من الخارج كما كان، جالسة في مقعدها خلف المكتب وأمامها الدفتر، راسها مطرق ولا ~~شيء فيها يتحرك إلا «النني» الأسود من خلال الثقبين، واندفاعة الدم الساخن في عروقها تحت ~~الجلد. # قبل أن تنصرف ذلك اليوم، أخفته في حقيبتها معها إلى البيت، وفي الصباح أعادته إلى مكانه. ~~لم تلحظ المديرة غيابه وعودته، وفي البيت لم يلحظ أبوها وجوده داخل الدولاب. وفي الليل بعد ~~أن ينام أبوها تخرجه من الدولاب وتضعه أمامها، لا تكف عن النظر إلى وجهه، تنام عيناها في ~~عينيه، في الحلم تراه واقفا والطوفان يغرق الأرض، واقف أمامها من لحم ودم، وسيدنا نوح يركب ~~السفينة ويمضي بدونه، أيكون ابن سيدنا نوح الذي لم يركب السفينة وغرق؟ أيكون عاصيا من ~~أتباع الشيطان وليس مؤمنا من أتباع الله! # وأهم من هذا كله، هل يمكن أن يعود حيا بعد أن مات منذ سبعة آلاف عام؟ # في الصباح تفتح عينيها والسؤال يدور في رأسها، تمشي في الطريق إلى مكتبها مطرقة الرأس، ~~تخشى أن ترفع عينيها فتراه أمامها بلحمه ودمه كما رأته في الحلم، ومن الثقبين الصغيرين في ~~القماش الأسود بدأت عيناها تتحركان، ترتفعان ببطء وحذر، تختلس النظر إلى وجوه الناس. هل ~~يمكن أن يكون بين البشر وجه يشبهه؟ أو عينان فيهما هذه النظرة؟ # مضى شهران وهي لا تكف عن ms15 التفكير، عيناها لا تكفان عن اختلاس النظر إلى وجوه الناس في ~~ذهابها إلى المكتب وفي عودتها إلى البيت. ستون يوما مضت وهي لا ترى بين الوجوه وجها ~~يشبهه، لا ترى بين العيون عينين لهما نظرته. # نامت الليل مؤرقة، وفي النوم يعاودها الحلم، ترى الأرض تغرق في بحر من الطوفان، وهي واقفة ~~في مدخل المدينة. فجأة تراه أمامها، هذه المرة لا يلحظ وجودها، ويسير بخطوات هادئة إلى ~~الأمام، ثم يستدير وينظر إليها. في عينيه النظرة هي هي لم تتغير، المياه تغرقه من كل ~~جانب، يظل ينظر إليها، آخر ما يختفي فيه عيناه. # في الصباح فتحت عينيها، هدير المياه ما زال في أذنيها، أصوات استغاثة تعلو عليها أصوات ~~أمواج. في اللحظة بين اليقظة والنوم يبدو لها الحلم حقيقة، وأنها شهدت بعينها دمار مدينتها ~~منذ سبعة آلاف عام، وأنه غرق ضمن من أغرقهم الله في الطوفان. ظلت راقدة في السرير، تأخرت عن ~~موعدها في المكتب، ثم نهضت بجسم ثقيل. في المرآة رأت عينيها حمراوتين فيهما دموع، بطرف ~~إصبعها أدركت أنها دموع حقيقية، وعرفت أنها تبكي على موته غريقا، وأكثر ما كان يبكيها أنه ~~لم يكن من أتباع الله. # أدركت عن يقين أنه من أتباع الشيطان، ومع ذلك ظلت الدموع تنهمر من عينيها وهي واقفة أمام ~~المرآة، بدا لها أنه مات هذه اللحظة فقط، ولم يمت منذ سبعة آلاف عام. # في طريقها إلى المكتب ذلك الصباح، عند تقاطع الشارع، رفعت عينيها نحو إشارة المرور، فجأة ~~رأته يسير بين الناس ويجتاز الشارع. تعرفت عليه على الفور، الوجه هو الوجه، التقاطيع ~~المصرية القديمة، والعينان هما العينان فيهما الحركة والنظرة، واندفع جسمها بغير إرادتها ~~نحوه، كادت تمسكه من يده، لكنها تراجعت في آخر لحظة، وانفرجت شفتاها المطبقتان من تحت ~~القماش الأسود قائلة: أنت؟! # كان الشارع مزدحما، والكل يجري في طريقه دون توقف، لكن الناس توقفوا وقد أذهلهم المشهد، ~~رأوها تندفع نحوه، وهو يندفع بعيدا عنها. هي فتاة، وهو فتى يسير في الشارع، لم يكن مألوفا ~~أن تندفع ms16 الفتاة نحو شاب لا تعرفه بهذا الشكل، وهي ليست أي فتاة، إن شيئا لا يظهر من ~~كيانها إلا الثقبين الصغيرين في قماش أسود، وهي تندفع نحوه، وهو يبتعد عنها بخطوات سريعة. ~~بدا لهم المشهد غريبا ومضحكا في آن واحد. # في أذنيها دوت ضحكاتهم، فانكمشت على نفسها تحت القماش السميك، ظلت منكمشة طول النهار، ~~وهي جالسة في مكتبها أمامها الدفتر، رأسها مطرق، عيناها تتحركان وحدهما ناحية النافذة حيث ~~يقف في مكانه ... وجهه هو وجهه، عيناه فيهما الحركة، النظرة الإنسانية أكثر إنسانية من عيون ~~الناس في الطريق، مع أنه مات منذ سبعة آلاف عام، غرقا مع من غرقوا في الطوفان، وقد بكت على ~~موته. وكل إنسان يموت، لكن التمثال الحجري يعيش سبعة آلاف عام، فهل الحجر أبقى من ~~البشر؟ # في رأسها يدور السؤال بغير جواب، أصبح لها صديقا من الحجر، تحس وجوده أكثر من وجود أي ~~إنسان آخر له جسد. فلتت الكلمة من بين شفتيها المطبقتين بلا صوت «جسد»، الكلمة في حد ~~ذاتها تبعث في جسدها رعشة، لا تعرف تماما أين تكون الرعشة. عيناها من خلال الثقبين من تحت ~~القماش السميك تختلسان النظر إلى جسدها، في صدرها قلب ينبض، وفي رأسها عروق، يصعد الدم ~~إليها كهواء ساخن، عقلها يدرك أن صديقها ليس إلا تمثالا من الحجر، لكنها ترى في عينيه نظرة ~~متحركة توشك على النطق. # هل يمكن أن ينطق؟ وبأي لغة؟ العربية أم الهيروغليفية؟ أهو خيال أم حقيقة؟ وإن كان ~~خيالا، فمن أين يأتي الخيال؟ هل يختلط الخيال في عروقها بالدم؟ في رأسها يدور السؤال مع ~~دورة الدم، كدوامة في بحر المياه تغرقها كالطوفان، هو واقف أمامها ينظر إليها، عيناه فيهما ~~النظرة الإنسانية، في أعماقها تدرك عن يقين أنه أكثر إنسانية من كل الناس في الكون، لا يمكن ~~أبدا أن يكون شريرا، يمكن لها أن تقسم وهي في كامل الوعي والإدراك أنه من أتباع الله وليس ~~من أتباع الشيطان. # كانت لا تزال في كامل الوعي والإدراك، لا يمكن لأحد إذا رآها أن ms17 يساوره الشك في كونها في ~~كامل الوعي والإدراك. يراها أبوها كما يراها كل يوم بكامل وقارها وملابسها، تخرج إلى مكتبها ~~وتعود في الموعد. وتراها مديرة المتحف جالسة بكامل الوعي والإدراك وأمامها الدفتر، فإذا ما ~~انتهت من الدفتر، لم يصبح أمامها إلا كتاب الله. وفي الطريق تمشي بخطوتها المتزنة المحكومة، ~~ورأسها مطرق بكامل الوعي والإدراك. # إلا أنها وهي سائرة ذات يوم، رفعت عينيها من خلال الثقبين فرأته يخرج من باب أحد البيوت، ~~ويجتاز الشارع بخطوات هادئة، رغم صراخ الأبواق، رأته هو بعينه، لا يمكن لها أن تخطئه بعد كل ~~هذه الأيام. # تسمرت قدماها في الأرض، وارتفعت يدها داخل القفاز الأسود فوق قلبها، كان واقفا وسط ~~الشارع ومن حوله السيارات كالطوفان. تصورت أنه سيسقط ويغرق بين العجلات، لكنه لم يسقط، ظل ~~يسير بخطواته الهادئة متجها إلى شارع النيل، واندفع جسمها يتبعه، كانت تدرك أنه خيال وليس ~~حقيقة، لكنها تراه بعينيها، ولم يعد يهمها ما دامت تراه بعينيها أن يكون خيالا أو ~~حقيقة. قدماها تسيران وراءه، في أذنيها تسمع وقع حذائه على الأرض، يسبقها بخطوات قليلة، ~~يمكن لها إذا نادته أن يسمعها، لم تعرف بماذا تناديه، لم يكن له اسم، وانفرجت شفتاها ~~المطبقتين من تحت القماش السميك عن صوت: يا أنت. رأته يستدير إليها، يواجهها وجها لوجه، ~~أدركت أنه هو، وعيناه هما عيناه، ونظرته هي نظرته، وسمعته يقول: من أنت؟! أخرستها ~~المفاجأة، فتسمرت في الأرض. كان يتكلم بلغة عربية، وليس هيروغليفية، وكانت تظن أنه يعرفها ~~كما عرفته. كيف تعرفه كل هذه الأيام وهو يسألها من أنت؟! ظلت واقفة بلا حراك، تنظر إليه، ~~ثم أطرقت إلى الأرض، أطرقت طويلا وهي تنكمش داخل نفسها من الخزي. # أبعد كل هذا يسألها من هي؟ عقلها لا يصدق، ورفعت عينيها مرة أخرى لتتأكد، لكنه كان قد ~~استدار ومشى في طريقه، ثم اختفى بين الناس. # في اليوم التالي وهي في الطريق إلى مكتبها، ظل رأسها كما كان مطرقا، لكن عينيها تدوران ~~كالنحلتين داخل الثقبين، تتفرسان وجوه الناس. عقلها الواعي ms18 يقول لها إنه لا يعيش اليوم بين ~~الناس، وإنه عاش منذ سبعة آلاف عام. لكن عينيها لا تكفان عن البحث، تدرك بعقلها الواعي أنه ~~موجود، فقد رأته، وما دام هو موجودا، فيمكن أن تراه مرة أخرى. واستولت عليها الرغبة في أن ~~تراه بأي شكل، ولكن مصنوعا من لحم ودم، أو ليكن روحا بغير جسم، المهم أن تراه. وما ~~الفرق أن يكون روحا أو جسما، ما دامت قادرة على رؤيته؟ # وفي المكان نفسه حيث لقيته بالأمس انتظرت، وحين ظهر في الشارع اندفعت بجسمها نحوه وهي في ~~كامل الوعي والإدراك. كان هو بوجهه وعينيه ونظرته الإنسانية، لم يتغير فيه شيء، إلا أن ~~شاربا أسود نما فوق شفته العليا. انفرجت شفتاها المطبقتان من تحت القماش السميك عن كلمة ~~بلا صوت: «ذكر؟» الكلمة في حد ذاتها غير قابلة للنطق. لم تنطقها في حياتها من قبل، كانت ~~تظن أنه إنسان، مجرد إنسان بلا جنس، لكن هذا الشارب يؤكد أنه ... وظلت قدماها مسمرتين في ~~الأرض، ويدها داخل القفاز الأسود ارتفعت وحدها وأخفت الثقبين الصغيرين في القماش ~~السميك # حين رفعت يدها عن عينيها كان الشارع لا زال مزدحما بالناس، وهو لم يعد واقفا أمامها، هي ~~لا تزال واقفة بكامل الوعي والوقار، وتحت إبطها حقيبتها الجلدية، ترقد في التجويف بين ~~الذراع والصدر، يلامس طرفها من خلال القماش السميك طرف الثدي الأيسر، تحس التلامس كمس من ~~الكهرباء، عقلها يدرك عن وعي أنها ليست إلا حقيبة من الجلد، وليس بداخلها إلا كيس النقود ~~وتمثال صغير من الحجر، ولكن التلامس ظل يسري من ثديها الأيسر إلى صدرها كتيار ~~الكهرباء. # عادت إلى بيتها ذلك اليوم بغير الحقيبة، ألقت بها كما هي دون أن تفتحها في خرابة كبيرة، ~~لم تأخذ منها شيئا، حتى كيس النقود تركته، تصورت أنها لو فتحته فسوف تراه، أصبحت راقدة في ~~سريرها، كانت تدرك بعقلها الواعي أن الحقيبة لم تعد معها، وأنه من المفروض أن يغادرها ~~الخوف. # لكن الخوف لم يغادرها حتى الصباح، وفي اليوم التالي ظل الخوف يلازمها ms19 في الشارع والمكتب ~~وفي البيت وفي كل مكان. كان يلازمها كانتفاضات الحمى ... وسمعها أبوها ذات ليلة تئن أنينا ~~خافتا، وفوق جسدها رعدة كرعدة الملاريا. أخذها أبوها إلى طبيب الحميات، تناولت الدواء ~~ثلاثين يوما، وظلت الحمى كما كانت. وفي الليل سمعها أبوها تكلم أحدا وهي راكعة تصلي. تصور ~~أنها تخاطب الله وتطلب منه المغفرة، لكن صوتها كان يعلو والكلمات أصبحت واضحة. لم تكن تناجي ~~الله، كانت تلعن الشيطان بكلمات غريبة لا يمكن أن تخرج من بين شفتي طاهرة، وأدرك أنها ~~اقترفت ذنبا تخفيه في طيات نفسها لا تبوح به. وأخذها إلى رجل طاهر يتوب الناس بين يديه عن ~~ذنوبهم. بعد التوبة ظلت معها الحمى، وفشلت الأقراص التي كتبها طبيب الحميات مرة أخرى. وحين ~~زارتها مديرة المتحف قالت إنها ليست الملاريا، ولكنها حالة نفسية. هكذا جاءت إلي. # القاهرة، مايو 1987 # | ماجي تفقد السلطة # أراها تجمع أوراقها والميدالية الذهبية محفور عليها اسمها، تضعها ببطء في حقيبتها ~~الجلدية، تغلقها بصوت خافت، يرن عاليا في الغرفة الغارقة في الصمت، تنهض من وراء مكتبها ~~الكبير بمبنى الرئاسة في القصر، تمشي بجسم ثقيل وظهرها محني قليلا، تغلق الباب خلفها بلا ~~صوت. تلمح زوجها جالسا في البهو الخارجي، واضعا الساق فوق الساق، لا ينزل ساقه حين يلمحها ~~كما كان يفعل. تفرد ظهرها لتخفي الانحناءة، تشرئب بعنقها إلى أعلى كالزرافة، تشد عضلات ~~وجهها لتنزع ابتسامة، وصوتها خافت شبه متلاش: هيا بنا يا دنيس. يميل جسمها قليلا مع ~~رأسها، تكاد قدمها تعثر داخل الحذاء ذي الكعب العالي، فيمد ذراعه إليها لتمسك يده. تتردد ~~يدها في الهواء لحظة، كما كانت تتردد وهي طفلة تتعلم المشي، وأمها تمد لها يدها لتمسكها. ~~سارت إلى جواره تتأبط ذراعه، تحرك رأسها بعيدا عن عينيه، تتفادى النظرة التي كانت تراها في ~~عيني أبيها حين كان وراء الجريدة ينظر إلى أمها، نظرة مليئة بالشفقة والأدب، خالية من ~~الاحترام، لا يتبادل معها الحوار، ولا شيء يجمعهما إلا مائدة الطعام أو السرير في الليل، ~~وأوقات الفراغ يقرأ الجريدة، لا يكاد ms20 يرفع عينيه إليها وهي تنحني أمامه بفنجان الشاي، واقفة ~~فوق ساقين نفرت عروقها الزرقاء وقدمين متورمتين داخل البانتوفلي الأزرق البالي، وحول ~~بطنها المنتفخ مريلة المطبخ، تفوح منها رائحة الكرنب. وتطرد من رأسها الصورة وتمشي إلى ~~جواره مشدودة العضلات حتى السيارة الصفراء، سيارتهما الخاصة، وليست السيارة السوداء الكبيرة ~~التي يرفرف عليها العلم والتاج، والحرس ذو المعاطف الحمراء والأزرار الذهبية لم يعد هناك ~~والأيادي لم ترتفع بالتحية، والموسيقى لم تعزف. وعيناها شاردتان من خلال النافذة، تريان ~~العالم كأنما هو عالم آخر. والكوبري لم يعد هو الكوبري، والضوء لا ينعكس على مياه النهر. ~~وهو جالس إلى جوارها صامت، والصمت ثقيل، يشبه الصمت في البيت منذ كانت طفلة، وفي عينيه ~~النظرة إياها. ومن تحت الشفقة والأدب لمعة ابتسامة ساخرة أو شامتة، وفي كل هزيمة لها تكاد ~~ترى هذه النظرة ذاتها. كان يريدها منذ تزوجته صورة طبق الأصل من أمه، تطبخ الكرنب بالطريقة ~~نفسها، وفي الساعة الخامسة تقدم له الشاي، وهو جالس الساق فوق الساق يقرأ الجريدة، أو يشهد ~~المباراة فوق الشاشة. وفي الصباح لا مانع من ذهابها إلى مكتبها في الحزب أو الوزارة، ~~وحصولها على شيء من الشهرة أو المال، بشرط أن يظل هو الرئيس في البيت. وإذا احتدم الخلاف ~~حول أي شيء، يسود رأيه بصرف النظر عن أي شيء. لكنها منذ اليوم الأول للزواج حسمت أمرها ~~وقالت: اسمع يا دنيس، لن أكون مثل أمك ولن تكون أنت مثل أبي، ولن تنظر إلي يوما من الأيام ~~تلك النظرة المشفقة الخالية من الاحترام. ووقفت أمامه مشدودة الظهر، مشرئبة العنق، رأسها مرفوع ~~لا ينحني. ولم يطاوعها دنيس طويلا، فهو يأكل الكرنب في الغداء بطريقة أمه من يد خادم من ~~زنوج الجنوب، يرتدي بدلة سوداء أنيقة، وبابيون معقود حول العنق على شكل الوردة، ينحني بأدب ~~شديد ووجهه الأسود في الأرض. ولم يعد من سبب للصراع في البيت، إلا رأسها المرفوع أكثر من ~~اللازم، وعيناها تثبتان في عينيه أثناء النقاش، ويسود الرأي الصواب بصرف النظر عن الجنس. ~~وحينما ms21 اشتد الصمت داخل السيارة، فتح الجريدة في حجره، ورأى صورتها أصغر مما كانت، وبضعة ~~سطور تحت الصورة تقول الآتي: ~~«مسكينة» ماجي؛ إن الحرمان من حنان أمها في الطفولة هو السبب وراء شخصيتها العدوانية، ~~فلم تكن أمها ترى فيها أي أنوثة، وتنبأت لها بالفشل في حياتها. وماجي لم تكن ترى في أمها ~~أي عقل، وتمنت لها الموت. وبعد أن ماتت أمها، أقسمت أن تكذب نبوءتها، وأن تحقق في ~~حياتها نجاحا لم يحققه أبوها ولا أي رجل في الأسرة أو البلد. # وفي السرير تنام، يحوم شبح أمها حول رأسها، يؤكد لها الفشل، وتصحو كل يوم بإرادة أصلب من ~~الحديد. ويوم فوزها بمقعد الحكم، وبعد كل فوز، تكرر العبارة للشبح الزائر في الليل. وحين ~~أعلنت الحرب في فوكلاند قالت لأمها: أرأيت أنني أصدرت قرارا يعجز عن إصداره أعتى الرجال؟ ~~وظلت أمها صامتة في الموت كما في الحياة. ومن وراء الجريدة سمعت زوجها يقول، وهو واضع الساق ~~فوق الساق: وماذا أخذت يا ماجي من كل هذا النجاح، إلا حرمان أطفالك من أمومتك وحرماني من ...؟ ~~وسكت لحظة، وقال لنفسه: «حرماني من أنوثتك.» ورمق التجاعيد حول فمها المزموم المدهون بقلم ~~الروج، والثدي المتهدل المرفوع بالمشد المطاطي تحت الجاكت الرسمي الأسود، وخصرها الممتلئ ~~باللحم رغم عذابات الريجيم. والتفتت إليه بغضب تقول: أتتكلم الآن يا دنيس مثل أمك وأمي؟ ولم ~~يسكت كما كان يسكت، وقال بصوت مرتفع قليلا: أتظنين يا ماجي أن حياتك كانت أسعد منهما؟ حتى ~~النساء يا ماجي اتهموك بأنك عدوة تحرير النساء، تحكمين بعقلية الرجال، وتساندين الحكومات ~~العنصرية في جنوب أفريقيا وإسرائيل، وتتبعين رئيس أمريكا مثل ذيله. الناس يقولون إنك مريضة ~~بعقدة «إلكترا» أو عقدة النقص، تسعين للحصول على العنصر الناقص دون جدوى. وقاطعته بحركة ~~قوية من رأسها: أنت تردد ما يقولون؟ وقال الزوج دنيس: تعرفين يا ماجي أنني وقفت إلى جانبك ~~في كل المعارك لأني كنت أحبك ... وصاحت بغضب: تقول «كنت»؟ أتعني أنك لم تعد تحبني يا دنيس؟ ~~ورد الزوج بسرعة: أقسم لك يا ms22 ماجي أنني أحبك الآن أكثر مما كنت أحبك وأنت في الحكم. وهنا ~~قالت ماجي: أنت تحب هزيمتي يا دنيس، ولا تحبني أنا. وكادت عيناها تلمعان، تحت دمعة سرية ~~ابتلعتها قبل أن تظهر، لكنه لمحها بطرف عين، ومد يده فأمسك يدها، وقال: لم يبق لنا في ~~العمر كثيرا يا ماجي، فلماذا لا نعيش؟ ... انظري يا حبيبتي إلى أشعة الشمس المنعكسة على ~~السحب. وحركت ماجي رأسها ناحية الأفق، وكانت السيارة قد وصلت البيت. # وهي واقفة إلى جوار زوجها في الشرفة، تنهدت وهي تتأمل ألوان السماء لحظة الغروب، خرج من ~~صدرها زفير طويل من تحت المشد المطاطي، وعينان غارقتان في ألوان الطيف. منذ الطفولة لم تر ~~هذه الألوان في السماء، وقالت لزوجها: الطبيعة جميلة كما كانت، لكن الناس تغيرت منذ تركت ~~الحكم، أتظن يا دنيس أنني خالفت الطبيعة حين دخلت الحزب واشتغلت بالسياسة؟! وأخرجت من ~~حقيبتها مرآة صغيرة، تأملت وجهها: عيناها مرهقتان قليلا، شفتاها باهتتان. أخرجت إصبع ~~الروج، ومرت به فوق شفتيها بسرعة، وقالت لزوجها: هل السياسة تفقد المرأة أنوثتها يا دنيس؟ ~~وقال الزوج ناظرا إلى الأفق: وتفقد الرجل رجولته يا ماجي، فالسياسة لعبة قذرة، وصراع لا ~~ينتهي على السلطة، تفقد الإنسان إنسانيته. واستدارت نحوه بكل جسمها نظرت إليه بكل عينيها ~~الواسعتين، وقالت: وأنت يا دنيس ألا تحب السلطة؟ ألم تحاول السيطرة علي أول الزواج؟ وقال ~~دنيس: حاولت يا ماجي وفشلت، ومن الفشل خلعت الرجولة الكاذبة وتعلمت الإنسانية. وابتسم برقة ~~وهو ينظر في عينيها وقال: لهذا أنا مسرور يا ماجي بهزيمتك، وأرجو أن تكون درسا. ولم تسمع ~~هذه العبارة، كانت قد أخرجت المرآة مرة أخرى، وتأملت وجهها بسرعة ثم أدخلتها، وقالت: ~~وماذا عن أنوثتي يا دنيس التي لم تعترف بها أمي؟ # واتسعت ابتسامة دنيس وقال: أنت مليئة بالأنوثة يا ماجي، أكثر أنوثة من المرحومة أمك، لكن ~~المشكلة يا حبيبتي ليست الأنوثة أو الرجولة، المشكلة هي الإنسانية، أنت يا ماجي كنت تصدرين ~~القوانين ضد حضانة الأطفال وضد حقوق النساء والزنوج، وترين في الشتاء أجسام ms23 الفقراء راقدة ~~في علب الكرتون تحت أعمدة القصر الملكي، وتمرين بسيارتك دون أن يرتعش لك جفن، مع أن جفنك ~~مفتوح مثل الفنجان، ورموشك منتصبة مثل قرون الاستشعار. لكن عينيك الجميلتين يا حبيبتي لا ~~تريان إلا القصر والحكم والمنصة التي تقفين عليها، وفي يدك الإنجيل، تخطبين بصوت ممطوط عن ~~عدالة المسيح، وأنه صلب من أجل الحق، وتتحدثين عن السلام بعد أن تعلني قرار الحرب في ~~فوكولاند أو الخليج، وتضغطين على الكلمات بشفتيك الجميلتين الحمراوين بلون الدم، كأنما ~~أكلت أحدا ولم تمسحي فمك بعد الأكل، و... # ويأتيها صوته من تحت الوسادة، وهي راقدة إلى جواره في السرير، لا يكف عن الكلام حتى منتصف ~~الليل، كأنما في بطنه مخزون من الكلام المضغوط تحت مشد مطاطي، وتعطيه ظهرها، ووجهها ناحية ~~الحائط تقول له: كيف اختزنت يا دنيس هذه الكراهية لي كل هذه السنين؟ # ويقول دنيس وهو يغمض عينيه متظاهرا بالنوم: كنت أخاف يا ماجي من رئيسة الحكومة. وتغمض ~~عينيها، فترى شبح أمها يحوم حول السرير، تطرده بيدها، وتمد ذراعها إلى زوجها تعانقه في ~~الظلمة، تجهش بلا صوت فوق صدره، وهو يجهش بلا صوت فوق صدرها، أنفاسهما تهمس في يأس وأمل: ~~ربما يا ماجي، ربما يا دنيس، نتخلص معا من الخوف. # القاهرة، نوفمبر 1990 # | البنات تعيش # في الصمت، والليل ثقيل يغرق مدينة القاهرة، الغائبة في النوم كالمقهورة، والظلام له كثافة ~~السائل الأسود كالزئبق، أو القطران الذائب في الأسفلت، كانت البنت واقفة داخل ثوب أبيض ~~(بلون ثوب الزفاف) متكئة بذراعها على حافة النيل، تنظر إلى وجهها الشاحب الطويل، فوق صفحة ~~الماء كالمرأة السوداء، يتعرج تحت ضربات الهواء إلى ملايين التعرجان الدقيقة كالتجاعيد أو ~~الموجات الرقيقات السابحات من الجنوب، والمدينة غارقة في السواد والصمت كالموت، إلا الدقات ~~البطيئات تحت ضلوعها الموشكة على التلاشي، وعيناها السوداوان تتسعان داخل الماء فوق الجسد ~~الممدود الطافي، لا يرتدي ثوبها الأبيض، يسبح في ارتخاء كامل أشبه بالراحة المطلقة، بلا رأس ~~ولا ساقين، كتلة طويلة سوداء يغطيها العشب، يسميه أهل المدينة «ورد النيل»، وريقات ms24 سوداء ~~بلا ورد، تشوبها خضرة موشكة على التلاشي، تتلاصق في جسد واحد، يلمع تحت الضوء كالجثة ~~العارية، وعيناها مشدودتان إليه، الحدقتان تتسعان، تطل منهما مقلتان سوداوان تلمعان في ~~الظلمة، وصوت جدتها يحمله تيار الهواء: «عروس النيل، يزفوها في العيد لإله الفيضان، موتها ~~يحمي البلد من الغرق، وبعد ما بنينا الجسر.» وتدب جدتها بقدمها الكبيرة الحافية على الجسر: ~~«الإله مات، والبنات تعيش يا بنت ابني.» ومن فوق الجسر يلوح لها وجه ابنة عمتها «زهرة» ~~ترتدي جلبابا برتقاليا له كشكشة فوق الصدر، لم يبرز من النهدين إلا برعم صغير، تصحو قبل ~~الفجر مع العصافير، تحمل الزلعة لتملأها من البحر (كان النيل في قريتها يسمونه البحر)، ~~تكنس الزريبة وتجمع من تحت أقدام البهايم الروث، تعجنه على شكل أقراص كبيرة بحجم الرغيف، ~~ترصها تحت الشمس فوق السطح (كانوا يسمونها الجلة)، وفي يوم الخبيز تلقيها مع عيدان ~~الحطب في نار الفرن ... وتعود من الحقل عند الغروب حاملة الزكيبة فوق رأسها، تربط البهايم ~~وتكنس الدار، وتنام بجوار الماعز فوق حصيرة من القش، تنادي الماعز باسم أختها الميتة ~~«عزيزة»، تقول لها كل فجر: صباح الخير يا عزيزة. وتطلق ضحكتها ترن في الصبح كزقزقة عصفور. ~~ترد عليها الماعز بمأمأة كالضحكة. وفي يوم ظلت فيه الماعز صامتة لا تمأمئ، ومكان «زهرة» ~~فوق الحصيرة كان خاليا، والدار غارقة في الصمت، والعيون حين تنظر إليها تتعرج في نظرة غير ~~مستقيمة، وإن نطقت اسم «زهرة» انقطع الكلام أو بدأ الهمس بعد الصمت. وغادرت القرية إلى ~~المدينة لتدخل المدرسة، وذاب وجه «زهرة» في آلاف الوجوه والشوارع والعمارات والأنوار، ~~والميادين الواسعة، والمدرسة، والجامعة، والمظاهرات ضد الحكم والاحتلال، والخطب من فوق ~~المنصة، والصوت الدافئ المليء بالإيمان وحب الله والوطن، والعيون تلتقي، والأيادي تتلامس في ~~ضوء القمر، والثقة مثل النهر تتدفق، والعطاء يصبح كاملا بلا مقابل، والحدقتان السوداوان ~~تتسعان وتتسعان فوق كتلة العشب الميتة، يطل منها وجه «زهرة» بعد أن غاب عنها السنين، كأنما ~~ذاب في العدم منذ كانت في التاسعة، وطفولتها تبدو بعيدة في الزمن ms25 كالدهر، منذ آلاف السنين، ~~منذ خوفو وخفرع ومنقرع وإيزيس وأوزوريس. ويبرز وجه «زهرة» في الضوء كما كان، كأنما لم يغب ~~عنها إلا لحظة، ترى البقعة البيضاء فوق خدها الأيمن ... ووجهها الأسمر الشاحب يتورد بالضحك، ~~والغمازاتان تظهران فوق الخدين البارزين، والبرعمان الصغيران يهتزان تحت الكشكشة ~~البرتقالية، والجلباب الواسع الطويل تشمره (لكنس الدار أو الزريبة)، كاشفة عن ساقين ~~رفيعتين وقدمين صغيرتين حافيتين، يلتف حول الرسغ الأيمن خلخال ثقيل كالحديد، والحدقتان ~~السوداوان اللامعتان تتسعان أكثر وأكثر، كأنما العقل هو الذي يتسع داخل عظام الرأس، ~~وتمسك رأسها بيديها الاثنتين، تمسك الضوء قبل أن ينزلق في خلايا الظلمة، وتقبض على السؤال ~~المجهول بلا جواب الذي عاش معها السنين: راحت فين زهرة؟ وتخلع حذاءها الأسود بلون ليل ~~الزفاف، وتمد قدمها الحافية إلى الماء تشبه قدم «زهرة»، ثقيلة كالحديد بغير خلخال، وتلقي ~~نفسها في النيل، تكاد تغرق في القاع، لولا أن اليد الكبيرة تمتد من حيث لا تدري، تشدها ~~كأنما المياه أو الأرض تنشق عن هذه اليد، تشبه يد أمها أو أبيها أو يدا أخرى لها خمسة أصابع ~~في المدينة، أو كأنما هي المدينة نفسها تصحو من النوم فجأة، وتمد يدها الضخمة تنقذها في ~~اللحظة الأخيرة، سمراء ومعروقة ومشققة تشبه جدتها، وصوتها مليء بالتجاعيد، يسبح مع تيار ~~الهواء الدافئ من الجنوب: «الإله مات، والبنات تعيش.» # القاهرة، نوفمبر 1990 # | عودة المكبوت # جاءت إلى عيادتي فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، اسمها «أمل»، تلميذة بالثانوية. رأت عمها ~~في السرير معها وهي طفلة في الثامنة من عمرها، كان يفعل شيئا لا تعرفه. الذكرى تفزعها، ~~تتوقف عن الكلام، يصنع الصمت حروفا فارغة بلا كلمات. هناك أشياء مجهولة بلا اسم، لم تسمع ~~الكلمة، إن سمعتها لا تفهمها، إن فهمتها لا تستطيع أن تنطقها بصوت مسموع. الذكرى مدفونة في ~~اللاوعي عشر سنوات، حياتها كلها تأثرت بهذه الذكرى، وعلاقتها بالجنس الآخر، وذكرى الألم ~~واللذة معا يذوبان في ذكرى واحدة، الحب والكره، الحنان والقسوة، الحرام والحلال، الطهارة ~~والفجور، الاحترام والاحتقار. لا تستطيع أن تنطق كلمة «عمي ms26 الشيخ» بصوتها أو باللغة ~~المعروفة ، لا بد أن تجد صوتا آخر غير صوتها، ولغة أخرى غير العربية تنطق بها هذه ~~الكلمة. لم تكن تتحدث معي عن ذكرى لشيء ما، كل شيء ضاع من ذاكرتها، لا شيء تبحث عنه، وإن ~~بحثت فهي لا تعرف ما هو. في حفل مولد النبي، رأت بالصدفة في التليفزيون رجلا يرتدي عمامة ~~تشبه عمامة عمها، صوته مبحوح قليلا يشبه صوته، في يده سبحة يهزها بين أصابعه الهزة نفسها ~~للسبحة بين أصابع عمها، فإذا بالذكرى كالعملاق النائم يصحو في أعماقها، لا تستطيع أن تحول ~~بصرها عن ذلك الرجل، كان من عمر عمها، يقرأ القرآن، ويتحدث عن الله والرسول فوق الشاشة، هذه ~~الشاشة حولتها إلى خرقة من الشاش لأكثر من عام. كانت تتبع هذا الرجل من قناة إلى قناة، ومن ~~حديث إلى حديث، ملكها هذا الرجل، هزها بين أصابعه الغليظة الطويلة كما يهز السبحة، يتساقط ~~جسدها بين يديه كما تتساقط الذكريات، تتغير وتتناقض ذكرياتها وهي في الثامنة تناقض ذكرياتها ~~حين كانت في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة. كان لها أب وهي في الثامنة، أب غائب في العمل، أب ~~لم تره إلا كيس نقود، ثم اختفى أبوها لا تعرف أين ذهب، مات أو طلق أمها أو تزوج امرأة ~~أخرى أو فصلوه من العمل أو دخل السجن أو هاجر إلى بلد أخرى يبحث عن عمل، احتمالات واردة ~~كلها، اختفى أبوها فجأة، ولم تفتح أمها الموضوع أبدا، وإن سمعتها تقول: راح مطرح ما راح ~~وخلاص. تربت عليها بأناملها الحنون، تلعب بأصابعها في شعرها حتى تنام. في الليل تصحو، تراها ~~صاحية تمسح دموعها، تسمعها تقول: ما فيش فلوس يا بنتي، لازم أشتغل حاجة، ماعنديش شهادة، ~~أشتغل إيه، غسالة في البيوت؟ بعد سنوات رأت نفسها فتاة في الخامسة عشرة في المدرسة، ولها ~~أستاذ يدرس لها، إنه من دمها، إنه أبوها، تحبه، يتكلمان ليس كالابنة وأبوها ولكن ~~كصديقين، يثق فيها وتثق فيه، تختفي الذكرى عن ذلك الرجل الآخر الذي هو عمها أيضا، أو هي ms27 ~~ليست ابنة أخيه أو ليست الطفلة التي كانت. # الذكريات تنهش بعضها البعض، الرجل الأستاذ في الحاضر يغير مكانه وشكله ويصبح الرجل في ~~الماضي، في لحظة خاطفة ترى الرجل الذي رأته وهي طفلة في الثامنة، ثم تختفي اللحظة، ويعود ~~الرجل الأستاذ إلى جوارها: العمامة حول الرأس هي العمامة، الأصابع الغليظة الطويلة تهز ~~السبحة، الوجه نفسه، وإن كان لون البشرة يميل إلى السمرة قليلا. ذكرياتها تتزاحم فوق هذا ~~الوجه، ولا تعرف الماضي من الحاضر، ولا الحقيقة من الخيال. تبدو الحقيقة فقط هي اللحظة التي ~~تركز فيها عقلها أو عينيها على الوجه أمامها، تذكر عمها حين كان يضحك وهي في الثامنة من ~~العمر، ضحكته تملأ الكون بالشمس، والدنيا كلها كانت تضحك وهي في الثامنة. والكل يقول عمها ~~رجل فاضل، وأمها كانت مرحة جميلة يقولون عنها كالقمر. وفي الليل رأتها تبكي، وسمعتها تقول ~~لعمها: ما فيش فلوس عشان أدفع مصاريف أمل. عمها جاء إلى البيت بعد اختفاء أبيها، لم تعد ~~تسمع أمها تضحك. عمها يقهقه بصوت عال، يرمقها بنظرة غريبة، تصورت أنه يريد موتها حتى لا ~~يدفع لها مصاريف المدرسة. في الليل سمعته يقول لأمها: المدرسة فايدتها إيه، «أمل» ممكن ~~تشتغل. تلك الليلة سمعت صراخ أمها، وصفعات وركلات، أكانت تضربه؟ أكان يضربها؟ لم تعرف. في ~~الصباح رأت عيني أمها وارمتين، رأسها مربوط بمنديل أسود، ولم تفتح أمها الموضوع أبدا، وإن ~~سألتها تقول: ضل راجل ولا ضل حيطة. أصبحت هذه العبارة تتردد على لسان أمها كلما رأتها ~~تبكي، متى إذن حدث الشيء بين الطفلة وعمها؟! أكانت الصورة من خيالها؟ أكانت هي رغبتها في ~~عمها وهي غيرتها على أمها أو من أمها؟ لم تعرف. هي تحاول أن تمسك الخيط دون جدوى، تنزلق ~~الصور من ذاكرتها كالزئبق، ويموت عمها في المستشفى وهي في المدرسة، تعود لتجد البيت مملوءا ~~بالرجال والنساء من الأقارب، يتجمعون في البيت، عمرها ستة عشر عاما. بعد دفن عمها، تسمعهم ~~في الصالة يتحدثون، أصواتهم عالية تملأ الكون، ذكرياتهم تتدفق بعد موته، بعد الموت تتحرر ms28 ~~الذكريات الدفينة، تتغير، تتناقض، والحاضر يبدو كالحلم، والماضي يعود حقيقة، وتسمع صوتا ~~يقول: عمك كان فاسدا. تمسك حقيبة كتبها تضرب بها رأس خالتها، يمسكها زوج خالتها ويضربها ~~بكفه الغليظة، تضربه بقبضة يدها في بطنه، أسفل بطنه، في عضوه الذكري، يتطاير السباب من ~~الأفواه حتى يسمعه الجيران: عمك كان فاسدا، اخرس قطع لسانك! تمسك السكين لزوج خالتها: ~~حاقطع لسانك بالسكين! زوجته تمسكها، تحول بينها وبينه: عيب يا بنتي ده زي عمك! تنفجر ~~كالبركان: كان يلعن عمي مطرح ما راح! تضع عمتها شقيقة عمها يدها فوق فمها: اسكتي يا بنتي، ~~عمك كان راجل طيب، أمك هي الشريرة! تنفجر خالتها الكبيرة شقيقة أمها: أمك ست طيبة، أبوك ~~وعمك هما الأشرار! # وتنقسم عائلتها إلى قسمين، قسم مع أمها ضد عمها، وقسم مع عمها ضد أمها، الدم ينزف من ~~أنفها بعد ضربة الكف الغليظة، تتحسس جسمها، لا شيء ينزف إلا أنفها، جسدها سليم، لكن عقلها ~~مريض، عائلتها مريضة. كلمة العائلة يلوكها عقلها، العائلة وهم كبير، بيت العائلة هو بيت ~~الأوهام. هو مكان الذكريات المحطمة. يدب فيه الصمت بعد تناثر السباب، كالرماد بعد سقوط ~~البيت إثر زلزال. # في أحلامها ترى نفسها طفلة تلعب مع الأطفال في المدرسة، ويأتي عمها داخل قفطانه الحريري ~~الأبيض، يضحك ويأخذها معه إلى البيت، يحوطها بذراعيه، يطعمها قطعة من الحلوى الطحينية. ~~رائحة الحلوى الطحينية تسري في جسدها، يحكي لها قصة الشاطر حسن وهي تأكل الحلاوة الطحينية، ~~يهدهدها فوق صدره حتى تنام. في الحلم يتحول عنها إلى رجل غريب، يشبه المدرس الأستاذ، يمسك ~~في يده شيئا صلبا مثل العصا، يضربها بين فخذيها، يدخل العصا في فتحة الشرج أو الفتحة الأخرى، ~~لا تعرف هذي من تلك، أيكون هو المدرس، الأستاذ؟ تختلط صورة المدرس بصورة العم، يتحول العم ~~إلى المدرس وتتحول العصا إلى ثعبان يلدغها بين فخذيها، يسقط الثعبان من السماء، ثم يتحول ~~ليصبح من جديد، تبكي بالدموع وتطلب منه إنقاذها، تقترب منه بحذر مملوء بالخوف، تخشى إن ~~لامسته بيدها أن يتحول إلى ثعبان مرة ms29 أخرى، يتغير الحلم، وترى نفسها جالسة في المدرسة، ~~أمامها ورقة الأسئلة في الامتحان، لا تعرف الإجابة على أي سؤال، تبكي حتى تبلل دموعها ورقة ~~الامتحان، يذوب الحبر الأسود ولا ترى الأسئلة، ترى التلميذات والتلاميذ يكتبون الإجابة ~~بسرعة شديدة، والمدرسون يجرون وراءها في الحوش في يد كل منهم العصا، تتحول العصي إلى ~~ثعابين، كما كان يحدث أمام فرعون، لا تعرف هل هو حلم أم ذكرى حقيقية في الماضي، لقد أصبح ~~الحلم نفسه مجرد ذكرى. لولا ذلك الرجل في التليفزيون، ما إن تراه فوق الشاشة حتى يهب ~~العملاق النائم في أعماقها، تصحو اللذة والألم معا، والفضيلة والرذيلة، تفعل بنفسها ما ~~فعله عمها فيها، ثم تسقط من الإعياء والندم والشعور بالإثم، ويتكرر ذلك كل يوم، حتى فكرت ~~في الانتحار، لكنها لم تعرف كيف تموت، فالموت يحتاج إلى معرفة، وإلى شيء من المال. لا تعرف ~~نوع السم الذي يقتل بني آدم، سمعت عن سم الفئران، فهل سم الفئران يقتل البني آدم؟ ولم يكن ~~معها ثمن السم لتشتريه من الصيدلية. وفي يوم وأنا أتمشى على كورنيش النيل رأيتها جالسة على ~~الشط بالقرب من المياه، تحملق في قاع النهر، عيناها مشدودتان إلى الموت، لم أستطع أن أحرك ~~رأسي بعيدا عنها، هذه الملامح رأيتها كثيرا من قبل، هاتان العينان الفانيتان المشدودتان ~~إلى الفناء، هذه البشرة السمراء بلون طمي النيل، والوجه النحيل الشاحب الخالي من الدم. ~~تذكرت شلبية الخادمة في بيت المرحوم جدي، ومسعودة الفتاة الريفية في عيادتي بالقرية، وسوسن ~~في مستشفى القصر العيني القديم تراسلني من الإسكندرية من أربعين عاما، والعديد من الرسائل ~~والحالات التي كانت تتدفق على عيادتي أو مكتبي بمجلة الصحة أو مجلة نون، أو تأتيني بالبريد ~~أو عبر أسلاك التليفون. # استدارت الفتاة ورأتني واقفة لا أتحرك، تعرفت على ملامحي، ورأت صورتي فوق غلاف كتاب، أو ~~تحت مقال أو قصة. اندفعت نحوي كالابنة تعثر على الأم الغائبة وقالت: الذكريات تقودني إلى ~~شارع مظلم مسدود أو قاع النيل. قلت: ذكرياتك كنز يا أمل، خلف هذه الذكريات ms30 في أعماقك فتاة ~~ترقبك، ليست هي التي ترغب في الانتحار الآن، ولكن فتاة أخرى عملاقة مدفونة في سراديب العقل، ~~أكثر نضجا، أكثر أملا، هذا الأمل قادر على تحويل الماضي إلى حاضر، والحاضر إلى ماض، ~~وتحويل الحزن القديم إلى فرح جديد. ابتسمت الفتاة وقالت: أريد أن أعيش، ولا أعرف كيف؟ ~~سألتها: ماذا تحبين أن تكوني؟! قالت: كاتبة مثلك، أنا أحب الكتابة. وأخرجت من جيبها رسالة ~~كتبتها للعالم قبل أن تموت، تبدأ كالآتي: أيها العالم المزدوج الوجه مثل المرحوم عمي، اذهب ~~إلى الجحيم، فقد نزعت عنك القناع! # أصبحت أشجعها على الكتابة والقراءة، اشتريت لها الكتب، أهديتها كتبي، واصلت دراستها ~~وتخرجت، أخذتها من يدها إلى رؤساء تحرير الصحف والمجلات. هذه الفتاة اليوم في الرابعة ~~والثلاثين من عمرها، أصبحت صحفية معروفة، أتتبع كتاباتها وأشعر بالفرح، كمن يرى الشجرة ~~الفارعة تنمو من بذرة صغيرة غرسها في الأرض، وأنا في المنفى خارج الوطن، أرسلت إلي ~~بالبريد رسالة طويلة قالت فيها: يا أمي، يا صديقتي، يا أستاذتي. دموعي تجري فوق وجهي وأنا ~~أكتب لك، أربعة أعوام مضت وأنت في المنفى، والنفي نوع من القتل. ستة عشر عاما مضت منذ ~~التقينا، كان يمكن أن أكون جثة في قاع النيل، أمسكت يدي وسرت بي إلى الحياة، فتحت عيني على ~~أشياء لم أعرفها، لم ينطقها أحد قبلك، أصبحت أنطقها وأكتبها وأعطيها أسماء. الذكريات ~~الأليمة راحت، واليأس راح، أصبحت «أمل» التي كانت مختفية في سراديب العقل، أحزاني القديمة ~~أصبحت ثروة من الذكريات، تسري فوق الورق كالذهب السائل، ألهذا أحببت ذكرياتي؟ متى تعودين ~~لأستقبلك في المطار؟ أتمنى عودتك، فالوطن يحتاج إليك، والخطر على حياتك زال أو في طريقه إلى ~~الزوال. # في مطار القاهرة عند عودتي لم أجد وجهها بين الوجوه، مضت الأيام والشهور دون أن تزورني أو ~~تطلبني في التليفون. أتكون مريضة؟ سألت عنها في الجريدة الكبيرة التي تعمل بها، لم تكن ~~مريضة، كانت مشغولة بإصدار مجلة جديدة لتحرير النساء، أصبحت نائبة رئيسة التحرير. بالصدفة ~~رأيت العدد الأول وأنا أمشي في الشارع ms31، لفت نظري العنوان: تحرير المرأة في القرن الواحد ~~والعشرين. الغلاف ملون عليه صورة راقصة معروفة تلعب أدوار الإغراء. صورة رئيس التحرير في ~~الصفحة الأولى، الأستاذ الدكتور رائد تحرير المرأة. الافتتاحية بقلم نائبة رئيس التحرير، ~~تقول فيها: في المدرسة الثانوية، لم أعرف شيئا عن قضية المرأة، ثم وقع في يدي بالصدفة ~~كتاب لسيمون دي بوفوار، هذه المرأة العظيمة التي فتحت عيني على الحياة. # رغم الألم، شعرت بالفرح يغمرني، كما تفرح الأم بابنتها أو ابنها، يرضع الطفل من ثدي أمه، ~~بعد أن يشبع يلفظ الحلمة من فمه أو يعضها. تفتح الأم فم الطفل لترى أسنانه اللبنية، تطلق ~~زغرودة الفرح، وألم العضة في صدرها، وهكذا ظلت «أمل» الطفلة تعض أمها وتحب عمها. # في هذه الحالات قد لا يكون الشفاء كاملا، قد تحدث انتكاسة، تتكرر التجربة، ويتحول عمها ~~إلى رئيسها في العمل، وهذا أمر شائع بين الرجال، ينجذب الواحد منهم بعد الخمسين أو الستين ~~إلى الأطفال البنات، يعود العجوز طفلا في حاجة إلى حفيده، وتنجذب البنات الصغيرات إلى ~~الرجال العجائز؛ لأن المكبوت من الذكريات لا بد أن يعود. # القاهرة، أبريل 1997 # | صديقتان # اللمعة في النني الأسود لا زالت كما كانت منذ ثلاثين عاما، قوية مقتحمة كضوء النهار، ~~وذراعها ارتفعت بغير إرادتها، عضلات الذراع تتقلص مترددة بين العناق الكامل أو ترك مسافة ~~هواء، أية مسافة وإن كانت ميلليمتر، تمنع تلامس الصدر بالصدر. # صدرها لا زال كما كان منذ ثلاثين عاما، ومن فوقه الوشم كزهرة البنفسج، والنهدان الصغيران ~~تحت الثوب الأبيض عضلاتهما مشدودة منتصبة متحفزة للعطاء بغير مقابل، وقلبها مفتوح كفتاة ~~ساذجة وبراءة طفلة لم يلمسها رجل، ولم تحمل ولم تلد ثلاث مرات، وابنها الأكبر أصبح رجلا، ~~وابنتها الصغرى لها طفلان. # ثلاثون عاما مضت دون أن تلتقيا، وإذا لمحتها في مكان وكادت العيون تلتقي، حركت رأسها ~~إلى الناحية الأخرى لتبتعد العين عن العين. ولم يكن اليوم الواحد يمر دون أن تراها أو ترفع ~~سماعة التليفون لتحكي لها ما حدث في نهارها وليلها. وفي أيام الدراسة لم تكن ms32 الساعة الواحدة ~~تمر دون أن تلصق رأسها برأسها وتهمس بآخر خبر، أو فكرة شيطانية، أو مجرد نكتة. وتضحكان بصوت ~~مكتوم حتى ينتفخ صدرهما بالهواء، وتوشكان على الاختناق، فيندفع الهواء المحبوس من الأنف ~~والفم بغير إرادتهما على شكل شهقات متقطعة، فإذا بالمدرس يتوقف عن حركته الدائبة كالبندول ~~أمام السبورة، وبإصبع نحيل كإصبع الطباشير يطردهما خارج الفصل. وفي الإجازات الصيفية لا ~~يكون الصيف مصيفا، ولا السفر سفرا، إلا إذا جاءت معها صديقتها، والبحر والرمل والبيت ~~والمدرسة والشارع والدنيا كلها بغير صديقتها تفقد البهجة، والحياة تبدو مملة بلا فرح، وليس ~~بينها وبينهم كلام ولا حديث، ولا يعرفون عنها شيئا إلا نتيجة امتحان آخر العام. واستدارة ~~جسمها وهو ينمو، والنهدان يكبران ويكبران، ليصبح صدرها بحجم صدر أمها، ومن تحت صدرها الضخم، ~~لا يعلم أحد منهم أن عضلة صغيرة بحجم قبضة يدها تدق وتدق، إذا وقعت عيناها من خلال ثقوب ~~النافذة على الوجه الطويل، بأنفه الحاد والشارب الكثيف الأسود. ولا يمكن أن يسري اسمه على ~~لسانها، وأمها تتنهد في راحة وأذنها ملتصقة بباب غرفتها المغلق عليها وصديقتها، فلا يمكن أن ~~تلتقط أذنها من ثقب الباب اسم رجل يتردد بينهما، وإنما هي كلها أسماء مؤنثة، وفي نهاية كل ~~اسم يترهف أذنيها حتى الحرف الأخير، فإذا بالتاء المربوطة في نهاية كل اسم تجعل أمين أمينة ~~أو نبيل نبيلة، حتى نهاية الحديث الذي لا نهاية له لآخر النهار، وآخر العام، والعام الأخير ~~في الدراسة والامتحان النهائي، ثم التخرج. ويوم عقد القران، تنفصل التاء المربوطة فجأة ~~عن الحرف الأخير، ويصبح الاسم مذكرا. # ذراعها لا زالت مرفوعة بغير إرادتها، وعضلات الذراع متقلصة متمردة بين التلامس الكامل أو ~~ترك مسافة بين الصدرين. صدرها كبير ضخم متهدل تحت ثوب الحداد الأسود كصدر أمها الكبير، ~~أرضعتها منه وإخوتها السبعة، ولم يفرغ ولم ينقص، بل كان يمتلئ أكثر. وكراهيتها لأمها تزداد، ~~ومنذ فطمتها أمها لم يحدث أبدا أن تلامس صدرها مع صدر أمها في عناق، وإن سافرت ثم عادت، ~~فلا يزيد العناق عن تلامس ms33 اليد باليد أو ترتفع لتحوطها دون التصاق، ولتظل دائما مسافة هواء ~~تفصل بينها وبين أمها، وفي الهواء تسبح ذرات بلون التراب. وفي أذنيها يسري الصوت الناعم ~~كصوت أبيها، يزحف فوق عنقه الضخم، ثم تتسلق لتمسك شاربه الكثيف، تفوح منه رائحة الدخان، ~~ومن خدها يقرصها فتضحك، من شاربه تشده فيقهقه، كاشفا عن أسنان صفراء بالتبغ، وترفع أمها ~~عينيها وهي تكنس الأرض على امتداد مسافة الهواء، تسبح فيها ذرات الغبار، وفوق عينيها طبقة ~~رمادية ويهمس الأب في أذنها بصوت ناعم: «أمك تغار منك.» وبغشاء أذنيها المخاطي يلتحم الصوت، ~~وتسري الحروف في عروقها كرات من الدم، تتحول في خلايا المخ إلى فكرة ثابتة كقطعة من الرصاص: ~~«أمها تنافسها، وهي والمرأة غريمتان.» # ومات أبوها قبل أمها، فأيقنت أن أمها قتلته، وامتلأت عيناها بنظرة الإدانة لها دون سؤال ~~ودون كلام. حتى النفس الأخير، وهو يخرج من صدر أمها الكبير، وذراعها ترتفع لتحوطها في ~~العناق الأخير دون تلامس، وقبل أن ينسدل الجفن فوق العين إلى الأبد، رفعت إليها أمها عينيها ~~بحدقتين متسعتين، وفي نظرتها المتسعة دون كلام أدركت حقيقتها المكتشفة بعد فوات الأوان، ~~والجفن سقط فوق العين إلى الأبد، وعضلات ذراعها تستميت في الالتفات حول صدر أمها، دون مسافة ~~هواء. لكن المسافة لم تعد هواء، وأصبح لها كثافة الحائط في غرفة أمها تلاشي طلاؤه، وظهرت ~~قطع الطوب الواحد فوق الأخرى، ومن فوقها صورة أبيها، يرتدي فوق رأسه شيئا كبيرا بحجم رأس ~~آخر، وفوق كل كتف انتفاخة بحجم كتف آخر. وفي كل عين من عينيه المبتسمتين في رقة وعين أخرى ~~بغير ابتسام وبغير رقة. # ذراعها المرفوعة لا زالت تلتف حولها في محاولة يائسة للعناق، وإلغاء المسافة بين الصدرين، ~~والصدر الآخر منتصب مشدود العضلات، وقلبها مفتوح متحفز للعطاء. لكن صدرها كبير متهدل ممتلئ ~~بالذنب، ثقيل بثقل الأرض، وثلاثون عاما عاشتها وهي تكره أمها، والصدر الكبير الذي ورثته ~~عنها، والكراهية امتدت من صدرها إلى كل جسمها، ولم تعد تصدق أن رجلا يمكن أن يحبها بمثل ما ~~أحبها أبوها. وتزوجت ms34 بعد موت أبيها من رجل أخفته في صدرها العام وراء العام. وبعد القران ~~سقطت عنه تاء التأنيث المربوطة، فوق صدره المغطى بالشعر تتكور كالجنين، وتزحف برأسها فوق ~~عنقه لتشد شاربه وتضحك. ولم تسمعه أبدا يضحك أو حتى يبتسم، وأنجبت منه أربعة أولاد وبنتا، ~~بغير ابتسام وبغير فرح وبغير لذة، حتى لذة الأكل راحت، ورائحة الصبح راحت، ولم يعد في ~~أنفها إلا رائحة التراب وهي تكنس الأرض. ومن فوق الكنبة ابنتها الصغيرة تتأرجح على ركبته، ~~ويصنع من نفسه حمارا لتركبه، وعبر شعاع الشمس المحمل بذرات الغبار تلتقي عيناها بعيونهما ~~الأربعة، فيتوقف الضحك ويضيع الابتسام، ويطفو فوق العيون الستة لون رمادي. # منذ ليلة الزفاف وهي تكرهه، وابنها الأول كبر، وهي لا تزال تغسل ظهره بالليفة والصابون، ~~والشعر الكثيف ينبت كالعشب فوق صدره، وكلما خرج وعاد تحوطه بذراعها، وصدرها الممتلئ الكبير ~~يحوط صدره. وفي أذنيها يسري صوت أبيه الغليظ: لم يعد طفلا، وأصبح بغلا. ويرد الابن بصوت ~~مكتوم: ليس بغلا إلا أنت. # وتنتصب الشعرات البيض فوق الشفة العليا، كاشفة عن أسنان متآكلة صفراء بالتبغ، وترتفع ~~الكف الكبيرة في الهواء مترددة بين السقوط على وجه الابن أو وجه أمه. وقبل أن يزحف الشيب ~~إلى الشعر الأسود كانت الكف تسقط على وجه الطفل، لكن الطفل أصبح رجلا، وارتفعت قامته ضعف ~~قامة أبيه، ولم تعد الكف الكبيرة تتردد في السقوط على وجه الأم. # في كل صفعة، كانت يدها ترتفع في الهواء، متقلصة العضلات مترددة بين السقوط على وجهه أو ~~على وجه واحد من أولادها الأربعة أو البنت الصغيرة، وفي مرة لم تكن يدها تسقط إلا على وجه ~~البنت، فهي الأصغر، وهي الأضعف، وهي فوق كل ذلك ليست إلا بنتا. وفي الليل تنام إلى جواره ~~وكأن شيئا لم يحدث، ويمتد ذراعه نحوها ليحوطها وكأن شيئا لم يحدث، وفي الصباح تصنع له ~~الشاي وكأن شيئا لم يحدث، ويخرج إلى عمله كالعادة ثم يعود بعد الظهر، وتخرج إلى عملها ~~كالعادة ثم تعود قبل أن يعود ليجدها قد كنست وغسلت ms35 وطبخت. # لا زالت ذراعها تمتد لتحوط الصدرين معا، وعضلاتها تتقلص عاجزة عن إلغاء مسافة الهواء بين ~~الصدر والصدر، والعين عاجزة عن الثبات في العين، لكن كانت اللمعة في النني الأسود لا زالت ~~قوية مقتحمة كضوء النهار، كما كانت منذ ثلاثين عاما. وحول العينين والفم خطوط في الجلد ~~كالتجاعيد، لكن الوجه لا زال مشدودا كالوتر، والصدر ينبض تحت ذراعها كالقلب، وسخونة كفورة ~~الشباب تسري كالعدوى في الدم من ذراعها إلى كتفها وظهرها، وكل عضلات جسمها تنبض وتنفض عن ~~نفسها العام وراء العام. ثلاثون عاما تنفضها لتعود كما كانت تلميذة بالفصل، والوجع المزمن ~~في مؤخرة الرأس يخف، وثقل جسمها فوق الأرض يخف، وثقل رأسها فوق عنقها، وثقل عنقها فوق ~~ظهرها، وثقل صدرها فوق قلبها، وكل شيء فيها يصبح أقل وزنا، حتى النهدان الكبيران الضاغطان ~~على المعدة يصغران، وينهضان من فوق الضلوع بعضلات مشدودة، وقنوات الهواء المسدودة في القلب ~~تتفتح، ويندفع الهواء من أنفها وفمها إلى صدرها كالشهقات المتقطعة. وذراعها لا زالت تمتد ~~أكثر، وعضلاتها تتقلص، في محاولة يائسة لإلغاء المسافة. والفكرة الثابتة في المخ مثل كرة ~~النحاس، وكل شيء في حياتها تغير إلا هذه الفكرة. جسمها تغير، ملامح وجهها ولون عينيها ~~تغيرت، شكل عضلاتها وحركتها فوق الأرض، والأرض أيضا تغيرت، وخلايا المخ تحت عظام رأسها ~~تغيرت بخلايا أخرى، إلا هذه الفكرة ظلت مثل كرة النحاس بحجم رأس الدبوس، تتحرك قليلا من ~~مؤخرة الرأس إلى الأمام، أو من اليسار إلى اليمين، أو من اليمين إلى اليسار، لكنها تظل كما ~~هي لا تتغير. # ذراعها لا تزال مرفوعة تحوطها، ومسافة من الهواء لا تزيد عن الملليمتر لا تزال تفصل بين ~~الصدر والصدر، ورأسها يزحف فوق العنق النحيل، والنبض فيه يدق كقلب الأم، ويسري الدم من ~~عنقها إلى ظهرها وعمودها الفقري، ويصعد مرة أخرى إلى رأسها، ليصطدم بكرة النحاس الصدئة، ~~وتمتد أنفها فوق العنق تتشمم رائحة الدخان، وتكاد يدها تمتد لتشد الشارب فوق الشفة العليا، ~~لكن أصابعها تتقلص فوق البشرة الناعمة بغير شعر، ورائحة البنفسج تملأ ms36 صدرها بغير دخان، ومن ~~فوق ذراعها الممدودة ترى الحائط بغير طلاء، ومن فوقه وجه أبيها داخل برواز أسود، وخط عميق ~~كالخندق على الجبهة العريضة، ومن تحت الخندق عيناه تحدقان فيها كعيني زوجها، وثلاثون عاما ~~عاشتها معه في سرير واحد دون أن ترى عينيه، وتمر السنة وراء السنة والليل وراء النهار دون ~~أن تنظر في وجهه، تخرج في الصباح إلى العمل كالعادة بعد أن يخرج وتعود آخر النهار قبل أن ~~يعود، فتكنس كالعادة، وتغسل وتطبخ. # وعلى غير العادة، عادت مرة من عملها قبل موعدها، فوجدته في سريرها وذراعه حول امرأة أخرى. ~~ظهره كان ناحيتها، فلم تر وجهه، وفي مواجهتها صدر المرأة الأخرى، النهدان الصغيران عضلاتهما ~~مشدودة منتصبة متحفزة بغير مقابل، ووشم بشكل زهرة البنفسج فوق الصدر والقلب. # عضلات ذراعها لا تزال تتقلص، في محاولة مستميتة لإلغاء الصورة المحفورة في مؤخرة الرأس، ~~والزمن كالسحابة السوداء فوق عصب العين، والألم كالخندق العميق في القلب، وزوجها غاب ثم ~~مات وعاد. ومن فوقه ملاءة كحجاب المرأة، تغطيه من الرأس إلى القدم، وعيناه فوق الحائط ~~تحدقان فيها بغير ابتسام كعيني أبيها. وعلى الجبهة العريضة خط عميق كالخندق، ولا زالت ~~ذراعها تلتف في محاولة أخيرة للعناق، ومسافة من الهواء لا تزال بين الصدر والصدر، والهواء ~~له كثافة الحائط، وفي الحائط شق عميق كالجرح. لكن اللمعة في النني الأسود لا زالت قوية ~~مقتحمة كضوء النهار، وفوق صدرها الوشم كزهرة البنفسج، وقلبها مفتوح متحفز للعطاء بغير ~~مقابل، والدم يندفع من القلب إلى الرأس، وفي اندفاعة الدم تنفصل قطعة الصدأ عن خلايا المخ، ~~ويغسلها الدم. ومن فوق عصب العين يذوب الزمن كالغلالة، ويغسله الدمع، والصدر يحوطه الصدر ~~بلا مسافة، والرأس يلتصق بالرأس كأيام الدراسة، وأنفاسهما مكتومة حتى ينتفخ صدراهما بالهواء ~~وتوشكان على الاختناق، ويندفع الهواء المحبوس من فتحات الأنف والفم بغير إرادتهما على شكل ~~شهقات متقطعة. كطفلتين تضحكان وتبكيان، وترمقها الحدقة المفتوحة في شق الحائط، فيغلب ~~الضحك على البكاء. # القاهرة 1982 # | بيوتيفول # عاد إلى بيته تلك الليلة فلم يجدها في السرير ms37. كل ليلة منذ أن اشتغل في الشركة الجديدة ~~وهو يعود بعد أن تنام، ويخرج في الصباح قبل أن تصحو. وقد تركها ذلك الصباح نائمة كعادتها، ~~تشغل الجزء الملاصق للحائط من السرير، متكورة تحت الملاءة على شكل ارتفاعة بيضاء. # ظل واقفا يحملق في الظلام، والسرير العريض ظل مستويا كالأرض، كأنما لم يرتفع ~~أبدا. # سار بخطوات بطيئة نحو المرآة كعادته كلما حلت به مأساة، وأطل عليه من المرآة وجه نحيل ~~طويل كوجه أبيه، وظهره أيضا أصبحت له انحناءة لم تكن موجودة في الصباح. لكن الصباح يبدو له ~~كأنما مضى منذ عام أو عشرة أعوام أو عشرين وأكثر، ومنذ ذلك الزمن البعيد لم يقف أمام ~~المرآة. وصورته الأخيرة عن نفسه أنه كان شابا، مشدود الجسم والعضلات، ورأسه مرفوع، وظهره ~~مستقيم، وذراعاه حين يضمهما يحوطان الكون، وفي الليل يحوطها كأنها الكون. # كانت معه في الشركة نفسها في مصر القديمة، والحياة أمامهما مساحة هائلة من الضوء ~~البرتقالي بلون الشمس، وذراعاه حين يضمها يحوطان الكون. يملك الكون ويملكها حين يحوطها، ~~ولذة الامتلاك فوق لسانه لها طعم لاسع ووجود مادي. # لم يكن يمتلك شيئا إلا الكون وهي، وحين مات أبوه لم يرث إلا صورته داخل إطار، محفورة في ~~رأسه ومعلقة فوق الجدار، وأبوه داخل الصورة واقفا يتسلم الوسام، مرتديا زي الحفلات، يده ~~ممدودة بامتداد ذراعه، ورأسه محني بانحناءة ظهره. # لم يكن رأى أباه من قبل منحنيا، كان حين يقف يراه طويلا شامخا مشدود الظهر، ورأسه ~~مرفوع. وحين كان زملاؤه في المدرسة يتباهون بأسماء آبائهم وأملاكهم، كان هو يتباهى بأن له ~~أبا لم يعرف رأسه ولا ظهره الانحناءة لأحد. # ولم يكن زملاؤه في ذلك الزمن البعيد يتباهون بأمهاتهم، ولا يذكر الواحد منهم اسم أمه. ~~لكنه في أعماقه كان يتباهى بأمه، فهي لم تعرف من الرجال إلا أباه، ولم تكف عن العمل والحركة ~~إلا محمولة في النعش، وصوتها كالهمس لا يعلو، وخطوتها على الأرض لا يسمع منها إلا حفيف ~~الثوب، وإن عطست بصوت مسموع سدت أنفها بكفها وطلبت المغفرة ms38. # وماتت أمه كأبيه وهي واقفة ، ولم تكن تنام، وإذا نامت لا تشغل فوق السرير إلا مساحة صغيرة ~~ملاصقة للجدار بحجم جسمها، وحين يعود أبوه تنهض، ولا تنام حتى ينام، ولم تمت أيضا حتى مات، ~~جمعت ملابسه ووضعتها في صندوق خشبي تحت السرير، وفي قاع الصندوق وضعت بدلة الحفلات والوسام ~~مشبوك في صدرها، وكرات النفتالين البيضاء الصغيرة من حولها. # أغمض عينيه ثم فتحهما، واكتشف أنه لا زال واقفا أمام المرآة، وأنه يرتدي بدلة حفلات ~~تشبه بدلة أبيه، ومن فوق صدره قرص يلمع كالوسام، لكن وجهه شاحب كوجه أبيه حين مات، ومن خلفه ~~السرير العريض لا زال مستويا كالأرض، كأنما لم يرتفع أبدا، كأنما لم تنم فيه زوجته أبدا. ~~وكانت تنام كل ليلة على جنبها الأيمن، فيصبح ظهرها له ووجهها للحائط، تتكور حول صدرها، وتضم ~~ساقيها حول بطنها، ورأسها أيضا تغطيه، فلا يظهر منها شيء. # جسمها وهي نائمة كان يؤكد له إخلاصها الأبدي، ويملؤه بالثقة في نفسه، ويكاد يتباهى بها في ~~أعماقه، بمثل ما يتباهى بأمه، لولا ما حدث. # أغمض عينيه وهو واقف أمام المرآة، وتلاشت من رأسه صورتها، ونسي ما حدث، لكنه عاد وتذكره، ~~ثم نسيه، مئات المرات، آلاف المرات. يتذكر ثم ينسى، ثم يتذكر. ويراها أمامه، ليست ~~نائمة في السرير، وإنما جالسة، ليس معه، ليس مع أخيها أو أبيها أو أي رجل من الأسرة أو الحي ~~أو حتى البلد، وإنما مع رجل أجنبي، أجنبي تماما، ولا يعرف من العربية كلمة واحدة. # لم تكن تحب ثوبها الأحمر النايلون، وتفضل عليه الثوب القطني الأزرق بلون السماء، بنقوشه ~~البيضاء على شكل زهرة الياسمين، وهو ثوب لم تكن ترتديه إلا له، وفي عينيها لمعة لم تعرفها ~~عيناها إلا معه قبل الزفاف. وبعد الزفاف ظلت اللمعة في عينيها تروح وتجيء، ثم راحت. ولم ~~يعرف كيف راحت، ولكنها منذ راحت وهو يتوجس، وشيء كالوسواس يجيء ويروح ثم يجيء. وما إن ~~يلحظ اللمعة تعود إلى عينيها حتى يتلفت حوله، فإذا لمح نافذة مفتوحة أو نصف مفتوحة تصور ms39 أن ~~وراءها رجلا. # كان لا يزال في الشقة الصغيرة في مصر القديمة، وبيوت الناس متلاصقة، ونوافذ الجيران تظل ~~طول النهار مغلقة أو مفتوحة، إلا نافذة واحدة كانت تظل نصف مفتوحة أو نصف مغلقة، والشيش ~~متآكل قديم. والوجه الذي يطل من ورائه متآكل قديم، لكنه وجه رجل، والرجل في نظره لا يقف في ~~النافذة إلا ليطل على امرأة. # ولم تكن هي تقف في النافذة إلا يوم الإجازة، وهو يوم واحد في الأسبوع، لا تذهب فيه إلى ~~الشركة، وكانت النافذة صغيرة زجاجها مكسور وخشبها مسدود، والجدران من حولها تمنع الشمس إلا ~~شعاعا رفيعا يتسلل قبل الغروب، يسقط على الجدار قرب حافة النافذة، ويداها حين تمدهما يلسعها ~~الشعاع قبل أن يختفي، وفي الشتاء يصبح الشعاع دافئا برتقاليا. وينعكس الضوء في عينيها ~~كاللمعة، وحين يرى اللمعة في عينيها يتلفت حوله متوجسا، ولا يرى الشمس ولا الشعاع، ولا يرى ~~إلا تلك النافذة النصف مفتوحة أو النصف مغلقة، ولا يتصور أنها تظل بهذا الشكل إلا لتسمح ~~لصاحبها بالرؤية دون أن يراه أحد. # وكان صوته كصوت أبيه، يرتفع عاليا حين يغضب لأقل شيء، ولم يكن يغضبه منها شيء، فهي كأمه ~~لا تكف عن العمل خارج البيت وداخل البيت، وحركتها كأمه بغير صوت، وصوتها كالهمس لا يعلو، ~~وإذا ارتفع صوته حين يغضب تظل صامتة لا ترد. ولم يكن يغضبه سوى أن يراها واقفة في النافذة، ~~وفي أعماقه يعرف أنها مثل أمه ولا تعرف من الرجال إلا هو، لكنه كأبيه لم يعرف الحب بغير شك، ~~ولا يتصور امرأة تقف في النافذة فلا ترى إلا الشمس. # وضربها مرة لتغلق النافذة فأغلقتها، ودار الأسبوع وجاء يوم الإجازة ورآها تفتحها، فعاد ~~وضربها أشد من المرة السابقة، وكان يظن أن شدة الضرب من شدة الغيرة، وشدة الغيرة من شدة ~~الحب، وعليها أن تغتبط كأمه حين كان يضربها أبوه، لكنها لم تكن تغتبط. # ولم تغتبط حين اشترى لها الثوب النايلون اللامع، وظلت تفضل ثوبها القطني القديم، ~~وحين انتقل إلى شقة المعادي الواسعة لم يرها ms40 مغتبطة، وحين تضاعف مرتبه وأبقاها في البيت لم ~~تغتبط، وحين جاء عم عثمان ولم تعد تطبخ ولا تغسل ولا تمسح، لم تظهر عليها علامات الاغتباط ~~أو الراحة. # فتح عينيه واكتشف أنه لا زال واقفا أمام المرآة، وجهه نحيل طويل كوجه أبيه، وانحناءة ~~الظهر ذاتها، وبدلة الحفلات تشبه بدلة أبيه، ومن فوق صدره قرص مستدير يلمع كالوسام، لكنه ~~ليس معدنيا، وإنما من القطيفة الخضراء، تلمع عليها حروف بيضاء من النايلون: ~~ترانزناشيونال. # بدت الحروف غريبة، مكتوبة بلغة أجنبية، كأنما لم يرها من قبل، وكأنما يكتشف «البادچ» لأول ~~مرة فوق صدره، وأنه يحمل اسم الشركة التي تعمل بها، وأنه يذهب إليها كل يوم منذ عشر سنين، ~~وأنه منذ عشر سنين لم ير نفسه في المرآة. فالوقت أصبح ضيقا، وكل دقيقة لها ثمن يسجله ~~الكومبيوتر، ومرتبه يقبضه بالدولار، ومكتبه أصبحت له بنورة، وتليفون فوق المكتب له ذاكرة ~~تحفظ الأرقام، والأزرار تكاد تنضغط وحدها قبل اللمس، وزجاج النافذة من النوع المستورد ~~«الفيميه» يكشف من بالداخل، والضوء عشرات اللمبات النيون القوية. # وهي جالسة في الضوء، وثوبها النايلون الأحمر يلمع، ويتسع عند صدرها في كشكشة دقيقة كعش ~~النمل، ويضيق عند خصرها تحت حزام عريض من القطيفة، ثم يدور حول ردفيها عدة دورات كأوراق ~~زهرة اللوتس. # بيوتيفول! # وترن الكلمة في أذنيه بصوت الأجنبي، وكأنما يسمعها لأول مرة، ولأول مرة يكتشف معناها، ~~ويدرك أنها تعني «جميلة»، وأن من يقولها رجل، ليس زوجها وليس أخاها ولا أباها ولا أي رجل من ~~الأسرة أو الحي أو البلد، وإنما رجل أجنبي تماما، وجهه أحمر، وأنفه كبير مقوس، وفوق عينيه ~~نظارات عدساتها «فيميه» يرى من خلالها كل شيء دون أن يرى عينيه أحد. # وهي جالسة أمامه ترتدي ثوبها النايلون الأحمر، يكتشف لأول مرة أنه شفاف، وأنه جالس أمامها ~~ينظر إليها ويراها. وأخطر من الرؤية أنه يكتشف جمالها، وأخطر من الاكتشاف أنه يعبر عنه بصوت ~~عال، وهي جالسة أمامه تسمعه لا تغضب ولا تثور ولا يظهر على وجهها الضيق، بل تظل جالسة، وتهز ~~رأسها ms41 كأنما مغتبطة، وتقول بصوت مسموع : «سانك يوه.» # وهو جالس أمامها، يعرف أن «سان كيو» تعني شكرا، وأنها تشكره. وتظل جالسة، لا تنهض ولا ~~تغضب، وهو يظل جالسا أمامها يغازلها، فالغزل هو أن يقول الرجل للمرأة إنها جميلة، وهي ~~ليست أي امرأة بل هي زوجته، وهو ليس أي زوج، بل ذلك الرجل الحمش كأبيه، والذي لم يكن يسمح ~~لأحد أن يراها من وراء شيش، فما بال أن يراها هذا الرجل الأجنبي وجها لوجه، ويصافحها يدا ~~بيد، ويغازلها بصوت مسموع، وهو جالس أمامه لا ينهض ليضربه أو يضربها، أو على الأقل يعترض ~~ويظهر الغضب، لكنه جالس لا ينهض ولا يعترض، ولا تظهر على وجهه علامات الضيق، وكلما التقت ~~عيناه بعيونهما هز رأسه وابتسم. # فتح عينيه فوجد أنه لا زال واقفا أمام المرآة، وأنه لا زال يبتسم، لكن وجهه نحيل شاحب ~~كوجه أبيه حين مات، وانحناءة الظهر كبيرة، يشد عضلات ظهره محاولا أن يخفيها، لكنها لا ~~تختفي وتظل مرئية، وعضلات وجهه يشدها أيضا محاولا إخفاء الابتسامة، لكنها لا تختفي، ~~ويحرك قدميه لينهض ويسير في الغرفة، لكنه لا ينهض. وهي أيضا تظل جالسة، ويتوقع منها أن ~~تنهض وتسير في الغرفة، لكنها لا تنهض ولا تسير، وتظل جالسة تهز رأسها وتقول: «سانك ~~يو.» # وتخترق الكلمة بصوتها المسموع أذنيه كالسهم، كالدليل المادي تستقر في رأسه، تؤكد له ~~خيانته الأبدية، كأنما تخونه طول العمر، منذ تزوجها وقبل أن يتزوجها، منذ وجدت على ظهر ~~الأرض، ومنذ وجدت الأرض. # جاءت خيانتها كالمفاجأة، كاللطمة الأولى، فوق وجهه، وتوقع من نفسه أن يرد عليها بلطمة ~~أشد، وارتفعت كفه الكبيرة في الهواء ثم اهتزت قليلا في تردد، وكادت أن تسقط فوق وجهه أو ~~وجه أبيه، لكنه عاد وتذكر خيانتها، وبكل غضبه من نفسه ومن أبيه، سقطت كفه الكبيرة فوق ~~وجهها. # وفتح عينيه فجأة ليكتشف أنه لا زال واقفا أمام المرآة، ووجهه لا زال طويلا نحيلا ~~كأبيه، لكنه انقسم وأصبح وجهين نحيلين طويلين، بينهما شق طولي عميق وكفه اليمنى ممدودة ~~أمامه، ومن فوقها ms42 خيط رفيع بلون الدم. # القاهرة ، 1983 # | ليس لها مكان في الجنة # ببطن الكف تحسست الأرض من تحتها، ولم تجد التراب، فارتفع الجفنان من فوق العينين ~~الضيقتين، ومدت عنقها نحو الضوء، وظهر وجهها طويلا نحيلا أسمر البشرة إلى حد ~~السواد. # لم تر وجهها في العتمة، وليس في يدها مرآة، لكن الضوء الأبيض سقط على ظهر يدها فأصبحت ~~بيضاء، وعيناها الضيقتان اتسعتا في دهشة وملأهما الضوء. وبدت عيناها في اتساعهما المملوء ~~بالنور كعيون الحور. # وحركت رأسها إلى اليمين وإلى اليسار في شبه ذهول. مساحة هائلة من الأشجار المورقة فوق ~~رأسها، وهي جالسة تحت الظل، وجدول الماء كشريط من الفضة، وعنقود حباته كاللؤلؤ، ثم ذلك ~~الصحن الغويط المملوء بالحساء حتى الحافة. # شدت جفنيها لتفتح عينيها عن آخرهما، وظل المشهد كما كان، لم يتغير، تحسست بكفها ~~جلبابها، فوجدته ناعما كالحرير، ومن فتحة الثوب سرت إلى أنفها رائحة المسك أو العطر ~~الطيب. # ورأسها ثابت فوق عنقها، وعيناها أيضا ثابتتان، خشية أية حركة من الجفن، فيتغير المشهد أو ~~يتلاشى كما كان يتلاشى. # واستطاعت رغم الثبات أن ترى بطرف عين الظل الممدود إلى ما لا نهاية، الشجر الأخضر، ومن ~~بين جذوع الشجر البيت من الطوب الأحمر كالقصر، والسلم الرخام يقود إلى حجرة النوم. # ظلت ثابتة في مكانها لا تقوى على التصديق، ولا تقوى أيضا على التكذيب، ولا شيء يضنيها ~~مثل تكرار الحلم، وأنها ماتت ثم صحت ووجدت نفسها في الجنة. وكان الحلم يبدو لها ~~مستحيلا؛ لأن موتها يبدو كالمستحيل، وصحيانها بعد الموت أكثر استحالة، وذهابها إلى الجنة ~~هو المستحيل الرابع. # ثبتت عنقها أكثر، وبزاوية عين حملقت في الضوء، لا زال المشهد هو هو لم يتغير، ولا زال ~~البيت بالطوب الأحمر كبيت العمدة، والسلم العالي يقود إلى حجرة النوم، والحجرة غارقة في ~~الضوء الأبيض، ونافذة تطل على الأفق البعيد، وسرير عريض تدور حول أعمدته ستائر من ~~الحرير. # أصبح الأمر حقيقيا غير قابل للتكذيب، ولكنها لا تزال في مكانها تخشى الحركة وتخشى ~~التصديق، فهل من المعقول أن تموت وتصحو بهذه ms43 السرعة، ثم تذهب إلى الجنة ؟ # والشيء الذي لا تصدقه في كل هذا هو السرعة فقط، فالموت سهل، وكل الناس تموت، وموتها هي ~~بالذات أسهل من موت أي أحد، فهي عاشت حياتها بين الموت والحياة، أقرب إلى الموت منها إلى ~~الحياة. وأمها حين ولدتها رقدت عليها بكل ثقلها حتى ماتت، وأبوها ضربها على رأسها بالفأس ~~حتى ماتت، وحمى النفاس بعد كل ولادة حتى البنت الثامنة، وضربة قدم الزوج في قاع بطنها، ~~وضربة الشمس في النافوخ تحت عظام الرأس. حياتها كانت صعبة، والموت عندها أسهل، وأسهل منه ~~الصحيان بعد الموت، فلا أحد يموت ولا يصحو، وكل الناس تموت وتصحو، إلا الحيوان، فهو حين ~~يموت يظل ميتا. # وذهابها إلى الجنة أيضا وارد، وإذا لم تذهب هي إلى الجنة فمن يذهب؟ وفي حياتها كلها لم ~~تفعل شيئا واحدا يغضب الله أو الرسول، حتى أطراف شعرها الأسود المجعد، كانت تلفها بفتلة ~~من الصوف على شكل ضفيرة، والضفيرة تلفها بمنديل الرأس الأبيض، والرأس تلفه بالطرحة السوداء، ~~ولا شيء يظهر من تحت جلبابها إلا طرف كعبيها، وفي كل حياتها منذ ولدت حتى ماتت لم تعرف غير ~~كلمة حاضر. # قبل الفجر حين تلكزها أمها وهي راقدة، لتحمل السباخ فوق رأسها، لا تعرف إلا حاضر. وإذا ~~ربطها أبوها في الساقية بدل البقرة المريضة لا تقول إلا حاضر. وزوجها لم ترفع عينيها في ~~عينه مرة واحدة، وحين يرقد فوقها وهي مريضة بالحمى لا تنطق إلا حاضر. # وفي كل حياتها أيضا لم تسرق ولم تكذب، وإذا جاعت أو ماتت من الجوع فلا يمكن أن تمد ~~يدها إلى طعام غيرها، وإن كان هو أباها أو أخاها أو زوجها. وكانت أمها تلف الطعام لأبيها في ~~رغيف، وتجعلها تحمله إلى الحقل فوق رأسها، وطعام زوجها أيضا، كانت تلفه أمه في رغيف. ~~وتراودها نفسها وهي سائرة في منتصف الطريق أن تتوقف تحت ظل شجرة وتفتح الرغيف، لكنها في كل ~~حياتها لم تتوقف مرة واحدة، وفي كل مرة تراودها نفسها تستعيذ بالله من الشيطان، حتى يبلغ ms44 ~~بها الجوع مداه، فتقطع من جانب الطريق عود سريس أو جعضيض، تمضغه تحت أسنانها كاللبان، ثم ~~تبتلعه مع حفنة ماء تملؤها كفها من حافة الترعة وتشرب حتى ترتوي، ثم تمسح فمها في كم ~~جلبابها، متمتمة بصوت خافت: الحمد لله، ثلاث مرات ترددها، الحمد لله، وخمس مرات في اليوم ~~تركع، ووجهها على الأرض، وتشكر الله، وإذا أصابتها الحمى واحتقن رأسها بالدم كالنار لم تذكر ~~إلا الله. وأيام الصيام تصوم، وأيام العجين تعجن، وأيام الدودة تلم الدودة، وأيام العيد ~~ترتدي الحداد وتذهب إلى القرافة. # وفي كل حياتها لم تغضب من أبيها أو أخيها أو زوجها، وإذا ضربها زوجها حتى الموت وعادت ~~لبيت أبيها أخذها أبوها وعاد بها إلى زوجها. وإذا عادت مرة أخرى ضربها أبوها ثم أعادها، ~~وإذا أخذها زوجها ولم يطردها، ثم ضربها وعادت إلى أمها تقول لها أمها: عودي يا زينب ولك ~~الجنة في الآخرة. # ولم يكن خيالها حين تذكر حسنين يتسع لأكثر من إمساك اليد في اليد، والجلوس تحت الظل في ~~الجنة، لكن أمها نهرتها، وقالت لها إن الجنة لن يكون فيها ابن جارهم حسنين ولا ابن أي جار ~~آخر، ولا يمكن لعينها أن تقع على رجل خلاف أبيها أو أخيها. وإذا ماتت بعد الزواج ودخلت ~~الجنة فليس هناك إلا زوجها، وإن راودتها نفسها في اليقظة أو المنام، ووقعت عينها على رجل ~~آخر غير زوجها، ومن قبل أن تمسك يدها في يده، لن ترى الجنة بطرف عين، ولن تشم رائحتها من ~~ألف متر. # ومنذ ذلك الحين أصبحت كلما رقدت وراحت في النوم حتى الموت، لا ترى في المنام إلا زوجها، ~~وزوجها في الجنة لا يضربها، وكوم السباخ لم يعد فوق رأسها، ولا التراب يلسع تحت قدميها، ~~وبيتهم الطيني الأسود أصبح من الطوب الأحمر، وداخل البيت السلم العالي، ثم السرير ~~العريض، وزوجها جالس على السرير يمسك يدها في يده. # ولم يكن خيالها يتسع لأكثر من إمساك اليد في اليد داخل الجنة، ويدها في كل حياتها لم تصبح ~~أبدا في يد ms45 زوجها، وثمانية أولاد وبنات أنجبتهم منه دون أن يمسك يده في يدها. وفي ليالي ~~الصيف يرقد في الحقل، وفي الشتاء يرقد في الجرن أو فوق الفرن، وطول الليل ينام على ظهره دون ~~أن ينقلب، وإذا انقلب نادى عليها بصوت كعواء ذئب: يا بت! وقبل أن ترد بنعم أو حاضر، يكون قد ~~ركلها الثانية، وإذا لم تتأوه ولم تنطق جاءتها الركلة الثالثة والرابعة حتى تنطق، ولم يحدث ~~أن أخطأت يده مرة وأمسكت يدها، أو ذراعه امتد والتف حولها. # ولم يظهر أمامها في كل حياتها اثنان يتعانقان من الإنس ولا من الجن، اللهم في برج ~~الحمام حين تصعد، وعلى حافة الجدار يظهر الزوجان، ومنقارهما متلاصقان، أو في الزريبة حين ~~تهبط من وراء الجدار يظهر الاثنان من البقر أو الجاموس أو حتى الكلاب، والعصا الخيزران ~~تمسكها أمها وتظل تلسعهما وهي تلعن الحيوان. # وفي كل حياتها لم تفك الطرحة السوداء من حول رأسها، ولا المنديل الأبيض المعقود تحت ~~الطرحة، اللهم إلا حين يموت أحد، تفك المنديل الأبيض وتشد المنديل الأسود حول رأسها، وحين ~~مات زوجها عقدت المنديل الأسود فوق جبينها عقدتين، وظلت ترتدي الحداد ثلاثة أعوام. وجاءها ~~رجل يطلبها للزواج بغير أطفالها، فبصقت أمها في فتحت جلبابها وأسدلت الطرحة فوق وجهها وهي ~~تهمس: يا عيب الشوم، وهل تترك الأم أطفالها من أجل رجل؟ ومضى العام وراء العام، وجاءها رجل ~~يطلبها للزواج بأطفالها، فشهقت الأم بأعلى صوتها: وماذا تريد المرأة من الدنيا بعد أن تصبح ~~أما ويموت زوجها؟ # وأرادت يوما أن تفك المنديل الأسود من حول رأسها وتربط منديلا أبيض، لكنها خشيت أن يظن ~~الناس أنها نسيت زوجها. وظلت بالمنديل الأسود وملابس الحداد، حزينة على زوجها، حتى ماتت من ~~الحزن. # ووجدت نفسها ملفوفة بالكفن الحرير داخل الصندوق، ومن وراء النعش سمعت عويل أمها حادا ~~عاليا كالعواء في الليل، أو كصفارة القطار: ستلحقين بزوجك في الجنة يا زينب! # ثم انقطع الصوت، ولم تسمع إلا الصمت، ورائحة تراب، والأرض تحتها أصبحت ناعمة كالحرير، ~~وقالت: لا بد أنه ms46 الكفن. ومن فوق رأسها سمعت صوتا غليظا كعراك رجلين، ولم تعرف لماذا ~~يتعاركان، حتى سمعت أحدهما يذكر اسمها، ويقول إنها تستحق أن تذهب إلى الجنة قفزا دون ~~المرور بعذاب القبر. لكن الرجل الثاني كان يعارض ويصر على أن تنال شيئا ولو قليلا من ~~العذاب داخل القبر، ولا يمكن أن تصعد هكذا إلى الجنة في قفزة واحدة، وكل الناس تمر بعذاب ~~القبر. لكن الرجل الأول ظل على رأيه، ويقول إنها لم تفعل شيئا تستحق عليه العذاب، وأنها ~~كانت زوجة مخلصة لزوجها مائة في المائة. وعارضه الرجل الثاني قائلا إن أطراف شعرها كانت ~~تظهر من تحت المنديل الأبيض، وأنها كانت تصبغ شعرها بالحنة الحمراء، وكعباها يظهران من تحت ~~الجلباب حمراوين كالدم. # واعترض الرجل الأول قائلا إن أطراف شعرها لم تظهر أبدا من تحت المنديل، وأن ما رآه ~~زميله لم يكن إلا ضفائر الصوف، وأن جلبابها كان طويلا سميكا، ومن تحته جلباب آخر أشد ~~سمكا وأكثر طولا، ولم يكن لأحد أن يرى كعبيها الحمراوين. # لكن زميله اعترض، وأصر على أن كعبيها الحمراوين كانا يسببان الفتنة لكثير من رجال ~~القرية. # وظل العراك بينهما طول الليل، وهي راقدة وجهها ناحية الأرض، تضغط بأنفها وفمها على الأرض، ~~تكتم أنفاسها وتتظاهر بالموت، وقد يشتد عذابها إذا اتضح أنها لم تمت، وقد يشفع لها الموت، ~~وأنها لم تسمع شيئا مما دار بينهما، ولا يمكن لأحد من الإنس أو الجن أن يسمع ما يدور في ~~القبر بعد الموت، وإذا حدث وسمع، فلا بد أن يتظاهر بعدم السماع، أو بعدم إدراك ما ~~أدركته. وأخطر ما أدركته هو أن الرجلين ليسا ملكي القبر، وليسا ملائكة من أي نوع، فلا يمكن ~~للملاك أن تغيب عنه الحقيقة التي عرفها كل إنسان في القرية له عينان، ذلك أن كعبيها لم ~~يكونا أبدا حمراوين مثل كعبي بنت العمدة، وكانا دائما مثل وجهها وكفيها مشققين سوداوين ~~بلون تراب الطريق. # ثم انتهى العراك قبل الفجر دون تعذيب، وشكرت الله حين انقطع عنها الصوت، وبدأ جسمها ~~يخف ويعلو ms47 كأنها ستطير، وظلت محلقة كأنما في السماء، ثم سقط جسمها وارتطم بأرض طرية ~~رطبة، وشهقت: الجنة. # ورفعت رأسها بحذر شديد، فرأت المساحة الهائلة من الخضرة، والشجر أوراقه كثيفة ومن تحتها ~~الظل. # رفعت نصفها الأعلى كله من فوق الأرض، ورأت الأشجار تمتد أمام عينيها إلى ما لا نهاية، ~~وهواء نقي يدخل صدرها، ويطرد التراب والغبار ورائحة الروث. # بحركة خفيفة نهضت حتى انتصبت تماما فوق قدميها، واستطاعت أن ترى البيت وسط فروع الشجر ~~مبنيا بالطوب الأحمر، وأمام عينيها كان المدخل. # دخلت مسرعة تلهث، تصعد السلم العالي وتلهث، وأمام حجرة النوم توقفت لحظة تلتقط أنفاسها، ~~قلبها يرفع ضلوعها إلى أعلى ويدق وصدرها يعلو ويهبط. # كان الباب مغلقا، فمدت يدها بحذر شديد ودفعته، ورأت أعمدة السرير الأربعة تدور حولها ~~الستائر الحرير، ومن تحت الأعمدة الأربعة رأت السرير العريض ومن فوقه زوجها، جالس فوق ~~السرير كالعرش، وعن يمينه امرأة، وعن يساره امرأة ثانية، وكلاهما ترتديان ثوبا شفافا، ~~يشف من تحته البشرة البيضاء كالشهد، وعيناهما واسعة مليئة بالنور كعيون الحور. # ولم يكن وجه زوجها ناحيتها فلم يرها، وكانت يدها لا تزال على الباب، فشدته إلى الوراء ~~وانغلق، وعادت إلى الأرض مرة أخرى وهي تقول لنفسها: ليس في الجنة مكان لامرأة سوداء. # القاهرة، 1984 # | الأم السويسرية القاتلة # الوجه الملائكي الرقيق، الأنف المستقيم الدقيق، الشفتان الحساستان، والصوت الدافئ العميق، ~~وأعمق منه العينان ذات النني اللامع والنظرة المتعددة المعاني والطبقات. # ذكرتني ملامحها بزينب المصرية، وكاترين الأمريكية، وميديا اليونانية بطلة يوربيدس، الوجه ~~الملائكي نفسه ... كوجه طفلة في السادسة عشرة، وعمرها تجاوز العشرين بأربع أو خمس ~~سنوات. # أمسكت يدها في يدها، يد رقيقة صغيرة ناعمة كيد طفلة، وجرح صغير كالخدش البسيط ربما من أثر ~~الضغط على السكين، وهي تطعن ابنها الأول تسع طعنات في ظهره، وتطعن ابنها الثاني سبع طعنات ~~في صدره، وتتسرب القوة من يدها حين تطعن نفسها، فتفرغ زجاجة الحبوب في جوفها، لكن عربة ~~الإسعاف تنقلها إلى المستشفى، لتعيش من جديد تحت رقابة البوليس والأطباء، وقد ترسل إلى ~~المصحة العقلية ms48، أو تقدم للمحاكمة كأم قاتلة . # كلمة «الأم» تتناقض في آذاننا مع كلمة «القتل»، وخاصة قتل الأم لطفلها، فالأم هي واهبة ~~الحياة، فكيف تقتل؟ # لكن القادر على وهب الحياة، قادر أيضا على أخذها، كما يقول يوربيدس. # وعيناها تشبهان عيني «ميديا» بطلة يوربيدس منذ ألف وخمسمائة عام، لكن «ميديا» نجحت في قتل ~~نفسها بالسكين ذاتها التي قتلت بها طفليها. وعلى مسرح الأكروبول في أثينا، رأيت «ميديا» ~~تصعد في السماء، تلمع عيناها بالانتصار، بعد أن انتقمت من زوجها الخائن. # خيانة الزوج في عهد يوربيدس كانت تسبب للزوجة غضبا شديدا، بمثل ما كانت خيانة الزوجة ~~تسبب للزوج غضبا شديدا. # وإذا قتل الزوج الغاضب فهو لا يصبح قاتلا، وإنما شهم مدافع عن شرفه. # وإذا قتلت الزوجة الغاضبة فهي تصبح على الفور قاتلة مجرمة، وليست شهمة مدافعة عن ~~شرفها. # فلم يكن للمرأة في عهد يوربيدس شرف تدافع عنه، لكن المرأة في ذلك العهد كانت لا تزال ~~قادرة على الغضب إذا خانها زوجها مع امرأة أخرى. # ولم يكن سيجموند فرويد قد أخرج إلى العالم بعد نظريته المعروفة عن سيكولوجية المرأة والتي ~~أنكرت على النساء الشعور بالغضب. وكان أرسطو ما زال يؤمن أن المرأة وعاء خال من الحياة، ~~والرجل وحده هو مصدر الحياة. # واستطاع يوربيدس أن يسبق أرسطو في إدراك أن الأم هي مصدر الحياة، وأنها إنسانة كالرجل، ~~وقد تغضب مثله إذا خانها، وقد تستولي عليها فكرة الدفاع عن شرفها إلى حد القتل، قتل الزوج، ~~أو قتل نفسها وأطفالها منه. # تسلطت هذه الفكرة على «ميديا» حين هجرها زوجها إلى امرأة أخرى كانت قد منحته الحب كله ~~وحياتها كلها، وصدمتها الخيانة، وانقلبت طاقتها على الحب والعطاء إلى طاقة للدفاع عن شرفها ~~والانتقام لكرامتها. # ورأت أن أشد انتقام من الأب هو أن تحرمه من أطفاله، فهو الذي سيشعر بفقدانهم، أما هي ~~فلن تشعر بشيء؛ لأن روحها ستلحق مع أطفالها إلى السماء. # ما زلت أحدق في وجهها الملائكي، ويدها الصغيرة الناعمة، وهي راقدة في سريرها بمستشفى ~~السلام الدولي. أحاول أن أذكر ms49 نفسي أن اسمها «سابينا أنا ماريا» وليست «ميديا»، وليست ~~كاترين، ولا هي خديجة أو زينب. # ابتسامة طفولية أضاءت وجهها كحنان الأم الطاغي، انتهت قبل أن تبدأ، وخلفت تعبيرا ~~كالسحابة الصفراء، أو الخوف الغامض الدفين، انقشعت هي الأخرى بسرعة، وزحفت الغمامة الرمادية ~~كشبح الغضب الخفي، لا يريد أن يكشف عن نفسه. ثم بدأ في عينها الخوف. ليس كالخوف الأول ~~الغامض، ولكنه خوف واضح صريح، بغير سحابة ولا غمامة، امتلأت عيناها الصافيتان بكل اتساعهما ~~الأبيض الصافي بنظرة مذعورة، لمعت في عينيها بلون أسود، وبحجم النني الكبير تشوبها زرقة ~~داكنة. # ثم انطفأ اللمعان فجأة كما بدأ، وحومت ابتسامة شاحبة، تراجعت بسرعة، وامتلأت عيناها ~~بالحزن الغريب، كالطبقة المعتمة تكسو بياض العين، والسواد أصبح لونه أخضر باهتا بلون الماء ~~الراكد، وطفا فوق السطح تعبير جديد ينم عن الإحساس الدفين بالذنب، زحف طافيا فوق سطح العين ~~بلون أخضر، كورقة الشجر الميتة، وشفتاها الرقيقتان الشاحبتان تنفرجان عن كلمة ~~«الله». # حين رأيت كاترين الأمريكية لم يكن هذا في المستشفى، كانت في السجن، راكعة إلى جوار ~~السرير، منكفئة بوجهها على «الإنجيل»، والسجانة من خلفها متأهبة للإمساك بذراعيها إذا تركت ~~الكتاب المقدس لتخنق نفسها. # خديجة المصرية، رأيتها في السجن أيضا، تمسك في يدها «القرآن»، وحين ترقد تضعه تحت رأسها ~~وتخاطب الله: يا رب أنت العالم أني لم أقتل ابني إلا حين أمرتني يا رب، وأمسكت يدي الضعيفة ~~ومنحتني القوة من عندك. # وتحركت عيناها نحوي وهي تقول: هل هناك أم تقتل طفلها؟ أنا لم أقتله، الله هو الذي قتله، ~~ربنا أخذه ليرحمه من الجوع. # أما زينب فقد عجزت عن قتل طفلتها، وظلت رغبة القتل تراودها، وكلما احتضنت طفلتها ~~لترضعها شعرت كأنما قوة خفية تضغط بيدها على ابنتها. # وقد ظنت زينب أن الله يكرهها؛ لأنها لم تعد تحب زوجها، وكراهيتها امتدت من زوجها إلى ~~أطفالها، ثم إلى نفسها. # أصبحت تكره نفسها وتظن أن الله يكرهها أيضا ... # ربما لأنها لم تكن طاهرة كما يجب، أو أن شيئا مدنسا راودها في طفولتها أو مراهقتها ms50، ~~وتظل تبحث في ماضي حياتها عن خطيئة ما فعلتها في اليقظة أو المنام، ولا بد أن تجد شيئا، ~~وإن كان مجرد حلم. # وفي عصرنا الحديث استطاع الطب النفسي أن يكتشف مرضا اسمه «الاكتئاب»، يصيب المرأة أو ~~الرجل. # لكن نسبة الإصابة أكثر بين النساء، وتبلغ حوالي 9٪ بين النساء، و7٪ بين الرجال. ويصيب ~~الاكتئاب جميع شعوب العالم، ويسمونه مرض العصر التكنولوجي، وله علاقة كبيرة بارتفاع قيمة ~~الدولار وانخفاض قيمة الإنسان. # وتزيد نسبة الاكتئاب بين أطباء النفس على غيرهم من الرجال، ويعجز معظم الأطباء الرجال عن ~~فهم الدوافع الحقيقية وراء اكتئاب النساء، فالطبيب كغيره من الرجال ما زال يتصور أن الله قد ~~خلق المرأة لتكون خادمة للرجل، فإن غضبت ورفضت دور الخادمة هذا، فهي مريضة وتحتاج إلى ~~علاج. # وما زال معظم الأطباء في العالم يتصورون أن الأم التي تقتل أطفالها تعاني مرضا عقليا، ~~أو تغيرا كيمائيا في المخ، أو نقصا في هرمونات الأنوثة والأمومة، أو خللا ما عضويا ~~أو نفسيا. وإذا اتسع أفق الطبيب ليشمل شيئا من علوم الوراثة، فقد يفكر في الكروموسومات، ~~أو انتقال المرض عبر «الجينات» من الأب أو الأم. وإذا اتسع أفق الطبيب أكثر ليشمل شيئا من ~~العلوم الاجتماعية، فقد يفكر في مشاكل المجتمع أو الأسرة، مثلا قسوة الأب وغلظة قلبه، أو ~~إدمانه للخمور أو المخدرات، باعتبار أن هناك علاقة ما بين الإدمان ومرض الاكتئاب. # لكن قليلا جدا من الأطباء من يفهم حقيقة الصراع النفسي في أعماق الأم التي تقتل ~~طفلها، ولا تزال البحوث العلمية في مجال سيكولوجية المرأة نادرة، وأغلبها يرث أفكار «فرويد» ~~الذي كان يشكر الله كل صباح؛ لأنه لم يخلقه امرأة. والمرأة السليمة نفسيا في نظره لم تكن ~~إلا تلك التي استطاعت أن تقتل «الأنا العليا» أو تقتل «طموحها الفكري» كخادمة للرجل، وتصلي ~~لله شكرا. # وإذا رفضت المرأة هذا الدور، أو قبلته بضيق أو غضب، فهي مريضة نفسيا وتعالج بالحقن أو ~~الأقراص أو الجلسات الكهربية. ويسمى هذا العلاج في الطب بالعلاج النفسي، وهو يلعب الدور ~~الأخير في ms51 قتل البقية الباقية من «الأنا العليا » وطموح المرأة الفكري. # تصبح المرأة بعد العلاج مطيعة هادئة، مستسلمة لدور الخادمة أو الوضع الأدنى، ويقال عنها ~~إنها «مثالية»، وفي أعماقها تشعر أنها «مقتولة» أو «ميتة». # وقد تختلف قصص هؤلاء الأمهات القاتلات في بعض التفاصيل، إلا أنهن يتفقن جميعا في ذلك ~~الإحساس العميق أنهن مقتولات، وتقول الواحدة منهن بلغات مختلفة ولكن بنفس المعنى: في داخلي ~~أشعر أنني ميتة، أو هناك شيء ميت في أعماقي. # وقد تختلف أسباب الاكتئاب عند هؤلاء النساء، لكنهن يتفقن في أنهن متفرغات للخدمة في البيت ~~أو البيوت. # وقد تعمل المرأة خارج البيت، لكن عملها يندرج تحت أعمال الخدمة، ويعد امتدادا لواجباتها ~~المنزلية ... وقد يكون الأب هو الذي أجبر ابنته على ترك الدراسة التي تحبها، أو الزوج هو الذي ~~أجبر زوجته على ترك عملها الذي يحقق لها بعض الاستقلال أو السادة. وقد يتخذ الإجبار شكل ~~العنف الواضح أو غير الواضح، وقد يستتر تحت ستار رقيق من الحب، أو الحماية، أو التضحية من ~~أجل الحب، أو من أجل الأطفال. # وكم من المآسي تحدث لكثير من البنات والنساء باسم الحب، أو الحماية، أو التضحية، وتجد ~~الواحدة منهن نفسها بين الجدر الأربعة، وقد تكتشف فجأة أو بالتدريج أن حياتها خاوية تماما ~~كعدم الحياة. وهنا تحدث الصدمة النفسية لهؤلاء النساء، وتسمى في علم النفس بصدمة ~~«انعدام المؤثرات في الحياة»، وهي تشبه صدمة الموت، لكن الجسد يظل على قيد الحياة. # وقد تختلف الصفات النفسية والجسمية لهؤلاء الأمهات القاتلات، إلا أنهن يتفقن في صفة تكاد ~~تكون واحدة، وهي الرقة الشديدة، وملامح الملائكة أو القديسات. وهن بالفعل قديسات، ~~متدينات، منتظمات في الصلاة وشكر الله على وضعهن الأدنى، وتخلو حياتهن تماما من الأخطاء، ~~بمثل ما هي خالية من كل شيء آخر، بما فيها الرغبة الزوجية. # ويفسر بعض الأطباء هذا البرود العاطفي أو الجنسي على أنه السبب وراء الاكتئاب، مع أن ~~هذا البرود ليس إلا نتيجة لسبب آخر؛ فالمرأة لا يمكن أن تقتل فكريا، وتظل رغبتها الجنسية ~~صاحية وحدها هكذا ms52. إن النشاط الجنسي في حياة المرأة جزء من النشاط الفكري، ويدركها البرود ~~حين يتبلد فكرها، ويدركها الموت أيضا حين يموت فكرها. # ولكن كيف تنقلب هذه الرقة الملائكية لتصبح عدوانا يبلغ حد القتل؟! # إن الرقة الشديدة والعدوان الشديد وجهان لعملة واحدة. وأخطر القتلة لهم ملامح أرق من ~~الملائكة. # والرقة هنا ليست هي الرقة الحقيقية، ولكنها الخضوع الأنثوي، والاستسلام الأبدي، والطاعة ~~العمياء، والقدرة الدائمة على إخفاء الغضب تحت ابتسامة رقيقة. # لكن الخضوع قد لا يكون أبديا كما نتصور، وقد يحدث شيء صغير كالقشة، لكن البعير يسقط ~~على الأرض، وتقصم القشة ظهره، كالوعاء فوق النار بدون ثقب يخرج منه البخار، وبعد قليل أو ~~كثير نسمع صوت الانفجار. # وتعترف الأم منهم أنها قتلت طفلها؛ لأنها أحبته، ولأنها أرادت أن تحميه من الألم أو العذاب ~~أو الموت. إنها تخشى عليه الموت، لكنها تعالجه بالموت، هذا هو التناقض الذي لا تستطيع أن ~~تدركه هذه الأم، فهو تناقض عاش معها في اللاوعي، منذ الطفولة أو المراهقة، حين خشي عليها ~~أبوها الموت الاجتماعي أو الأخلاقي إذا لم تتزوج بسرعة، وحكم عليها بالموت الفكري والنفسي ~~حين أخرجها من المدرسة، وفرض عليها زوجا لا تريده. # كثير من الناس يقتلون بناتهم فكريا ونفسيا باسم الحماية الأخلاقية والاجتماعية، ~~وباسم الحب تموت كثير من الزوجات والأمهات فكريا ونفسيا. # لكن القتل عندنا ما زال نوعا واحدا، وهو القتل الجسدي الإكلينيكي، وهو القتل الذي ~~يحاكم عليه الإنسان. أما القتل الفكري والنفسي، فنحن لا نعرفه بعد، ولا يحاكم بسببه ~~أحد. # إن وراء كل حالة قتل جسدي حالة قتل أخرى لا ينتبه إليها أحد، ويواصل الجاني جرائمه دون أن ~~يكتشف البوليس أو الطبيب الشرعي. وقد ينتبه إليه أحد أطباء النفس، لكنه لا يحاكم ولا يحاسب، ~~فنحن لا نرى إلا المرأة القاتلة، أما المرأة المقتولة فلا يراها أحد. # القاهرة، سبتمبر 1984 # | قصة فتحية المصرية # كنت في مكتبي جالسة، حين دخلت علي فتاة في السادسة عشرة من عمرها، واسمها «فتحية» تحمل ~~على كتفها طفلا رضيعا، وفي يدها طفل آخر في ms53 الثالثة من العمر، يمشي بصعوبة، على وجهها كدمات ~~حمراء وزرقاء، عيناها سوداوان متسعتان في نظره أشبه بالجنون، ترتدي جلبابا واسعا قديما، ~~وتلف رأسها بطرحة سوداء. أخرجت من جيب جلبابها سكينا يشبه مطواة «قرن الغزال»، وقالت بصوت ~~مرعب: سأقتل أبي وأدخل السجن، وجئت لأترك طفلي هنا في جمعية تضامن المرأة، فليس لي أحد في ~~هذه الدنيا، وقادني بعض أهل الخير إليكم، وقالوا إنكم تدافعون عن النساء المقهورات، وأنكم ~~دافعتم عن «رابعة» التي قتلت زوجها الذي أراد أن يطردها إلى الشارع هي وأطفالها الخمسة ~~ليتزوج بفتاة صغيرة، وقد تطوعت محامية من عندكم للدفاع عنها، لكني عشت حياة أبشع من حياة ~~«رابعة» التي أعلنت أنها لم تقتل زوجها إلا بعد أن قتلها ألف مرة من قبل. # أما أنا فقد صنع بي أبي ما هو أبشع من القتل، والمشكلة أن القانون أو الشرع لا يعاقب ~~أبي، ولا يعاقب زوج رابعة، ولا يعاقب الآباء، ولا الأزواج الذين يبيعون ويشترون فينا باسم ~~عقد الزواج الشرعي أو الطلاق الشرعي أو تعدد الزوجات الشرعي. # وقد باعني أبي منذ ست سنوات، وكنت في العاشرة من عمري، لرجل سعودي عجوز، يكبرني بستين ~~عاما. بدأت القصة بأن جاء إلى بيتنا «عم محمود» ابن عم أبي، وقال لأبي: إن الله أرسل إليه ~~رزقا من السماء. ماذا كان هذا الرزق؟ إنه «الشيخ علي»، وهو من أغنياء مكة المكرمة، وقد ~~رآني هذا الشيخ الثري وأنا أحمل صفيحة الماء فوق رأسي، فأعجبه شكلي ويرغب في الزواج بي ~~ومستعد لدفع مهر كبير قدره أربعة آلاف ريال سعودي. # رفع أبي يديه إلى السماء، ثم ركع وسجد لله شكرا على هذا الرزق الذي أرسله إليه. إن ~~أبي فلاح فقير بلا أرض، يتاجر في زبل الحمام وروث البهائم والكسب، وحين يشتد به الفقر يعمل ~~مزارعا بالأجرة. وقد طلق أبي أمي؛ لأنها أنجبت له أربع بنات، وكان يريد ولدا ذكرا ليساعده ~~في التجارة، ويرعى الحمارة التي يتجول بها في القرى والعزب، وتزوج أبي امرأة أخرى أنجبت ~~له ستة عيال، خمس ms54 بنات وولدا، وكل صباح أسمعه يلعن البنات وخلف البنات. لكن عم محمود جاءه ~~وقال له: رزق البنات على الله يا حاج مسعود. وأخذ أختي الكبرى خديجة، لتعمل خادمة في ~~الإسكندرية، في بيت موظف كبير متزوج وعنده أولاد، وكل شهر يقبض أبي مرتبها مائة وخمسين ~~جنيها في الشهر. # وكف أبي عن ركوب الحمارة والتجارة، وأرسل أختي الثانية «فاطمة» لتعمل خادمة في شقة مفروشة ~~في الزمالك يملكها رجل سعودي ثري، وكل شهر يقبض أبي مائتي ريال سعودي، وخلع أبي جلبابه ~~الفلاحي وارتدى الجبة والقفطان، وسافر إلى الحج وعاد يرتدي عمامة بيضاء بدل الطاقية، وأصبحت ~~الناس تناديه الحاج مسعود. # وجاء الدور علي، فأنا البنت الثالثة، وجاء عم محمود وقال لأبي: إن ابنته فتحية (وهذا هو ~~اسمي) مسعودة لأن الله أرسل إليها زوجا، وسوف تصبح زوجة وليست خادمة بالأجرة، ومهرها أربعة ~~آلاف ريال. # وأطلقت زوجة أبي الزغاريد، واشترت لي ثوب زفاف أبيض، فرحت به كما تفرح طفلة في العاشرة ~~بثوب جديد. وحين رأيت الرجل الذي أصبح زوجي أصابني الفزع، إنه عجوز أكبر من أبي، يمشي على ~~عكاز، وقد فقد ساقه اليمنى في حادث، وله ثلاث زوجات في السعودية وأربعة وعشرون ولدا ~~وبنتا. # وقال لي أبي: الرجل لا يعيبه إلا جيبه، وقد أحل الله للرجل أربع زوجات، وليس في القرآن ~~نص يحدد فارق السن بين الزوج والزوجة، وقد تزوج الرسول محمد # صلى الله عليه وسلم # وهو في ~~الستين من العمر من السيدة عائشة وهي في الثامنة من العمر، أي كانت تصغرني بعامين ~~اثنين. # وتمكن عم محمود من استخراج شهادة ميلاد لي يثبت أن عمري ستة عشر عاما (وليس عشر سنوات ~~كما كانت) وجواز سفر لي، وأعطى والدي أربعة آلاف ريال، وسافرت مع زوجي إلى مكة ~~المكرمة. # عشت خمس سنوات أشبه بالجحيم، كان يضربني ضربا مبرحا في الفراش حتى أبكي وأصرخ من شدة ~~الألم. لم أكن أعرف لماذا يضربني ثم يغتصبني، ثم عرفت من زوجاته السابقات أنه مريض ~~نفسيا، ولا شيء يوقظ شهوته الميتة إلا صراخ ms55 طفلة تعذبها آلام الضرب. وكان معنا في البيت ~~الكبير خادمة مصرية، وكنت أحسدها إذ لم تكن تتعرض للضرب مثلي، كانت تقبض كل شهر خمسمائة ~~ريال سعودي، وكانت تسافر إلى أهلها طوال السنين الخمس. وأنجبت الولد والبنت وأصبحت أسيرة ~~أمومتي، ولا أعرف كيف أنقذ نفسي. لكن حياتي كانت تزداد سوءا، وقسوته علي تزداد، وزوجاته ~~الثلاثة يضربن طفلي بلا سبب، وهددت واحدة منهن بقتل ابني حتى لا يشارك أولادهن الميراث. ~~وطلبت الطلاق من زوجي لأعود إلى مصر، لكنه رفض أن يطلقني. لقد استمر في تعذيبي وضربي ~~واغتصابي، ولم يكن يستطيع أن يفعل ذلك مع زوجاته الثلاثة الأخريات. لم يكن أمامي إلا الهروب ~~والعودة إلى مصر. ساعدني بعض أهل الخير من المصريين في مكة، ووضعت اسم ابني وابنتي في جواز ~~سفري. # لكن لم أعرف أنني سأعيش جحيما آخر في بلدي وفي بيت أبي. كان أبي قد باع أختي الصغرى ~~«حمدية» لزوج عجوز من الكويت. دخل بها في مصر، ثم سافر وتركها حاملا، ولم تعرف أهي ~~متزوجة أم مطلقة، ووضعت طفلها الشرعي الذي حمل اسم أبيه الكويتي الغائب والمجهول ~~العنوان. # وبدأت أختي «حمدية» تواسيني، وأنا أواسيها، وجاءت أختي خديجة الخادمة بالإسكندرية، وعرفنا ~~أنها أصبحت أما لطفل في الثالثة من عمره بلا زواج، بعد أن اعتدى عليها رب الأسرة الأولى. ~~وولدت طفلها، واستخرجت له شهادة ميلاد، وحصل على الجنسية المصرية. ثم اشتغلت في بيت آخر ~~بالإسكندرية، وتعيش مع طفلها في غرفة منفردة، وتقبض كل شهر مائة وثمانين جنيها. # واكتشفت أن أختي خديجة الخادمة، أحسن حالا مني ومن أختي حمدية، وطفلها المولود سفاحا ~~(بلا أب) يتمتع بالجنسية المصرية. أما نحن، فأطفالنا شرعيون، لكنهم أجانب، وليس لهم حق ~~الحصول على الجنسية المصرية. # وبدأت أنا وأختي حمدية ندوخ على المكاتب لنحصل على إقامة لأطفالنا على أرض مصر، ولا نعرف ~~ماذا نفعل في المستقبل، وهل تطرد الشرطة أطفالنا خارج مصر؟ لا نعرف شيئا عن القوانين. ~~ننتقل من يد سمسار إلى يد سمسار آخر، ندفع رشوة لهذا الموظف، ثم يتضح ms56 لنا أنه ليس له ~~علاقة بموضوع إقامة الأطفال الأجانب. # ثم جاءت أختي فاطمة إلينا في زيارة، وعرفنا أنها أسعد حالا منا جميعا، فهي تعمل ~~في ثلاث شقق مفروشة، تنتقل من شقة إلى شقة، وتكسب مالا كثيرا، وعندها دراية كبيرة بمنع ~~الحمل، ولم تحمل ولم تنجب، وادخرت في ست سنوات مائة ألف دينار، وتستعد للزواج من شاب ~~يبادلها الحب، اسمه محمد، من أسرة طيبة، وأبوه أيضا يحمل لقب دكتور، وهي تمطر أبي ~~بالقبلات؛ لأنه فتح لها طريق الخير والسعادة، وتصلي كل يوم لله شكرا على الرزق الذي أرسله ~~إليها بغير حساب. # أما أنا فلا أعرف شيئا عن مستقبلي أو مستقبل طفلي، وليس معي أي مال، فقد قبض أبي ~~مهري، وحين أطلب منه نقودا يدعي أنه لا يملك شيئا، وأن أختي فاطمة تساعده بثلاثين ~~جنيها فقط كل شهر رغم مكاسبها الكبيرة. # وعشت الهوان والفقر في بيت أبي، لا أملك مالا ولا مستقبلا، مثل أختي فاطمة التي كسبت ~~مالا كثيرا عن طريق البغاء، ولا يملك طفلاي الجنسية المصرية ولا حق الإقامة في بلدي؛ ~~لأنهما أجانب (من أب سعودي)، ولا أعرف شيئا عن مستقبلهما. # فكرت في قتل طفلي ثم الانتحار، لكن أمومتي منعتني من قتلهما، وقلت لنفسي: لماذا ~~أقتلهما وهما بريئان بلا ذنب؟! # إن المذنب هو أبي، وهو الذي يستحق القتل. لماذا لا أقتله ليموت عبرة لغيره؟! ولأدخل ~~السجن وليحكموا علي بالإعدام، ولأموت ثم أذهب إلى الآخرة، وأقابل الله وأحكي له كل ~~شيء، ولا بد أن الله سوف يكون معي؛ لأن الله عادل. وسوف أترك طفلي في رعايتكم؛ لأنكم ~~تدافعون عن حقوق النساء المقهورات، وأنا قد قهرت وانسحقت كزوجة وأم مصرية بلا حقوق. إنهم ~~يحتفلون بعيد الأم، ويتشدقون بكلام كثير عن تمجيد الأمهات، لكن الحقيقة أننا نحن الأمهات ~~بلا حقوق، نطلق ونطرد من بيت الزوجية في أي وقت بلا إرادتنا، وأطفالنا لا يحصلون على ~~الجنسية المصرية إلا إذا كان الأب مصريا أو مجهولا. # أنا لا يهمني الموت، ومستعدة أن أموت، لكن هل موتي يحل ms57 مشكلة طفلي؟! عرضت علي أختي ~~فاطمة أن أعمل معها في الشقق المفروشة، وأبيع جسدي لأثرياء البترول من السعودية والكويت. ~~لكن أليس هناك حل آخر يحفظ إنسانيتي وكرامتي؟ ثم إذا جمعت مالا كثيرا، هل يفيد هذا ~~المال في أن يحصل طفلاي على الجنسية المصرية؟ ثم أنا الآن متزوجة، ولست امرأة حرة؛ لأن ~~زوجي السعودي لم يطلقني، وقد يأتي في أي وقت ليردني إليه رغم إرادتي، وأعيش في بيت أبي ~~مهددة، ولا أعرف ماذا أفعل؟ وليس لي مكان أذهب إليه. ~~••• # هذه قصة فتحية كما حكتها بنفسها، وهي تعبر عن مأساة أكثر من مائة ألف امرأة مصرية، يعانين ~~من هذه المشكلة ذاتها (مجلة روز اليوسف، الصادرة بالقاهرة، 30 أكتوبر 1989). # إن الفقر الناتج عن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها معظم البلاد في أفريقيا، ومنها مصر، قد ~~أصاب النساء أكثر مما أصاب الرجال؛ فالرجل تحميه القوانين إلى حد ما، أما المرأة فإن ~~القوانين لا تحميها، بل تعرضها للعذاب والتشرد. لا يزال قانون الأحوال الشخصية في مصر ~~يعطي الزوج الحق المطلق في تطليق زوجته في أي وقت يشاء ويتزوج عليها أربع زوجات، ولا ~~يزال القانون المصري يحرم الأم المصرية من إعطاء جنسيتها المصرية لطفلها. إن أطفال الأم ~~الأجنبية يحظون بالجنسية المصرية؛ لأن أباهم مصري، أما الأم المصرية فهي محرومة من هذا ~~الحق إذا تزوجت رجلا ليس مصريا. وليس في القانون المصري أيضا أي بنود تعاقب الآباء أو ~~الأزواج الذين يسيئون استخدام السلطة المطلقة الممنوحة لهم في الشرع. # إن بعض المسلمين المستنيرين يرون أنه لا بد من تغيير هذه القوانين لتكون عادلة، وتعطي ~~المرأة والأم بعض حقوقها المسلوبة، لكن هؤلاء المستنيرين أقلية للأسف الشديد، والأغلبية من ~~الرجال (والنساء) يرون أن «الله» جعل الرجل مسيطرا على المرأة، وأن أي إصلاح للقوانين ~~الحالية إنما هو عصيان لقانون الله. وقد تزايدت هذه النغمة بعد تصاعد التيارات الدينية ~~السلفية المتطرفة، التي تطالب بعودة المرأة إلى الحجاب والبيت، لتكون خادمة للزوج والأطفال ~~فحسب، وليس لها دور آخر سوى ذلك. # إنها معركة طويلة شاقة، تناضل ms58 فيها النساء في بلادنا الأفريقية، فإن هذه الحركات السلفية ~~الدينية أصبحت تنتشر في كافة البلاد في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا. إنها حركة سياسية ~~بالدرجة الأولى، لكنها تعمل تحت غطاء الأديان كلها (الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو ~~غيرها). # والنساء أول ضحاياها؛ لأن النساء حتى اليوم بلا قوة سياسية تستطيع أن تقف في وجه هذه ~~القوى السياسية الصاعدة، والتي تساندها الحكومات والأحزاب بدرجات متفاوتة، لأغراض ومصالح ~~متباينة. # القاهرة، مارس 1990 # | موت كاتب كبير # جنازته ممدودة من قبل ميدان التحرير إلى حارة العبيد، رجالات البلد كلهم والنساء، من قمة ~~الهرم إلى السفح، يصعب التمييز من القفا بين الرجل والرجل، كلها محلوقة بالموس أو الماكينة، ~~الأعناق مشدودة داخل الربطة السوداء، الأكتاف والصدور محشوة بالقطن أو القش، الدقون ناعمة ~~بلا شعر أو يتدلى شعرها تقربا لله. ورئيس الحزب، في الصف الأول، يتوسطه الرأس المربع ~~«أبو الهول»، النظارة السوداء والسبحة الصفراء والزبيبة، إلى جواره نائبه، صورة بالكربون ~~إلا القامة الأقل، والحشو الأقل في الكتفين والصدر، يتناقص الحشو من المركز إلى الأطراف، ~~إلى الأعضاء المعينين أو المنتخبين، كلهم يأتون بالتعيين لا فرق، إلا نوع الحشو، طويل التيلة ~~أو قصيره، نظرة العين مقلوبة إلى الداخل أو الخارج. # اللحن الجنائزي يجعل شعور رءوسهم تنتصب، أو جلدة الرأس الملساء بعد أن سقط الشعر، النعش ~~ملفوف في العلم، جسده داخل الكفن يهتز مع اهتزازة النعش، يتنفس الصعداء داخل الصندوق مع ~~تصاعد الروح، الراحة النهائية والامبالاة، اهتزازة النعش أو العرش كلاهما زائل مع ملذات ~~الدنيا. # كنت أتمشى في الصف الأخير مع عمال النظافة، الرجال من القاع، أحمل ملامح أمي، قامتها ~~الطويلة، نظرها البعيد، واسمها سأحمله يوم القيامة، بعد أن تزول الدنيا يزول معها اسم الأب، ~~لا يبقى إلا الصحيح. # رغم المسافة البعيدة أراهم، أعرفهم، لا أحد منهم يراني أو يعرفني، قسمة عادلة، يمتلكون ~~الشرعية والشرف، وأنا أمتلك المعرفة والرؤية. لم أرث ملامحه ولا اسمه ولا العمود، في ~~الطفولة كنت أقرؤه مثل الشاعر المتنبي والأنبياء. في الزمن القديم كان كل شيء سهلا، يصبح ms59 ~~الرجل نبيا دون أن يعرف القراءة أو الكتابة، الطفل المولود يصبح ملكا، والمولود يتكلم ~~لحظة خروجه من الرحم، ويصبح نبيا. وكان هو يكتب داخل الرحم، فهو أبي غير الشرعي. يحلم ~~وهو طفل صغير أن يكون كاتبا كبيرا، أدخله أبوه المدرسة ليتعلم الكتابة، خرج منها دون أن ~~يتعلمها، داخل مدارس أخرى، انتقل من مدرسة إلى مدرسة، ومن حزب إلى حزب: الإخوان، البعث، ~~ماركس والاقتصاد محرك التاريخ، من ماركس إلى الحج في بيت الله الحرام، عاد باللحية والسبحة ~~والزبيبة، وأصبح الله محرك التاريخ، تغير العنوان بعد قليلة، كلمة «الكالشر» أصبحت مكان ~~كلمة الله، تعني في نهاية المطاف العودة إلى المنبت، الفول النابت، كتاتيب القرية ~~والهوية. # في الصف الأول تمشي بعض النساء، قليلات العدد، رءوسهن ملفوفة بالطرح السوداء، الحزن، ~~الإيمان بالله، والأنوثة. امرأة واحدة رأسها عار محلوق من الخلف، شعرها مصبوغ بلون ~~الحداد، والفستان أسود مشقوق من الجنب بطول السمانة والفخذ، الشق المشروع، يتمشى مع الموضة، ~~رفيع كالشعرة، لا يكشف عن شيء مما يغضب الله، تسير بخطوة متزنة، رغم الكعب العالي الرفيع، ~~تختفي وراء نظارة سوداء كبيرة، ملامحها معروفة للجميع، من حقها التنكر، لها مكانها في الصف ~~الأول، نصيب من ميراثه، تحمل اسمه حيا وميتا. # إلى جوارها تمشي زوجته الشرعية القديمة، تلف رأسها بحجاب أسود وثوب محتشم لا يكشف ولا يشف ~~ولا يرف، تبسمل وتحوقل وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، بطرف عينها ترمق الجسد الأبيض تحت ~~الفستان الأسود، يكاد ينطق، والشق الطولي يكشف عما حرم الله، لا تريد رؤيته حيا أو ~~ميتا، لولا أنه زوجها الشرعي القديم، أبو الأولاد والبنات، اسمه كبير، عموده طويل، يمتد ~~في الداخل والخارج، عائلته ممدودة إلى سلالة الملك والأنبياء، جده معروف في التاريخ، عمه ~~كان شاعر الملك بلقب وزير، خاله نائب وزير، سفير، نائب رئيس تحرير. لا تقل درجة الرجل فيهم ~~عن أفندي أو سيد، بعضها سقط في التاريخ، بعضها لم يسقط بعد، وكلها تنم عن ارتفاع الرجل، لا ~~تصدر إلا بالقرار أو المرسوم العالي، مع المرسوم من ms60 المال السايل وماء الوجه. # أمي إلى جواري تمشي في الصف الأخير، زوجته غير الشرعية لحسن حظها، وإلا أخذوها معهم في ~~الصف الأول، لتتلقى العزاء، ترسم الحزن فوق وجهها رغم أنفها، تنحني قامتها الطويلة لتصافح ~~ذوي القامة القصيرة، تقبل رأس خوفو وأبي الهول وخفرع ومنقرع، ذوي الأعمدة المقدسة، عواميد ~~الحجر، الكلمات المسلحة بالأسمنت، يتنافسون عليها بالمناكب والأسنان، والأقلام الرصاص. ~~المساحة محدودة ممنوحة بالعمود أو نصف العمود، أو الثلث أو الربع، بالطول أو بالعرض أو ~~بالبنط العريض أو الرفيع أو الوسط، بدون الصورة أو بالصورة أو نصف الصورة، من الأمام أو ~~الجنب البروفيل، بالابتسامة أو نصف الابتسامة، أو نصف تكشيرة أو تكشيرة كاملة، شرود النظرة ~~بعيدا، لفتة خفيفة بجانب العين إلى مركز الضوء، اليد اليسرى تحت الخد الأيمن، أو اليد ~~اليمنى تحت الخد الأيسر، لا يمكن للرجل منهم أن يمارس التفكير دون هذا «البوز». والمرأة ~~تنتقل إليها العدوى إن حملت العمود، تظهر صورتها برأسها المكشوف، أو الملفوف بالحجاب، أو ~~نصف الحجاب، مع نظرة مائلة ناعمة مشروعة لا توحي بالإغراء أو الفتنة. # حين وقعت الهزيمة جاء أبي لزيارة أمي، لم يكن يزورها إلا في الهزائم، تنسحب الدنيا ~~وزيناتها من تحت قدميه، تغضب زوجته الشرعية الجديدة وتترك البيت، زوجته الشرعية القديمة ~~غاضبة من قبل، أولاده الشرعيون تركوا الهوية و«الكالشر» وهاجروا إلى بلاد لا تعرف الله. يجد ~~نفسه وحيدا قعيد البيت، يفتح دفاتره القديمة، يفتش عن صداقات الطفولة، علاقات حب غير شرعية ~~سقطت من الذاكرة، وحين يأتي أناديه بلقبه مثل الغرباء، فهو أبي غير الشرعي، لا تربطني به ~~إلا لحظة عابرة طائشة في حياته السابقة، يندم عليها إن أقبلت عليه الدنيا، وإن أدبرت يأتي ~~إلينا يشكو ذبحة صدرية، جلطة في القلب أو المخ، تكشيرة خفيفة عابرة فوق جبين الذات العليا، ~~رئيس المؤسسة، وإن كانت مؤسسة الدواجن، كان يجلس في مقعده منفوشا كالديك. يضع الساق فوق ~~الساق، لا أحد يجلس هذه الجلسة إلا هو، أو نائبه في غيابه، أو نائب النائب في غياب النائب، ~~وفي ms61 غياب هذا الأخير يمكن للرجل منهم أن يضع الساق فوق الساق دون جلطة في المخ. # كنت أرى أبي يتسلل إلى بيت أمي، أصبح عجوزا، ظهره محني. لا يذكر الرجل منهم زوجته غير ~~الشرعية إلا بعد انحناء الظهر، زوال الفحولة الذكورة، انكسار القلب، تهشم العظام، وجفاف ماء ~~الوجه، يأتي متسللا كأي زوج غير شرعي. وكنت أعيش مع أمي في شق مهجور وعائلة مجهولة، ليس ~~فيها رجل واحد يحمل لقب أفندي، دخلت أمي المدرسة خلسة وخرجت منها خلسة، علمت نفسها القراءة ~~والكتابة خلسة. عرفت الحب خلسة، والأمومة خلسة، كل شيء في حياتها انتزعته خلسة من وراء ~~الزمان والمكان، عاشت في الشق مجهولة، وإن كتبت شيئا يظل مجهولا. وكنت مثل أمي أحب أبي ~~خلسة، وهو حب بلا مقابل، أو الحب غير المحترم في نظر الرجال المحترمين والنساء المحترمات، ~~لا تقع الواحدة منهن في الحب قبل أن يسجل العقد بحضور الشهود، ويدفع المقدم والمؤخر وتوقع ~~قائمة العفش. # وكانت أمي فتاة عذراء، تحلم بالبيت والزوج والأطفال حسب شرع الله. قال لها أبي: أحبك. ~~صدقته على الفور بحكم النقاء والطهارة. وكان أبي من أسرة عريقة، يتطلع إلى ابنة أو نائبة أو ~~نائب نائبة، أو رجل آخر من أولاد الذوات، يفصلون بين الجسد والروح: تنجذب روحهم إلى الطبقة ~~العليا، ينجذب جسدهم إلى الطبقة السفلى. أباح الله لهم الملذات، في الدنيا والآخرة، يعاقرون ~~الشعر والأدب والنساء والخمر والنقد. وكان النقد غير شرعي، يسيء إلى سمعة البلد، ثم ~~أصبح شرعيا، بشرط عدم المساس بالذات العليا، يتنافسون عليه بالمناكب، يشبعونه بقصائد ~~المدح، يتربصون لموته لاحتلال مكانه، يتعانقون في كل لقاء، يتبادلون القبلات، يتصاهرون، ~~يتناسلون، يتعاطون المعاصي، وكلها صغيرة لا ترقى إلى الكبائر، يمكن إزالتها بالصلاة يوما ~~بيوم، أو بالطائرة إلى قبر الرسول على نفقة الدولة، أو الاعتكاف في قصر الجنوب أيام البرد، ~~أو الساحل الشمالي أيام الصيف، يطلبون المغفرة، والله يغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك ~~به. # وكان أبي طاهر الذيل، لا يؤجل إزالة المعاصي إلى الغد، تتفوق سعادته الروحية ms62 على الإحساس ~~بالذنب، لم تكن له تجارب في الماضي إلا مع النساء، لا شيء يلوث سمعة الرجل إلا الماضي ~~السياسي. وكان أبي كالفتاة العذراء، بلا ماض إلا علاقاته غير الشرعية، وهي خبرات في الحياة، ~~لا تنال من قيمة الرجل المحترم، بل ترفعه إلى مصاف الخبراء، وكبار الأدباء والشعراء، يهبط ~~الوحي عليه من أعلى، فهو يؤمن بالذات العليا أو بالآخر في علاقته بالذات، وهو مرهف الحس ~~والإحساس، يتجلط الدم في عروقه لأقل هزة تحت العرش، أو سحابة رقيقة تعبر وجه الذات العليا، ~~أو وخزة من وخزات الضمير حين يصحو، أو أكلة ريفية حين يعود إلى «الكالشر» والهوية، قطعة ~~فطير مشلتت أو ورك بطة. الممنوعات تزداد بازدياد السن والمكانة، جلطة المخ تتكرر بتكرار ~~الكوارث أو الهزائم. ثم تنتهي النوبة، تتحول الهزيمة إلى نصر بقدرة قادر، ترتدي اسما ~~تنكريا، تطل الهزيمة من وراء النقاب بعين واحدة أو نصف عين، وتزول الأزمة، تتسع الابتسامة ~~في الصورة أو تضيق، حسب حجم الهزيمة أو النصر، ويصبح الكاتب الكبير مؤيدا معارضا، ~~منتصرا مهزوما، صاحب عمود دون أن يكتب، كمن يشرب الخمر دون أن يسكر، أو يقع في الحب دون أن ~~يحب، أو ينهزم في معركة لا يدخلها. وإن جاء النصر بلا تدخل منه، يركب الموجة كالمرأة بعمود ~~واحد أو نصف عمود، يكتبه له الساعد الأيمن أو الأيسر، فإذا به زعيم محمول فوق الأكتاف، ~~يتلقى الوسام في المدينة المنورة بجوار الحرمين الشريفين، وفي مدينة النور وراء البحار ~~يقيمون له تمثالا. # بعد الدفن والصلاة نفضوا أيديهم منه، عادوا إلى حياتهم يتنازعون مكانه وعموده، وصورته ~~انسحبت من البرواز، ظهر وجه رجل آخر، ورث المساحة بالروح أو بالدم، أو صلات الرحم، وكلها ~~علاقات شرعية. رجالات ونساءات يتنازعون الميراث والتراث، لا يكفون عن التنقيب عن أملاكه ~~المجهولة، أرصدة غير مرصودة، وأعمدة غير منشورة. أكثرهم تنقيبا كانت زوجته الشرعية ~~الجديدة، كان يخفي عنها أشياء كثيرة داخل الأدراج السرية، تزداد أسرار الرجل منهم بارتفاع ~~المكانة، حتى رأس الهرم، ويجد الواحد منهم نفسه واقفا فوق ms63 القمة على قدم واحد أو محمولا ~~داخل النعش فوق الأعناق. # القاهرة، أغسطس 1997 # | ثمن الوهم # كان جالسا بجوار المروحة الكهربائية، مسندا رأسه الكبير بلا شعر إلا ذؤابة رمادية فوق ~~كل أذن. أذناه كبيرتان مرهفتان، تهتز شعيراتهما مع هواء المروحة، بخلاف عينيه الصغيرتين ~~بلا رموش وبلا شعرة واحدة تهتز. أصابعه ذات العظام الكبيرة في السن، تزداد ضخامة مع الضوء ~~الخافت المنبعث من لمبة واحدة صغيرة، ترتعش بمس كهربي وسط أربع لمبات محروقات اسود قلبها ~~بفعل الزمن. صوته فيه بحة سبعين عاما، أكلت حبال الصوت منذ تكلم وهو في المهد صبيا، وحين ~~انتصب واقفا فوق منصة خشبية، ولا يزال يتكلم حتى هذه اللحظة الأخيرة متوهما أن العالم ~~يسمعه، وأنها هي ضمن هذا العالم تسمعه، وكلما همت بالرد على سؤال لا يتوقف ليسمعها، ~~يستمر في حديثه رافعا يده اليمنى في الهواء، بحركة اعتراضية كمن يوقف الهواء: أرجوك يا ~~فتحية، لا تقاطعيني حتى أنتهي، وبعد ذلك لك مطلق الحرية في الكلام! # كلمة «مطلق» بحروفها الأربعة، وخاصة حرف الطاء والقاف، تخلق في الجو وراءها صدى فخيما، ~~له فخامة الحرف العربي العتيق كالجواد الأصيل، حنجرة أكثر أصالة، قادرة رغم الزمن على ~~التفخيم والتعظيم. # وهي جالسة أمامه داخل ثوب من ثياب البيت، بلا زينة ولا لون إضافي للخد الشاحب، ولا دهان ~~فوق بشرتها يخفي العروق النافرة تحت الجلد أو التجاعيد أو البقع السوداء الزاحفة مثل ~~النمش. # لم يعد يهمها أن يراها كما هي، ولا شيء يخجلها من سنين عمرها إلا ثلاث أسنان تخلعها في ~~الليل، وفي الصباح تركبها فوق الفجوة الكبيرة تحت الشفة العليا، وإذا ابتسمت أو ضحكت حرصت ~~ألا تفتح فمها كثيرا حتى لا ينكشف الخطاف الأبيض من المعدن. # وهو جالس أمامها، ولا شيء يخجله حين يفتح فكيه عن آخرهما، كاشفا عن فك أعلى لم يبق به ~~إلا ثلاث أسنان ساقطات متهدلات، بلون داكن، فوق فك أسفل خال تماما من الأسنان. صوته لا ~~يزال عاليا، مليئا بالثقة، فهو رجل أكبر منها بعشرة أعوام، ينظر إليهما كأنما هي ms64 بلغت ~~نهاية العمر، ولم يعد لها دور في الحياة سوى أن تنصت إليه. # وهو لا يزال رجلا يخفق قلبه لمرأى الفتيات، ومن حقه الاستمتاع بالحياة حتى آخر رمق، وأن ~~يزف نفسه لعروسة شابة تحميه من سوق البغايا أو جرثومة الإيدز، تغسل هدومه، تحمل همومه، ~~وتنصت إليه في الليل الموحش الطويل، وهو يحكي عن ذكريات الشباب. # أرجوك يا فتحية لا تقاطعيني، أنا في حاجة إلى الاستمتاع، فلم يعد أمامي وقت طويل لأضيعه، ~~بعد أن سقط القناع عن وهم حياتي! وماذا كان وهم حياتك يا محمد؟ # إنها لا تعرف تماما، فهو لا يعطي الوهم اسما. وما أهمية الاسم يا فتحية بعد أن سقط ~~القناع، وكان يمكن أن أسقط معه، لولا أنني أدركت قبل جورباتشوف بعشر سنوات أن هناك خطأ في ~~التطبيق، وربما أيضا في النظرية. ولم لا يا فتحية، فهي نظرية من أعمال البشر، وأكثر ~~خطئها أنها كانت ضد مسيرة التاريخ، وضد الطبيعة الموروثة منذ آلاف السنين. وهل يمكن أن ~~يتساوى الناس كأسنان المشط، أو تلغى الفروق بين البشر؟ مثلا هذه الفروق الطبيعية التي ~~خلقها الله لكل من المرأة والرجل، هل يمكن أن نلغيها يا فتحية؟ # وهنا يلوح له شبح زوجته الميتة، عاش معها أربعين عاما دون أن يرتفع لها صوت، وماتت كما ~~عاشت صامتة. لكن هذه العروس الشابة صوتها عال، وليت الأمر مجرد الصوت العالي يا فتحية! ~~أتعرفين ماذا قالت لي حين عرضت عليها الزواج؟ # ولا تسأله فتحية ماذا قالت العروس، فقد سمعت منه الحكاية بالأمس حين زارها بعد الغروب، ~~وبعد أن هاجر زوجها لم يكن أحد يزورها إلا هو، فهو صديق قديم منذ الطفولة، وفي وجود زوجها ~~كان يرمقها بطرف عين، ترى اللمعة وتدركها بحاسة الأنثى، تعرض عنه وفاء لزوجها الموجود. ~~وبعد أن سافر زوجها دون أن يعود، وأصبحت امرأة وحيدة بلا زوج، وراحت اللمعة من عينيه، كأنما ~~لا يشتهيها إلا وهي مملوكة لرجل غيره، يريد امتلاكها بلا رغبة فيها، برغبة أخرى ضد الذكر ~~الآخر، يشتهي الانتصار عليه. # أتعرفين ماذا ms65 قالت لي هذه البنت يا فتحية ؟! # لا يكف عن ترديد السؤال لنفسه، ينشرح صوته المبحوح بسكين تتقطع معه حبال الصوت، لا يكف عن ~~إيقاع الألم بنفسه، كمن ينكأ الجرح بيده في بدنه يستعذب الألم، وكلما اشتد العذاب تضاعفت ~~عذوبته. # وهي تعرف الحكاية من أولها لآخرها، ليس بها شوق لأن تعرف أكثر، وكل ما يشغلها أنها بالأمس ~~بعد الغروب، خرجت إلى الشارع تشم الهواء بعد انغلاق السنين في البيت، خرجت إلى الشارع تنظر ~~إلى البشر، لكن أحدا من البشر لم ينظر إليها. تسير بخطوة تشبه خطوة عجوز كانت تراه وهي ~~طفلة يمشي بهذه الخطوة، وحين كانت تمشي في الشارع وهي شابة، كانت ترى العيون تتجه نحوها، ~~وتلمح، وتدرك، بحاسة الأنثى أنها مرغوبة ومطلوبة، تهتز فوق كعبها العالي بنشوة، فالعالم كله ~~يرغبها، وهي لا ترغب إلا رجلا واحدا، هو زوجها على سنة الله ورسوله. # لكن يا محمد، هكذا قالت عيناها وهي تنصت إليه، سقط القناع عن وهم حياتي، ولم يعد أمامي ~~وقت طويل لأضيعه، وأنت أيضا مثلي تمشي في الشارع كتلة عجوزة من اللحم، بلا قيمة يا محمد ~~مثلي، وهكذا تساوينا في الشيخوخة بمثل ما تساوينا في الطفولة. # لم يعد محمد يطيق أن يسمع كلمة المساواة، وعيناه تردان على عينيها: نعم يا فتحية، عشت ~~حياتي مخدوعا بهذا الوهم الذي اسمه المساواة. انظري إلى أصابعك التي خلقها الله، أهي ~~متساوية؟ أبدا، إنها غير متساوية! المساواة يا فتحية ضد الطبيعة، ضد إرادة الله، لكن عقول ~~الشابات اليوم أصبحت خرقاء، وتصوري هذه البنت المفعوصة تريد أن تكون متساوية معي، وأنا الذي ~~يكبرها بأربعين عاما، وربيت أجيالا من الشباب مثلها؟ أتتصورين هذا يا فتحية؟! # كان يسأل نفسه ويجيب على نفسه بلا توقف، وسمع صوته يردد أنه ربى الشباب جيلا وراء جيل ~~على قيم العدل والمساواة، ثم تدارك الأمر واكتشف أنه منذ لحظة كان يؤكد العكس، واسترسل ~~في الكلام متوهما أنها لم تكتشف ما اكتشفه، فهي جالسة أمامه تهز رأسها بالإيجاب، وعلى ~~وجهها ابتسامتها المنكسرة، تلوح له ms66 وهو راقد بعد الغروب فوق السرير وحيدا مهجورا بلا أحد، ~~ينهض بجسد ثقيل وقلب مملوء بالرمل، ويأتي إليها يحكي، يفرغ قلبه من الرمل، لتحمل عنه العبء، ~~كما حملته زوجته الميتة. وهي صامتة تماما ككل الزوجات الميتات، ولا شيء يؤلمه منها إلا حين ~~تتحرك عيناها بعيدا قليلا، فيفوتها شيء من كلامه، أو هكذا يبدو إليه. ~~- تعرفي يا فتحية البنت المفعوصة دي قالت لي إيه؟ # لكنها ليست بنتا مفعوصة، وإنما شابة في الثلاثين من العمر، تخرجت في كلية الطب ولم تجد ~~عملا إلا مضيفة جوية في شركة الخليج للطيران، وجاءها عريس من الخليج، اشترط عليها التفرغ ~~في البيت، وفقدت عملها في الشهر الأول، ثم فقدت عريسها في الشهر الثاني، عاد هو إلى ~~زوجته الأولى، وعادت هي إلى مساحة نصف متر في بيت أهلها، أمام الحوض في المطبخ المظلم، تلوح ~~لها الشقة المطلة على النيل، وعريسها مفتون بها قبل العرس: # طلباتك يا ست الحسن؟ # ولا يخرج صوتها من حلقها لتقول أريد شقة باسمي، أو أريد كذا من المال، أو أي طلب آخر له ~~ملمس مادي، وقد غذاها أبوها منذ الطفولة بالروحانيات، امتلأت روحها بذلك الاحتقار النبيل ~~للماديات، وأطرقت خجلا بحمرة العذراوات: لا شيء يا حبيبي أريده إلا أنت. ولم يكن هو يعرف ~~قيمة امرأة بلا ثمن يدفعه من جيبه أو عقار أو أرض أو حجر كريم أو فص من الماس، وما يأتيه ~~بلا ثمن يذهب بلا ثمن، وهكذا حين جاء العريس الثاني، قال لها أبوها المريض في الفراش: لا ~~يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ولا تعطي المؤمنة نفسها بلا ثمن، أو شقة من ثلاث غرف على ~~الأقل. ~~- بنات آخر زمن يا فتحية، وتصوري أنا أقدم لها نفسي كزوج له اسم وتاريخ، وهي لا يهمها إلا ~~ثمن المدفوع المادي. كنت أنظر إليها كملاك طاهر محلق في سماء الحب، لكن القناع سقط كما سقط ~~الوهم! ~~- هل كفت البنات يا فتحية عن الحب في هذا الزمن الرديء؟! في زماننا، كنا نعيش الحب ~~ونلقي بأنفسنا في النار ms67 من أجل العدل. أكان كل ذلك وهما؟! ألا يحتاج الإنسان يا فتحية إلى ~~الوهم ليعيش؟! # تحاول فتحية أن ترد بلا جدوى، وماذا يمكن أن تقول، نعم يا محمد لا يمكن أن تعيش بلا وهم، ~~وأقسى ما في مرور الزمن أنه يكشف بلا رحمة عن الوهم، والحياة بلا وهم كوجهك العجوز أمامي، ~~كصوتك المشروخ بلا لحظة صمت، كعينك بلا لمعة، بلا لهفة، بلا شبق، بلا شهوة، بلا ارتعاشة، ~~حين تتلامس اليد مع اليد. ~~- تصوري يا فتحية، أنا لا أكف عن التفكير في هذه البنت مع أنها أهانتني! كل ما فعلته في ~~حياتي لا يساوي عندها شيئا، ما دمت عاجزا عن أشتري لها شقة باسمها، أهي إهانة للرجل يا ~~فتحية أن تشترط عليه المرأة قبل أن يدخل بها، وأن يكون هذا الشرط شقة مثلا؟! أهي تبيع ~~نفسها لي؟ أم أنني أبيع نفسي لها لو كنت أملك ثمن الشقة؟! # صوته ينشرخ أكثر وهو يرد: لو كنت أملك ثمن الشقة ... لو ... في انشراخة صوته وهو ينطق حرف ~~اللام والواو، تكسو عينيه سحابة حزن وانكسار، رجل بلا قيمة إلا جيبه، وجيبه فارغ من ثمن ~~امرأة لا ترغبه إلا بعد أن يدفع الثمن، وهو يرغبها وإن اشترطت الثمن، ويرغبها أكثر كلما ~~ارتفع الثمن الذي لا يملكه، ولا يمكن أن يملكه، وإن سرق أو باع نفسه في السوق! ~~- تصوري يا فتحية، لأول مرة أشعر في حياتي بالإهانة. # فتحية جالسة أمامه تنظر إليه بإشفاق الأم، وهو أكبر منها بعشر سنوات، وأكبر منها في ~~المقام، وله اسم وهي بلا اسم، وله ماض أو تاريخ يستند إليه، وهي بلا ماض وبلا تاريخ. ولا ~~شيء تملكه إلا الوهم بأن يراها كما كان يراها وهي مملوكة لرجل آخر، وتلمع عيناه بالشبق، ~~وتعطيه نفسها بلا شرط ولا ثمن، إلا تبادل الحب بالعدل والقسطاس على سنة الله ~~ورسوله. # وهو جالس أمامها يحكي بصوت الابن المكلوم، يفرغ همومه في قلب الأم، يحملها فوق طاقتها ~~العبء فوق العبء، يطهر نفسه من الأدران، يترك لها الأدران لتغسلها ms68 بلا مقابل، كالأم تعطي ~~بلا ثمن إلا الحب. # ثم يتركها ويمضي، وهي جالسة ثقيلة القلب، تحاول عبثا أن تلقي عن نفسها العبء، أو تترك ~~أدرانه بلا غسل، تعاف رائحة الدرن، وانحدارة رجل عجوز في نهاية العمر، يسعى بلا كلل ولا ~~ملل إلى عروس شابة في أول العمر، لا ترى منه إلا جيبه خاليا من الثمن. # وتنهض إلى الشارع تمشي وتشم الهواء، تنظر إلى البشر. تتداخل الأشياء أمام عينيها، لا ترى ~~الرصيف كما كانت تراه، ولا أسماء الشوارع، ولا الإعلانات أو الصور المتحركة، أهي الشيخوخة ~~تضعف البصر، أو أنها الحياة بلا قناع وقد سقط الوهم؟ # انتبهت وهي تمشي إلى لمعة في عيني رجل، شاب في عمر ابنها المهاجر ينظر إليها، تتعلق ~~عيناها بعينيه، تهتز فوق كعبها العالي بنشوة، تتبعه بخطوها البطيء، ثم تسرع، تزداد ~~نشاطا، يعاودها الحنين إلى العودة كما كانت، قبل أن يزول الوهم. وفي خطوها السريع تدرك ~~أنها تسبق الزمن، وليس أمامها وقت، وأنها يمكن أن تدفع حياتها من أجل أن تعود الحياة كما ~~كانت قبل أن يعريها الزمن. # القاهرة، مارس 1990 # | سقوط رئيس دولة عظمى1 # جمع أوراقه الشخصية، أرصدة وصفقات غير معلنة، خطابات غرامية سرية، ميداليات وأوسمة محفور ~~عليها اسمه وأبيه وجده نهض من وراء مكتبه البيضاوي، جسمه ثقيل على غير العادة، زوجته جالسة ~~في البهو تنتظره، واضعة الساق فوق الساق، لم تنزل ساقها حين رأته كما كانت تفعل، يشمخ بأنفه ~~في حركة رجولية تذكره بأبيه. ~~- هيا بنا يا عزيزتي. # يمتد ذراعه نحوها، رعشة خفيفة في ساقيه، تتراءى له أمه وهو طفل يتعلم المشي، ويداها التي ~~تمتد إليه قبل أن يسقط. # يحرك عينيه بعيدا عن زوجته، يتفادى نظرة أمه لأبيه حين سقط. # يمشي إلى جوارها حتى سيارتهما الخاصة، ليست السوداء المهيبة يرفرف عليها العلم، وليس هناك ~~الحرس المهيب بالبدل الرسمية والأزرار الذهبية، ولا الأيادي المرفوعة بالتحية، ولا الموسيقى ~~تعزف النشيد الوطني. # عيناه شاردتان من خلال النافذة، لم يعد العالم هو العالم، والكوبري لم يعد الكوبري، ~~والأضواء لا تنعكس من ms69 السماء إلى الأرض. # زوجته جالسة إلى جواره صامتة. الصمت ثقيل، يشبه الصمت في بيت أبيه وهو طفل، وفي عينيها ~~نظرة أمه. # في كل فشل كان يرى هذه النظرة في عينيها، طبق الأصل من نظرة أمه، كانت تنحني أمام أبيه ~~بفنجان الشاي وهو جالس الساق فوق الساق يقرأ الجريدة، أو وهو يتابع الأخبار على الشاشة، أو ~~مباراة الكرة، وفي الصباح لا مانع من ذهابها إلى مكتبها في المجلس الوطني أو الحزب الجمهوري ~~أو الجمعية الخيرية، وحصولها على المال والشهرة، بشرط أن يظل هو الرئيس في الحزب والبيت ~~والسرير. # إذا احتدم يسود رأيه لأنه الرجل كما خلقه الله، إنها إذن مشيئة الخالق سبحانه في السماوات ~~العليا. ~~- اسمعي يا هيلاري لن أكون أبدا مثل أبيك، ولن تكوني أبدا مثل أمي، ولن تنظري إلي في ~~يوم من الأيام تلك النظرة. # لم تطاوعه زوجته طويلا، تتركه يشاهد البيسبول مثل أبيه، يذهب إلى عشيقاته بعد صفقاته ~~السرية، لم يكن من سبب للصراع إلا تشبثه بذكورته الموروثة منذ العبودية، عيناه يثبتهما في ~~عينيها لإثبات الرجولة، لكن الرأي الصائب كان يسود في النهاية بصرف النظر عن الجنس. # يشتد الصمت داخل السيارة، تفتح الزوجة جريدة الصباح، ترى صورته أصغر مما كانت، بضعة سطور ~~تحت الصورة تقول: مسكين بيل كلينتون، رغم ضعفه أمام النساء كان عنيفا مع الأعداء واتخاذ قرارات الحرب، ~~لكن إخلاصه للوطن يغفر له خياناته الزوجية حسب مبادئ حضارتنا الإنسانية. # كانت أمه تتنبأ له بالفشل والتعاسة مثل أبيه، وأقسم بعد موت أمه أن يكذب نبوءتها، وأن ~~ينجح وينجح حتى يسود العالم، في السرير يحوم شبح أمه يؤكد له الفشل، يصحو كل يوم بإرادة ~~أصلب من الحديد. # يوم فوزه بالحكم قال لأمه في النوم: خابت نبوءتك يا أمي. # وحين أعلن الحرب ودكت قنابله العراق قال لها: أصدرت يا أمي قرارا يعجز عن إصداره أعتى الرجال. # من وراء الزجاج سمع زوجته تقول وهي واضعة الساق فوق الساق: وماذا أخذت يا بيل من كل هذا النجاح السياسي إلا انتصارات جنسية سرية ms70؟ # زم فمه المزموم من قبل وقال: تتكلمين الآن مثل أمي وقد أصبحت شكلها بالتجاعيد. ثم تسكت الزوجة كما كانت تسكت، وقالت ~~بصوت مرتفع لم يسمعه من قبل: وأنت أصبحت شكل أبيك بالتجاعيد والسعي لدى الفتيات لاستعادة ~~الذكورة. دب الصمت ثقيلا طويلا. # ثم عادت الزوجة إلى الحديث: # الاستبداد والعنصرية وقتل الأبرياء والخضوع لشهوة المال والجنس هي بعض التهم الموجهة ~~إليك. قاطعها بعنف: # أنت ترددين ما يقوله أعدائي! ~~- لا يا بيل، أنا زوجتك المخلصة، غفرت لك سقطاتك السياسية والجنسية؛ لأني كنت أحبك، لأني ~~كنت أحبك فعلا. ~~- كنت تحبينني! كنت! يعني أنك لا تحبينني الآن يا هيلاري؟! هذا بالضبط ما يحدث لكل ~~الزوجات حين يمر الزوج بأزمة، منذ طفولتي عرفت أن عش الزوجية وهم كبير يطيره الهواء في أية ~~لحظة. # قهقهت الزوجة حتى اهتز لقهقهتها الكون. ~~- أنا التي حافظت على هذا الوهم من أجل طفلتي وليس من أجلك، لولاي لطار هذا العش لأي نزوة ~~من نزواتك العابرة، ومع ذلك أقسم لك أنني أحبك الآن أكثر مما كنت أحبك وأنت في ~~الحكم. ~~- طبعا؛ لأنك تحبين هزيمتي ولا تحبينني أنا! # لمحت الدمعة من تحت اللمعة في عينه، فأمسكت يده وتطلعت إلى الأفق: # لم يبق لنا في العمر كثيرا يا بيل، فلماذا لا نعيش في سعادة؟! انظر يا حبيبي إلى أشعة ~~الشمس المنعكسة على حمام السباحة، هيا بنا نأخذ غطسا. حرك الرئيس رأسه الساقط ناحية الأفق، ~~وكانت السيارة قد وصلت القصر والشمس أوشكت على المغيب، وهو واقف إلى جوار زوجته في الشرفة، ~~راح يتأمل ألوان السماء المبهرة لحظة الغروب، خرج من صدره زفير عميق طويل من تحت حزام ~~البنطلون المشدود حول بطنه، عيناه تذوبان في ألوان الطيف، منذ طفولته لم يشهد هذه الألوان ~~الساحرة، صمت طويلا يمتص اللحظة بجفونه نصف المغلقة وبفتحات أنفه وشفتيه نصف ~~المفتوحة. # تنهد هامسا لنفسه: الدنيا جميلة كما كانت، لكن الناس تغيرت، إنها طبيعة ~~العبيد! # تبسمت زوجته بسخرية: وإنها طبيعة الأسياد أيضا، فالسيد والعبد وجهان لعملة واحدة! # رشفت الزوجة من كوب الويسكي ms71: ولماذا نلوم الطبيعة يا بيل، لماذا نعلق آثامنا على الله؟ ~~إنها الذكورة أو الرجولة والطموح ولذة السلطة. ~~- أليس هو الله الذي خلقني ذكرا؟ ~~- أنت لم تولد ذكرا، ولكنك أصبحت ذكرا بالتربية والتعليم في البيت والمدرسة والحزب، ~~أصبحت ذكرا وفقدت إنسانيتك، تمسك الإنجيل في يدك وتعلن قرار الحرب، ضاعفت عدد الفقراء في ~~العالم وقتلت الأبرياء دون أن يرتعش لك رمش أو يطرف لك جفن، تخطب بصوت جمهوري عن عدالة ~~المسيح، وتتحدث عن السلام ويداك مضرجة بدماء القتلى. # وهو راقد إلى جوارها في السرير يسمع صوتها من تحت الوسادة، لا تكف عن الكلام وإن سكتت ففي ~~بطنها مخزون من الكلام المضغوط تحت المشد المطاط، يضع وسادتين فوق رأسه ويعطيها ظهره، يواجه ~~الحائط بعينيه المفتوحتين ويهمس: كيف اختزنت يا حبيبتي كل هذه الكراهية لي كل هذه السنين؟ ~~- كنت أخاف يا حبيبي من رئيس الدولة. ~~- وأنا كنت أخاف يا حبيبتي من السيدة الأولى! # يجهش بلا صوت فوق صدرها، وتجهش بلا صوت فوق صدره، أنفاسهما تختلط وصوتهما يختلط. ~~- ربما، ربما نتخلص معا من الخوف يا حبيبي. ~~- نعم يا حبيبتي. # | قصة الانتخابات في مصر1 # انفصام غير معلن # قالت أمي إنها ولدتنا أنا وأختي في نفس واحد، ملأت أمي صدرها بالهواء ولفظتنا في جسد واحد ~~نحن الاثنتين، اندفعت أختي من الثقب الضيق إلى العالم الواسع، وأنا تأخرت عنها في الخروج ~~دقيقة واحدة أو نصف دقيقة. # أصبحت هي أختي الكبرى وأنا الصغرى، تسبقني في كل شيء، في الحياة وفي الموت، وفي الجزاء ~~والعقاب، وفي الحب والكره وفقدان الشرف. # ورثت عن أبي الاسم والشرف، والتفكير الطويل حتى يضيع الوقت، لم أندفع مثل أختي دون تفكير ~~من الثقب، كانت أمي هي الثقب الذي خرجنا منه، نحاول أن ننساه ونقطع الصلة به تجنبا ~~للعار، ومن أجل السباحة في العالم الواسع حيث أبي وزملاؤه في الجماعة الموقرة. # أيام الجمعة، يرتدي أبي جلبابه الناصع البياض، ولحيته السوداء الناصعة السواد، يرفعها ~~بكبرياء فوق صدره، ليعبر الشارع صعودا نحو الجامع، نتبعه من ثقب النافذة بنظراتنا ms72 المنخفضة ~~ليبدو أكثر طولا، بشاربه الأسود المفتول على هيئة الصقر، سرحته له أمي بالمشط، وبرمته ~~بأصابعها ليبدو أكثر هيبة، دهنته بالمسك، رائحته في أنفي منذ الطفولة حتى اليوم، يحافظ ~~الدهان على تماسك الشعر في مواجهة هبات التراب، والعواصف، أو رياح الخماسين في فصل الربيع ~~والحب. # وأنا كما كنت في طفولتي، جالسة أطل من وراء الثقب في النافذة، أتبعه بنظراتي الواهنة ~~ليصبح أكثر قوة. وما إن يصل إلى باب الجامع حتى يركض نحوه الشحاذون، يغرقونه بالدعوات التي ~~تصعد إلى السماء من البوابات المفتوحة، تلبي السماء طلبات أبي الكبيرة والصغيرة، مثل علاوة ~~أول الشهر، أو زوجة جديدة في عيد الفطر. # لم تكن أمي تذهب إلى الجامع، وإن ذهبت فهي تمشي خلف أبي تحت خيمتها السوداء، لا يراها أحد ~~من الشحاذين، وإن رآها واحد لا تمر يدها إليه، وإن مدتها وخطبت بدعوة أو نصف دعوة، فإن ~~الوقت يكون قد فات وبوابات السماء كلها انغلقت بالقفل. # كانت أختي تشبه أمي، وتحظى بلقب الملاك، تزداد أنوثة وطاعة كل يوم، ليست مثل أختها ~~الأخرى، تلك الأخرى ليست مثلها أبدا، مع ذلك هما متشابهتان إلى حد الإعجاز، حتى بصمة ~~الإبهام الأيمن متشابهة، الدليل الوحيد على إثبات أن الشخص ليس هو الشخص الآخر، وخط اليد ~~عند التوقيع بالاسم الثلاثي، اسم الأب وأبوه وجده، كان متشابها أيضا عند الأختين. # لم يكن إلا المنظار السحري قادرا على اكتشاف الأخت من أختها، وقد عجزت عين الأم وعين ~~الأب عن التفرقة بينهما، وإن تعرى الجسد بالكامل، أو تغطى بالكامل. # بينما كانت أختي تلزم الدار طاعة للرب، كنت أنا أهرب من البيت حين يخرج أبي إلى الجامع، ~~أو حين يذهب إلى الغرزة أو البورصة، أو يسافر إلى الحج أو العمرة، أو أيام الأعياد التي ~~يقضيها مع زوجته الأخرى. # تعودت الهرب أثناء غياب أبي مع رجل من زملائه في الجامعة، أو شخص آخر يشعرني بالحب، ~~وتبحث عني أمي، لا تكاد تعرفني من أختي إلا حين أغيب في الليل أو حين تفتح فمي وتشم رائحة ms73 ~~السبرتو، أو تكشف عن أسناني الحادة المدببة، هذه الأنياب كانت تقبض على حلمة ثديها منذ ~~الطفولة، وتقرقش الزلط، وجذور القرنبيط كالحجر تنسحق بين أسنانها في لمح البصر. # وفي ليلة جاء أبي برجل ليتزوجني أنا وأختي معا، لم يملك أبي ما يقيم به حفلتين اثنتين ~~للزفاف، ودفع الرجل لأبي خمسين جنيها مقدم الصداق، والخمسين الأخرى يدفعها مؤخرا عند ~~الطلاق. وعاش الرجل معنا في الغرفة فوق السرير العريض، على الطرف الآخر بجوار الحائط، حيث ~~ترقد أختي ثم أنا ثم أمي ثم أبي، هكذا بالترتيب الدقيق، دون أن يختل النظام بسقوط ~~الظلام، أو فوضى الأحلام في غيبوبة النوم. # منذ ذلك الحادث الأليم أصاب أختي نوع من المرض، كأنما قام أبي بإيلاج خازوق في جسدها أو ~~في عقلها؛ لأن مظاهر المرض لم تكن بادية، سوى أن أختي كفت عن الضحك، كانت تضحك أحيانا، ~~ربما ضحكة واحدة طوال العام، لم يخفف عنها المرض إلا اختفاء الزوج، تلاشى فجأة كما ظهر فجأة ~~دون أن يدفع المؤخر، وحصلت أختي على جائزة الأنثى المثالية، وتم انتخابها عضوة عاملة في ~~الجامعة، وتتويج رأسها بقطعة أكبر من القماش الأسود، وفي العيد ترتدي أختي ثوب أمي المبقع ~~بالدم منذ ليلة الزفاف. أما أنا فكانت أمي تلبسني ثياب الولد، بهدف خداع أبي والقضاء ~~والقدر، كأنما أنا لست أختي أو أمي أو امرأة أخرى من ذوات الثقب. وكنا «أنا وأختي» نؤدي ~~اللعبة تحت السرير، حيث تكون هي الأم، وأنا الأب بكامل الزي واللحية والشارب. # أسمع الضحكة الوحيدة طوال العام تفلت من أمي، ومن أختي، دون خوف من الزوج أو الأب، أو ~~المرحوم الجد وأبيه المغفور له، من السلالة الممدودة إلى السماء، وفي بطن الأرض. # تعودت أنا وأختي أن نتشابه في كل شيء، لم تنجح أختي أبدا في طمس ملامحها بمساحيق الوجه، ~~وظلال الجفون وخطوط العينين، وفشلت أنا أيضا في معرفة وجهي من وجهها، وإن رأيتها أمامي ~~يساورني الشك أنني أنظر إلى نفسي في المرآة. # كانت أمي تحوط السرير بستارة سميكة داكنة حماية لنا ms74 من عيون الرجال، يستقبلهم أبي في ~~الغرفة، أفتح جفوني في الليل لأرى عيونهم من خلال الستارة ترمقني بجنون الكحول الرخيص، أو ~~الحشيش المغشوش في السوق الحرة. # تنام أمي على طرف السرير، وأنا وأختي على الطرف الآخر بجوار الحائط، فلا يمكن لرجل منهم ~~أن يعبر إلينا إلا فوق جسد أمي، وكانت نافذتنا الصغيرة ذات القضبان الحديدية المحاذية لأرض ~~الشارع هدفا للتراب وكرات الطين، يقذفها الصبيان وهم يلعبون في الشارع، أو خصوم أبي في ~~الأحزاب أو الجماعات الأخرى، المنافسين له في التقرب إلى الله وإلى السلطان. # كانوا يلقون علينا القمامة، وسيلا من الاتهامات بالفساد والرشوة والكذب، يتلقون الضربات من ~~زملاء أبي المؤيدين له في الانتخابات، لم نكن نعرف أنا وأختي الخصوم من الأصدقاء، وكلهم ~~زملاء أبي يتشابهون في الشكل والصوت والحركة، لا أفرق الواحد من الآخر. وفي سن الثانية عشرة ~~من عمري، حين فض أحدهم بكارتي تحت السرير، لم أتبين ملامحه في الظلمة، بعد أن صب لي من ~~زجاجة السبرتو كوبا، ودس في فمي قطعة من البسبوسة، شعرت به مثل خازوق يشق جسدي، وجسد ~~أختي الراقدة معي، وكانت أمي تخرج في غياب أبي لتمسح بلاط الشقق في العمارة أول الشارع، تمر ~~أمي على طوابقها العشرين طابقا طابقا، تمسح بلاطها وهي منكفئة على الأرض فوق ركبتها، ~~برأسها المنكس ومؤخرتها المرفوعة في شموخ، تحميها بكفها الكبيرة من أذى مفاجئ أو خازوق غير ~~مشهود، وتعود أمي لنا بأكياس الطعام وأقراص النعناع. # كان أبي يضربها إن عاد فجأة ولم يجدها، إن حاولنا أنا وأختي حمايتها لا ينالنا إلا الضرب، ~~والشتيمة تنهال على أمي، والثقب الذي خرجت منه أمها وجدتها، ثم يجلس أبي بعد الضرب ~~ويلتهم الطعام الذي جلبته أمي لنا والنعناع. # كنت أحب أبي وأكرهه حتى الموت، أتمنى أحيانا أن أموت أنا وأختي وأمي رحمة بنا، أتضرع ~~إلى السماء أن تنزل علي خازوقا يشق جسدي حتى الموت، لا يعالجني إلا الهروب مع رجل في ~~الليل، لا يغالبني الإحساس باللذة إلا مع الغثيان، كرهت رائحة المسك ودهانات ms75 الشارب ~~واللحية، ولفائف التبغ مع السبرتو والبصل والثوم ، أمضغ بين أسناني الحشائش على جانب الطريق، ~~أو أوراق النعناع الخضراء، لأطهر جوفي من الرائحة العطنة والإثم. # وأترك جسدي العاري تحت السرير يتلوى، فوق ملاءة مهترئة مبقعة بالدم، والسوائل المنوية ~~الصفراء، تشبه القيء الناجم عن حمى الأحشاء، وكانت بعض نسمات هواء رطب تتسلل عبر القضبان ~~وتنعشني قليلا فأفتح جفوني لأرى الخازوق المغرى بالموت منكمشا بالخزي. # إنه سحر الحب الذي أموت فيه، الذي يغني له الراديو والتليفزيون، وفرحة التلاشي الكامل ~~حتى النهاية، لا يزعجني أن أرى نفسي أو أختي تحت جسد غريب أو قريب أو زميل لأبي، أو حتى أبي ~~ذاته، فالنهاية واحدة، ولا شيء يختلف عن الآخر، الفرح كالحزن، والحياة كالموت. # كنت أهرب مع فتى مراهق من عمري، أو عجوز من رؤساء الجماعة، وأكتشف أن العجائز أكثر ~~مراهقة من الصبيان الصغار، حاولت تدريبهم رغم فارق السن على الحب والرحمة والعدل دون جدوى، ~~إنهم يحفظون هذه الكلمات، يرددونها كل وقت دون عناء، دون وعي، مع الإحساس الطاغي بالإثم، ~~أسمع أنينهم وصراخ أرواحهم المثقلة بالذنب، حتى في أوقات الصمت أو النوم أو الراحة من ~~الكلام بعد موسم الانتخابات. # كانت أختي أكثر طاعة مني وأقل حكمة، فهي تصدق ما يقولون من خرافات، يملئون أذنيها بما ~~قاله الموتى من الأسلاف والجدود، بأن أرواحهم طاهرة وأجسادهم مدنسة بحكم الطبيعة وحكمة ~~السماء، وأن خطيئة الواحد منهم لا علاقة لها به، وإنما هو الثقب المثقوب بالخازوق، أو ~~الحمل المأكول بالذئب. # ويمشي الواحد منهم في الشارع، كاشفا وجهه دون حجاب، دون حياء، دون وخزة ضمير، بكل ~~الكبرياء يرفع الواحد منهم وجهه المكشوف نحو السماء، وإن اندفع المولود من الثقب أصبح هو ~~المحكوم عليه مع الأم. # وكان عقل أختي الناقص يمتلئ بالخزعبلات، بينما أنشغل أنا بالعمل النافع، فأقطع الخازوق ~~بسكين المطبخ مثل قطعة من اللحم، أسلقها في الحلة فوق النار، وأعطي أختي لتشرب الحساء دون ~~إدراك، وإن اعترفت لها بالحقيقة لا تصدقني، وتقول عني ناقصة العقل، وأن دمي ملوث بغدة ~~الشيطان ms76. # تلقيت أنا وأختي الدروس نفسها من زملاء أبي في الجماعة، لم يكن أبي يسمح لنا أن نلتقي بهم ~~دون حجاب، مع إسدال الستارة السميكة حول السرير، وتسير أختي في موسم الانتخابات، محملة ~~بالبركات، والمنشورات، ووعود محمولة فوق العجلات، بالإعلانات والملصقات، عن الشعب والعدالة ~~والحرية، تترنح الكلمات وأبواق الإذاعات. # لم تكن أختي تتذمر أبدا، وإن أصبحت هي المرشحة في الانتخابات، يحملوها على العرش لتتلقى ~~الركلات، ثم يلقون بها بعد الموسم في بئر الملذات، وأنا وأختي داخل جسدنا العاري في برد ~~الشتاء. # أحوط ذراعي حول أختي وأهمس دون صوت: إذا نجحت في دخول الجنة فستحملين لقب الشهيدة. وتهمس أختي في أذني: حانكون شهيدتين مش شهيدة واحدة. # ونكتم الضحكة في أحشائنا مثل المراهقات في شارعنا، نراهن يمشين بجوار الجدران، وقد ~~نمت الأعشاب الميتة فوقها والتراب، وكرات الطين الجافة، والمنشورات الممزقة والإعلانات ~~الممسوحة بطفح المجاري، عن المرشحين والمرشحات من كل الجماعات، والأحزاب، والجبهات منهم ~~الأحياء والأموات، يزيد عددهن عن خمسة آلاف أو عشرة أو عشرين أو أكثر، لا يمكن لنا أن نعرف ~~أعداد المراهقات، وأنا وأختي نسير في الظلمة نطل عليهن، كانت أجسادهن غائبة في النوم، فتيات ~~لم يبلغن العشرين عاما أو الأربعين أو الستين، أرواحهن تلازمنا في ظلام الليل، رغم أن لا ~~أحد من سكان الشارع يتحدث عنهن، أو يذكر التاريخ شيئا عن موتهن. # وكان هناك صبي مراهق من عمرنا، هو صديقنا الوحيد، أو صديق أختي الوحيدة، يعيش مع أبيه في ~~البيت المجاور، بعد أن ماتت أمه في حادث غير معلن. كبر الصبي منذ الطفولة معنا أنا وأختي، ~~وكان يكسب رزقه بتوزيع المنشورات في المواسم، والإمساكيات والمسابح والأحجبة، لكن متعته ~~الوحيدة في الحياة أن يدق على حافة نافذتنا من الخارج، تقفز أختي من فوق السرير قبلي ~~بدقيقة أو نصف دقيقة، كانت هي الأسبق وأنا من ورائها أتبعها، يتشرب وجهها بحمرة العذرية، ~~نزحف معه تحت السرير لنلعب اللعبة، العريس والعروسة، نتبادل الأدوار، أرتدي زي العريس وتأخذ ~~أختي دور العروسة، وهو الصبي يتفحص الشخصيتين معا ms77. # كانت بشرته سمراء شاحبة، تعلوها ثلاثة بثور من حب الشباب، تقول عنها أختي: علامات الحب. ~~كانت هي العاشقة للحب العذري، وأنا الناضجة بالعقل والحكمة، أفتح أزرار ثوبي متظاهرة بالنوم ~~أو الموت حتى تتسلل الأصابع إلى جسدي دون عناء. # كانت أصابعه نحيلة شاحبة ترتعش خوفا من عقاب السماء، وكنت أدربه على فضيلة الشجاعة، لكنه ~~كان ينجذب إلى أختي أكثر مني، تسحره بفنون الأنوثة والتمنع، إن فتح أزرار قميصها تغلقها، ~~تضع أمامه الصعاب، مثل جواد السباق، لا يمتعه إلا القفز على الحواجز. # تقاسمت مع أختي وحبيبها المساحة من البلاط تحت السرير، بدافع اللذة والألم، بالأمل أن ~~يشعر بوجودي مثلها، تملؤني الكراهية لهما هما الاثنين، وأعوي في الليل مثل ذئب، لأملأ ~~قلبهما بالرعب، وكانت أختي مدربة على الكذب، من طول السير في مواسم الانتخابات، والهتاف ~~بأغلظ الأيمانات، والادعاء أن لا شيء يجمعها بالصبي إلا الحب العذري وتوزيع ~~البيانات. # وفي ليلة غاب فيها أبي وأمي قررت التجسس عليهما، رفعت عنهما الغطاء لأكشف عن الحق من ~~الباطل، ولأول مرة أشهد كيف ينتفض الجسد باللذة، كيف تتلاشى برودة البلاط وأحزان الطفولة، ~~كيف تتحول عفونة السوائل المنوية إلى عطر، والمدنس يصبح مقدسا، وتزول من فوق وجه الأرض ~~بقع الدم والدمع. # رأيتهما «الاثنان» معا، هو يمسح بشفتيه دموعها الهابطة من الرأس إلى القدم، وهي تسرح شعر ~~عانته الغزير بالمسك، كما كانت تفعل أمي بشارب أبي ولحيته، بينما موسيقى كحرية تنبعث من ~~السماء تبارك الحب، كأنما هي الصلاة يؤديها الصبي وأختي تحت السرير فوق البلاط. # ظللت قابعة في مخبئي، متكورة حول نفسي كالقنفذ، أشهد بلوغهما القمة، المرة بعد المرة، حتى ~~أذان الفجر، وحاولت الوقوف على قدمي في النهاية دون جدوى، كانت عظامي تلين من تحتي كالعجين، ~~وشحنات الدم العذري تلهب وجهي، مهانة الغيرة كالجنين، تملؤني بالسائل المر، المتراكم في ~~أحشائي منذ الطفولة. # غضبت من الصبي إلى حد الكره، بدأت أثير غضبه أو غيرته علي، فأظهر الشبق لرجال كبار من ~~زملاء أبي، إن لم يكن هناك رجل إلا أبي أحاول ms78 معه أيضا، حتى أثرت غيرة أمي وغضبها، أصبحت ~~تصفعني على وجهي المرة بعد المرة، وإن هربت منها تصفع أختي نيابة عني. # كنت أهرب مع أي رجل يصادفني، أبتلع في جوفي جرعات السبرتو الأحمر، بهدف قتل الجنين بالسم، ~~أو إفراغ جوفي من السائل المر، أمضغ بين أسناني قطعة حشيش، وأعض بأنيابي أي خازوق، وأحرض ~~أختي أن تفعل مثلي، ومراهقات كثيرات من عمرنا، أحرضهن على المقاومة والظهور من تحت الحجب، ~~أو الكشف عن وجوههن المختفية تحت المساحيق. # كانت أختي تترنح مثلي بعد أن تشرب السم، ومن حولها العذراوات يؤدين رقصة الملائكة، ~~والمساحة ضيقة تشبه الغرفة التي نعيش فيها، لكنها مفتوحة على السماء، وأنا أرقص تحت ضوء ~~القمر، لم أدرك أنني عارية إلا حين رأيت نفسي في المرآة، وكانت أختي إلى جواري واقفة، تكاد ~~تلتصق بي. # رأيت لأول مرة بطنها المرتفع المملوء بالفرح والحزن، يرمقه أبي وهو راقد في السرير، يبربش ~~بعينيه ويرمقه، يزم شفتيه ويرمقه بضيق، كأنما ينظر إلى نفسه في المرآة. # ثم انغلقت بوابات السماء المفتوحة، راحت الشمس وراح القمر وعمت الظلمة، دخلت إلى الشق ~~الذي أنام فيه فوق السرير، في المساحة بين أختي وأمي، كانت أمي غائبة في النوم، وأختي لم ~~تكن موجودة، بحثت عنها في كل مكان، ثم وجدتها راقدة فوق البلاط تحت السرير، عيناها ~~مغلقتان وبطنها مفتوح بالسكين. # وضعت رأسي فوق صدرها كما أفعل كل ليلة، وبكيت دون صوت، حتى لا أوقظ أمي أو أبي، وهمست في ~~أذنها: إذا نجحت في دخول الجنة فستحملين لقب القتيلة. وهمست أختي في أذني: حانكون قتيلتين مش ~~قتيلة واحدة. وأدركت لأول مرة أن أختي هي أنا. ms79