######OpenITI# #META# URI: 1443HasanHanafi.RisalaFiLahutWaSiyasa.Hindawi90583929 #META# Tags: philosophy #META# ID: 90583929 #META# Title: رسالة في اللاهوت والسياسة #META# AuthorID: 69690517 #META# Author: باروخ سبينوزا #META# EditorID: 90639697 #META# Editor: فؤاد زكريا #META# TranslatorID: 51618527 #META# Translator: حسن حنفي #META# Related_books: 1087BarukhSpinoza.TractatusTheologicoPoliticus (TRANSL) #META#Header#End# # الإهداء‏ # مقدمة الطبعة الثانية1‏ # مقدمة المترجم1‏ # رسالة في اللاهوت والسياسة1‏ # مقدمة المؤلف‏ # 1 - النبوة‏ # 2 - الأنبياء‏ # 3 - رسالة العبرانيين وهل كانت هبة النبوة وقفا ~~عليهم؟‏ # 4 - القانون الإلهي‏ # 5 - السبب في وضع الشعائر، والإيمان بالقصص‏ # 6 - المعجزات‏ # 7 - تفسير الكتاب‏ # 8 - البرهنة على أن الأسفار الخمسة ... ليست صحيحة‏ # 9 - أبحاث أخرى حول الأسفار نفسها، هل عزرا هو آخر من ~~صاغها؟‏ # 10 - فحص باقي أسفار العهد القديم بالطريقة نفسها‏ # 11 - مبحث فيما إذا كان الحواريون قد كتبوا رسائلهم ~~بوصفهم حواريين وأنبياء‏ # 12 - الميثاق الحقيقي للشريعة الإلهية وفي سبب تسمية الكتاب ~~مقدسا‏ # 13 - الكتاب لا يحتوي إلا على تعاليم يسيرة‏ # 14 - ما هو الإيمان؟ وأي الناس هم المؤمنون؟‏ # 15 - اللاهوت ليس خادما للعقل‏ # 16 - مقومات الدولة،1 حق الفرد الطبيعي والمدني،2 حق الحاكم3‏ # 17 - نبين أن أحدا لا يستطيع تفويض كل ما يملك إلى السلطة العليا‏ # 18 - استنتاج بعض النظريات السياسية من دولة العبرانيين ~~وتاريخها‏ # 19 - السلطة الحاكمة هي وحدها صاحبة الحق في تنظيم الشئون الدينية‏ # 20 - حرية التفكير والتعبير مكفولة لكل فرد في الدولة ~~الحرة‏ # الإهداء‏ # مقدمة الطبعة الثانية1‏ # مقدمة المترجم1‏ # رسالة في اللاهوت والسياسة1‏ # مقدمة المؤلف‏ # 1 - النبوة‏ # 2 - الأنبياء‏ # 3 - رسالة العبرانيين وهل كانت هبة النبوة وقفا ~~عليهم؟‏ # 4 - القانون الإلهي‏ # 5 - السبب في وضع الشعائر، والإيمان بالقصص‏ # 6 - المعجزات‏ # 7 - تفسير الكتاب‏ # 8 - البرهنة على أن الأسفار الخمسة ... ليست صحيحة‏ # 9 - أبحاث أخرى حول الأسفار نفسها، هل عزرا هو آخر من ~~صاغها؟‏ # 10 - فحص باقي أسفار العهد القديم بالطريقة نفسها‏ # 11 - مبحث فيما إذا كان الحواريون قد كتبوا رسائلهم ~~بوصفهم حواريين وأنبياء‏ # 12 - الميثاق الحقيقي للشريعة الإلهية وفي سبب تسمية الكتاب ~~مقدسا‏ # 13 - الكتاب لا يحتوي إلا على تعاليم يسيرة‏ # 14 - ما هو الإيمان؟ وأي الناس هم المؤمنون؟‏ # 15 - اللاهوت ليس خادما للعقل‏ # 16 - مقومات الدولة،1 حق الفرد الطبيعي والمدني،2 حق الحاكم3‏ # 17 - نبين أن أحدا لا يستطيع تفويض كل ما يملك إلى السلطة العليا‏ # 18 - استنتاج بعض النظريات السياسية من دولة العبرانيين ~~وتاريخها‏ # 19 - السلطة الحاكمة هي وحدها صاحبة الحق في تنظيم الشئون الدينية‏ # 20 - حرية التفكير والتعبير مكفولة لكل فرد في الدولة ~~الحرة‏ # | رسالة في اللاهوت والسياسة # | رسالة في اللاهوت والسياسة # تأليف # باروخ سبينوزا # ترجمة # حسن حنفي ms001 # مراجعة # فؤاد زكريا # | الإهداء # إلى من ينظرون إلى الكتب المقدسة نظرة علمية ... # المترجم # | مقدمة الطبعة الثانية1 # «رسالة في اللاهوت والسياسة» أوسع النصوص الفلسفية العربية انتشارا. تقرأ في معظم ~~الجامعات العربية؛ لأنها تعبر عن الوضع الحالي للفكر العربي وعما يصبو إليه من نهضة ~~وتقدم. وما زالت قادرة على المساهمة في التأسيس الفلسفي للربيع العربي الذي انطلق من ~~خضم التجربة الحية، وأتون القهر والفقر والتهميش والضياع والبطالة والفساد على النحو ~~الآتي: ~~(1) # التمييز بين التوحيد والعقائد الكلامية؛ فالتوحيد فطري في النفس يقوم على ~~التنزيه دون التشبيه أو التجسيم، ينبع من الأخلاق والعمل الصالح، وهو ~~معنى حديث «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.» أو «الدين ~~المعاملة». والعقائد تصورات إنسانية لما لا يمكن تصوره، تخفي وراءها صراع ~~الفرق، وهو صراع سياسي على السلطة تتبناها الكنيسة، وتدافع عن إحداها ضد ~~الصياغات الأخرى للفرق الضالة الخارجة عن الرحمة الإلهية. ~~(2) # يقوم على العقل، ويثبت بالبرهان، أما العقائد فإنها تقوم على الخيال ~~والصور الفنية والتشبيهات الإنسانية، # ليس كمثله ~~شيء ~~. أما العقائد فأمثال وصور وخيالات تؤدي إلى السحر ~~والخرافة، وتبعث على الوهم والخوف أو الطمع والجشع. يتعامل العقل مع ~~المعاني والدلالات والعبر، في حين يؤدي الخيال إلى قصص الأنبياء ومعجزاتهم ~~والتي تتضخم جيلا وراء جيل في الروايات الشفاهية. ~~(3) # ويقوم على التقوى الباطنية، ولا يحتاج إلى شعائر خارجية؛ رسوم وطقوس. والتقوى ~~الباطنية تقوم على الصدق والتطابق مع النفس وتستبعد كل ازدواجية بين الداخل ~~والخارج، في حين أن الطقوس قد لا تنبع عن إيمان صادق. تبغي التظاهر والتفاخر ~~وطلب المنافع والسعي وراء الرئاسة. قد تقوم على النفاق، والتناقض بين ~~الداخل والخارج # يوم لا ينفع مال ولا بنون ~~* إلا من أتى الله بقلب ~~سليم ~~. ~~(4) # ولا ينبع من النصوص الدينية التي قد تكون محرفة، لم تحفظ تاريخيا ~~لمرورها بمرحلة شفاهية قد تصل إلى ستة قرون مثل التوراة، يعمل فيها ~~الخيال، وتحملها الثقافات الشعبية، وقد تؤول تأويلا حرفيا فتوقع في عكس ~~ما تهدف إليه؛ التشبيه بدلا من التنزيه، والرأسمالية بدلا عن الاشتراكية، ~~والعنصرية بدلا من الإنسانية ms002، والحرب بدلا من السلام. ~~(5) # وتأويلها الصحيح يتفق مع العقل والواقع، مع البداهة والمصالح العامة للناس. ~~فالقانون الإلهي لا يتعارض مع القانون العقلي والقانون الطبيعي، والمعجزات ~~حوادث طبيعية تقع وفقا لقانون طبيعي لا نفهمه، وبتقدم العلم يمكن فهمها، ~~فلا تصبح مصدرا للسحر والخرافة، بل واقعا لكشف القوانين الطبيعية. ~~(6) # وتهدف «الرسالة» إلى فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية؛ أي الكنيسة عن ~~الدولة من أجل تأسيس مجتمع مدني تقوم السلطة السياسية فيه على الاختيار الحر، ~~والعقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، # وأمرهم ~~شورى بينهم ~~، مثلها الأعلى «مواطن حر في دولة حرة». # فهل تحقق هذا المثل؟ أين؟ ومتى؟ # د. حسن حنفي # مدينة نصر، 6 أكتوبر (تشرين الأول) 2011 # | مقدمة المترجم1 # أولا: الترجمة الهادفة # إن اختيار نصوص بعينها للترجمة في حد ذاته تأليف غير مباشر، ويكون المترجم في ~~هذه الحالة مؤلفا بطريق غير مباشر. قد يكون الدافع لاتباع هذا المنهج - التأليف ~~من خلال الترجمة - هو حساسية الموضوع بالنسبة لبعض الطوائف التي ترى فيه تعديا ~~صارخا على حقوقها أو جرأة على عقلية مجتمع ما لم يبلغ بعد من التطور والتنوير ما ~~يستطيع به تقبل الموضوع الجديد بسهولة ويسر، أو تعبيرا للمترجم عن نفسه من خلال ~~الآخرين حتى تتحول القضية من الذاتية إلى الموضوعية. مهما يكن من شيء فالترجمة ~~المختارة اختيارا دقيقا لما يناسب العصر واحتياجاته هي في صميمها تأليف يرتكز على ~~التاريخ الحضاري، والترجمة الهادفة تخدم الغرض نفسه الذي يسعى إليه التأليف الواعي ~~للداعية. # وإن من مهام المفكر في البلاد النامية التعريف بأهم التحولات الفكرية التي حدثت ~~في الحضارات الأخرى والتي تحدث من جديد في حضارته. ولا يعني ذلك أن كل حضارة لا بد ~~أن تمر بالنمط الحضاري الأوروبي وبمراحل تطوره، بل يعني وجود أبنية تاريخية ~~متجانسة في حضارتين أو أكثر. فالاتجاه العقلي في القرن السابع عشر، وقيام العقل ~~بوظيفته في تحليل التراث القديم قد يشابه كل دعوة عقلانية يقوم بها بعض ~~المفكرين لإعادة بناء القديم، كما حدث لدينا في أوائل هذا القرن. ومن ثم، كان التعريف ~~بهذا الاتجاه ms003 العقلي إسهاما فعالا في التيار العقلي في مجتمعنا الحالي، وتطويرا ~~للاتجاه العقلي في تراثنا القديم، وتحقيقا لمزيد من الجرأة نحو الثقة بالعقل، أسوة ~~بهذا النمط الذي مضى عليه أكثر من ثلاثة قرون. # ليس الغرض من هذه المقدمة هو عرض لفلسفة سبينوزا ككل؛ فتلك مهمة مؤرخ الفلسفة وأستاذها، # 2 # وليس الغرض أيضا هو تقديم للنص وذلك عن طريق شرحه والتعليق عليه ~~وإرجاعه إلى مصادره، فتلك مهمة الشارح والمعلق وكثيرا ما تحققت. # 3 # وليس الغرض أيضا دراسة مشكلة جزئية في موقف سبينوزا من الكتب المقدسة ~~مثل مشكلة التفسير أو التعبير؛ فتلك مهمة المتخصصين والمحققين، # 4 # بل الغرض هو تطوير محاولة سبينوزا. ويتم ذلك بوسائل ثلاث: # الأولى: # تأكيد صدق تحليلات سبينوزا؛ وذلك بإعطاء تحليلات جديدة ودفع أفكاره ~~إلى أقصى حدودها واستخلاص أبعد نتائجها، والكشف عما تركه سبينوزا ~~غامضا نظرا لظروف العصر. وقد قيل عن سبينوزا من قبل: إنه فيلسوف ~~مقنع يقول نصف الحقيقة ويترك النصف الآخر للذكاء أو للتاريخ أو ~~للتطور الطبيعي. وعلى هذا النحو لا يعني التقديم مجرد العرض بل ~~التطوير والتطبيق والتأييد. وهذه ميزة الفكر الخصب أو المنهج الأصيل ~~الذي يولد بالتعامل معه أفكارا أخرى. ولا يعني ذلك الخروج على ~~سبينوزا، أو التحمس له أكثر مما يجب، أو الوقوع في التطرف عندما ~~يصبح الباحث سبينوزيا أكثر من سبينوزا نفسه؛ لأن هذا هو مصير ~~الأفكار في التاريخ، عندما يفكر فيلسوف على فيلسوف سابق، فقد فكر هيجل ~~على جدل أفلاطون وكانط، كما فكر ماركس على جدل هيجل. # الثانية: # إخراج سبينوزا من أبحاثه الخاصة وإلحاقه بالتراث الفلسفي في ~~القرن السابع عشر بأكمله، سواء بديكارت فيما يتعلق بالمنهج، أو ~~بريتشار سيمون وجان أوستريك فيما يتعلق بالنقد التاريخي للكتب ~~المقدسة، ثم إخراج سبينوزا من القرن السابع عشر وإلحاقه بالتراث ~~النقدي كله في القرون التالية؛ سواء فيما يتعلق بالنقد الفلسفي في ~~القرن الثامن عشر، أو النقد العلمي في القرن التاسع عشر، أو النقد ~~التاريخي ومدرسة الصور الأدبية في هذا القرن. ومن ثم يبدو سبينوزا ~~معاصرا أشد المعاصرة، كما يبدو النقد ms004 التاريخي المعاصر وكأن له ~~جذوره في مناهج سبينوزا النقدية. # والثالثة : # هي إسقاط المادة التي عمل عليها سبينوزا، وإحلال مادة أخرى محلها، ~~مع الإبقاء على المنهج نفسه؛ أعني إسقاط التراث اليهودي وإحلال تراث ~~ديني آخر، وليكن التراث الإسلامي، حتى تتضح جدة سبينوزا ~~وأصالته فيما يتعلق بتفسير الكتب المقدسة. وقد كان هذا المنهج ~~متبعا عند الشراح المسلمين في شروحهم على أعمال أرسطو. فمثلا، ~~يترك ابن رشد في شرحه للخطابة الأمثلة التي يوردها أرسطو من ~~الخطباء والشعراء والتراجيديين اليونان، ويضع بدلها أمثلة من ~~الخطابة والشعر والنثر العربي؛ حتى يعيد صياغة النظريات العلمية ~~والأدبية ابتداء من مادة جديدة، وحتى يمكنه تأييد هذه النظريات ~~وتطويرها، وإكمال ما نقص منها. وكان سبينوزا نفسه يود تعميم تحليلاته ~~على الديانات الأخرى لولا إمكانياته اللغوية والثقافية باعتباره أحد ~~فقهاء اللغة العبرية والتراث اليهودي القديم، بل ويعترف هو نفسه ~~بأنه لم يستطع تحليل العهد الجديد تحليلا وافيا لنقص في معرفته ~~باللغة اليونانية. ومع ذلك، فلقد عمم سبينوزا تحليلاته، على قدر ما ~~استطاع، على التراث المسيحي واليوناني والروماني والإسلامي. # ومع أن صورة التراث الإسلامي عند سبينوزا مأخوذة من العصر التركي، حتى ليتحدث ~~عن الأتراك ويقصد بهم المسلمين، وهي صورة الطغيان الفكري، والتعصب ~~الجاهل، واضطهاد المؤمنين، وسيادة الأحكام السابقة، ~~والوقوع في الخرافة. ومع أنه يعتبر القرآن أشعارا للقراء دون الاستفادة منها في ~~الحياة العملية، فإن مواقف سبينوزا ومناهجه في التفسير ونظرياته عن ثنائية الحقيقة أو ~~الحقيقة المزدوجة لها ما يشابهها في التراث الإسلامي عند الفلاسفة، خاصة عند ~~ابن رشد. وقد كان سبينوزا على علم بها من خلال ~~موسى بن ميمون. وليس الغرض من ذكر ذلك هو الوقوع في منهج الأثر والتأثر، وإرجاع فضل ~~سبينوزا إلى التراث الإسلامي، أو إحياء التراث الإسلامي بآراء سبينوزا، بل القصد ~~منه إثبات المشكلات المشتركة، والحلول المتشابهة التي قدمها سبينوزا والفلاسفة ~~المسلمون. وهذا هو الغرض من الاستشهاد المستمر بالتراث الإسلامي، فقد تكون هناك ~~مواقف فكرية واحدة للفكر الحر بالنسبة للدين، أو قد تكون هناك أبنية واحدة للنص ~~الديني ms005 أيا كان، يستطيع كل مفسر أن يصل إليها. # لذلك تجنبنا الوقوع في العلمية التاريخية، وإثارة بعض المشكلات التي تدل على ~~التعاليم أكثر مما تدل على العلم، مثل تاريخ كتابة الرسالة، وصلة فصولها بعضها ~~بالبعض الآخر، وأيها متقدم وأيها متأخر، وتناطح الآراء حول هذه المسائل، فهي ~~مشكلة خاصة تتعلق بتحقيق النص ونشره أكثر مما تتعلق بأفكار النص ونظرياته. وكذلك ~~آثرنا التعامل مع الأفكار، مع إعطائها أكبر قدر من الصحة والعمومية. ولا يضير ذلك ~~العلمية في شيء؛ إذ إن العلمية لا تعني التحقيق الميكروسكوبي، والالتصاق بالحروف، مع ~~ذكر عشرات من المراجع، ما قرئ منها وما لم يقرأ، حتى يوحي الباحث بوفرة المعلومات، ~~وبسعة الاطلاع، بل العلمية أن تبرز الفكرة، وأن توضع في مكانها الصحيح حتى يظهر ~~أثرها وفعلها. ومع أن الرسالة نفسها قد كتبت بأساليب عدة، بأسلوب أدبي في بعض ~~الفصول يبدو فيه سبينوزا أديبا ناقدا، وهي الفصول التي كتبت بدقة روحية واحدة، ~~مثل الفصل السادس عن المعجزات، وبأسلوب علمي تحليلي محشو بالشواهد النقلية، ~~وبالتحليلات اللغوية، يظهر فيها سبينوزا الشارح اللغوي، وهي الفصول التي كان قد جمعها ~~من قبل ثم أدخلها في صلب الرسالة كدعامة علمية، وكأساس تاريخي لأفكاره. إلا أن ~~الأسلوب الأدبي هو الغالب عليها، خاصة إذا قارناها بالأسلوب الفلسفي الجاف الذي ~~كتب به سبينوزا سائر مؤلفاته. لقد كتب سبينوزا رسالته مرات عديدة، وعلى فترات ~~متقطعة، يعبر عن حدسه أولا بأسلوب سهل يسير، وبأفكاره الشخصية ثم يدلل عليه ~~بعد ذلك بالبرهان، وبالتحليلات التاريخية حتى يطور القديم، ويتأصل الجديد. ~~ولكننا شئنا في هذه المقدمة اتباع الأسلوب السهل اليسير؛ فهي مكتوبة للجمهور ~~العريض لا للصفوة المثقفة حتى يعم الانتفاع بها ما دامت مهمة المفكر الحالية ~~هي إعطاء أكبر قدر ممكن من التنوير لأكبر عدد من الناس. # ثانيا: سبينوزا وديكارت # 5 # سبينوزا هو الديكارتي الوحيد الذي استطاع أن يطبق المنهج الديكارتي تطبيقا ~~جذريا في المجالات التي استبعدها ديكارت من منهجه، خاصة في مجال الدين، وأعني الكتب ~~المقدسة والكنيسة والعقائد والتاريخ المقدس ... إلخ؛ لذلك كانت هناك ms006 محاولات لاغتياله في ~~حين أن ديكارت كان صديقا لرجال الدين الذين كانوا يجدون في منهجه، باعتراف ديكارت ~~نفسه، دعامة للدين، ونصرة لعقائده. ويكفي لذلك الاطلاع على إهداء التأملات ~~لعلماء أصول الدين، وكيف أن ديكارت كان متفقا معهم في الغاية وهي إثبات العقائد، ~~وإن اختلف معهم في الوسيلة مؤقتا. فالغاية واحدة، وهي إثبات وجود الله، وخلق ~~العالم، وخلود النفس، وهي القضايا الدينية الثلاث في كل فكر ديني تقليدي. يبدو ~~ديكارت وكأنه فيلسوف العقل الذي لا يقبل شيئا على أنه حق ما لم يكن كذلك، ولكن في ~~الحقيقة إن الوحي والعقائد يندان عن العقل ويقتصر العقل على التبرير؛ أي إن ~~ديكارت لا يتعدى ما كان سائدا في العصر الوسيط المتقدم أومن كي أعقل.» # 6 # يريد ديكارت إثبات حقائق الدين ببراهين عقلية حتى يمكن إقناع الكافرين؛ ~~أي إنه على هذا النحو لا يفترق عن بسكال في أن كليهما يقوم بالدفاع عن العقيدة المسيحية، # 7 # بل إن الإيمان بالحقائق الدينية ليس فعلا للعقل بل فعل للإرادة؛ # 8 # لذلك لا يطبق عليه مقاييس الوضوح والتميز، أكثر من ذلك أن كل الحقائق ~~الدينية تتعدى حدود العقل، ولا يمكن الإنسان التصديق بها إلا بمعونة من السماء، ~~وبفضل من الله؛ أي أن ديكارت يبدو هنا هادما للعقل، ومعطلا لوظائفه في فهم ~~الحقائق الدينية. # 9 # ومع أن ديكارت معروف في العصور الحديثة بأنه أحد مؤسسي العلم الحديث، إلا ~~أننا نجد أن الله هو الضامن لصدق الحقائق، وأن ديكارت بهذا المعنى يقيم العلم على ~~وجود الله وصدقه، وأن الله هو محور مذهبه، خاصة إذا علمنا أنه الواقعة الأولى بعد ~~الكوجيتو، وأنه هو الضامن لوجود العالم، وأن العالم لديه حركة وامتداد، أي مقولتان ~~رياضيتان وليس عالما للفعل والسلوك. # 10 # أما سبينوزا، فهو الذي طبق منهج الأفكار الواضحة والمتميزة في ميدان الدين والعقائد، # 11 # فليس العقل فقط هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، بل هو أيضا أفضل شيء ~~في وجودنا ويكون في كماله خيرنا الأقصى. وإذا كانت الأفكار الواضحة والمتميزة هي ~~المثل الأعلى لليقين فإن سبينوزا يحلل النبوة ms007 ويخرجها من نطاق الأفكار الواضحة ~~والتصورات الغامضة، كما يرفض وضع الآيات الواضحة مع الأشياء الغامضة، ثم تفسير ~~الآيات الواضحة تفسيرا خياليا حسب هوى المفسر، كما يستعمل الوضوح والتميز ~~كجدل في براهينه العقلية، فما دام كل ما تعلمه بوضوح وتميز إما أن يكون معروفا ~~بذاته، أو بغيره تعلمه بوضوح وتميز، فإن المعجزة لا تستطيع أن تدلنا على وجود ~~الله، أو على ماهيته وطبيعته؛ لأننا لا نعلمها بوضوح وتميز. أما الله فإنه فكرة ~~واضحة ومتميزة، ولا تحتاج إلى برهان. وإذا كان ديكارت، في مثل سلة التفاح ~~المشهور، يري تنقية الأفكار الواضحة المتميزة من ~~الأفكار الغامضة، فإن سبينوزا بتطبيقه هذا المنهج أيضا في النقد التاريخي للكتاب ~~المقدس يفصل الآيات الصحيحة عن الآيات المكذوبة أو المشكوك فيها. # وسبينوزا أيضا هو الوحيد من الديكارتيين الذي طبق منهج ديكارت في السياسة، فدرس ~~أنظمة الحكم، وقارن بينها، ونقد الأنظمة التسلطية القائمة على حكم الفرد المطلق، ~~وانتهى إلى أن النظام الديمقراطي هو أكثر النظم اتفاقا مع العقل ومع الطبيعة؛ فنحن ~~نعلم أن ديكارت قد استثنى من الشك أيضا النظم السياسية، والتشريعات الوطنية، ~~وعادات البلد؛ أي أنه أخرج الجانب الاجتماعي كله من الشك وقصره على الفكر. # 12 # وبذلك يكون سبينوزا سابقا على كانط وهيجل في هذا اللون من التفكير ~~السياسي من أجل تحديد الصلة بين الفكر والواقع، أو بين الدين والدولة، أو بين مهمة ~~المفكر ومهمة السياسي. في حين أن مالبرانش اقتصر على التبشير بالمسيحية حتى حدود ~~الصين، وأن بسكال رضي بملكوت السموات، ورفض ملكوت الأرض كما فعل أوغسطين من قبل، وأن ~~ليبنتز قدم مشروعا لغزو مصر باعتباره نقطة الالتقاء بين الشرق والغرب، أي أنها ~~الرابطة الجوهرية # Vainculum Substantiale # التي ~~يبحث عنها ليبنتز في حساب التفاضل والتكامل وفي حساب الاحتمالات. # لقد قيل دفاعا عن ديكارت إن موقفه من رجال ~~الدين ومهادنته لهم إنما هو موقف ذكي، اتخذه ديكارت حتى يحتوي رجال الدين من ~~الداخل، ولا يصطدم مع السلطة بالتناطح والمواجهة. يكفيه أنه وضع قنبلة زمنية ~~انفجرت بعده في سبينوزا وفولتير، وتناثرت شظاياها ms008 في العصر الحديث بطوله وعرضه. ~~وسواء أكان هذا الدفاع عن حق أم عن حب، فإن الثورة الحقيقية في الفكر الديني ~~والواقع السياسي قد قام بها سبينوزا. رسالة سبينوزا إذن ثورة على الأوضاع الثقافية ~~والسياسية في عصره بل وفي كل عصر، وتطبيق للنور الطبيعي في مجال الدين والسياسة ~~حتى لا يخلط الناس بين البدع الإنسانية والتعاليم الإلهية، أو بين التصديق الساذج ~~والإيمان الصادق، أو بين الجدل البيزنطي في الكنائس وبين الإحساس الطبيعي بالعدل ~~والخير، أو بين الفتن والمصادمات بين الطوائف باسم الدفاع عن الدين وبين السلام ~~الداخلي في الإنسان وفي الدولة. أراد سبينوزا البحث عن الوضوح والتميز في الواقع ~~الديني والسياسي، وألا يقبل شيئا على أنه حق ~~في أمور الدين أو الدنيا ما لم يكن كذلك، فإن كان ديكارت قد وجد في المنهج ~~الاستنباطي بغيته وطريقه إلى التصديق بالرسالات السماوية، وإذا كانت مهمة ديكارت ~~والعصر الحديث معه هي تبرير الدين، فقد كانت مهمة سبينوزا تأصيل الدين وإخضاع ~~الكتاب المقدس للنقد التاريخي. # ولا وجه للمقارنة بين مقدمة التأملات التي يهدي فيها ديكارت كتابه إلى علماء ~~أصول الدين وبين آخر فقرة في مقدمة رسالة سبينوزا التي يخضع فيها رسالته للسلطات ~~العليا في هولندا. فديكارت يؤكد أن ليس في تأملاته ما يعارض الدين، بل إنه يحتوي ~~على تأييد لأهم قضاياه: وجود الله، وخلق العالم، وخلود النفس؛ أي أنه لم يأت بجديد ~~بالنسبة لمفكري العصر الوسيط إلا من حيث الطابع الشخصي الأوغسطيني، هذا الطابع ~~الموجود أيضا لدى سبينوزا. أما فقرة سبينوزا فإنها تدل على استعداده لمقارعة ~~الحجة بالحجة، وهو يعلم أن نتائج بحثه في الوحي الإلهي وفي نظام الحكم ستؤدي ~~حتما إلى انقلاب القوم عليه. فديكارت يصالح رجال الدين، ويهادن النظم الملكية، ~~وسبينوزا يبغي المصلحة العامة ضد رجال الدين، وضد نظم الحكم القائمة، ويعلم أن ~~الأمانة الفكرية، والبحث العلمي، والموقف الشريف، أجدى على الدولة وعلى سلامتها وأمنها ~~من النفاق الفكري، والتشويه العلمي، والتملق للسلطة، والسعي لها. # وإذا كان ديكارت هو المسئول عن كل تبرير للعقائد ms009 في صياغة جديدة وعن وضع التعالي ~~بدل الله، فإن سبينوزا هو المسئول عن كل دراسة علمية أي نقدية ونفسية لها، وعن وضع ~~الله في النفس البشرية مؤمنا بالحلول الميتافيزيقي. وإذا كان ديكارت هو المسئول عن ~~«ثنائية العصر الحديث» من قسمة الوجود إلى إله خالق وعالم مخلوق، وقسمة الإنسان ~~إلى نفس خالدة وبدن فان، فإن سبينوزا هو المسئول عن إعادة الوحدة في الوجود، بالتوحيد ~~بين الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة، وفي التوحيد بين النفس والبدن، وجعل النفس ~~فكرة البدن. فإذا كان ديكارت صاحب إصلاح جزئي بالنسبة للفكر الديني في العصر ~~الوسيط، فإن سبينوزا هو صاحب الثورة الجذرية في الفكر الديني في العصر الحديث. ~~وإذا كان البعض منا في أوائل هذا القرن يروج لديكارت صاحب أنصاف الحلول، فالأجدى ~~بنا في النصف الثاني من هذا القرن البحث عن الحلول الجذرية كما فعل سبينوزا منذ أكثر ~~من ثلاثة قرون. # 13 # ثالثا: موضوع الرسالة # يحدد سبينوزا موضوع الرسالة في العنوان التوضيحي الذي يضعه بعد العنوان الأول ~~«وفيها تتم البرهنة على أن حرية التفلسف لا تمثل خطرا على التقوى أو على ~~السلام في الدولة، بل إن القضاء عليها يؤدي إلى ضياع السلام والتقوى ذاتها.» ~~للرسالة إذن هدفان؛ الأول: إثبات أن حرية الفكر لا تمثل خطرا على الإيمان، أو ~~بتعبير آخر، أن العقل هو أساس الإيمان. والثاني: إثبات أن حرية الفكر لا تمثل ~~خطرا على سلامة الدولة، أي أن العقل أيضا هو أساس كل نظام سياسي تتبعه ~~الدولة. # فإذا غاب العقل ظهرت الخرافة، وإذا سادت الخرافة ضاع العقل. وتظهر الخرافة في ~~إرجاع ظواهر الطبيعة إلى علل أولى، أو إلى قوى وهمية، أو إلى أفعال خيالية، أو إلى ~~موجودات غيبية مثل الجن والشياطين والأرواح الخبيثة أو الطيبة. وإن خرجت هذه ~~الظواهر الطبيعية عن المألوف بدت وكأنها معجزات وخوارق يمكن معرفتها، والتنبؤ ~~بوقوعها عن طريق الكهانة والعرافة والسحر، لا عن طريق العلل المباشرة التي تفسر ~~وجود الظواهر كما يدركها العقل. # وتنشأ الخرافة من سيادة الأهواء والانفعالات على العقل، وعلى رأسها الخوف ms010 ~~والرجاء؛ إذ يتذبذب الشعور الديني بين الخوف والرجاء، أو بين الرهبة والرغبة. ~~فالحوادث الحسنة فأل طيب، والحوادث السيئة تبعث على التطير والتشاؤم، ويرتبط ~~بالخوف العجز عندما يود الشعور الديني التأثير على الطبيعة باستدعاء الأرواح، لا ~~بالفعل المباشر، أو بطلب العون الإلهي، أو بالنذور، أو بالصلاة لدرء الكوارث، أو ~~لاستجلاب الرزق، لدفع البركان، أو لإهطال المطر. كل أولئك مظاهر للعجز أمام ~~الطبيعة، فلا ذرف الدمع خشية ورهبة يجدي، ولا الدعاء أملا ورجاء يفيد، ومن ~~ثم قد يصبح أعجز الناس هو أكثرهم حكمة. فإذا كان الخوف سبب الخرافة، فإن ~~الخوف نفسه سينشأ عن نقص في الشجاعة، وقد يكون التأليه نتيجة لهذا النقص، وهو ما ~~لحظه برجسون أيضا على كل تفكير مثالي من أنه ضعف في الإرادة # Aeilléite ~~، كما قد يقوم الإيمان على الكراهية ~~والتعصب، فبعض المؤمنين هم أكثر الناس قدرة على الكراهية، وأشدهم تعصبا حتى ~~ليعرف قوة الإيمان بقوة غضبهم وحقدهم على البشر. وربما يقوم على الذلة والغرور، ~~فإن كان المؤمن في حاجة إلى شيء ذل نفسه، وإن كان غنيا عن العالمين ركبه ~~الغرور، أي أن سبينوزا يبدو وكأنه من أنصار المدرسة النفسية في تاريخ الأديان التي ~~تدرس مظاهر التدين على أنها ظواهر نفسية أو مرضية؛ إذ إن معظمها يقوم على مواقف ~~عزاء أو تعويض نفسي عندما يتم اللجوء إلى الله في حالة الكرب، أو عن مواقف نفاق ~~وتغطية، كما يتستر على الغني بالتفاوت في الرزق، وبالقضاء والقدر، وكما يتستر ~~بالدين على الإشباع الجنسي، كما يفعل الشيخ المتصابي، أو من أجل الحصول على مصلحة ~~شخصية، كما هو واضح في الشحاذة. # والخرافة والوهم والعجز هي من أسباب الوقوع في التقديس، تقديس موجود متعال خارج ~~الطبيعة، يتدخل فيها كما يشاء، كما يفعل الحاكم المطلق، أو الملك الذي يخضع للأهواء ~~والانفعالات. فاعتبار المقدس خارج العالم عجز عن إدراكه داخل العالم، وخوف منه، ~~وإبعاد له، خاصة إذا أصبح هذا المقدس مرادفا للسر، أو هو وقوع في الوثنية ~~المجردة، أو الوثنية الحسية. # وأشد غرابة من ذلك أن يتميز ms011 المؤمنون في إيمانهم بعقائدهم وشعائرهم وملابسهم ~~وألقابهم، فيظن الجمهور أن الدين هو المناصب في المعابد التي يتعيش فيها رجال ~~الدين، أو يتعيشون عليها، حتى أصبح الكهنوت غواية الجميع، اشتاقته أشد القلوب ~~قسوة، وحتى أصبح الشره والطمع طريق الدعوة إلى الدين وإلى الله. تحولت الكنائس ~~إلى مسارح، وتحول رجال الدين إلى خطباء محترفين، لا يرومون تعليم الشعب بل ~~التكسب منه، والتعيش عليه، وجل غايتهم أن يعجب الناس بهم وبما يبتدعونه في ~~الدين. وطبيعي أن يبدأ التنافس والحسد فيما بينهم على ما اغتنموه، فلا عجب إذن إن ~~لم يبق من الدين إلا مظهره الخارجي - أي عبادة ~~الأوثان # Adoration # لا عبادة الله # Adulation ~~- ~~ومن الإيمان إلا التصديق بالأحكام السابقة، خاصة أحكام من ينزلون بالبشر إلى مستوى ~~الحيوانات، لأنهم يمنعونهم حرية الحكم، وحرية التمييز بين الخطأ والصواب. # أما الدين كما يتصوره الصوفية، فهو مجموعة من الخرافات والخزعبلات والأوهام، ~~حتى أصبح الدين احتقارا للعقل، وبعدا عن الذهن الذي قيل عنه إنه فاسد بالطبع، مع ~~أنهم لو كانوا قد اهتدوا إليه بالنور الفطري لما أصابهم الغرور، ولما وقعوا في ~~الكذب، ولعبدوا الله حبا فيه، لا كراهية للناس، ولما اضطهدوا مخالفيهم في ~~الرأي، ولعطفوا عليهم، ولحرصوا على سلامة الآخرين كما يحرصون على سلامتهم، ولما ~~أعجبوا بأسرار الكتاب التي لا تتعدى بعض التأملات الأفلاطونية الأرسطية، أو ~~التوفيق بينها وبين الكتاب؛ حتى لا يتهمهم الناس باتباع فلسفة الوثنيين، وحتى لا ~~يقعوا في أخطاء اليونان، جعلوا الأنبياء يهذون. فضلا عن ذلك، فإنهم لم يشكوا ~~مطلقا في المصدر الإلهي للكتاب المقدس، وكلما شعروا فيه بالأسرار أطاعوه طاعة ~~عمياء، مع أن إثبات المصدر الإلهي للكتاب لا بد أن يكون نتيجة للبحث العلمي ~~لمحتواه. # الدين إذن على ما يقول فويرباخ موقف مغترب، أي إنه موقف غير طبيعي، والموقف ~~العقلي العلمي هو الموقف الطبيعي. التدين والنور الفطري نقيضان؛ إذ يعتبر ~~المتدين النور الفطري مصدرا للاتدين وللإلحاد وللبدع، مع أن التدين نفسه ~~قائم على مجموعة من الخزعبلات التي يظنها المتدينون تعاليم إلهية. فإلحاد ~~الفلاسفة الذين يعتمدون على ms012 النور الفطري هو الإيمان الصحيح، وإيمان المتدينين ~~القائم على الأوهام والخرافات وثنية حسية؛ أي إلحاد صحيح. ومن ثم كان اللاتدين ~~شرط العلم وكان رفض التأليه شرط إدراك الطبيعة، فالإنسان موجود في عالم واحد وهو ~~العالم الطبيعي وليس في عالمين؛ لأن الفكر تحليل للطبيعة. # القضاء على السلوك الانفعالي إذن خطوة نحو العقلانية، فإذا عرفنا مدى شيوع السلوك ~~الانفعالي في البلاد النامية، ومدى تدخل الأهواء والانفعالات في العلاقات الشخصية وفي ~~تقدير المواقف وفي سن القوانين وتطبيقها، عرفنا أن سيادة الانفعال وغياب العقل أحد ~~مظاهر التخلف. # ويستخدم الدين أيضا للسيطرة على الجماهير ولإبقائها تحت سيطرة السلطة، إذ يكثر ~~الدكتاتور من مظاهر العظمة في بناء المعابد، والاحتفالات بالموالد، حتى يمكن عن طريق ~~التأليه الخضوع لله أو للدكتاتور، والطاعة العمياء له؛ لذلك كانت الخرافة أفضل ~~الوسائل لتسيير العامة، فيكفي للسلطات العليا الاحتفال بالموالد، وبأتقياء الله، ~~وبعبادة الصالحين حتى تسير العامة وراءها فينظر إلى الملوك باعتبارهم آلهة، ويتم ~~تجميل الدين بالشعائر «الطقوس» وتزيين الملوك بالقصور والتيجان. فالخرافة هي أساس ~~النظام الملكي، باعتباره النظام التقليدي الذي يقوم على حكم الفرد المطلق الذي يبغي ~~خداع الناس، وإرهابهم باسم الدين من أجل السيطرة عليهم، واستعبادهم، ووضع قيود على ~~الفكر والعقيدة، في حين أن العقل لا يسود إلا في النظام الجمهوري الذي يكون فيه ~~المواطن حرا في فكره وعقيدته، والذي يخضع فيه سلوكه لتشريع الدولة. # وهنا يبدو الهدف الثاني من رسالة سبينوزا هو دراسة الصلة بين الدين والدولة، أو ~~كما يقول هو: بين اللاهوت والسياسة. فاللاهوت ليس نظرية في الله فقط بل ينشأ عنه نظام ~~اجتماعي كذلك، وليس الدين عقائد فحسب، بل ينشأ عنه نظام سياسي كذلك. والحقيقة أن رسالة ~~سبينوزا ليست دراسة للصلة بين اللاهوت والسياسة بقدر ما هي دراسة للصلة بين ~~السلطات اللاهوتية والسلطات السياسية، # 14 # أي إن غرض سبينوزا هو دراسة الصلة بين اللاهوت القائم بالفعل والنظم ~~السياسية القائمة، أو إن شئنا الصلة بين السلطة اللاهوتية الممثلة في رجال الدين ~~أو في الكنيسة وبين السلطة المدنية الممثلة في ms013 الحكم أو في رئيس الدولة، فهي دراسة ~~واقعية للأوضاع التي عاش فيها سبينوزا من تداخل السلطتين اللاهوتية والسياسية، ~~وكلاهما كما رأينا يقوم على الخرافة، ومنع حرية الرأي والقضاء على العقل؛ لذلك تم ~~التواطؤ بين المعابد وأقسام الشرطة، أو يتم التمسح بالمعابد كما تحدث الزلفى ~~للسلطات! # ولما كانت حرية الرأي ضرورة للإيمان الصحيح، فإن حرية الرأي أيضا ضرورة للسلام ~~الداخلي في الدولة، فحرية الفكر هي دعامة الرأي العام، والرأي العام هو الراصد ~~لكل ما يحدث في الدولة خاصة في الأمور الداخلية، فإذا قضي على حرية الفكر، قضي ~~على الرأي العام، وأصبحت الدولة بلا دعامة داخلية. يفعل الحاكم ما يشاء وتفعل أجهزة ~~الحكم ما تريد، وبالتالي تنشأ الجماعات السرية المناهضة للحكم، فيقضى على أمن ~~الدولة. # لذلك يجب على السلطات العامة ألا تتدخل في ~~الحريات الفردية، وإلا لتعرض أمن الدولة للخطر. فهذا هو الحق الطبيعي للفرد، ~~كل فرد حر بطبيعته، وكل فرد هو الضامن لحريته. وتنشأ الفتن عندما تتدخل ~~الدولة بقوانينها في الأمور النظرية، وتنتصر لبعض العقائد، وتعادي البعض الآخر، ولن ~~تتوقف الفتن إلا إذا وضعت الدولة الأفعال وحدها، دون الأقوال، تحت القانون؛ ~~حتى يستطيع كل مواطن أن يعبد الله كما يشاء، وأن يتصوره كما يريد، بدل أن تقطع ~~الرقاب من أجل أقوال كلها ظنية. لا احتكار للفكر ولا حكر عليه، وليس من حق ~~الدولة التدخل في حرية المفكر أو في الرقابة عليه. وكيف تنتصر الدولة لرأي على ~~رأي سواء في اللاهوت أم في السياسة، وليس هناك تفسير واحد صحيح للدين والباقي خطأ؟ ~~لكل إنسان الحق في فهم الوحي وتأويله كما يشاء، وإن التسلط والتحزب لرأي دون ~~رأي ليؤدي حتما إلى ضياع الإيمان. حرية الرأي إذن يجب أن تكون مكفولة للمواطنين ~~جميعا، وتكون الدولة هي الراعية لهذه الحرية، وليست القاضية عليها. فلا ينبغي أن تكون ~~الدولة طائفية تنتسب لدين معين، بل دولة علمانية تكفل حرية الرأي للجميع. ~~حرية الرأي إذن ضرورة اجتماعية حتى يعم الأمن والسلام في الدولة، وإن الحاكم الذي ~~يظن أن ms014 تثبيت قواعد حكمه إنما يكون بالقهر والطغيان، وبالقضاء على حرية الفكر، ~~ينتهي لا محالة إلى غير ما قصد إليه؛ لأن في القضاء على حرية الفكر قضاء على ~~الدولة، بل إن القانون الإلهي نفسه يمنح هذه الحرية لجميع الناس، ولا يبدو ذلك ~~غريبا لأن الدولة نفسها قد نشأت بعقد اجتماعي بين الأفراد يفوض سلطتهم إلى ~~الدولة كي تقوم بحمايتهم والدفاع عنهم، فسلطة الدولة ممثلة لسلطة الأفراد؛ لذلك لا ~~يجوز للسلطات العليا، وهي الممثلة للشعب، أن تعمل ضده، أو أن تقضي على حريته ~~التي فوضها لها بإرادة حرة. تنشأ النظم الدكتاتورية عندما تفعل السلطات ~~العليا ما تريد، بغض النظر عما فوضه الأفراد لها من حقوق. # والحقيقة أن موضوع رسالة سبينوزا ليس هو اللاهوت فحسب، أو السياسة فحسب، أو حتى ~~الصلة بينهما، بل - بتعبير أدق - الوحي في التاريخ. عندما تتحقق النبوة في ~~فترة معينة، وعند شعب معين، يأتي الوحي للتغلب على الطبيعة السائدة في الشعب، ~~فينجح إلى حين، ثم تنتهي الطبيعة السائدة بالتغلب على الوحي. ومن ثم فموضوع ~~الرسالة هو فلسفة التاريخ الديني أو التاريخ المقدس على ما يقال. لقد أتى الوحي ~~للشعب اليهودي حتى يتغلب على طبيعته الحسية المادية، وعلى تكوينه الوثني، ~~ولكنه انتهى إلى أن سادته الوثنية، وتغلبت عليه الطبيعة الحسية، ثم أتى ~~الوحي المسيحي داعيا للسلام، من أجل التغلب على الطبيعة الحربية الرومانية، ~~وداعيا للطهارة الروحية، من أجل التغلب على المادية الحسية اليهودية ~~والرومانية، ولكنه انتهى إلى أن سادته الحروب والتعصب، وتغلبت عليه المادية ~~الحسية. ويمكن القول أيضا بأن الوحي الإسلامي جاء حتى تكون الأمة الإسلامية خير ~~أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فإذا هي الآن مستعمرة من الخارج ~~أو مسلوبة الثروات من الداخل؛ أي إنها انتهت إلى عكس ما قصد إليه الوحي. # رسالة سبينوزا إذن هي دراسة لمصير الوحي في ~~التاريخ وكيف أنه ينقلب إلى الضد؛ فالمسيحية دعوة للروح وللسلام والتضحية تتحول ~~إلى مجتمع تسوده المظهرية والتعصب والكراهية، واليهودية دعوة للطاعة تنقلب إلى ~~مجتمع عاص، والإسلام دعوة ms015 لإقامة خير أمة أخرجت للناس ينقلب إلى مجتمع يسوده ~~التخلف ويحكمه الاستعمار. يدرس سبينوزا هذا القلب، قلب الروح إلى مادة والوحي إلى ~~كتاب، والمعنى إلى حرف، والتدين إلى خرافة، والتقوى إلى طقوس وشعائر، والإيمان إلى ~~تعصب، والحقيقة إلى بطلان، والتعاليم الإلهية إلى بدع، والنور الفطري إلى جهل، ~~والمعابد إلى مسارح، والدين إلى وثنية، والإنسان إلى حيوان، وكأن الدافع الحيوي ~~ينتهي بالضرورة إلى سقوط مادي، وكأن اللهب ينتهي بالضرورة إلى رماد. # 15 # رابعا: النقد التاريخي للكتب المقدسة # يعتبر النقد التاريخي للكتب المقدسة أحد المناهج العلمية التي وضعتها الفلسفة ~~الحديثة، كما يعتبر من أهم مكاسب الحضارة الأوروبية بالنسبة لدراسة التوراة ~~والإنجيل، نتجت عن تأليه العقل في القرن السابع عشر، قرن سبينوزا، وإخضاع الطبيعة له، ~~فكما أن هناك نظاما للطبيعة، هناك أيضا قوانين لضبط صحة الراوية، ولا فرق بين ~~الظاهرة الطبيعية والنص الديني؛ كلاهما يخضع للعقل وقواعده. وقد حمل لواء النقد في ~~هذا القرن ثلاثة: سبينوزا، ريتشارد سيمون، جان أوستريك. # 16 # فما إن وضع القرن الثامن عشر العقل في الإنسان، وحول التفكير الرياضي إلى التفكير ~~الإنساني، حتى أصبح كبار النقاد هم كبار الإنسانيين، مثل فولتير ولسبخ وهردر. ~~وكان النقد باسم العقل أكثر منه باسم التناقضات الداخلية في الرواية. # وما إن تحولت فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر إلى فلسفة للعلم في القرن التاسع ~~عشر، حتى تحول النقد أيضا من النقد الفلسفي باسم الإنسان إلى النقد العلمي القائم ~~على تحقيق النصوص، والمقارنة بينها، والاعتماد على فقه اللغة، وعلم الأساطير ~~المقارنة، وتم وضع قواعد المنهج التاريخي بعد كشف «الشعور التاريخي» عند دلتاي، ~~وتقدم العلوم الإنسانية. وقد كانت فلسفة هيجل أحد المصادر التي خرجت منها المدرسة ~~الأسطورية في النقد، عند شتراوس وباور، فكما وصف هيجل تطور الروح وصف نقاد ~~المدرسة الأسطورية، وهم من اليساريين، تطور العقيدة الموازي لتطور النص واعتبروا ~~كليهما من فعل الروح ومن وضعها. # ويعتبر النقد التاريخي أهم الأسباب في نشأة ~~حركة التجديد الديني في الفكر المعاصر، # 17 # فقد قام البعد الشعوري في النص الديني، وأصبح النص ms016 يعبر عن التجارب ~~الحية للجماعة الدينية الأولى التي نشأ النص منها، ومن ثم كان لا بد من وضع ~~النص في الحياة # Sitz im Leben # ودراسة المكونات ~~النفسية للشعور الجماعي الأول، مثل واقعة الانتظار، أو خيبة الأمل، أو الشعور ~~بالاضطهاد. وأصبحت رسائل الحواريين تعبر عن تجارب شخصية لهم، بل وعن عقدهم النفسية ~~ورغباتهم. عاشت الجماعة الأولى أفكارها، ثم عبرت عنها بالنصوص بعد ذلك، وهي التي ~~جمعت في مجموعات صغيرة، ثم في مجموعات كبيرة، حتى تكونت الأناجيل في القرن الثاني ~~التي كانت تعد بالعشرات، ثم اختارت الكنيسة أربعة منها، ما يتفق مع عقائدها ~~وقننتها في القرن الرابع، # 18 # وأصبح منهج التفسير - كما وضعه بولنمان - هو إرجاع النص إلى التحليل ~~الوجودي للإنسان، بعد أن تتبع نشأته، ونشأة الأسطورة التي يعبر النص ~~عنها. # ولكن الذي يميز نقد سبينوزا هو جمعه بين كل أنواع النقد هذه التي ظهرت في ~~القرون الثلاثة الماضية، فهو نقد عقلي يقوم على استعمال العقل الرياضي الهندسي، كما هو ~~الحال في كتاب «الأخلاق»، وهو نقد إنساني يقوم على استعمال النور الفطري كنور ~~طبيعي في الإنسان، ويهدف إلى تحليل القوى الإنسانية من إدراك وتخيل وانفعال، وهو ~~أيضا نقد علمي يدرس النص الديني كما تدرس الظاهرة الطبيعية ويحاول إخضاعه ~~لقواعد ثابتة، والوصول إلى قوانين لتطور الراوية كما يخضع العالم الظاهرة ~~الطبيعية لقواعد المنهج العلمي، ويصل إلى قوانين تحكم الظواهر، فالناقد كالعالم ~~سواء بسواء، كلاهما يدرس الظاهرة التي أمامه، ويحاول الوصول إلى قوانينها التي ~~تحكمها. وقد كان نقد سبينوزا سببا في نشأة حركة التنوير في اليهودية قبل أن تبدأ، وما ~~زال أحد دعائم التجديد الديني على الإطلاق. # والنقد التاريخي سابق على الإيمان بالمصدر الإلهي للكتاب المقدس، وهو الضامن ~~لصحته من حيث هو وثيقة تاريخية تحتوي على الوحي الإلهي، وتحتاج إلى تحقيق تاريخي ~~مضبوط. يرفض سبينوزا وجهة النظر المحافظة التي تثبت المصدر الإلهي للكتاب قبل تطبيق ~~قواعد المنهج التاريخي، وتكون مهمة النقد في هذه الحالة تبرير محتوى الكتاب، بما فيه ~~من خلق جماعي، وأساطير دخيلة من البيئات المجاورة؛ لذلك ms017 أصر بعض النقاد على ~~أن الناقد يجب أن يترك إيمانه جانبا، بل اشترط البعض الآخر أن الناقد لا بد ~~أن يكون لا إيمان له حتى لا يتدخل إيمانه في تزييف البحث التاريخي. # 19 # يدرك سبينوزا أهمية هذا العلم الجديد، هذا العلم الذي جهله القدماء أو الذي ضاع ~~منه جزء كبير لم يصلنا منه شيء. مهمة العصر الحديث إذن هي وضع قواعد هذا العلم ~~وتكملتها ورفض الزائف منها، مع أن ذلك يبدو متأخرا للغاية، إذ لم يعد الناس ~~يتقبلون بسهولة تحكيم العقل في الكتاب وتطبيق قواعد المنهج التاريخي على ~~الروايات. # ويحلل سبينوزا أسفار التوراة سفرا سفرا، مبينا نصيب كل منها من الصحة ~~التاريخية. فالأسفار الخمسة Pentateque # لم يكتبها ~~موسى، بالرغم من تأكيد الفريسيين ذلك، حتى أن ابن عزرا، وهو العالم الناقد الحر، ~~لم يجرؤ على الجهار بذلك. كتب الأسفار الخمسة إنسان آخر، عاش بعد موسى بمدة ~~طويلة، وذلك لبعض الأسباب التي يذكرها ابن عزرا مثل: ~~(أ) # لم يكتب موسى مقدمة سفر التثنية لأنه لم يعبر نهر الأردن. ~~(ب) # كان سفر موسى مكتوبا على حائط المعبد الذي لم يتجاوز اثني عشر ~~حجرا، أي أن السفر كان أصغر بكثير مما لدينا الآن. ~~(ج) # قيل في سفر التثنية: «وقد كتب موسى التوراة.» ولا يمكن أن يقول موسى ~~ذلك إن كان هو كاتبها. ~~(د) # في سفر التكوين، يعلق الكاتب قائلا: «وكان الكنعانيون في هذه ~~الأرض.» مما يدل على أن الوضع قد تغير وقت تدوين الكاتب هذا ~~السفر، أي بعد موت موسى وطرد الكنعانيين، وبذلك لا يكون موسى هو ~~الراوي. ~~(ه) # في سفر التكوين سمي «جبل موريا» جبل الله، ولم يسم بهذا الاسم ~~إلا بعد بناء المعبد، وهو ما تم بعد عصر موسى. ~~(و) # في سفر التثنية، وضعت بعض الآيات في قصة أوج، توحي بأن الرواية ~~كتبت بعد موت موسى بمدة طويلة؛ إذ يروي المؤلف أشياء حدثت منذ ~~زمن بعيد. # ثم يضيف سبينوزا على ملحوظات ابن عزرا هذه ملحوظات ~~أخرى: ~~(أ) # كتابة الأسفار بضمير الغائب، وليس بضمير المتكلم ms018. ~~(ب) # مقارنة موت موسى ولحده والحزن عليه بموت الأنبياء التالين له. ~~(ج) # تسمية بعض الأماكن بأسماء مختلفة عما كانت عليها في عصر موسى. ~~(د) # استمرار الرواية في الزمان حتى بعد موت موسى. # 20 # وقد كان موسى يقرأ «سفر العهد» على الشعب، وهو السفر الذي أملاه الله عليه في ~~جلسة قصيرة، مما يدل على أن ما كتبه موسى أقل بكثير مما لدينا الآن، ~~ثم شرح هذا السفر الأول، ودون شرحه في سفر «شريعة الله»، ثم أضاف عليه يشوع شرحا ~~آخر. وقد ضاع هذا السفر الذي يجمع بين سفر موسى وسفر يشوع، أما السفر الأصلي، ~~فقد أدخل في الأسفار الخمسة التي لدينا الآن، ولا يمكن التمييز بينهما. # ولم يكتب يشوع السفر المسمى باسمه، بل كتبه إنسان آخر، أراد كتابة سيرته، ~~وإثبات فضله وشهرته، وتمت الرواية إلى ما بعد موته بقرون عدة، ويوجد جزء من ~~هذه الرواية في سفر القضاة، مما يدل على أنه كانت هناك روايات من قبل ضمت إلى ~~العهد القديم، باعتباره تاريخا وطنيا لبني إسرائيل، أو سجلا قوميا لهم. # 21 # ولا يظن أحد ذو عقل سليم أن القضاة أنفسهم هم الذين كتبوا سفرهم؛ لأن مقدمة ~~الإصحاح الحادي والعشرين تدل على أن كاتبا واحدا قد كتبه، ويعلن هذا الكاتب أنه ~~في زمانه، لم يكن هناك أي ملك من ملوك بني إسرائيل، مما يدل على أنه لم يكتب بعد ~~أن استولى الملوك على السلطة. # 22 # ولم يكتب صموئيل سفره؛ لأن الرواية تمتد إلى ما بعد موته بقرون عديدة. # 23 # ولم يكتب الملوك أنفسهم سفر الملوك، بل أخذ، باعتراف الملوك أنفسهم، من كتب حكم ~~سليمان، وأخبار ملوك يهوذا، وأخبار ملوك إسرائيل، والتي تروي قصصا قديمة سابقة على عصر ~~كاتب السفر. # 24 # وقد كتب هذه الأسفار كلها مؤلف واحد، أراد ~~أن يقص تاريخ العبرانيين منذ نشأتهم حتى تخريب المدينة الأول، ويتضح هذا من ~~تتابع الروايات، والربط بينها، وتحديد غاية معينة له، جعلت الأسفار تتميز بخصائص ~~ثلاث: وحدة الغرض، وارتباط الروايات، وتدوينها المتأخر بعد الحوادث بعدة قرون. ~~ويظن سبينوزا أنه ms019 عزرا # Esdras ~~؛ لأن الروايات كلها ~~تنتهي قبله، ويذكر الكتاب أن عزرا قد أعمل كل جهده في البحث في الشريعة وفي ~~عرضها، ويذكر عزرا في السفر الذي يحمل اسمه بالشهادة نفسها، بأنه قد وهب حياته ~~لتنقية الشريعة وعرضها، وهذا ما يفسر لنا سر الإضافات على سفر التثنية كما ~~لاحظ ابن عزرا ذلك واختلاف صيغة الوصايا العشر في التثنية عنها في الخروج، وكذلك ~~التغييرات التي طرأت على النص الأصلي. وقد سميت الأسفار بأسماء الأنبياء لأن ~~النبي هو الشخصية الرئيسة التي يدور حولها السفر كله، فالأسفار الخمسة تدور حول موسى، ~~ثم نسبت إليه، والسفر السادس يدور حول يشوع فنسب إليه، والسابع حول القضاة ~~فسمي سفر القضاة، والثامن حول روث فسمي سفر روث والتاسع والعاشر حول صموئيل ~~فسميا سفر صموئيل الأول والثاني، والحادي عشر والثاني عشر حول الملوك فسميا سفر ~~الملوك الأول والثاني. # ولكن هل الكاتب عزرا هو من أعطى الروايات صيغتها النهائية؟ لم يكن عزرا هو من أعطى ~~هذه الأسفار صيغتها النهائية، بل اقتصر عمله على جمع الروايات من كتب أخرى، ~~ونسخها، ونقلها دون ترتيب أو تحقيق، مما يفسر وجود الروايات نفسها بألفاظ ~~مختلفة في عدد من الأسفار، كما تثبت ألفاظ الرواية أنها كانت مكتوبة بعد أن حدثت ~~الوقائع بزمن طويل. هذا الاضطراب ~~الزماني # Anachronisme # هو الوسيلة التي يتبعها سبينوزا وكل النقاد في ~~التعرف على زمن كتابة الرواية، والشك في نسبتها إلى مؤلفها المعروف. # 25 # ولقد نقل عزرا هذه الروايات في نصه دون ~~تحقيق، وكثير من الروايات مستقاة من كتب المؤرخين، وهذا يفسر اختلافاتها فيما ~~بينها، فمثلا نجد في الأسفار الخمسة خلطا بين الروايات والوصايا بلا ترتيب، كما نجد ~~الاضطراب الزماني، وتكرار القصص نفسها مع اختلافات جوهرية في الألفاظ، مما يؤكد ~~أننا أمام مجموعة من النصوص المجموعة بلا فحص أو ترتيب. وهذا موجود أيضا في الأسفار ~~السبعة التالية حتى هدم المدينة؛ لذلك جاءت النصوص منقوصة ومتعارضة؛ لأنها مأخوذة من ~~مصادر متعددة، ولم ينجح الأحبار في محاولاتهم للتوفيق بينها. لقد جهل العبرانيون ~~الأوائل لغتهم، ولم يعرفوا كيفية ms020 وضع نظام في الرواية، ولم يكن هناك منهج أو قاعدة ~~تتبع في تفسير الكتاب، وكان كل راو أو كاتب يفسر حسب هواه، ولم تحفظ الأجيال ~~الماضية هذه الأسفار حتى تسربت الأخطاء إليها، فلقد لاحظ النساخ الأوائل صيغا ~~مشكوكا فيها، وفقرات ساقطة دون أن يحصوها كلها. ولا توجد أخطاء كثيرة في النصوص ~~التي تحتوي على التعاليم الخلقية، أو هناك أخطاء ولكن لا تؤثر في جوهر هذه التعاليم، ~~واتفاق الروايات مع بعضها البعض. وفيما عدا ذلك، هناك أخطاء كثيرة يدعي المفسرون ~~المتحذلقون أنها أسرار إلهية، أبقاها الله في الكتاب بعناية، فيؤولون النقاط ~~والحروف والعلامات، حتى المسافات البيضاء التي يتركها النساخ، وهذا كله ادعاء ~~كاذب، ويناقض العقل، فلا توجد أية أسرار في الكتاب، كما تدعي القبالة. أما ~~التعليقات الهامشية، فهي صيغ مشكوك فيها، أراد الناسخ وضعها في الهامش لقراءات ~~محتملة إذا التبست عليه الحروف - ولم يضعه الأنبيا أو الرواة كما يدعي ~~الفريسيون - حتى يختار القراء إحداها، وقد تكون ~~أخطاء عن غير عمد، لم يشأ الناسخ تركها؛ لأنها جزء من الوحي، والحقيقة أن قراءات ~~الهامش تحتوي على بعض الكلمات القديمة التي لم تعد تستعمل أو بعض الكلمات المكشوفة ~~التي تحرج الناسخ من وضعها في النص، ومع ذلك، فهي صيغ مشكوك فيها بالرغم من ~~اتفاق بعضها مع قواعد اللغة العبرية أكثر من ~~اتفاق النص الأصلي معها؛ لذلك رفضها الماسوريون. ويوجد أكثر من صيغة، ولكنها لم ~~تصل إلينا. ومما لا شك فيه، أنه كانت هناك ~~صيغتان على الأقل للنص، بسبب استبدال الحروف، ولأن الناسخ لم تكن لديه إلا ~~نسخ قليلة، نسختان أو ثلاث على الأكثر، ولم يكتب عزرا نفسه شيئا من هذه القراءات، ~~ولم يشأ النساخ تغييرها بدافع من الورع الديني. # خلاصة القول إن أسفار الكتاب المقدس لم يكتبها مؤلف واحد في عصر واحد لجمهور ~~واحد، بل كتبها مؤلفون كثيرون في عصور متعاقبة لجماهير مختلفة في المزاج ~~والتكوين، ويمتد التدوين إلى ألفي عام وربما أكثر من ذلك. # 26 # فإذا فحصنا باقي أسفار الكتاب سفرا سفرا، وجدنا أن ms021 سفر أخبار الأيام قد كتب بعد ~~موت عزرا بمدة طويلة ، وربما بعد إعادة بناء المعبد، ونجهل مؤلفه ومقدار سلطته، ~~وفائدته، وعقيدته، بل إننا لنعجب من إدخال هذا السفر في الكتاب المقدس، واستبعاد ~~سفر الحكمة، وسفر طوبيا، وغيرها من الأسفار التي يقال عنها أنها منتحلة. # 27 # وقد جمع سفر المزامير، وقسم إلى خمسة أجزاء بعد بناء المعبد. # 28 # كذلك جمعت الأمثال في الوقت نفسه، وقد أراد بعض الأحبار استبعاده مع سفر الجامعة من ~~الكتاب المقدس، والإبقاء على الأسفار الأخرى التي تنقصنا، والتي لا نعلم عنها شيئا، ~~فضلا عن أن هناك شكا في نقلها لنا نقلا حرفيا. # 29 # وهذا يدل على أن التقنين لم يخضع لمناهج النقد ~~التاريخي، بل لاختيار البشر. فقد اختار الفريسيون، وهم حفظة التراث، ما شاءوا ~~واستبعدوا ما شاءوا، بناء على ما يتفق وعقائدهم، كما رفض الصدوقيون الأسفار التي ~~تتحدث عن حشر الأجساد؛ لذلك لا بد من إثبات سلطة كل كتاب على حدة، إذ لا يكفي ~~إثبات المصدر الإلهي للكتاب ككل حتى تثبت سلطة الأسفار كل على حدة. # أما أسفار الأنبياء، فإنها قد أخذت من كتب أخرى، وهي تتبع ترتيبا مخالفا للترتيب ~~الزمني لظهور الأنبياء أو الترتيب الزمني لظهور كلامهم وكتاباتهم، كما أنها لا تحتوي ~~على جميع الأنبياء بل على بعض منهم، وجد هنا وهناك، ولا يحتوي كل سفر على كل ~~النبوة، بل على أجزاء منها فقط. # 30 # بدأ أشعيا نبوته واستمرت حتى بعد انتهاء السفر، ومع أن هذا السفر أسطورة ~~إلا أنه ناقص. # 31 # وسفر إرميا مجموعة مأخوذة من كتب أخرى متعددة، ويكون خليطا من نصوص بلا ترتيب، ~~ودون مراعاة للأزمنة، وبعض الإصحاحات مستمد من سفر باروخ، وذلك يدل على أنه لم ~~يكن هناك فصل حاد بين أسفار الأنبياء، كما يدل على وجود مصادر أخرى تشمل روايات ~~توضع في هذا السفر أو في ذاك، وهو ما يفسر تكرار النصوص في الأسفار المختلفة، كما ~~هو الحال في الأناجيل المتقابلة (متى، مرقص، لوقا). # 32 # أما سفر باروخ، فيقال إن إرميا نفسه هو الذي أملاه عليه، ولا ms022 يذكر سفر باروخ ~~إلا جزءا من نبوة باروخ. # 33 # وتدل الإصحاحات الأولى من سفر حزقيال على أنه مجرد شذرات، كما تكشف حروف العطف ~~عن الأجزاء الناقصة، بل إن أول السفر يدل على استمرار النبوة لا على بدئها. ~~ويذكر يوسف في تاريخه بعض الوقائع عن حزقيال لا يذكر عنها السفر شيئا. ونظرا ~~لتعارضه مع الأسفار الخمسة، فقد مال بعض الأحبار إلى رفضه، وإخراجه عن مجموعة الأسفار المقننة. # 34 # أما سفر هوشع فقد كتب بعد موت هوشع بمدة طويلة، ولا يذكر السفر إلا جزءا ~~ضئيلا من نبوته، مع أن هوشع قد عاش حوالي أربعة وثمانين عاما على ما يذكر الكتاب. # 35 # ولم يذكر سفر يونان (يونس) إلا نبوته لليونانيين، مع أن يونان قد تنبأ أيضا للإسرائيليين. # 36 # أما سفر أيوب، فيظن البعض أن موسى هو مؤلفه، وأن القصة كلها مثل، وهذا هو ~~رأي موسى بن ميمون وبعض الأحبار، ويظن البعض الآخر أن القصة حقيقية، ويرى ابن عزرا ~~أن السفر قد ترجم إلى العبرية من لغة أخرى، ويفترض سبينوزا أن أيوب كان ~~وثنيا، وكان شقيا في حياته، ثم أصبح سعيدا في النهاية. وقد أعطت هذه القصة ~~الفرصة للكاتب لمناقشة العناية الإلهية في حوار مع إنسان متأمل لا مع مريض شقي. ~~ومما يؤكد رأي ابن عزرا، أن هناك تشابها بين سفر أيوب وسفر الوثنيين. # 37 # وقد كتب دانيال سفره ابتداء من الإصحاح الثامن، أما الإصحاحات السبعة الأولى فمجهولة ~~المؤلف، وربما كتبت باللغة الكلدانية، وهذا لا ينفي قدسيتها؛ لأن الوحي وحي ~~بالمعنى لا باللفظ. # 38 # أما سفر عزرا، فإنه يأتي مباشرة بعد سفر دانيال، كحلقة تابعة له، ويقص تاريخ ~~العبرانيين منذ الأسر الأول، ويوحي السفر بأن كاتبيها واحد. # 39 # ويرتبط سفر أستير الأول بسفر عزرا، ويدل على ذلك طريقة الربط بينهما، وهو سفر آخر ~~غير الذي كتبه مردخاي، فقد فقد هذا السفر الأخير على ما يظن ابن عزرا، ~~ومؤلفه هو نفس كاتب أسفار دانيال وعزرا ونحميا المسمى بسفر عزرا الثاني. # 40 # هناك إذن مؤلف واحد للأسفار الأربعة: دانيال وعزرا واستير ونحميا، وقد ~~أخذ ms023 المؤلف معلوماته من سجلات الأحبار والقضاة والأمراء الذين كانوا يحتفظون ~~فيها بأخبارهم، كما كان يفعل الملوك. وقد ذكرت هذه السجلات في أسفار الملوك، كما ~~ذكرت سجلات الأمراء في سفر نحميا الأول وفي سفر المكابيين الأول. ومن المحتمل أن ~~تكون هذه الأسفار من وضع الصدوقيين، وهو ما يفسر رفض الفريسيين لها، وتحتوي على ~~بعض الأساطير الموضوعة عن عمد. قد تكون الغاية من هذه الأسفار البرهنة على تحقق ~~نبوة دانيال، ولكنها مملوءة بالأخطاء التي ترجع إلى تسرع النساخ، وفي ~~التعليقات الهامشية كثير من هذه الأخطاء. وقد نقلت هذه النسخ من أصول غير صحيحة، وغير ~~موثوق بها، كما يشهد بذلك الجد سليمان، وكل محاولة يقوم بها البعض للتوفيق بينها ~~تكشف مزيدا من الأخطاء. # وسفر المكابيين الأول مأخوذ من أخبار ملوك اليهود، هذه الأخبار التي عني الكتبة ~~والمؤرخون بتدوينها، وهي مذكورة في سفر الملوك الأول، وأخبار الأمراء، والأخبار ~~مذكورة في سفر نحميا، وفي سفر المكابيين الأول. # 41 # ولم يحدث تقنين لأسفار العهد القديم قبل عصر المكابيين. وقد اختيرت في المعبد ~~الثاني، وهم الذين وضعوا الأقوال في الصلاة. ويشير الفريسيون أنفسهم إلى اجتماعهم ~~لأخذهم قرار التقنين مع ما يتفق مع عقائدهم. # 42 # خامسا: منهج التفسير # إذا كان الشعور الديني ذا أبعاد ثلاثة: الشعور التاريخي، ووظيفته نقل الوحي ~~شفاهيا أم كتابيا، وضمان صحته وضبطه عبر التاريخ، والشعور الفكري، ومهمته فهم ~~الوحي - بعد التأكد من صحته - وتفسيره، وتحويله إلى أسس نظرية للسلوك، وأخيرا ~~الشعور العملي، ومهمته تحويل الوحي - بعد التأكد من صحته وفهم معناه - إلى أنماط ~~للسلوك، وإلى مناهج عملية في الحياة حتى يصبح الوحي نظاما للعالم، ويتم تحقيق الوحدة ~~بين الفكر والواقع، أو بين الروح والطبيعة، أو إن شئنا، بين الله والعالم، # 43 # فإن سبينوزا لا يخرج عن هذا التقسيم، فيدرس النبوة أولا كشعور تاريخي، ~~ثم يدرس مناهج التفسير كشعور فكري، ثم ينتهي بعد ذلك إلى السلوك والحياة العملية في ~~دراسته للصلة بين الدين والدولة، ونظام الحكم الأمثل في الشعور العملي. # 44 # ومع ذلك، فالتفسير عند سبينوزا هو المسألة العامة ms024 التي تضم كثيرا من ~~المسائل النقدية والعملية على السواء. # والتفسير ليس حكرا على فرد معين، أو على سلطة بعينها، بل لكل فرد الحرية ~~المطلقة في أن يفسر كما يشاء، وفي أن يؤمن وأن يتصور العقائد كما يريد، وفي أن ~~يفسر الكتاب على مستوى فهمه؛ إذ إن الكتاب نفسه قد دون على مستوى فهم العامة، ~~وطبقا لآراء الأنبياء، ومعتقدات الرواة. يرفض سبينوزا سلطة الكنيسة في التفسير، ~~وما تدعيه من حق في تفسير الكتاب المقدس، كما رفضها لوثر من قبل، فالله لا ~~يحرم على الفرد حرية البحث ولا يمنعه حقه في التفكير والفهم والتفسير. وبناء ~~على ذلك، لا يحق لنا اتهام مؤسس الفرق الدينية بالكفر. إذن هم كيفوا الكتاب ~~حسب عقائدهم الخاصة، بما أنه قد تكيف من قبل حسب عقلية الأنبياء، وحسب التكوين ~~النفسي للجماهير في عصره. ولكن يعاب عليهم منعهم الآخرين حرية البحث والتفكير، ~~واعتبارهم أعداء لله وللبشر؛ لأنهم يختلفون معهم في الآراء والمعتقدات، حتى ولو كانوا ~~يعيشون عيشة الفضيلة الحقة، واعتبارهم أصفياء الله، إذا اتفقوا معهم في العقائد ~~والمعتقدات، حتى ولو كان سلوكهم مشينا. وهذا كله مما يجلب الشقاء للفرد ~~وللجماعة. # ويعتمد سبينوزا في تحليله للكتاب على المبدأ البروتستانتي «الكتاب وحده» # Sola Scriptura ~~، دون الالتجاء إلى سلطة آباء ~~الكنيسة أو التراث المسيحي إبان العصور؛ لذلك يملأ سبينوزا الرسالة بالشواهد النقلية ~~من الكتاب المقدس ولا يضيف على أقوال الأنبياء شيئا، ولو أنه يلجأ في بعض الأحيان في ~~دراسته لتاريخ العبرانيين إلى التراث اليهودي أو لبعض النظريات الفلسفية عن ابن عزرا ~~أو ابن ميمون أو البكار. # ويرفض سبينوزا كل التفسيرات التي تقوم على الهوى وعلى الخرافة وعلى الأوهام، فهي ~~كلها بدع تؤخذ على أنها كلام الله، ويجبر الآخرون على الاعتقاد بها. وتلجأ بعض ~~هذه التفسيرات إلى السلطة الإلهية حتى لا يظهر الآخرون أخطاءها، ويقوم البعض الآخر ~~على الإيمان بالخرافات واحتقار العقل، ويعتمد البعض الثالث على الأسرار والغموض ~~والاشتباه على التأويلات والتخريجات، وإخراج الكلم عن مواضعه، ووضع معتقدات لا عقلية ~~صادرة عن انفعالات النفس. # لذلك ms025 يقترح سبينوزا منهجا آخر لتفسير النص مثل منهج تفسير الطبيعة ، يقوم على ~~الملاحظة والتجربة، وعلى جمع المعطيات اليقينية، ووضع الفروض، واستخلاص النتائج. وفي ~~حالة الكتاب يكون منهجا لاستقصاء الحقائق التاريخية اليقينية، والانتهاء منها إلى ~~أفكار مؤلفي الأسفار، وبذلك نضمن صحة النتائج، كما نضمن صحة المعرفة التي نحصل ~~عليها بالنور الفطري. مع أن الكتاب يعالج كثيرا من الموضوعات التي لا يمكن ~~معرفتها بالنور الفطري، مثل قصص الأنبياء ووحيهم وقصص المعجزات، أي الروايات عن ~~وقائع خارقة للعادة في الطبيعة تكيفت حسب آراء الرواة وأحكامهم السابقة، هؤلاء ~~الذين نقلوها أو دونوها، والوحي الذي تكيف مع آراء الأنبياء، أي بعض الموضوعات التي ~~تتعدى حدود المعرفة الإنسانية، بمعنى أنها تتطلب استقصاء تاريخيا؛ لذلك يجب أن ~~نستخلص معرفتنا بالطبيعة من الطبيعة نفسها. ومع أننا نستطيع إثبات التعاليم الخلقية ~~بالأفكار الشائعة إلا أننا يجب علينا استخلاصها أيضا من الكتاب نفسه. ومع أن هذه ~~التعاليم الخلقية لا المعجزات، يمكنها إثبات المصدر الإلهي للكتاب، إلا أن منهج ~~تفسير الكتاب يجب أن يقوم على فحص الروايات، كما يقوم المنهج الطبيعي على فحص ~~الظواهر الطبيعية بأقصى درجة من الوضوح. # ويتضمن البحث التاريخي خطوات ثلاثا: ~~(1) # معرفة خصائص وطبيعة اللغة التي دونت بها أسفار الكتاب المقدس، ~~والتي تحدث بها مؤلفوها، وبذلك يمكننا معرفة معاني النصوص حسب ~~الاستعمال العرفي لها. ولما كانت اللغة العبرية لغة الكلام والتدوين ~~يجب إذن معرفة اللغة العبرية للعهدين القديم والجديد. # ولكن هذه الخطوة يصعب القيام بها، كما أنها تتطلب شرطا يصعب تحقيقه؛ ~~فليس لدينا معرفة كاملة باللغة العبرية، ولم يترك القدماء لنا شيئا ~~مضبوطا، فلم يترك لنا علماء اللغة معاجم وكتبا نعرف منها مبادئ اللغة ~~العبرية، أو قواعد اللغة، أو في الخطابة، فقد فقدت الأمة العبرية كل ~~شيء، ولم يبق إلا بعض المنوعات الأدبية، وضاعت أسماء النباتات ~~والحيوانات والطيور والأسماك، وهناك أسماء وأفعال كثيرة في التوراة مجهولة ~~أو مشكوك فيها، كما لا نعلم أساليب اللغة وطرق بيانها بعد أن طواها ~~النسيان؛ لذلك لا نستطيع معرفة معاني النصوص طبقا لاستعمال ms026 الكلمات، فهناك ~~كلمات معروفة للغاية، ولكن معناها غامض، لا يمكن العثور عليه. هذا ~~بالإضافة إلى طبيعة هذه اللغة نفسها وعباراتها الغامضة التي لا يمكن لأي ~~منهج توضيحها. ومن أسباب هذا الغموض: ~~(أ) # استبدال الحروف التي لها المخرج نفسه، الشفاه، الأسنان، ~~الحنجرة، اللسان، الحلق. ~~(ب) # غياب الأزمنة (الحاضر، الماضي الناقص، الماضي التام، ~~المستقبل السابق) في الصيغة الإخبارية، وغياب جميع الأزمنة ~~إلا الحاضر في صيغة الأمر والصيغة المصدرية، وغياب الأزمنة ~~جميعها في الصيغة الإنشائية. ~~(ج) # غياب الحروف المتحركة. ~~(د) # غياب التنقيط والتشكيل لبيان أجزاء الكلام، وقد وضع فيما ~~بعد، مما يدعونا إلى الشك في القراءات الحالية. # بالإضافة إلى ذلك، تواجهنا صعوبة لغوية أخرى، وهو أننا لا نملك أسفار ~~الكتاب بلغته الأصلية التي كتبت بها أول مرة خاصة العهد الجديد، ~~فقد كتب إنجيل متى ورسالة بولس إلى العبرانيين باللغة العبرية، وضاع النص ~~الأصلي، كما لا نعلم بأية لغة كتب سفر أيوب؛ إذ يؤكد ابن عزرا أنه كتب ~~بلغة أخرى، ثم ترجم إلى العبرية. # 45 ~~(2) # جمع النصوص وفهرستها في موضوعات رئيسة، حتى يمكن استعمال النصوص التي ~~تتعلق بالموضوع نفسه مرة واحدة. يجب إذن تحويل الكتب المقدسة إلى ~~معاجم مفهرسة، حتى يسهل استعمالها حسب الموضوع، كما يمكن تبويب الآيات ~~حسب الوضوح والغموض، فتوضع الآيات الواضحة معا والمتشابهة معا. ويعني ~~الوضوح هنا فهم النص حسب السياق، وليس حسب العقل؛ لأن مهمة التفسير ~~فهم النص، لا معرفة الحقيقة، كما لا ينبغي الخلط بين فهم النص وإدراك ~~الأشياء الطبيعية، حتى لا نخلط بين معنى الآية وحقيقة الأشياء، علينا فقط ~~الاعتماد على اللغة، أو على الاستدلالات، ابتداء من الكتاب. فمثلا «الله ~~نار» آية واضحة مع أنه معناها معارض للعقل وللنور الطبيعي؛ لذلك يجب ~~وضعها في قسم الاستعارة. وإذا كانت هناك بعض الآيات متفقة مع العقل، ~~ولم نستخلص معناها من الكتاب، يجب التوقف عندها؛ إذ إنه لا ينبغي ~~الابتعاد عن المعنى الحرفي للآية والاستعمال اللغوي، بصرف النظر عن ~~اتفاقها أو اختلافها مع العقل. # لا توجد طريقة إذن لتحديد معنى النصوص إلا ms027 طريقة جمع النصوص وهي طريقة ~~لا توضح النصوص الغامضة إلا مصادفة، وهي طريقة مجدية للتعرف على ~~فكر الأنبياء، فيما يتعلق بالأمور غير الحسية، والتي لا تدرك إلا ~~بالخيال، أما ما يمكن إدراكه بالذهن، أي الأمور النظرية، والتي نستطيع ~~تصورها بسهولة مثل التعاليم الخلقية، فهي عامة بسيطة سهلة، لا تحتاج ~~إلا إلى النور الفطري. # ولا يجوز في جمع النصوص وضع الآيات الواضحة مع الآيات الغامضة، حتى يمكن ~~تفسير الثانية بالأولى، وإلا قام التفسير حسب الهوى. فإذا كان النص ~~صريحا على أن الشمس تدور حول الأرض، فلا يجوز التعسف في التفسير، ~~وإخفاء معناه، أو تحويله إلى معنى آخر حتى يتفق مع الحقيقة العلمية، ~~فلم يكن يشوع، وهو الذي تحدث في هذا النص، عالما في الفلك، لا يجوز إذن ~~إخراج الكلم عن مواضعه، وتأويل النص، والتعسف معه، وتحميله أكثر مما يحتمل. # 46 ~~(3) # معرفة الظروف والملابسات التي ~~كتبت فيها الرواية، أي معرفة حياة مؤلف السفر، وتقاليده، وأخلاقه، ~~والغاية من السفر، ومناسبته، وعصره، ولغته، ثم مصير السفر نفسه؛ ~~جمعه، ونقله، ونسخه، والاختلافات بين النسخ، وتقنينها، وتحليلها؛ حتى ~~يمكن التفرقة بين آيات التشريع وآيات الأخلاق، وحتى نستطيع التعرف على ~~موهبة المؤلف الأدبية، وحتى لا نخلط بين التعاليم الوقتية والتعاليم ~~الإلهية الأميرية، وكل ذلك حتى يمكننا أخيرا تحديد درجة سلطته، والوثوق ~~بالسفر، فلربما غيرته يد آثمة عن عمد، أو دخله التحريف والتغيير ~~والتبديل. # ولكن أمام هذه الخطوة صعوبات جمة؛ وذلك لأننا نجهل الظروف الخاصة ~~لكل الأسفار المقدسة، كما نجهل مؤلفي كثير من الأسفار، كما نجهل ~~كاتبيها، وموضوعاتها، ومناسباتها، ورواتها، ومن وقعت في أيديهم، وعدد ~~نسخها، والاختلافات بينها، ومصادرها، خاصة إذا كانت تروي أشياء غامضة، ~~لا يمكن إدراكها أو تصديقها، ما دمنا نجهل قصد مؤلفها. فإذا عرفنا ~~كل ذلك، يمكننا أن نتخلص من أحكامنا السابقة، نفهم النص كما أراده ~~مؤلفه، ولا نحكم عليه سلفا بأنها أسطورية أو سياسية أو ~~دينية. # وبعد القيام بهذه الخطوات الثلاث من البحث التاريخي، نبدأ في دراسة فكر الأنبياء ~~والروح القدس. وكما نفعل في الطبيعة ms028 عندما نبدأ بدراسة أكثر الأشياء عمومية، مثل ~~الحركة والسكون، كذلك نفعل في الكتاب بدراسة أكثر الأشياء عمومية، وهو ما أوحى به جميع ~~الأنبياء كعقيدة أبدية نافعة للبشر جميعا؛ أي وجود الله القادر الذي تجب عبادته ~~وحده، والذي يرعى كل شيء، ويحب من يحبون الجار كحبهم لأنفسهم، # 47 # أما طبيعة الله، فيختلف الأنبياء عليها، ويمكن للفيلسوف دراستها بالنور ~~الفطري، وبعد ذلك يمكن الانتقال إلى موضوعات أقل شمولا، مثل السلوك في الحياة، ~~وهو ما يمكن استنباطه من المبادئ العامة الأولى، ونوضح كل ما تشابه منه ~~باللجوء إلى هذه المبادئ العامة. فإذا حدث تعارض، فإنه يمكن حله عن طريق ~~معرفة المناسبة والزمان والمكان الذي كتبت فيه هذه النصوص، أي عن طريق الرجوع إلى ~~الموقف التاريخي الذي نشأ فيه النص. # 48 # ففي كثير من الأحيان يتحدث المسيح كداع للخير، لا كمشرع، ويريد ~~تطهير النفس، لا تصحيح الأفعال. فالدعوة إلى التسامح تكون في عصر الاضطهاد، والدعوة ~~إلى العدل تكون في دولة لا يكون للمواطنين فيها الحقوق نفسها، وهذا ما يقتضيه ~~النور الفطري أيضا. # ومن الصعب دراسة الأمور النظرية المحضة؛ إذ لم يتفق الأنبياء عليها فيما بينهم، ~~بعد أن تكيفت رواياتهم حسب آرائهم السابقة في عصرهم. # 49 # فلا يجوز استنتاج أقوال نبي من نصوص واضحة لنبي آخر إلا بعد إثبات ~~تطابق وجهتي نظرهم. # ودراسة الأشياء من العام إلى الخاص دراسة نظرية محضة للوحي، # 50 # إذ نبدأ بدراسة بتعريف النبي والوحي والمعجزة. وفي دراسة النبوة لا ~~يجوز الخلط بين فكر النبي وفكر الراوي، كما لا يجوز الخلط في الوحي بين ما ~~سمعه الأنبياء بالفعل وبين ما أرادوا التعبير عنه بالصور الذهنية. # والذي يعطينا مقدار الصحة التاريخية للنص هو منهج التفسير (ويعني به سبينوزا ~~منهج النقد التاريخي). أما السنة النبوية (التراث الديني اليهودي كما هو موجود ~~لدى الفرق مثل الفريسيين)، أو العصمة البابوية كما هو الحال عند الكاثوليك ~~الروم، فلا يعطيان أي يقين. فقد رفض اليهود الأوائل هذا التراث الديني (الميدراش ~~مثلا) لأن الأحبار لم ينقلوها عن موسى كما يدعي الفريسيون. لقد ms029 أقيمت السلطة ~~الدينية عند اليهود لتطبيق الشريعة، وهي قانون الدولة ، لا لتفسير الكتاب المقدس أو ~~تقنينه؛ لأن لكل فرد الحق في تفسيره بالنور الفطري، ولكل باحث الحق في ~~تطبيق قواعد المنهج التاريخي لإثبات مقدار صحة النصوص. # كذلك يعطينا منهج التفسير اللغوي المعاني الصحيحة للألفاظ، لأنه إذا أمكن تغيير معنى ~~النص بسهولة، فإنه لا يمكن تغيير معنى الكلمة أو اللفظ؛ لأن الكلمة يحكمها ~~معناها الطويل، ومن يريد تغيير معناها عليه تغيير تاريخ استعمالها وهذا مستحيل، ~~فاللغة محفوظة في تراثها عند الشعب وعند علماء اللغة، فإذا غير العلماء معنى النص، ~~فإنهم لا يستطيعون تغيير معاني الكلمات، ومن الصعب إعطاء الكلمات معاني جديدة كلية ~~مخالفة لمعانيها القديمة؛ لذلك لا يمكن تحريف معاني الكلمات بالرغم من جواز تحريف ~~النصوص، وتغيير فكر الأنبياء بتغيير النص أو بإساءة التأويل. # فإذا كانت كل هذه الصعوبات اللغوية ~~والتاريخية تمنعنا من معرفة الأشياء التي لا يمكن إدراكها، والتي يمكن تخيلها ~~فحسب، فإنها لا تمنعنا من تصور الأشياء التي يمكننا إدراكها بالذهن. فقد كتب ~~إقليدس أشياء سهلة في كل لغة، ولا تهم معرفة اللغة الأصلية معرفة كاملة، بل لا يهم ~~معرفة أية لغة معرفة كاملة، ولا يهم أيضا معرفة حياته، وعاداته، وتقاليده، وظروف ~~الكتابة، ومناسباتها، والغاية منها، وطرق جمعها، ومن تناولها. والتعاليم الخلقية في ~~الكتاب المقدس يمكن إدراكها على هذا النحو، فإننا نفهمها بسهولة ويسر، ونعلم معاني ~~الآيات عن يقين؛ إذ يتم التعبير عنها بأكثر الألفاظ شيوعا وبساطة، لأن الخلاص ~~الحقيقي يكون في اطمئنان النفس، وهذا ما يمكن معرفته بوضوح. # وعلى هذا النحو لا يتطلب منهج التفسير إلا النور الفطري الذي يقتضي استنباط ~~الأشياء الغامضة من الأشياء الواضحة، وهو منهج يسير للغاية، إلا أنه استعصى على ~~الناس لطول نسيانهم له، وليس هناك ما يدعى «نورا فوق الطبيعة» # Lumière surnaturelle # كما يدعي البعض؛ وذلك لأن كل ما يقال عنه ~~تفسير بنور يفوق الطبيعة إن هو إلا ابتداع إنساني محض. وإن صعوبة التفسير لا تأتي ~~من عدم كفاية النور الفطري كما يدعون، بل من ms030 التكاسل والإهمال في المعرفة ~~التاريخية والنقدية للكتاب. وليس هذا النور الذي يفوق الطبيعة هبة من الله للمؤمنين، ~~فقد خاطب الأنبياء والحواريون المؤمنين والكفار على السواء؛ وعلى هذا النحو يمكن أن ~~يقال: إن كل ما يناقض العقل أو الطبيعة يجب حذفه؛ لأنه زيادة من الراوي، لإثارة ~~النفوس، وتحريك الخيال. # لذلك يرفض سبينوزا منهج موسى بن ميمون الذي يعتبر أن لكل نص معاني عديدة قد تكون ~~متعارضة، ويكون أصوبها أكثرها اتفاقا مع العقل، فإذا تعارض العقل مع النقل (المعنى ~~الحرفي) وجب تأويل النص، # 51 # وقد طبق ابن ميمون منهجه هذا، وانتهى إلى القول بقدم العالم، وهو رأي ~~أرسطو، وتأويل النص المقدس حسب هذه النظرية، بل إن النص، في رأيه، يدعو لها صراحة. ~~يرفض سبينوزا منهج ابن ميمون؛ لأنه يدل على أن هناك أشياء كثيرة في الكتاب لا يمكن ~~استنباطها بالنور الفطري، وأنه لا بد لذلك من نور يفوق الطبيعة، أما العامة التي ~~تجهل طرق الاستدلال والبراهين، فإنها ستحتاج إلى استفتاء الفلاسفة، والاعتقاد بعصمتهم ~~في تفسير الكتاب، وبذلك تنشأ سلطة كهنوتية جديدة، يحترمها العامة. صحيح أن منهج ~~سبينوزا يتطلب معرفة اللغة العبرية، ولكن يكفي أن تكون هذه المعرفة على مستوى ~~العامة؛ فقد كانت لغة الحيث في ذلك العصر، في الوقت نفسه الذي يجهلون فيه البراهين ~~على حقائق الوحي. يؤدي منهج ابن ميمون إلى استحالة معرفة العامة بحقائق الوحي، مع ~~أن حقائق الوحي الخاصة بالسعادة، وبحياة الفضيلة، يمكن للناس جميعا إدراكها، وفي ~~أي لغة كانت، دون شهادة المفسرين أو العلماء، يفترض منهج ابن ميمون اتفاق ~~الأنبياء فيما بينهم، وكأنهم فلاسفة كبار، وهذا غير صحيح؛ لأن الأنبياء جهلوا كثيرا ~~من الحقائق، واستعملوا أسلوب التخييل، للتأثير على النفوس، كما يفترض منهج ابن ميمون ~~أن الكتاب لا يمكن تفسيره بالكتاب، مع أنه يجب تفسير الكتاب بالكتاب نفسه. وأخيرا ~~يسمح منهج ابن ميمون بتفسير النصوص حسب آرائنا السابقة، وبتبديل المعاني الحرفية ~~للنصوص، مع أن كثيرا من النصوص تند عن العقل، وينتهي منهج ابن ميمون إلى زعزعة ثقة ~~العامة في ms031 الوحي، وفي إيمانهم بالكتاب. # لا يمكن إذن، في رأي سبينوزا ، إخضاع النص لشيء آخر غيره، مثل فلسفة أفلاطون، أو ~~أرسطو أو تأويله تأويلا مجازيا، حتى يتفق مع العقل، أو إخراج ما فيه من أسرار ~~إلهية مدعاة، هي مجرد أوهام وخيالات، أو خرافات وأساطير. # سادسا: النبوة # بدأ سبينوزا بدراسة النبوة لأنها الموضوع الذي يتناوله الباحث عندما يريد دراسة ~~الوحي؛ إذ يتم كشف الوحي من خلال النبوة، والنبوة في الغالب وحي مكتوب، فهي مصدر ~~النص قبل التدوين. وتشمل النبوة جانبين: الأول صلتها بمصدر الوحي، أي النبوة على ~~المستوى الرأسي كما تحدده صلة النبي بالله، والثاني النبوة صلة النبي بالرواة ~~وانتقالها من رواية إلى رواية، حتى يتم التدوين، ثم انتقال المصاحف من يد إلى ~~يد حتى يتم التقنين، أي النبوة على المستوى الأفقي كما يحدده وضعها وانتقالها ~~في التاريخ. الجانب الأول يدرسه سبينوزا في أول الرسالة ثم يدرس الجانب الثاني بعد ~~ذلك وهو بصدد النقد التاريخي للكتب المقدسة. والحقيقة أن الجانب الأول موضوع ~~للفلسفة الإلهية، وهي نظرية النبوة بالمعنى الضيق، والمعروفة باسم نظرية الاتصال ~~في الفلسفة الإسلامية، والثانوي موضوع لأصول الفقه أو لعلم الحديث الذي يدرس الرواية ~~وانتقالها في التاريخ. الجانب الأول مبحث ميتافيزيقي افتراضي، والثاني مبحث تاريخي ~~علمي. الأول لا يتعدى الظن، والثاني هو المنطق الموضوعي لها. # ولا يتناول سبينوزا الجانب الأول من النبوة إلا بقدر يسير. فإذا كانت النبوة تعني ~~تدخل الله في قوانين الطبيعة، فإن ذلك لم يحدث، لأن قدرة الله هي قدرة الطبيعة، ~~وصفات الله هي قوانين الطبيعة، كما أن قدرة الله لا تفسر شيئا؛ لأن السبب ~~المتعالي لا يمكنه تفسير واقعة طبيعية. # وكما أن قدرة الله ليست هي السبب في تفسير النبوة، كذلك «روح الله». صحيح أن ~~الكتاب المقدس يذكر «روح الله» أو «روح الله للأنبياء» أو يخبر بأن الأنبياء قد ~~تحدثوا باسم روح الله، ولكن كلمة «روح» في اللغة العبرية تعني اشتقاقيا (ريح) ~~نسمة، نفس، نفخ، تنفس، قوة، طاقة، استعداد، قيمة، رأي، إرادة، رغبة، دافع ... إلخ؛ كما ms032 ~~تستعمل للتعبير عن الانفعالات مثل التواضع، والغرور، والمحبة، والكراهية، وتقلب ~~المزاج، والطبيعة؛ كما تستعمل أيضا للدلالة على روح الإنسان، ومناطق العالم. وهذه ~~المعاني كلها مجازية صرفة؛ إذ تنسب كل واقعة لله إذا كانت جزءا من طبيعته، ~~فيقال: «قدرة الله»، أو إذا كانت خاضعة لقدرته، فيقال: «سماء الله»، أو إذا كانت ~~مخصصة لله، فيقال: معبد الله، أو إذا كانت منقولة عن السنة النبوية، فيقال: «شريعة ~~الله»، أو إذا كانت تعبر عن درجة في التفضيل، فيقال: «جبال الله». # 52 # وقد كان من عادة اليهود نسبة كل شيء لله يجهلون علته المباشرة بل ~~يعتبرون وقائع الطبيعة كلها أعمالا لله، خاصة خوارق العادات، أو الأشياء غير ~~المألوفة عادة، فالرجل الطويل «نبي الله»، ومن هذه الناحية لا يختلف اليهود عن ~~الوثنيين. لا تعني إذن «روح لله» أي معنى حقيقي، بل تعني عدة معان مجازية، ~~خاصة أن اليهود كانوا يعتبرون الجسد مصدر الشر، والروح مصدر الخير. وقد ~~استعملت هذه المعاني المجازية كتشبيهات على طريقة التوراة التي لا يمكنها التعبير ~~عن الحقائق الإلهية إلا بالصور الإنسانية، فعندما يذكر كتاب أن روح الله كانت في ~~النبي، أو أن الله أنزل روحه على البشر، فإن ذلك يعني أن الأنبياء كانوا بشرا ~~ممتازين، يؤمنون بالله إيمانا صادقا، ويعبدونه عن حق ويستطيعون إدراك الأحكام ~~الإلهية، إذ تدل الروح على النشاط الذهني أو على الحكم؛ ولذلك سميت الشريعة ~~روح الله، وكذلك يمكن تسمية خيال النبي فكر الله، # 53 # والحقيقة أن فكر الله مطبوع في البشر جميعا، كالمعرفة الفطرية تماما، ~~ولكن اعتقادا من العبرانيين أنهم أصفياء الله، ادعوا أن روح الله قد حلت في ~~أنبيائهم؛ لأن العامة تجهل العلل المباشرة للمعرفة النبوية، وتعتريها الدهشة ~~أمامها؛ لذلك نسبوا هذه المعرفة إلى الله كما تعودوا أن ينسبوا إليه كل شيء ~~غريب عليهم. # فإن لم تكن قدرة الله أو روح الله سبب النبوة، فإنه لم يبق أمامنا إلا روح ~~الإنسان، فالروح الإنسانية وطبيعتها هي السبب الأول في وجود الوحي لأنها قادرة على ~~تكوين بعض الأفكار، تفسر بها طبيعة ms033 الأشياء، وتدل بها على الحياة الصحيحة، فلو لم ~~تكن هناك روح إنسانية، لما كانت هناك نبوة، ولو لم يكن هناك إنسان، لما كان هناك ~~الوحي. لا يهم سبينوزا إذن المصدر الإلهي للنبوة، بل يهمه أنها واقعة إنسانية، ~~حدثت بالفعل، وبذلك يكون الدليل على النبوة هو وجود النبي، لا وجود الله. # كيف يظهر الوحي إذن من خلال النبوة؟ الوحي # Révélation # هو كلام الله للبشر على لسان الأنبياء، أو كشف الله نفسه ~~للأنبياء، فالوحي كشف أو رؤية # Offenbarung ~~. في الحالة ~~الأولى يتم كشف الوحي للأنبياء بالكلمات، وفي الحالة الثانية يكشف الله عن نفسه ~~وعن الوحي بالرؤية، وفي بعض الأحيان يتم الكشف بالوسيلتين معا. وتكون هاتان ~~الوسيلتان إما حقيقة من الله، أو خيالا ووهما واختراعا من صنع الإنسان؛ إذ ~~يتخيل النبي وهو في ساعة اليقظة أنه يسمع أو يرى شيئا لا وجود له في الواقع، وقد ~~أوحى الله الشريعة إلى موسى بصوت حقيقي، وهو الصوت الوحيد الذي سمعه موسى في تاريخ ~~النبوة كله، بل في تاريخ التوراة كلها، أما الصوت الذي سمعه النبي دانيال كصوت ~~عالي # Géli # الذي تعود صموئيل سماعه، وكذلك الصوت ~~الذي سمعه أبيملك فصوت خيالي سمعه وهو نائم، إلا أن بعض اليهود يرون أن الوصايا ~~العشر لم تبلغ حرفيا، بل سمع موسى مجرد ضوضاء شديدة، لا تتميز فيها الكلمات، ~~ثم أدركت الوصايا العشر إدراكا روحيا من خلال هذه الضوضاء، وهذا ما يفسر ~~اختلاف النص في الخروج عنه في التثنية ويدل على أن الله قد أبلغ الوصايا ~~العشر معنى لا لفظا. وهذا لا ينفي سماع صوت حقيقي، ثم التعبير عنه بالصوت الإنساني، ~~ولكن يستحيل أن يعبر الصوت المخلوق عن ماهية الله ووجوده؛ وذلك لأن الروح ~~الإنسانية هي التي تحرك الفم، فضلا عن أن اليهود لم يعرفوا من الله حتى ذلك الوقت ~~إلا اسمه وأرادوا أن يوقنوا بوجوده، وبالطبع لا ينفع في ذلك الصوت المخلوق أو ~~حركات الفم، بالإضافة إلى أن الشريعة تنفي صفة الجسمية عن الله حتى لا يحيد اليهود ~~عن عبادته. على أن ms034 هذا الاختلاف في نص الوصايا العشر بين السفرين المذكورين، ~~الخروج والتثنية، يرجع في الحقيقة إلى اختلاف في التدوين، وهو أمر يمكن معرفته ~~وتقصيه بالنقد التاريخي للكتاب المقدس، كما سيفعل سبينوزا ويثبت أن موسى ليس هو ~~مؤلف الأسفار الخمسة، # 54 # أو يمكن التوفيق بينها باستخدام التفسير المجازي لبعض التعبيرات. # وفضلا عن الصوت أو الكلام، ظهر الله أيضا ظهورا حسيا عندما أراد أن يظهر غضبه ~~لداود، فأراه ملكا ممسكا بسيف، بالرغم من إنكار موسى بن ميمون ذلك، واعتباره مجرد ~~حلم، كما كشف الله ليوسف نصره باستعمال بعض الصور الذهنية من مخيلة النبي، لا ~~باستعمال رؤية حقيقية، كما كشف ليشوع عونه لليهود في المعركة بالرؤى والكلمات معا، ~~فأراه ملكا قابضا على سيف على رأس الجنود، مؤيدا بالكلمات في حركاته واتجاهاته، ~~وكشف لأشعيا أيضا بعض المظاهر الحسية، وأخبره بترك الشعب للعناية الإلهية، وتصور ~~النبي الله مستويا على عرش عال، في حين لطخ الإسرائيليون أنفسهم بالوحل، وغاصوا ~~في الدخان. رؤية موسى وحدها كانت بلا رموز، فقد كان موسى كليم الله. # ولكن هناك أيضا وسيلة للاتصال المباشر دون الاستعانة بمظهر حسي، صوتا كان أم ~~جسما، وهي الوسيلة التي يخبرنا بها الله عن ماهيته، وهذا يقتضي وجود روح غير عادية، ~~ولم يصل مخلوق إلى هذه الدرجة العالية إلا المسيح الذي اتصل بالله اتصال ~~الروح بالروح، فصوت المسيح هو صوت الله الذي سمعه موسى من قبل، وحكمة الله التي ~~تفوق الحكمة الإنسانية قد تجسدت في المسيح، وبذلك يصبح المسيح هو طريق الخلاص كما ~~كانت شريعة موسى من قبل. وباستثناء المسيح لم يدرك نبي آخر إلا بالمخيلة باستخدام ~~الكلام أو الصور الحسية؛ ولذلك لا تتطلب هبة النبوة إلا خيالا خصبا. # 55 # يرفض سبينوزا إذن كل نظريات الكنيسة حول طبيعة المسيح وشخصه، إله أم إنسان. ~~إله وإنسان أم إنسان وإله. ولا يرى المسيح إلا في دوره المعرفي، وسيلة مباشرة ~~للاتصال بالله لمعرفة ماهيته، وسيلة عند المسيح وعند الحواريين وعند الفيلسوف. فإذا كان ~~موسى قد تحدث مع الله وجها لوجه، فإن المسيح قد ms035 اتصل بالله اتصال الروح ~~بالروح. المسيح طريق للمعرفة وليس مسيحا شخصيا أو مسيحا كونيا. # مهمة النبي إذن هي التبليغ والتعبير، فالوحي أو النبوة معرفة يقينية يوحيها الله ~~للإنسان عن طريق النبي الذي يبلغه للبشر ويعبر عنه. مهمة النبي هي صياغة الوحي، ~~أي المعاني الصرفة، بأسلوبه وبطريقته وباستدلالاته الفطرية أو البيئية المكتسبة حسب ~~مستوى فهم العامة. لم يرسل الله وحيا بالمعنى واللفظ، ولكنه أعطى المعنى، فقد ~~يقذفه في قلب النبي الذي يقوم بصياغته في ألفاظ من عنده، # 56 # وقد كان النبي عند اليهود مجرد مفسر # Interprète # أو الخطيب بالإضافة إلى مهمته في التنبؤ بالمستقبل، وكذلك ~~سمي يشوع بلعم عرافا أو مبشرا. # يدرك النبي الوحي بمخيلته أي بالكلمات والصور الذهنية صادقة أم كاذبة؛ لذلك ~~تجاوز الأنبياء معرفة الأشياء بالحدود العقلية، وعبروا عنها بالرموز والأمثلة، كما ~~عبروا عن الحقائق الروحية بالتشبيهات الحسية، وهو الأسلوب المتفق مع طبيعة ~~الخيال. ولما كان الخيال غامضا متقلبا، ظهرت النبوة عند بعض الناس على فترات ~~متباعدة في حياتهم. لم يكن للأنبياء فكر أكمل، بل خيال أخصب، فمع أن سليمان قد ملأ ~~الأرض علما وحكمة، إلا أنه لم يتمتع بهبة النبوة، وعلى عكس منه، كانت لهاجر ~~هبة النبوة دون أن يكون لها علم، فمن يتميزون بالخيال الخصب يكونون أقل قدرة ~~على المعرفة العقلية، ومن يتميزون بالعقل يكونون أقل قدرة على الصور الخيالية؛ لذلك ~~لا تحتوي أسفار الأنبياء على معرفة عقلية للأشياء الطبيعية، بل على صور خيالية ~~للتأثير على النفوس. # ويتكيف الوحي حسب خيال الأنبياء وقدراتهم كما تكيف بعد ذلك حسب معتقدات ~~الحواريين والدعاة وأساليبهم في نشر الدعوة. يختلف الأنبياء فيما بينهم حسب ~~خيالهم وطبعهم ومعتقداتهم وآرائهم، فالنبي الفرح توحى إليه الحقائق بحوادث سعيدة، ~~والنبي الحزين تؤيده آيات حزينة، والنبي ذو الخيال المرهف توحى إليه الأشياء ~~بصور ناعمة رقيقة، والنبي الريفي يوحى إليه بصور ريفية، والنبي الجندي يوحى ~~إليه بصور عسكرية، والنبي رجل البلاط يوحى إليه بصور ملكية. ويختلف الأنبياء فيما ~~بينهم حسب معتقداتهم في السحر والتنجيم، فتوحى إليهم الموضوعات السحرية كما ms036 أوحيت ~~للمجوس ولادة المسيح. ومن يؤمنون بالكهانة والعرافة يوحى إليهم في أمعاء الضحايا، ومن ~~يؤمنون بحرية الاختيار يوحى إليهم بأن الله لا يتدخل في أفعال البشر. # وكما يتكيف الوحي حسب عقلية الأنبياء ومزاجهم وقدراتهم العقلية ومخيلتهم فإنه ~~يتكيف أيضا حسب عقلية الجمهور وطبقا للمستوى الثقافي للعصر، فلم يقل الأنبياء ~~شيئا عن صفات الله إلا ما اتفق مع المعتقدات الشائعة للجمهور، ومع البيئة ~~الثقافية للعصر، فلم يعرف آدم أن الله قادر قدرة مطلقة، وعالم علما مطلقا؛ ذلك ~~لأنه قد اختبأ من الله، واعتذر عن خطيئته، وكأنه يعتذر لبشر مثله، وقد سمع آدم ~~أيضا صوت أقدام الله وهو يسير في الجنة، وحادثه وسامره. لقد جهل آدم صفات الله ~~كلها إلا صفة واحدة وهو أنه خالق كل شيء. كذلك لم يكشف الله عن نفسه إلا طبقا ~~لمستوى فهم العامة ولمعتقدات الأنبياء، فكشف عن نفسه لقايين على أنه لا يعلم أمور ~~البشر، وكشف عن نفسه للابان على أنه إله إبراهيم. أما يونان فقد حاول الهرب من حضور ~~الله المطلق وتخيله في يهوذا فقط. أما موسى الذي بلغ التوحيد على يده درجة عالية ~~من الصفاء فإن الله كشف عن نفسه له على أنه لا يعلم المستقبل، ولم يعلم موسى عن ~~الله إلا أنه موجود # Ego sum qui sum ~~، وعبر عن ذلك باسم ~~«يهوه» الذي يدل على الوجود في أبعاد الزمن الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل. لم ~~يعبر موسى عن الله بأية صورة حسية، مع أنه رحيم لطيف غيور، ولا يمكن أن يرى لضعف ~~الإنسان، ينسب إليه موسى قدرة مطلقة، فهو أعظم الآلهة، أعظم ممن خلقهم، وأعطاهم ~~قدرا من سلطانه، خلق الله هذا العالم من عدم، ونظمه، ووضع في الطبيعة بذور ~~الأشياء، وله على الجميع حق مطلق. وطبقا لهذا الحق، اختار العبرانيين من بين ~~الأمم الأخرى التي تركها للآلهة الأخرى؛ لذلك سمى الله إله إسرائيل وإله ~~أورشليم في مقابل آلهة الأمم الأخرى، ولا تعبد إسرائيل إلا إلهها الخاص. وقد ~~ظن موسى أن هذا الإله يسكن في السموات، فقد نزل الله على ms037 الجبل، وصعد موسى إليه ~~من على الجبل، وهي الفكرة الشائعة عند الوثنيين. وهكذا نجد أن وحي موسى متفق ~~مع آرائه الخاصة، ومع معتقدات البيئة، وحينما عبدت إسرائيل العجل أرسل الله لهم ~~ملكا، أي موجودا عظيما لعبادته لتخلي الله عنهم. لا يتميز بنو إسرائيل في ~~معتقداتهم عن الوثنيين الذين يعتقدون في الموجودات الإلهية كالملائكة وغيرها. وما ~~كان لمعتنقي الخرافة أن يصلوا إلى معرفة صحيحة بالله، أو أن يعلمهم موسى قواعد ~~السلوك في الحياة كفيلسوف يؤمن بحرية الفكر، بل كمشرع يجبرهم على الخضوع للشريعة؛ ~~لذلك كان حب الله لديهم مظهرا من مظاهر العبودية لا الحرية. وقد أمرهم موسى بعبادة ~~الله وحبه لنعمه عليهم، وهددهم بالعقاب الذي ينتظرهم إذا هم تعدوا حدود ~~الشريعة، ووعدهم بالجزاء إن هم عملوا بها. كان موسى يعلم العبرانيين كما يعلم ~~الآباء أطفالهم الذين لم تكتمل عقولهم بعد؛ لذلك لم يعلمهم الفضائل أو الحياة ~~السعيدة الحقة. # 57 # أما سليمان، فقد تصور الله تصورا عقليا بالنور الفطري وبذلك تميز عن أنبياء ~~عصره، وكان أعلى من الشريعة التي وضعت من أجل ضعاف العقول الذين لا يستطيعون إدراك ~~الحقائق بالنور الفطري، وأعلن زوال نعم الحياة، وأنه لا يوجد أفضل من العقل ~~وأشر من نقص العقل. ولكن سليمان لم يراع الشريعة مطلقا، بل خرقها علنا، ولم ~~يكن سلوكه سلوك فيلسوف، وذلك لسعيه وراء اللذات. # وقد بلغ تصور الأنبياء للوحي وللحقائق الإلهية إلى حد أن بعض الأحبار شكوا ~~في الأنبياء، كما وقع لسفر حزقيال، فقد بلغت آراء هذا النبي حدا أن حاول بعض ~~الأحبار حذفه من أسفار العهد القديم، لاختلافه مع تصور موسى، لولا أن أتى حنانيا ~~وشرحه لهم، ولكن لم يمنع هذا الشرح من وجود تعارض صارخ بين آراء حزقيال وأسفار ~~الخروج وإرميا وصموئيل ويوئيل بالنسبة لله والخطيئة والتوبة والغفران. # لم تجعل النبوة الأنبياء أكثر علما بل تركتهم وأفكارهم السابقة؛ ولذلك لا يجوز ~~لنا تصديقهم في الأمور النظرية. لقد جهل الأنبياء أشياء كثيرة، على غير ما تظن ~~العامة، مع أن الأنبياء في رأيهم قد ms038 أحاطوا بكل شيء، بل إن كثيرا من أقوالهم في ~~تناقض صريح مع العلم، فقد ظن يشوع أن الشمس تدور حول الأرض لأنه لم يكن عالما ~~في الفلك، كذلك جهل يشوع انكسار أشعة الشمس على البرد المعلق في الهواء، وقد ~~ظن أشعيا أن تناقص الظل يرجع إلى تناقص الشمس. لقد جهل الأنبياء الأسباب الحقيقية ~~للظواهر الكونية. أما سليمان فلم يكن رياضيا مع أنه باني المعبد، واعتقد نوح أن ~~العالم لم يكن مسكونا إلا في فلسطين. كان الأنبياء بشرا ولا ينقص جهلهم بعلل ~~الظواهر الكونية من تقواهم ومن إخلاصهم شيئا. # لا ضير إذن أن يجهل الأنبياء الحقائق النظرية مثلا فيما يتعلق بالأرض والشمس ~~والظل وقوانين الطبيعة؛ لأن الأنبياء ليسوا علماء، أو علماء طبيعة، بل هم بشر، ~~يستعملون أخطاء البشر كصور فنية للتعبير بها عن تعاليمهم النبوية؛ لذلك، لم تختلف ~~تصوراتهم عن ماهية الله وطبيعته وصفاته عن تصورات العامة، حتى موسى، الذي أدرك ~~أن الله ليس كمثله شيء وهو الواحد الصمد، عبر عن الله بصور حسية، ونسب إليه ~~الانفعالات والأهواء البشرية. # ولكن جهل الأنبياء بالأمور النظرية لا يعني جهلهم بالإحسان وبقواعد السلوك في الحياة. ~~وإن كان لا يجوز لنا أن نأخذ من الأنبياء معرفة بالأمور الطبيعية والروحية، فإنه ~~يجوز لنا تصديقهم فيما يتعلق بغاية الوحي وجوهره، وهو العدل والإحسان. وفيما عدا ~~ذلك كل فرد حر أن يعتقد ما يشاء، وكما يتفق مع عقله، فقد أوحى الله لقايين ~~حرية الإرادة لا كعقيدة فلسفية نظرية، وهي متضمنة بالفعل في الوحي، بل ليحيا ~~حياة أفضل، وهو توجيه يتفق مع فهم قايين، وقد فعل المسيح الشيء نفسه عندما خاطب ~~الفريسيين بمبادئهم الخاصة، دون أن يعتقد في وجود الشياطين ومملكة الشياطين، وكذلك ~~عندما خاطب تلاميذه ودعاهم للأخلاق الفاضلة دون أن يعتقدوا في وجود الملائكة ومملكة الملائكة. # 58 # ولما كانت النبوة لا تعتمد على يقين الفعل، وهي الأفكار الواضحة والمتميزة أو ~~الاستدلالات الرياضية، فإن الأنبياء قد حصلوا على يقينهم من الوحي نفسه، معتمدين ~~على ما أتوا به من آيات، فقد ms039 طلب إبراهيم آية بعد أن تلقى الوعد من ربه. ومن هذه ~~الناحية تكون النبوة أقل من المعرفة الطبيعية التي لا تعتمد في يقينها على ~~الآيات، بل تستمد يقينها من طبيعتها، لم يكن يقين النبوة يقينا رياضيا بل ~~يقينا خلقيا، وبالرغم مما قد يثير ذلك من شك في الوحي وفي النبوة، فإن ~~للنبوة درجة عظيمة من اليقين، ويقوم هذا اليقين على أسس ثلاثة: ~~(1) # تخيل الأنبياء الأشياء الموحى بها بطريقة حية كإدراكنا للأشياء ~~الطبيعية. ~~(2) # الآيات التي يعتمد عليها الأنبياء. ~~(3) # ميل الأنبياء الطبيعي إلى العدل والخير. # ولكن هل هناك صلة بين المعرفة النبوية والمعرفة الطبيعية؟ يظن البعض أن المعرفة ~~الطبيعية أي المعرفة الإنسانية أقل بكثير من المعرفة النبوية، وهذا غير صحيح، ~~فالنبوة معرفة يقينية، أوحاها الله للناس، والمعرفة الطبيعية معرفة يقينية، وصل ~~إليها العقل بمفرده، كلاهما معرفة يقينية، النبي هو مفسر الأوامر الإلهية للناس ~~لأنهم لا يقدرون بأنفسهم على الاتصال بالله، ولا يقدرون إلا على إدراكها ~~بالإيمان، والمعرفة الطبيعية أيضا معرفة إلهية، لأنها معرفة يقينية، ولكن العلماء ~~ليسوا أنبياء؛ لأن المعرفة الطبيعية تعتمد على النور الفطري، لا على النور ~~النبوي، فالله يتحدث، ونحن نعرف حديثه، إما من المعرفة النبوية، أو من المعرفة ~~الفطرية، وكل ما نعرفه بوضوح وتميز يصدر عن طبيعة الله وتصورنا له. المعرفة ~~النبوية خاصة بالأنبياء وحدهم، والمعرفة الطبيعية عامة للبشر جميعا، ولكن العامة ~~وحدها تحتقر المعرفة الطبيعية، ولا تعترف إلا بالمواهب الخاصة، وتخرج الوحي من ~~نطاق المعرفة العقلية. والحقيقة أنه لا فرق بينهما إلا في شيئين: الأول أن المعرفة ~~النبوية تستعمل الصور الخيالية من أجل التأثير على النفوس، في حين أن المعرفة ~~الطبيعية تدرك الحقائق ذاتها دون تخييل، والثاني أن المعرفة الطبيعية غايتها الحق، ~~في حين أن المعرفة النبوية غايتها الخير، وفيما عدا الوسيلة والغاية لا فرق بين ~~النبي والفيلسوف. # 59 # سابعا: الميثاق المؤقت والميثاق الأبدي # لقد أعطيت النبوة للناس، ولكنها أعطيت بوساطة إنسان معين، وهو النبي، ~~لشعب معين، وهم بنو إسرائيل، وكأن الوحي لا يذاع ولا يكشف إلا لشعور جماعي ms040 ~~لشعب معين، وكأن النبوة لا ترسل إلا لدى قوم ذوي بناء اجتماعي قائم. لم ~~يتناثر الوحي مرة هنا ومرة هناك، بل ظل في مسار واحد له لدى بني إسرائيل حتى ~~اكتملت النبوة في المسيح، آخر نبي من أنبياء بني إسرائيل. ولكن هل يعني ذلك ميزة ~~معينة لهذا الشعب على غيره من الشعوب؟ هل يدل ذلك على أن الله إله خاص بهم لا ~~تشاركهم فيه الشعوب الأخرى؟ هل يعني أن الله عقد معهم ميثاقا أبديا من أجل ~~تفضيلهم على سائر البشر، ومن أجل اصطفائهم؟ # ليس السعادة الحقة في حصول البعض على المغانم وحرمان الآخرين منها، كما لا يكون ~~الناس أكثر سعادة إذا هم حصلوا على مغانم أكثر، والذي يفرح بهذه السعادة التي تفوق ~~سعادة الآخرين يكون فرحه فرحا صبيانيا، وناشئا عن الحقد والحسد. السعادة هي ~~الحكمة ومعرفة الحق، لا أن يكون الإنسان أحكم من الآخرين، أو أن يحرم الآخرون من ~~الحكمة؛ فذلك لن يزيد من سعادته شيئا، ومن يفرح لسعادته ولشقاء الآخرين يكون ~~حسودا شريرا، لا يعرف السعادة الحقيقية، وطمأنينة النفس. # لذلك، عندما يخبرنا الكتاب بما فضل الله به العبرانيين حتى يحثهم على طاعة ~~الشريعة، فليس معنى ذلك أنهم حصلوا على السعادة الحقة وحدهم دون غيرهم؛ فما كانت ~~سعادتهم أقل لو أن الله دعا جميع البشر إلى الخلاص، وما كان الله أقل رعاية لهم لو ~~أنه رعى الآخرين أيضا، وما كانت الشريعة أقل عدالة لو أنها وضعت للناس جميعا، ~~وما كانت المعجزات أقل قدرة لو أجراها الله للناس جميعا. وعندما أخبر الله سليمان ~~بأنه لا يوجد من يفوقه حكمة، فإنه أراد بذلك أن يعبر عن مدى حكمته، لا عن أنه لم ~~يعد أحدا سواه بحكمة أعظم من حكمته. صحيح أن الله أعطى موسى الشريعة للعبرانيين، ~~وأنه خاطبهم، وكشف لهم عن نفسه كما لم يحدث لأمة أخرى، ولكنه لم يستبعد الأمم ~~الأخرى من علمه ورحمته، بل إن العبرانيين، بالرغم مما أعطاهم الله من فضله، لم ~~يكونوا أصفياء الله فيما يتعلق بالحياة الحقة ms041 والتأملات السامية. # لقد أرسل الله الوحي للبشر، فكان لا بد أن تحدث النبوة في جماعة، وقد حدثت في ~~بني إسرائيل لظروف تاريخية محضة، أي لظروف طارئة، دون أن يدل على اختيار أبدي ~~لهم، أو على اصطفاء الله لهم، وتفضيلهم على العالمين؛ وذلك لأنه إذا كان كل ما يصبو ~~إليه الإنسان لا يتعدى أشياء ثلاثة: معرفة الأشياء بعللها الأولى، السيطرة على ~~انفعالات النفس للتحقق بالفضيلة ثم العيش في سلام مع جسم سليم، فإن وسائل الحصول ~~على الغايتين، الأولى والثانية، موجودة في الطبيعة الإنسانية، ومن ثم فهي لا تقتصر ~~على أمة دون أمة. أما الغاية الثالثة فهي تعتمد على الأشياء الخارجية، كما ~~تعتمد على الرزق والحظ الذي يجهله الجميع؛ لذلك اعتمد الناس على تنظيم حياتهم، ~~وتعودوا على اليقظة، وقد دلت التجربة على أن أفضل وسيلة لذلك هو تكوين مجتمع ~~تحكمه القوانين، وذلك باحتلال بقعة من الأرض، وتوحيد قوى سكانها في هيكل ~~اجتماعي واحد؛ إذ يعطي المجتمع مزيدا من الأمن والاستقرار، ويكون أقل اعتمادا ~~على الحظوظ الخارجية، ويتجاوز مرحلة المجتمع البدائي الذي يعتمد كلية على هذه الحظوظ، ~~أو يعتمد على مجتمع آخر يحكمه، أو إذا تخلص من المخاطر، يقدس حكم الله من حيث ~~تأثيره في الموجودات الطبيعية، لا في الأفكار الإنسانية لأن الله قد أعطاه كل شيء، ~~دون انتظار منه، وكأنه معجزة. # لذلك، فإن النظام الاجتماعي هو الذي يميز أمة عن أمة؛ ولهذا السبب، تم اختيار ~~الأمة العبرانية، وبهذا المعنى تم تفضيلها على باقي الأمم، نظرا لنظامها الاجتماعي، ~~ولغنمها المادي. وقد بقيت الدولة العبرانية سنين طويلة، ولم يكن السبب في ذلك ~~تفوقها في العقل، أو في صفاء النفس، بل تفوق العبرانيين في تدبير شئونهم المادية، ~~وفيما عدا ذلك، يتساوى العبرانيون مع غيرهم. وإذا فكرنا قليلا، وجدنا أن ~~العبرانيين كانوا يعتقدون في الله اعتقادات فظة، ولا يمكن لله أن يفضلهم من ~~أجلها، لقد اختارهم الله ليسرهم في الحياة ولثرائهم، ولم يعد الله البطارقة شيئا ~~سوى ذلك، ولم تعد الشريعة شيئا، جزاء رعاية العبرانيين لها ms042، إلا الإبقاء على ~~الدولة، ومظاهر النعيم الدنيوي، ولم توعدهم، عقابا لهم على نقض الميثاق، إلا ~~بالقضاء على الدولة، وإصابتهم بأعظم المحن. كانت للعبرانيين شرائعهم الخاصة، ~~وكذلك كانت لكل أمة قوانينها الخاصة، ولم يكن حب الله للعبرانيين أعظم من ~~حبه لسائر الأمم، بل إن الله أظهر من المعجزات أكثر مما أظهر للعبرانيين، ولم ~~تكن هبة النبوة خاصة بالعبرانيين وحدهم، بل كانت عامة للأمم جميعا، وهذا ما ~~يشهد به التاريخ المقدس، فكان للوثنيين أنبياءهم الذين لم يعتن العبرانيون ~~بتسجيلهم، وتدوين قصصهم؛ لأنهم لم يسجلوا في العهد القديم إلا شئونهم الخاصة حتى ~~جعلوه تاريخا وطنيا لهم. ومع أن الفريسيين يدعون أن النبوة خاصة ~~بالعبرانيين وحدهم، إلا أن موسى لم يطلب إلها خاصا بأمته وحدها، لأن ~~الله إله الجميع إله العبرانيين والأمم الأخرى على السواء. # 60 # أما التشريع الذي سنه موسى لهم، فإنه لا يلزم إلا اليهود وحدهم، ولا يلزم أي ~~شعب آخر، بل إن اليهود أنفسهم لم يخضعوا لهذا التشريع إلا في أثناء قيام دولتهم؛ ~~ولهذا السبب اختارهم الله، ولكنه كان اختيارا مؤقتا، لا اختيارا أبديا، كما ~~اختار الكنعانيين من قبل، ثم رفضهم لسعيهم وراء اللذات، ولرخاوتهم، ولعبادتهم ~~الزائفة. ولقد حذر موسى العبرانيين من أن يرتكبوا نكاح المحرمات، كما فعل ~~الكنعانيون من قبل، وإلا لقضوا على الدولة، وهناك نصوص كثيرة في الكتاب المقدس ~~تدل على أن الله لم يصطف العبرانيين إلى الأبد. هناك فئة قليلة وهي القلة القليلة ~~الباقية المؤمنة من الشعب # le petit reste # أهل الكهف ~~مثلا، عاهدوا الله على ميثاق التقوى والحب والفضيلة والفضل، ومن خلال هذه الفئة ~~يستمر الوحي في التاريخ، ويبقى الإيمان في الشعب، وهي النتيجة النهائية التي يتم ~~الحصول عليها من تطور الوحي في التاريخ، والحصيلة الإيجابية له، بعد أن يفشل في ~~نشر الإيمان في الشعور الجماعي عند الجمهور. ولقد دعا أنبياء الأمم الأخرى إلى ~~الميثاق نفسه، ميثاق الفضيلة، وهو الميثاق الأبدي، ميثاق معرفة الله وحبه، ميثاق ~~شامل لا يفرق بين العبرانيين والأمم الأخرى، ولكن العبرانيين وضعوا هذا الميثاق، ~~ميثاق الفضيلة الحقة ms043، في كلمات يتمتعون بها، وقرابين يقدمونها، وشعائر ~~يقيمونها، وبنوا المعبد والمدينة، أي إنهم كعادتهم لم يستطيعوا إدراك الأشياء ~~الروحية إلا بمظاهر حسية، أهمها بناء الدولة. واليوم لم يعد للعبرانيين هذا ~~الحق بعد انهيار دولتهم وبعد خرقهم ميثاق الفضيلة والطاعة. وحق عليهم أن يكونوا ~~مشتتين في أنحاء الأرض، ومنبوذين من جميع الأمم، حتى جلبوا على أنفسهم حقد ~~الجميع بإقامتهم الشعائر المعارضة لشعائر الأمم، ولإصرارهم على طقس الختان، وعدم ~~الاختلاط بالشعوب، والتميز عنهم، والتجمع في بلدان خاصة، أو في أحياء (الجيتو). ~~والأمثلة التاريخية كثيرة تشهد على ذلك، فبالرغم من تخلي يهود إسبانيا عن دينهم ~~وتحولهم غلى الكاثوليكية، وتمتعهم بالحقوق نفسها التي للإسبان، إلا أنهم حافظوا ~~على طقس الختان، رمزا للرباط الأبدي، وما زالوا يتوقون لإعادة بناء الدولة. # 61 # ثامنا: القانون الإلهي والقانون الإنساني # لم ينزل الوحي فكرا فقط، بل نزل أيضا نظاما للكون، أو كما يقول المسلمون: الدين ~~عقيدة وشريعة، وقد كان الدين اليهودي عند موسى شريعة أكثر منه عقيدة، وكان الدين ~~المسيحي عقيدة أكثر منه شريعة. والشريعة هي القانون الإلهي الذي تمت صياغته في ~~قانون إنساني. # والقانون على الإطلاق هو اندراج جميع الأفراد في مجموعة معينة تحت قاعدة واحدة. ~~ويعتمد القانون إما على الضرورة الطبيعية أو على القرار الإنساني، ويعتمد القانون ~~على الضرورة الطبيعية عندما يصدر عن الطبيعة نفسها، أو عن تعريف الموضوع، ويعتمد ~~على القرار الإنساني، ويسمى في هذه الحالة قاعدة، عندما يجعل الحياة أكثر ملاءمة ~~وأمنا، أو عندما يصدره الناس لأنفسهم أو للآخرين لأسباب أخرى. فإذا اصطدمت أجسام ~~كبيرة بأجسام صغيرة، فإنها تفقد من حركتها بقدر ما تعطي، هذا قانون شامل يصدر ~~عن ضرورة في الطبيعة، وعندما يتذكر إنسان شيئا ما ويتذكر شيئا آخر مشابها، هذا ~~قانون شامل يصدر عن ضرورة في الطبيعة الإنسانية. أما إذا تنازل الناس عن حقوقهم طوعا ~~أو اختيارا، فإن ذلك ينتج عن قرار إنساني. ومع أن مثل هذا القانون يعتمد على ~~القرار الإنساني، إلا أن كل شيء محدد طبقا لقوانين الطبيعة الشاملة؛ لأن ~~الإنسان جزء ms044 من الطبيعة وقدرتها. # أما القانون بمعناه الخاص فهو الأمر الذي ينفذه الإنسان، والذي يحدد قدرته أو ~~الذي يأمره بما يستطيع، ويكون الأمر هنا قاعدة للحياة يفرضها الإنسان على نفسه أو ~~على الآخرين لغاية معينة. وقد قام المشرعون بوضع القوانين حتى تسير الحياة ~~وفقا للعقل، ويصحب القانون الجزاء والعقاب، خاصة للعامة؛ وذلك لأن الخاصة ~~يعلمون الغاية من القوانين، حتى قبل وضعها، فالعامة تخضع للقوانين التي يسنها ~~الآخرون لها خوفا من العقاب، أما الخاصة الذين يسلكون سلوكا فاضلا، فإنهم ~~يتبعون قراراتهم الخاصة لا ما يضعه الآخرون لهم، ويكون العدل حينئذ في اتباع ~~القرار الخاص. ومن هنا، جاءت التفرقة بين القانون الإلهي والقانون الإنساني، فالقانون ~~الإلهي يبغي الخير الأقصى أي معرفة الله وحبه، في حين أن القانون الإنساني يبغي ~~أمن الحياة وسلامة الدولة. # وتكون معرفتنا يقينية إذا اعتمدت كلية على معرفتنا بالله وحدها؛ لأنه لا يمكن ~~إدراك شيء أو تصوره بدون الله. وتظل معرفتنا الإنسانية موضوعا للشك ما دامت ~~فكرتنا عن الله غير واضحة ومتميزة، بل إن خيرنا الأقصى وكمالنا يعتمدان على ~~معرفة الله. ولما كان لا يمكن إدراك شيء أو تصوره بدون الله، فلا شك أن كل ~~الموجودات الطبيعية تتضمن تصور الله، وتعبر عنه بقدر درجتها في الجوهر ~~والكمال، فكلما ازدادت معرفتنا بالأشياء الطبيعية كملت معرفتنا بالله. إن معرفتنا ~~بالخير الأقصى لا تعتمد على معرفة الله وحدها، بل هي على وجه التحديد هذه المعرفة ~~نفسها؛ وذلك لأن الإنسان أكمل الموجودات الطبيعية، وأقرب إلى الكمال، عن طريق المعرفة ~~العقلية لله، أي الموجود الأعظم الكامل، أي إن خيرنا الأعظم وسعادتنا القصوى في ~~معرفة الله وحبه، الأمر الإلهي إذن هو فكرة الله في أنفسنا، والقانون الإلهي هو ~~حضور الله في أنفسنا، وهذا هو موضوع علم الأخلاق ~~الشامل # L’Ethique ~~Universelle ~~. # 62 # ولما كان حب الله هو السعادة القصوى والغاية الأخيرة للأفعال الإنسانية، فإن من ~~يحب الله يكون هو المطيع حقا للقانون الإلهي، لا عن خوف أو رجاء، بل عن معرفة ~~لله، فهو يعلم أن معرفة الله وحبه هما الخير ms045 الأقصى، وهو ما يدركه الإنسان بذهنه ~~لا ببدنه. أما القانون الإنساني فإنه يهدف إلى غاية أخرى وهي المحافظة على سلامة ~~الإنسان وأمن الدولة، إلا إذا كان الوحي هو الذي شرعه؛ لأن معنى ذلك هو إرجاع ~~الأشياء لله، وبهذا المعنى تكون شريعة موسى قانونا إلهيا بالرغم من أنها ليست ~~شريعة شاملة، وأنها تكيفت حسب طبيعة شعب معين، وللمحافظة على سلامته، ما دام ~~نور النبوة هو الذي شرعها. # 63 # وينتج عن ذلك حقائق أربع: ~~(1) # قانون شامل، يصدق على كل الناس، ويستنبط من الطبيعة الإنسانية، ~~ويدرك بالنور الفطري، ولكن هل يمكن بوساطة النور الفطري تصور الله ~~كمشرع أو كأمير يسن القوانين للناس؟ # 64 # إذا عرفنا طبيعة الله، وأن إرادته وذهنه شيء واحد، عرفنا أن ~~أوامر الله بالتحريم أو بالتحليل حقائق أبدية، تتضمن ضرورة أبدية. # 65 # لقد أوحى الله لآدم الشر الذي سيكون النتيجة الضرورية ~~لفعله، ولكنه لم يوح إليه ضرورة نتيجة هذا الشر، أي أن آدم لم يدرك ~~الوحي كحقيقة أبدية، بل أدركه كقانون أو كقاعدة، تقرر وجوب ثواب أو ~~عقاب، نتيجة لفعل ما، وليس لطبيعة الفعل نفسه، بل طبقا لمشيئة أمير ~~وإرادته المطلقة، فنظرا لنقص معرفة آدم، أصبح الوحي قانونا، والله ~~مشرعا وأميرا؛ ولهذا السبب أيضا أصبحت الوصايا العشر شريعة ~~للعبرانيين وحدهم، لأنهم لم يعرفوا الله كحقيقة أبدية، وذلك أن الله لم ~~يتحدث إليهم مباشرة من خلال وسائل حسية، وكذلك تلقى الأنبياء ~~أوامر الله، دون أن يدركوها كحقائق أبدية، حتى موسى نفسه الذي أدرك ~~الوحي كشرائع تخص العبرانيين، تنظم حياتهم، دون أن يدركها كحقائق ~~أبدية؛ لذلك تصور الله كمشرع أو كملك أو كأمير أو كحاكم، أو على ~~أقصى تقدير، كموجود عادل ورحيم، يتصف بكل الصفات الإنسانية التي ~~يجب إبعادها كلية عن الطبيعة الإلهية. # 66 # المسيح هو الوحيد الذي أدرك الأشياء كحقائق أبدية، لأن المسيح كان ~~أقرب إلى فم الله منه إلى نبيه، فقد أوحى الله بوساطة روح المسيح ~~بعض الأشياء، كما أوحى من قبل بوساطة الملائكة والأصوات المخلوقة والرؤى، ~~ولم يتكيف الوحي حسب آراء المسيح ومعتقداته ms046، كما تكيف مع باقي ~~الأنبياء؛ وذلك لأن المسيح لم يرسل إلى اليهود وحدهم، بل إلى البشر ~~جميعا، كما لم يتكيف الوحي حسب معتقدات شعب معين، بل تضمن ~~تعاليم شاملة للإنسانية كلها، أي حقائق أبدية. لقد أعطى الله المسيح حقائق ~~الوحي مباشرة بلا واسطة، أي بمعرفة عقلية، لأن المعرفة العقلية هي ~~إدراك الأشياء بلا توسط من الكلمات أو الصور، ومع أن حديثه كان أكثر ~~وضوحا من الأنبياء، إلا أنه لم يخل من غموض، فقد استعمل لغة الرمز ~~والمثل، خاصة وأنه كان يخاطب قوما لم يتحرروا بعد من عبودية ~~القانون، ومع ذلك استطاع المسيح تثبيت الحقائق الإلهية وطبعها في ~~القلوب. # خلاصة القول إن العامة الذين تنقصهم المعرفة هم الذين يتصورون ~~الله كمشرع أو كأمير، ويسمونه عادلا ورحيما، والحقيقة أنه يفعل ~~ويوجه كل شيء بضرورة طبيعته وكمالها. # ولكن الفيلسوف، شأنه شأن المسيح، يستطيع إدراك الوحي بالنور الفطري ~~لذلك سمى سليمان العقل «ينبوع الحياة الحقة» ويكون الشقاء في ضياع ~~العقل؛ وذلك لأن عقلنا وعلمنا يعتمدان على معرفتنا بالله وتصورنا له، ~~وهذا العالم من شأنه الحث على الأخلاق الصحيحة والسياسة السليمة، وهي ~~الأخلاق الطبيعية التي تتفق مع أخلاق الفضيلة، وبذلك يكون النعيم في ~~تنمية العقل الطبيعي؛ وذلك لأن النور الفطري قادر على إدراك القانون الإلهي. # 67 ~~(2) # القانون الإلهي لا يقتضي التصديق بالروايات مهما كان مضمونها، لأننا ~~نعرفه من الطبيعة الإنسانية، في حين أن الروايات مقيدة بالظروف ~~التاريخية التي نشأت فيها، فالتصديق بالمعجزات المتضمنة في الرواية ~~لا يمكن أن يعطينا معرفة الله أو حبه؛ لأن حب الله يصدر عن ~~معرفته، ومعرفة الله تنتج من الأفكار العامة التي يكون بعضها معروفا، ~~يمكنها أن تعطينا بعض أوجه النفع في الحياة العملية، وتفيدنا في معرفة ~~سلوك الآخرين. # فإذا كان هناك طريقان: طريق العقل وطريق التجربة، # 68 # الأول طريق النور الفطري لعدد قليل من الناس والثاني طريق ~~الرواية للعامة، وقد استعمل الكتاب المقدس كلا الطريقين، فالفيلسوف ~~لا يحتاج إلى الرواية؛ لأنه يدرك حقائق الوحي بالنور الفطري، أما ~~العامة فإن التصديق بالروايات ضروري ms047 لها؛ لأنها لا تستطيع إدراك الأمور ~~النظرية، ومن ينكر هذه الروايات لأنه لا يؤمن بالله فهو كافر جاحد، ~~ومن يجهلها ويؤمن بالله بالنور الفطري، ويراعي قواعد السلوك، فإنه ~~يحصل على السعادة الأبدية أكثر مما يحصل عليها العامة؛ لأن لديه ~~معرفة واضحة ومتميزة عن الحقائق الإلهية. ولما كانت العامة غير ~~قادرة على البرهنة على معتقداتها بالبحث الدقيق في جميع الروايات ~~وصحتها، فعليها أن تؤمن بها كما هي ما دامت تحثها على الطاعة ~~والإخلاص، وما دامت عاجزة عن أن تحكم على صحة هذه الروايات أو على مضمونها، # 69 # وتحتاج العامة بالإضافة إلى هذه الروايات إلى رجال الدين ~~وإلى القسس وإلى الكنيسة. # فمع أن الروايات أفضل من التاريخ البشري الدنيوي، ومع أن بعضها أفضل ~~من بعض من حيث استخدامها في نشر المعتقدات، إلا أن التصديق بها لا ~~صلة له بالقانون الإلهي، ولا يؤدي إلى السعادة الأبدية، قد نجهل هذه ~~الروايات كلية، ومع ذلك يظل سلوكنا فاضلا ونحصل على السعادة الأبدية ~~لو كانت روح المسيح فينا. ويظن بعض اليهود أن تطبيق قواعد السلوك ~~القويم لا يؤدي إلى السعادة الأبدية، ما دام إدراكها قد تم بالنور ~~الفطري، ولم يبق من الوحي شيئا، وهو رأي موسى بن ميمون ويوسف بن شيم ~~طوب، ولن تنفعهم أخلاق أرسطو في الخلاص، لأنهم يدركونها بالوحي. وهذا ~~ظن باطل، لا يؤيده العقل أو الكتاب. وهكذا يبدو سبينوزا أكثر ~~عقلانية من ابن ميمون الذي ما زال يريد إفساح المجال للوحي بجوار العقل، ~~في حين أن سبينوزا يكتفي بحياة الفضيلة وبإدراك النور الفطري حتى ~~يحصل الإنسان على السعادة الأبدية. # 70 ~~(3) # القانون الإلهي الطبيعي لا يتطلب إقامة الشعائر والطقوس أي مجرد ~~حركات، وأعمال للجوارح لا تكون خيرة إلا بالنسبة لنظام معين. # 71 # لا يتطلب القانون الإلهي أفعالا يتجاوز تبريرها حدود العقل ~~الإنساني، فالخير الحقيقي يدركه النور الفطري، أما الخير التابع ~~لنظام أو قانون فليس إلا وهما. فإذا كان القانون الإلهي شاملا ~~محظورا في النفس، فقد وضعت الشعائر والطقوس في العهد القديم للعبرانيين ~~وحدهم، وتكيفت حسب دولتهم، ولا ms048 يقوم بها الأفراد كل على حدة، بل ~~تقوم بها الجماعة ، ولا شأن لهذه الطقوس بالقانون الإلهي، أو بالسعادة ~~والفضيلة، بل تتعلق باختيار العبرانيين من حيث النعيم الدنيوي، وسلامة ~~الدولة، لأن هذه الشعائر لا تقام إلا في الدولة، وقد نسبت إلى الله ~~فقط؛ لأنها صادرة عن الوحي. # ولكن كيف استطاعت هذه الشعائر المحافظة على الدولة، وما السبب في ذلك، ~~مع أن القانون الإلهي هو هذا القانون الشامل الذي هو القاعدة للحياة ~~الحقيقية، لا هذه الطقوس؟ ليس غرض الشعائر الحصول على السعادة بل النعيم ~~الدنيوي للدولة كالثروة والنصر أو للجماعة كالصحة واللذات الدنيوية، ~~بل إن التعاليم الخلقية لم تعط في الأسفار الخمسة كقانون شامل، بل ~~كوصايا تكيفت مع عقلية العبرانيين وحدهم، ولمصلحة دولتهم. وقد حرم ~~موسى القتل والسرقة كما يحرمها الفقيه أو النبي أو المشرع أو ~~الأمير، ولم يقبل الاستدلال في هذه الأحكام أو فهمها، بل علق عليها ~~الثواب والعقاب نتيجة لما يصيب الفرد والدولة من نفع أو ضرر، فالزنا ~~ضار بالدولة، لأنه خلط للأنساب، وضياع للأمن، ولو أراد موسى الجانب ~~الخلقي لأدان أيضا زنا القلب، أو زنا النفس، أي رضاء النفس ~~وموافقتها الباطنية على فعل الرذيلة، كما أدانه المسيح من أجل إقامة ~~قانون شامل، ولو أنه وعد أيضا بجزاء روحي لا بدني؛ لذلك لم ~~ينسخ المسيح الشريعة القديمة، ولم يشأ وضع شريعة جديدة بل أعطى تعاليم ~~خلقية، وميزها عن قوانين الدولة؛ لذلك يخطئ الفريسيون عندما يريدون ~~الحصول على السعادة عن طريق القواعد القانونية، أي شريعة موسى، لأن هذه ~~القوانين لا تبغي إلا مصلحة الدولة، أما العهد الجديد فقد احتوى على ~~تعاليم خلقية، ويعد من يراعيها بملكوت السموات، وقد ترك الحواريون ~~أنفسهم الشعائر بعد التبشير بالإنجيل عند شعوب الدول الأخرى. أما التزام ~~الفريسيين بالشعائر بعد القضاء على الدولة، فإنه يكشف عن عدائهم للمسيحيين، ~~لا عن رغبتهم في إرضاء الله؛ وذلك لأنهم تركوا الشعائر في سبي بابل، ~~وتركوا شريعة موسى، وخضعوا لشعائر الدولة الجديدة، لم يكن على اليهود ~~الالتزام بالشريعة بعد انهيار الدولة ms049 أو قبل قيامها، فلم تكن لهم قبل ~~خروجهم من مصر شريعة خاصة، بل كانوا خاضعين لقانون الطبيعة أو لقوانين ~~الدولة التي عاشوا فيها، حيث إنها لا تعارض القانون الإلهي الطبيعي، ~~ولم يضح البطارقة بالقرابين تنفيذا لأمر الله الشامل، بل لبث روح ~~التقوى في نفوسهم، وكانوا قد تعودوا على ذلك منذ القدم. # ولكن كيف تساعد الشعائر على المحافظة على الدولة؟ الشعائر هي السبيل ~~الوحيد للأفراد في جماعة حتى تستطيع الوقوف أمام العدو ساعة الخطر، كما ~~أنها تساعد على الترابط الاجتماعي من الداخل، وتقوم الجماعة على تقسيم ~~العمل، ويحتاج تقسيم العمل إلى تنظيم قانوني، دون أن يخضع البعض ~~للبعض الآخر؛ لأنه ليس هناك أقسى من سلب الناس حرياتهم بعد ~~حصولهم عليها. # 72 # لذلك وجب تنظيم المجتمع وإقامة قانون يطيعه الجميع، سواء ~~كان ممثلا في شخص أم في جماعة تكون لها الكلمة العليا أمام ~~العامة، وتكون هذه القوانين في دولة ترى فيها الجماعة تحقيقا لرغبتها لا ~~خوفا منها، ثم يطيع الجميع هذه القوانين التي ارتضاها الجميع ~~بحرية تامة، وبذلك لا تفقد الجماعة حريتها، ويقوم كل فرد ~~بعمله عن رضا وبحماس بالغ. # وهذا ما حدث للعبرانيين تماما، فعندما خرجوا من مصر لم تكن لهم أية ~~قوانين، وكان باستطاعتهم وضع قوانين جديدة على هواهم، وإقامة دولة، واحتلال ~~أرض، ولكنهم فضلوا الالتزام بقوانين الجماعة، وظلت السلطة في يد فرد ~~واحد له وحده الحق في تفسيرها. واستطاع موسى أن يكون ذلك الفرد لما ~~يتمتع به من فضائل إلهية، وحاول إقناع الشعب بالقوانين عن طريق ~~الاقتناع والرضا، لا بالخوف والتهديد؛ وذلك لسببين: الأول، عصيان ~~الشعب الطبيعي المعروف في تاريخ الأنبياء، والثاني، خطر الحرب الذي ~~يحتم إقناع الجند، وحثهم على الدفاع عن طوع لا عن كراهية. ~~ولهذا السبب أدخل موسى الدين في الدولة، حتى يؤدي الشعب واجبه بدافع ~~التقوى، لا بدافع الخوف، كما ربط موسى الشعب بالوعود المادية ~~والمنافع الدنيوية. # كان الغرض من الشعائر والطقوس أن يقوم العبرانيون بأنفسهم بالأعمال ~~التي تطلبها الدولة منهم، ولكنهم كانوا دائما يقومون بها تنفيذا ms050 لأوامر ~~الآخرين، وبالتالي لم تؤد الطقوس والشعائر إلى أية سعادة حتى الشعائر ~~والطقوس المسيحية، خاصة أنها من وضع الحواريين وليس من وضع المسيح ~~أو من وضع الكنيسة، كعلامة لها، لا كطريق للسعادة. لم يكن لها غرض ~~سياسي، بل كانت من أجل المجتمع كله، ومن يعيش وحده ليس عليه ~~الالتزام بها، ومن يعيش في دولة غير مسيحية عليه أن يكف عن إقامة ~~الشعائر حتى يمكنه أن يعيش سعيدا، مثل المسيحيين الذين يعيشون في ~~اليابان. ~~(4) # القانون الإلهي يعطي أكبر جزاء وهو معرفة هذا القانون نفسه أي معرفة ~~الله وحبه بروح صافية ثابتة من رجال أحرار، أما العقاب فهو ~~بمنع الخيرات ووقوع في عبودية الجسد لنفس هزيلة مائعة. # 73 # تاسعا: المعجزة # استعمل سبينوزا في دراسته للنبوة منهج النص الذي يعتمد على الكتاب وحده، أما ~~في دراسته للمعجزة فإنه اعتمد على النور الفطري؛ وذلك لأن النبوة تتعدى حدود الذهن ~~الإنساني، هي موضوع اللاهوت، ولا تدرس إلا بمبادئ الوحي، أو كتاريخ لمعرفة طبيعتها ~~وخصائصها، في حين أن المعجزة موضوع فلسفي محض، يمكن دراسته بالاعتماد على النور ~~الفطري. وقد كان يمكن أيضا دراستها بمنهج النص؛ إذ يؤيد الكتاب بوجه عام خضوع ~~كل شيء لنظام ثابت للطبيعة لا يتغير، ولا يوجد نص واحد يدل على خرق ~~قوانين الطبيعة، فمن يريد استعمال منهج النص فإنه سينتهي حتما إلى ما يدركه النور ~~الفطري من أن الإيمان بالمعجزة ليس ضروريا للخلاص. # وكما سمي العلم الذي يتعدى حدود المنهج الإنساني علما إلهيا، فقد تعود ~~الناس تسمية كل عمل إلهي يجهلون عنه عملا إلهيا. ويظن العامة أن قدرة ~~الله لا تظهر إلا عندما تخرق قوانين الطبيعة، خاصة إذا كان في هذا الخرق مكسب ~~مادي له، كما تظن أن أكبر برهان على وجود الله هو خلل نظام الطبيعة، وترى أن ~~تفسير هذه الظواهر بعللها الطبيعية المباشرة إنكار لوجود الله، الله والطبيعة عند ~~العامة طرفان متناقضان، إذا عمل الله تتوقف الطبيعة، وإذا عملت الطبيعة توقف ~~الله. هناك إذن قوتان متمايزتان متعارضتان: قوة الله وقوة الطبيعة ms051 التي تخضع ~~لقوة الله أو التي خلقها الله كما تتصور العامة، قوة الله مثل قوة الملك وقوة ~~الطبيعة كقوة عارضة لاحقة به، أو كقوة الرعية بالنسبة للدكتاتور، وتسمي العامة ~~عجائب الطبيعة أفعال الله أو معجزات تعبيرا عن تقواهم، وجهلا منهم بعلوم الطبيعة ~~وبالعلل الطبيعية، وتقديسا منهم لما يجهلونه أو يعجبون به، ولا تتصور عظمة الله ~~إلا عندما تقهر قوانين الطبيعة، وقد تبنى هذا التصور اليهود الأوائل. # والحقيقة أن نظام الطبيعة ثابت لا يتغير، ولا يحدث فيه شيء مخالف له. أما بالنسبة ~~لله، فكل ما يريده الله يتضمن حقيقة وضرورة أبديتين؛ وذلك لأن عقل الله وإرادته ~~شيء واحد، ولأن كل شيء يحدث إنما يحدث بمشيئة الله، ومن ثم تكون قوانين ~~الطبيعة الشاملة أوامر إلهية، تصدر عن ضرورة الطبيعة الإلهية وكمالها، فلو حدث شيء ~~مخالف لهذه القوانين، فإنه بالتالي يناقض عقل الله وطبيعته، ولو فعل الله شيئا ~~مناقضا لقوانين الطبيعة، فإنه يعمل ضد طبيعته هو، وهذا مستحيل. إن قدرة الطبيعة ~~هي قدرة الله، وقدرة الله مماثلة لماهيته، وقوانين الطبيعة لانهائية حتى تستوعب ~~العقل الإلهي كله، وإلا فلنتصور الله خالقا للطبيعة بقوانين عاجزة، ثم يأتي ~~الله ليقدم العون لها بين اللحظة والأخرى، وهذا مناف للعقل؛ وعلى هذا النحو تكون ~~المعجزة عملا من أعمال الطبيعة، نجهل عللها، ولا نستطيع إدراكها بالنور الفطري، ~~وبالتالي يمكن تفسير المعجزات التي يرويها الكتاب لو عرفنا عللها ~~الطبيعية. # لا نستطيع إذن عن طريق المعجزة معرفة وجود الله أو ماهيته أو عنايته، نستطيع أن ~~نعرف ذلك عن طريق نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير، بل إن وجود المعجزات ~~يجعلنا نشك في وجود الله. لنفرض مثلا أن معجزة قد وقعت، فإما أن يكون لها ~~علة نجهلها، أو أن يكون الله هو علتها، فإذا كنا نجهل علتها الطبيعية، وكان ~~كل ما يحدث من علل طبيعية يحدث أيضا بقدرة الله، فإن المعجزة، مهما كان سببها ~~تتجاوز حدود الذهن الإنساني، ولما كان كل ما نعلمه بوضوح ونميزه نعلمه إما ~~بذاته أو بغيره نعلمه أيضا ms052 بوضوح وتميز، فإننا لا نستطيع أن نعرف الله بالمعجزة، ~~أنها ليست واضحة ومتميزة، وعندما نعلم أن الله قد حدد كل شيء، وأن أفعال الطبيعة ~~تصدر عن ماهية الله، وأن قوانين الطبيعة هي مشيئة الله، فإننا نعلم طبيعة الله ~~أفضل مما نعلم الأشياء الطبيعية، ونعلم الأشياء الطبيعية بعد علمنا بطبيعة الله، ~~وتكون أعمال الله هي ما نعلمه بوضوح وتميز، لا ما نجهله كلية، وما يثير خيال ~~العامة. وتعطينا حوادث الطبيعة التي نعرفها بوضوح وتميز تصور الله على نحو أفضل ~~وأكمل. والإنسان الساذج هو الذي عندما يجهل شيئا ينسبه إلى الله، فضلا عن أن ~~المعجزة واقعة محدودة، لا تدل إلا على قدرة محدودة، ولا تثبت وجود الله ~~وقدرته المطلقة، في حين أن قوانين الطبيعة تشمل على عدد لا نهائي من الموضوعات، ~~وهي قوانين ثابتة لا تتغير، وبالتالي فإنها تكون أعظم برهان على وجود الله. ~~والمعجزة التي تخرق قوانين الطبيعة لا تؤدي إلى معرفة الله فقط، بل تجعلنا نشك ~~في وجوده، وبذلك يؤدي الإيمان بالمعجزات إلى الكفر والإلحاد. وهذا ما تدل عليه ~~نصوص الكتاب، عندما يذكر أن النبي الكاذب يمكنه أيضا القيام بالمعجزات. ~~خلاصة القول أن اليهود لم يكن باستطاعتهم تصور الله تصورا صحيحا، بالرغم ~~مما شاهدوه من معجزات، في حين أن الفلاسفة يعرفون الله معرفة واضحة ومتميزة، ~~بمعرفتهم للطبيعة، لا عن طريق المعجزات، ويحصلون على الفضيلة بالامتثال لأوامر ~~الطبيعة لا بمناهضتها. # وعلى هذا الأساس، يشرح سبينوزا أهم المفاهيم التي توحي بتدخل خارجي في الطبيعة ~~في اللاهوت التقليدي، شمل: حكم الله، عون الله الخارجي، عون الله الداخلي، اختيار ~~الله، الحظ أو الرزق. # فحكم الله هو نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير، أو تسلسل الموجودات الطبيعية؛ ~~وذلك لأن قوانين الطبيعة الشاملة هي مشيئة الله الأبدية التي تتضمن ~~حقائق وضرورة أبديتين، فإن قلنا إن كل ~~شيء يسير حسب قوانين الطبيعة، أو طبقا لمشيئة الله، فإننا نقول الشيء نفسه، فصفات ~~الله هي قوانين الطبيعة، بل إن الله هو الطبيعة، الله هو الطبيعة الطابعة، والطبيعة ~~هي الطبيعة ms053 المطبوعة. # أما عون الله الخارجي، فهو ما تقدمه الطبيعة للإنسان دون جهد منه، ويستعين به ~~في حكمه وحفظ وجوده؛ وذلك لأن قوة الله هي قوة الطبيعة التي يتحدد بها ~~كل شيء، ويكون عون الله الداخلي هو ما يصدر عن الطبيعة الإنسانية بقدرتها ~~الخاصة، للمحافظة على وجودها. # أما اختيار الله، فإنه يتم طبقا لنظام الطبيعة السابق، أي بحكم الله ومشيئته ~~الأبدية، ولا يستطيع أحد أن يختار طريقته في الحياة، أو أن يختار أي شيء إلا ~~بدعوة من الله. # أما الحظ أو الرزق، فهو حكم الله من حيث سيطرته على الأمور الإنسانية بعلل ~~خارجية لا يتوقعها الإنسان، ولا مجال فيه للصدفة. # وهناك نصوص كثيرة في الكتاب تدل على أن مشيئة الله أو إرادته ليست شيئا آخر سوى ~~نظام الطبيعة، # 74 # فعندما يذكر الكتاب أن شيئا قد حدث وفقا للمشيئة الإلهية، فإنه يعني ~~أن شيئا قد وقع وفقا لنظام الطبيعة، لا كما يتصور العامة من أن الطبيعة قد ~~توقفت عن العمل أو تخلخل نظامها، ولم يعبر الكتاب صراحة عن هذه الحقيقة لأن ~~مهمته ليست التعريف بالأشياء بعللها الطبيعية، أو إعطاء حقائق نظرية بل ~~إثارة الخيال والتأثير على النفوس، في أسلوب شعري، يثير الإعجاب، ويطبع التقوى ~~في النفوس. وكثيرا ما تصمت الروايات، ولا تذكر العلل الطبيعية، لأن غرضها ~~ليس إقناع العقل، بل إثارة الخيال. فكثير مما تذكره الروايات على أنه حدث، لم ~~يحدث بالفعل، بل مجرد صورة شعرية، أو قد حدث، ولكن طبقا لقوانين الطبيعة. أما ~~إذا كانت هناك واقعة مناقضة لقوانين الطبيعة صراحة فيجب اعتبارها زيادة في ~~الكتاب، أضافها المحرفون؛ إذ إن كل ما يناقض الطبيعية يناقض العقل، وكل ما ~~يناقض العقل يجب رفضه. وكثير من الروايات إبداع شعري، أو تعبير عن الأحكام ~~السابقة للرواة. فمن النادر أن يذكر الناس شيئا كما حدث بالفعل، دون أن ~~يزيدوا عليه شيئا، سواء في طريقة الرواية، أو في حجمها، أو إضافة شيء من حكمهم ~~الخاص. وعندما يكون الانتباه مركزا على شيء جديد، فإنهم يدركون شيئا مخالفا ~~لما ms054 يحدث بالفعل، خاصة إذا تجاوز هذا الشيء حدود فهم الراوي ، وأضاف إليه حكمه. ~~وكثيرا ما اختلفت روايتان للحادثة نفسها، لاختلاف إضافات الرواة عليها، كل حسب ~~تأثره بما رأى وبما سمع، حتى إنه يصعب العثور على النواة الأولى؛ ولذلك حتى ~~يتم تفسير المعجزة، يجب معرفة أفكار الرواة الأوائل، وآراء المدونين لها، ثم ~~الفصل بين هذه الأفكار والتمثلات الحسية وبين شهادة الواقع، وإلا وقعنا في الخلط ~~بين آراء الرواة والحادثة أو بين الخيال والواقع. وكثيرا ما ذكر الرواة أشياء، ~~كنا نظن أنها حدثت بالفعل مع أنها من محض خيالهم مثل نزول الله من السماء في ~~عمود من دخان على جبل سيناء وصعود إلياس إلى السماء في عربة من نار تجرها أحصنة ~~من نار. وفي سفر صموئيل تسمى الرياح الساخنة التي أذابت الصقيع والجليد كلمة ~~الله وتسمى النار والرياح «مساعدي الله»؛ لذلك، علينا أيضا أن نتأكد من سلامة ~~الحواس التي تطبع على الخيال. # 75 # ولتفسير المعجزة تفسيرا صحيحا علينا أيضا دراسة أساليب البيان عند ~~العبرانيين وطرق البلاغة، فكثيرا ما كانت تروى المعجزات على نحو بلاغي، للتعبير عن ~~أشياء أخرى، دون أن تكون وقعت بالفعل، ولا يتم ذلك رغبة في إدخال بعض المحسنات ~~البديعية فحسب، بل إخلاصا من الرواة في رواياتهم. خلاصة القول إنه ليس هناك ما ~~يستعصي على النور الفطري، أو العلم الطبيعي، فقد جهل اليهود العلل الثانية ~~ونسبوا إلى الله كل شيء بدافع من الإيمان الصادق، فالله هو مقدر الرزق ومشبع ~~الرغبات، فكلما ذكر الكتاب قال الرب لا يعني أنه يعطي نبوة او معرفة تفوق ~~الطبيعة، بل لا بد من أن نستوثق من ظروف الرواية وملابساتها على أن هناك نبوة ~~حدثت بالفعل. # 76 # عاشرا: النبي والحواري # بعد أن انتهى سبينوزا من دراسة العهد القديم في الفصول العشرة الأولى، بدأ بدراسة ~~العهد الجديد. ويركز دراسته على موضوع واحد جوهري وهو الفرق بين النبي والحواري، ~~وهو الفرق الذي غفله المسيحيون أنفسهم في الخلط بين الوحي والإلهام، أو باصطلاح ~~المسلمين، بين النبي والصحابي، أو بلغة النقد، بين ms055 الكتاب # Ecriture # والتراث # Tradition # وبلغة ~~العهد الجديد بين الأناجيل والرسائل. ويأخذ سبينوزا بولس، أقوى شخصية بين الحواريين، ~~كمثل للمقارنة بين النبي والحواري. # فمن ناحية الأسلوب يؤكد النبي أنه يتحدث بناء على تفويض من الله، أما الحواري ~~فإنه يؤكد أنه يتحدث باسمه، ويعبر عن تفكيره وآرائه الشخصية. النبوة من عند الله، ~~أما رسالة الحواري فإنها من عنده هو. النبوة توقيف من الله واختيار إلهي للنبي، ~~ورسالة الحواري تطوع من لدنه ومن أي فرد يشعر بأن لديه القدرة على نشر ~~الدعوة، النبوة لا تخطئ فهي يقينية، أما الحواري فيخطئ ويعيب، ورسالته ظنية، يمكن ~~الشك فيها باعتراف الحواري نفسه. # ومن حيث طريقة التعبير، نجد أن النبي لا يستدل، بل يتحدث معتمدا على السلطة ~~الإلهية، أما الحواري فإنه يستدل ويناقش، يجادل ويحاج. يبلغ النبي حقائق ~~النبوة التي عرفها من الوحي، أما الحواري فإنه يفكر ويعتمد على العقل وعلى النور الفطري. # 77 # أما موسى فإنه عندما يستدل لا يعتمد على العقل، بل يدعو للفضيلة كما ~~يدعو الواعظ ولا يتحدث باسمه بل باسم الله، وقد يقترب النبي من الاستدلال، لو كانت ~~معرفته بحقائق الوحي أقرب إلى المعرفة الفطرية؛ # 78 # لأن معرفة الأنبياء عادة تأتي من فوق ~~الطبيعة # Surnaturelle ~~. لم يكن لدى بولس إذن وحي من فوق الطبيعة بل آراء شخصية له، ~~ونداءات إنسانية ودعوات للأخوة وللفضيلة، وهو ما يعترف به بولس نفسه، في حين أن ~~موسى قد بعث بأمر الله، وتحدث بوحي منه، وبلغ رسالته. وكما اختار بولس أقواله ~~اختار أيضا، بمحض إرادته، الأماكن التي بشر فيها، في حين أن موسى قد بشر في ~~أماكن حددها الله له ووجهه فيها، لقد بشر الحواريون باعتبارهم علماء وفقهاء ~~ورجال دين، لا باعتبارهم أنبياء، وهم بهذا المعنى قد أرسلوا إلى البشر جميعا، في حين ~~أن النبي قد أرسل لأمة معينة؛ لأن تبليغ الرسالة ليس موقوفا على شعب معين ~~أو مكان معين أو وقت معين. # 79 # فإذا بدأ الحواري إحدى رسائله بتأكيد صفته كحواري، لا كنبي وتأكيد سلطته، فإنما ~~يفعل ذلك لجذب انتباه القارئ أو السامع ms056، وإذا تحدث الحواري عن روح الله، فإنه يعني ~~آراءه الشخصية ، كما يدل السياق على ذلك، وقد وصل الحواري إلى بعض حقائق الوحي ~~بالنور الفطري، مثل دعوته إلى الأخلاق، وهي جوهر المسيحية. وكان الحواري يعتمد ~~في بعض الأحيان على الآيات لنشر الدعوة. # 80 # وقد اختار كل حواري الطريقة التي تلائمه لنشر الدعوة ولتحذير الناس، فأقام بولس ~~المسيحية على أسس خاصة به، مستبعدا الأسس الأخرى لسائر الحواريين، فقد دعا بولس ~~مثلا إلى إمكان الخلاص بالإيمان وحده دون الأعمال، وأكد عقيدة القدر السابق Prédestination # في حين أن يعقوب دعا إلى إمكان ~~الخلاص بالإيمان والعمل معا، فالإيمان دون العمل إيمان ميت - معارضا بذلك عقيدة ~~بولس. وقد كان هذا الاختلاف في الأسس سببا للتفرق والتشيع إلى طوائف مختلفة داخل ~~الكنيسة وخارجها، ولن تتوقف هذه الاختلافات إلا إذا كفت الكنيسة عن الدخول في ~~التأملات النظرية، وعادت إلى العقيدة السمحة التي دعا إليها المسيح. ولكن ~~الحواريين لم يستطيعوا ذلك، ونسوا الإنجيل، وأنسوه الناس معهم، وقد كان بولس من ~~بينهم جميعا أشدهم تحزبا للمسيحية العقائدية والديانة المذهبية، وهي التي ~~أصبحت فيما بعد المسيحية الرسمية، مما جعل البعض يتحيزون معه، والبعض الآخر ~~ضده، وقد ساعد بولس في ذلك تكوينه الرباني # rabbinique # اليهودي، ومعرفته بتاريخ الأنبياء، ودراسته لطرق التأويل ~~في مدرسة الجماليل # Gamaliel # وإحاطته بثقافة العصر ~~اليونانية، خاصة أن دعوته كانت موجهة إليهم حتى سمي حواري الأمم # L’Apôtre des Gentilles ~~. # 81 # أحد عشر: الوحي المكتوب والوحي المطبوع # بعد أن وضع سبينوزا الكتاب المقدس موضع البحث، وانتهى إلى كثير من النتائج ~~النقدية الصحيحة التي أيدها النقد بعد ذلك في القرون التالية، وضع تفرقة بين الوحي ~~المكتوب والوحي المطبوع: # فالأول: # هو موضوع النقد، أي دراسة الوحي من حيث الرواية ونقلها وصحتها ~~ولغتها، أي الوحي من حيث هو صورة، والثاني موضوع الفلسفة أو التصوف، ~~وهو الوحي من حيث هو معنى مطبوع في القلب، ومسطور في النفس، وبين ~~صورتي الوحي ما بين الأرض والسماء. # 82 # الوحي المكتوب قابل للتغيير والتبديل، وخاضع للتحريف والتزييف، وهو ~~الوحي الذي دافع عنه الصدوقيون في إيمانهم بالشريعة المكتوبة ms057 في ~~الألواح، وهو الوحي موضوع النقد التاريخي. هو صورة حسية للوحي ~~المطبوع، لذلك لا يمس النقد التاريخي جوهر الوحي أي معناه وفحواه، بل ~~الصورة اللفظية والشكل التاريخي. # 83 # وعندما يقال وقع التحريف والتبديل والتزييف في الوحي، ~~فإن المقصود هو الوحي المكتوب لا المطبوع، وإلا لقدسنا الصورة ~~والتماثيل. ولا يمكن الخلط بين الوحيين لأن الذي يعتبر الوحي ~~المكتوب هو الوحي المطبوع فإنه يريد تفادي نتائج النقد التاريخي، كما ~~يريد الإبقاء على التزييف في النص والإيمان بعقائد على هواه، # 84 # ومن يعتبر الوحي المطبوع هو الوحي المكتوب، فإنه يريد ~~ترك نفسه بلا ضابط، ما دام الوحي قد حرف وبدل، ولم تعد ثمة ~~حقيقة يمكن الإيمان بها، وتوجيه سلوك الناس عليها. # ولا تعني هذه التفرقة إنكار قدسية الكتاب؛ لأن القدسية تعزى ~~إلى الكتاب لو كان غرضه التقوى والتدين، ويكون الكتاب مقدسا أو ~~من عند الله طالما يحث الناس على ممارسة الفضيلة وحياة التقوى، فإذا ~~لم يؤد الكتاب هذا الغرض، وإذا توقف الناس عن ممارسة هذه الحياة ~~السليمة، وإذا ضاع منهم التدين الصحيح، لم يعد الكتاب مقدسا أو ~~من عند الله. فالكتاب لا يكون مقدسا أو من عند الله إلا بقدر ما ~~يؤثر في الناس، ويدعوهم إلى حياة الفضيلة والتقوى، فالقداسة هي أن ~~يكون الإنسان نقيا والألوهية أن يكون الإنسان إلهيا، وبلغة ~~معاصرة نقول: إن القداسة للاستعمال وإن الكتاب لا يعني شيئا ~~إلا في الاستعمال، وإن الكلمات لا تكون تقية في ذاتها إلا ~~بترتيب خاص، يوحي بالفضيلة ويحث عليها؛ لذلك كان تقديس الحرف وقوعا ~~في الوثنية وكان تقبيل الكتب المقدسة، وتغليفها بالذهب ووضعها على ~~الرءوس، وحفظها في أحجبة على الصدور وقوعا في المادية الحسية. ~~المقدس هو المعنى الذي يحث على التقوى. # 85 # فإذا نظرنا إلى الكتاب المقدس وجدنا أن نصوصه قد جمعت من كتب ~~التاريخ والسير، وأنها قد تغيرت وتبدلت وحرفت للوقائع ~~الآتية: ~~(أ) # لم تكتب أسفار العهدين بتفويض من الله مرة واحدة، ~~وفي عصر واحد لكل العصور، بل كتبها مؤلفون ~~كثيرون، صدفة، وفي عصور متعددة، طبقا ms058 لظروف العصر، وآراء ~~الكتاب وأغراضهم، وهذا ما يثبته الفحص التاريخي ~~للكتاب المقدس. ~~(ب) # اختلاف الوحي، وهو كلام الله، عن تفكير الأنبياء، فيما ~~عدا النصوص التي تدعو إلى حياة الفضيلة. ~~(ج) # تقنين أسفار العهد القديم باختيار مجلس الفريسيين، ~~وأسفار العهد الجديد بقرارات المجامع الكنسية، واستبعاد ~~أسفار كثيرة أخرى كانت أيضا مقدسة في ذلك الوقت، ~~وكانت تحتوي على كثير من النصوص إن لم تكن كلها، تدعو ~~لحياة الفضيلة، ولم يكن أعضاء المجالس أنبياء، ولم يكونوا ~~أيضا نقادا بالمعنى الحديث بل كانوا لاهوتيين، ~~يستبقون أو يستبعدون النصوص وفقا لمعتقداتهم ~~المطابقة لأهوائهم. ~~(د) # لم يكتب الحواريون باعتبارهم أنبياء، بل باعتبارهم ~~رجال دين، واختاروا أكثر الطرق ملاءمة لهم في ~~الإقناع، ويمكن الاستغناء عن كثير من كتاباتهم، دون أن ~~ينقص ذلك من الوحي شيئا. ~~(ه) # هناك أربعة أناجيل، ولم يقصد الله أن يقص حياة ~~المسيح أربع مرات، ويوجد في كل إنجيل ما لا يوجد ~~في الإنجيل الآخر، ولم يختر الله هؤلاء الكتاب الأربعة، ~~ولم يخبرهم بشيء، بل كيف كل منهم إنجيله طبقا ~~لبيئته وعصره ولإثبات ما يريد إثباته، ولا تتفق ~~الأناجيل الأربعة إلا على النزر اليسير الذي يمكن ~~الاستغناء عنه، دون أن يؤثر في فهم الإنجيل، ودون أن ~~ينقص من سعادة الناس أو الذي يمكن إدراكه، إذا كان دعوة ~~لحياة الفضيلة، بالنور الفطري. # لا يقع التبديل إذن إلا في الوحي المكتوب لا في الوحي المطبوع، ولا ~~يقع التحريف إلا في الألفاظ لا في المعاني. فقد تتغير الألفاظ ~~وتتبدل النصوص، ولكن يبقى المعنى واحدا من حيث هو دعوة للطاعة ~~وللخلاص، وبذلك لا تنقص ألوهية الكتاب ولا تزيد بتغيير الكلمات أو ~~تبديلها. وبهذا المعنى يمكن أن يقال: إن الكتاب قد وصل إلينا بلا ~~تحريف أو تبديل، وهو الذي يمكن تلخيصه في «أحب جارك كما تحب ~~نفسك.» فهذا هو أساس الدين كله الذي لا يقع فيه الخطأ، كذلك ~~وجود الله وعنايته الشاملة وقدرته وصدور الخير والشر منه، والفضل ~~الإلهي، كل ذلك يدعو له الكتاب في كل موضع منه بوضوح ms059، كذلك الحقائق ~~الخلقية، مثل العدل والإحسان، فالقانون الشامل الذي دعا إليه الكتاب ~~قد وصل إلينا بلا تحريف أو تبديل. أما أسباب الشقاق والاختلاف فهي ~~المعجزات، التي يشقى فيها الفلاسفة، والموضوعات النظرية التي يمكن ~~لكل فرد أن يبتدع فيها كما يشاء، وهي موضوعات لا تهم في شيء؛ ~~سواء كانت صحيحة أم باطلة. # وفرق ثان: # بين الوحي المكتوب والوحي المطبوع، فالأول لا سبيل إلى إدراكه إلا ~~بالوحي، أي بالراوية والنبوة، في حين أن الثاني يمكن إدراكه ~~بالنور الفطري. الأول يمكن إدراكه من الخارج، والثاني من الداخل. ~~الأول عن طريق الحواس، السمع أو البصر، والثاني عن طريق العقل. # 86 # وفرق ثالث: # وهو أن الوحي المكتوب يتضمن الشريعة، أي تنظيم أعمال الجوارح، في ~~حين أن الوحي المطبوع لا يتضمن إلا التقوى والفضيلة أي تنظيم أعمال ~~النفس؛ لذلك كان العهد القديم متضمنا للشريعة، والعهد الجديد ~~حاويا للحب وشريعة القلب. # 87 # وفرق رابع: # هو أن الوحي المكتوب أتى لأمة معينة، وهي الأمة العبرانية، في ~~زمان معين ومكان معين، في حين أن الوحي المطبوع أتى للناس جميعا ~~في كل زمان ومكان. لقد أعطى الله العبرانيين العهد في صورة مكتوبة، ~~لأنهم كانوا في مرحلة الطفولة، وما إن بلغوا مرحلة النضج حتى ~~أخبرهم موسى بأن العهد مطبوع في قلوبهم، وإذا كان الميثاق المكتوب ~~قد ضاع وانقضى بعد حنث اليهود له، فإن الميثاق الشامل الذي يربط ~~الإنسانية كلها بالله ما زال قائما، والميثاق مسطور في القلب وفي ~~الفكر لا في المصاحف، والعهد ليس هو تابوت العهد بل الميثاق الأبدي. قد ~~يضيع التابوت، ولكن يبقى الميثاق في قلوب الأتقياء، وقد ينهدم المعبد ~~ولكن تبقى التقوى في قلوب الأصفياء، فالله لا يوجد إلا للأتقياء ~~والأصفياء. وإذا كان الميثاق المكتوب قد أعطي مرة من جانب الله، ~~فإن الميثاق الحي معطى كإمكانية محضة، يستطيع كل تقي أن ~~يدخل فيه، فإذا راعى الإنسان الميثاق وحافظ عليه راعاه الله من ~~جانبه واصطفاه. # 88 # ثاني عشر: النظر والعمل # ومن أهم التيارات في الفلسفة الحديثة تحويل المسيحية من مستوى النظر إلى ms060 مستوى ~~العمل، فقد تحول الدين عند كانط من المعرفة إلى الأخلاق، وعند هيجل من العقائد إلى ~~التاريخ، وعند سبينوزا من النظر إلى العمل، كما أصبح أساسه النظري يسيرا للغاية، لا ~~شأن له بالتعقيدات العقائدية التي لا نهاية لها، # 89 # فتعاليم الكتاب عند سبينوزا يسيرة للغاية تدعو إلى الطاعة، وتعاليمه ~~الإلهية لها هدف عملي في الحياة اليومية؛ لذلك لم يكن للأنبياء ذكاء خارق للعادة، بل ~~كان لهم خيال خصب؛ ولهذا السبب أيضا لم يذع الوحي أسرارا فلسفية، بل أعطى أفكارا ~~سهلة للغاية، طبقا للآراء السابقة لكل مؤلف، كما أعطى تعاليم يسهل إدراكها على ~~كل فرد أيا كان، ولم يستعمل منهج الاستنباط، بل أعطى بعض الحقائق للاعتقاد، ~~وأيدها بالتجربة وهي المعجزة، واستعمل أسلوب التأثير في القلوب، وتحريك النفوس، وإن ~~كانت هناك صعوبة في فهم الكتاب، فإنها ترجع إلى اللغة، لا إلى الموضوع ذاته، خاصة ~~أن الأنبياء قد دعوا كل الناس، ولم يدعوا اللاهوتيين فحسب. وقد دعت هذه الظروف ~~إلى جعل الكتاب مجموعة من الحقائق اليسيرة التي يسهل على كل فرد إدراكها، لا ~~مجموعة من النظريات الفلسفية، أو التأملات الميتافيزيقية الخالصة، لا يحتوي الكتاب ~~على أي سر فلسفي، وكل ما يدعيه البعض من أسرار إن هي إلا تفسيرات حولت ~~الدين إلى أكاديمية للجدل والمناقشة، وتقنين لنظريات الوثنيين التي يرجع ~~أغلبها إلى أفلاطون وأرسطو، فالكتاب لديهم هو الجامع لكل علم ممكن، والحقيقة أن ~~الكتاب لا يحتوي على أية عقيدة فلسفية خالصة، بل على بعض الأفكار السهلة؛ وذلك لأن ~~غرض الكتاب ليس إعطاءنا معرفة علمية بل دعوتنا إلى الطاعة ورفض العصيان، وطاعة الله ~~في حب الجار، ولا يتطلب الكتاب أية معرفة أخرى إلا ما يحث فيها على ~~الطاعة؛ لذلك يجب فصل كل ما عداها عن الدين، وإخراجه منه، لأنه لا يتعدى كونه ~~آراء ظنية، لا يمكن إدراكها بالنور الفطري، وكل ادعاء بحاجتنا إلى نور يفوق ~~الطبيعة حتى يمكننا إدراكها هو ادعاء كاذب، لأنه لا يوجد نور يفوق الطبيعة، لا ~~يوجد نور سوى النور الفطري. # إن المعرفة ms061 العقلية، وهي المعرفة الصحيحة، لم تعط كل المؤمنين، في حين أن ~~الطاعة قد دعي الجميع إليها، لم يطلب الأنبياء من المؤمنين إلا معرفة العدل ~~والإحسان، وهو ما يثبته الكتاب نفسه؛ إذ لم يعرف العبرانيون ماهية الله، بل عرفوا ~~آثاره، وهو ما يدل عليه لفظ «يهوه» الذي يشير إلى صلة الله بمخلوقاته، ولم يعرف ~~صفاته معرفة عقلية خالصة إلا الخاص، فالناس سواء في الطاعة، ولكنهم يختلفون في ~~الحكمة؛ لذلك لم يطلب الأنبياء من الناس إلا العدل والإحسان، أي الصفات التي ~~يمكن أن تكون قواعد للسلوك في حياتهم العملية، وهذا واضح بنص الكتاب، فالله عادل ~~ورحيم على الإطلاق، وهو نموذج الحياة الصحيحة. لم يعط الكتاب تعريفا للكتاب أو ~~تعريفا لله إلا ما يبغي حياة الفضيلة. ننتهي إذن إلى النتيجة الآتية: إن المعرفة ~~العقلية تعطينا طبيعة الله في ذاته، ولكن لا يمكن أخذ هذه الطبيعة كقاعدة للسلوك في ~~الحياة؛ لذلك لم تكن هذه المعرفة العقلية شرطا من شروط الإيمان، بل يستطيع الناس أن ~~يخطئوا في هذه المعرفة دون أن ينقص ذلك من إيمانهم شيئا، ولا حرج أن يتكيف ~~تصورنا لله حسب أحكام الأنبياء السابقة ومعتقداتهم، ولا حرج أيضا في اللجوء إلى ~~التشبيه، فهو وسيلة إدراك الجمهور بالخيال؛ إذ لا يستطيع التنزيه إلا الخاصة، عن ~~طريق المعرفة العقلية، فقد نسب الكتاب إلى الله اليد والعين والأذن، ووصفه كقاض ~~يقطن في السماء، ويستوي على عرش ملكي والمسيح على يمينه، كل ذلك طبقا لعقلية ~~العامة، فالكتاب لا يهدف إلى إعطاء العلم بل يدعو للطاعة، ولا يجوز الالتجاء إلى ~~التفسير المجازي كما يفعل اللاهوتيون، بل يجب أن يؤمن الجمهور إيمانا حرفيا ~~بالصور الذهنية، وإلا لفسر كل ما يتعارض مع الكتاب تفسيرا مجازيا، وكأن ~~الوحي لم يرسل للجمهور العريض، بل للخاصة وحدهم. خلاصة القول، إن الإيمان مرهون ~~بالعمل لا بالنظر، # 90 # وإنه يكون صادقا بقدر ما يحث صاحبه على الطاعة ويمنعه من العصيان، ~~وأنه يكون كاذبا بقدر ما يدفع صاحبه إلى العصيان، ~~وإن العمل الصادق مهما كان قائما على ms062 نظريات غير ~~صحيحة في طبيعة الله، أفضل من العمل الكاذب مهما كان قائما على نظريات صحيحة ~~فيه. # كل إنسان إذن حر في أن يؤمن بما يشاء، وأن يكيف إيمانه حسب معتقداته وآرائه ~~كما يريد، وعليه ألا يمنع الآخرين من أن يكونوا كذلك، فهناك فرق بين الإيمان ~~والعقل، أو بين الدين والفلسفة، الإيمان يؤدي إلى الطاعة، والعقل إلى الحقيقة ~~النظرية. لم يحاول موسى إقناع العبرانيين بالطرق العقلية، بل ربطهم بعهد وبقسم، ~~فارتبطوا بدين الشكر والعرفان بالجميل، دعاهم موسى لطاعة الشريعة حتى ينالوا هذا ~~الجزاء، وإلا وقعوا تحت طائلة العقاب، ولما كانت هذه الوسائل التي لا تساعد في ~~الحصول على المعرفة لا تحث أيضا على الطاعة بطريقة سليمة، دعا الإنجيل إلى ~~الإيمان، واعتبر الطاعة جوهره فإذا تلخصت الشريعة كلها في حب الجار يصبح ~~الإنسان مطيعا وسعيدا إذا أحب جاره كحبه لنفسه، ويصبح عاصيا شقيا إذا ما ~~خالف ذلك، فلم يكتب الكتاب للعلماء بل لجميع الناس، ولم يأمرنا الكتاب إلا بمعرفة ~~أقل ما يلزم للطاعة، وهو حب الجار. هذه الوصية هي القاعدة الوحيدة للإيمان الشامل ~~التي يجب أن تحدد عقائد الإيمان الأخرى، وحتى لا نقع في المغالاة، ونعتقد بأي ~~شيء مهما كان، ما دام مؤديا للطاعة، هناك حد أدنى لتعريف الإيمان بأنه الحصول ~~على بعض الأفكار عن الله التي تؤدي إلى الطاعة، وأن غيابها يؤدي إلى العصيان، ~~ويكون المطيع حقا من يعتنق هذه الأفكار، وينتج عن هذا التعريف نتيجتان: ~~(أ) # يؤدي الإيمان إلى الخلاص؛ لأنه يحث على الطاعة، لا لأنه إيمان في ذاته، ~~فالإيمان بدون عمل مائت. ~~(ب) # يكون المطيع هو صاحب الإيمان الصادق، وهو الإيمان الذي يعطيه ~~الخلاص. # فإذا حسنت الأفعال فلا يهم بعد ذلك بعدها عن العقائد، وإذا قبحت الأفعال فلا ~~يهم حينئذ قربها من العقائد، ولن يعرف العدل والإحسان إلا بمشاركتنا ~~فيهما، ويكون أعداء المسيح حقا هم الذين يضطهدون من يمارسون العدل والإحسان، ~~ويخالفونهم في مضمون الإيمان، فالإيمان يتطلب عملا صادقا أكثر مما يتطلب ~~عقائد صحيحة، ولا يهم مطلقا أن ms063 تكون العقائد باطلة لو كانت تؤدي إلى العدل ~~والإحسان، يكفي ألا يعرف من يؤمن بها أنها باطلة، ولا يرجع خطأ الناس في الكتاب ~~لجهلهم به، بل لعصيانهم له، ويرجع تصورهم الصحيح له لطاعتهم إياه. # 91 # ويمكن استنتاج بعض العقائد من مبدأ الإيمان الشامل، وهو حب الجار، وهي ليست عقائد ~~نظرية بقدر ما هي مبادئ تحث على الطاعة، مبادئ يحياها القلب في حبه للجار، وبذلك ~~يكون الله في الإنسان، والإنسان في الله، فإذا اختلف الناس في تصورهم لعقائد ~~الإيمان، فإنهم يتفقون على هذا المبدأ الشامل الذي تعتنقه الإنسانية جمعاء، ~~بعيدا عن الصراع على العقائد والجدل والمهاترات داخل الكنائس. ويحتوي هذا المبدأ ~~الشامل على الحد الأدنى من الإيمان، وهو يشمل سبع نقاط، تكون دينا عاما شاملا ~~يصدر عن العقل، ويتفق مع الطبيعة ويحث على الخير، وهذه النقاط هي: ~~(1) # يوجد إله خير ورحيم على الإطلاق، نموذج الحياة الحقة، يجب ~~معرفته والإيمان به من أجل طاعته، والتصديق به كحكم عدل. ~~(2) # يوجد إله واحد جدير بالتبجيل والعظمة والمحبة. ~~(3) # حاضر في كل زمان ومكان ويرعى كل شيء، لا تخفى عليه خافية وهو ~~الموجود الكامل. ~~(4) # يسيطر على كل شيء ويسير كل شيء، لا عن قهر، بل بمشيئته ~~المطلقة وبفضله، يطيعه كل فرد وهو لا يطيع أحدا. ~~(5) # عبادته في طاعته التي تتم بممارسة العدل والإحسان أي حب ~~الجار. ~~(6) # يتم الخلاص للمطيعين وحدهم الذين يمارسون الطاعة في حياتهم، ويضيع ~~من يتبعون الشهوات، ويسيرون وراء الأهواء. ~~(7) # يغفر للتائبين ذنوبهم، فكل بني آدم خطاءون، وخير الخطائين ~~التوابون. # ولا يهم بعد ذلك أن يكون الله روحا، أو نارا، أو نورا، أو فكرا، كما لا شأن ~~لنا بالعلم الإلهي الصادر عن ماهيته، أو بالقدرة الإلهية، أو بأثره على الحرية، ~~والضرورة في طبيعته، وإلا لتعرض إيماننا للخطر. فليتصور كل إنسان هذه الأمور ~~حسب عقليته الخاصة بشرط أن يكون إيمانه صادقا، فمقياس الإيمان هو صدقه لا حقيقته، ~~ومن يعطي أفضل الحجج لا يكون بالضرورة أفضل المؤمنين، ولا يدرك أهمية ذلك إلا من ~~يفكر في المصلحة العامة ms064. لا يهمنا إذن أن يكون الصوت الذي سمعه موسى على جبل سينا ~~حقيقيا أم زائفا، فليس لدينا يقين رياضي على ذلك، يكفي أن يثير هذا الصوت فينا ~~إعجابا بالله إذ لم يقصد الله بهذا الصوت الكشف عن ماهيته وصفاته. # 92 # ثالث عشر: العقل واللاهوت # وقبل أن ينتقل سبينوزا إلى الجزء السياسي في الرسالة، يتناول آخر مشكلة في ~~الجزء اللاهوتي، هو الصلة بين العقل واللاهوت، وهي المشكلة التقليدية في فلسفات ~~الأديان والتفكير الديني بوجه عام، مشكلة الصلة بين الفلسفة والدين، أو بين العقل ~~والإيمان، ولكن سبينوزا لا يتحدث عن الدين والإيمان، ما دامت مهمة الدين والإيمان ~~هي الحث على الطاعة من أجل حب الجار، وممارسة العدل والإحسان. # يرى سبينوزا أنه لا توجد أي صلة بين العقل والإيمان، أو بين الفلسفة والدين، أو ~~كما يقول هو، بين العقل والفلسفة من ناحية وبين الإيمان واللاهوت من ناحية أخرى؛ إذ ~~يقوم كل علم، سواء الفلسفة أو اللاهوت، على مبادئ مختلفة اختلافا جذريا عن ~~المبادئ التي يقوم عليها العلم الآخر، فغاية الفلسفة الحقيقة، وغاية الإيمان الطاعة. ~~تقوم الفلسفة على مبادئ وأفكار صحيحة، وتستمد من الطبيعة وحدها، وتعرف بالنور ~~الفطري، ويقوم الإيمان على التاريخ وفقه اللغة، ويستمد من الكتاب وحده، ويعرف ~~بالوحي. أسلوب الفلسفة هو العقل الذي يدرك الأشياء على ما هي عليه، وأسلوب الإيمان هو ~~التخيل الذي يبغي التأثير في النفوس؛ ولذلك يترك الإيمان لكل فرد الحرية في أن ~~يتفلسف كما يشاء، حتى في موضوع العقائد، ولا يدين إلا من يحث الآخرين على ~~العصيان والكراهية والجدل والغضب، ولا يثني إلا على من يحث على ممارسة العدل ~~والإحسان على قدر عقولهم. # ولكن هناك مشكلة زائفة يعرض لها الباحثون لأنهم لا يفرقون بين الفلسفة واللاهوت، ~~ويصوغونها على النحو الآتي: هل الكتاب تابع للعقل أم العقل تابع للكتاب؟ وبعبارة أخرى: ~~هل يجب توفيق الكتاب طبقا للعقل أم توفيق العقل طبقا للكتاب؟ # والذين ينكرون يقين العقل مثل الشكاك، يتبنون النظرية الثانية التي تجعل ~~العقل تابعا للكتاب، أو التي توفق العقل ms065 طبقا للكتاب، والذين يؤمنون بيقين العقل ~~ويتطرفون فيه مثل القطعيون ، يتبنون النظرية الأولى التي تجعل الكتاب تابعا ~~للعقل، أو التي توفق الكتاب طبقا للعقل، ويرى سبينوزا أن كلتا النظريتين خاطئة، ~~فكلتاهما تزيف العقل والكتاب، فالكتاب لا يعلم الأفكار والفلسفة، بل يدعو إلى ~~الإيمان الصادق، وقد تكيف حسب العقلية الشعبية وأحكامها السابقة، فإذا جعلنا الفلسفة ~~في خدمة اللاهوت، ووفقنا العقل مع الكتاب اضطررنا إلى قبول الأحكام السابقة ~~للعصور الماضية على أنها حقائق إلهية، وإذا وفقنا الكتاب مع العقل نسبنا إلى ~~الأنبياء عن غير حق أشياء لم يقصدوها ولم يحلموا بها، وفسرنا أقوالهم تفسيرا ~~خاطئا، وكلتا النظريتين خاطئة، الأولى لإغفالها العقل، والثانية لاعتمادها على ~~العقل. # ويمثل يهوذا البكار الاتجاه الذي يريد أن يجعل العقل خادما للكتاب، وخاضعا له ~~كلية، وقد أراد البكار تجنب خطأ الاتجاه المضاد الذي يجعل الكتاب خادما للعقل، ~~وخاضعا له، هذا الاتجاه الذي يمثله موسى بن ميمون، ولكنه وقع في الخطأ المضاد. ~~يرى البكار أنه لا ينبغي تأويل أي نص من الكتاب تفسيرا مجازيا، بحجة أن ~~المعنى الحرفي يعارض العقل، في حين أنه يجوز التأويل إذا ما عارض النص الكتاب نفسه ~~أي إذا ما عارض العقائد التي يدعو إليها الكتاب. ويضع البكار القاعدة التالية: يجب ~~قبول كل ما يدعو إليه الكتاب من عقائد وتؤكده النصوص الصريحة على أنه حق، بناء ~~على سلطة الكتاب وحده. ومن حيث المبدأ، لا يوجد في الكتاب تعارض بين العقائد، بل ~~قد يوجد في نتائجها فحسب؛ وذلك لأن تعبيرات الكتاب تتضمن في بعض الأحيان عكس ما ~~توحي به عادة. هذا النوع من النصوص فقط يمكن تفسيره تفسيرا مجازيا، ابتداء من ~~النصوص الأخرى، مثلا تشير بعض نصوص الكتاب إلى تعدد الآلهة، في حين أن الكتاب ~~كله يشير إلى وحدانية الله؛ لذلك يمكن تفسير النصوص الأولى تفسيرا مجازيا، كما ~~تعزو بعض نصوص الكتاب الحسية إلى الله، في حين أن الكتاب كله ينفيها، ومن ثم ~~يمكن تفسير النصوص تفسيرا مجازيا. فمنهج البكار له الفضل في تفسير الكتاب ~~بالكتاب ms066، ولكنه يخطئ عندما يتحول إلى هدم للعقل. صحيح أنه يجب تفسير الكتاب ~~بالكتاب عندما نريد فهم معنى النص، ولكننا إذا فهمنا معناه يمكننا بعد ذلك إصدار ~~حكم العقل على هذا المعنى، حتى يتسنى لنا قبوله أو رفضه. نتساءل إذن: هل يجب خضوع ~~العقل كلية إلى الكتاب إذا ما عارض العقل الكتاب؟ هل يكون هذا الخضوع خضوعا ~~عاقلا أم أعمى؟ إذا كان الخضوع خضوعا أعمى، كما هو الحال عند البكار، نكون حمقى ~~لأننا لا نعتمد على حكم العقل، أما إذا كان خضوعا عاقلا فإننا في هذه الحال نعتمد ~~على العقل في فهمنا للكتاب، وهو ما يبغيه البكار. # 93 # ولكن كيف يخضع العقل، هذه الهبة الرائعة، وهذا النور الإلهي، إلى حرف مائت ~~خاضع للزيف الإنساني؟ هل يقتضي الدفاع عن الإيمان بالضرورة إلغاء العقل؟ إن نهج ~~البكار يجعلنا نخاف من الكتاب، لا أن نثق فيه؛ لأنه يدعونا إلى ترك العقل، وأن ~~نقبل على أنه حق ما يثبته الكتاب، وأن نرفض على أنه باطل ما ينفيه الكتاب، ~~والكتاب نفسه لا يثبت أو ينفي إلا ما تثبته أو تنفيه النصوص، ولكن الكتاب أسفار ~~عديدة، كتبت في مناسبات مختلفة، وفي عصور متعاقبة، لجماهير مختلفة ولغايات ~~متباينة؛ لذلك يجب إثبات أن النصوص قد وصلت إلينا حرفيا دون تبديل أو تحريف، ~~كما يجب أن نبحث عن قرينة تثبت صدق التفسير المجازي، في حالة تعارض النصوص، ~~وهناك كثير من نصوص الكتاب تعارض العقل معارضة صريحة، فكيف يكون الله غيورا؟ وكيف ~~يكون جسما في مكان وزمان؟ إن العقل وحده هو الذي يمكنه إثبات صحة هذه الآيات أو ~~كذبها، والتعارض في النصوص تعارض حقيقي لا تعارض ظاهري كما يقول البكار، ~~فالله نار تعارض الله لا يشابه الأشياء الحسية، كلاهما قضيتان كليتان ~~متناقضتان، تثبت الأولى ما تنفيه الثانية. # أما ابن ميمون فهو أول الفريسيين الذي أراد توفيق الكتاب طبقا للعقل، ولا يفيض ~~سبينوزا في عرض منهج ابن ميمون لأنه في النهاية منهج سبينوزا نفسه، ودون أن يتبناه ~~صراحة. لقد أفاض سبينوزا في عرض ms067 منهج البكار وتفنيده لأن سبينوزا يرفضه صراحة ~~في حين أنه يوحي بأنه يرفض منهج ابن ميمون مع أنه يقبله ضمنا ويقصره على ~~الفيلسوف دون العامة. # 94 # ينتهي سبينوزا إلى رفض المنهجين، فليس اللاهوت خادما للعقل وليس العقل خادما ~~للاهوت، بل لكل منهما ميدانه الخاص، فميدان العقل الحكمة، وميدان اللاهوت الإيمان ~~الصادق والطاعة. ليس من شأن العقل أن يقرر حصول الناس على السعادة بالطاعة، وليس من ~~شأن الإيمان الصادق أن يقلل من العقل، أو أن يعظم من شأنه. # ومع ذلك يستطيع العقل أن يفهم العقائد من حيث صحتها أو كذبها فهو النور الفطري ~~الذي يحمي الذهن من الوقوع في الخطأ والأوهام والأحلام، وبهذا المعنى يكون الوحي ~~متفقا مع العقل في موضوعه، وهو الحقيقة، وفي غايته وهي السعادة. وعلى هذا النحو، ~~يمكن للاهوت مخاطبة البشر جميعا باعتباره علما شاملا. # ولا تخضع هذه العقيدة اللاهوتية، خلاص البشر بالطاعة، إلى النور الفطري كما لم ~~يبرهن عليها أحد بالأدلة؛ وذلك لأن الوحي يتصف بالضرورة المطلقة، والبرهان ~~الوحيد عليها هو اليقين الخلقي، وهو يقين الأنبياء أنفسهم القائم على الأسس ~~الثلاثية: الخيال الخصب، إجراء المعجزات، ميلهم الطبيعي للعدل والخير. يقين النبي ~~يقوم على الأساس الأول وهو الخيال الخصيب، ويقين سائر البشر يقوم على الأساسين الآخرين. # 95 # وتتفق التعاليم الخلقية بطبيعتها مع العقل؛ لأننا نسمع صوت الله وكلامه فينا، ~~والدعوة الخلقية ليست موضوع تحريف أو تبديل، فمن يظن أن هناك تعارضا أساسيا ~~بين الفلسفة واللاهوت، وأنه يجب إفساح أحدهما مجالا للآخر، فإنه يريد برهانا ~~رياضيا للاهوت، وينتهي إلى إنكار يقين العقل نفسه؛ لأنه يزعزع الثقة بالعقل، ~~ويضعف إيمانه بالكتاب. # وهناك فريق آخر يلجأ إلى شهادة الباطنية للروح القدس، ويدعي أنها كافية، وتغني ~~عن استخدام العقل؛ لأن العقل لا يستخدم إلا في الجدل من أجل إقناع الملحدين، كما ~~فعل بسكال في الخطرات. ويخطئ هذا الفريق لأن الروح القدس لا تعطي إلا الأفعال ~~الخيرة، ولا تعطي أي يقين عقلي أو نظري خالص، فتلك مهمة العقل وحده. # 96 # رابع عشر: حق المواطن وحق السلطة ms068 # كانت الغاية من التفرقة بين الفلسفة واللاهوت إثبات حرية التفلسف . والآن، كيف ~~تتحقق هذه الحرية في موقف معين أو تمارس في جماعة معينة؟ كيف يكون ~~المواطنون أحرارا في الدول؟ ما حق المواطن وما حق السلطة؟ # حق المواطن هو حق الفرد الطبيعي الذي يشمل كل ما تستطيعه طبيعته، فالفرد موجود ~~طبيعي يعيش في الطبيعة؛ لذلك لا يتحدد الحق الطبيعي للفرد بالعقل بل بالرغبة ~~والقدرة، فالقانون الطبيعي لا يمنع من أي فعل، وغايته الوحيدة هي مصلحة الفرد ~~والإبقاء عليه، وتحتم هذه الضرورة عليه سائر أفعاله، ولا يمكن أن تخضع الطبيعة ~~لقوانين العقل، فما يحسنه العقل ربما لا يكون حسنا في الطبيعة، وما قد يقبحه ~~العقل ربما لا يكون قبيحا في الطبيعة. # 97 # ولكن مما لا شك فيه أن البشرية تود أن تعيش وفقا للعقل حتى تعيش في سلام؛ ~~لذلك وجب أن يتعاون الأفراد فيما بينهم، وبالتالي أصبح الحق الذي يتمتع به كل فرد ~~حقا اجتماعيا تحدده إرادة الجميع لا إرادة الأفراد. وهكذا نشأ العقد الاجتماعي ~~طبقا لقانون طبيعي وهو الرغبة، أي رفض الخير القليل من أجل خير أعظم، وقبول ~~شر قليل من أجل تجنب شر أعظم. وبعبارة أخرى الرغبة في أعظم الخيرين ~~وأهون الشرين، فهذا قانون طبيعي أو حقيقة أبدية في الطبيعة الإنسانية؛ لذلك، ~~يسمح لي الحق الطبيعي أن أخلف الوعد إذا رأيت في هذا الوعد خيرا أقل وشرا ~~أعظم، دون أن يكون في ذلك إضرار بمصلحة الغير، فالجماعة هي التي تمثل المصلحة ~~العامة والضرورة المطلقة التي تمنع كل صورة من صور الخداع. غاية العقد إذن ~~هي تحويل الفرد من العيش وفقا للطبيعة (أي وفقا للشهوة) إلى العيش وفقا للعقل، ~~فيصبح العقل موجها لسلوك الفرد، ولا يعامل الفرد الآخرين إلا كما يجب أن ~~يعامل نفسه، ويدافع عن حق الآخرين كما يدافع عن حقه. # وتتكون الجماعة الإنسانية إذا ما فوض كل فرد حقه كاملا إلى هذه الجماعة ~~التي يكون لها السلطة المطلقة والتي تجب لها الطاعة طوعا أو كراهية - باختيار ~~حر أو خوفا من ms069 العقاب. # 98 # وهذا هو النظام الديمقراطي. # فالديمقراطية تنشأ من اجتماع الناس ويكون لهم حق مطلق على ما في قدرتهم؛ لذلك لا ~~تطيع السلطة العليا الممثلة لهم أي قانون، بل يجب على الجميع طاعتها لأنها ~~تمثل الجميع بعد أن فوضوا لها حقهم ضمنا أو صراحة، ويجب على الجميع طاعتها ~~إما بالضرورة أو طبقا للعقل، كما يجب طاعة الدولة في قوانينها المتناقضة وذلك ~~طبقا لمبدأ اختيار أهون الشرين. # 99 # ولا تنبغي الطاعة لفرد آخر وإلا نشأت الدكتاتورية بل تجب الطاعة للسلطة ~~التي فوض لها الجميع حقوقهم؛ لذلك تصدر القوانين للمصلحة العامة، ومن المستحيل أن ~~تجتمع الغالبية العظمى على ضلال. وتقوم السلطة بحماية الناس وبرعاية العقد الذي به ~~ينتقل الناس من العيش وفقا للطبيعة إلى العيش وفقا للعقل. ولا يعني دخول الناس في ~~العقد الاجتماعي وطاعتهم للسلطة الممثلة لهم وقوعهم في العبودية، فالعبد هو عبد ~~الشهوة أو عبد الغير، في حين أن العقد الاجتماعي يحرر الأفراد من الشهوة، لأنهم ~~يعيشون طبقا للعقل، ويحررهم من الغير لأنهم يعيشون في نظام ديمقراطي؛ لذلك كان ~~النظام الديمقراطي أفضل الأنظمة لأن الفرد يعيش فيه حرا في مجتمع منظم. # وبناء على هذا يمكن وضع بعض التعريفات، فانتهاك القانون هو إضرار أحد المواطنين، ~~عمدا أو عن غير عمد، بمواطن آخر؛ أي إنه يتم بين الأفراد لا بين الدولة والأفراد، ~~فالدولة ممثلة لسلطة الجميع، وإذا خرجت الدولة على الدستور فإنها تخرج عن تمثيلها ~~لحقوق الآخرين، أما العدالة فهي إعطاء كل ذي حق حقه طبقا للقانون الوضعي ويكون ~~الظلم هو رفض إعطاء الحق أهله. وجريمة الطعن في السيادة لا يقوم بها إلا الرعايا ~~نظرا للعقد الذي فوضوا به سلطتهم إلى الدولة، وتقع الجريمة عندما يحاول أحد ~~الرعايا الاستيلاء على السلطة أو تفويض السلطة إلى فرد آخر في ظروف معينة. # 100 # والحلف هو تعهد إحدى الدولتين بعدم إلحاق الضرر بالدولة الأخرى ~~وبمساعدتها عند الحاجة، ولكن تبقى كل دولة حرة مستقلة، ويبقى الحلف طالما ~~بقيت المصلحة الداعية له، فإذا انتفت المصلحة ~~انفض الحلف، فشرط بقاء الحلف ms070 هو تحقيق المصلحة وإلا نقض من طرف واحد، ولا يمنع ~~الحلف من أن يقوم أحد الطرفين بزيادة قوته، والعدو هو من يرفض سلطة الدولة أو ~~حلفها أو أن يكون أحد رعاياها، والعداوة السياسية واقعة قانونية لا انفعالية. # ولكن ما صلة القانون الوضعي بالقانون الإلهي؟ إن العيش وفقا للطبيعة سابق على ~~العيش وفقا لوصايا الدين، فلم تأمر الطبيعة بطاعة الله ولم يأمر العقل بذلك أيضا، ~~ولا يبدأ القانون الإلهي إلا بعد الوحي وبعد أمر الطاعة. # 101 # ولا تسمع الدولة أمر أحد ولا تطيع أحدا إلا النبي شاهد الله؛ لأن الدولة لا ~~تطيع إلا الله وحده. # 102 # وهي حرة في أن تطيع القانون الإلهي أم تعصيه؛ لأن القانون الوضعي أو ~~الطبيعي لا يعارض في ذلك. # 103 # ولكن ماذا يفعل الفرد إذا أمرته الدولة بما ~~يعارض طاعته لله؟ هل يطيع الله أم يطيع الدولة؟ يجيب سبينوزا على ذلك لأنه لا طاعة ~~لمخلوق في معصية الخالق، ولكن خشية أن يفسر كل فرد وصايا الدين على هواه ويأخذ ~~ذلك ذريعة لعصيان قوانين الدولة، فعلى الدولة أن تضع تشريعا للمحافظة على ~~الدين، خاصة أن الله يأمر بطاعة القوانين الوضعية، # 104 # فإذا وجد مؤمن في دولة وثنية مثلا فليس أمامه إلا حلان: الأول ~~رفض تفويض السلطة لها والتعرض للإفناء التام، والثاني تفويض السلطة لها ~~والإبقاء على النفس وطاعة قوانين الدولة، ولا يستثنى من ذلك إلا من وعده الله ~~بتقديم العون له ضد الطاغية. # 105 # خامس عشر: نشأة دولة العبرانيين وسقوطها # ويطبق سبينوزا نظريته في العقد الاجتماعي على تاريخ العبرانيين، # 106 # فبعد خروج العبرانيين من مصر لم يخضعوا لدولة أجنبية، بل أقاموا شريعة ~~خاصة واحتلوا ما شاءوا من الأرض، وللخروج من هذه الحالة الطبيعية فوضوا حقهم ~~الطبيعي إلى الله نفسه ووعدوه بتنفيذ أوامره التي قررها في الوحي، وكان هذا الوعد ~~بمثابة عقد اجتماعي ينشأ بين أفراد الجماعة الواحدة من أجل اختيار سلطة تمثل ~~الجميع، وقد قام العبرانيون بهذا العقد بمحض اختيارهم، وبذلك أصبح الله زعيمهم ~~السياسي، وأخذت دولتهم اسم مملكة الله. كان الله ملك ms071 العبرانيين، وكان أعداء العبرانيين ~~أعداء الله، واختلط التنظيم الديني بالتنظيم الوضعي، وكانت مبادئ الإيمان هي مجموعة ~~من القوانين، وكان الدين واجبا وطنيا، قامت دولة العبرانيين إذن على الحكم الإلهي ~~(التيوقراطي)، وكان جميع العبرانيين سواء أمام الله والقانون، وكان لهم جميعا الحق ~~نفسه في مخاطبة الله وتفسير القوانين والمشاركة في وظائف الدولة. # وفي العهد الثاني، فوض الجميع لموسى حقهم في مخاطبة الله وتفسير القوانين. وبذلك ~~حكم موسى العبرانيين بدلا من الله، حتى لقد اتهمه البعض باغتصاب السلطة، ولم ~~يكن للشعب، قبل موسى، الحق في اختيار خليفته، بل كان على موسى، بمقتضى تفويض السلطة ~~له تعيين الخليفة لتنظيم الدولة ومخاطبة الله ونسخ القوانين وإرسال المبعوثين ~~وتعيين القضاة واختيار الخليفة. تحول النظام إلى ملكية طبقا للتعاليم الإلهية، ~~مما زاد من سلطة الرئيس، وكان مصير الشعب معلقا به، وعندما ترك موسى الحكم ~~خلف وراءه نظاما تيوقراطيا لا ملكيا أو أرستقراطيا. وأول ما قام به موسى هو ~~بناء مسكن لله، وقد قام الشعب بتكاليف البناء، وعين اللاويين خداما له ~~وعلى رأسهم هارون الذي أصبح فيما بعد خليفة لموسى ومفسرا للقوانين ومخاطبا لله، ~~دون أن تكون له سلطة تنفيذ القوانين، كما أبعد موسى اللاويين من الحياة السياسية ~~الذين لم يكن لهم الحق، كباقي الأسباط، في ملكية الأرض للتعايش منها، بعد أن كفل ~~لهم باقي الأسباط ما يتعيشون منه، للتفرغ لخدمة المعبد. ثانيا، أسس موسى جيشا ~~من الأسباط الاثني عشر لغزو بلاد كنعان، ثم قسم الأراضي التي استولوا عليها ~~اثني عشر قسما، لكل سبط قسم، وعين لكل سبط رئيسا لتوزيع الأنصبة يعينه في ~~ذلك كعب الأحبار ويشوع. وبعد أن عين يشوع رئيسا للجيش كان له الحق وحده في مخاطبة ~~الله عندما تعرض له مسائل جديدة، ولكنه لم يكن وحده في المظلة كموسى، بل كان ~~عليه أن يتوسط لذلك بكعب الأحبار الذي كان له الحق وحده في مخاطبة الله، ثم ~~بعد ذلك يبلغها يشوع للشعب ويفرضها عليه ويتخذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذها، ~~ويعين قواد الجيوش، ويبعث الرسل ويقوم بشئون ms072 الحرب. ولم يكن هناك تفكير فيمن يخلفه ~~دون اختيار من الله كما تقتضي ذلك مصلحة الشعب، أما المشكلات الجزئية في الحرب فكان ~~يقوم بحلها رؤساء الأسباط. أما الخدمة العسكرية فقد كانت واجبة على الجميع من ~~العشرين حتى الستين، وكان على الجنود قسم الولاء لله لا للقائد؛ ولذلك سمي الجيش ~~«جيش الله»، والله «إله الجيوش». وفي المعارك الحاسمة كان تابوت العهد ينصب وسط ~~الجيش حتى يدافع عنه الجميع. # وقد عين موسى موظفين لا رؤساء دولة لأنه لم يعط أحدا حق مخاطبة الله، ولم ~~يكن لأي أحد سواه الحق في القيام بمهام الدولة من سن القوانين ونسخها وإعلان ~~الحرب وعقد معاهدات السلم والتعيين في الوظائف المدنية والدينية. أما كعب الأحبار ~~فكان له الحق فقط في تفسير القوانين وتبليغ إجابات الله، ولكنه لم يكن حرا في ~~اختيار الوقت لذلك، بل كان عليه انتظار تكليف الشعب أو المجلس الأعلى له بذلك. وعلى ~~العكس، كان لقائد الجيوش أو المجالس العليا الحق في مخاطبة الله بوساطة كعب ~~الأحبار؛ لذلك لم تكن إجابات الله على لسان كعب الأحبار قرارات كما كان الحال عند موسى ~~بل مجرد وصايا. لم يعتمد كعب الأحبار على أي جيش ولم تكن له أية سلطة مادية، بل ~~إن كل من كان يتمتع بحق الملكية لم يكن له الحق في صياغة القوانين. # وبعد موت يشوع لم يعين كعب الأحبار قائدا للجيش، ولم يطلب رؤساء الأسباط من الله ~~أن يعين لهم قائدا، بل قاد كل رئيس جيشه، وأصبحت كل الجيوش ممثلة لقيادة ~~يشوع، كما أصبحت القبائل أقرب إلى الدويلات المتحالفة منها إلى الدولة الواحدة، ~~في حين أنه بالنسبة لله ما زال العبرانيون يمثلون دولة، فإذا لم يقم رئيس سبط ما ~~بالتزاماته اعتبرته سائر الأسباط عدوا لها يحق لها حينئذ غزو أراضيه، ويتم ~~اختيار خلفاء الأسباط من أقدم البطارقة سنا، فقد اختار موسى سبعين بطريقا أعضاء ~~للمجلس الأعلى الذي قام بمهام الدولة بعد موت يشوع إلا في بعض الأحيان عندما كان ~~يقوم بها فرد أو مجلس ms073 أو الشعب نفسه؛ لذلك لم يكن نظام العبرانيين ملكيا أو ~~أرستقراطيا أو شعبيا بل إلهيا (تيوقراطيا). وكان هذا النظام يعتمد على ~~شيئين: ~~(1) # المعبد وهو عامل الوحدة بين الأسباط. ~~(2) # قسم الطاعة الواجب على المواطنين لله. # وقد كانت مهمة الدولة التيوقراطية التخفيف من حدة الانفعالات للمواطنين ~~وللرؤساء على السواء، فقد عهد إلى اللاويين مهمة تفسير القوانين دون رؤساء ~~الأسباط، خشية أن يستغل هؤلاء هذه المهمة في ارتكاب الجرائم معتمدين على سلطتهم ~~في تفسير القوانين لإخفاء جريمتهم، كما حرم اللاويون من كل وظيفة سياسية ومن ~~كل حق في الملكية. وكان من عادة الشعب الاجتماع مرة كل سبع سنوات لسماع نصوص ~~التشريع من الحبر وقراءة التوراة حتى تتم مراجعة الرؤساء وتطبيقهم للشريعة. كان ~~الشعب يحترم رؤساءه فإذا انحرفوا غضب عليهم. ثانيا، كان الجيش مكونا من ~~مواطنين دون المرتزقة؛ لذلك لم يستطع الطغاة الاعتماد على الجيش ضد الشعب، فالجيش ~~هو الشعب، كذلك لم يتعرض العبرانيون إلى خطر الطغيان من الأسباط فقد كان الدين ~~هو الرابطة بينهم، فإذا خرج أحدهما على شريعة الله أصبح عدوا له. ثالثا، كان هناك ~~خوف دائم من ظهور نبي جديد يعيد إقامة التوازن باعتباره ممثلا لله وتنتصر ~~العامة له، فإذا اتضح كذب النبي كان على رئيس القبيلة محاكمته وإعدامه. ولم ~~يكن احترام رئيس السبط راجعا إلى نبل أصله أو إلى حقه الموروث بل إلى سنه ~~وخلقه، ولم يكن عند العبرانيين فرق بين الجيش والشعب، فقد كانوا مواطنين في وقت ~~السلم ومحاربين في وقت الحرب، وكان رئيس الدولة هو قائد الجيش؛ لذلك لم يرغب أحد ~~في الحرب لذاتها بل إقرارا للسلام. هذه هي الأسباب التي جعلت طموح رؤساء الأسباط لا ~~يخرج على الحد المعقول. # وتقوم الدولة أيضا بمهمة السيطرة على انفعالات المواطنين؛ وذلك لقيامها على حب ~~المواطنين لبلدهم والدفاع عن استقلاله. وبعد أن عقد العبرانيون الحلف مع الله كان ~~استقلالهم شرفا لله وأصبحت سائر الشعوب عدوة له، بل إن الإقامة خارج وطنهم ~~كانت عارا؛ لأنهم لم يكن لهم الحق في إقامة شعائر ms074 دينهم، وقد أصبح هذا الشعور ~~الوطني طبيعة ثانية لديهم، وقد تميزت شعائرهم عن سائر الشعوب الأخرى بل وكانت على ~~النقيض منها. فباجتماع هذه العوامل كلها - تحرر المواطنين من نير الأجنبي، حبهم ~~المطلق للوطن، كراهية الأجنبي ومعارضته كواجب مقدس، الشعائر الخاصة - استطاع ~~العبرانيون الثبات أمام كل المخاطر والمحن. # 107 # وكانت المصلحة هي الدافع الوحيد في سلوك العبرانيين وفي حرصهم على الدولة لأنهم لم ~~يحصلوا على حق الملكية المطلق إلا في هذه الدولة الإلهية، فقد كان لكل مواطن ~~الحق في امتلاك قطعة أرض كما يمتلك الرئيس، فإذا باعها لفقره أعيدت إليه في ~~الأعياد. كان الفقر محتملا وذلك لتطبيق مبدأ حب الجار والإحسان إليه؛ لذلك لا ~~يستطيع العبرانيون أن يعيشوا سعداء خارج وطنهم، وكان كل المواطنين سواسية ولذلك ~~لم تحدث حروب أهلية، وقد ساعد حب الجار على الإبقاء على صدق الإيمان خاصة ~~أن الإيمان هو الطاعة لقوانين الدولة حتى في أحوال المعيشة من زراعة وصناعة وتجارة؛ ~~لذلك كان المثل الأعلى للسلوك هو السلوك الإجباري لا السلوك الاختياري. # ولكن العبرانيين لم يحافظوا دائما على تطبيق الشريعة، ومن ثم وقعوا تحت نير ~~الأجنبي، وانهارت دولتهم تماما، ولا يمكن إرجاع ذلك إلى أن هذا الشعب كان عاصيا ~~بطبعه، فقد اختلفت الشعوب فيما بينها في لغاتها وعاداتها وتقاليدها، ولكن يمكن أن ~~يقال أنه إذا كان العبرانيون حقا أكثر عصيانا من الشعوب الأخرى فذلك يرجع إلى ~~نقص في شريعتهم التي وضعت بدافع من الانتقام لا بوازع خلقي؛ أي أنها وضعت ~~عقابا لهم، فلو كان الله قد أراد لهم دولة مستقلة مستقرة لأعطاهم شريعة أخرى قائمة ~~على أسس أخرى. لقد شاء العبرانيون الاحتفاظ بالخدمة المقدسة للأطفال حديثي ~~الولادة دون تمييز بين اللاويين وغيرهم، ولكنهم جميعا عبدوا العجل باستثناء ~~اللاويين؛ لذلك استبعد الأطفال وتم اختيار اللاويين بدلا عنهم، ويدل تفضيل ~~اللاويين على غيرهم على عدم طهارة باقي الشعب. # ولقد أذل اللاويون باقي الشعب لفضلهم عليه، واستغلوا هذه الظروف، وتحول ~~الإخلاص الديني إلى نفاق، وبعد أن لحظ الشعب ذلك، وثبت على أحدهم ms075 أقل جرم ثار ~~عليهم وهاجمهم، فنشأت الاضطرابات بعد أن تعبت الأسباط من إعالة هؤلاء القوم ~~وكرهتهم لا سيما أنه لا توجد بينها وبينهم أية صلات قرابة، واشتدت ~~الاضطرابات في سنوات القحط، وتنصل الشعب من واجباته نحوهم وكف عن إقامة الشعائر ~~بعد أن شك فيها ورأى فيها مذلته. وقد حاول رؤساء الأسباط التقرب إلى الشعب ~~وإبعاده عن الأحبار فقدموا له شعائر جديدة، وأعطى كل سبط لنفسه الحق في تفسير ~~القوانين وخدمة الدين، ولكن الشعب غضب على اللاويين حتى أنه اعتقد أن ~~موسى لم ينصبهم تنفيذا لأوامر الله بل طبقا لمزاجه الخاص. ألم يختر سبطه ~~لخدمة الدين وجعل أخاه حبرا دائما؟ وقام فريق من الشعب بالدعوة إلى المساواة في ~~الحقوق والواجبات، ولكن موسى قام بمعجزة لإثبات حسن نيته وأهلكهم جميعا، ولكن ~~ثار الشعب بعد أن اعتقد أن ما فعله موسى لم يكن أمرا من الله بل من عنده، وزيادة ~~على انتشار الطاعون عمت الفتنة، وعصى الشعب وسمح لنفسه بكل شيء حتى انتهى إلى ~~الانهيار التام. وبعد أن ذاق نير الاستعمار الأجنبي ترك التنظيم الإلهي، وأراد ~~تنصيب ملك منه يحل بلاطه محل المعبد ويصبح مركز الدولة ويحل تشريع ~~الدولة محل التنظيم الديني للأحبار للمحافظة على تحالف الأسباط، ولكن تنصيب الملوك ~~حمل في ثناياه بذور فتن عديدة أدت إلى انهيار الدولة تماما، فلم يسمح الملوك ~~بوجود دولة، وسلطة مناوئة لسلطتهم، وعندما أراد بعض الملوك الصغار أخذ جزء من ~~السلطة من أجل تنظيم شئون الدولة أراد الملوك الكبار أخذ كل سلطة في أيديهم، ~~فعارض ذلك الأحبار الذين كان لهم حق تفسير القوانين، وكان على الملوك طاعة القوانين ~~دون نسخها أو وضع قوانين جديدة، ولكن شاء الملوك استبعاد قوتين من طريقهم: ~~قوة اللاويين؛ فقد كان قانونهم يمنع الملوك من التدخل في الشئون الدينية، وقوة ~~النبي؛ فقد كان النبي يريد وضع المملكة تحت رحمته، ولكي يحقق الملوك مشيئتهم ~~سمحوا ببناء معابد أخرى لآلهة أخرى لإضعاف سلطة اللاويين، ودفعوا بعض الأفراد ~~للتنبؤ لمعارضة الأنبياء الحقيقيين، ولكن لم ~~ينجح ms076 الملوك في تحقيق غرضهم؛ وذلك لأن الأنبياء لم يدعوا إلا وقت تنصيب الملوك ~~الجدد الذين لم تثبت سلطتهم بعد، فكان من الصعب على الأنبياء الحكم على الملوك ~~أيهم حبيب الله وأيهم عدوه. لم يكن للأنبياء أثر كبير، ولم يستطيعوا القضاء على ~~طغيان الملوك لأن أسباب الطغيان ظلت باقية، فإذا قضوا على طاغية ظهر طاغية آخر، ~~وتوالت الحروب والفتن، وحل العنف محل القانون الإلهي حتى سقطت دولة العبرانيين، ~~وخضع العبرانيون للفرس وأطاعوا تشريعاتهم. وبعد تحررهم استولى الأحبار على ~~السلطة من رؤساء الأسباط وطمح رجال الدين في أن يصبحوا أحبارا وملوكا وتدور ~~الدائرة من جديد. # 108 # وينتهي سبينوزا من هذا العرض التاريخي إلى أن القانون الإلهي كان صادرا عن الحلف، ~~وبدون هذا القانون لا يوجد إلا قانون الطبيعة، كما ينتهي إلى أن العبرانيين ليس ~~لهم أي حق مقدس على الشعوب الأخرى التي لم تشارك في هذا الحلف الذي كان على ~~العبرانيين وحدهم الالتزام به. # 109 # سادس عشر: الدين والدولة # هل يصلح نظام الحكم الإلهي (التيوقراطي) في الظروف الحاضرة؟ لو أراد الناس تفويض ~~حقوقهم لله لكان عليهم عقد حلف معه، ثم قبول الله له! ولكن الله أخبرنا على لسان ~~الحواريين بأن حلفه لم يعد حسيا لشعب معين بل روحيا في قلوب الناس ~~للإنسانية جمعاء، كما أن نظام الحكم الإلهي لا يصلح إلا لشعب مغلق على نفسه، ~~مقطوع الصلة بينه وبين سائر الشعوب؛ لذلك، فإن هذا النظام لا يصلح في ظروف الإنسانية ~~الحاضرة. لم تكن غاية سبينوزا إذن من دراسة تاريخ العبرانيين مجرد البحث ~~التاريخي عن أسباب سقوط دولتهم، بل كانت غايته ~~الانتهاء إلى هذه النتيجة، وهي أن النظام الإلهي لا يصلح في الظروف الحاضرة نظرا ~~لخلطه بين الدين والدولة أو بين السلطات الدينية والسلطات السياسية. # 110 # فلا يعني حكم الله استبعاد كل حكم إنساني يتمتع بسلطة سياسية ~~مطلقة، فبعد أن فوض العبرانيون حقهم لله وضعوا ثقتهم في موسى من أجل تنظيم شئون ~~حياتهم، ولم يكن لسواه هذا الحق، أما رؤساء الأسباط والقضاة فقد كان لهم الحق ms077 في ~~الفصل في المنازعات أمام المحاكم. ومن تاريخ العبرانيين يمكن ملاحظة الآتي: ~~(1) # لم تظهر الفرق الدينية إلا في وقت متأخر عندما استولى الأحبار على ~~السلطة في الدولة، فبدأ الدين في الانهيار، وسادته الخرافة، وضاع ~~التفسير الحقيقي للقوانين بل وفق الأحبار بين هذه التفسيرات وبين ~~الأفعال المحرمة أو المكروهة، وبدأ الناس في تملق الأحبار وعم ~~الفساد في الدين. ~~(2) # دفع الأنبياء الناس إلى التطرف بدلا من تقويمهم في حين استطاع الملوك ~~استمالتهم دون أدنى مقاومة. لم يتسامح الأنبياء معهم حتى مع أكثر ~~الملوك إيمانا إذا كان سلوكهم مناقضا للدين؛ أي أن الأنبياء أضروا ~~بالدين أكثر مما نفعوه. ~~(3) # في أثناء حكم الشعب لم تنشأ إلا حروب داخلية فقط، وانتهت بإقامة سلام ~~دائم، ولكن ما إن أتت الملكية حتى نشأت الحروب المستمرة وببشاعة ~~ليس لها مثيل، ونشبت الحروب حبا في العظمة لا من أجل الحرية ~~والسلام. وباستثناء سليمان، دعا الملوك الناس للحروب، وكان الدم تحت ~~العرش. في أثناء حكم الشعب كانت الشرائع قائمة، وكان الأنبياء يحذرون ~~الشعب من مخالفتها، وما إن تم انتخاب الملوك الأول حتى تدخل ~~الأنبياء لإنقاذ الشعب من الموت. لم يظهر قبل عصر الملوك، الأنبياء ~~الكذبة على حين شاعوا بعد تنصيب الخضوع لله، واستمروا في العصيان حتى ~~هدم المدينة. # ومن العرض السابق للخلط بين الدين والدولة يمكن استخلاص النتائج الآتية: ~~(1) # ينتج الضرر للدين وللدولة إذا ما أعطي رجال الدين سلطة سياسية ~~في الدولة، ولا ينشأ الاستقرار إلا بفصل السلطتين، والحد من سلطة ~~رجال الدين حتى يتفرغوا لأمور الدين وللعقائد السلفية الشائعة. # 111 ~~(2) # ينشأ الضرر إذا اعتمد القانون الإلهي على العقائد النظرية، وإذا ~~شرعنا قوانين خاصة لهذه الآراء التي تقبل المناقشة والجدل، يتحول ~~النظام السياسي إلى قهر وعنف إذا اعتبر الآراء الشخصية، وهي حق الفرد ~~- جرائم لا تغتفر. وإذا كان نظاما تتسلط فيه العامة فإنها تحكم على ~~المفكرين كما حكمت من قبل على المسيح، وتكون الآراء والمناقشات ~~وسيلة للاضطهاد والإرهاب. # 112 ~~(3) # مراعاة لمصلحة الدين والدولة لا ينبغي إعطاء أصحاب السلطة حق ~~التمييز بين الأفعال ms078 والحكم عليها، فإذا كان هذا الحق لم يعط حتى ~~الأنبياء دون أن يلحق الضرر بالدين والدولة على السواء فالأولى ~~ألا يعطى من هم أقل قدرة منهم. # 113 ~~(4) # إذا لم يكن الشعب متعودا على نظام الحكم الملكي، وكان له دستور من ~~قبل، فإنه لا يقبل بسهولة تنصيب ملك عليه؛ لأنه لن يتحمل سلطة ~~الملك القاهرة، كما أن الملك لن يتنازل عن جزء من سلطته المطلقة ~~للشعب، ويستلزم القضاء على الملك حينئذ أن تستبدل سلطته بسلطة أخرى، ~~ولكن يصبح الملك الثاني طاغية كالأول خاصة إذا كان هو قاتله أو ~~يدعي الانتقام من قاتليه لمصلحته الخاصة. وإننا نرى الشعب يتحول ~~إلى طاغية إذا كان النظام الذي تعود عليه هو نظام الطغاة، وتاريخ ~~الشعوب يؤيد ذلك. على كل دولة إذن المحافظة على النظام الذي عاشت في ~~ظله دون تغييره وإلا أصبحت مهددة بالانهيار. # 114 # وبينما يدعو سبينوزا للفصل بين الدين والدولة في نظام الحكم الإلهي حتى يعم السلام ~~في كليهما فإنه يعود ويوحد بينهما في نظام الحكم الديمقراطي؛ فإن الله يوزع ~~بالسلطان ما لا يوزع بالقرآن، فمن حق السلطة أيضا تشريع القوانين في الأمور ~~الدينية وإلا انقسمت السلطة السياسية وتم الاستيلاء عليها، ومن أجل ذلك يحاول ~~سبينوزا إثبات أمور ثلاثة: ~~(1) # لا يصير للدين قوة القانون إلا بسلطة الحاكم. ~~(2) # لا يحكم الله منفصلا عن السلطات السياسية. ~~(3) # يجب اتفاق الشعائر الدينية مع سلامة الدولة وأمنها. # 115 # ويبرهن سبينوزا على الأمرين الأول والثاني معا، لأنه يجب البرهنة أولا على أنه ~~كيف لا يحصل العدل والإحسان على قوة القانون إلا بتشريع الدولة للانتهاء إلى أن ~~الدين لا يحصل على قوة القانون إلا بمشيئة أصحاب السلطة، وأن الله لا يحكم البشر ~~إلا من خلال السلطات السياسية، فالإنسان في الموقف الطبيعي لا يعيش إلا طبقا ~~لقانون الشهوة، فليس هناك خطأ أو صواب، ينشأ الخطأ والصواب عندما ينتقل الإنسان من حالة ~~الطبيعة إلى حالة العقل؛ أي عندما يأخذ العدل قوة القانون الذي يصدر عن مشيئة من ~~لهم الحق في الحكم، أي أن الله لا ms079 يحكم إلا من خلال أصحاب السلطة السياسية، ولا ~~يهم بعد ذلك إدراكه بالنور الفطري أو بالنور النبوي. فعندما فوض العبرانيون حقهم ~~لله ظل هذا التفويض نظريا لأنهم احتفظوا لأنفسهم بحقهم السياسي الذي فوضوه بعد ~~ذلك لموسى وجعلوا منه ملكا. وابتداء من ذلك الوقت حكم الله العبرانيين من خلال موسى، ~~ولم يأخذ الدين قوة القانون إلا بعد التشريعات السياسية، فلم يعاقب موسى مخالفي ~~السبت قبل الميثاق وعاقبهم بعده بعد أن تحول الميثاق إلى قانون سياسي، وكذلك لم ~~يعد للدين قوة القانون بعد انهيار الدولة وبعد سبي بابل وضياع استقلالهم السياسي ~~ومشاركتهم في إدارة دولة بابل باعتبارهم عبيدا لا أسيادا. لا يأخذ الدين إذن قوة ~~القانون إلا بالتشريع السياسي، فإذا قضي على التشريع السياسي لا يصبح الدين ~~سلوكا إجباريا للمواطنين، بل يصبح تعاليم عقلية شاملة، والدين الشامل لم يكن ~~موجودا في ذلك الوقت، ولا يأخذ الدين، سواء كان مدركا بالنور الفطري أو بالنور ~~النبوي قوة القانون إلا بسلطة من لهم الحق في الحكم، فالله لا يحكم البشر ~~إلا من خلال السلطات السياسية؛ وذلك لأن الله ليس أميرا أو مشرعا، ولأن ~~حقائقه أبدية تتميز بضرورة أبدية أيضا ولا تتحول إلى أوامر إلا من خلال ~~السلطات السياسية، وبذلك يكون للسلطات الحق في تفسير الشرائع. # أما الأمر الثالث هو اتفاق الشعائر مع سلامة الدولة وأمنها، فهذا يعني أيضا تحديد ~~الدولة للشعائر وتفسيرها لها دون الشعائر الداخلية أي التقوى والإخلاص، فحب الوطن ~~حب مقدس، وهو من أنبل العواطف، ولكن وجود الدولة هو الحافظ للقيم، وبالتالي، فلا ~~يكون السلوك سلوكا شرعيا إذا ما نال من سلامة الدولة، ويكون شرعيا إذا ما حافظ ~~عليها مهما كان هذا السلوك مضادا لحب الجار؛ فمصلحة الجميع سابقة على مصلحة ~~الفرد. وللسلطة الحق في تحديد المصلحة العامة وأمن الدولة واتخاذ الإجراءات اللازمة ~~لذلك. على السلطة إذن تحديد أفعال الإحسان للجار أي الأفعال التي تجب بها طاعة الله، ~~فملكوت الله هو تطبيق شريعة الله أي ممارسة العدل والإحسان، ولا فرق بين النور الفطري ms080 ~~والوحي في معرفة ذلك إذا كانت هذه الشريعة هي القانون الأسمى، ولا يكون لأصحاب السلطة ~~فقط الحق في تفسير القوانين، بل لا يطيع الإنسان الله إلا إذا كان سلوكه متفقا ~~مع المصلحة العامة ومطيعا لأوامر السلطات؛ لذلك لا يجوز للفرد الإضرار بفرد آخر ~~أو بالجماعة، ولا يحسن الإنسان إلى الجار إلا إذا كان الإحسان متفقا مع المصلحة ~~العامة، والسلطة هي التي تحدد هذه المصلحة لأنها المسئولة عن تنظيم شئون الدولة. ~~فإذا حكمت السلطات على فرد من الداخل أو من الخارج بأنه عدو فلا ينبغي على ~~الأفراد التعامل معه، فحب الجار يتبعه كراهية العدو، وتاريخ العبرانيين يؤكد ~~دائما اتفاق الدين مع مصلحة الدولة، حتى أتى المسيح ورأى تشردهم وضياع دولتهم ~~أمرهم بالإحسان لكل الناس، # 116 # أما الحواريون فإنهم لم يبشروا بالدين باعتبارهم رعايا، بل بناء على ~~القدرة التي أعطاها المسيح إياهم. # 117 # على الأفراد طاعة الطاغية إلا من وهبه الله هبة النبوة ووعده ~~بمساعدة من لدنه ضد هذا الطاغية. # 118 # ولكن ما الحجج التي يقدمها دعاة التفرقة بين السلطة الدينية والسلطة ~~السياسية؟ أهم هذه الحجج وجود كعب الأحبار عند العبرانيين لتنظيم شئون الدين. ويرد ~~سبينوزا على ذلك بأن الأحبار أخذوا هذا الحق من موسى، صاحب السلطة السياسية، وكان ~~يمكنه سلب هذا الحق منهم، وبعد موت موسى، احتفظ الأحبار بهذه السلطة باعتبارهم ~~استمرارا لسلطة موسى، أي استمرارا للسلطة السياسية في حين أن موسى لم يعين ~~أحدا بعده للقيام بالسلطة السياسية، بل قسمها بحيث يبدو أصحابها كمساعدين له. ~~صحيح أن الأحبار كان لهم الحق في تنظيم شئون الدين في الدولة الثانية، ولكنهم كانوا ~~في الوقت نفسه رؤساء الأسباط أي إنهم كانوا يتمتعون بالسلطة السياسية، وكان للملوك ~~الحق في تنظيم شئون الدين وشئون الدولة على السواء مع استثناء وحيد وهو إقامة الصلاة ~~بأنفسهم في المعبد؛ لأنهم ليسوا من سلالة هارون، وبالتالي ليس لهم شرف مخاطبة الله. ~~كان الأنبياء يدفعون الناس إلى التطرف لأن السلطة السياسية لم تكن في أيديهم في حين ~~استطاع الملوك التأثير عليهم بالتوعد بالعقاب ms081. وتنصل ملوك العبرانيين من الدين لأنه ~~لم يكن لهم الحق في التدخل فيه، وتبعهم الشعب في هذا التنصل. # والحجة الثانية أنه في المسيحية قام رجال الدين بمهام الكهنوت. ويرد سبينوزا ~~على ذلك أيضا بأن رجال الدولة كان لهم أيضا الحق في القيام بالشعائر الدينية، بل كان ~~لهم الحق وحدهم في ذلك. كان التوحيد بين السلطتين حافظا لسلامة الدين وأمن الدولة، ~~فالإنسان بطبيعته يثق بمن يقوم على شئون الدين وبالتالي بسيادته على نفوس الناس. # 119 # يؤدي الفصل بين السلطتين إذن إلى الفتن والشقاق كما حدث بين ~~الأحبار والملوك عند العبرانيين، ومن يريد سلب الحاكم سلطته الدينية فإنه يود ~~الاستيلاء على السلطة؛ إذ لا يبقى للحاكم سلطة سياسية لو سلبت منه سلطته ~~الدينية، والتاريخ شاهد بمساوئ الكهنوت وأضراره. يكفي مثل بابا روما عندما اقتصر ~~دوره على شئون الدين حاول إخضاع الأباطرة لسلطانه حتى انتزع منهم السلطة، وكل من ~~حاول من الأباطرة التقليل من سلطة البابا زاده سلطانا. ولكن استطاع رجال الدين ~~أنفسهم بأقلامهم ما لم يستطعه الأباطرة بسيوفهم. # ولكن ما العمل إذا خرج أصحاب السلطة على الدين؟ وما العمل أيضا إذا خرج رجال الدين ~~على الدين؟ إذا خرج أصحاب السلطة على الدين لا يهم بعد ذلك إلى أي حد تمتد ~~سلطتهم؛ إذ يؤدي خروجهم إلى الكوارث، سواء في أمور الدين أو في أمور الدولة، وتعظم ~~الكارثة إذا أرادت الرعية تنصيب نفسها حارسة على القانون الإلهي وترفض سلطة الدولة ~~واختصاصها في أمور الدين. ويبرهن تاريخ العبرانيين على أن عزل الملوك يؤدي بهم ~~إلى رفض الإيمان؛ لذلك حرصا على مصلحة الدين والدولة معا يجب أن يعهد لأصحاب ~~السلطة تنظيم شئون الدين وتفسيره والمحافظة عليه. # 120 # ولكن هذا المبدأ الذي أجمع عليه العبرانيون اختلف فيه المسيحيون؛ وذلك لأن المسيحية ~~في نشأتها لم يدع لها الملوك بل دعا لها الرعايا المناوئون للسلطة السياسية ~~القائمة، وتعودوا الاجتماع في كنائس خاصة لتنظيم شئون الدين وأخذ القرارات وإصدار ~~المراسيم دون أخذ رأي السلطة القائمة. وبعد أن أخذ الدين في الانتشار في ms082 الدولة ~~استمر رجال الدين في نشر الدعوة بطرقهم الأولى؛ لذلك كان من السهل الاعتراف بهم ~~رؤساء للكنيسة أي ممثلين لله. وقد اتخذت بعض الإجراءات لمنع الملوك من التدخل ~~في شئون الدين أهمها تحريم الزواج على رجال الدين، وضرورة وجود الفيلسوف اللاهوتي ~~لتفسير العقيدة وحقائق الإيمان التي تضعها الفلسفة موضع الشك، فهو القادر على النفاذ ~~إلى هذه التأملات التي لا نفع منها. # 121 # أما عند العبرانيين فقد نشأت الدولة والكنيسة معا، وكان موسى هو صاحب السلطتين، ~~وكان لرؤساء الأسباط أيضا الحق نفسه مع أنهم كانوا أقل هيبة من موسى، وكان ~~العبرانيون يستشيرون الأحبار أو الموظفين المدنيين على السواء، وكان الملوك ~~يقومون بتنظيم شئون الدين، وإن لم يكن بالدرجة نفسها التي كان يقوم بها موسى، فقد شرع ~~داود في بناء المعبد، واختار المنشدين والقضاة والحراس والموسيقيين والخدام ~~ورؤساء الطوائف الدينية؛ أي إن شئون الدين كانت من اختصاصات الملك. ولكن لم يكن للملوك ~~الحق، كما كان لموسى، في اختيار كعب الأحبار ومخاطبة الله مباشرة ومحاكمة ~~المتنبئين. وفي مقابل ذلك، كان للأنبياء الحق في اختيار الملك الجديد والعفو عن ~~قاتلي الملك السابق، ولكن لم يكن لهم الحق في تقديم الملوك للمحاكمة أو اتخاذ أي ~~إجراء ضدهم إذا ما خالفوا القوانين باستثناء النبي الذي وعده الله بالعون؛ لذلك، ~~فإن لأصحاب السلطة الحالية الحق في تنظيم شئون الدين، بالرغم من أنهم لا يعيشون ~~عيشة الرهبنة، بشرط ألا يزيدوا شيئا على تعاليم الدين أو يخلطوها بالمعارف ~~العلمية، خاصة أن عصر الأنبياء قد انتهى. # سابع عشر: مواطن حر في دولة حرة # 122 # لو كان من السهل توجيه الأذهان كما توجه الألسنة لما واجهت الحكومات أية ~~أخطار، ولسارت الرعية كما يهوى الحكام، ولما فكر أحد أو أصدر حكما، ولقامت ~~السلطة على القهر والعنف وانتهكت حرمة القوانين، وسلبت حقوق المواطنين عندما ~~تحاول فرض الآراء عليهم وقبولها على أنها نصيحة أو رفضها على أنها باطلة. والحقيقة ~~أن كل فرد حر في أن يفكر وفي أن يعتقد ما يشاء، ولا يتنازل بمحض اختياره عن ms083 ~~هذا الحق. قد يحدث لبعض الأفراد تبني أفكار غيرهم، ولكنهم سيشعرون يوما بأنهم ~~يفضلون أفكارهم على أفكار الغير، وصحيح أيضا أن موسى استطاع استمالة الشعب ~~لأفكاره دون مخادعة، ولكن ذلك قد تم له بصفة إلهية فضلا عن أن موسى نفسه لم ~~يسلم من التفسيرات المعارضة له، فإذا كانت عبودية الأذهان مقبولة في النظام الملكي ~~فكيف فيمكن قبولها في نظام ديمقراطي أي في نظام تكون السلطة فيه للشعب؟ ومهما كان ~~للسلطة من حق على الشعب ومن تفسير للقوانين فإنها لا تستطيع أن تمنعه حقه في ~~إصدار حكمه أو في أن يشعر بما يريد. صحيح أن السلطة تعتبر من لا يعتنق وجهة ~~نظرها عدوا لها، ولكننا لا نبحث هنا الحد الأقصى لسلطة الحاكم، بل أفضل أنواع ~~السلوك والأصلح منها له. صحيح أيضا أنه يستطيع الحكم بالإعدام لأتفه الأسباب، ولكن ~~يكون حكمه معارضا للعقل. إن أسلوب القهر خطر على الدولة نفسها؛ لذلك يكون حق ~~السلطة بمقدار قدرتها. فكل من يتنازل عن حقه في الحرية يظل سيد نفسه، وتقع ~~الكارثة عندما تجبر السلطة أعضاء المجلس القومي على التفكير كما تشاء، ولكن الشعب ~~لا يستطيع الصمت طويلا. تقوم السلطة على القهر والعنف عندما تسلب المواطنين حرية ~~التفكير وتفرض عليهم آراءها، وتشعر بالنيل منها إذا ما سلمت للمواطنين بحرية ~~القول والعمل. # إن الغرض من إقامة نظام سياسي ليس السيادة أو القهر أو إخضاع الشعب لنير فرد ~~واحد، بل التحرر من الخوف بحيث يعيش كل فرد في سلام، ~~أي المحافظة على الحق الطبيعي في الحياة وفي ~~السلوك، ليس الغرض من أي نظام سياسي تحويل البشر إلى حيوانات أو آلات، بل الحصول ~~على سلامة الذهن والبدن، أي إن غرض التنظيم في المجتمع هو الحرية. # وتنشأ السلطة في المجتمع، إما عن الجماعة أو من بعض الأفراد أو من فرد واحد. ولما ~~كان لكل فرد حكمه الخاص فإنه فوض للسلطة العليا حقه دون أن يتنازل عن ~~حريته في التفكير وإصدار الأحكام بشرط الاعتماد على العقل لا على الحيلة والخداع، ~~ودون ms084 أن يكون دافعه على ذلك الحقد والكراهية وإلا كان متمردا ؛ على هذا النحو، ~~يستطيع أن يعبر عما يفكر فيه دون أن يمس سلامة الدولة وأمنها الداخلي، وعليه أن ~~يقبل إجراءات السلطة حتى ولو كانت معارضة لآرائه الشخصية، يدفعه في ذلك إيمانه ~~بالقيم المقدسة، فالسلطة هي القائمة على العدالة، وتصل إلى حد الاعتدال عندما ~~تسلم بحرية الآخرين والقرارات التي تأخذها تصدر عن الجمعية العامة بالإجماع ~~على الرغم من معارضة بعض الأعضاء. # ولكن ما الآراء التي تهدد كيان الدولة؟ إنها الآراء التي تهدد بفسخ العقد الذي ~~فوض به المواطنون حقهم للسلطة العليا، مثل الآراء الفوضوية قولا وعملا. أما ~~الآراء التي لا يترتب عليها نتيجة فعلية تهدد سلامة الدولة فلا تعتبر جرما ~~إلا في دولة يترأسها متعصب أحمق يريد إرهاب الناس. وهناك بعض الآراء التي ~~تصدر عن سوء نية طبقا لحرية الفكر، ولكن مقياس الإخلاص للسلطات هو الأعمال، ~~وعلى رأسها الإحسان للجار. أفضل النظم السياسية هي التي تسمح للفرد بحرية التفكير، ~~وقد اعترف له الإيمان من قبل بهذه الحرية. قد تسبب هذه الحرية بعض المتاعب ~~للسلطات، ولكن هذه المتاعب أقل بكثير مما لو سلب المواطنون هذه الحرية. وإن ~~وضع الإنسانية كلها تحت سيطرة القوانين يأس من العيوب لا إصلاح لها. ومن الأفضل ~~السماح بالنشاط الحر إذا كان من الصعب منعه، وهناك الانفعالات التي لا يمكن القضاء ~~عليها. # إن الحرية هي العامل الأساسي لتقدم العلوم والفنون، فلو حدث أن فرضت السلطة ~~على المواطنين أفكارها، فإنها لن تستطيع أن تجعل أفكارهم مطابقة لأفكارها، وبذلك ~~ينتهي المواطنون إلى النفاق، ويقولون ما لا يعملون، ويضيع حسن النية، ويسود الخداع ~~والمحاباة، ويعم السقوط. كلما سلبت منهم الحرية زاد السقوط، وكلما التجئوا ~~إلى باطنهم ليعثروا فيه على حريتهم، فاض بهم الكيل وناصبوا السلطة العداء ~~علنا، وأثاروا القلاقل والفتن. فهذه هي الطبيعة ~~الإنسانية، ويكون القانون هو السبب في إثارة دعاة الخير لا في كبح جماح الظالمين، ~~ويكون تطبيق القانون أعظم خطر يهدد الدولة التي يرفضها الأحرار ويتملقها ~~الانتهازيون، ويصعب على ms085 السلطة حينئذ التراجع عما هي فيه، وكم نشأت من الفرق ~~والطوائف لأن السلطة أرادت وضع حد لحرية الفكر. إن القوانين تهدف إلى تهدئة المشاعر ~~لا إلى إثارتها. أليس الأجدر إذن أن تراعى عواطف الجماهير من أن توضع لها قوانين ~~عاجزة؟ في مثل هذه الدولة يصبح المواطنون أعداء الدولة لأنهم لا يعرفون الجبن، ويسقط ~~الشهداء، ويلحق العار بالسلطات، فلا يرهب المواطنون الموت، ولا يطلبون العفو، ~~ويقبلون الشهادة لغاية شريفة، ويكونون شهداء الحرية، يتبعهم بعض المواطنين في ~~حين يصفق البعض الآخر للجلادين. # أما إذا أردنا أن نعيد للمواطنين حسن النية وأن تمارس السلطات حقها في أفضل ~~الظروف الممكنة يجب عليها التسليم بحرية المواطنين في التفكير وفي الحكم، فتقل ~~المتاعب، وذلك أقرب للطبيعة الإنسانية، والديمقراطية هي أقرب النظم إليها، ~~ففيها يعمل كل فرد ويفكر دون أن يصب عمله وفكره في قالب واحد، وفيها تحظى ~~فكرة الغالبية العظمى بموافقة الجميع مع الاحتفاظ بحق إلغائها في المستقبل لو دعت ~~الظروف إلى ذلك، ولو وجدت هناك فكرة أصلح منها. لا تمثل إذن حرية المواطنين أي ~~خطر على السلطة وهيبتها، فإذا سلبت هذه الحرية سقط الشهداء وظهرت الدعوة ~~للشهادة ويصفق أصحاب السلطة وأنصارها، والمصفقون لها الذين يقومون باغتصاب ~~السلطة بعد ذلك؛ لذلك، إذا أردنا المحافظة على سلامة الدولة يجب أن يقتصر الدين ~~على ممارسة العدل والإحسان، كما يجب أن يقتصر عمل السلطة على توجيه أعمال ~~المواطنين في شئون الدين والدنيا دون أن تسلبهم حريتهم في التفكير والتعبير. ~~ويلخص سبينوزا ذلك كله في مبادئ ستة تكون الدستور الشامل وهي: ~~(1) # يستحيل سلب الناس حرية التفكير والتعبير. ~~(2) # لا يهدد الاعتراف بالحرية الفردية هيبة السلطة أو حقها. ~~(3) # لا يمثل التمتع بالحرية الفردية أي خطر على سلامة ~~الدولة. ~~(4) # لا تهدد الحرية الإيمان بالأديان. ~~(5) # تعجز القوانين الصادرة عن تنظيم الأمور النظرية. ~~(6) # ضرورة الحرية الفردية للمحافظة على السلام وعلى الإيمان وعلى حق ~~السلطة العليا. # 123 # وهنا ينتهي سبينوزا من رسالته «وفيها تتم البرهنة على أن حرية التفلسف لا ~~تمثل خطرا على التقوى أو على السلام ms086 في الدول، بل إن القضاء عليها يؤدي إلى ~~ضياع السلام والتقوى ذاتها.» # | رسالة في اللاهوت والسياسة1 # | # وفيها تتم البرهنة على أن حرية التفلسف لا تمثل خطرا على التقوى # 2 # أو على سلامة الدولة # 3 # بل إن في القضاء عليها قضاء على سلامة الدولة وعلى التقوى ذاتها في ~~آن واحد. # وبهذا نعلم أننا نثبت فيه وهو فينا بأنه آتانا من روحه. # 4 ~~(يوحنا، الرسالة الأولى، 4: 13) # | مقدمة المؤلف # لو استطاع الناس تنظيم شئون حياتهم وفقا لخطة مرسومة، أو كان الحظ مؤاتيا لهم ~~على الدوام، لما وقعوا فريسة للخرافة، ولكننا كثيرا ما نراهم وقد وقعوا في ~~مأزق يبلغ من الحرج حدا لا يستطيعون منه خلاصا. ولما كانوا يتقلبون بلا ~~هوادة بين الخوف والرجاء لحرصهم الشديد على النعم الزائلة التي يجلبها القدر، ~~فإنهم يميلون دائما أشد الميل إلى التصديق الساذج، فإذا ساورهم الشك في شيء ~~حركهم أقل دافع إلى هذا الجانب أو ذاك، ولا سيما عندما يكون الدافع لهم الخوف أو ~~الرجاء. أما في لحظات الثقة بالنفس فيركبهم الزهو والغرور، وهذا أمر لا يجهله ~~أحد - فيما أظن - وإن كان معظم الناس لا يطبقونه على أنفسهم، ولا يوجد شخص واحد ~~عاش بين الناس إلا لحظ أن معظمهم، حتى أقلهم خبرة، يفيضون في أيام الرخاء ~~حكمة، حتى إن مجرد توجيه النصح لهم يعد إهانة، أما في وقت الشدة فيتغير ~~كل شيء إذ لا يعرفون ممن يطلبون النصح وهم يلتمسونه من كل من يصادفهم، ~~ويعملون بأشد النصائح بطلانا وتناقضا وزيفا، ومن ناحية أخرى، تكفي أقل الدوافع ~~شأنا لتثير فيهم الخوف أو الرجاء. ففي حالة الخوف مثلا، إذا أثارت فيهم حادثة ما ~~ذكرى سارة أو مؤلمة فإنهم يرون فيها علامة لنتيجة سارة أو مؤلمة؛ ولهذا ~~السبب فإنهم يتحدثون عن الفأل الحسن أو السيئ مع أن التجربة قد كذبته مئات ~~المرات، وإذا أثار منظر غير مألوف دهشتهم فإنهم يظنون أنهم شهدوا إحدى الخوارق # 1 # التي تكشف عن غضب الآلهة أو عن الإله الأعظم، ويظنون أنهم ابتعدوا عن ~~التقوى إذا لم يتجنبوا وقوعها بالقرابين ms087 والنذور؛ لأنهم يؤمنون بالخرافة ولا يعرفون ~~حقيقة الدين، وهكذا يختلقون عددا من القصص الخرافية يفسرون بها الطبيعة ويرون ~~الخوارق شائعة فيها، وكأن الطبيعة تهذي كما يهذون. في مثل هذه الظروف يكون أشد ~~الناس اقتناعا بمثل هذه الخرافات هم أكثر رغبة في الحصول على النعم الزائلة، ~~ولما كانوا في وقت الخطر لا يجدون من أنفسهم عونا، فإنهم يطلبون العون الإلهي ~~بصلواتهم ودموعهم كما تفعل النساء ويعلنون أن العقل أعمى، (لأنه عاجز عن إرشادهم إلى ~~وسيلة يقينية للحصول على النعم الزائلة التي يتوقون إليها) ويرون أن الحكمة الإنسانية ~~غرور، وهم في مقابل ذلك يعدون هذيان الخيال والأحلام وكل بلاهة صبيانية ~~إجابات إلهية، بل ويظنون أن الله يبتعد عن الحكماء، وأن الله لا يودع أوامره ~~في أرواح البشر، بل في أحشاء الحيوانات المستأنسة أو أن البلهاء والمجانين والطيور ~~هم الذين يبلغوننا إياها بالغريزة أو بروح إلهية، # 2 # وهكذا نرى إلى أي حد من البله يدفع الخوف البشر! فالخوف إذن هو السبب ~~في وجود الخرافة وفي الإبقاء عليها وتقويتها، فإذا ما طلب مني أحد أمثلة ~~محددة تؤيد ما قلته من قبل فسوف أذكر له مثل الإسكندر، فلم يبدأ الإسكندر في ~~استشارة العرافين والاستسلام للخرافة إلا بعد أن أصبح يخاف على مصيره وهو على ~~أبواب سوس (انظر: كيونتوس كوريتوس، الكتاب الخامس، 4)، # 3 # وبعد أن انتصر على داريوس لم يلتجئ إلى تكهنات العرافين حتى أتى اليوم ~~الذي انتابه فيه جزع شديد، إذ تركه البكتريون وناوشه السكيثون وعجز عن الحركة ~~متأثرا بجراحه «فعاد فريسة للخرافة» (وهذه هي عبارات كوينتوس كوريتوس نفسها، ~~الكتاب السابع، 7)، «هذا الوهم الذي ينتاب الروح الإنسانية، وطلب من أرستاندر الذي ~~كان موضع تصديقه، أن يقدم القرابين كي يتنبأ بمجرى الحوادث في المستقبل.» ~~وهناك أمثلة كثيرة توضح هذا الشيء نفسه، وهو استسلام الناس للخرافات ما دام الخوف ~~ينتابهم، ويتوجهون بعبادتهم التي لا طائل وراءها إلى أشباح وإلى متاهات خيالية ~~لنفس حزينة خائفة. وأخيرا، فإن سلطان العرافين لم يمتد إلى الجمهور ولم يخشهم ~~الملوك إلا في أسوأ الظروف ms088 التي تمر بها الدولة، ولكني لن أطيل في هذه ~~الاعتبارات التي يعرفها الناس جميعا. # ولما كان الخوف سبب الخرافة كما قررنا من قبل، وليس سببها كما يدعي البعض فكرة ~~غامضة من الألوهية موجودة في أذهان البشر، فإننا نلحظ أن كل الناس يميلون إليها ~~بطبيعتهم، كما نلحظ أنها لا بد أن تكون متغيرة ومتقلبة إلى أقصى حد، شأنها في ~~ذلك شأن معظم أوهام النفس ودوافع الجنون الشديد. ونلحظ أخيرا أن الخرافة لا ~~تعتمد إلا على التمني والحقد والغضب والخداع؛ لأنها لا تقوم على العقل بل تقوم على ~~الانفعال وحده وعلى أقوى الانفعالات كلها؛ وعلى ذلك فكلما استسلم الناس بسهولة إلى ~~جميع أنواع الخرافات صعب عليهم التمسك الدائم بواحدة منها. ولما كان عامة ~~الناس أشقياء دائما فإنهم لا يصلون أبدا إلى حالة رضاء دائمة، ولا يجدون تخفيفا ~~لشقائهم إلا بأوهام جديدة يسعدون بها لأنها لم تخدعهم بعد، وقد كان هذا التقلب ~~سببا في اضطرابات عديدة وحروب بشعة. يتضح إذن مما سبق وكما لحظ كوينتوس ~~كوريتوس بدقة أيضا (الكتاب الرابع، الفصل العاشر) أن «الخرافة هي أكثر الوسائل ~~فاعلية لحكم العامة.» ولذلك كان من السهل باسم الدين دفع العامة تارة إلى ~~عبادة الملوك كأنهم آلهة ودفعهم تارة أخرى إلى كراهيتهم ومعاملتهم وكأنهم ~~طامة كبرى على الجنس البشري. وتجنبا لهذا الشر اتجهت العناية، بحرص شديد، ~~إلى تجميل الدين - حقا كان أو باطلا - بالشعائر والمراسم التي تزيد من أهميته وتضمن ~~له احتراما دائما بين المؤمنين. (ولم تنجح هذه الإجراءات في أي مكان بقدر ما ~~نجحت عند المسلمين، حيث تعد المناقشة اليسيرة كفرا وحيث تطغى الأحكام السابقة ~~على الحكم الصحيح، وحيث لا يمكن للعقل السليم أن يدلي برأي أو أن يبدي مجرد ~~شك بسيط). # 4 # إن السر الكبير في النظام الملكي ~~ومصلحته الحيوية هو خداع الناس وإضفاء اسم الدين على الخوف الذي تتم به السيطرة ~~عليهم، بحيث يناضلون من أجل عبوديتهم، وكأن فيها خلاصهم، ويعتقدون أنهم ينالون أسمى ~~مراتب الشرف - لا أنهم يلحقون بأنفسهم العار - عندما يريقون دماءهم ms089 ويضحون ~~بحياتهم إرضاء لغرور فرد واحد. وعلى العكس من ذلك فلا يمكننا في جمهورية حرة أن ~~نتصور أو أن نأخذ على عاتقنا شيئا أشر من ذلك؛ لأن الحرية العامة لا تسمح بأن ~~يقوم الحكم الفردي على الأحكام السابقة أو أن يخضع لأي قهر، أما الفتن التي تثار باسم ~~الدين فلا تحدث إلا عند سن قوانين متعلقة بموضوعات النظر والتأمل، فتدان بعض ~~الآراء على أنها جرائم ويقع أصحابها تحت طائلة العقاب، ويلقى أنصارها ودعاتها حتفهم ~~لا من أجل مصلحة الدولة بل لكراهية أعدائهم لهم وقسوتهم عليهم. ولو كان القانون العام ~~يقضي بأن «الأفعال وحدها هي التي تخضع للقانون، أما الأقوال فلا تخضع مطلقا ~~للعقاب.» لما أمكن لمثل هذه الفتن أن تتمسح بالقانون، ولما تحولت الخلافات ~~في الرأي أبدا إلى فتن، ولما كان قدر لنا أن نحظى بهذه السعادة النادرة، وهي ~~أن نعيش في جمهورية يمارس فيها كل فرد حرية التعبير وعبادة الله كما يشاء، ~~ويعد الجميع الحرية أغلى النعم وأحلاها، فقد رأيت أنني لن أكون قد قمت ~~بعمل جاحد أو عقيم إذا ما بينت أن هذه الحرية لا تمثل خطرا على التقوى ~~أو على سلامة الدولة، بل إن القضاء عليها يؤدي إلى ضياعهما معا. # 5 # هذا هو الموضوع الرئيس الذي أردت البرهنة عليه في هذه الرسالة. ولكي أصل ~~إلى هذا الهدف كان علي أن أبين أولا أهم مظاهر التحيز في الدين، أي أن أبين ~~بقايا عبودية الروح القديمة، كما كان علي أيضا أن أفحص مظاهر التحيز المتعلقة ~~بحق السلطات العليا في الدولة، # 6 # إذ يحاول كثيرون ممن لا حياء لهم أن يسلبوا هذه السلطات أهم حقوقها ~~وأن يبعدوا عنها باسم الدين قلوب العامة # 7 # التي لم تتخلص بعد من خرافات الوثنيين، مما يعود بنا مرة أخرى ~~إلى الوقوع في العبودية الشاملة، وقبل أن أبين تفاصيل خطتي أبدأ الآن في شرح ~~الأسباب التي دفعتني إلى الكتابة. # لقد دهشت مرارا من رؤية أناس يفتخرون بإيمانهم بالدين المسيحي أي يؤمنون ~~بالحب والسعادة والسلام والعفة والإخلاص لجميع الناس ms090، ويتنازعون مع ذلك بخبث ~~شديد ويظهرون أشد أنواع الحقد، بحيث يظهر إيمانهم في عدائهم لا في ممارستهم ~~للفضيلة. ومنذ زمن طويل وصلت الأمور إلى حد أنه أصبح من المستحيل تقريبا ~~التعرف على نوع عقيدة الشخص، وهل هو مسيحي أو يهودي أو مسلم أو وثني، إلا من خلال ~~مظهره الخارجي ومن ملابسه أو من تردده للعبادة على هذا المكان أو ذاك، أو من قبوله ~~لهذه المعتقدات أو تلك، أو من قسمه بكلام هذا المعلم الروحي أو ذاك، وفيما عدا ~~ذلك تتشابه حياتهم تماما. ولقد بحثت عن سبب هذا الشر ووجدته دون عناء في ~~النظر إلى مهام تنظيم الكنيسة على أنها شرف وإلى وظائف القائمين بالعبادة على أنها ~~مصدر للدخل، فأصبح الدين عند العامي إسباغا لمظاهر التكريم على رجال الدين. ومنذ أن ~~شاع هذا الفساد داخل الكنيسة فقد استحوذت رغبة جارفة في دخول الكهنوت على قلوب أكثر ~~الناس شرا، وانقلب الحماس لنشر الدين إلى شهوة وطموح مزر، وتحولت الكنائس إلى ~~مسارح لا يسمع فيها الفرد علماء الدين بل خطباء الكنيسة الفصحاء الذين لا رغبة ~~لديهم في تعليم الناس بل يستهدفون إثارة الإعجاب بهم، وينالون علنا من المنشقين ~~عليهم، ويفرضون تعاليم جديدة لم يتعودها أحد لإثارة دهشة العوام. وقد أدى هذا ~~الموقف بالضرورة إلى صراع مر وإلى حسد وحقد لم تستطع السنوات الطويلة التخفيف من ~~حدتهما، فلا عجب إن لم يبق من الدين الأصلي إلا العبادة الخارجية، وهي عند ~~العامة أقرب إلى التملق منها إلى عبادة الله، إذ لم يعد الإيمان إلا تصديقا ~~أعمى بأوهام متعصبة وأية أوهام متعصبة؟! إنها أوهام أولئك الذين يحطون العقلاء ~~إلى مستوى البهائم لأنها تمنع ممارسة الحكم، وتعوق التمييز بين الخطأ والصواب، وتبدو ~~كأنها وضعت خاصة لإطفاء نور العقل. يا للعجب! لقد أصبحت التقوى وأصبح الدين ~~أسرارا ممتنعة، وأصبح أصحاب النور الإلهي لا يعرفون إلا بشدة احتقارهم للعقل ~~وبحطهم من شأن الذهن ونفورهم منه وقولهم إنه فاسد بالطبع. والحق أنهم لو كان ~~لديهم قبس طفيف فحسب من هذا ms091 النور لما تفاخروا ببلاهتهم، ولتعلموا عبادة ~~الله بطريقة أحكم، ولكسبوا الآخرين بالحب، لا بالحقد كما يفعلون الآن، ولما ناصبوا ~~العداء من يخالفونهم في الرأي بل لأشفقوا عليهم، هذا لو كانوا حريصين على خلاص ~~الآخرين، لا على حظهم في هذه الحياة الدنيا. وفضلا عن ذلك، فلو كان لديهم قبس من ~~النور الإلهي لظهر هذا النور في تعاليمهم، وأنا أعترف بأن إعجابهم بأسرار الكتاب لا ~~حد له، ولكني أرى أنهم لم يعرضوا أية نظرية سوى تأملات أفلاطون وأرسطو، ~~ووفقوا بينها وبين الكتاب المقدس كي لا يبدوا منحازين إلى الوثنية، فلم يكفهم ~~أن يضلوا مع اليونان بل أرادوا أن يضل الأنبياء معهم، وهذا يدل دلالة واضحة ~~على أنهم لم يؤمنوا بالمصدر الإلهي للكتاب ولا حتى في المنام. وكلما زاد إعجابهم ~~بالأسرار المقدسة برهنوا على أن الخضوع الأعمى للكتاب أفضل لديهم من الإيمان. # 8 # ويتضح ذلك أيضا من أن معظمهم يفترض ابتداء صحة الكتاب ومصدره ~~الإلهي، مع أن هذا الفرض يجب أن يكون نتيجة فحص دقيق لا يترك المجال لأي التباس، ~~فهم يفترضون سلفا، كقاعدة للتفسير، ما تكشفه لنا الدراسة المباشرة على نحو أفضل ~~دون الالتجاء إلى أي وهم إنساني. # هذه هي الآراء التي كانت تشغل ذهني، فالنور الفطري لم يوضع موضع الاحتقار فحسب، ~~بل إنه كثيرا ما أدين باعتباره مصدرا للكفر، وأصبحت البدع الإنسانية تعاليم ~~إلهية، وظن الناس أن التصديق عن غفلة هو الإيمان، وأثار الجدل داخل الكنيسة وفي ~~الدولة انفعالات شديدة نتجت عنها أحقاد قاسية ومنازعات وفتن بين الناس، ~~بالإضافة إلى شرور أخرى كثيرة لا يتسع المقام هنا لذكرها؛ ولذلك عقدت العزم على أن ~~أعيد من جديد فحص الكتاب المقدس بلا ادعاء وبحرية ذهنية كاملة، وألا أثبت ~~شيئا من تعاليمه أو أقبله ما لم أتمكن من استخلاصه بوضوح تام منه؛ وعلى أساس هذه ~~القاعدة الحذرة وضعت لنفسي منهجا لتفسير الكتب المقدسة. # 9 # وبعد أن وضعت هذا المنهج تساءلت أولا: ما النبوة وبأية طريقة كشف الله عن ~~نفسه للأنبياء، وما السبب في اختيار الله لهم ms092؟ هل اختارهم الله لتأملاتهم ~~السامية فيه وفي الطبيعة أم لتقواهم؟ وبعد أن أجيب عن هذه الأسئلة استطعت أن أؤكد ~~بسهولة أن أقوال الأنبياء لا يكون لها وزنها إلا على مسلك الناس في الحياة ~~والفضائل الخلقية، # 10 # وفيما عدا ذلك لا تهمنا معتقداتهم الخاصة. وبعد إثبات هذه القضية ~~الأولى بحثت عن سبب تسمية العبرانيين شعب الله المختار ووجدته في غاية السهولة: لقد ~~اختار الله لهم بقعة معينة يستطيعون أن يعيشوا فيها في راحة وأمان، وفهمت بناء ~~على ذلك أن الشرائع التي أوصى الله بها إلى موسى لم تكن إلا قانون دولة العبرانيين، ~~وبالتالي لا يمكن فرضها على أي شعب سواهم، بل إن العبرانيين أنفسهم لم يخضعوا ~~لها إلا في أثناء قيام دولتهم. ولكي أعرف إن كان الكتاب المقدس يسمح بتأييد ~~الرأي القائل بأن العقل الإنساني فاسد بالطبع فقد أردت بعد ذلك أن أبحث الدين الشامل، # 11 # أي القانون الإلهي الذي أوحي به إلى الجنس البشري كله بوساطة الأنبياء ~~والحواريين، وهل يختلف هذا الدين الشامل عن الدين الذي يتعلمه الناس بالنور الفطري، ~~وكذلك تساءلت عما إذا كانت المعجزات قد حدثت مناقضة لنظام الطبيعة وهل تثبت ~~وجود الله وعنايته # 12 # بيقين ووضوح يزيد عما تثبتها به معرفتنا الواضحة والمتميزة ~~للأشياء من خلال عللها الأولى. ولم أجد فيما يعلنه الكتاب صراحة شيئا يخالف ~~العقل أو يناقضه، ووجدت أن التعاليم التي أتى بها الأنبياء سهلة للغاية يسهل على ~~الجميع إدراكها، وكل ما في الأمر أن هذه التعاليم قد عرضت بأسلوب شاعري واستندت ~~إلى أقدر الحجج على حض عامة الناس على طاعة الله. وبناء على ذلك، فقد اقتنعت ~~اقتناعا جازما بأن الكتاب يترك للعقل حريته الكاملة، وبأنه لا يشترك مع ~~الفلسفة في شيء، بل إن لكل منهما ميدانه الخاص. # ولكي أبرهن على هذا الرأي بدقة وأوضحه إيضاحا تاما، أعرض الآن المنهج ~~الذي يجب اتباعه في تفسير الكتاب، وأبين بوجه خاص أنه يجب استخلاص كل ~~التعاليم الخاصة بالجوانب الروحية من الكتاب نفسه دون الالتجاء إلى ما نعرفه ~~بالنور الفطري، ثم ms093 أنتقل إلى تحليل الأحكام المسبقة الباطلة عند العامة (الذين ~~ما زالوا أسرى الخرافة والذين يفضلون على الخلود نفسه بقايا الزمن الغابر) التي ~~تجعله يعبد أسفار الكتاب بدلا من أن يقدس كلام الله. بعد ذلك أبين أن الكلام ~~الذي أوحى به الله ليس عددا معينا من الأسفار بل فكرة يسيرة من الأفكار الإلهية ~~أوحي بها للأنبياء، وأعني بها وجوب طاعة الله بروح خالصة، وذلك بممارسة العدل ~~والإحسان، وسأبين أن الكتاب يعلم هذه العقيدة على قدر أفهام ومعتقدات أولئك الذين ~~اعتاد الأنبياء والحواريون تبشيرهم بكلام الله، وهو تحوط كان ضروريا من أجل ضمان ~~إيمان الناس جميعا دون مقاومة أو تحفظ. وبعد أن أقمت على هذا النحو أسس ~~الإيمان، أبين أن المعرفة الموحى بها لا تتناول إلا جانب الطاعة، وبذلك ~~تتميز تميزا تاما عن المعرفة الطبيعية من حيث موضوعها ومن حيث مبادئها ~~ووسائلها. ولما كانت هاتان المعرفتان لا تشتركان في شيء، فلكل منهما أن تعمل ~~في ميدانها دون أدنى تعارض ودون أن تخضع إحداهما للأخرى. ولما كان الناس ~~مختلفين في تكوينهم الذهني فيؤمن أحدهم بمعتقدات لا يؤمن بها الآخر، ويحترم ~~أحدهم ما يثير ضحك الآخر، فقد انتهيت بالضرورة إلى أنه ينبغي أن تترك لكل فرد ~~حرية الحكم وحقه في تفسير الإيمان كما يفهمه، وأن تكون الأعمال وحدها مقياس إيمان ~~كل فرد باتفاقها أو اختلافها مع التقوى. وهكذا، يستطيع الجميع إطاعة الله بحرية ~~ورضى ولا يحرصون جميعا إلا على العدل والإحسان، وبعد أن بينت أن القانون ~~الإلهي يمنح هذه الحرية لجميع الناس أنتقل إلى الشق الثاني من الموضوع، وهو أنه ~~يمكن، بل يجب، إعطاء الحرية لجميع الناس دون أن تتعرض سلامة الدولة ويلحق بها ~~ضرر بالغ. وللبرهنة على ذلك أبدأ بالحق الطبيعي # 13 # للفرد. هذا الحق ليس له من حد سوى رغبة الفرد وقدرته؛ فالحق الطبيعي ~~لا يحتم على أي شخص أن يعيش على هوى الآخر، بل إن كل فرد هو الضامن ~~لحريته الخاصة، كما أبين أنه لا يمكن لأحد أن يتخلى عن هذا الحق ms094 إلا من ~~يفوض لفرد آخر قدرته على الدفاع عن نفسه، بحيث يكون صاحب الحق الطبيعي ~~المطلق هو بالضرورة من فوض إليه الجميع قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم وحقهم في ~~أن يحيوا كما يشاءون، وبذلك أبرهن على أن لممثلي السلطة العليا في الدولة ~~الحق في القيام بكل ما تسمح به طاقتهم، وهم المسئولون وحدهم عن الحق وعن ~~الحرية، وعلى الآخرين تنفيذ أوامرهم. ولكنه لما كان كل فرد لا يستطيع أن ~~يتنازل عن قدرته في الدفاع عن نفسه إلى الحد الذي يلغي فيه وجوده كإنسان، فإني ~~أستدل من ذلك على أنه لا يمكن لأي فرد أن يفقد حقه الطبيعي بأكمله، وعلى أن ~~الرعايا يحتفظون بحقوق معينة هي أشبه ما تكون بامتيازات طبيعية لا يمكن أن ~~تسلب منهم إلا بتعريض الدولة لخطر شديد؛ وعلى ذلك فإما أن يسلم لهم بهذه الحقوق ~~ضمنا، أو باتفاق صريح مع القائمين بالحكم. وبعد الانتهاء من هذه المسائل أنتقل إلى ~~جمهورية العبرانيين فأتحدث عنهم بالتفصيل مبينا لم أخذ الدين فيها قوة ~~القانون، ومن هم الذين تم على يديهم ذلك، وأذكر أيضا تفصيلات أخرى تستحق أن ~~تعرف؛ وسأبرهن في النهاية على أن ممثلي السلطة الحاكمة ليسوا هم الأمناء على ~~القانون المدني # 14 # ومفسريه فحسب بل هم الأمناء أيضا على القانون المقدس ومفسروه، ~~ولهم وحدهم الحق في التمييز بين العدل والظلم، وبين التقوى والفسوق، والنتيجة التي ~~أنتهي إليها هي أنه، لكي تحتفظ الدولة بهذا الحق على أحسن وجه وتضمن سلامتها، يجب ~~أن يكون كل فرد حرا في أن يفكر فيما يريد وأن يعبر عن تفكيره. # قارئي الفيلسوف! هذا هو الكتاب الذي أضعه بين يديك، وإن أهمية موضوعه وفوائده ~~العملية؛ سواء نظر إليه في مجموعه أم في كل فصل من فصوله، لتجعلني على يقين ~~تام من أنه لن يجد لديك قبولا سيئا. وقد كنت أود أن أضيف أشياء أخرى، ولكني ~~لا أريد أن تطول مقدمتي وتصبح كتابا، هذا فضلا عن أنني أعتقد أن ~~الفلاسفة يعرفون بالتفصيل أهم ما في هذا الموضوع. أما ms095 غير الفلاسفة فإني ~~أنصحهم بألا يقرءوا رسالتي هذه لأني لا أرى سببا يجعلني آمل أن يحظى الكتاب ~~بقبولهم. والواقع أني أعلم مدى تشبع نفوسهم بالأحكام المسبقة التي يعتنقها كثير ~~من الناس باسم التقوى، كما أعلم أنه يستحيل تخليص النفوس العامة من الخرافة ومن ~~الخوف، فالعناد شيمتهم، إذ لا يحكمهم العقل بل يسيرهم الانفعال في إصدار ~~المدح أو اللوم؛ لذلك، فإني لا أدعو العامة أو من يسيرون على هوى انفعالاتهم إلى ~~قراءة هذا الكتاب. وإنه لأفضل لي أن يتجاهلوه تماما، من أن يؤولوه تأويلا خاطئا ~~كعادتهم دائما؛ ذلك لأنهم لن يستفيدوا منه، بل سيجدون فيه وسيلة لإيقاع الشر ~~وللإساءة إلى بعض الفلاسفة الأحرار الذين لا يعتقدون بوجوب وضع العقل في خدمة ~~اللاهوت، فلهؤلاء الأخيرين وحدهم أعتقد أن كتابي سيكون مفيدا. # ونظرا إلى أنه ربما لا يكون لبعض قرائي الوقت أو الرغبة في قراءة الكتاب كله، ~~فإني أعلن في هذه المقدمة - كما سأعلن أيضا في نهاية الرسالة - أني أضع عن طيب ~~خاطر كل ما كتبت أمام السلطات العليا # 15 # في وطني لكي تفحصه وتصدر حكمها عليه، فإذا رأت أني قلت شيئا مناقضا ~~لقوانين وطني أو للمصلحة العامة فإني أسحب ما قلته، وأنا أعلم تماما أني بشر ~~وأني معرض للخطأ، ولكني على الأقل حاولت بكل جهدي ألا أقع في الخطأ، ~~وألا أكتب شيئا لا يتفق اتفاقا تاما مع قوانين وطني، ومع التقوى والأخلاق ~~الحميدة. # الفصل الأول # | النبوة # النبوة أو الوحي هي المعرفة اليقينية التي يوحي الله بها إلى البشر عن شيء ما، ~~والنبي هو مفسر ما يوحي الله به لأمثاله من الناس الذين لا يقدرون على الحصول على ~~معرفة يقينية به، ولا يملكون إلا إدراكه بالإيمان وحده، ويسمي العبرانيون النبي «نبيا» # 1 ~~⋆ # أي ~~خطيبا أو مفسرا، ويستعمل في الكتاب بمعنى مفسر الله كما هو واضح في الإصحاح 7 ~~الآية 1 من سفر الخروج. يقول الله لموسى: «انظر قد جعلتك إلها لفرعون وهارون أخوك يكون ~~نبيك.» وكأنه يقول: لما كان هارون بتفسيره كلام موسى لفرعون يقوم بدور النبي ms096، ~~تكون أنت (يا موسى) كإله فرعون أي من يقوم بدور الله . # وسنتناول موضوع الأنبياء في الفصل القادم، ولنبدأ هنا بفحص النبوة: ينتج من ~~التعريف الذي قدمناه من قبل أن النبوة تتطابق تماما مع المعرفة الفطرية؛ لأن ما ~~تعرفه بالنور الفطري يعتمد على معرفة الله وحدها وعلى أوامره الأزلية. # 2 # ولما كانت هذه المعرفة مشتركة بين الناس لأنها تعتمد على مبادئ ~~يعتنقها الجميع، فإنها لا تمثل أية أهمية للعامي الذي يولع بالنوادر والعجائب، ~~ويحتقر كل هبة فطرية ويعتقد أنه يستبعدها حين يتحدث عن المعرفة النبوية، ومع ~~ذلك فإن للمعرفة الفطرية الحق نفسه الذي يكون لأية معرفة أخرى في أن تسمى معرفة ~~إلهية؛ لأنها أثر من آثار الطبيعة الإلهية، بقدر ما نشارك فيها، وأثر أيضا من ~~آثار الأوامر الإلهية. هذه المعرفة الطبيعية لا تختلف عن تلك التي يتفق الجميع على ~~تسميتها بالمعرفة الإلهية إلا في نقطة واحدة هي أن هذه المعرفة الإلهية تتعدى ~~حدود المعرفة الفطرية، ولا يمكن تفسيرها بقوانين الطبيعة الإنسانية من حيث هي كذلك، ~~ولكن المعرفة الفطرية لا تقل مطلقا عن المعرفة النبوية من حيث يقينها الذي تتميز به، # 3 # ومن حيث مصدرها الذي تصدر عنه (وهو الله) إلا إذا شئنا أن نظن أو ~~بالأحرى أن نحلم (ونتخيل) أن للأنبياء بدنا إنسانيا، وليست لهم روح إنسانية، # 4 # بحيث تختلف إحساساتهم ومشاعرهم في طبيعتها عن إحساساتنا ومشاعرنا. # ومع أن المعرفة الفطرية معرفة إلهية بمعنى الكلمة، فإننا لا يمكن أن نسمي من ~~يقومون بنشرها أنبياء، إذ يستطيع كل فرد أن يدرك تعاليم المعرفة الفطرية ويفهمها ~~باليقين نفسه، دون الاعتماد على الإيمان وحده. # 5 ~~⋆ # لذلك، لما كان ذهننا قادرا على تكوين بعض ~~الأفكار التي توضح طبيعة الأشياء والتي توجهنا في الحياة العملية، لا لشيء إلا ~~لأنه ينطوي موضوعيا على طبيعة الله ويشارك فيها، فمن حقنا أن نسلم بأن السبب ~~الأول لكل وحي يرجع إلى طبيعة الذهن الإنساني منظورا إليه على أنه قادر على ~~المعرفة الفطرية. وكما قلنا من قبل، فإن كل ما نعرفه بوضوح وتميز تمليه علينا ms097 ~~فكرة الله وطبيعته لا بالأقوال، ولكن بوسيلة أرفع من ذلك بكثير ، متفقة تماما مع ~~طبيعة ذهننا، ومن ذاق اليقين العقلي الكامل # 6 # يعرف تماما ماذا أقصد. ولكن لما كان موضوعي الأساسي هو الحديث عن ~~الكتاب المقدس وحده، فلن أفيض في شرح النور الفطري بل سأنتقل إلى الحديث بمزيد ~~من الإسهاب والوسائل الأخرى التي يتبعها الله في الكشف للناس عما يتجاوز حدود ~~المعرفة الفطرية، وربما لا يتجاوزها (إذ ليس هناك ما يمنع من أن يتبع الله ~~طرقا مختلفة لتبليغ الناس بما يعرفونه من قبل بالنور الفطري). # ومهما يكن من شيء، فإننا يجب أن نستخلص هذه الأسباب والوسائل من الكتاب المقدس ~~وحده، فكيف يمكننا الحديث عما يتعدى حدود ذهننا دون الرجوع إلى ما نقله ~~الأنبياء لنا شفاها أو كتابة؟ ولما كان ظهور الأنبياء في أيامنا هذه قد انقطع - على ~~ما أعلم - فلنكتف بفحص الكتب المقدسة التي تركها الأنبياء السابقون دون أن ~~نتقول شيئا يتعلق بهذا الموضوع أو ننسب إلى الأنبياء شيئا لم يقولوه هم أنفسهم ~~بوضوح تام. ومع ذلك، يجب أن ننوه هنا بأن اليهود لم يذكروا مطلقا العلل ~~المتوسطة، أي العلل الجزئية بل أهملوها تماما مفوضين كل شيء إلى الله ~~بدافع من ورعهم الديني أو كما نقول عادة بدافع من تدينهم الشديد، # 7 # فمثلا إذا حققوا ربحا من بعض الأعمال يقولون: إن الله قد أعطاهم المال، ~~وإذا رغبوا في شيء ما يقولون: إن الله هيأ قلوبهم على نحو ما، وإذا خطر ببالهم ~~شيء يقولون: إن الله قد تحدث إليهم بهذا؛ لذلك، يجب ألا نعتقد عندما نقرأ في ~~الكتاب عبارة قال الله إن هناك نبوة أو معرفة تعلو على الطبيعة إلا عندما يؤكد ~~الكتاب ذلك بصريح العبارة، أو عندما تؤكد ظروف الرواية أن نبوة أو وحيا قد حدث ~~بالفعل. # وعندما نفحص الكتب المقدسة نجد أن الله قد أوحى للأنبياء بالكلام أو بالمظاهر ~~الحسية أو بالطريقتين معا، وفي بعض الأحيان يكون الكلام والمظهر الحسي حادثا ~~بالفعل، لم يتخيله النبي لحظة سماعه أو رؤيته، وأحيانا أخرى ms098 يكون مجرد خيالات، ~~بحيث تكون مخيلة النبي مهيأة، حتى وهو في اليقظة، على نحو يجعله يتخيل أنه ~~يسمع صوتا أو يرى شيئا بوضوح. # مثال ذلك أن الله قد أوحى لموسى الشرائع التي سنها للعبرانيين بصوت حقيقي، ~~ويخبرنا سفر الخروج بذلك (25: 22): «فأجتمع بك هناك، وأخاطبك من فوق الغشاء من بين الكروبيين.» # 8 # فهذا يدل على أن الله استخدم صوتا حقيقيا، بدليل أن موسى كلما ~~أراد أن يتحدث الله إليه وجده مجيبا لرغبته. ولكن، باستثناء هذا الصوت الذي أبلغ ~~الشريعة، لم يسمع أي نبي كان - كما سأبين فيما بعد - أي صوت حقيقي ~~آخر. # وربما كنت أجد نفسي ميالا إلى اعتبار صوت الله الذي ينادي به صموئيل في الكتاب ~~حقيقيا لأننا نقرأ في صموئيل # 9 ~~(الأول، 3: الآية الأخيرة): «وعاد الرب يتراءى في شيلو لأن الرب ~~تجلى لصموئيل في شيلو بكلمة الرب.» والواقع أن النص يبدو كما لو كان يشير إلى ~~أن حضور الله هو ظهوره بكلمة أو بسماع صموئيل لله وهو يتكلم. ومع ذلك، لما كان من ~~الضروري ضرورة مطلقة أن نفرق بين نبوة موسى ونبوة غيره من الأنبياء، فإننا ~~مضطرون إلى أن نؤكد أن الصوت الذي سمعه صموئيل كان من صنع الخيال، فضلا عن ~~أن الصوت كانت له نبرة صوت عالي # 10 # الذي كان صموئيل يسمعه عادة، ومن ثم كان يسهل عليه تخيله. ولما ~~ناداه الله ثلاث مرات ظن أنه سمع عالي. على أية حال كان الصوت الذي سمعه أبيملك # 11 # من صنع الخيال لأننا نقرأ (التكوين، 20: 6): «فقال الله له في الحلم ... ~~إلخ.» فهو إذن لم يكن يقظا بل نائما (أي في حالة يميل فيها الخيال بطبيعته إلى ~~خلق أشياء لا وجود لها) عندما استطاع أن يتخيل إرادة الله. # بل إن بعض اليهود يرون أن الله لم ينطق بألفاظ الوصايا العشر حرفيا، ويعتقدون ~~أن الإسرائيليين سمعوا مجرد ضوضاء عالية لا تتميز فيها الكلمات، وخلال هذه ~~الضوضاء أدركوا بالفكر الخالص الوصايا العشر. ولقد كنت أنا شخصيا أميل إلى هذا ~~الرأي بعد أن لحظت أن نص الوصايا العشر ms099 يختلف في سفر الخروج عنه في سفر التثنية، ~~فبدا لي بناء على ذلك (نظرا إلى أن الله لم يتكلم إلا مرة واحدة) أن الوصايا ~~العشر لا تنقل إلينا كلمات الله بعينها، بل تعبر عن معناها فحسب، ومع ذلك إذا لم ~~نشأ تحريف الكتاب يجب أن نسلم، على أية حال، بأن الإسرائيليين قد سمعوا صوتا ~~حقيقيا، فنحن نقرأ صراحة (التثنية، 5: 4): «وجها لوجه تكلم إليكم الرب.» أي كما ~~تنتقل الأفكار من شخص لآخر بتوسط بدنهما، # 12 # فلكي نكون أكثر اتفاقا مع الكتاب نقول: إن الله قد خلق صوتا ~~حقيقيا ليوحي من خلاله بالوصايا العشر، أما سبب اختلاف الكلمات وطريقة العرض من ~~سفر لآخر فذلك مذكور في الفصل الثامن. ومع ذلك، فإن الحل الذي أقترحه لا يحل ~~جميع جوانب المشكلة، لأنه من غير المعقول أن صوتا مخلوقا يعتمد على الله كأي ~~مخلوق آخر يمكنه أن يعبر باسمه ويبين ماهية الله ووجوده بالوقائع أو بالكلام ~~ويقول بضمير المتكلم: أنا ياهو ربكم. والحقيقة أنه لو نطق إنسان بفهمه وقال ~~لقد فهمت؛ فلن يظن أحد أن الفهم قد فهم، بل إن الذي فهم هو ذهن الإنسان ~~الذي يتكلم. ولما كان الفهم جزءا من طبيعة الإنسان، وكان الإنسان الذي تتوجه ~~إليه هذه الكلمات يدرك طبيعة الذهن فإنه يفهم قياسا على نفسه فكر من يستمع ~~إليه. ولكن، لما كان العبرانيون لا يعلمون من الله، حتى ذلك الحين إلا اسمه، ~~ويريدون الحديث إليه حتى يتأكدوا من وجوده، فإني لا أعلم كيف يتم تحقيق ~~مطلبهم بصوت مخلوق يقول: أنا الله (إذ لا تختلف علاقة هذا الصوت بالله عن علاقة ~~المخلوقات الأخرى به، وهو «أي الصوت» لا يكون جزءا من طبيعته). وإني أتساءل حقا: ~~لنفرض أن الله قد حرك شفتي موسى - ولماذا أقول موسى؟ ~~لنفرض أنه حرك شفتي حيوان ما على نحو يجعلها ~~تعبر عن الكلمات: «أنا الله» وتنطق بها، فهل يكونون قد عرفوا الله بهذه الطريقة؟ ~~وفضلا عن ذلك، يبدو أن الكتاب ينص صراحة على أن الله قد تحدث بنفسه (بعد ms100 أن ~~نزل من السماء لهذا الغرض على جبل سيناء، وأن اليهود لم يقتصروا على سماعه، بل رآه ~~كبارهم أيضا، انظر الخروج: 24). # 13 # هذا بالإضافة إلى أن الشريعة التي أوحي بها إلى موسى، هذه الشريعة ~~التي لا تقع تحت الحس، والتي وضعت كتشريع وطني دون إضافة أو حذف، لم تنص على ~~الاعتقاد بأن الله بلا جسم أو هيئة أو صورة تتخيلها، بل توحي فقط بالاعتقاد في ~~وجود إله جدير بالثقة وتجب عبادته وحده. وإذا كانت تنهانا عن أن نتخيل أية ~~صورة له أو نتصوره على أية هيئة، فما ذاك إلا لكيلا نحيد عن عبادته. والواقع ~~أن اليهود لم يروا صورة الله؛ لذلك لم يستطيعوا تمثله في أية صورة، إذ لو ~~كانوا قد فعلوا ذلك لاختاروا بالضرورة مخلوقا مألوفا لديهم بدل الله. وعلى ذلك، فلو ~~كانوا قد عبدوا الله من خلال هذه الصورة لما عبدوه، بل لعبدوا المخلوق الذي تمثله ~~الصورة ولقدموا له الشعائر وفروض التكريم، ولكن الكتاب يشير صراحة إلى صورة مرئية ~~لله، فلقد رآه موسى عندما سمع الله يخاطبه، ولكنه لم يستطع إلا أن يراه من ~~ظهره، ولا شك في أن هذا الأمر ينطوي على سر سنتحدث عنه طويلا فيما بعد. أما ~~الآن، فسوف أواصل تحليل فقرات الكتاب التي تشير إلى الطرق التي كشف بها الله عن ~~أوامره. # يشير سفر أخبار الأيام الأول (الإصحاح 21) إلى حدوث الوحي عن طريق الصور ~~الحسية وحدها حيث يكشف الله عن غضبه على داود فيريه ملاكا قابضا سيفا بيده، # 14 # وقد حدث ذلك أيضا لبلعام، # 15 # صحيح أن ابن ميمون # 16 # وآخرين يرون أن هذه القصة ليست إلا مجرد حلم (وكذلك كل القصص التي ~~تروي ظهور ملك، مثل قصة مانويه # 17 # وقصة إبراهيم عندما رأى في منامه أنه يذبح ابنه # 18 ~~... إلخ). وينكرون أن يكون أي إنسان قد استطاع رؤية ملك بعينين مفتوحتين، ~~ولكن هذا الرأي مجرد ثرثرة، لقد كان همهم تأويل الكتاب ليستخلصوا منه ترهات ~~أرسطو وتخيلاتهم الخاصة، وهي في رأيي أكثر المحاولات مدعاة للسخرية. وفي مقابل ~~ذلك، فإن الله ms101 أوحى ليوسف نصره المؤزر مستقبلا، لا عن طريق صور حقيقية، بل ~~بصور من مخيلة النبي نفسه، # 19 # وأوحي ليوشع بالكلام وبالصور أنه سيحارب مع الإسرائيليين، وأراه ملاكا ~~شاهرا سيفا على رأس الجيش، ونطق الملاك ببعض الكلمات ليؤكد ليوشع هذا الخبر. # 20 # وقد علم أشعيا (كما سنعرض لذلك في الفصل السادس) من خلال بعض الصور ~~الحسية أن عناية الله قد تخلت عن الشعب، فخيل إليه أنه رأى الله في ~~قدسيته مستويا على عرش عال للغاية، ورأى الإسرائيليين ملطخين بوحل ~~خطاياهم وغارقين في روث البهائم؛ أي أنهم بعيدون عن الله بعدا شديدا. # 21 # حينئذ فهم الحالة المشينة التي كان الشعب مترديا فيها، وأوحيت ~~إليه المصائب المستقبلة بكلام ظن أن الله قد نطق به، ويمكنني أن أضيف أمثلة ~~أخرى كثيرة مشابهة من الكتب المقدسة، ولكنها معروفة للجميع. # وهناك نص من سفر العدد (12: 6-9) يؤكد صراحة ما قلته. يقول النص: «إن يكن فيكم ~~نبي للرب فبالرؤيا أتعرف له (أي بمظاهر حسية ورموز يمكن حلها في حين ~~كانت رؤية موسى دون رموز) في حلم أخاطبه (أي إنه لن يسمع الكلام بصوت حقيقي) وأما ~~عبدي موسى فليس هكذا ... فما إلى فم أخاطبه وعيانا لا بألغاز وشبه الرب يعاين.» # 22 # أي أنه يتحدث إلي معتبرا إياي رفيقا دون أية رهبة، كما ~~يتضح ذلك من سفر الخروج (33: 11). # 23 # نحن على يقين إذن أن أي نبي، باستثناء موسى، لم يسمع صوتا حقيقيا، ~~وهذا ما يؤكده أيضا سفر التثنية (34: 10) بمزيد من الوضوح حيث يقول: «ولم يقم من ~~بعد نبي في إسرائيل كموسى الذي عرف الرب وجها لوجه.» والمقصود من ذلك أنه ~~سمع صوت الله فقط؛ لأن موسى ذاته لم ير وجه الله مطلقا (الخروج، 33). # 24 # ولا أجد في الكتاب المقدس أن الله يتصل بالبشر بطرق أخرى سوى هذين ~~الطريقين. فلا ينبغي إذن أن نختلق أمثال هذه الطرق (كما أثبتنا الآن) أو أن ~~نتصور طرقا أخرى. صحيح أننا نعلم حقا أن في قدرة الله أن يتصل بالبشر ~~مباشرة دون اللجوء إلى وسائل مادية من أي نوع، فهو يوحي ms102 بماهيته إلى روحنا. ومع ~~ذلك، فلكي يدرك الإنسان بالروح وحده أشياء ليست متضمنة في الأسس الأولى ~~لمعرفتنا ولا يمكن استنباطها منها، يجب أن تكون روحه بالضرورة أعلى من الروح ~~الإنساني وتفوقه في الكمال. ولا أعتقد أن شخصا ما استطاع أن يصل دون الآخرين إلى ~~هذا الكمال، إلا بالمسيح # 25 # الذي أوحى الله إليه أوامره، التي تؤدي إلى خلاص البشر، وأوحى بها ~~مباشرة دون توسط بالكلام أو بالرؤية، بحيث كشف الله عن نفسه للحواريين من خلال روح ~~المسيح، كما كشف الله عن نفسه من قبل بصوت خارجي. يمكننا إذن تسمية صوت المسيح صوت ~~الله كالصوت الذي سمعه موسى من قبل، وبهذا المعنى نستطيع أن نقول أيضا بأن حكمة ~~الله، هي حكمة تفوق الحكمة الإنسانية، قد تجسدت في المسيح، وأن المسيح أصبح ~~طريقا للخلاص. # ويجب علي هنا أن أنبه القارئ إلى أنني لن أتحدث مطلقا عن نظرة بعض ~~الكنائس إلى المسيح، لا لأني أنكر ما تثبته، بل لأني لا أفهمها، وأعترف بذلك عن ~~صدق، فلقد وضعت كل تصوراتي السابقة طبقا للكتاب نفسه، ولم أقرأ في أي جزء منه ~~أن الله قد ظهر للمسيح أو خاطبه، بل قرأت أن الله كشف عن نفسه للحواريين ~~بواسطة المسيح وأن المسيح هو طريق الخلاص، وأن الشريعة القديمة قد بلغت عن طريق ~~ملاك دون أن يبلغها الله نفسه مباشرة ... إلخ. فإذا كان موسى قد خاطب الله وجها ~~لوجه كما يخاطب الإنسان إنسانا مثله (أي عن طريق جسديهما) فقد اتصل المسيح بالله ~~مباشرة اتصال الروح بالروح. # والنتيجة التي نصل إليها من ذلك هي أنه، باستثناء المسيح، لم يتلق أي شخص ~~وحيا من الله دون الالتجاء إلى الخيال؛ أي إلى كلام أو إلى صور، وينتج عن ذلك أن ~~النبوة لا تتطلب ذهنا كاملا بل خيالا خصبا، كما سأبين ذلك بمزيد من الوضوح ~~في الفصل القادم. والآن، لنبحث ماذا يعني الكتاب المقدس بروح الله التي تهبط على ~~الأنبياء. ولكي أقوم بهذا البحث سأبحث أولا عن معنى الكلمة العبرية «رواه» التي ~~تترجم ms103 عادة بلفظ روح. # 26 # تدل كلمة «رواه» في معناها الأصلي، على الريح كما هو معروف، ولكنها تستعمل أيضا، ~~في كثير من الأحيان، بمعان أخرى مشتقة من المعنى الأول، فتعني مثلا: ~~(1) # نسمة، كما نجد في المزمور 135 (الآية 17): «وليس في أفواههم ~~نسمة.» ~~(2) # نفخ أو تنفس كما نجد في صموئيل (الأول، 30: 12): «وعادت إليه روحه.» ~~أي إنه بدأ في التنفس، وتدل الكلمة أيضا على: ~~(3) # الشجاعة أو القوة، كما نجد في يشوع (2: 11): «ولم يبق في أحد روح.» ~~وكذلك في حزقيال (2: 2): «ودخل في الروح (أي قوة) وأقامني على ~~قدمي.» ~~(4) # ومن هذا المعنى أتى معنى آخر وهو الصفة أو القدرة كما نجد في أيوب ~~(32: 8): «لكن في البشر روحا.» وبعبارة أخرى لا ينبغي أن نبحث عن ~~المعرفة عند الشيوخ فقط لأنها تعتمد على صفة كل فرد وقدرته الخاصة، ~~وكذلك في سفر العدد (26: 18): «فإنه رجل فيه روح.» وكذلك تعني ~~الكلمة: ~~(5) # رأي كما نجد في سفر العدد (14: ~~24): «فبما أنه كان له روح آخر.» أي رأي آخر أو فكرة أخرى، وكذلك في ~~الأمثال (1: 23): «فإني أفيض عليكم من روحي.» أي فكري. وفي هذه الحالة ~~تستعمل الكلمة أيضا لتفيد معنى الإرادة أي المشيئة أو الرغبة أو الدافع، ~~كما نجد في حزقيال (1: 12): «إلى حيث يوجه الروح السير كانت تسير.» ~~وكذلك في أشعيا (30: 1): «ويبتون عهدا ليس من روحي.» # 27 # وكذلك (29: 10): «فإن الله قد سكب عليكم روح (أي رغبة) ~~سبات.» وفي القضاة (8: 3): «حينئذ رقت روحهم.» أي هياجهم. وكذلك في ~~الأمثال (16: 32): «والذي يسود على روحه (أي على انفعاله) أفضل ممن ~~يأخذ المدن.» كذلك (25: 28): «الإنسان لا يضبط روحه.» وفي أشعيا (33: 11): ~~«وروحكم نار تأكلكم.» وتستخدم الكلمة نفسها «رواه» بمعنى النفس ~~للتعبير عن جميع انفعالات النفس، بل مواهب الإنسان. فمثلا «الروح ~~العالية» تفيد الغرور، «والروح الهابطة» تفيد التواضع، «والروح ~~الشريرة» تفيد الكراهية والسوداوية، «والروح الطيبة» تفيد الطيبة، وهناك ~~أيضا «روح الغيرة» أو شهوة (رغبة) الجماع. وفي اللغة العبرية التي يشيع ~~فيها استعمال المصدر كصفة تعني روح الحكمة أو روح الفطنة أو روح ~~الشجاعة الحكيم أو الفطن أو القوي «أو الحكمة أو الفطنة ms104 أو القوة» # 28 # وتعني روح اللطف ... إلخ. وتعني الكلمة أيضا: ~~(6) # الفكر نفسه أو روح الإنسان (أو نفسه) كما نجد في الجامعة (3: 19): ~~«ولكليهما روح واحد (أو نفس واحدة).» أو (12: 7): «وتعود الروح إلى ~~الله.» ~~(7) # وأخيرا تعني الروح جهات العالم (بسبب الرياح التي تهب منها) أو ~~جوانب شيء ما يطل على هذه الجهات من العالم، كما نجد في (حزقيال، 37: 9؛ ~~42: 16-19). # 29 # ونلاحظ أيضا أن كل شيء يتعلق بالله يسمى إلهيا ~~لأنه: ~~(1) # يتعلق بطبيعته ويعتبر كأنه جزء من الله كما نقول: قدرة الله، عينا ~~الله. ~~(2) # يكون في قدرة الله أو يخضع لفعل الله، وبهذا المعنى تسمى السموات في ~~الكتب المقدسة سموات الله؛ لأنها مطية الله ومقره، وسميت ~~آشور سوط الله ونبوخذ نصر # 30 # خادم الله ... إلخ. ~~(3) # يوهب لله مثلا: معبد الله، قربان الله، خبز الله. ~~(4) # ينقله الأنبياء دون أن يتكشف للنور الفطري، فمثلا يطلق على شريعة ~~موسى شريعة الله. ~~(5) # يعبر عن أعلى الدرجات مثال «جبال الله» أي الجبال الشاهقة، سبات ~~الله أي سبات عميق للغاية، وبهذا المعنى يفسر عاموس (4: 11) عندما ~~يتحدث الله عن نفسه ويقول: «فقلبتكم كما قلب الله سدوم وعمورة.» # 31 # أي تذكروا هذا التدمير الذي لا ينسى، ولا يمكن قبول أي ~~تفسير آخر ما دام الله يتحدث بنفسه، وكذلك سمي العلم الفطري لدى ~~سليمان علم الله؛ أي علما إلهيا أعلى من العلم الشائع، وكذلك نقرأ في ~~المزامير «أرزات الله» بمعنى الأرزات الضخمة للغاية، ونقرأ في صموئيل ~~(الأول، 11: 7) للتعبير عن الرعب الشديد: «فوقع رعب الرب على الشعب.» ~~وبهذا المعنى تعود اليهود أن ينسبوا إلى الله ما كان يتعدى فهمهم ~~ويجهلون أسبابه الطبيعية في ذلك العصر، فالعاصفة «غضب الله»، والرعد ~~والصاعقة سهام الله. ويعتقد أن الله يحبس الرياح في كهوف يسمونها ~~غرفة كنز الله، ويختلفون في هذا الصدد عن الوثنيين؛ لأنهم يجعلون ~~الله وليس أيول # 32 # مسير الرياح، وللسبب نفسه سميت المعجزات أفعال الله أي ~~أفعالا تثير الدهشة، ذلك أن كل الأشياء الطبيعية أفعال الله، وهي لا ~~تحدث أو تؤثر إلا بقدرة الله وحدها. وهذا ما أراد كاتب المزامير أن ms105 ~~يعبر عنه عندما سمى معجزات مصر قدرات الله؛ لأن هذه المعجزات ~~فتحت للعبرانيين، وهم على شفا خطر داهم، طريقا للخلاص لم يكونوا ~~يأملون فيه، فأثارت إعجابهم الشديد. فإذا قيل عن أعمال الطبيعة الخارقة ~~للعادة إنها أعمال الله وإذا قيل عن الأشجار الطويلة التي تزيد في طولها ~~عن المعتاد أنها أشجار الله، فليس هناك ما يدعو للدهشة عندما يسمى ~~الرجال الطوال الأقوياء في سفر التكوين أبناء الله، حتى ولو كانوا ~~قطاع طرق وفسقة كفارا. وقد كان من عادة القدماء بوجه عام أن ~~ينسبوا إلى الله كل ما يتفوق فيه إنسان على الآخرين، لا فرق في ذلك ~~بين يهود ووثنيين. فقد قال فرعون، مثلا، بعد سماع تفسير رؤياه: كان ~~فكر الآلهة في يوسف. وقال نبوخذ نصر لدانيال إن الآلهة المقدسة قد ~~وهبته فكرها، بل إن هذه الطريقة في التعبير شائعة حتى عند ~~اللاتينيين، فعندهم أن الشيء المصنوع بمهارة فائقة صاغته يد ~~إلهية. فإذا أردنا ترجمة هذا التعبير إلى العبرية فيجب أن نقول: صاغته ~~يد الله كما يعرف علماء اللغة العبرية. # وهكذا يسهل علينا تفسير كل نصوص الكتاب التي يرد فيها ذكر روح الله، فعبارة روح ~~الله أو يهوه لا تعني، في بعض النصوص إلا ريحا قوية جافة عاتية كما نجد في ~~أشعيا (40: 8): «لأن روح الرب هب فيه.» أي ريح مدمرة، وكذلك في سفر التكوين ~~(1: 2): «وريح الله (أي ريح قوية للغاية) يرف على وجه المياه.» وكذلك تعني كلمة ~~«روح» شجاعة فائقة، فالكتاب المقدس يصف شجاعة جدعون، # 33 # وشجاعة شمشمون # 34 ~~«بروح الله» أي شجاعة تفوق كل امتحان. كذلك توصف كل صفة أو قوة ~~تفوق المعتاد بأنها «روح الله أو صفة الله». فمثلا في سفر الخروج (31: 3): ~~«وملأته (بصلائيل) # 35 # من روح الله.» أي بعقل ومهارة فوق المعتاد، كما يبين ذلك الكتاب ~~نفسه. وكذلك في أشعيا (11: 2): «ويستقر عليه روح الرب.» وهذا يعني كما سيشرحه ~~النبي ذاته - بعد ذلك بقليل - بلغة التصوير المألوفة في الكتاب، فضيلة الحكمة ~~والفطنة والشجاعة ... إلخ. كما وصف حزن شاءول # 36 # بأنه «روح الله الخبيثة» أي ms106 حزن شديد. والواقع أن عبيد شاءول الذين ~~سموا حزنه حزن الله قد نصحوه باستدعاء موسيقى بجواره ليروح عن نفسه بالغناء على ~~الناي، وهذا يدل على أنهم كانوا يعنون بحزن الله حزنا طبيعيا. ويطلق تعبير ~~روح الله أيضا على نفس الإنسان كما نجد في أيوب (3: 27): «روح الله في أنفي.» إشارة ~~إلى نص في سفري التكوين يقول: إن الله قد نفخ بنفس الحياة في أنف الإنسان. وكذلك ~~يقول حزقيال متنبئا للأموات (37: 14): «واجعل روحي فيكم فتحيون.» أي سأعطيكم ~~حياة جديدة. وفي المعنى نفسه يقول أيوب (34: 14): «إنه لو أراد (أي لو أراد الله) ~~لاستضم إليه روحه ونسمته (أي النفس التي أعطانا).» كذلك فإن نص سفر التكوين ~~(6: 3): «لا تحل روحي مع الإنسان (أو تميز) أبدا لأنه جسد.» يجب تفسيره على ~~النحو الآتي: من الآن سيسلك الإنسان وفقا لمقتضيات الجسد لا تبعا للذهن الذي ~~وهبته إياه ليميز بين الخير والشر. ونقرأ أيضا في المزمور (51: 12-13): «قلبا ~~طاهرا اخلق في يا الله وروحا مستقيما جدد في داخلي (أي رغبة معتدلة) ولا ~~تطرحني من أمام وجهك ولا تنزع مني روحك القدوس.» إذ كان العبرانيون يعتقدون ~~أن جميع الخطايا تأتي حقيقة من البدن، على حين أن النفس تأمر بالخير فحسب؛ ~~لذلك، يطلب كاتب المزمور من الله أن يخلصه من شهوة الجسد، ويكتفي بالدعاء حتى ~~يحفظ الله القدوس له نفسه التي وهبها إياه. ولما كانت عادة الكتاب إعطاء الله صورة ~~الإنسان، وذلك لضعف مستوى التفكير عند العامة، كما اعتاد أن ينسب له نفسا ~~وحساسية وانفعالات، بل وينسب إليه بدنا ونفسا، فإن عبارة روح الله (في الكتب ~~المقدسة) تدل دائما على النفس، أي على القلب والانفعال أو القوة أو النفس من فم ~~الله. وهكذا يتساءل أشعيا (40: 13): «ومن أرشد روح الرب؟» (أي نفسه) ومعناها: من سوى ~~الله يدفع نفس الله لأن ترغب شيئا؟ وكذلك الحال في (63: 10): «لكنهم تمردوا ~~وحزنوا روحه القدوس.» وقد ترتب على ذلك استعمال عبارة روح الله للدلالة على ~~شريعة موسى؛ لأن هذه الشريعة تعبر عن فكر الله. فمثلا، نقرأ في ms107 أشعيا (الإصحاح ~~نفسه: 11): «أين الذي جعل في داخله روحه القدوس.» أي شريعة موسى، كما يفهم بوضوح ~~من السياق، كذلك نقرأ في نحميا (9: 20): «وآتيتهم روحك الصالح (أي نفسك) ~~ليعلمهم.» فهنا يذكرهم نحميا بعصر الشريعة، ويشير إلى نص من سفر التثنية (4: ~~6) يقول فيه موسى: «لأنها (أي الشريعة) حكمتكم وفهمكم ... إلخ.» كذلك نجد في المزمور ~~(143: 10): «إن روحك صالح فهو يهديني في أرض الاستقامة.» أي إن فكرك الذي أوحيت به ~~إلينا سيقودنا إلى الطريق المستقيم. وفضلا عن ذلك تعني روح الله، كما قلنا من قبل، ~~النفس، وهو ما ينسبه الكتاب لله. ومع أن هذا لا يليق به، كما ينسب إليه أيضا ~~النفس والحساسية والبدن (انظر: المزمور، 33: 6)، # 37 # ويعني اللفظ أيضا قدرة الله أو صفته كما هو الحال في أيوب (33: 4): ~~«روح الله هو الذي صنعني.» أي قدرته وصفته، أو إن شئنا قلنا أوامره، لأن كاتب ~~المزمور يقول أيضا بأسلوبه الشعري: «بكلمة الرب رفعت السموات وبروح (أي بنفس ~~من فمه) فيه كل جنودها (أي مشيئته التي تنطق بها في نفس واحد).» وبالمثل نجد ~~في المزمور (139: 7): «أين أذهب من روحك، وأين أفر من وجهك.» وهذا يعني حسب ~~الإيضاحات التي نجدها بعد ذلك عند كاتب المزمور نفسه، أين يمكنني الهرب بعيدا عن ~~قدرتك وحضورك. وأخيرا يستعمل روح الله في الكتاب المقدس للتعبير عن مشاعر الله، أي ~~اللطف والرحمة، فمثلا في ميخا (2: 7) هل قصر روح الرب؟ (أي رحمته) أهذه أعماله؟ ~~(المشئومة) وكذلك في زكريا (4: 6): «لا بالجيش ولا بالقوة ولكن بروحي (أي برحمتي) ~~وحدها.» وأعتقد أن الآية 12 من الإصحاح 7 عند نفس النبي تفيد بالمعنى نفسه: «وجعلوا ~~قلوبهم كالسامور لئلا يسمعوا الشريعة والكلام الذي أرسله الله بروحه (أي رحمته) على ~~ألسنة الأنبياء الأولين.» وكذلك يقول حجاي (2: 5) # 38 # تظل روحي (أي نعمتي) بينكم، لا تخافوا. أما في نص أشعيا (48: 16): ~~«والآن أرسلني هو وروحه.» فإن لفظ الروح يفيد هنا إما معنى لطف الله ورحمته، وإما ~~فكر الله الذي أوحى به في الشريعة لأن النبي يقول: إني من الأول (أي أول مرة أتيت ~~فيها إليكم لأخبركم ms108 بغضب الله وحكمه ضدكم) لم أتكلم في خفية، أنا من قبل أن يحدث ~~الأمر كنت هناك (وقد أثبت ذلك أيضا في الإصحاح 7): «ولكن الآن رسول السعادة أرسلتني ~~رحمة الله إليكم لأتغنى باستقراركم.» ويمكننا أيضا كما قلت من قبل فهم الروح ~~على أنه الفكر الذي أوحى به الله في الشريعة، بمعنى أن الرسول أتى ليحذر ~~العبرانيين طبقا لأوامر الشريعة التي أعلنها سفر الأحبار (19: 17) # 39 # ويكون بذلك قد حذرهم في الظروف نفسها وبالطريقة نفسها التي حذرهم بها ~~موسى. وفي النهاية تنبأ لهم أيضا بالاستقرار كما فعل موسى، ولكني شخصيا أفضل ~~التفسير الأول. # والآن، فلنرجع إلى موضوعنا الأول بعد أن اتضح من هذه الأمثلة معاني هذه ~~العبارات: «كان روح الله في النبي، أنزل الله روحه في البشر، البشر مليء بروح الله ~~أو بالروح القدس ... إلخ.» فهذه العبارات لا تعني سوى أنه كانت للأنبياء فضيلة خاصة ~~فوق المعتاد، # 40 ~~⋆ # وأنهم ~~كانوا يثابرون على التقوى دواما، وكانوا بالإضافة إلى ذلك قادرين على إدراك فكر الله ~~أو حكمه. وقد بينا أن (كلمة) روح في العبرية قد تعني الذهن أو حكم الذهن؛ ~~ولهذا السبب استحقت الشريعة نفسها، بمقدار تعبيرها عن الفكر الإلهي، أن تسمى روح ~~الله وفكره. وبالمثل يمكن تسمية خيال الأنبياء، بقدر ما كان يكشف عن الأوامر ~~الإلهية، فكر الله وروحه، ويمكننا القول بأن الأنبياء كان لديهم فكر الله. صحيح ~~أن فكر الله وأحكامه الأبدية مسطورة في أذهاننا، بحيث يدرك كل منا فكر الله ~~(مستعملين لغة الكتاب) ومع ذلك فإن المعرفة الفطرية، نظرا إلى كونها معطاة لكل ~~البشر، لم يكن لها، كما قلنا من قبل، قيمة كبيرة وخاصة عند العبرانيين الذين كانوا ~~يدعون أنهم فوق سائر البشر، وبالتالي اعتادوا احتقار العلم المشترك بين الناس. ~~وأخيرا كان يقال: إن الأنبياء لديهم روح الله لأن العامة تجهل علل المعرفة ~~النبوية وتدهش لها؛ ولهذا السبب اعتادت إرجاعها إلى الله، كما ترجع له كل شيء ~~معجز، وسمتها معرفة الله. # نستطيع أن نؤكد الآن دون تردد أن الأنبياء لم يتلقوا وحيا إلهيا إلا ms109 ~~بالاستعانة بالخيال، أي بوساطة كلمات أو صور تكون حقيقية مرة وخيالية مرة ~~أخرى. ونظرا لأننا لم نجد في الكتاب أية وسيلة أخرى غير هذه المعرفة النبوية، ~~فليس من حقنا - كما بينا من قبل - أن نختلق وسائل أخرى. أما فيما يتعلق ~~بقوانين الطبيعة التي صدر هذا الوحي طبقا لها فإني أعترف بأني لا أعلمها، إنني ~~أستطيع أن أقول، كما يقول الآخرون، بأن الوحي قد حدث بقدرة الله، ولكني أعتقد ~~بأن مثل هذا القول لا يعني شيئا؛ لأنه يعني إيضاح صيغة شيء فردي بلفظ متعال. # 41 # إن كل شيء يصدر بالفعل عن الله، بل إنه لما كانت قدرة الطبيعة هي ~~ذاتها قدرة الله # 42 # فمن المؤكد أننا بقدر ما نجهل العلل الطبيعية، لن نكون قد فهمنا ~~قدرة الله، فلا يعقل إذن أن نلتجئ إلى قدرة الله عندما نجهل العلة الطبيعية لشيء ~~ما، أي عندما نجهل قدرة الله نفسها، أما علة المعرفة النبوية فلسنا في حاجة إلى ~~معرفتها، فطبقا للملاحظة التي أبديناها من قبل يقتصر بحثنا هنا فقط على تعاليم ~~الكتاب لنستخلص منها نتائجنا، كما نفعل مع المعطيات الطبيعية، دون أن نبحث في علل ~~هذه التعاليم. # 43 # ولما كان الأنبياء قد أدركوا الوحي الإلهي بالاستعانة بالخيال، فلا شك أن ~~كثيرا من تعاليمهم قد تعدت حدود الذهن؛ لأننا بالكلمات والصور نستطيع أن نكون ~~أفكارا تزيد عن تلك التي نكونها بالمبادئ والمفاهيم الذهنية التي تقوم عليها ~~معرفتنا الطبيعية. # وبناء على ذلك، يتبين لنا السبب الذي جعل الأنبياء يدركون تعاليمهم ويعرضونها ~~دائما بلغة الأمثال أو الألغاز، وجعلهم يعبرون عن الحقائق الروحية بطريقة ~~جسمية، فهذه الأساليب هي التي تتفق تماما مع طبيعة الخيال. لن نندهش عندما ~~يستعمل الكتاب أو الأنبياء للتعبير عن الروح، أي عن فكر الله، لغة معيبة غامضة ~~كتلك التي نجدها في سفر العدد (17: 11)، # 44 # وفي سفر الملوك (الأول، 22: 21)، # 45 # فلقد رأى ميخا الله مستويا على العرش، ورآه دانيال عجوزا متلفحا ~~بالبياض، ورآه حزقيال نارا، ورأى تلامذة المسيح الروح القدس هابطة في صورة حمامة، ~~ورآها الحواريون في صورة ألسنة من ms110 النيران، وأخيرا فقد رأى بولس نورا ساطعا في ~~لحظة تحوله إلى العقيدة. هذه الرؤى تتفق جميعا مع تصورات العامة لله وللأرواح. ~~وأخيرا، فلما كان الخيال مبهما ومتقلبا، لم تبق النبوة دائما ماثلة ~~أمام الأنبياء، ولم تتكرر باستمرار، بل كانت نادرة للغاية، أي إنها لم تعط إلا ~~لعدد قليل من الناس، بل لا تحدث عند هذا العدد القليل إلا نادرا. ولما كان ~~الأمر كذلك فإننا نتساءل: على أي أساس أقام الأنبياء يقينهم في تلك الموضوعات التي ~~يدركونها بالخيال دون ضمان من مبادئ الفكر المؤكدة؟ مهما يكن من شيء فإن كل ~~ما نقترحه في هذا الموضوع يجب أن يكون بدوره صاردا عن الكتاب لأننا - كما قلنا ~~من قبل - لا نعلم عن النبوة علما صحيحا، أي إننا لا نستطيع تفسيرها بالعلل ~~الأولى، وسأبين في الفصل القادم في حديثي عن الأنبياء ماذا يقول الكتاب عن اليقين ~~الذي يعتمدون عليه. # الفصل الثاني # | الأنبياء # انتهينا من الفصل السابق - كما أشرنا من قبل - إلى تمتع الأنبياء بقدرة أعظم ~~على الخيال الحي، لا بفكر أكمل، # 1 # وفي روايات الكتاب المقدس البراهين الكافية على ذلك، فمن المسلم به ~~مثلا أن سليمان لم تكن لديه هبة النبوة، مع أنه فاق سائر البشر في حكمته، وكذلك ~~لم يكن الرجال ذوو العقل الراجح، من أمثال هيمان ودرداع وكلكول # 2 # أنبياء، في حين أن رجالا جهالا غرباء عن العلم، وكذلك بعض النساء ~~الساذجات مثل هاجر # 3 # خادمة إبراهيم، كانت لديهم هبة النبوة، وهذا ما يتفق مع التجربة ~~والعقل، فكلما زاد الخيال قل الاستعداد لمعرفة الأشياء بالذهن الخاص، وعلى العكس ~~من ذلك نجد أن من يتفوقون في الذهن ويحرصون على تنميته تكون قدرتهم على ~~التخيل أكثر اعتدالا وأقل انطلاقا، وكأنها حبيسة حتى لا تختلط بالذهن؛ وعلى ~~ذلك، فإن في البحث عن الحكمة ومعرفة الأشياء الطبيعية والروحية في أسفار الأنبياء ~~ابتعادا عن جادة الصواب؛ لذلك استقر عزمي على تقديم عرض مسهب لهذا الموضوع ~~تبعا لمقتضيات العصر وما تطلبه الفلسفة ويحتمه موضوعي، دون أن ألقي بالا إلى ~~صيحات الخرافة ms111 التي تمقت أولا وقبل كل شيء من يمجدون العلم الصحيح والحياة ~~الحقة. لقد وصلت الأمور للأسف إلى حد أن أولئك الذين يعترفون صراحة بأنهم ~~خلو من أي فكرة عن الله، وبأنهم لا يعرفونه إلا عن طريق المخلوقات (التي يجهلون ~~عللها) لا تحمر وجوههم خجلا عندما يتهمون الفلاسفة بالإلحاد. # ولكي أسير في بحثي بترتيب منظم سأبين أولا اختلاف الأنبياء فيما بينهم لا في ~~الخيال والمزاج الجسمي الخاص بكل منهم فحسب، بل أيضا في الآراء التي تشبعوا بها، ~~بعد ذلك سأشرح بإسهاب ما يترتب على ذلك من أن النبوة لا تعطي الأنبياء علما ~~أكثر. ولكن ينبغي قبل ذلك أن أتحدث عن اليقين الخاص بالأنبياء لأنه يتعلق بموضوع ~~هذا الفصل كما يساعد على بيان ما نريد البرهنة عليه. # إن مجرد الخيال لا يتضمن بطبيعته اليقين، على نحو ما تتضمنه كل فكرة واضحة ~~ومتميزة، بل إن من الضروري، للحصول على اليقين، أن نضيف إلى الخيال شيئا ما هو ~~الاستدلال. ويترتب على ذلك أن النبوة لا تتضمن بذاتها اليقين، ما دامت تعتمد، كما ~~بينا، على الخيال وحده، وإذن فالأنبياء لم يكونوا على يقين من الوحي الذي ~~وهبهم الله إياه عن طريق الوحي نفسه، بل اعتمادا على آية (أي علامة) ما. ~~ويتضح ذلك عند إبراهيم (التكوين، 15: 8) # 4 # عندما طلب آية بعد سماعه وعد الله، فقد كان مؤمنا بالله ولم يطلب ~~آية تثبت اعتقاده، بل ليعلم أن الله أعطاه هذا الوعد، كما يتضح ذلك بصورة ~~أوضح فيما يقوله جدعون # 5 # لله: «اجعل لي آية (حتى أعلم) على أنك أنت الذي كلمني.» (القضاة، 6: ~~17)، ويقول الله لموسى أيضا: «ليكن هذا لك آية على ~~أني أرسلتك.» وقد طلب حزقيا # 6 # من أشعيا # 7 # آية تتنبأ بعودة صحته له، وهو يعلم منذ مدة طويلة أن أشعيا ~~نبي. فهذا يدل على أن الأنبياء كان لهم دائما آيات تجعل لهم يقينا بالأشياء ~~التي يتخيلونها بهبة النبوة؛ لذلك نبه موسى اليهود (انظر: التثنية، 18 الآية الأخيرة) # 8 # بأن عليهم أن يطلبوا آية من النبي، أي مصير شيء سيحدث في ~~المستقبل ms112. فالنبوة إذن، من هذا الوجه أقل من المعرفة الطبيعية التي لا تحتاج إلى ~~آية ما، بل تتضمن بطبيعتها اليقين. والواقع أن هذا اليقين النبوي لم يكن يقينا ~~رياضيا، بل كان يقينا خلقيا فحسب، # 9 # وهذا ما يؤيده الكتاب نفسه في التثنية (الإصحاح 13) # 10 # عندما يضع موسى هذا المبدأ وهو أنه إذا أراد نبي ما أن يدعو إلى آلهة ~~جديدة، فيجب الحكم عليه بالقتل حتى ولو أيد عقيدته بالآيات والمعجزات، ذلك أن ~~الله، كما يضيف موسى، هو نفسه الذي يقوم بالآيات وبالمعجزات ليمتحن الشعب. وقد ~~حذر المسيح تلامذته على النحو نفسه كما ذكر متى (24: 24)، # 11 # ويقول حزقيال بعبارة أوضح (14: 9) إن الله يخدع البشر في بعض الأحيان ~~بوحي كاذب فيقول: «وإذا أغوى النبي (نبي كاذب) وتكلم بكلام فأكون أنا الرب قد ~~أغويت ذلك النبي.» ويعطينا ميخا الشهادة نفسها (انظر: الملوك الأول، 21: 22) # 12 # بصدد أنبياء أخآب. # 13 # وبالرغم مما قد يثيره ذلك من شك قوي في النبوة وفي الوحي، فإنهما ينطويان ~~على درجة كبيرة من اليقين، كما قلنا من قبل، لأن الله لا يخدع الأتقياء والأصفياء ~~مطلقا طبقا للمثل القديم (انظر: صموئيل الأول، 24: 14)، # 14 # وكما نرى في قصة أبيجائيل # 15 # وخطابه من استعمال الله للأتقياء وسائل لتحقيق تقواه واستعماله للفجرة ~~وسائل يصب عليها جام غضبه. وقد ثبت هذا أيضا بوضوح تام بما حدث لميخا كما ~~ذكرنا الآن. فعندما شاء الله بالفعل أن يخدع أخآب بأنبياء لم يستخدم لذلك إلا ~~أنبياء كذبة وأوحى للرجل التقي بحقيقة الأمر، دون أن يمنعه من التنبؤ ~~بالحقيقة. ومع ذلك فإن يقين النبي، كما قلت، يقين خلقي فحسب، لأنه لا يمكن ~~لأي فرد أن يبرر نفسه أمام الله وأن يدعي أنه وسيلة لتحقيق تقواه، فهذا ما ~~يؤيده الكتاب، بل هو أمر واضح بذاته. فقد أغوى غضب الله داود، الذي شهد له ~~الكتاب بالتقوى مئات المرات، على أن يحصي الشعب. # 16 # إن اليقين النبوي كله يقوم على هذه الأسس الثلاثة: ~~(1) # تخيل الأنبياء للأشياء الموحى بها كأنها ماثلة أمامهم كما يحدث ~~لنا عادة في حالة اليقظة عندما نتأثر بالأشياء ms113. ~~(2) # الآية. ~~(3) # ميل قلوبهم إلى العدل والخير، وهذا أهم شيء. ومع أن الكتاب لا ~~يذكر الآية دائما، فيجب أن نعتقد أن كل نبي كانت له آية. ~~فالواقع أن الكتاب (كما لحظ الكثيرون من قبل) لا يذكر في الرواية عادة ~~جميع الظروف والملابسات، بل يفترض أن الأمور معروفة من قبل. وكذلك ~~يمكننا أن نسلم بأن الأنبياء الذين لم يتنبأوا بشيء جديد، # 17 # بل اقتصروا على التنبؤ بما هو معروف من قبل في شريعة موسى، ~~لم يكونوا يحتاجون إلى آية، لأن نبوءاتهم كانت مؤيدة بالشريعة. فمثلا ~~كانت نبوة إرميا بخصوص هدم القدس متفقة مع نبوات الأنبياء ~~السابقين ووعيد الشريعة، فلم تكن في حاجة إلى آية. أما حنينيا # 18 # الذي تنبأ وحده، على عكس جميع الأنبياء، بإعادة بناء المدينة، ~~فكان في حاجة ملحة إلى آية وإلا شك في نبوته حتى تثبت ~~الحوادث صدق النبوة (إرميا، 29: 9). # 19 # ولكنه، نظرا إلى أن يقين الأنبياء، الذي يتولد عن آيات معينة، لم يكن يقينا ~~رياضيا، (أي إنه يترتب بالضرورة على إدراك الشيء المحس أو المرئي) بل كان يقينا ~~خلقيا فحسب، (ونظرا إلى أن الآيات، من جهة أخرى، لم يكن مقصودا منها سوى إقناع الأنبياء)، # 20 # فقد كانت هذه الآيات تتفاوت تبعا لآراء الأنبياء وقدراتهم، بحيث لا ~~يمكن للآية التي تعطي اليقين لهذا النبي أن تقنع آخر مشبعا بآراء مختلفة؛ ~~لذلك، اختلفت الآيات باختلاف الأنبياء، وكذلك اختلف الوحي - كما قلنا من قبل - عند ~~كل نبي طبقا لمزاجه وخياله، ووفقا للآراء التي اعتنقها من قبل. وتحدث فروق ~~المزاج على النحو الآتي: إذا كان النبي ذا مزاج مرح توحى إليه الحوادث التي ~~تعطي الناس الفرح مثل الانتصارات والسلام، وبالفعل نجد أن من لهم مثل هذا ~~المزاج قد اعتادوا أن يتخيلوا أمورا كهذه. وعلى العكس من ذلك، إذا كان النبي ذا ~~مزاج حزين توحى إليه الشرور، كالحرب والعذاب. وإذا كان النبي رحيما ألوفا غضوبا ~~قاسيا ... إلخ، كان قادرا على تلقي هذا الوحي أو ذاك. كذلك فإن فروق الخيال تكون على ~~النحو الآتي: إذا كان النبي مرهفا ms114 فإنه يدرك فكر الله ويعبر عنه بأسلوب ~~مرهف أيضا، وإذا كان مهوشا أدركه مهوشا. ومثل هذا يصدق على الوحي ~~الذي يتمثل بالصورة المجازية: فإذا كان النبي من أهل الريف كانت صورة الوحي ~~متضمنة للأبقار والجاموس، وإذا كان جنديا تكون صورة قواد وجيش، وأخيرا، إذا ~~كان رجل بلاط، تمثل له عرش ملك وما شابه ذلك. وأخيرا، فهناك أيضا فروق ترجع إلى ~~اختلاف آراء الأنبياء، فقد أوحي بولادة المسيح للمجوس الذين يعتقدون بخرافات التنجيم ~~(انظر: متى، الإصحاح 2)، # 21 # حين رأوا نجما يتألق في الشرق، كما أوحي لعرافات نبوخذ نصر في أمعاء ~~الضحايا (انظر: حزقيال، 21: 26) # 22 # بهدم بيت المقدس الذي عرفه الملك نفسه أيضا بالتكهنات وباتجاه ~~الأسهم التي قذفها عاليا في الهواء. وقد تكشف الله للأنبياء الذين يعتقدون بأن ~~أفعال الناس تتم باختيار حر وبقدرة ذاتية، كما لو كان غير عابئ، ويجهل أفعال ~~البشر المستقبلة. وسنبرهن على كل هذه النقاط واحدة واحدة من خلال الكتاب ~~المقدس. # فالبرهان على النقطة الأولى يتضح في مثل أليشاع (انظر: الملوك الثاني، 3: 15) # 23 # وعندما طلب آلة موسيقية ليتنبأ ليورام، # 24 # ولم يستطع أن يدرك فكر الله قبل أن يطرب بموسيقى هذه الآلة، حينئذ ~~فقط تنبأ ليورام ولرفاقه بتنبوءات سعيدة لم يتنبأ بها من قبل؛ لأنه كان غاضبا ~~على الملك، ذلك أن المرء عندما يكون غاضبا على أحد فإنه يستطيع أن يتخيل عنه ~~شرورا، لا خيرات. وعلى ذلك، فعندما يدعي البعض أن الله لا يكشف عن نفسه لمن ~~ينتابه الغضب والحزن، فإنهم يحلمون؛ لأن الله أوحى لموسى وهو غاضب على فرعون ~~المذبحة الرهيبة للأطفال حديثي الولادة (انظر: الخروج، 11: 8)، # 25 # وذلك دون استخدام أية أداة. كذلك كشف الله عن نفسه لقابيل # 26 # وهو غاضب، وأوحى إلى حزقيال، وهو في حالة نفاد الصبر من الغضب، لشقاء ~~اليهود وعصيانهم (انظر: حزقيال، 3: 14)، # 27 # وحين كان إرميا غارقا في أحزانه، وأصبح ~~فريسة للسأم الشديد من الحياة، تنبأ بالمصائب التي ستحل على اليهود، حتى إن يوشيا # 28 # لم يرغب في سؤاله بل توجه إلى امرأة من هذا الزمان رآها أكثر ~~استعدادا، بفضل طبيعتها ms115 الأنثوية، على كشف رحمة الله له (انظر أخبار الأيام الثاني، ~~الإصحاح 34)، # 29 # ولم يتنبأ ميخا لأخآب بأي خير مطلقا مع أن كثيرا من الأنبياء ~~الصادقين قد تنبأوا به (كما سنرى في سفر الملوك، الإصحاح 20)، # 30 # بل تنبأ له طيلة حياته بالشرور (انظر الملوك الأول، 22: 8، وبصورة أوضح ~~في أخبار الأيام، 18: 7). # 31 # كان الأنبياء إذن قادرين، كل حسب ~~تكوينه الجسمي، على قبول هذا الوحي أو ذاك. كذلك اختلف أسلوب كل نبي عن الآخر ~~حسب قدرته البلاغية، فلم تكتب نبوات حزقيال وعاموس بأسلوب رشيق كنبوات أشعيا ~~ونحوم، بل كتبت بأسلوب أكثر خشونة. وإذا أراد أحد علماء اللغة العبرية دراسة أوجه ~~الاختلاف هذه بشيء من التفصيل فعليه أن يقارن بين بعض الإصحاحات في أسفار الأنبياء ~~المتعلقة بالموضوع نفسه، وسيجد اختلافا كبيرا في الأسلوب. ليقارن مثلا ~~الإصحاح الأول من أشعيا رجل البلاط (11-20) مع الإصحاح الخامس من عاموس الريفي (21-24)، # 32 # وليقارن بعد ذلك الترتيب الذي اتبعه إرميا والطرق التي نهجها لكتابة ~~نبوته ضد أدوم (الإصحاح 49) مع ترتيب وطرق عوبديا، # 33 # وليقارن أشعيا (40: 19-20، 44: 8 وما بعدها) مع هوشع (8: 6، 13: 2) # 34 # وهكذا الحال مع الباقين. وسيبين الفحص الدقيق بسهولة أن الله في ~~خطابه لم يكن له أسلوب يتميز به، بل كان الأسلوب يتوقف على بلاغته وإيجازه ~~وقوته وخشونته وإطنابه وغموضه على ثقافة الأنبياء وقدراتهم. # وتختلف تمثلات الأنبياء وتهيؤاتهم الغامضة فيما بينها مع أن لها الدلالة ~~نفسها، فقد تمثل أشعيا عظمة الله وهو يهجر المعبد على غير ما تمثله حزقيال. ~~على أن الأحبار يريدون التوحيد بين هذين التمثلين، مع فرق يسير هو أن حزقيال ~~قد دهش لجلافته دهشة فائقة؛ ولذلك روى كل ملابسات رؤيته. على أنه إذا لم ~~يكن لدى الأحبار رواية مؤكدة في هذا الموضوع، وهذا ما لا أعتقده، فإن أقوالهم هذه ~~لا بد أن تكون اختلافا منهم؛ لأن أشعيا رأى مجموعة من السرافين بأجنحة ستة في ~~حين رأى حزقيال وحوشا بأجنحة أربعة. # 35 # ورأى أشعيا الله متلحفا جالسا على عرش ملكي، ورآه حزقيال نارا، ولا ~~شك أن كليهما قد تمثله كما اعتاد أن يتخيله. وكذلك تختلف ms116 التمثلات فيما ~~بينها، لا في طبيعتها فحسب، بل أيضا في وضوحها ، فقد كانت تمثلات زكريا غامضة إلى ~~حد أنه لم يستطع هو ذاته أن يفهمها دون شرح، كما يحكي في روايته. أما تمثلات ~~دانيال فإن النبي نفسه لم يستطع فهمها حتى بعد شرحها، ولم يحدث ذلك لصعوبة الشيء ~~الموحى به (إذ إن ذلك الوحي لم يكن إلا أمرا من الأمور الإنسانية التي لا تتجاوز ~~حدود القدرة البشرية إلا من حيث إخبارها بالمستقبل)، بل لأن خيال دانيال لم يكن ~~يتمتع بالقوة النبوية نفسها في يقظته وفي نومه. ويتضح ذلك من فزعه منذ ~~بداية الوحي حتى أوشك أن يفقد الأمل في قدراته، فتمثل الأشياء في غموض شديد ~~لضعف خياله ونقص قواه، ولم يستطع أن يكون عنها فكرة واضحة حتى بعد شرحها له. ~~ويجب أن نذكر هنا أن الكلمات التي سمعها دانيال كانت من صنع الخيال فقط (كما ~~بينا من قبل)، فلا عجب إذن وهو في لحظة اضطرابه هذه أن يتخيل هذه الكلمات ~~بغموض واضطراب بلغا من الشدة حدا لم يستطع معه أن يكون عنها فكرة واضحة. ~~أما من يقولون: إن الله لم يشأ أن يقدم إلى دانيال وحيا واضحا بهذا الأمر، فإنهم ~~فيما يبدو لم يقرءوا كلمات الملاك الذي يقول صراحة (انظر 10: 14): «ثم أتيت لأبين ~~لك ما يحدث لشعبك في الأيام الأخيرة». وهكذا ظلت هذه الأشياء غامضة لأن أحدا في ~~ذلك الوقت لم تكن له من قوة الخيال ما يسمح بأن تتكشف له هذه الأشياء بوضوح. ~~وأخيرا، فإن الأنبياء الذين أوحي إليهم أن الله قد رفع إيليا، أرادوا إقناع أليشاع ~~بأن إيليا قد نقل إلى مكان آخر يمكنهم العثور عليه فيه، وهذا يدل بوضوح على ~~أنهم لم يفهموا جيدا وحي الله. ولا نحتاج هنا إلى الإسهاب في ذلك، والحق أنه، لو ~~كان هناك شيء واضح في الكتاب، لكان ذلك دليلا على أن الله قد أعطى من نعمة النبوة ~~هذا النبي أكثر مما أعطاه ذاك، ولكني سأثبت على العكس من ذلك تماما، وبمزيد ms117 ~~من العناية والإسهاب، أن النبوات أو التمثلات كانت تختلف باختلاف آراء الأنبياء، ~~وكذلك سأثبت أن آراء الأنبياء فيما بينهم كانت تختلف، بل وتتعارض، وكذلك الحال في ~~أحكامهم المسبقة (ويحدث ذلك في الأمور النظرية فحسب، أما بالنسبة إلى الأمانة ~~وحسن الأخلاق فلا بد من الحكم على الأمر بطريقة أخرى). وإنني لأصر على ما ~~أقول لاعتقادي بالأهمية البالغة لهذا الموضوع. وسأنتهي من ذلك، إلى أن النبوة لم ~~تجعل الأنبياء أكثر علما، بل تركتهم على آرائهم التي كونوها سلفا، ومن ثم ~~نكون في حل من تصديقهم فيما يتعلق بالأمور النظرية الخالصة. # لقد تسرع الجميع بصورة تدعو إلى الدهشة في الاقتناع بأن الأنبياء قد عرفوا كل ~~ما يستطيع الذهن الإنساني أن يحيط به، ومع أن بعض نصوص الكتاب تخبرنا بوضوح تام ~~بأن بعض الأنبياء قد جهلوا بعض الأشياء، فإن الناس يفضلون أن يصرحوا بأنهم لا ~~يفهمون هذه النصوص، على أن يسلموا بأن الأنبياء قد جهلوا شيئا ما، أو هم يتعسفون ~~في تأويل نص الكتاب لكي يخرجوا منه بما لم يقله النص صراحة. ولا شك أن ~~استباحة مثل هذه الحرية تعني القضاء على الكتاب المقدس قضاء مبرما. فلن ينجح ~~أحد في البرهنة على شيء بالكتاب إذا ما سمح لنفسه بوضع النصوص الواضحة في عداد ~~الأشياء الغامضة التي تستعصي على الفهم أو بتفسيرها حسب هواه. فمثلا، ليس في الكتاب ~~ما هو أوضح من هذه الواقعة: اعتقد يشوع، وربما اعتقد معه أيضا كاتب قصته ~~بدوران الشمس حول الأرض، وبثبات الأرض، وبتوقف الشمس بعض الوقت. ومع ذلك فنظرا ~~إلى أن كثيرا من الناس لا يريدون التسليم بوقوع أي تغير في السموات والأرض، ~~فإنهم يفسرون النص بحيث يبدو وكأنه لم يشر مطلقا إلى مثل هذا المعنى. وهناك ~~آخرون، وهم الذين تعودوا على التفلسف بطريقة أصح، يعلمون أن الأرض تتحرك، وأن ~~الشمس ثابتة، وهؤلاء يبذلون جهودا يائسة من أجل استخلاص هذه الحقيقة من الكتاب ~~بالرغم من وضوح معانيه. والحق إني لمعجب بهم! # 36 # وأتساءل: هل نحن ملزمون بأن نعتقد بأن يشوع ms118 الجندي كان ضليعا في علم ~~الفك؟ هل نحن ملزمون بأن نعتقد باستحالة كشف التنبؤات له أو ببقاء ضوء الشمس في ~~الأفق أكثر من المعتاد دون أن يعلم يشوع علة هذه الظاهرة؟ في رأيي أن كلا ~~التفسيرين ساذج، والأفضل أن أقول صراحة إن يشوع قد جهل علة بقاء الضوء، وإنه ~~اعتقد مع جمهور الحاضرين بدوران الشمس حول الأرض، وبأنها توقفت في هذا اليوم بعض ~~الوقت، ولم يلحظ أن كمية الثلج الضخمة التي كانت عندئذ معلقة بالهواء (انظر: ~~يشوع، 10: 11)، # 37 # أو أية علة أخرى مشابهة، لا نود أن نبحث عنها، قد تكون هي السبب ~~في حدوث انعكاس غير عادي للضوء. وكذلك كشف لأشعيا تراجع الظل على مستوى ~~فهمه بتراجع الشمس لأنه كان يعتقد أيضا بأن الشمس تتحرك، وبأن الأرض ثابتة، ~~ولم يخطر على باله حتى في المنام فكرة الطيف. # 38 # ونستطيع أن نسلم بذلك دون أدنى تخوف، إذا كان من الممكن أن تظهر هذه ~~الآية بالفعل، وأن يتنبأ بها أشعيا للملك، على الرغم من جهل النبي بعلتها. ويجب ~~أيضا أن نقول الشيء نفسه بشأن تشييد هيكل سيلمان، هذا إذا كان الله قد أوحى له به. ~~وبعبارة أخرى، لقد أوحيت كل المقاييس إلى سليمان بوسائل على مستوى فهمه وطبقا ~~لآرائه؛ ذلك لأنه، نظرا إلى أننا غير ملزمين بالاعتقاد بأن سليمان كان رياضيا، ~~فمن حقنا أن نؤكد أنه كان يجهل نسبة محيط الدائرة إلى قطرها، وكان يظن مع ~~جمهرة العمال أنها نسبة 3 إلى 1، فإذا قيل إننا لم نفهم نص سفر الملوك (7: 23) # 39 # فإني لا أعلم، في الحق، ماذا يمكننا أن نفهم من الكتاب؛ ذلك لأن ما ورد ~~في هذا الموضع كان مجرد وصف للبناء، وعلى نحو تاريخي محض. أما إذا اعتقد ~~أحد أنه يستطيع افتراض قصد آخر للكتاب لم يصرح به لسبب نجهله، فإن هذا أمر ~~لا يترتب عليه أقل من أن نقلب الكتاب بأسره رأسا على عقب؛ إذ يحق لكل فرد ~~أن يفعل هذا الشيء نفسه مع نصوص الكتاب كلها، ويتخذ الكتاب المقدس عندئذ ستارا ~~يبيح ms119 للمرء أن يؤكد، ويضع موضع التنفيذ كل ما يستطيع خبث الإنسان أن يبتدعه من ~~بطلان وشر، # 40 # ومن ناحية أخرى، فإن ما نسلم به الآن لا يتضمن أي كفر؛ ذلك لأن ~~سليمان وأشعيا ويشوع ليسوا أنبياء فحسب، بل بشر أيضا، يصدق عليهم ما يصدق على ~~البشر. فقد أوحي إلى نوح، بطريقة على مستوى فهمه، بأن الله سيهلك الجنس البشري. ~~الواقع أن نوحا كان يعتقد أن العالم كله، باستثناء فلسطين، لم يكن مسكونا، ولم ~~يجهل الأنبياء مثل هذه الأشياء فحسب، بل جهلوا أيضا أشياء أخرى كثيرة أكثر أهمية، ~~ولا ينقص جهلهم هذا من تقواهم شيئا لأنهم لم يقولوا شيئا خاصا يتعلق بصفات ~~الله، بل كانت آراؤهم عنه هي بعينها الآراء المتداولة، وكان الوحي الذي هبط عليهم ~~متناسبا مع آرائهم كما سأبين بعد قليل بنصوص كثيرة من الكتاب. وهكذا نرى بوضوح ~~أن ما ناله الأنبياء من ثناء وتقدير عظيمين لا يرجع إلى مزايا روحية عالية بل ~~إلى تقواهم ورسوخ إيمانهم. # 41 # وقد كان آدم - وهو أول من كشف له الله عن نفسه - يجهل أن الله حاضر في كل مكان ~~وأنه بكل شيء عليم، فقد أخفى نفسه بالفعل عن الله، وحاول في حضوره الاعتذار عن ~~خطيئته وكأنه أمام إنسان مثله. وإذن فقد كان كشف الله له عن نفسه بطريقة على ~~مستوى فهمه، أعني كموجود لا يوجد في كل مكان في الوقت نفسه، ويجهل خطيئة آدم ~~والمكان الذي يوجد فيه. لقد سمع آدم بالفعل أو ظن أنه سمع الله سائرا في ~~الحديقة، وظن أن الله ناداه وسأله عن مكانه، وأن الله، بعد أن لحظ اضطرابه، سأله ~~إن كان قد أكل الفاكهة من الشجرة المحرمة، فآدم لم يعلم من صفات الله إلا أنه ~~خالق كل شيء، # 42 # كذلك كشف الله عن نفسه على مستوى فهم قابيل كموجود يجهل أمور البشر، ~~ولم يكن قابيل في حاجة إلى معرفة أسمى بالله كيما يتوب عن خطيئته. وقد كشف الله عن ~~نفسه للابان # 43 # على أنه إله إبراهيم، لاعتقاد لابان بأن لكل أمة ms120 إلها خاصا ~~(انظر: التكوين، 31: 29) # 44 # وقد كان إبراهيم بدوره يجهل أن الله ~~موجود في كل مكان وأنه عليم بكل شيء، فعندما سمع الحكم الذي صدر ضد سكان سدوم # 45 # توسل إلى الله ألا ينفذ حكمه حتى يتأكد من أن جميعهم يستحقون ~~هذا العذاب، وهكذا قال: (انظر: التكوين، 18: 24) (ربما) إن وجد خمسون بارا في ~~المدينة. ولم يكشف الله له عن نفسه بطريقة أخرى، إذ إنه تحدث من خلال خيال ~~إبراهيم على النحو الآتي: «أنزل وأرى هل فعلوا طبق صراخها البالغ إلي وإلا ~~فاعلم.» (التكوين، 18: 21). أما الشهادة الإلهية لإبراهيم (انظر: التكوين، 18: 19)، # 46 # فلا تدل إلا على طاعته وتربيته أهل ~~بيته على العدل والخير، ولا تدل على أن لديه عن الله أفكارا سامية. كذلك لم ~~يدرك موسى بما فيه الكفاية أن الله عالم بكل شيء وأن مشيئته وحدها هي ~~الموجهة لأفعال البشر كلها، فعندما قال له الله (انظر: الخروج، 35: 18): # 47 # إن الإسرائيليين سيطيعونه شك في الأمر وأجاب قائلا (انظر الخروج، ~~4: 1): «إنهم لا يصدقونني ولا يسمعون لقولي.» وهكذا كشف الله له عن نفسه كأنه ~~لا يكترث بشيء ويمهل أفعال البشر المستقبلة. والواقع أن الله أعطاه آيتين ~~قائلا (الخروج، 4: 8): «فيكون إذا لم يصدقوك ~~ولم يسمعوا لصوت الآية الأولى، أنهم يصدقون صوت الآية الأخيرة، وإن لم ~~يصدقوا هاتين الآيتين ولم يسمعوا لقولك فخذ من ماء النهر ... إلخ.» ومن المؤكد أننا ~~إذا أردنا أن نفسر عبارات موسى دون فكرة مسبقة لا يتضح لنا تماما أنه يتصور ~~الله موجودا على الدوام في الماضي والحاضر والمستقبل؛ ولذلك يسميه يهوه، وهي ~~كلمة تدل في العبرية على أصول الزمان الثلاثة هذه. # 48 # ولم يذكر موسى شيئا عن طبيعة الله سوى أنه رحيم لطيف ... إلخ، ~~وغيور جدا، كما يتضح في نصوص عديدة من ~~الأسفار الخمسة. ثانيا لقد اعتقد وأعلن أن هذا الموجود مختلف عن سائر الموجودات ~~إلى حد أنه لا يمكن التعبير عنه بأية صورة أو شيء حسي بعيد عن الأبصار؛ لضعف ~~الإنسان لا لتناقض تنطوي عليه مثل هذه الرؤيا. أما فيما يتعلق بالقدرة فإنه ~~تصور الله ms121 فردا واحدا، ويسلم موسى بوجود موجودات تحل محل الله (ويحدث ذلك ~~بلا شك بأمر من الله وبتفويض منه) أي بموجودات أعطاها الله السلطة والحق ~~والقدرة لإرشاد الأمم ولحمايتها والمحافظة عليها. ولكنه نادى بأن هذا الموجود ~~الذي وجب على اليهود عبادته هو الإله المهيمن الأعلى. وبعبارة أخرى، (أي بتعبير ~~عبري) فهو إله الآلهة؛ لذلك يقول في نشيد الخروج (15: 11): «من مثلك في الآلهة يا رب.» ~~ويقول يترو # 49 ~~(18: 11): «الآن علمت أن الرب عظيم فوق جميع الآلهة.» أي أنني يجب أن ~~أسلم مع موسى بأن يهوه أكبر الآلهة جميعا، وله قدرة لا نظير لها، ومع ذلك، فهل ~~اعتقد موسى أن الله خلق هذه الموجودات التي تقوم مكانه؟ # 50 # يحق لنا أن نشك في ذلك لأنه - على ما نعلم - لم يقل شيئا يتعلق ~~بخلقها ونشأتها. ثالثا، نادى موسى بأن هذا الموجود قد أخرج هذا العالم المرئي من ~~العماء وأقام فيه النظام (انظر: التكوين، 1: 2) # 51 # ووضع في الطبيعة بذور الأشياء وبذلك يكون له على الأشياء جميعا حق ~~مطلق وسيطرة كاملة. وباستعماله لهذا الحق ولهذه القدرة اصطفى الأمة العبرانية ~~(انظر: التثنية، 10: 14-15، 32: 8-9) # 52 # وترك الأمم الأخرى وسائر أقطار الأرض في رعاية الآلهة الأخرى التي حل ~~محلها، ومن هنا سمي بإله إسرائيل وإله أورشليم (انظر: أخبار الأيام الثاني 32: 19) # 53 # بينما سميت سائر الآلهة آلهة الأمم الأخرى؛ ولهذا السبب ذاته اعتقد ~~اليهود أن هذا الإقليم الذي اختاره الله يحتاج إلى عبادة خاصة مختلفة عن عبادة ~~الأقطار الأخرى، بل إنه لا يمكنه تحمل عبادة الآلهة الأخرى، الخاصة ببقية ~~الأقاليم. وكان الاعتقاد السائد هو أن الأسود ستمزق الشعوب التي قادها ملك آشور ~~في أراضي العبرانيين؛ لأنها تجهل عبادة آلهة هذه الأرض (انظر: الملوك الثاني، 17: ~~25-26، وما بعدهما)؛ # 54 # ولذلك، طلب يعقوب من أبنائه عندما أراد الرجوع إلى وطنه، كما يرى أبو عزرا، # 55 # أن يستعدوا لعبادة جديدة وأن يتركوا الآلهة الأجنبية أي آلهة الأرض التي ~~كانوا عليها آنذاك (انظر: التكوين، 35: 2-3)، # 56 # وكذلك عندما أراد داود أن يبين لشاءول، # 57 # أن هذا الملك أجبره على أن يعيش خارج وطنه هربا من اضطهاده ms122 له قال: ~~إنه استبعد من ميراث الله، وإنه أرسل لخدمة آلهة أخرى (انظر صموئيل الأول، 2: 19). # 58 # وأخيرا، اعتقد موسى أن هذا الموجود، ~~أي الله، يقطن السموات (انظر التثنية، 33: 27)، # 59 # وكانت هذه الفكرة منتشرة على أوسع نطاق ~~بين غير اليهود. # 60 # فإذا ما تأملنا الوحي الذي هبط على موسى نجد أنه قد تكيف حسب ~~آرائه. وما كان يعتقد حقيقة أن طبيعة الله تخضع لهذه الشروط التي تحدثنا عنها، ~~أعني الرحمة واللطف ... إلخ. فقد كشف الله له عن نفسه طبقا لهذا الاعتقاد، وبهذه ~~الصفات (انظر: الخروج، 34: 6-7)، # 61 # ويروي النص كيف ظهر الله لموسى، وكذلك الوصايا العشر (20: 4-5)، # 62 # ويروى أيضا في الإصحاح 33، الآية 18، # 63 # إن موسى طلب من الله أن يريه نفسه، ولكن لما كان موسى - كما قلنا - لم ~~يكون في مخيلته أية صورة لله، ولما كان الله - كما أثبتنا من قبل - لم يكشف عن ~~نفسه للأنبياء إلا حسب استعداد خيالهم؛ لذلك لم يظهر الله لموسى في أية صورة. ~~وأقول: إن الأمر كان على هذا النحو لأن خيال موسى كان يمنع من حدوثه على أي نحو آخر. # 64 # ولكن هناك أنبياء آخرين شهدوا بأنهم قد رأوا الله حقيقة، مثل أشعيا وحزقيال ~~ودانيال ... إلخ؛ لذلك رد الله على موسى قائلا: «لن تستطيع أن ترى وجهي.» ولما كان ~~موسى يعتقد بإمكان رؤية الله، أي إنه لم ير أي تناقض بين طبيعة الله وإمكان رؤيته، ~~وإلا لما طلب رؤيته، فقد أضاف الله قائلا: «لأنه لا يمكن لأحد أن يراني ~~ويظل حيا.» وبذلك أعطى الله سببا متفقا مع رأي موسى، فلم يقل: إن هناك ~~تناقضا - كما هو موجود بالفعل - بين الطبيعة ~~الإلهية وإمكان الرؤية، بل قال: لا يمكن للإنسان أن يرى الله بسبب ضعف الإنسان. كذلك ~~قال الله لموسى لكي يوحي إليه بأن الإسرائيليين بعبادتهم العجل أصبحوا مثل باقي ~~الأمم (33: 2-3)، # 65 # إنه سيرسل ملاكا، أي موجودا يرعى الإسرائيليين بدلا من الموجود الأعظم؛ ~~لأن الله لا يريد أن يكون بينهم بعد الموت؛ وعلى هذا النحو لم يعد هناك ما يدعو موسى ~~إلى الاعتقاد بأن الله أحب ms123 اليهود أكثر مما أحب الأمم الأخرى التي تركها الله ~~أيضا في رعاية موجودات أخرى، أي في رعاية ملائكة. وهذا ما تؤكده الآية 16 من الإصحاح. # 66 # وأخيرا، فلما كان موسى يعتقد أن الله يقطن السموات، فإن الله قد ~~تكشف له هابطا من السماء على الجبل، وفي مقابل ذلك صعد موسى إلى أعلى الجبل ~~ليتحدث مع الله، وهو ما لم يكن في حاجة إلى أن يفعله لو استطاع أن يتصور الله ~~موجودا بالسهولة في كل مكان. # ومع أن الله كشف عن نفسه لموسى فإن ~~الإسرائيليين لم يعلموا عنه شيئا يذكر. وقد ظهر ذلك بوضوح عندما عظموا العجل ~~وعبدوه بعد بضعة أيام، معتقدين أن العجل هو هذه الآلهة التي أخرجتهم من مصر. إن ~~من الواجب قطعا ألا نعتقد أن أناسا غارقين في خرافات المصريين، أعني أناسا ~~أجلافا أنهكهم شقاء العبودية، قد عرفوا الله معرفة صحيحة، أو أن موسى قد علمهم ~~شيئا أكثر من قواعد السلوك في الحياة، ولم يعلمهم ذلك كفيلسوف، بحيث يستطيعون أن ~~يحيوا سعداء بفضل تمتعهم بالحرية الكاملة، بل علمهم ذلك كمشروع بحيث تدفعهم ~~طاعة أوامر الشريعة إلى مثل هذه الحياة. وهكذا، فإن قاعدة السلوك التي تؤدي إلى ~~الحياة السعيدة، أي إلى الحياة الحقة، وإلى حب الله وعبادته؛ كانت بالنسبة إليهم ~~عبودية لا حرية حقيقية، أي نعمة وفضلا إلهيا. لقد أمرهم موسى بحب الله وبتطبيق ~~شريعته ليتعرفوا على النعم التي وهبهم الله إياها من قبل (أي الحرية من بعد ~~عبوديتهم في مصر ... إلخ)، كما هددهم بأشد العقاب إذا عصوا هذه الأوامر ووعدهم ~~بأحسن الجزاء إذا هم أطاعوها. وهكذا علم موسى العبرانيين كما يعلم الآباء ~~الأطفال الذين لا عقل لهم على الإطلاق؛ ولذلك، فإن من المؤكد أنهم جهلوا تماما ~~سمو الفضيلة والسعادة الحقة. # 67 # وقد ظن يونس # 68 # أنه قد تنصل من حضور الله، وهذا يدل - فيما يبدو - على أنه اعتقد أيضا ~~أن الله قد نقل رعاية المناطق الأخرى خارج يهودا إلى قوى أخرى تحل محله. ولا نرى ~~في العهد القديم من تحدث عن الله ms124 بطريقة عقلية إلا سليمان الذي استطاع بالنور ~~الفطري أن يتفوق على عصره كله؛ ولذلك رأى نفسه أسمى من الشريعة (لأن الشريعة وضعت ~~للذين لا يتمتعون بالعقل وبتعاليم النور الفطري) ولم يعبأ بكل القوانين الخاصة ~~بالملك، والتي تتكون من ثلاث مجموعات رئيسة، إلا في حالات قليلة (انظر: التثنية، ~~17: 16-17) # 69 # بل خرقها علنا، وإن كان مخطئا في ذلك، ولم يكن سلوكه سلوك فيلسوف جدير ~~بهذا الاسم لسعيه وراء اللذات، وقد نادى بأن كل الخيرات التي تجلبها الثروة هي ~~أمور زائلة عند الفانين (انظر: الجامعة) وأن الذهن أعظم ما لدى البشر، وأن ضياع العقل ~~أشد عذاب يمكن أن يصيبهم (انظر: الأمثال، 16: 22). # 70 # ولكن لنعد الآن إلى الأنبياء لنتحدث ~~طبقا للخطة التي وضعناها عن اختلافهم في الآراء. لقد بدت أفكار حزقيال للأحبار ~~الذين نقلوا لنا كتب الأنبياء (أو ما بقي منها) مناقضة لأفكار موسى (انظر الرواية في ~~رسالة السبت، الإصحاح 21، ورقة 33، ص2) # 71 # إلى حد أنهم كانوا على استعداد لأن يقرروا استبعاد سفر حزقيال من ~~بين الكتب المقننة، وكادوا يستبعدونه تماما لولا أنه أتى شخص يدعى حنينيا # 72 # في شرحه وأتم ذلك بعد عناء وجهد كبير (كما تروي رسالة السبت) ولكن كيف ~~فسره؟ هذا ما لا يعرفه أحد على وجه التحديد، فهل كتب شرحا ثم ضاع، أم أنه غير كلمات ~~حزقيال وصحح خطبه كما تراءى له (ولم تكن تنقصه الشجاعة لذلك)؟ مهما يكن من شيء ~~فإن الإصحاح 18 لا يبدو متفقا مع الآية 7 من الإصحاح 24 من سفر الخروج، ولا مع الآية ~~18 من الإصحاح 32 من إرميا ... إلخ. # 73 # لقد اعتقد صموئيل أن الله لا يتراجع أبدا عما يقرره بعد أن ~~يقرره بالفعل (انظر صموئيل الأول، 15: 29)؛ # 74 # لذلك قال لشاءول بعد أن تاب من خطيئته، وأراد أن يعبد الله ويطلب منه ~~النعمة، إن الله لا يغير حكما أصدره ضده. أما إرميا فقد أوحي إليه عكس ~~ذلك تماما (انظر 18: 8-10) # 75 # فقد يتراجع الله عن حكمه، سواء أكان هذا الحكم حسنا أم سيئا بالنسبة ~~لأمة ما، إذا ما تغير الناس بعد الحكم إلى أحسن أو إلى ms125 أسوأ. وكان يوئيل # 76 # يعتقد أن الله يتوب عن الشر فقط (2: 13). # 77 # وأخيرا، يظهر بوضوح تام من الإصحاح 4 من سفر التكوين، الآية 7 # 78 # أن باستطاعة الإنسان ألا يستسلم لغواية الخطيئة، وأن يسلك سلوكا ~~حسنا. وقد قيل ذلك لقابيل الذي استسلم لها مع ذلك، وهذا ما نقرؤه في الكتاب نفسه وفي ~~تاريخ يوسف، # 79 # وتظهر هذه الفكرة نفسها بأعظم قدر من الوضوح في الإصحاح المذكور آنفا ~~في إرميا، إذ يقول: إن الله يرجع عن حكمه الذي أصدره ضد البشر أو في صالحهم إذا ~~ما أراد البشر تغيير سلوكهم وطريقتهم في الحياة. وعلى العكس، دعا بولس صراحة إلى ~~الاعتقاد بأن البشر لا قدرة لهم على مقاومة غواية الجسد إلا برسالة فريدة بفضل من ~~الله. انظر رسالته إلى أهل رومية، الإصحاح 9 ابتداء من الآية 10 ~~وما بعدها، ولاحظ أنه في الإصحاح 3، الآية 5، وفي ~~الإصحاح 6، الآية 19، # 80 # حيث ينسب إلى الله صفة العدل، يستغفر لأنه تحدث كما يتحدث البشر ~~نظرا لضعف الجسد. # هذا يكفي لإثبات ما أردنا البرهنة عليه وهو أن الوحي الذي أرسله الله كان يتغير ~~وفقا لفهم الأنبياء وآرائهم، # 81 # وأن الأنبياء كان يمكن أن يجهلوا، بل وجهلوا بالفعل، تلك الموضوعات ~~النظرية الخالصة التي لا تتعلق بالإحسان وبالحياة العملية. وأخيرا إن آراء ~~الأنبياء كانت متعارضة فيما بينها؛ لذلك، فلا جدوى على الإطلاق من أن نلتمس لديهم ~~معرفة بالأشياء الطبيعية والروحية. والنتيجة التي ننتهي إليها إذن، هي أننا لسنا ~~ملزمين بالإيمان بالأنبياء إلا فيما يتعلق بغاية الوحي وجوهره، أما فيما عدا ذلك ~~فيستطيع كل فرد أن يؤمن بما يشاء بحرية تامة. مثال ذلك أن وحي قابيل لا ~~يعلمنا سوى أن الله قد حذره وطلب منه أن يعيش حياة أفضل، وهذا وحده هو هدف ~~الوحي وجوهره، وليس تعليم حرية الإرادة أو أية نظرية فلسفية. ومع أن حرية ~~الإرادة متضمنة بوضوح تام في هذا التبكيت وفي طريقة التصريح به، فإنه يجوز لنا ~~أن نصدر حكما مخالفا لأن هذه الكلمات وهذه الطريقة في التعبير قد تكيفت ~~حسب فهم قابيل وحده. # 82 # وكذلك لا يعلمنا ms126 وحي ميخا إلا أن الله أوحى إليه بالنهاية الحقيقية ~~لمعركة أخآب ضد آرام، ومن ثم، كان هذا وحده هو ما يجب أن نؤمن به. ولا تهمنا ~~مطلقا أية زيادة على ذلك فيما يتعلق بروح الله الحقيقية أو الباطلة أو جيش ~~السماء الذي يعسكر على جانبي الله، وكذلك باقي ملابسات الوحي؛ وعلى ذلك، فليحكم ~~كل إنسان على هذه الأمور بما يتفق مع عقله. وفيما يتعلق بالحجج التي يبرهن ~~بها الله لأيوب على أن كل شيء واقع تحت قدرته - لو ~~كان هذا الوحي قد بلغ إلى أيوب حقيقة وكان كاتبه ~~قد أراد أن يروي قصة دون أن يعبر عن أفكاره بالصور # 83 ~~(كما يعتقد البعض) - ينبغي أن نقول ما يأتي: إن هذه الحجج قد وضعت على ~~مستوى فهم أيوب لإقناعه هو وليست حججا عامة لإقناع جميع الناس. ونقول الشيء ~~نفسه عن الأسباب التي لجأ إليها المسيح لإقناع الفريسيين بعصيانهم وبجهلهم، ولدعوة ~~تلاميذه للحياة الحقة، فقد كيف أسبابه طبقا لآراء كل فرد ومبادئه. فعندما يقول ~~مثلا للفريسيين (انظر: متى، 22: 26): «فإن كان الشيطان يخرج الشيطان فقد انقسم على ~~نفسه، فكيف تثبت مملكته؟» لم يكن يريد إلا إقناعهم بمبادئهم الخاصة، ولم يكن ~~هدفه هو أن يعرفهم أن هناك شياطين ومملكة للشياطين. كذلك عندما يقول لتلامذته ~~(متى، 18: 10): «واحذروا أن تحتقروا أحد هؤلاء الصغار فإني أقول لكم إن ~~ملائكتهم في السموات ... إلخ.» كان كل ما أراد أن يقوله هو أنه لا ينبغي أن يكونوا ~~مغرورين أو أن يحتقروا أحدا، ولم يكن هدفه هو أن يعلمهم شيئا مما يتضمنه ~~أسلوبه الذي اتبعه ليحسن إقناع تلامذته. وهذا بعينه هو ما ينبغي أن يقال بشأن ~~أساليب الحواريين والآيات التي استعملوها، وهو موضوع لا نجد فائدة هنا من إطالة ~~الحديث فيه؛ ذلك لأنني سأحيد عن الإيجاز الذي أحاول أن ألتزم به إذا كان علي أن ~~أحصي جميع نصوص الكتاب التي كتبت لإنسان واحد؛ أي التي تكيفت حسب فهم شخص ~~معين وبالتالي لا يمكنني تقديمها على أنها تعاليم إلهية # 84 # دون أن يكون في ms127 ذلك خسارة كبيرة للفلسفة. يكفي إذن عرضي لبعض النقاط ~~القليلة ذات الأهمية العامة، ويمكن للقارئ الفاحص أن يختبر بقية النصوص بنفسه. ومع ~~ذلك، فعلى الرغم من أن هذه الملاحظات التي ذكرناها من قبل في موضوع الأنبياء ~~والنبوة هي وحدها التي تؤدي مباشرة إلى الغاية ~~التي أرمي إليها، وهي التمييز بين الفلسفة واللاهوت، فإني، نظرا إلى انسياقي إلى ~~الحديث عن هذا الموضوع بوجه عام، أرى من المفيد أن أبحث أيضا فيما إذا كانت هبة ~~النبوة خاصة بالعبرانيين وحدهم أو أنها عامة لكل الأمم، ثم أبحث بعد ذلك ~~فيما يجب أن نعتقده بشأن رسالة العبرانيين، وهذا هو موضوع الفصل القادم. # الفصل الثالث # | رسالة العبرانيين وهل كانت هبة النبوة وقفا ~~عليهم؟ # إن سعادة الفرد ونعيمه الحقيقي لا يكونان إلا في تمتعه بالخير، لا في فخره بأنه ~~وحده الذي يتمتع به مع استبعاد الآخرين. ومن يظن أنه حصل على سعادة أكبر لأنه وحده ~~في حالة طيبة على حين أن الآخرين ليسوا كذلك، أو لأنه يتمتع بسعادة أكبر أو ~~لكونه أسعد حظا من الآخرين، مثل هذا الشخص يجهل السعادة والنعيم الحقيقي. فالفرح ~~الذي يشعر به المرء نتيجة لاعتقاده أنه أسمى من الآخرين، إن لم يكن شعورا طفوليا، ~~فإنه لا ينشأ إلا من الحسد أو من القلب الحاقد. مثال ذلك أن الهناء الحقيقي ~~وسعادة الإنسان لا يكونان إلا في الحكمة وحدها ومعرفة ما هو حق، وليس على الإطلاق في ~~أن يكون أحكم من الآخرين أو في أن يكون الآخرون محرومين من الحكمة؛ لأن ذلك لن يزيد ~~أبدا من حكمته الخالصة أي من هنائه الحقيقي، فمن يفرح لذلك يفرح لشقاء الآخرين ~~ويكون حسودا شريرا لا يعلم الحكمة الحقيقية أو طمأنينة الحياة الحقة. وعلى ذلك، ~~فعندما يقول الكتاب، لحث العبرانيين على طاعة الشريعة: إن الله قد اصطفاهم من بين ~~سائر الأمم (التثنية، 10: 15)، # 1 # وأنه قريب منهم، بعيد عن الآخرين (التثنية، 4: 4، 7)، # 2 # وأنه وضع شرائع عادلة لهم وحدهم (السفر نفسه، 4: 8)، # 3 # وأنه أعطاهم وحدهم شرف معرفته - (والسفر نفسه، 4: 32)، # 4 # فإنه إنما يتحدث على ms128 مستوى فهم العبرانيين الذين لم يكونوا يعرفون ~~السعادة الحقيقية، كما ذكرنا في الفصل السابق، وكما يشهد موسى نفسه (التثنية، 9: 6-7)، # 5 # وما كانوا ليحصلوا على سعادة أقل لو أن الله دعا الناس جميعا للخلاص، ~~وما كان الله أقل رعاية لهم لو أنه أعطى الآخرين عونا مماثلا، وما كانت ~~الشرائع أقل عدالة، أو كان العبرانيون أقل حكمة، لو أن الشرائع وضعت ~~للجميع، وما كانت المعجزات أقل إظهارا لقدرة الله لو أنها أظهرت لأمم أخرى. ~~وأخيرا، ما كان التزام العبرانيين بعبادة الله يبدو أقل لو أن الله أعطى كل هذه ~~الهبات جميع الناس على السواء. أما فيما يتعلق بما قاله الله لسليمان (انظر: الملوك ~~الأول، 3: 12)، # 6 # من أنه لن يظهر إنسان بعده يساويه حكمة، فإن هذا القول لا يتعدى ~~أن يكون مجرد طريقة في الكلام تدل على حكمته العالية. ومهما يكن من شيء، فإنه لا ~~ينبغي الاعتقاد بأن الله وعد سليمان - لكي يزيد من سعادته - بألا يعطي إنسانا ~~غيره من الحكمة بقدر ما أعطاه؛ لأن ذلك لن يزيد من ذهن سليمان شيئا، وما كان هذا ~~الملك الفطن ليقلل من ثنائه على الله لنعمه الكثيرة عليه، حتى لو أن الله ~~أنبأه بأنه سيعطي الجميع حكمة مماثلة. # وبالرغم من قولنا بأن موسى قد تحدث بلغة على مستوى فهم العبرانيين في النصوص ~~التي ذكرناها آنفا من الأسفار الخمسة، فإننا لا ننكر أن الله قد وضع لهم وحدهم ~~الشرائع الموجودة في هذه الأسفار الخمسة، وأنه خاطبهم وحدهم، وأنهم وحدهم رأوا من ~~الأشياء التي تبعث على الدهشة ما لم تره أية أمة أخرى، بل إن ما نذهب إليه ~~هو أن موسى أراد بهذه اللغة، واستخدام هذه الأساليب أن يعلم العبرانيين عبادة الله ~~وأن يربطهم به بطريقة تناسب روحهم الساذجة. كذلك، فإننا سنذهب إلى أن نبرهن ~~على أن العبرانيين لم يتميزوا عن سائر الأمم بالعلم أو التقوى، بل تميزوا بشيء ~~آخر، أو أن العبرانيين، (إذا شئنا أن نتحدث بلغة على مستوى فهمهم كما يتحدث ~~الكتاب)، بالرغم من التحذيرات المستمرة التي وجهت ms129 إليهم، لم يكونوا أصفياء الله ~~في الحياة الحقة أو في الأنظار السامية ، بل في شيء آخر مختلف كل الاختلاف، ~~وسأحاول أن أبينه متبعا ترتيبا منظما. # 7 # ولكني قبل أن أشرع في ذلك أريد أن أشرح في كلمات قليلة المعنى الذي سوف ~~أستخدمه فيما يلي للتعبيرات الآتية: حكم الله، عون الله الخارجي والداخلي، اختيار ~~الله، وأخيرا الحظ. فأنا أعني بالحكم الإلهي # 8 # نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير، أو بعبارة أخرى تسلسل الأشياء ~~الطبيعية. وقد بينا من قبل، وأثبتنا في موضع آخر، # 9 # أن قوانين الطبيعة الشاملة التي يحدث كل شيء ويتحدد طبقا لها، ~~ليست سوى أوامر الله الأزلية التي تنطوي على حقيقة وضرورة أزلية. # 10 # وإذن فلو قلنا إن كل شيء يحدث طبقا لقوانين الطبيعة أو ينتظم بحكم ~~الله أو بأمره فإننا نقول الشيء نفسه. ثانيا، لما كانت قوة جميع الأشياء ~~الطبيعية هي في ذاتها قدرة الله نفسها التي يحدث بها كل شيء ويتحدد، فيترتب على ~~ذلك أن كل ما يستعين به الإنسان - وهو نفسه جزء من الطبيعة - في عمله للمحافظة ~~على وجوده، وكل ما تقدمه الطبيعة له - دون أن تتطلب منه جهدا ~~- قد قدمته له في الحقيقة القدرة الإلهية وحدها ~~من حيث هي فاعلة من خلال طبيعة الإنسان نفسها، أو من خلال أشياء خارجة عن طبيعة ~~الإنسان ذاتها. # 11 # وإذن يمكننا أن نسمي كل ما تستطيع الطبيعة الإنسانية أن تنتجه ~~بقدرتها الخاصة للمحافظة على وجودها عون الله الداخلي، # 12 # ونسمي كل ما تنتجه قوة الأشياء الخارجية مما فيه منفعة هذه ~~الطبيعة الإنسانية، بالعون الخارجي. ومن هذا يبدو لنا بوضوح ماذا نقصد باختيار الله. ~~فلما كان من المحال ألا يسلك أحد سلوكا إلا طبقا لنظام الطبيعة المحدد ~~من قبل، أي طبقا لحكم الله وأمره الأزلي، فإنه يترتب على ذلك أن أحدا لا ~~يختار أسلوب حياته أو يفعل شيئا إلا برسالة خاصة من الله الذي اختار هذا الفرد ~~وفضله على الآخرين ليقوم بهذا العمل أو ليحيا وفقا لهذا الأسلوب. وأخيرا، أقصد ~~بالحظ حكم الله من حيث سيطرته ms130 على أمور البشر عن طريق العلل الخارجية التي لا ~~يمكن توقعها. وبعد أن وضعت هذه التعريفات فلنعد إلى موضوعنا، ولنبحث في السبب ~~الذي سميت من أجله الأمة العبرانية أمة مختارة ومفضلة على سائر الأمم. ولكي ~~أبرهن على ذلك سأسير بالترتيب الآتي: # إن كل ما يمكن أن يكون موضوعا لرغبة صادقة منا يرتد إلى واحد من ~~الموضوعات الرئيسة الثلاثة: معرفة الأشياء بعللها الأولى، والسيطرة على انفعالاتنا ~~أي الحصول على الفضيلة، وأخيرا، العيش في سلام مع جسم سليم. وتوجد الوسائل التي ~~تستخدم مباشرة في الحصول على الموضوعين الأولين - والتي يمكن اعتبارها عللا ~~قريبة وفاعلة لهما - في الطبيعة الإنسانية نفسها؛ لذلك، كان علينا أن نسلم دون أدنى ~~تحفظ بأن هاتين الهبتين لا تخصان أمة دون أمة، بل كانتا على الدوام ~~شائعتين لدى الجنس البشري كله، ومن يرى خلاف ذلك يفترض أن الطبيعة قد خلقت ~~سلفا أنواعا عديدة من الجنس البشري. أما الوسائل التي يتبعها الإنسان ليعيش ~~في أمان وليحافظ على جسده، فإنها توجد أساسا في الأشياء الخارجية؛ لذلك ~~نسميها هبات الحظ لأنها تعتمد إلى حد كبير على مسار العلل الخارجية، وهو ~~المسار الذي لا نعلمه، بحيث يكون الأبله سعيدا أو شقيا في هذا الصدد كالحكيم. ~~ومع ذلك، فلكي يعيش الإنسان في أمان، ولكي يتجنب هجمات البشر والوحوش على ~~السواء، فإن حكم الحياة البشرية واليقظة يفيدانه فائدة جمة. وقد أثبت العقل ~~والتجربة أن أيقن الوسائل لذلك هو تكوين مجتمع يقوم على القوانين السليمة، وشغل ~~منطقة معينة من العالم، واتحاد قوى الجميع في الكيان الاجتماعي نفسه. على أنه ~~لا بد، من أجل تكوين مجتمع والمحافظة عليه، من اكتساب تركيب خاص، ومن يقظة غير ~~عادية. وعلى ذلك، فإن المجتمع الذي يرسي دعائمه ويحكمه أناس على قدر كبير من ~~الدراية واليقظة يكون أكثر أمانا واستقرارا وأقل خضوعا للحظ، أما المجتمع ~~الذي يتكون من أناس أجلاف فإنه يكون أكثر اعتمادا على الحظ وأقل استقرارا. ~~فإذا كان قد بقي مدة طويلة مع وجود ما فيه، فإن هذا يرجع إلى ms131 حكم مجتمع ~~آخر له، لا إلى حكمه الخاص. وإذا خرج سالما من المخاطر الكبيرة وازدهرت أحواله فإنه ~~لا يستطيع إلا أن يقدر حكم الله وأن يعظمه (بقدر ما يفعل الله بوساطة علل ~~خارجة مجهولة لا بوساطة الطبيعة والفكر البشريين) لأنه نال كل شيء على غير ~~انتظار دون تدبير سابق، وهو ما يمكن اعتباره أمرا معجزا. # 13 # في هذا وحده إذن تتميز الأمم فيما بينها، أعني من حيث النظام الاجتماعي والقوانين ~~التي تحكمها وتنظم حياتها. وقد اختار الله الأمة العبرية وفضلها على سائر ~~الأمم، لا بالنسبة إلى حكمتها أو طمأنينة نفسها، بل بالنسبة إلى النظام الاجتماعي ~~وإلى الحظ الذي جلب لها إمبراطورية (دولة) وحفظها لها سنين طويلة. # 14 # ويدل الكتاب على ذلك بدرجة كبيرة من الوضوح، فلو أننا تصفحناه، حتى ~~بطريقة عارضة، لرأينا بوضوح أنه إذا كان العبرانيون قد تميزوا بشيء ما عن ~~الأمم الأخرى، فإنهم قد تميزوا بازدهار أحوالهم فيما يتعلق بالأمن في الحياة، ~~وبما حصلوا عليه من سعادة في التغلب على المخاطر الكبرى. # 15 # وقد تم لهم كل هذا بعون الله الخارجي فحسب، وفيما عدا ذلك كانوا على ~~قدم المساواة مع باقي الأمم، فالله يرعى الجميع على السواء. أما فيما يتعلق ~~بالحكمة، فمن الثابت (وقد بينا ذلك في الفصل السابق) أنه كانت لديهم معتقدات ~~فجة إلى حد بعيد عن الله والطبيعة؛ لذلك لم يخترهم الله ولم يفضلهم على ~~الآخرين لهذا السبب، ولا من أجل الفضيلة والحياة الحقة، فقد كانوا من هذه الناحية على ~~قدم المساواة مع باقي الأمم، ولم يقع الاختيار إلا على قليل منها؛ وعلى ذلك، فقد ~~تم اختيارهم وأعطوا رسالة من أجل الازدهار الدنيوي لدولتهم، ومن أجل مزاياهم ~~المادية. كذلك، فإننا نعتقد أن الله لم يعد البطارقة # 16 ~~⋆ # أو ~~خلفاءهم بأي شيء ما عدا ذلك، بل إن الشريعة لم تعد العبرانيين بشيء مقابل ~~طاعتهم إلا باستمرار دولتهم الذي يسعدون به وبنعم الدنيا، وفي مقابل ذلك فإنها ~~أنذرتهم بسقوط الدولة وبأفدح المصائب لو أنهم عصوا الميثاق ونقضوه. ولا عجب في ~~ذلك، فغاية ms132 كل مجتمع وكل دولة (كما يتضح مما قلناه، وكما سنسهب في ~~بيانه فيما بعد) هي العيش في أمن والحصول على مزايا معينة، إلا أن الدولة ~~لا يمكن أن تبقى إلا بالقوانين التي يلتزم بها كل فرد. ولو أراد جميع أعضاء المجتمع ~~الواحد إلغاء القوانين فإنهم بذلك إنما يقضون على المجتمع وعلى الدولة معا. وعلى ~~ذلك، فإن أية وعود لم تعط لمجتمع العبرانيين، مقابل المراعاة الدائمة ~~للقوانين، وسوى الأمن # 17 ~~⋆ # في ~~الحياة والنعم المادية. وعلى العكس من ذلك، فلم يتنبأ لهم بعذاب أكيد مقابل ~~عصيانهم سوى انهيار الدولة وما ينتج عن ذلك عادة من الشرور، وكذلك بعض المصائب التي ~~تحل بهم خاصة، وذلك نتيجة لانهيار دولتهم. ولسنا في حاجة هنا إلى الإفاضة في ~~هذا الموضوع، وإنما أود فقط أن أضيف أن قوانين العهد القديم قد أوحيت لليهود ~~ووضعت لهم وحدهم؛ إذ إنه لما كان الله قد اختارهم لا لشيء إلا ليكونوا ~~مجتمعا لهم، وليقيموا دولة خاصة بهم، فقد كان من الضروري أن تكون لهم قوانين خاصة. ~~ولكن، هل وضع الله أيضا لسائر الأمم قوانين خاصة، وهل أوحى بتعاليمه إلى ~~المشرعين على طريقة النبوة أي من خلال الصفات التي تعود الأنبياء إعطاءها ~~إياه بخيالهم؟ هذه المسألة لم تتضح بما فيه الكفاية بعد، ولكننا على الأقل نرى ~~في الكتاب أن أمما أخرى قد كونت لها إمبراطورية وقوانين خاصة بحكم الله ~~الخارجي، وسأذكر نصين فقط لإثبات ذلك؛ يروى في سفر التكوين (14: 18-20) # 18 # أن ملكيصادق # 19 # كان ملكا على أورشليم وحبر (كاهن) الله تعالى، وأنه بارك إبراهيم طبقا ~~لقانون الحبر (انظر: العدد، 6: 23)، # 20 # وأن إبراهيم خليل الله أعطى حبر الله عشر غنيمته. ويبين ذلك بوضوح ~~كاف أن الله قبل أن يؤسس الأمة الإسرائيلية نصب ملوكا وأحبارا على ~~أورشليم، ووضع لهم شعائر وقوانين. ولا أستطيع أن أجزم - كما قلت من قبل - إن كان الله ~~قد فعل ذلك بطريق النبوة، ولكني على الأقل مقتنع تماما بأن إبراهيم في أثناء ~~إقامته هناك قد عاش متدينا طبقا لهذه القوانين. والحقيقة أن الله لم ms133 يعط إبراهيم ~~أية شعائر خاصة به، ومع ذلك جاء في الكتاب (التكوين ، 26: 5) # 21 # أن إبراهيم قد عبد الله وعمل بوصاياه ونظمه وقوانينه. ولا شك أن ~~المقصود هو أن هذه الشعائر كانت النظم والوصايا والقوانين التي وضعها الملك ~~ملكيصادق. ويعاتب ملاخي (1: 10-11) اليهود قائلا: «من فيكم يغلق الأبواب (أبواب ~~المعبد) أو يوقد نار مذبحي مجانا لأني لا مسرة لي بكم ولا أرضى تقدمة من ~~أيديكم؛ لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها اسمي عظيم في الأمم. قال رب الجنود.» ولما ~~كان من غير الممكن فهم هذه الكلمات إلا في الزمن الحاضر، وهو الزمن الوحيد المعقول، ~~وإلا حرفنا الكلم عن مواضعه، فإنها تدل بوضوح تام على أن اليهود لم يكونوا ~~في هذا الوقت أحباء الله أكثر من باقي الأمم، بل إن الله كان يكشف عن نفسه ~~بالمعجزات لباقي الشعوب أكثر مما يفعل لليهود الذين استعادوا جزءا من ~~إمبراطوريتهم في ذلك الوقت دون معجزات. كما تدل هذه الكلمات على أن لباقي ~~الأمم طقوسا وشعائر يتقربون بها إلى الله، على أني سأترك هذا الموضوع جانبا؛ إذ ~~يكفي لإثبات ما أريده أن أكون قد بينت أن اختيار اليهود كان يتعلق فقط بالنعم ~~الدنيوية الجسدية وبالحرية، أي بوجود الدولة، وطرق إقامتها ووسائل بقائها، ومن ثم ~~أيضا بالقوانين بقدر ما كانت ضرورية لإقامة هذه الدولة الخاصة، وأخيرا بالطريقة التي ~~أوحيت بها هذه القوانين، وفيما عدا ذلك مما يكون القيمة الحقيقية للإنسان، لم ~~يتميز اليهود على غيرهم بشيء، وإذن فعندما يذكر في الكتاب (انظر: التثنية، 4: 7) # 22 # أنه لا توجد آلهة قريبة من أمة قرب إله اليهود منهم، فيجب أن نفهم ~~هذا القرب بالنسبة إلى الدولة فقط، وفي الزمن الذي وقعت فيه حوادث معجزة كثيرة. ~~أما بالنسبة إلى الذهن والفضيلة، أي بالنسبة إلى السعادة والغبطة، فإن الله يرعى الجميع ~~بقدر متساو، كما قلنا من قبل وبرهنا عليه بالعقل نفسه. وهذا ما يؤكده الكتاب ~~ذاته بالفعل، يقول كاتب المزمور (المزمور 144: 18): «الرب قريب من جميع دعاته الذين ~~يدعونه بالحق.» وفي المزمور نفسه (الآية 9): «الرب صالح ms134 للجميع ومراحمه على كل ~~صنائعه.» ويذكر في المزمور «33 (32): 15» أن الله أعطى الجميع الذهن نفسه. وهذا هو نص ~~الآية: «هو جايل قلوبهم جميعا.» (بالطريقة نفسها) فقد كان العبرانيون يعتقدون حقيقة ~~أن القلب موطن النفس والذهن، وأظن أن هذا معروف للجميع. ويخبرنا الإصحاح 28، ~~الآية 28 من سفر أيوب # 23 # أن الله قد فرض للجميع هذا القانون الذي يقضي بتعظيم الله وبالكف عن ~~الأفعال القبيحة، أي يقضي بالتوجه له بالفعل الصالح. ومن هنا أصبح أيوب وهو غير ~~اليهودي، أحب الجميع لله لأنه فاقهم جميعا في الورع والتدين، ويتبين أخيرا ~~من سفر يونس (4: 2) أن الله يرعى «الجميع ويرحمهم ويسامحهم، وأن رحمته تسعهم ~~جميعا»، وأنه يغفر الخطايا للجميع، دون أن يقصر ذلك على اليهود وحدهم، فيقول يونس: ~~«ولذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش» (من كلمات موسى في الخروج، 34: 6) # 24 ~~«فإني علمت أنك إله رءوف رحيم»؛ ومن ثم فإنك ستعفو عن أهل نينوى. ~~ننتهي إذن (ما دام الله يرعى الجميع على السواء ولم يختر العبرانيين إلا من حيث ~~وجودهم في مجتمع زمني وفي دولة) إلى أن اليهودي بمفرده، خارج عن المجتمع والدولة، ~~لا يتميز عن الآخرين بأية هبة من الله، ومن ثم فلا فرق بينه وبين غير اليهودي. # 25 # ولما كان الله لطيفا رحيما حقا بالجميع، وكانت مهمة النبي أقرب ~~إلى تعليم الفضيلة الحقة وتهذيب البشر منها إلى تعليم القوانين الخاصة بالوطن، فلا ~~شك أن جميع الأمم كان لها أنبياء، وأن هبة النبوة لم تكن قاصرة على ~~العبرانيين. وهذا ما يشهد به التاريخ الديني والتاريخ الدنيوي على السواء. وإذا لم ~~تكن الروايات المقدسة في العهد القديم تدل على إرسال الأنبياء إلى سائر الأمم كما ~~أرسلوا إلى العبرانيين، أو على أن الله لم يرسل إليها صراحة أي نبي غير ~~يهودي، فهذا لا يهم في شيء؛ لأن العبرانيين لم يهتموا إلا برواية شئونهم ~~الخاصة، لا برواية شئون غيرهم من الأمم. يكفي إذن أن نجد في العهد القديم أن ~~أشخاصا غير مختونين وغير يهود مثل نوح، # 26 # وأخنوخ، # 27 # وأبيملك، # 28 # وبلعام # 29 ~~... إلخ قد تنبأوا، وأن ms135 الله من جهة أخرى قد أرسل أنبياء عبرانيين ~~لأمم كثيرة لا لأمتهم وحدها. فقد تنبأ حزقيال لجميع الأمم المعروفة في ~~عصره، ولم يكن عوبديا # 30 # نبيا - على ما نعلم - إلا للأدوميين، وأرسل يونس # 31 # إلى أهل نينوى، ولم يقتصر أشعيا على ندب مصائب اليهود أو الفرح لعودتهم ~~واستقرارهم، بل تحدث أيضا إلى الأمم الأخرى قائلا (16: 9): «لذلك أبكي بكاء ~~يعزير.» وتنبأ في الإصحاح 19 أولا بمصائب المصريين ثم بخلاصهم (19: 19، 21، 25)، # 32 # أعني أنه تنبأ بأن الله سيرسل للمصريين مخلصا يخلصهم، وأنهم ~~سيعرفونه ويعظمونه آخر الأمر بالضحايا والقرابين، وهو يسمي في النهاية هذه ~~الأمة «شعب مصر الذي باركه الله». كل هذه أمور تستحق عن جدارة التنويه بها. ~~وأخيرا، لم يسم إرميا نبي الأمة العبرية وحدها، بل نبي الأمم كلها بلا ~~تمييز (انظر: إرميا، 1: 5)، # 33 # فهو في تنبؤاته يندب مصائب الأمم كلها كما يتنبأ بخلاصها فيقول ~~(48: 31) بخصوص المؤابيين «لذلك أولول على مؤاب كالمزمار.» وأخيرا، يتنبأ ~~بخلاصهم وبخلاص المصريين والأمونيين والأدوميين. وإذن فليس ثمة شك ~~في أن الأمم الأخرى كان لها أنبياؤها وأنهم تنبئوا كما تنبئوا لليهود. # 34 # ومع أن الكتاب لا يذكر إلا بلعام # 35 # وحده الذي أوحي إليه مستقبل اليهود والأمم الأخرى، فلا ينبغي أن نعتقد ~~أن بلعام قد تنبأ في هذه المناسبة وحدها؛ إذ يتبين بوضوح تام من التاريخ نفسه ~~أنه تميز منذ وقت طويل بالنبوات وبالهبات الإلهية الأخرى. فعندما استدعاه بالاق، # 36 # قال له (العدد، 22: 6): «لأني أعلم أن من تباركه يكون مباركا وأن ~~من تلعنه يكون ملعونا.» وإذن فقد كانت لديه الموهبة نفسها التي وهبها الله ~~لإبراهيم (انظر التكوين، 12: 3). # 37 # ومن ناحية أخرى، يجيب بلعام الرسل، كما يجيب إنسان اعتاد القيام ~~بنبوءات، فيقول لهم: إن عليهم أن ينتظروه حتى تكشف لهم إرادة الله. وعندما كان ~~يعلن النبوة أي عندما كان يفسر فكر الله الحق كان يقول عن نفسه عادة: «كلمة من ~~يسمع كلمات الله ويعلم علمه تعالى (أو الفكر أو العلم السابق) ومن يرى رؤية القادر ~~تعالى ومن يقع على الأرض وعيناه مفتوحتان.» وأخيرا، بعد أن بارك العبرانيين بأمر ~~الله ms136، بدأ يعلن النبوة (كما كانت عادته) وتنبأ بمستقبل سائر الأمم. ويكفي ذلك ~~لإثبات أنه كان نبيا دائما أو أنه أعلن نبوته مرات عديدة، وأنه كانت لديه ~~بوجه خاص (وهذا ما يجب ذكره أيضا) ما كان يعطي الأنبياء اليقين الذي ترتكز عليه ~~حقيقة النبوة: أعني قلبا لا يميل إلا إلى العدل والخير. فهو لم يكن يبارك أو ~~يلعن من يشاء، كما ظن بالاق، بل من أراد الله أن يباركهم أو أن يلعنهم؛ ولهذا ~~أجاب ردا على بالاق: «لو أعطاني بالاق ملء بيته فضة وذهبا لم أستطع أن أتجاوز ~~أمر الرب إلهي فأعمل حسنة أو سيئة. رأيي أنا، ما يقوله الرب إياه أقول.» (24: ~~13). أما فيما يتعلق بغضب الله عليه في أثناء رحلته فقد حدث لموسى هذا الشيء نفسه ~~عندما ذهب إلى مصر بأمر الله (انظر: الخروج، 4: 24). # 38 # أما النقود التي كان يأخذها ثمنا لنبوءته فقد كان صموئيل يفعل ذلك ~~(انظر: صموئيل الأول، 9: 7-8)، # 39 # وإذا كان قد أخطأ في مسألة أخرى (انظر في هذا الصدد الرسالة الثانية ~~لبطرس، 2: 1، 16، ورسالة يهوذا، الإصحاح - الثاني) # 40 ~~«فإنه ليس من صديق على الأرض يصنع الخير بغير خطأ»: (انظر الجامعة، 7: ~~20)، وقد كان لخطبه ولا شك أثر قوي أمام الله، ولكن للعنته أثر قوي أيضا؛ ~~إذ إننا كثيرا ما نجد في الكتاب المقدس أن الله يبرهن على رحمته الواسعة ~~للعبرانيين عن طريق الاستماع إلى بلعام، وتغيير لعنته إلى بركة (انظر: التثنية، 23: ~~26، يشوع، 24: 10، نحميا، 13: 2) # 41 # وعلى ذلك، فلا شك أنه كان أثيرا لدى الله لأن أقوال الكفار ولعناتهم ~~لا تمس الله مطلقا. ولكن لما كان هذا الرجل نبيا حقا وسماه يشوع مع ذلك ~~عرافا أي قارئا للمستقبل (13: 22)، # 42 # فلا شك أن هذا الاسم كان يدل على معنى حسن، وأن من سماهم ~~الوثنيون بالمتنبئين والعرافين كانوا أنبياء صادقين، على حين أن من ~~يتهمهم الكتاب ويدينهم مرات كثيرة كانوا متنبئين كذبة يخدعون الوثنيين ~~كما خدع الأنبياء الكذبة اليهود، وهذا واضح أيضا في فقرات أخرى من الكتاب. ومن ~~ذلك يمكننا أن نستنتج أن هبة النبوة لم تكن وقفا ms137 على اليهود وحدهم، بل ~~مشتركة بين جميع الأمم، إلا أن الفريسيين # 43 # ينتهون إلى عكس ما انتهينا إليه، ويؤكدون أن هذه الهبة الإلهية كانت ~~وقفا على أمتهم، وأن الأمم الأخرى قد تنبأت بالمستقبل بقوة شيطانية ما ~~(أليست الخرافة قادرة على اختلاق أي شيء؟) والنص الرئيس الذي يقدمونه لتأكيد ~~تفسيرهم لسلطة العهد القديم مأخوذ من سفر الخروج (33: 16)، حيث يقول موسى: «فإنه ~~بماذا يعرف أني نلت حظوة في عينيك أنا وشعبك، أليس بمسيرك معنا فنختار أنا ~~وشعبك من كل أمة على وجه الأرض.» ومن هنا أرادوا أن يستنتجوا أن موسى قد ~~طلب من الله أن يكون حاضرا أمام اليهود، وأن يكشف عن نفسه لهم بنبوءات وألا ~~يعطي هذا الفضل بعد ذلك أي شعب آخر. وإنه لمضحك حقا أن يكون موسى قد حسد ~~الأمم الأخرى على حضور الله أمامهم أو أن يتجرأ على أن يطلب من الله شيئا من هذا ~~القبيل. والواقع أنه عندما بدأ موسى في التعرف على روح أمته وعلى نزوعها إلى ~~العصيان أدرك بوضوح أنه لا يمكنه أن يقوم بمهمته خير قيام دون الاعتماد على ~~أكبر المعجزات، وطلب العون الخارجي من الله وإلا هلك اليهود، فطلب عونا ~~خاصا من الله حتى يثبت على نحو قاطع أن الله يريد الإبقاء عليهم قال (34: ~~9): «إني حظيت في عينيك يا رب، إذا يسير الرب فيما بيننا لأنهم شعب قساة ~~الرقاب.» وإذن فالسبب الذي من أجله طلب العون من الله هو أن الشعب كان ~~عاصيا، ومما يثبت بمزيد من الوضوح أن موسى لم يطلب إلا هذا العون ~~الخارجي وحده، إجابة الله ذاتها، فقد رد عليه بقوله (الإصحاح نفسه: 10): «ها أنا ذا ~~بات عهدا أمام جميع شعبك أصنع معجزات لم ير مثلها في جميع العالم بين جميع ~~الأمم.» وعلى ذلك، فإن موسى لم يكن يستهدف إلا اختيار العبرانيين على النحو الذي ~~بينته، لم يطلب من الله شيئا آخر، ومع ذلك، فإني أجد في رسالة بولس إلى أهل ~~رومية نصا آخر يسترعي انتباهي أكثر من ذلك، أعني هذا ms138 النص من الإصحاح 3، الآيات: ~~1، 2 الذي يعرض فيه بولس - فيما يبدو - رأيا ~~يخالف نظريتنا، فيقول: «فما فضل اليهود إذن أو ما نفع الختان؟ إنه جزيل على ~~كل وجه أولا لأنهم اؤتمنوا على أقوال الله.» على أننا إذا فحصنا جيدا هذا ~~الرأي الذي يريد بولس عرضه هنا قبل كل شيء، لا نجد فيه ما يعارض نظريتنا، ~~بل إنه يدعو إلى عين ما ندعو إليه. فهو يقول (الإصحاح نفسه: ~~29): إن الله هو إله اليهود وغير اليهود معا. وفي ~~الإصحاح 2، الآيات 25، 26، يقول: «إن الختان ينفع لو عملت بالناموس، ولكن إن كنت ~~متعديا للناموس فقد صار ختانك قلفا، فإذا كان الأقلف يحفظ حقوق الناموس أفلا ~~يعد قلفه ختانا؟» ويقول ثانيا (3: 9؛ 4: 15) # 44 # إن الجميع يهودا أو غير يهود معرضون ~~للخطيئة وأنه لا خطيئة دون أمر إلهي وشريعة إلهية. ومن ذلك يتبين بأقصى قدر من ~~الوضوح أن الشريعة قد أوحيت للجميع على السواء كما بينا من قبل عند الحديث عن ~~أيوب (28: 28)، # 45 # كما تبين أن الجميع عاشوا تحت لوائها، وواضح أني أتحدث عن شريعة ~~الفضيلة الحقة، لا عن الشريعة التي تقام بالنسبة إلى كل دولة، والتي ترتبط ~~بتكوينها وتتلاءم مع الروح الخاص لأمة بعينها. وينتهي بولس أخيرا إلى أن ~~الله هو إله جميع الأمم، أي إنه يرعى الجميع، وما دام الجميع يخضعون للمقدار نفسه ~~للشريعة وللخطيئة، فقد أرسل الله مسيحه لكل الأمم ليخلصها بالمثل من ~~عبودية الشريعة، # 46 # بحيث لا يفعل الناس الخير طبقا لوصايا الشريعة بل بأمر حازم من النفس، ~~أي أن بولس يدعو إلى النظرية نفسها التي ندعو إليها. وعلى ذلك، فعندما يقول: «لقد ~~اؤتمن اليهود وحدهم على كلمات الله.» يجب أن نفهم من ذلك # 47 # أن اليهود وحدهم هم الذين أودعت لديهم الشريعة مكتوبة، على حين ~~حصلت سائر الأمم على الوحي والأمانة في الروح فقط، أو ينبغي أن نقول: (ما دام ~~بولس يأخذ على عاتقه الرد على اعتراض لا يمكن أن يكون قد صدر إلا عن اليهود) ~~إن بولس قد وضع نفسه، في رده، على مستوى فهم اليهود ms139، وتحدث طبقا لمعتقداتهم ~~الموروثة الشائعة لديهم. والواقع أن بولس، لكي ينشر تلك التعاليم التي أدرك هو ذاته ~~جزءا منها، # 48 # وعرف جزءا آخر عن طريق السمع. كان يونانيا مع اليونانيين، يهوديا مع ~~اليهود. # لم يبق لنا إلا أن نرد على هؤلاء الذين يحاولون إقناع أنفسهم لأسباب شتى ~~بأن اختيار اليهود لم يكن وقتيا يتعلق بالدولة وحدها بل كان أزليا. هؤلاء ~~يقولون: إننا نرى اليهود الذين تشردوا، بعد انهيار إمبراطوريتهم، في كل مكان، ~~وانفصلوا عن باقي الأمم، قد احتفظوا مع ذلك بكيانهم طوال هذه السنين، وهذا ما لم ~~يحدث لشعب آخر. وفضلا عن ذلك، يخبرنا الكتاب - على ما يبدو - في مواضع كثيرة بأن ~~الله قد اختار اليهود إلى الأبد، ومن ثم فإنهم سيظلون أصفياء الله بالرغم من ~~انهيار إمبراطوريتهم. وهذه هي النصوص الرئيسة التي يبدو أنها تؤيد هذا الرأي: (1) إرميا ~~(31: 36)، # 49 # حيث يؤكد النبي أن بذرة إسرائيل ستظل أمة الله إلى الأبد ~~ويشبه اليهود بالنظام الثابت للسموات وللطبيعة. (2) حزقيال (20: 32)، # 50 # حيث يعني النص، على ما يبدو، أنه بالرغم مما قد يبذلونه من جهد لترك ~~عبادة الله، فإن الله سيجمعهم من جديد من جميع الأقطار التي تشردوا فيها ~~ويقودهم في صحراء الشعوب كما قاد أسلافهم في صحراء مصر. وبعد أن يفصلهم أخيرا عن ~~العصاة والمرتدين، سيرفعهم على جبل قدسيته حيث تخدمه أسرة إسرائيل كلها. ~~وبالإضافة إلى هذه النصوص، تعود الفريسيون بوجه خاص ذكر نصوص أخرى، ولكني أعتقد ~~أني سأكون قد رددت بطريقة مرضية على كل النصوص عندما أرد على هذين النصين، ~~وهذا ما سأفعله دون عناء كبير عندما أبرهن، بالكتاب نفسه، على أن الله لم ~~يختر العبرانيين إلى الأبد، بل اختارهم في الظروف نفسها التي اختار فيها الكنعانيين # 51 # من قبل. فكما بينا آنفا، كان الكنعانيون بدورهم أحبارا يخدمون الله ~~بوازع ديني، ولكن الله تخلى عنهم بسبب حبهم للشهوات، ولرخاوتهم، ولعبادتهم ~~الباطلة. والواقع أن موسى قد حذر الإسرائيليين في سفر الأحبار (18: 27-28) # 52 # من تدنيس أنفسهم بنكاح المحرمات، كما فعل الكنعانيون حتى لا ~~تلفظهم الأرض كما لفظت الأمم ms140 التي سكنت هذه الأقطار، وهو يوعدهم بألفاظ ~~صريحة في سفر التثنية (8: 19-20) بدمار شامل، فيقول لهم: «فأنا شاهد عليكم اليوم ~~بأنكم تهلكون هلاكا كالأمم التي أبادها الرب من أمامكم.» وعلى هذا النحو ذاته، ~~نجد في الشريعة نصوصا أخرى تدل صراحة على أن الله لم يختر أمة العبرانيين ~~إلى الأبد وبصورة مطلقة. وعلى ذلك، فإذا كان الأنبياء قد تنبئوا بميثاق جديد أزلي، ~~ميثاق معرفة الله وحبه وفضله، فإنه من السهل أن نقتنع بأن هذا وعد للأتقياء ~~وحدهم. والواقع أنه ورد صراحة في الإصحاح نفسه الذي ذكرناه الآن من سفر حزقيال ~~أن الله سيفصل عنهم العصاة والمرتدين. ويذكر صفنيا (3: 12-13) # 53 # أن الله سيهلك الأغنياء ويبقي على الفقراء. إذن فلما كان هذا الاختيار ~~يتعلق بالفضيلة الحقة، فيجب ألا نظن أنه قد وعد الأتقياء من اليهود وحدهم، مع ~~استبعاد الآخرين، بل يجب أن نعتقد اعتقادا جازما بأن الأنبياء الحقيقيين من غير ~~اليهود - وقد أثبتنا أن جميع الأمم كان لها أنبياؤها - قد وعدوا المؤمنين من ~~أممهم بهذا الاختيار ذاته، وقدموا إليهم هذا العزاء نفسه. وعلى ذلك، فإن هذا ~~الميثاق الأزلي لمعرفة الله وحبه هو ميثاق شامل، كما يتضح تماما في صفنيا (3: 10-11). # 54 # وهكذا، يجب ألا نفرق مطلقا في هذه الناحية بين اليهود وغيرهم، وليس ~~ثمة اختيار يختص به اليهود سوى هذا الذي عرضناه الآن. وإذا كان الأنبياء يمزجون ~~هذا الاختيار القائم على الفضيلة الحقة وحدها بكلمات تشير إلى القرابين والشعائر ~~الأخرى عن إعادة بناء «المعبد» و«المدينة»، فما ذلك إلا لأنهم أرادوا - كيف تقضي عادة ~~النبوة وطبيعتها - أن يفسروا الأمور الروحية بنماذج حسية من شأنها أن ~~تبين في الوقت نفسه لليهود الذين أتاهم هؤلاء الأنبياء أن إعادة بناء الدولة والمعبد ~~كان يجب توقعه في عهد قورش. # 55 # وإذن فليس لليهود الآن ما يعزونه لأنفسهم مما هو خليق بأن يضعهم فوق ~~سائر الأمم. # 56 # أما عن حياتهم الطويلة كأمة ضاعت دولتها، فليس فيها ما يدعو إلى ~~الدهشة؛ إذ إن اليهود قد عاشوا بمعزل عن جميع الأمم حتى جلبوا على أنفسهم كراهية ms141 ~~الجميع، ولم يكن ذلك عن طريق مراعاة الطقوس الخارجية التي تعارض طقوس الأمم الأخرى ~~فحسب، بل أيضا عن طريق علامة الختان التي ظلوا متمسكين بها دينيا. وقد أثبتت ~~التجربة أن كراهية الأمم عامل قوي إلى أبعد حد في الإبقاء على اليهود، # 57 # فعندما أجبر أحد ملوك الإسبان اليهود على الإيمان بدين الدولة أو الخروج من ~~إسبانيا اعتنق كثير منهم الديانة الكاثوليكية الرومانية. ولما كانوا قد شاركوا ~~نتيجة لذلك في جميع امتيازات الإسبان، وأصبحوا يعدون جديرين بالتكريم نفسه الذي ~~يناله هؤلاء، فقد اختلطوا بالإسبان إلى حد لم يبق منهم معه بعد وقت قصير شيء حتى ~~الذكرى. وقد حدث عكس ذلك تماما مع أولئك الذين أجبرهم ملك البرتغال على تغيير ~~دينهم، فقد عاشوا منعزلين بعد استبعادهم من جميع المناصب العليا. وأنا أعزو إلى طقس ~~الختان بدوره من القيمة والأهمية في هذا الصدد ما يجعلني أعتقد أنه وحده يستطيع ~~أن يضمن لهذه الأمة اليهودية وجودا أزليا. فإذا لم تضعف مبادئ دينهم ذاتها ~~قلوبهم، فإني أعتقد بلا أدنى تحفظ، عالما بتقلبات الأمور الإنسانية، بأن اليهود ~~سيعيدون بناء إمبراطوريتهم في وقت ما، وأن الله سيختارهم من جديد. # 58 # وإننا لنجد مثلا رائعا عند الصينيين للأهمية التي يمكن أن تكون لهم ~~صفة مميزة كالختان؛ إذ يحتفظ الصينيون بدورهم بخصلة من الشعر على شكل ذيل فوق ~~الرأس ليتميزوا بها عن سائر الناس، وبذلك أبقوا على أنفسهم عبر آلاف من السنين، ~~تجاوزوا في القدم الأمم بكثير. صحيح أنهم لم يبقوا على إمبراطوريتهم دون فترات ~~انقطاع، ولكنهم كانوا دائما يعيدون بناءها عندما تنهار، وسيقيمونها من جديد حتما ~~عندما يضعف التتار بسبب الحياة الناعمة المترفة. وأخيرا، فلو شاء أحد أن يتمسك ~~بأن اليهود قد تم اختيارهم من الله إلى الأبد لهذا السبب أو ذاك، فإني لن أعارض في ~~ذلك، بشرط أن يكون مفهوما أن اختيارهم الزمني أو الأبدي، بقدر ما هو وقف عليهم، ~~يتعلق فقط بالدولة وبالمزايا المادية (إذ لا يوجد أي فرق غير ذلك بين أمة ~~وأخرى). أما بالنسبة إلى الذهن ms142 وإلى الفضيلة الحقة فلم تخلق أمة متميزة عن ~~الأخرى في هذا الصدد ؛ وعلى ذلك فلم يختر الله أمة بعينها، مفضلا إياها في ~~هذه الناحية على الأمم الأخرى. # الفصل الرابع # | القانون الإلهي # يطلق لفظ القانون مأخوذا بمعناه المطلق، على كل حالة يخضع فيها الأفراد ~~منظورا إليهم كل على حدة؛ سواء أكان الأمر متعلقا بمجموع الموجودات أو ببعض ~~الموجودات المنتمية إلى النوع نفسه - لقاعدة سلوك واحدة محددة. ويتوقف القانون ~~إما على ضرورة طبيعية وإما على قرار إنساني، فالقانون يكون معتمدا على ضرورة طبيعية ~~عندما يصدر بالضرورة من طبيعة الشيء ذاتها أو من تعريفه، ويكون معتمدا على القرار ~~الإنساني - ويسمى عندئذ بالأحرى قاعدة تشريعية - عندما يفرضه البشر على أنفسهم ~~وعلى الآخرين ليجعلوا الحياة أكثر أمنا وأكثر يسرا، أو لأسباب أخرى. فالقول مثلا ~~بأن جميع الأجسام عندما تصطدم بأجسام أخرى أصغر منها تفقد من حركتها بمقدار ما ~~تعطي، هو قانون شامل لجميع الأجسام، يصدر بضرورة طبيعية، وبالمثل فإن القول بأن ~~الإنسان عندما يتذكر شيئا يتذكر معه على الفور شيئا مشابها، أو شيئا أدركه ~~في الوقت نفسه الذي أدرك فيه الشيء الأول، هو بدوره قانون ينتج ضرورة من الطبيعة ~~الإنسانية. وعلى العكس من ذلك، فإن الناس عندما يتركون أو يرغمون على ترك شيء ~~من الحق # 1 # الذي وهبتهم الطبيعة إياه، ويجبرون على اتباع قاعدة معينة في ~~الحياة، فإن ذلك يتوقف على قرار إنساني، ومع أني أعترف بلا أدني تحفظ بأن ~~جميع الأشياء محددة بقوانين شاملة في الطبيعة، بحيث توجد وتفعل بطريقة ~~محددة للغاية، # 2 # فإني أعتقد أن مثل هذه القوانين تعتمد على قرار يتخذه ~~البشر: ~~(1) # لأن الإنسان بقدر ما هو جزء من الطبيعة يكون جزءا من قدرتها؛ ~~لذلك، فإن ما يصدر عن ضرورة في الطبيعة الإنسانية (أي من الطبيعة نفسها ~~من حيث تصورنا لها ابتداء من الطبيعة الإنسانية)، وإن كان ضروريا، ~~فإنه يصدر أيضا عن قدرة الإنسان؛ لذلك فمن الممكن جدا القول بأن وضع ~~هذه القوانين يتوقف على قرار يتخذه البشر، لأنه يعتمد أولا على قدرة ~~الذهن ms143 الإنساني، ولأنه يمكننا، بوضوح تام، تصور هذا الذهن، بقدر ما يكون ~~قادرا على الصواب والخطأ في مدركاته، دون هذه القوانين، على حين أن من ~~المستحيل تصوره دون قانون ضروري بالمعنى الذي حددناه. ~~(2) # كذلك قلت: إن هذه القوانين تعتمد على قرار إنساني لأن علينا أن ~~نعرف الأشياء وأن نفسرها بعللها القريبة، ولأن الأفكار الشديدة ~~العمومية عن القدر وعن تسلسل العلل لا تفيدنا على الإطلاق عندما يكون ~~الأمر متعلقا بتكوين وتنظيم أفكارنا الخاصة بالأشياء الجزئية. ~~ولنضف إلى ذلك، أننا نجهل تماما ارتباط الأشياء وتسلسلها، أي إننا ~~نجهل كيفية ارتباط الأشياء وتسلسلها في الواقع. ومن هنا كان من الأفضل، ~~بل من الضروري اعتبارها ممكنة بالنسبة إلى أغراض الحياة العملية، # 3 # هذا فيما يتعلق بالقانون إذا نظرنا إليه بمعناه ~~المطلق. # على أن لفظ القانون لا يطلق على الأشياء الطبيعية إلا مجازا، ونحن عادة لا نقصد ~~بالقانون إلا أمرا من الأوامر، يستطيع الناس تنفيذه أو إهماله، على أن يكون مفهوما ~~أنه يحصر قدرة الإنسان في حدود معينة، تستطيع هذه القدرة مع ذلك أن تتعداها، ~~ولكنه لا يأمر بشيء يفوق قواها. علينا إذن - فيما يبدو - أن نعرف القانون تعريفا ~~أخص بأنه قاعدة للحياة يفرضها الإنسان على نفسه أو على الآخرين من أجل غاية. على ~~أنه لما كانت غاية القوانين الحقيقية لا تتضح إلا لعدد قليل، ولما كان ~~معظم الناس تقريبا لا يقدرون على إدراكها مع أن حياتهم تسير بدورها وفقا للعقل، ~~فقد وضع المشرعون بحكمة غاية مختلفة تماما عن الغاية التي تنشأ ضرورة عن طبيعة ~~القوانين، فهم يبشرون المدافعين عن القانون بما يفضله العامة على كل ما ~~عداه، وينذرون من يمزقونه بما يرهبه العامة أكثر من غيره. وعلى هذا النحو، ~~حاولوا السيطرة على العامة بقدر الإمكان، كما يسيطر الإنسان على الحصان باللجام. ~~ومن هنا ينشأ ذلك التصور الشائع للقانون على أنه قاعدة للحياة فرضها بعض الناس على ~~البعض الآخر، حتى إننا لنقول في لغتنا الشائعة عمن يطيعون القوانين إنهم ~~يعيشون تحت سلطان القانون ويبدون عبيدا له. وإنه ms144 لمن الصحيح حقا أن من يعطي ~~كل ذي حق حقه خوفا من المشنقة يفعل ذلك بأمر الآخرين، ويضطر إليه خوفا ~~مما قد يلحق به من ضرر، فلا يمكن أن نعتبره عادلا، أما من يعطي كل ذي حق ~~حقه لأنه يعلم السبب الحقيقي لوضع القوانين وضرورتها فإنه يفعل باتفاق ~~تام مع نفسه وبمحض مشيئته لا بمشيئة الآخرين؛ ولذلك كان من حقه أن نسميه ~~عادلا. وأعتقد أن هذا ما أراد بولس أن يدعو له عندما قال: إن من يعيشون تحت سلطة ~~القانون لا يمكن تبريرهم بالقانون: # 4 # لأن العدالة، كما تعرف عادة، هي إرادة ثابتة ودائمة لإعطاء كل ذي حق ~~حقه. ويقول سليمان في المعنى نفسه (الأمثال، 21: 15): # 5 # وقت الحساب يفرح العادل ويرتعد ~~الظالمون. وإذن فلما كان القانون قاعد للحياة يفرضها الناس على أنفسهم أو على الآخرين ~~لتحقيق غاية ما، فيجدر بنا الآن أن نقسم القانون إلى قانون إنساني وقانون إلهي، ~~وأعني بالقانون الإنساني قاعدة للحياة مهمتها الوحيدة هي المحافظة على سلامة الحياة ~~والدولة، أما القانون الإلهي فأعني به قاعدة لا تهدف إلا للخير الأقصى، أي إلى ~~المعرفة الحقة وإلى حب الله. ويرجع السبب في تسميتي هذا القانون إلهيا إلى ~~طبيعة الخير الأقصى، الذي سأعرض له ها هنا في كلمات موجزة وبقدر ما أستطيع من ~~وضوح. # لما كان الذهن أفضل ما في وجودنا، فلا شك أننا إذا أردنا حقيقة البحث عما هو ~~نافع، فعلينا أولا وقبل كل شيء أن نحاول الارتقاء بذهننا بقدر الإمكان؛ لأن خيرنا ~~الأقصى يتحقق في هذا الارتقاء. وفضلا عن ذلك، فإن معرفتنا كلها، وكذلك اليقين - الذي ~~يقضي بالفعل على كل شك - يتوقف على معرفة الله وحدها؛ لأن الشيء لا يمكن أن ~~يوجد أو يتصور بدون الله # 6 # ولأن في إمكاننا أن نشك في كل شيء طالما ليست لدينا عن الله فكرة ~~واضحة ومتميزة، # 7 # وينتج عن ذلك، أن خيرنا الأقصى وكمالنا يعتمدان على معرفة الله وحدها ... ~~إلخ. فضلا عن ذلك، فلما كان يستحيل وجود شيء أو تصوره بدون الله، فمن المؤكد أن ms145 ~~كل موجودات الطبيعة تحتوي على فكرة الله وتعبر عنها حسب درجتها في الماهية ~~والكمال. ومن ذلك يتضح أنه كلما ازدادت معرفتنا بالأشياء في الطبيعة # 8 # كانت المعرفة التي نحصل عليها بالله أعظم وأكمل. وبعبارة أخرى «لأن معرفة ~~المعلول عن طريق العلة ليست إلا معرفة لخاصية معينة للعلة.» فكلما عرفنا ~~أشياء أكثر في الطبيعة كانت معرفتنا لماهية الله وهو (علة الأشياء جميعها) أكمل. وهكذا ~~لا تعتمد كل معرفتنا - أي خيرنا الأقصى - على معرفة الله فسحب، بل تنحصر فيها كلية. ~~وهذا ينشأ أيضا من أن كمال الإنسان يكون بنسبة طبيعة وكمال الشيء الذي يحبه فوق ~~كل شيء آخر، والعكس صحيح أيضا؛ وعلى ذلك، فإن من يفضل المعرفة العقلية لله أي ~~للموجود المطلق الكمال على كل شيء، ومن تزيد نشوته بها يكون بالضرورة هو الأكمل، ~~ويشارك في السعادة القصوى، ففي هذا إذن، أعني في معرفة الله وحبه، يكون خيرنا الأقصى ~~وسعادتنا. ويترتب على ذلك أن الوسائل التي تؤدي بنا إلى هذه الغاية من جميع الأفعال ~~الإنسانية، أعني الله نفسه من حيث وجوده فينا كفكرة، يمكن أن تسمى أوامر الله، لأن ~~الله نفسه هو، على نحو ما، مصدرها بقدر ما يوجد في أنفسنا. ومن هنا، فإن لنا كل ~~الحق في أن نسمي قاعدة الحياة التي تستهدف هذه الغاية قانونا إلهيا. والآن، فما ~~هذه الوسائل، وما قاعدة الحياة التي تفرضها هذه الغاية؟ وكيف يمكننا أن نوجه نحو ~~هذه الغاية المبادئ التي تقوم عليها أفضل نظم الحكم، وأن تنظم علاقات الناس فيما ~~بينهم طبقا لها؟ إن علم الأخلاق الشامل هو الذي يجيب عن هذه الأسئلة، أما هنا فلن ~~أستمر في الحديث إلا عن القانون الإلهي على وجه العموم. # لما كان حب الله هو سعادة الإنسان القصوى ونعيمه والغاية الأخيرة لجميع الأفعال ~~الإنسانية وهدفها، # 9 # فإن ذلك الذي يجعل همه حب الله لا خوفا من عذابه، ولا طمعا في شيء ~~آخر كاللذات او الشهوة بل لمجرد كونه يعرف الله، أي لأنه يعلم أن الخير الأقصى في ~~معرفة الله وحبه ms146. ذلك وحده هو الذي يتبع القانون الإلهي. # 10 # وإذن، فالقانون الإلهي يتلخص كله في قضية واحدة: هي حب الله باعتباره ~~خيرا أقصى، وذلك، كما قلنا، لا خوفا من عذاب أو عقاب أو طمعا في شيء آخر نرغب ~~في الاستمتاع به. وإذن فالدرس الذي تعلمنا إياه فكرة الله هو أن الله خيرنا ~~الأقصى، وبعبارة أخرى فإن معرفة الله وحبه هي الغاية القصوى التي ينبغي أن تتجه ~~إليها جميع أفعالنا. على أن الإنسان الغارق في لذات الجسد لا يستطيع أن يعلم هذه ~~الحقيقة، بل وتبدو له عبثا لأنه ليس لديه معرفة كافية بالله، ولأنه لا يجد في هذا ~~الخير الأقصى شيئا يستطيع أن يلمسه أو يأكله أو يؤثر في جسده الذي يبحث عن أعظم قدر ~~من لذاته، ما دام هذا الخير الأقصى ينحصر في التأمل والتفكير الخالص. أما من ~~يعترفون بأن أنفس ما لديهم هو الذهن وصفاء الروح فإنهم يرون هذه الحقيقة راسخة ~~أشد الرسوخ. وهكذا، بينا ما هو القانون الإلهي وما هي القوانين التي تعد ~~إنسانية: فهي تلك التي ترمي إلى غاية أخرى، ما لم يكن الوحي قد حددها، لأن ~~الالتجاء إلى الوحي هو أيضا طريقة لإرجاع الأشياء إلى الله (وقد أشرنا إلى ذلك من ~~قبل)، وبهذا المعنى، يمكننا أن نسمي شريعة موسى قانونا إلهيا # 11 # لأننا نعتقد أنها قد أقيمت على أساس من النور النبوي، مع أن هذه ~~الشريعة لم تكن شاملة، وكانت مهيأة بحيث تلائم التكوين الخاص لشعب بعينه، وتهدف ~~إلى المحافظة عليه. فإذا نظرنا الآن إلى طبيعة القانون الإلهي فإننا نلحظ: ~~(1) # إنه شامل، أي إنه يعم الناس جميعا، لأننا قد استنبطناه من الطبيعة ~~الإنسانية منظورا إليها في طابعها الكلي الشامل. ~~(2) # وإنه لا يتطلب أن نصدق بروايات تاريخية، أيا كان مضمونها، ذلك ~~لأنه لما كان هذا القانون الإلهي الطبيعي يعرف عن طريق تأمل ~~الطبيعة البشرية وحدها، فمن المؤكد أننا نستطيع أن نراه في آدم أو في أي ~~إنسان آخر، في إنسان يعيش بين الناس أو في إنسان يعيش منعزلا، ولا ~~يستطيع ms147 تصديقنا بالروايات التاريخية - حتى ولو كانت تنطوي على يقين - أن ~~يعطينا معرفة الله، وبالتالي لا يستطيع أن يعطينا حب الله؛ إذ ينشأ ~~حب الله من معرفته، ومعرفة الله يجب أن تنشأ من أفكار مشتركة، يقينية ~~معروفة بذاتها. فمن المحال إذن، أن يكون تصديقنا بالروايات التاريخية ~~شرطا لا نستطيع بدونه أن نصل إلى الخير الأقصى. ومع ذلك، فإذا كان ~~الإيمان بالروايات التاريخية لا يستطيع أن يعطينا معرفة الله وحبه، ~~فإننا لا ننكر أن قراءتها مفيدة للغاية # 12 # في الحياة الاجتماعية، فكلما دققنا في ملاحظة أخلاق الناس ~~وظروفهم، التي لا يمكن معرفتها على نحو أفضل إلا بملاحظة أفعالهم، ~~وكلما عرفناها على نحو أفضل، ازددنا اكتسابا للحكمة التي تتيح لنا ~~أن نعيش بينهم، وعرفنا على نحو أفضل كيف نكيف أفعالنا وحياتنا حسب ~~طبيعتهم بمقدار ما يقتضيه العقل. ~~(3) # إن هذا القانون الإلهي الطبيعي لا يقتضي إقامة الشعائر والطقوس، أي تلك ~~الأفعال التي لا تعني شيئا في ذاتها، ولا تعتبر خيرة إلا من حيث ~~دخولها في نظام، أو التي ترمز # 13 # لخير ضروري للخلاص، أو إن شئنا قلنا: إن هذا القانون ~~الإلهي الطبيعي لا يتطلب أفعالا يتعدى تبريرها حدود الفهم ~~الإنساني. والواقع أن النور الفطري لا يتطلب شيئا لا يبلغه هذا النور ~~نفسه، وكل ما يحتاج إليه هو ما يمكنه أن يعرفنا إياه بوضوح تام ~~بوصفه خيرا، أي بوصفه وسيلة نحصل بها على سعادتنا. على أن الأشياء ~~التي لا تصبح خيرة إلا بالأوامر والنظم، أو لا تصبح خيرة ~~إلا لأنها ترمز لخيرها، هذه الأشياء لا تستطيع أن تضيف كمالا إلى ~~أذهاننا؛ فهي ليست إلا مجرد ظلال، ولا يمكننا أن نعدها بين ~~الأفعال التي تتولد عن الذهن والتي هي بمثابة ثمار نفس صافية، وهذا أمر ~~لا حاجة لنا إلى الإطالة في بيانه. ~~(4) # وأخيرا، فإن أعظم جزاء يعطيه القانون الإلهي هو معرفة هذا القانون ~~نفسه، أي معرفة الله وحبه باعتبارنا موجودات حرة حقا، تتمتع بنفس ~~صافية وثابتة، على حين أن العقاب إنما يكون في حرماننا من هذه الخيرات ~~ووقوعنا ms148 في عبودية الجسد، أي تكون أنفسنا متغيرة متقلبة. # وبعد هذه الملحوظات نستطيع أن نبحث المسائل الآتية: ~~(1) # هل نستطيع بالنور الفطري تصور الله كمشرع أو كأمير يسن القوانين ~~للبشر؟ ~~(2) # ماذا يقول الكتاب المقدس بشأن هذا النور وهذا القانون الطبيعي؟ ~~(3) # ما هي الغاية التي استهدفت فيما مضى من فرض الشعائر الدينية؟ ~~(4) # وأخيرا، ما الفائدة من معرفة الروايات المقدسة والتصديق بها؟ ~~وسأعالج الموضوعين الأولين في هذا الفصل والموضوعين التاليين في ~~الفصل القادم. # إن ما يجب علينا التسليم به فيما يتعلق بالموضوع الأول يمكن استنباطه بسهولة ~~من طبيعة الإرادة الإلهية، التي لا تتميز عن الذهن الإلهي بالنسبة إلى عقلنا نحن، أي ~~أن إرادة الله وذهنه هما في الحقيقة شيء واحد، # 14 # لا يتميزان إلا بالنسبة إلى الأفكار التي نكونها عن الذهن الإلهي. ~~فمثلا إذا كنا نضع في اعتبارنا فقط أن طبيعة المثلث متضمنة منذ الأزل في طبيعة ~~الله بوصفها حقيقة أبدية، فحينئذ نقول: إن الله لديه فكرة عن المثلث أو أنه ~~يتصور بذهنه طبيعة المثلث، فإذا وضعنا في اعتبارنا بعد ذلك أن طبيعة المثلث ~~متضمنة في طبيعة الله بضرورة هذه الطبيعة فحسب، لا بضرورة ماهية المثلث وطبيعته، بل ~~إن ضرورة ماهية المثلث وخصائصه، بقدر ما تتصور بوصفها حقائق أبدية، تتوقف على ~~ضرورة الطبيعة الإلهية والذهن الإلهي فحسب، لا على طبيعة المثلث. حينئذ نطلق على ما ~~سميناه من قبل ذهن الله اسم إرادة الله أو أمره؛ وعلى ذلك، فلا فرق على الإطلاق، ~~بالنسبة إلى الله، بين قولنا: إن الله أراد وأمر منذ الأزل بأن يكون مجموع زوايا ~~المثلث قائمتين، وقولنا بأن الله تصور هذه الحقيقة بذهنه. ويترتب على ذلك أن ~~ما يثبته الله أو ينفيه يحتوي دائما على ضرورة؛ أي على حقيقة أزلية. فإذا كان الله ~~قد قال لآدم مثلا: لا أريد أن تأكل من شجرة علم الخير والشر، فإن من التناقض أن ~~يكون آدم قد استطاع أن يأكل منها، وبالتالي يستحيل أن يكون آدم قد أكل منها؛ إذ يجب ~~أن يكون هذا الأمر الإلهي متضمنا ms149 حقيقة وضرورة أزلية. ومع ذلك فما دام الكتاب ~~يذكر أن الله حرمها على آدم وأن آدم قد أكل منها مع ذلك، فيجب أن نقول ضرورة ~~بأن الله قد كشف لآدم عن الشر الذي سينتج بالضرورة عن أكله، ولكنه لم يكشف له ~~عن حتمية نتيجة هذا الشر؛ ولهذا لم يدرك آدم هذا الوحي كحقيقة أبدية ضرورية بل ~~كقانون أي كقاعدة تنص على أن نفعا أو ضررا ما سينتج عن فعل ما إرضاء لرغبة ~~حاكم وتنفيذا لأمره المطلق، لا بضرورة متضمنة في طبيعة الفعل نفسه. وهكذا، أصبح ~~هذا الوحي قانونا لآدم فقط، # 15 # ونتيجة لنقص في معرفته، واتخذ الله بالنسبة إليه صفة المشرع ~~والحاكم؛ ولهذا السبب نفسه، ونتيجة لنقص في معرفة العبرانيين، أصبحت الوصايا العشر ~~قانونا لهم وحدهم نظرا إلى أنهم لم يعرفوا وجود الله كحقيقة أزلية، فقد كان لزاما ~~عليهم أن يدركوا، كقانون، # 16 # ما أوحي إليهم في الوصايا العشر، وأعني به أن الله موجود تجب له ~~العبادة وحده. ولو كان الله قد تحدث إليهم مباشرة دون وسائط حسية أيا كانت، ~~لما أدركوا ذلك كقانون بل كحقيقة أزلية، وما نقوله الآن عن آدم والإسرائيليين ينطبق ~~أيضا على جميع الأنبياء الذين شرعوا قوانين باسم الله، فهم لم يدركوا أوامر الله ~~إدراكا كافيا كما ندرك الحقائق الأبدية. فمثلا يجب أن نذكر عن موسى أيضا أنه ~~أدرك بالوحي أو استنتج من مبادئ أوحيت إليه أفضل طريقة يستطيع بها شعب إسرائيل ~~أن يتوحد في بقعة من بقاع الأرض وأن يكون مجتمعا جديدا، أي أن ينشئ دولة. ~~وعلى هذا النحو نفسه أدرك أفضل طريقة يمكن بها إجبار هذا الشعب على الطاعة، ولكنه لم ~~يدرك أن هذه الطريقة هي أفضل الطرق كما لم يوح إليه بذلك، ولم يعلم أن الغاية التي ~~يرمي الإسرائيليون إلى تحقيقها سوف تتحقق حتما بطاعة كل الشعب المجتمع في مثل ~~هذه المنطقة. وإذن فهو لم يدرك هذه الأمور كلها كحقائق أزلية، بل كأوامر ونظم ~~مفروضة، وشرعها كقوانين أرادها الله. ومن هنا جاء تصورهم لله بوصفه ms150 قائدا ~~ومشرعا وملكا، # 17 # مع أن هذه الصفات كلها تنتمي إلى الطبيعة الإنسانية وحدها، ويجب ~~استبعادها تماما عن طبيعة الله. على أنني أعود فأؤكد أن هذا لا ينبغي أن يقال ~~إلا عن الأنبياء الذين شرعوا قوانين باسم الله، لا عن المسيح، فمع أن المسيح - فيما ~~يبدو - قد شرع أيضا قوانين باسم الله، إلا أنه على العكس من ذلك أدرك الأشياء ~~بوصفها حقيقة، وعرفها معرفة كافية؛ ذلك لأن المسيح لم يكن نبيا، # 18 # بل كان ناطقا بلسان الله؛ فقد أوحى الله بوساطة روح المسيح (كما بينا ~~ذلك في الفصل الأول) بعض الحقائق للجنس البشري، كما أوحى من قبل بوساطة الملائكة، أي ~~بوساطة صوت مخلوق وبوساطة رؤى ... إلخ. ولذلك، فإن القول بأن الله قد كيف وحيه ~~وفقا لآراء المسيح لا يقل مخالفة للعقل عن افتراض أن الله قد كيف وحيه من ~~قبل حسب آراء الملائكة؛ أي حسب صوت مخلوق ورؤى حتى يبلغ الرسل الحقائق المراد ~~كشفها، وهو افتراض في غاية التناقض، لا سيما أن المسيح لم يرسل لتعليم اليهود فقط ~~بل أرسل للجنس البشري قاطبة، بحيث لا يكفي أن تتكيف روحه حسب معتقدات اليهود ~~وحدهم بل يجب أن تتكيف حسب المعتقدات المشتركة بين الجنس البشري كله، وحسب ~~التعاليم الشاملة أي المتعلقة بالتصورات العامة والأفكار الصحيحة. فمن المؤكد أن ~~الله كشف عن نفسه للمسيح أو لروح المسيح مباشرة دون توسط كلمات أو صور، كما هو ~~الحال في وحي الأنبياء، ومن ذلك نستنتج ضرورة أن المسيح قد أدرك بالفعل حقائق ~~الوحي، أي إنه عرفها عقلا، لأن الشيء يقال عنه إنه يعرف عقلا عندما يدرك ~~بالفكر الخالص دون كلمات أو صور؛ وعلى ذلك فقد أدرك المسيح حقائق الوحي حقيقة وعرفها ~~معرفة كافية. وعلى ذلك، فإذا كان قد فرضها وكأنها قوانين، فإنه ما فعل ذلك إلا لجهل ~~الشعب وعناده، وهو في ذلك قد قام بما يقوم به الله، فتكيف طبقا لروح الشعب. ومع ~~أن المسيح كان أكثر وضوحا إلى حد ما من الأنبياء السابقين، إلا أنه بشر ~~بحقائق ms151 الوحي بالطريقة الغامضة نفسها، وفي كثير من الأحيان كان يستعمل الأمثلة، ولا ~~سيما في حديثه مع من لم يعطوا به معرفة ملكوت السموات (انظر: متى، 13: 10 ... إلخ). # 19 # وليس هناك أدنى شك في أنه قد بشر من أعطوا معرفة أسرار السموات بهذه ~~الحقائق نفسها باعتبارها حقائق أزلية، لا مجموعة من القوانين، وبذلك حررهم من عبودية ~~القانون، وإن كان مع ذلك قد ثبته وجعله راسخا في أعماق القلوب إلى الأبد. وهذا ما ~~أشار إليه بولس - فيما يبدو - في بعض النصوص من رسالته إلى أهل رومية (7: 6؛ 3: 28)، # 20 # ومع ذلك، فإنه هو أيضا لم يشأ أن يتحدث بصراحة # 21 # بل كان يتحدث كما يتحدث الناس عادة، كما يقول في الإصحاح 3، الآية 5، ~~وفي الإصحاح 6، الآية 19 من الرسالة نفسها، # 22 # وهذا ما نلحظه بوضوح عندما نجده يسمي الله بالعادل. ولا شك أيضا ~~أنه نظرا إلى ضعف الجسد وصف الله وصفا خياليا بالرحمة والفضل والغضب ... إلخ، ~~وكيف كلماته حسب فهم العامة، أي أهل الجسد (كما يقول في الرسالة الأولى إلى أهالي ~~كورنثة، 3: 1-2)، # 23 # والواقع أنه في الإصحاح 9، الآية 18 من رسالته إلى أهالي رومية # 24 # أعطى منزلة الحقيقة المطلقة لدعوته القائلة بأن غضب الله ورحمته لا ~~يتوقفان على أفعال البشر، بل على اختيار الله وحده، أي على إرادته، نظرا إلى أنه ~~لا يمكن لأحد أن يبرر نفسه بالأعمال التي يقوم بها تنفيذا للشريعة، بل بالإيمان ~~وحده (انظر رسالته إلى أهالي رومية، 3: 28) # 25 # الذي يعني به ولا شك صفاء النفس التام. وأخيرا، لأن أحدا لن يكون ~~سعيدا إن لم تكن روح المسيح فيه (انظر: رسالته إلى أهالي رومية، 8: 9)، # 26 # بحيث يرى بوساطتها قوانين الله كحقائق أزلية. ننتهي من ذلك إلى أننا لا ~~يمكن أن نصف الله بأنه مشرع أو حاكم، ولا يمكن تسميته عادلا أو رحيما ... إلخ، ~~إلا على طريقة فهم العامي ولنقص في معرفتنا. والواقع أن الله يفعل كل شيء ~~ويسيره بالضرورة الناتجة عن طبيعته وكماله وحدها، وتكون أوامره ومشيئته حقائق أزلية ~~تنطوي دائما على ضرورة، وهذا هو ما أردت شرحه وبيانه أولا. # فلننتقل الآن إلى ms152 النقطة الثانية، ولنتصفح الكتاب المقدس لنرى ماذا يقول عن ~~النور الفطري وعن القانون الإلهي. إن أول نص نصادفه هو قصة الإنسان الأول حيث ~~يروى أن الله أمر بألا يأكل الثمرة من شجرة معرفة الخير والشر. ويبدو أن هذا ~~النص يعني أن الله أمر آدم بأن يفعل الخير وأن يسعى إليه من حيث هو خير، لا ~~لأنه ضد الشر، أي أن يبحث عن الخير حبا في الخير، لا خوفا من الشر. وقد ~~بينا من قبل أن من يفعل الخير عن معرفة حقيقية للخير وحب له فإنه يفعله ~~بحرية وبعزيمة راسخة. وعلى العكس من ذلك، فإن من يفعل الخير خوفا من الشر ~~يفعله مجبرا على فعله بالشر الذي يخشاه ويصبح عبدا له ويعيش تحت إمرة ~~الآخرين؛ وعلى ذلك، فإن هذه الوصية الفريدة التي أعطاها الله آدم تشتمل على كل ~~القانون الإلهي الطبيعي، وتتفق تماما مع تعاليم النور الفطري، ولن يكون من الصعب ~~تفسير هذه القصة كلها أو هذا المثل الخاص بالإنسان الأول اعتمادا على هذا المبدأ. ~~ومع ذلك، فإني أفضل استبعاد هذا التفسير، لأني من جهة لست على يقين تام من أن ~~تفسيري يتفق مع فكر الراوي، ولأن معظم الناس، من جهة أخرى، لا يسلمون بأن هذه ~~القصة هي مجرد مثل، # 27 # بل يسلمون بلا تحفظ بأنها مجرد رواية؛ لذلك أفضل أن أذكر هنا ~~نصوصا أخرى من الكتاب تأخذها أولا من هذا المؤلف الذي يتحدث بفضل النور ~~الفطري، والذي استطاع عن طريق هذا النور أن يتفوق على جميع حكماء عصره والذي ~~تبعث حكمه في الشعب من الإجلال الديني بقدر ما تبعثه فيه حكم الأنبياء. ~~وأنا أعني بذلك سليمان الذي لا تكشف أسفاره المقدسة عن هبة النبوة ~~والورع، بل عن الفطنة والحكمة، ففي سفر الأمثال يسمي سليمان الذهن الإنساني ~~نافورة الحياة الحقة، # 28 ~~⋆ # ويجعل ~~الشقاء في ضياع العقل، ويقول (16: 22): «العقل ينبوع الحياة لصحابه وتأديب السفهاء ~~السفه.» ولا ننسى أن كلمة حياة، على إطلاقها، تعني في العبرية الحياة الحقة، كما ~~يتضح في التثنية (30: 19) # 29 # وعلى ذلك، فإن ms153 سليمان يجعل ثمرة الذهن في الحياة الحقة وحدها، كما ~~يجعل العذاب في الحرمان منه، وهذا يتفق كل الاتفاق مع ما ذكرناه من قبل في النقطة ~~الرابعة بشأن القانون الإلهي الطبيعي. كذلك يدعو هذا الحكيم صراحة إلى أن منبع ~~الحياة هذا - أي الذهن وحده - هو الذي يضع قوانين للحكماء كما ذكرنا من قبل، لأنه ~~يقول (13: 14): «شريعة الحكيم ينبوع الحياة.» # 30 ~~⋆ # أي ~~إنها الذهن، كما يتضح من النص المذكور من قبل. كذلك يدعو صراحة في الإصحاح 3: 13، ~~إلى أن الذهن يهب الإنسان السعادة والهناء والاطمئنان الحقيقي للنفس، فيقول: «طوبى ~~للإنسان الذي وجد الحكمة وللرجل الذي نال الفطنة.» وسبب ذلك (كما نرى بعد ذلك في ~~الآيات 16-17) أن: «طول الأيام في يمينها، وفي يسارها الغنى والمجد طرقها (تلك ~~التي يخبرنا بها العلم) طرقها طرق نعمة، وجميع مسالكها سلام.» وإذن فالحكماء وحدهم ~~- حسب قول سليمان - يعيشون في سلام وبنفس مطمئنة ولا يعيشون كالفاسقين ذوي النفوس ~~المتقلبة فريسة للانفعالات المتضاربة، ومن ثم (كما يقول أشعيا، 57: 20) # 31 # لا يكون لهم سلام ولا اطمئنان. وأخيرا يجب أن نذكر، خاصة في أمثال ~~سليمان هذه، ما يوجد في الإصحاح الثاني، وهو ما يتفق تماما مع وجهة نظرنا. تبدأ ~~الآية الثالثة هكذا: «إن ناديت الفطنة وأطلقت إلى الفهم صوتك ... فحينئذ تفطن ~~لمخافة الرب، وتدرك معرفة الله (أو الحب لأن كلمة ياداه # 32 ~~⋆ # تفيد ~~المعنيين)، وأن الرب يؤتي الحكمة ومن فيه العلم والفطنة.» وبهذه الكلمات ~~يبين بوضوح تام أولا أن الحكمة أو الذهن هو وحده الذي يعلمنا خشية الله ~~بطريقة حكيمة، أي أن نتوجه إليه بعبادة دينية بالمعنى الصحيح، ويعلمنا ثانيا ~~أن الله هو منبع الحكمة والعلم وأن الله هو واهبهما. وهذا بعينه هو ما أثبتناه من ~~قبل من أن ذهننا وعلمنا يعتمدان عل فكرة الله أو معرفتنا به، ويصدران عنهما، ~~ويكتملان بهما. ويستمر سليمان في شرحه في الآية 9 فينادي صراحة بأن هذا العلم ~~يحتوي على الأخلاق الحقة والسياسة الحقة، اللتين تصدران عنه: «حينئذ تفطن للعدل ~~والحق والاستقامة وكل منهج صالح.» وهو لا يكتفي بهذا، بل ms154 يواصل كلامه قائلا: ~~«إذا دخلت الحكمة في قلبك، ولذت نفسك العلم، يحافظ عليك التدبير، وترعاك ~~الفطنة.» كل هذا يتفق اتفاقا تاما مع العلم الطبيعي الذي يعلم الأخلاق والفضيلة ~~الحقة عندما نكتسب معرفة الأشياء ونتذوق فضيلة العلم؛ وعلى ذلك فإن سعادة من ~~ينمي ذهنه الطبيعي، وكذلك هدوء نفسه، لا يتوقفان - فيما يقول سليمان # 33 ~~- على قوة الحظ (أي على عون الله الخارجي) بل يتوقفان أساسا على ~~قدرته الداخلية (أي على عون الله الداخلي) لأنه يستطيع أن يحفظ حياته على أفضل نحو ~~إذا كان يقظا نشطا وعلى قدر كبير من الدراية. وأخيرا يجب ألا ننسى هذا النص ~~الذي كتبه القديس بولس في الإصحاح الأول، الآية 20 من الرسالة إلى أهالي رومية حيث ~~يقول حسب نسخة تريمليوس السريانية: # 34 ~~«لأن غير منظوراته قد أبصرت منذ خلق العالم إذ أدركت بالميرءات، وكذلك ~~قدرته الأزلية وألوهيته حتى أنهم لا معذرة لهم.» وعلى هذا النحو يبين بقدر ~~لا بأس به من الوضوح قدرة الله وألوهيته الأزلية اللتين تسمحان لنا بأن نعرف ~~ونستنبط أي الأشياء ينبغي أن نبحث عنها وأيها ينبغي أن نتركها. وينتهي من ذلك إلى ~~أن الجميع لا عذر لهم وأنه لا يمكنهم الاعتذار بالجهل. وما كان الأمر ليصبح على هذا ~~النحو لو كان يتحدث عن النور الذي يفوق الطبيعة، وعن الآلام التي عاناها المسيح ~~بجسده وعن البعث ... إلخ. ومن هنا، فقد أضاف بعد ذلك في الآية24: «فلذلك أسلمهم الله في ~~شهوات قلوبهم إلى النجاسة ... إلخ.» حتى نهاية الإصحاح، وهكذا يتحدث عن رذائل الجهل ~~ووصفها بعذاب الجهل، وهذا ما يتفق تماما مع مثل سليمان (16: 22) المذكور من قبل ~~«وتأديب السفهاء السفه.» فلا عجب إذن، إذا قال بولس: من يفعل الشر لا عذر له؛ ~~ذلك لأن كلا يحصد ما زرع، والشر يولد الشر ضرورة إن لم يتم ~~تقويمه، والخير يولد الخير إن صاحبه ثبات النفس. وهكذا يقر الكتاب إقرارا ~~تاما بالنور الفطري والقانون الإلهي الطبيعي، وبذلك أكون قد انتهيت من معالجة ~~المسائل التي اعتزمت بحثها في هذا الفصل. # الفصل الخامس ms155 # | السبب في وضع الشعائر، والإيمان بالقصص # السبب في وضع الشعائر، والإيمان بالقصص، لأي سبب، ولأي نوع من ~~الناس كان ضروريا. ~~*** # بينا في الفصل السابق أن القانون الإلهي الذي يعطي الناس السعادة الحقة ~~ويعلمهم الحياة الحقيقية مشترك بين الناس جميعا، بل إننا استنبطناه من الطبيعة ~~الإنسانية، بحيث يجب علينا أن نعتبره فطريا في النفس الإنسانية، وكأنه مسطور ~~فيها. وعلى العكس من ذلك وضعت الطقوس الدينية، أو على الأقل طقوس العهد القديم ~~للعبرانيين وحدهم، وتكيفت حسب دولتهم بحيث لم يكن من الممكن إقامة معظم هذه ~~الشعائر إلا بوساطة الجماعة بأسرها، لا الأفراد كل على حدة. فلا شك إذن أنه لم ~~تكن لها صلة بالقانون الإلهي، وإنها لا تسهم بشيء في السعادة والفضيلة، بل تتعلق ~~باختيار العبرانيين فحسب أي (طبقا لما بيناه في الفصل الثالث) بالنعيم الدنيوي ~~للأجساد وبسلامة الدولة # 1 # وحدهما؛ إذ لا تكون لها أية فائدة إلا خلال وجود الدولة. وإذن، فإذا ~~كانت هذه الشعائر قد أرجعت في العهد القديم، إلى قانون الله، فما ذلك إلا لأنها ~~وضعت بفضل الوحي أو صدرت عن مبادئ موحى بها. ومع ذلك، فلما كان الاستدلال مهما ~~بلغت قوته لا قيمة له عند اللاهوتيين العاديين، فإنه يحسن أن نبرهن، عن ~~طريق سلطة الكتاب، على ما قلناه الآن. # 2 # وبعد ذلك سنبين، زيادة منا في الإيضاح، السبب الذي كانت الشعائر من ~~أجله عاملا على المحافظة على دولة اليهود والإبقاء عليها، وكيف تم ذلك. إن أوضح ~~دعوة في سفر أشعيا هي دعوته للتوحيد بين القانون الإلهي بالمعنى المطلق لهذه الكلمة ~~والقانون الشامل الذي يكون قاعدة صحيحة للحياة، لا بين القانون الإلهي والشعائر. ففي ~~الإصحاح الأول، الآية 10 # 3 # يدعو النبي أمته إلى أن تسمع منه القانون الإلهي ويبدأ باستبعاد كل ~~أنواع القرابين وكل الأعياد من هذا القانون، ثم يدعو للقانون نفسه (انظر: 1: 16-17)، # 4 # ويلخصه في هذه الوصايا القليلة: تطهير النفس، ممارسة الفضائل بصفة ~~مستمرة؛ أي القيام بالأفعال الحسنة، الإحسان إلى الفقراء. ونجد في المزمور 40، ~~الآيات 7، 9 شهادة لا تقل وضوحا عن ذلك، إذ يخاطب ms156 كاتب المزمور الله قائلا: ~~«ذبيحة وتقدمة لم تشأ لكنك ثقبت أذني # 5 ~~⋆ # ولم ~~تطلب المحرقات ولا ذبائح الخطيئة، لأعمل بمشيئتك يا الله، إني في هذا راغب، وشريعتك في ~~صميم أحشائي.» فهو إذن لا يقصد إلا هذا القانون المسطور في الأحشاء وفي النفس، ~~ويستبعد منه الطقوس؛ إذ لا تصح الطقوس إلا في إطار نظام معين، لا بطبيعتها ~~الخاصة، ومن ثم فهي ليست مسطورة في النفس. وتشهد نصوص كثيرة أخرى في الكتاب على ذلك، ~~ولكن يكفينا منها النصان السابقان. وفضلا عن ذلك، فإن الكتاب ذاته يقرر أن ~~الطقوس لا تؤدي إلى السعادة مطلقا، بل تتعلق فقط بالمنفعة الدنيوية للدولة، إذ ~~لا يبشر الكتاب من يقيم هذه الطقوس إلا بمزايا مادية ولذات حسية، ويقصر ~~السعادة الروحية على من يحافظ على القانون الإلهي الشامل. فالأسفار الخمسة التي ~~تشيع نسبتها إلى موسى لا تبشر - كما ذكرنا من قبل - إلا بهذا النعيم ~~الدنيوي، أعني التكريم أو الشهرة والانتصارات والثروات واللذات وسلامة البدن. وعلى ~~الرغم من أن الأسفار الخمسة تحتوي، بالإضافة إلى هذه الشعائر المفروضة، على كثير من ~~الوصايا الخلقية، فإن هذه الأخيرة لا توجد فيها بوصفها تعاليم خلقية مشتركة بين ~~الناس، بل بوصفها أوامر تكيف بوجه خاص طبقا لفهم أمة العبرانيين وحدها ~~وطبقا لمزاجها الخاص، وتتعلق بمنفعة دولتهم فحسب. فمثلا لا يعلم موسى اليهود ~~تحريم القتل وتحريم السرقة كما يعلمها الفقيه أو النبي، بل يأمرهم بذلك كما يأمر ~~المشرع والحاكم، ولا يثبت تعاليمه بالدليل بل يقرن أوامره بالتهديد بعقاب قد ~~يمكن، بل يجب، أن يتباين، كما أثبتت التجربة تبعا للمزاج الخاص بكل أمة. ~~وهكذا فإنه لم يقصد من تحريم الزنا إلى المصلحة العامة ومنفعة الدولة، ولو كان قد ~~قصد إعطاءنا تعاليم خلقية لتحقيق اطمئنان النفس والسعادة الحقة للأفراد لما أدان ~~الفعل الخارجي فحسب، بل لأدان أيضا موافقة النفس عليه كما فعل المسيح الذي لم ~~يقدم إلا تعاليم شاملة (انظر: متى، 5: 28). # 6 # ولهذا السبب يبشر المسيح بجزاء روحي، لا بمكافأة مادية، كما فعل موسى؛ ~~وذلك لأن المسيح، كما قلت ms157، لم يبعث للمحافظة على الدولة ولتشريع القوانين، بل ~~لتعليم القانون الشامل وحده. من ذلك ندرك بسهولة أن المسيح لم ينسخ شريعة موسى ~~مطلقا، لأنه لم يشأ وضع قوانين جديدة للمجتمع، وكان همه الوحيد إعطاء تعاليم ~~خلقية وتمييزها عن قوانين الدولة، # 7 # وهذا يرجع بوجه خاص إلى جهل الفريسيين الذين كانوا يظنون أن تطبيق ~~القواعد القانونية للدولة، أي شريعة موسى، كاف ليعيشوا سعداء، مع أن هذه الشريعة - ~~كما قلنا من قبل - لم تكن تهدف إلا مصلحة الدولة، ولم تكن غايتها تنوير ~~العبرانيين، بل إرغامهم. ولكن لنعد إلى موضوعنا الأول، ولنذكر نصوصا أخرى من ~~الكتاب لا تبشر من يقيم الشعائر إلا بمزايا مادية وتقصر السعادة على من يحافظ ~~على القانون الإلهي الشامل وحده. لقد كان أشعيا أوضح الأنبياء في الدعوة لذلك، فبعد ~~أن أدان النفاق في الإصحاح 58، وبعد أن أوصى بالحرية وبالإحسان إلى النفس وإلى الجار، ~~أعطى هذه الوعود: «حينئذ يتبلج كالصبح نورك، وتزهر عافيتك سريعا، ويسير برك ~~أمامك ومجد الرب يجمع شملك.» # 8 ~~⋆ # بعد ~~ذلك يوصي بالاحتفال بالسبت ويعد من يحرصون المحافظة عليه: «فحينئذ يتنعم بالرب، # 9 ~~⋆ # وأنا ~~أوطنك مشارف الأرض # 10 ~~⋆ # وأطعمك ميراث يعقوب أبيك لأن فم الرب قد تكلم.» نرى إذن أن النبي يبشر ~~من يريد أن يكون حرا محسنا بنفس قريرة في جسم سليم، وبالمجد الإلهي بعد ~~الموت، ولا يبشر جزاء على إقامة الشعائر إلا بسلامة الدولة وبالنعيم والرخاء ~~الدنيوي. ولا يوجد في المزامير 14، 15 # 11 # أي ذكر للشعائر، بل للتعاليم الخلقية فقط. وهذا يرجع ولا شك إلى أن ~~الموضوع هنا يتعلق بالسعادة الروحية وحدها، وهي الموضوع الوحيد الذي يعالجه ~~المؤلف، وإن كان يتحدث عنه بالمثل. ويجب بلا شك أن نفهم في هذا النص الجبال ~~وخيام الله والإقامة في هذه الأماكن على أنها السعادة واطمئنان النفس، لا على أنها ~~جبل أورشليم أو مظلة موسى، # 12 # فلم يكن في هذه الأمكنة أي إنسان، وكانت قبيلة لاوي هي التي ترعاها. هذا ~~بالإضافة إلى أن جميع حكم سليمان التي ذكرناها في الفصل السابق تبشر بالسعادة ~~الحقة من ينمون ms158 الذهن والحكمة، لأنهم وحدهم يعرفون خشية الله ويبجلون ~~العلم. ومما يثبت أيضا أن العبرانيين لم يعودوا ملزمين، بعد انهيار دولتهم، ~~بإقامة الشعائر، ما أشار إليه إرميا الذي رأى تخريب المدينة وتنبأ به، وقال: «بل بهذا ~~فليفتخر بأنه معهم، ويعرفني أن الرب المجري الرحمة والحكم والعدل في الأرض ~~لأني بهذه ارتضيت بقول الرب» (انظر: 9: 23)، وكأنه يقول إنه بعد تخريب المدينة لم ~~يعد الله يطالب اليهود بشيء معين، بل أصبح لا يطلب منهم إلا مراعاة القانون ~~الطبيعي الذي يخضع له جميع البشر. # 13 # ويؤكد العهد الجديد هذه الحقيقة تأكيدا تاما، إذ لا نجد فيه - كما ~~قلنا من قبل - إلا تعاليم خلقية، ولا يعد بملكوت السموات إلا من يحافظ على هذه ~~التعاليم، أما الشعائر فقد تركها الحواريون بعد أن بدءوا في التبشير بالإنجيل بين ~~الأمم الخاضعة لقوانين دولة أخرى. وإذا كان الفريسيون قد احتفظوا بقدر كبير من ~~الشعائر الإسرائيلية بعد ضياع الدولة، فإن ذلك ينبغي أن يفسر على أنه مظهر لعدائهم ~~للمسيحيين أكثر من كونه تعبيرا عن رغبتهم في إرضاء الله. فبعد الهدم الأول ~~للمدينة، عندما أخذ الأسرى إلى بابل ولم يكونوا - على ما أعلم - قد تفرقوا شيعا ~~بعد، تركوا الطقوس في الحال، بل ورفضوا شريعة موسى، ونسوا تماما قانون وطنهم، وكأنه ~~شيء لا قيمة له، وبدءوا في الاندماج بالأمم الأخرى، كما يذكر عزرا ونحميا بالتفصيل. ~~وإذن فليس من شك في أن اليهود لم يعودوا ملزمين بعد انهيار الدولة بالمحافظة على ~~شريعة موسى أكثر مما كانوا قبل إقامة مجتمعهم ودولتهم. وطوال الفترة التي عاشوها ~~بين الأمم الأخرى، قبل خروجهم من مصر، لم تكن لديهم قوانين خاصة، ولم يكن عليهم إلا ~~المحافظة على القانون الطبيعي، وكذلك على القواعد المطبقة في الدولة التي يعيشون ~~فيها، بقدر ما كانت غير متعارضة مع القانون الإلهي الطبيعي. أما عن الضحايا ~~(القرابين) التي كان البطارقة يقدمونها إلى الله، فيمكن تفسيرها برغبتهم في أن ~~يثيروا في نفوسهم - التي تعودت منذ الطفولة على هذه الضحايا - مزيدا من الخشوع؛ فقد ~~تعود كل الناس ms159 منذ عانوس # 14 # على تقديم الضحايا ليثيروا على أنفسهم أكبر قدر من الخشوع، ولم يضح ~~البطارقة لله مطلقا تنفيذا لأمر إلهي على أساس معرفة استخلصوها من الأسس الشاملة ~~التي يقوم عليها القانون الإلهي، بل اتباعا لعادة عصرهم فحسب. وإذا كانوا قد ~~أمروا بهذه الضحايا، فإن هذا الأمر لم يكن سوى أمر صادر عن قانون الدولة التي ~~يعيشون فيها، وهو القانون الذي كان عليهم بدورهم الخضوع له، كما بينا في الفصل ~~الثالث في حديثنا عن مليكصادق. # 15 # أعتقد الآن أني قد بينت على هذا النحو وجهة نظري بسلطة الكتاب. يبقى أن أبين ~~كيف أفادت الشعائر في المحافظة على بقاء دولة العبرانيين، وما السبب في ذلك، وهي مسألة ~~سأعتمد في إيضاحها على مبادئ كلية، موجزا الكلام فيها بقدر المستطاع. # 16 # إن المجتمع لا يكون نافعا أو ضروريا للغاية لأنه يحمي الأفراد من ~~الأعداء فحسب، بل أيضا لأنه يسمح بجمع أكبر قدر ممكن من وسائل الراحة؛ ذلك لأنه ~~لو لم يكن الناس يريدون أن يتعاونوا مع بعضهم بعضا فلن تتوافر لديهم المهارة ~~الفنية أو الوقت اللازم لتدبير شئون حياتهم وللمحافظة عليها بقدر الإمكان. فلن يتوافر ~~لأحد الوقت أو القوة اللازمة لو كان عليه أن يفلح ويبذر ويحصد ويطحن ويطهو وينسج ~~ويحيك، وأن يقوم بأعمال أخرى كثيرة نافعة لتدبير شئون حياته، ناهيك بالفنون والعلوم ~~التي هي ضرورية إلى أقصى حد لكمال الطبيعة الإنسانية وللحصول على السعادة. والواقع ~~أننا نرى هؤلاء الذين يعيشون حياة همجية، بلا مدنية، يحيون حياة بائسة تقرب ~~من مستوى حياة الحيوانات، ومع ذلك لا يستطيعون الحصول على هذا القليل الذي لديهم، والذي ~~يتسم بأنه هزيل فج، إلا إذا تعاونوا مع بعضهم البعض على أي نحو. ولو كان الناس ~~بطبيعتهم على استعداد لئلا يرغبوا إلا فيما يمليه العقل السليم، لما احتاج ~~المجتمع قطعا إلى أية قوانين، ولكان تنوير الناس ببعض التعاليم الخلقية كافيا لكي ~~يفعلوا بأنفسهم، وبروح متحررة، ما هو نافع لهم بحق، إلا أن الطبيعة الإنسانية ~~لها استعداد مختلف كل الاختلاف. صحيح أن جميع ms160 الناس يحرصون على منفعتهم، ولكنهم ~~لا يفعلون ذلك حسبما يمليه العقل السليم، بل تدفعهم دائما شهوة اللذة وانفعالات ~~النفس (التي لا تأخذ المستقبل في حسابها ولا تعمل حسابا إلا للذاتها) عندما ~~يرغبون في شيء ويحكمون عليه بأنه نافع، ومن ثم لا يستطيع أي مجتمع أن يبقى دون ~~سلطة آمرة ودون قوة، وبالتالي دون قوانين تلطف من شهوة اللذة وتسيطر على ~~الانفعالات التي لا ضابط لها. إلا أن الطبيعة الإنسانية لا تتحمل أن تظل في حالة ~~قهر مطلق، وكما يقول سنيكا، الكاتب المسرحي: # 17 ~~«ما استطاع أحد أن يمارس العنف في الحكم مدة طويلة، أما الاعتدال في ~~الحكم فيدوم.» فطالما كان الناس يسلكون بدافع من الخوف وحده، فإنهم يفعلون أشد ~~الأشياء تعارضا مع إرادتهم ولا يتأملون الفعل من حيث فائدته وضرورته، بل إنهم لا ~~يهتمون إلا بإنقاذ أنفسهم وبعدم تعرضهم للألم، ويستحيل عليهم ألا يتلذذوا بما ~~يصيب سيدهم وصاحب السلطة عليهم من شر وخسارة، حتى لو كان في ذلك ضرر بالغ ~~عليهم، كما يستحيل ألا يتمنوا له الشر وألا يرتكبوه عندما يستطيعون. والواقع ~~أن أشد ما يؤلم الناس خضوعهم لأمثالهم وسيطرة هؤلاء عليهم. وأخيرا، فليس هناك أقسى ~~من سلب الناس حريتهم بعد حصولهم عليها، ومن ثم يجب أولا على كل مجتمع - إن ~~أمكنه ذلك - أن يقيم سلطة تنبثق من الجماعة على نحو من شأنه أن يكون الجميع ~~ملزمين بأن يطيعوا أنفسهم لا أمثالهم، أما إذا وضعت مقاليد السلطة في أيدي ~~أفراد قلائل أو في يد فرد واحد، فيجب أن يكون لدى هذا الفرد شيء أسمى من الطبيعة ~~الإنسانية، أو على الأقل يجب أن يحاول بقدر طاقته أن يقنع العامة بذلك. ~~ثانيا، يجب أن توضع القوانين في كل دولة بحيث يكون الباعث على ضبط الناس هو الأمل ~~في تحقيق خير معين، يرغب فيه بوجه خاص، أكثر من خوف يحيط بهم، وبذلك يقوم كل ~~فرد بواجبه بحماس بالغ. وأخيرا لما كانت الطاعة هي تنفيذ الأوامر بالخضوع لسلطة ~~الرئيس الآمر وحدها، فإنا نرى أن هذه ms161 الطاعة لا مكان لها في مجتمع تكون السلطة ~~فيه منتمية إلى جميع أفراده ، وتوضع فيه القوانين برضاء الجميع، ففي مثل هذا ~~المجتمع، سواء أزاد عدد القوانين أم نقص، يظل الشعب حرا لأنه يفعل برضائه الخاص، # 18 # لا بخضوعه لسلطة الآخرين. ولكن الأمر يختلف كل الاختلاف عندما تكون ~~لفرد واحد سلطة مطلقة، فعندئذ ينفذ الجميع أوامر السلطة بدافع الخضوع لسلطة فرد ~~واحد؛ وعلى ذلك، فما لم يكن الناس قد دربوا منذ البداية على أن تكون مصائرهم ~~معلقة بكلمة القائد الذي يأمر، فسوف يصعب عليه إذا دعت الحاجة أن يضع قوانين ~~جديدة، وأن يسلب الشعب حرية حصل عليها من قبل. # بعد هذه الاعتبارات العامة، لنعد إلى التنظيم السياسي للعبرانيين، فعند خروجهم من ~~مصر لم يكونوا ملتزمين بقانون أية دولة؛ لذلك كان في إمكانهم وضع قوانين جديدة كما ~~يريدون، أي وضع تشريع جديد وتأسيس دولتهم في المكان الذي يختارونه، واحتلال ما يشاءون ~~من الأراضي. على أنهم لم يكونوا على استعداد لوضع قواعد التشريع بحكمة، ولممارسة ~~السلطة بطريق جماعي؛ فقد كان طابع الجهل يغلب على الجميع، وكان استعبادهم قد شوه ~~نفوسهم؛ لذلك كان من الضروري أن تظل السلطة في يد فرد واحد قادر على أن ~~يسير الجميع وعلى إجبارهم بالقوة على سن القوانين وتفسيرها بعد ذلك. ولقد استطاع ~~موسى بسهولة أن يستمر في المحافظة على هذه السلطة بما كان يتميز به على الآخرين من ~~فضيلة إلهية، وقد أقنع الشعب بذلك وأثبته لهم بشواهد عديدة (انظر: الخروج، 14: الآية ~~الأخيرة؛ 19: 9). # 19 # وإذن فقد وضع قواعد التشريع وفرضها بالسلطة الإلهية التي كانت مميزة ~~له، ولكنه حرص حرصا عظيما على أن يقوم الشعب بواجبه لا عن رهبة بل عن طيب خاطر. ~~وقد اضطر إلى ذلك لسببين: أولا العصيان الطبيعي للشعب (الذي لم يكن يتحمل أن يخضع ~~لسيطرة القوة وحدها)، ثانيا خطر الحرب وما يتطلبه النصر من خروج الجند للحرب عن ~~اقتناع لا بالتهديد والعقاب، حتى يحاول كل فرد أن يتميز بشجاعته وبعظمة نفسه، لا ~~أن يهرب من العذاب فحسب؛ لهذا ms162 السبب، أدخل موسى الدين في الدولة بسلطته الإلهية ~~وبناء على أمر إلهي حتى يقوم الشعب بواجبه بإخلاص لا عن رهبة. ومن ناحية أخرى، فقد ~~ربط العبرانيين بالمنافع وأعطاهم وعودا كثيرة باسم الله، ولم يضع قوانين صارمة أكثر ~~مما يجب، وهذا ما يسلم الجميع به إذا شرع في دراسة هذا التاريخ، وإذا نظر إلى ~~الأدلة المطلوبة لإدانة متهم ما. # وأخيرا، رفض أن يقوم أفراد الشعب - الذين اعتادوا العبودية - بأي فعل بمحض ~~إرادتهم، حتى يظل هذا الشعب، الذي لم يكن يستطيع أن يحكم نفسه، مقيدا بكلمة ~~الرئيس الآمر؛ إذ لم يكن الشعب يستطيع أن يفعل شيئا دون أن يلتزم بالقانون؛ وهو أن ~~ينفذ الأوامر الصادرة عن الرئيس وحده. فلم يكن مسموحا له أن يفعل شيئا بمحض ~~رغبته، وكان عليه أن يراعي طقسا دينيا معينا للفلاحة والبذر والحصد، ولم يكن ~~باستطاعته أن يتناول طعامه ويلبس ويعنى بشعر رأسه ولحيته ويلهو أو يفعل أي ~~شيء إلا بالامتثال لشعائر دينية إجبارية ولأوامر تفرضها القوانين. # 20 # ولم يكن هذا كله كافيا، بل كان عليهم أن يضعوا على عتبات المنازل وفي ~~الأيدي وبين العينين علامة ما تذكرهم بالطاعة. # 21 # هذه إذن كانت غاية الشعائر الدينية: ألا يفعل الناس شيئا بمحض إرادتهم ~~بل تنفيذا لأوامر الآخرين دائما، وأن يعترفوا بأنهم في جميع أفعالهم وفي جميع ~~أفكارهم ليسوا أحرارا مطلقا، بل خاضعين كلية لقاعدة من وضع الآخرين. # 22 # ويتضح من هذا كله وضوح الشمس أن الطقوس الدينية لا توصل إلى ~~السعادة الروحية، وأن طقوس العهد القديم، بل وشريعة موسى كلها، تتعلق بدولة ~~العبرانيين وحدها، وبالتالي تهدف إلى تحقيق بعض وسائل الراحة المادية. # 23 # أما فيما يتعلق بطقوس الدين المسيحي، مثل العماد وتناول قربان الرب ~~والأعياد والصلوات العلنية، وكل ما يشترك فيه جميع المسيحيين، سواء أكان المسيح هو الذي ~~وضعها أم الحواريون (فهذا أمر لم يثبت في رأيي على نحو قاطع بعد)؛ فهي بمثابة ~~آيات خارجية للكنيسة الشاملة، وليست أمورا توصل إلى السعادة الروحية أو لها في ~~ذاتها أي طابع مقدس؛ ولهذا السبب، فإن ms163 هذه الطقوس، وإن لم تكن قد وضعت لمصلحة ~~سياسية فإنها قد وضعت لصالح المجتمع كله، وبالتالي فإن من يعيش وحده لا يرتبط ~~بهذه الطقوس مطلقا، بل إن من يعيش في دولة يحرم فيها الدين المسيحي عليه أن ~~يمتنع عن إقامة هذه الطقوس، ويستطيع مع ذلك أن يعيش متمتعا بسعادة الروح. # 24 # ونجد مثالا لهذا الموقف في اليابان، حيث تحرم الديانة المسيحية وذلك ~~لأن الهولنديين الذين يسكنون هذه البلاد ملزمون بأمر من شركة الهند الشرقية ~~بالامتناع عن كل عبادة علنية. # 25 # ولا أظن أني أستطيع الآن إثبات ذلك بسلطة أخرى، ومع أنه ليس من ~~الصعب استنباطه بمبادئ من العهد الجديد، وقد يمكن إثباتها بشواهد واضحة، فإني أفضل ~~ترك هذه المسألة جانبا؛ لأني أود أن أسارع إلى معالجة مشكلة أخرى. وسأستمر إذن ~~وأنتقل إلى النقطة الأخرى التي اعتزمت معالجتها في هذا الفصل وهي: لأي نوع ~~من الناس يكون التصديق بالروايات التاريخية الواردة في الكتب المقدسة ضروريا، ~~ولأي سبب؟ ولكي نقوم بهذا البحث بالاستعانة بالنور الطبيعي يجب علينا أن نسير على ~~النحو الآتي: # إذا طلبنا من الناس أن يعتنقوا أو أن يرفضوا عقيدة تتعلق بشيء غير معروف بذاته ~~يتحتم علينا أن نبدأ من نقاط معينة متفق عليها، وأن نعتمد في الإقناع على ~~التجربة أو على العقل، أي أن نعتمد على الوقائع التي يتحقق الناس ~~بحواسهم من وجودها في الطبيعة، أو على بديهيات ~~العقل المعروفة بذاتها. ولكن، ما لم يكن في استطاعة التجربة أن تعطينا معرفة واضحة ~~ومتميزة، فإنها مع استطاعتها إقناع المرء، لن تؤثر في الذهن، ولن تبدد ~~الغيوم التي تخيم عليه، كما يفعل الاستنباط بالترتيب السليم للحقيقة التي نريد ~~إثباتها، بالاعتماد على بديهيات العقل وحدها، أي تلك التي تقوم على سلطة الذهن وحده، ~~لا سيما حين يكون الأمر متعلقا بموضوع روحي لا يقع مطلقا تحت الحواس. ومع ذلك ~~ففي أغلب الأحيان يكون من الضروري، لإثبات حقيقة باعتماد على أفكار العقل وحده، ~~الحصول على سلسلة طويلة من المدركات الحسية، هذا فضلا عن الحرص الشديد والبصيرة ms164 ~~النافذة والقدرة الفائقة على السيطرة على النفس، وكلها صفات لا توجد في الناس ~~إلا نادرا. ومن ثم تراهم يفضلون التعلم بالتجربة على استنباط مدركاتهم ~~الحسية مع عدد قليل من البديهيات ثم ربط بعضها ببعض. وإذن، فلو أردنا أن ~~نعلم أمة بأكملها - إن لم نقل الجنس البشري كله - عقيدة ما، وأن نجعل جميع ~~الناس يفهمونها بكل تفصيلاتها، فإننا نجد لزاما علينا أن نثبتها بالالتجاء ~~إلى التجربة، وأن نجعل أسبابها وتعريفات الأشياء المراد تعليمها ملائمة بدقة ~~لمستوى فهم العامة التي تكون الجزء الأعظم من الجنس البشري، فنتخلى عن ~~التسلسل المنطقي للأسباب وعن إعطاء التعريفات اللازمة لأحكام الربط بينها على ~~أفضل نحو ممكن. ولو لم نفعل ذلك لكنا نكتب للراسخين في العلم وحدهم، أي إنه ~~لن يستطيع فهمنا إلا عدد ضئيل نسبيا من الناس، وإذن فلما كان الكتاب قد أوحى ~~أولا لكي تفيد منه أمة كاملة، ثم الجنس البشري كله، فقد كان من المحتم أن ~~يتلاءم محتواه مع أفهام العامة، وأن يكون الإثبات فيه بالتجربة وحدها. ولكي نجعل هذه ~~النقطة أكثر وضوحا، نقول: إن تعاليم الكتاب النظرية تتضمن أساسا أن هناك إلها، ~~أي موجودا صنع كل شيء، يسيره ويحفظه بحكمة عليا، وهو يرعى البشر أعظم رعاية، ~~أعني أنه يرعى منهم من يحيون حياة التقوى والأمانة ويعاقب من سواهم بمختلف ألوان ~~العذاب ويفصلهم عن الأخيار. ويثبت الكتاب هذه التعاليم بالتجربة وحدها، أي عن ~~طريق القصص التي يرويها. وهو لا يعطي مطلقا تعريفات لهذه الأمور، بل يكيف أفكاره ~~وعلله كلها على مستوى فهم العامة. ومع أن التجربة لا تستطيع أن تعطي أية ~~معرفة واضحة بهذه الأمور، أو أن تنبئنا بما يكونه الله وكيف يحفظ جميع الأشياء ~~ويدبرها ويرعى الناس، فإنها تستطيع مع ذلك أن تعلم الناس وأن تنيرهم بقدر ~~يكفي لكي تطبع نفوسهم على الطاعة والخشوع. # 26 # وأعتقد أني قد بينت بذلك، بما فيه الكفاية، نوع الناس الذين يكون ~~الإيمان بقصص الكتب المقدسة ضروريا لهم وما أسباب ذلك؛ إذ يتضح تماما مما ~~بينته الآن أن معرفة ms165 هذه القصص والإيمان بحقيقتها ضروري إلى أقصى حد للعامة ~~الذين لا تقوى أذهانهم على إدراك الأشياء بوضوح وتميز. ومن ناحية أخرى، فإن من ~~ينكرها، نظرا إلى كونه لا يعتقد بوجود إله أو بعناية إلهية، يمكن أن يعد ~~كافرا، أما من يجهلها ومع ذلك يؤمن، عن طريق النور الفطري، بوجود إله، وبكل ما ~~يترتب عليه، ويطبق من جهة أخرى قاعدة السلوك الصحيحة في الحياة، فإنه يحصل على ~~السعادة الروحية الكاملة، بل يحصل منها بالفعل على أكثر مما يحصل عليه العامي؛ ~~إذ ليست لديه أفكار صحيحة فحسب، بل لديه أيضا ~~معرفة واضحة ومتميزة. وأخيرا، يترتب على ما بينته من قبل أن من يجهل قصص ~~الكتاب هذه ولا يعلم شيئا بالنور الفطري، هو شخص إن لم يكن كافرا، أي عاصيا، فهو على ~~الأقل كائن سلبت إنسانيته وأصبح أشبه بالبهائم لا يملك أية هبة من الله. ~~ومع ذلك فلنذكر أننا بحديثنا هنا عن الضرورة القصوى التي تحتم على العامة معرفة ~~قصص الكتاب لا نقصد أن تكون المعرفة الكاملة بجميع هذه القصص ضرورية؛ إذ تكفي فقط معرفة ~~أكثرها أهمية، وهي القصص التي تعرض بنفسها بوضوح كاف، ودون الاستعانة بالأخريات، ~~العقيدة التي أشرنا إليها من قبل، ويكون لها من القوة ما تستطيع أن تؤثر به على ~~النفوس الإنسانية. والواقع أنه لو كانت جميع قصص الكتاب ضرورية لإثبات هذه العقيدة - ~~وكنا لا نستطيع أن ننتهي إلى نتيجة تؤيده إلا بعد تأمل هذه القصص كلها - لكان ~~البرهان على هذه العقيدة والتصديق النهائي بها يتجاوز فهم الجمهور وقواه ويعلو على ~~فهم الإنسانية جمعاء. فمن الذي يستطيع أن يعي في وقت واحد مثل هذا العدد الكبير من ~~الروايات والملابسات وتفصيلات العقيدة التي يجب استخلاصها من هذه القصص ~~المتعددة المتنوعة؟ إنني، على الأقل، لا أستطيع أن أقنع نفسي بأن أولئك ~~الذين تركوا لنا الكتاب بوضعه الحالي كانوا يتمتعون بقدرات ذهنية تمكنهم من ~~القيام بمثل هذه الطريقة في العرض، كما أنني أقل اقتناعا بالزعم القائل إنه لا ~~يمكن فهم عقيدة الكتاب إلا ms166 بعد معرفة المنازعات التي وقعت بين آل إسحاق # 27 # ونصائح أحيتوفل إلى أبشالوم، # 28 # والحرب الأهلية بين يهوذا وإسرائيل # 29 # وغير ذلك من الأخبار، كما لا أستطيع أن أقنع نفسي بأن أوائل اليهود ~~المعاصرين لموسى لم يكونوا قادرين على أن يستخلصوا من القصص المعروفة لديهم برهانا ~~على عقيدة الكتاب بالسهولة نفسها التي كان معاصرو عزرا # 30 # قادرين بها على ذلك. وعلى أية حال، فسنقف فيما بعد عند هذه النقطة وقفة ~~طويلة. ليس على العامة إذن، إلا أن يعرفوا القصص التي يمكن أن تحرك النفوس إلى ~~أقصى حد وتحث على الطاعة والخشوع. ومع ذلك، فإن العامة لا يستطيعون الحكم على ~~هذه الأمور من تلقاء أنفسهم، خاصة أنهم يعجبون بالروايات والنهايات العجيبة غير ~~المتوقعة للأحداث، أكثر من إعجابهم بالعقيدة نفسها التي تعلمها هذه القصص؛ لذلك ~~كان العامة في حاجة، بالإضافة إلى هذه القصص، إلى قسس أو إلى كهنة الكنيسة يعطونهم ~~تعاليم تتناسب مع ضعف تكوينهم الذهني. ومع ذلك فلنكف عن الابتعاد عن موضوعنا ~~ولنلتزم بالنتيجة التي أردنا إثباتها، وهي أن التصديق بالروايات - أيا كانت هذه ~~الروايات في آخر الأمر - لا صلة له بالقانون الإلهي، ولا يعطي بنفسه السعادة ~~الروحية للناس، ولا فائدة فيه إلا بقدر ما يساعد على إقامة عقيدة. وأخيرا، فإن بعض ~~الروايات تفضل البعض الآخر من هذه الناحية، فروايات الكتاب تكون أعظم قيمة من ~~التاريخ الدنيوي، ويكون بعضها أعظم قيمة من البعض الآخر، بمقدار ما تفيد في نشر ~~أفكار نافعة. وإذن، فإذا قرأنا روايات الكتاب المقدس ثم صدقناها دون أن ~~نهتم بالعقيدة التي أخذ الكتاب على عاتقه أن يبشر بها بوساطة هذه الروايات، ودون ~~أن نقوم حياتنا - فكأننا نقرأ القرآن # 31 # أو الشعر الدرامي، أو على أقل تقدير كأننا نقرأ أخبارا عادية بالروح ~~نفسها التي اعتاد العامة أن يقرءوا بها. وعلى العكس من ذلك، يمكننا أن نتجاهل هذه ~~الروايات تماما، كما ذكرنا من قبل؛ فإذا كانت لدينا مع ذلك أفكار نافعة، وكنا ~~نطبق في حياتنا قاعدة سليمة للسلوك، # 32 # فإننا بالفعل نحصل على السعادة الروحية المطلقة ms167، وتحل فينا حقا ~~روح المسيح. ولكن اليهود لهم نظرة مخالفة كل الاختلاف؛ إذ يرون أن الأفكار ~~الصحيحة وتطبيق قاعدة سليمة للسلوك في الحياة لا تؤدي على الإطلاق إلى السعادة ~~الروحية ما دمنا نستعين في إدراكها بالنور الفطري وحده، دون أن ننظر إليها على ~~أنها تعاليم أوحيت إلى موسى عن طريق النبوة، وقد أيد ابن ميمون ذلك بجرأة في ~~هذه الفقرة (الفصل 8 من كتاب الملوك، # 33 # القانون 11): «من يقبل الوصايا السبع # 34 ~~⋆ # ويعمل ~~بها بجميع جوارحه يكون من بين الأتقياء في الأمم ويرث الحياة الأخرى، شريطة أن يكون ~~قد قبل هذه الوصايا وعمل بها لأن الله وضعها في الشريعة وأوحى لنا عن طريق موسى ~~أنه أعطى هذه الوصايا من قبل أبناء نوح، ولكنه لو عمل بها كما يمليها العقل فليس له ~~بيننا حق المواطن، ولا يكون من بين الأتقياء أو من بين علماء الأمم.» هذا ما قاله ~~ابن ميمون، ويضيف موسى بن شيم طوب # 35 # في كتابه «كيبود ألوهيم» أو «مجد الله» قائلا: إن علم أرسطو (الذي كان ~~يعتقد أنه كتب أرفع أنواع الأخلاق وكان يعلي مكانته فوق كل ما عداه) بكل وصايا ~~الأخلاق الحقة، التي عرضها هو نفسه في كتاب «الأخلاق»، والتي عمل بها بكل جوارحه؛ ~~لم ينفعه في الوصول إلى الخلاص لأنه لم يتلق هذه العقيدة بوصفها وحيا عن طريق ~~النبوة بل تكونت لديه بإملاء العقل. ولكن هذه الأقوال في الحقيقة أخطاء كاذبة لا ~~أساس لها في العقل أو سلطة الكتاب، وهو ما أعتقد أن كل من قرأ هذا الفصل بإمعان ~~يوافقني عليه. وإذن فمجرد اختيار هذا الرأي كاف لتنفيذه، كذلك فإنني لا أعتزم ~~أن أفند ما يقوله أولئك الذين يسلمون بأن النور الفطري لا يستطيع أن يدلنا على ~~الصواب فيما يتعلق بالخلاص؛ فالواقع أن من يعتقدون هذا الرأي لا يستطيعون أن ~~يؤيدوه بالعقل؛ لأنهم لا يعترفون بأن لديهم أي عقل سليم، وإذا كانوا يتفاخرون ~~بأن لديهم هبة أسمى من العقل، فإنها في الحقيقة محض خيال، أو شيء أدنى من العقل، ~~كما ms168 يدل أسلوبهم العادي في الحياة. على أننا لسنا بحاجة إلى الحديث عنهم بمزيد ~~من الصراحة، وكل ما أود أن أضيفه هو أن المرء لا يعرف إلا من أفعاله. وإذن ~~فمن يحمل بوفرة ثمارا كالإحسان والفرح والسلام وعدالة النفس والطيبة وحسن ~~النية والحلم والبراءة وضبط النفس، كلها أمور لا تتعارض مع الشريعة، كما يقول بولس ~~(رسالة إلى أهالي غلاطية، 5: 22)؛ # 36 # فسواء أكان قد تعلم هذه الأمور من العقل وحده أم من الكتاب وحده، فإن ~~الله الذي علمه إياها بالفعل، وهو بذلك يملك السعادة الروحية، وبذلك أكون قد انتهيت ~~من فحص النقاط التي اعتزمت معالجتها فيما يتعلق بالقانون الإلهي. # الفصل السادس # | المعجزات # مثلما يسمى العلم الذي يتعدى حدود فهم الإنسان إلهيا، اعتاد الناس تسمية ~~العمل الذي يجهل العامة سببه عملا إلهيا، أي عمل الله، فالعامة يظنون أن ~~قدرة الله وعنايته تظهران بأوضح صورة ممكنة إذا حدث في الطبيعة - على ما يبدو - شيء ~~خارق للعادة، مناقض لما اعتاد العامة أن يتصوروه، وخاصة إذا كان هذا الحادث بالنسبة ~~لهم فرصة كسب أو مغنم، وهم يعتقدون أن أوضح برهان على وجود الله هو الخروج الظاهر ~~على نظام الطبيعة؛ لذلك يبدو في نظرهم من يفسر الأشياء والمعجزات بالعلل ~~الطبيعية - أو من يبذل جهده من أجل معرفتها بوضوح - يبدو كأنه قد ألغى الله، أو على ~~الأقل قد أسقط العناية الإلهية. وبعبارة أخرى، يظن العامة أن الله لا يفعل في ~~الطبيعة ما دامت تسير على نظامها المعتاد، وبالعكس تبطل فاعلية الطبيعة وعللها ~~الطبيعية عندما يفعل الله؛ وعلى ذلك فهم يتخيلون قدرتين متميزتين كلا من ~~الأخرى من حيث العدد: قدرة الله وقدرة الأشياء الطبيعية. وإن كانت هذه الأخيرة مع ذلك ~~تخضع على نحو ما لتحكم الله أو مخلوقة بوساطته (كما يفضل أكثر الناس الاعتقاد الآن). ~~أما المقصود بهذه القدرة أو تلك، والمقصود بالله فلا يعرفون شيئا سوى أنهم يتخيلون ~~قدرة الله كقدرة الملك المعظم، وقدرة الطبيعة كقوة غاشمة. يسمي العامة ~~إذن حوادث الطبيعة الخارقة للعادة معجزات أو أعمال الله، وهم ms169 يفضلون أن يجهلوا ~~العلل الطبيعية للأشياء، ولا يودون إلا الحديث عما يجهلونه تمام الجهل، ~~وبالتالي عما يعجبون به أشد الإعجاب، وذلك إما بدافع الخشوع وإما رغبة في ~~الاحتجاج على من يعكفون على علوم الطبيعة؛ وهذا يرجع إلى أنه ليس هناك في نظرهم ما ~~يدعو إلى عبادة الله وإرجاع كل شيء إلى قدرته ~~وإرادته، إلا بقدر إلغائنا للعلل الطبيعية وتصورنا لأشياء تعلو على نظام ~~الطبيعة. ولا تبدو لهم قدرة الله أحق ما تكون بالإعجاب إلا إذا تصوروا قدرة ~~الطبيعة وكأنها مقهورة على يد الله. ويبدو أن أصل هذا الرأي يرجع إلى اليهود ~~القدماء، فقد قص هؤلاء اليهود معجزاتهم، وحاولوا أن يبينوا بذلك أيضا أن ~~الطبيعة كلها مسيرة لمصلحتهم وحدهم بأمر من الإله الذي يعبدونه، وذلك حتى ~~يقنعوا المعاصرين لهم، من غير اليهود، الذين كانوا يعبدون آلهة منظورة كالشمس ~~والنور والأرض والماء والهواء ... إلخ، وحتى يبينوا لهم ضعف هذه الآلهة وتقلبها، أي ~~تغيرها وخضوعها لإله غير منظور. وقد سر الناس بذلك إلى حد أنهم ما زالوا حتى ~~اليوم يصطنعون معجزات بخيالهم حتى يعتقد الآخرون أن الله قد فضلهم على الآخرين، ~~وأنهم هم العلة الغائية التي لأجلها خلق الله الأشياء جميعا وما زال يسيرها. ~~فما أكثر ادعاءات الجهل الإنساني، وما أبعده عن كل فكرة صحيحة عن الله والطبيعة، ~~عندما يخلط بين أوامر الله وأوامر البشر، ويتخيل الطبيعة محدودة إلى درجة أنه ~~يتوهم أن الإنسان هو الجزء الرئيس فيها! حسبنا عن أفكار العامة وأحكامهم ~~المشتقة عن الطبيعة والمعجزات. ومع ذلك، فلكي أسير في هذه المسألة بالترتيب، ~~سأبين النقاط الآتية: ~~(1) # لا يحدث شيء يناقض الطبيعة، فالطبيعة تحتفظ بنظام أزلي لا يتغير ~~وسأبين في الوقت نفسه ماذا ينبغي أن يعني لفظ «معجزة». ~~(2) # لا نستطيع أن نعرف بالمعجزات ماهية الله أو وجوده، ومن ثم لا نستطيع ~~أن نعرف العناية الإلهية، على حين أننا نستطيع أن نعرفها كلها بطريقة ~~أفضل بكثير عن طريق قانون الطبيعة الثابت الذي لا يتغير. ~~(3) # سأبين أيضا اعتمادا على بعض الأمثلة المستمدة من الكتاب ms170 أن ~~الكتاب نفسه لا يعني بأمر الله وبمشيئته، ومن ثم بالعناية الإلهية، ~~إلا نظام الطبيعة ذاته، بوصفه نتيجة ضرورية للقوانين الأزلية. ~~(4) # سأتناول أخيرا الطريقة التي ينبغي بها تفسير معجزات الكتاب وما يجب ~~ملاحظته أساسا على الروايات الخاصة بالمعجزات. # هذه هي الموضوعات الأساسية التي تدخل في هذا الفصل، وهي موضوعات أعتقد أنها في غاية ~~الأهمية بالنسبة لهدف هذا الكتاب كله. # فيما يتعلق بالموضوع الأول نستطيع بسهولة أن نتبين حقيقته عن طريق المبدأ الذي ~~أثبتناه في الفصل الرابع عن القانون الإلهي، وهو أن كل ما يشاؤه الله أو يحدده ~~يتضمن ضرورة وحقيقة أزليتين. والواقع أننا قد استنتجنا من عدم تميز ذهن ~~الله عن إرادته، أنه لا فرق بين قولنا إن الله يريد شيئا ما، وقولنا إنه يتصور ~~شيئا ما؛ فإن الضرورة نفسها التي تجعل الله وفقا لطبيعته وكماله يتصور شيئا على ما ~~هو عليه، تجعله أيضا يريده على ما هو عليه. وإذن فلما كان أي شيء لا يكون ~~حقيقيا، بالضرورة، إلا بأمر الله، يترتب على ذلك بوضوح تام أن القوانين ~~العامة للطبيعة ليست إلا مجرد أوامر إلهية تصدر عن ضرورة الطبيعة الإلهية ~~وكمالها. وإذن، فلو حدث شيء في الطبيعة يناقض قوانينها العامة، كان هذا الشيء ~~مناقضا أيضا لأمر الله وعقله وطبيعته، # 1 # وإلا فإن المرء لو سلم بأن الله يفعل ما يناقض قوانين الطبيعة، ~~لاضطر إلى أن يسلم بأنه يفعل ما يناقض طبيعته الخاصة، وهذا ممتنع كل ~~الامتناع، ويمكننا أن نبرهن أيضا على ذلك بسهولة، بقولنا: إن قدرة الطبيعة هي ~~نفسها قدرة الله وصفته المميزة، وأن قدرة الله هي ذاتها ماهيته، ولكني أفضل ~~ألا أتعرض لهذا الموضوع الآن؛ إذ لا يحدث شيء في الطبيعة # 2 ~~⋆ # مناقض لقوانينها العامة، أو حتى لا يتفق مع هذه القوانين أو لا يصدر عنها بوصفه ~~نتيجة لها. إن كل ما يحدث يحدث حقيقة بإرادة الله وبأمره الأزلي، أي إنه لا يحدث ~~شيء، كما بينا من قبل، إلا وفقا لقوانين وقواعد تتضمن ضرورة أزلية. فالطبيعة ~~إذن تسير دائما وفقا لقوانين ms171 قواعد تنطوي على ضرورة وحقيقة أزليتين، وإن لم نكن ~~نعرفها كلها، وبالتالي فهي تتبع نظاما ثابتا لا يتغير. وليس هناك سبب معقول يدعو ~~لأن ننسب إلى الطبيعة قوة وقدرة محدودة، أو أن نعتقد بأن قوانينها لا تنطبق ~~إلا على أشياء معينة فقط، لا على كل الأشياء، ذلك أنه لما كانت قوة الطبيعة ~~وقدرتها هي قوة الله وقدرته، وكانت قوانين الطبيعة وقواعدها هي أوامر الله ذاتها، ~~فمن الواجب أن نعتقد بلا تردد بأن قدرة الطبيعة لا نهائية، وأن قوانينها من ~~الاتساع بحيث تسري على كل ما يتصوره العقل الإلهي، أما لو تصورنا غير ذلك، لكان ~~في ذلك اعتراف منا بأن الله قد خلق طبيعة عاجزة وسن قوانين وقواعد عقيمة إلى ~~حد يضطر معه دائما إلى مساعدتها لكي تظل باقية، وتظل الأشياء تسير حسب ~~رغبته. وإني لأرى أن اعتقادا كهذا مناقض للعقل تماما. ويترتب على هذه المبادئ ~~القائلة بأن لا شيء يحدث في الطبيعة إلا واتبع قوانينها، وأن هذه القوانين ~~تسري على كل ما يتصوره العقل الإلهي، وأن للطبيعة نظاما ثابتا لا يتغير؛ # 3 # يترتب على هذه المبادئ بوضوح تام أن لفظ المعجزة لا يمكن أن ~~يفهم إلا في صلته بآراء الناس، ويعني مجرد عمل لا نستطيع أن نبين علته ~~قياسا على شيء آخر معروف، أو هو على الأقل عمل لا يمكن لراوي المعجزة أن يفسره. ~~وأستطيع أن أقول حقيقة: إن المعجزة حادثة لا نستطيع أن نبين علتها اعتمادا ~~على مبادئ الأشياء الطبيعية كما ندركها بالنور الفطري. ومع ذلك لما كانت ~~المعجزات قد أجريت على مستوى فهم العامة الذين يجهلون مبادئ الأشياء الطبيعية ~~جهلا تاما، فمن المؤكد أن القدماء قد أدخلوا في باب المعجزات كل ما لم ~~يستطيعوا تفسيره بالوسيلة التي اعتاد العامة الالتجاء إليها لتفسير الأشياء الطبيعية، ~~أي بالالتجاء إلى الذاكرة لتذكر حالة مشابهة يتصورنها عادة دون دهشة؛ إذ يظن ~~العامة أنهم يعرفون جيدا ما يرونه دون أن تعتريهم الدهشة. وإذن فلم يكن لدى ~~القدماء وعند البشر جميعا، على وجه التقريب، حتى ms172 العصر الحاضر، أية قاعدة أخرى يمكن ~~تطبيقها على المعجزات؛ ومن ثم لا نشك في أن الكتب المقدسة قد روت كثيرا من ~~الوقائع التي يقال عنها معجزات، ويمكن دون عناء تعيين علتها بالمبادئ المعروفة ~~للأشياء الطبيعية، وهذا ما أشرنا إليه من قبل في الفصل الثاني عندما تحدثنا عن ~~توقف حركة الشمس في زمن يشوع ونكوصها في زمن أحآز. # 4 # ولكننا سنطيل الحديث في هذا الموضوع بعد قليل؛ نظرا إلى أننا قد ~~وعدنا بالحديث في هذا الفصل عن تفسير المعجزات. # والآن حان الوقت لكي ننتقل إلى القضية الثانية، وهي أنه لا يمكن معرفة ماهية الله ~~أو وجوده أو عنايته # 5 # عن طريق المعجزات، بل إننا، على العكس من ذلك، نستطيع أن ندرك ذلك كله ~~بطريقة أوضح عن طريق نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير. وللبرهنة على ذلك سأتبع ~~الطريقة الآتية: لما كان وجود الله غير معروف بذاته، # 6 ~~⋆ # فمن ~~الواجب استنتاجه من أفكار تبلغ من الرسوخ والثبات حدا لا يمكن معه وجود أو تصور ~~قوة قادرة على تغييرها. وعلى أقل تقدير يجب، منذ اللحظة التي نستنتج فيها وجود الله ~~من هذه الأفكار، أن تظهر لنا على هذا النحو من الثبات والرسوخ، لو أردنا ألا يتطرق ~~أي شك إلى استنتاجنا. أما لو استطعنا أن نتصور أن قوة ما، أيا كانت، قد ~~غيرت هذه الأفكار، فإننا نشك عندئذ في صحتها، وبالتالي نشك في ~~استنتاجنا؛ أي في وجود الله، ولن نكون على يقين من أي شيء. من ناحية أخرى، فإننا ~~نعلم أن الشيء لا يتفق مع الطبيعة أو يناقضها إلا بقدر ما نعلم أنه يتفق ~~مع هذه الأفكار الأساسية أو يناقضها، وبالتالي فلو استطعنا أن نتصور شيئا يحدث في ~~الطبيعة (أيا كان هذا الشيء) بقوة تناقض الطبيعة، فإن هذا الشيء يكون مناقضا ~~لهذه الأفكار الأولية، ويجب رفضه باعتباره ممتنعا وإلا وجب علينا الشك في هذه ~~الأفكار الأولى (كما بينا الآن)، ومن ثم في الله وفي كل ما أدركناه بأية ~~وسيلة كانت. وإذن فالمعجزات - إذا عرفناها بأنها أعمال مناقضة ms173 لنظام الطبيعة ~~- يستحيل أن تكون وسيلة لإثبات وجود الله، بل إنها ~~على العكس من ذلك تجعلنا نشك في وجوده، على حين أننا نستطيع أن نكون على يقين منه ~~دون معجزات، أي عندما نعلم أن كل شيء في الطبيعة يتبع نظاما ثابتا لا يتغير. ~~ومع ذلك، لنفترض أن المعجزة هي ما لا يمكن تفسيره بالعلل الطبيعية، ولكن هذا ~~التعريف يمكن أن يفيد معنيين: أن يكون لهذا الشيء علل طبيعية، وإن كان يستحيل على ~~الذهن الإنساني البحث عنها، أو ألا تكون له علة سوى الله، أعني إرادة الله. ولكن ~~لما كان كل ما يحدث بالعلل الطبيعية يحدث أيضا بإرادة الله وقدرته وحدها، ~~تحتم علينا أن نخلص من ذلك إلى القول بأن المعجزة، سواء أكانت لها علل طبيعية ~~أم لم تكن، عمل يتجاوز حدود الفهم الإنساني، على أنه لا يمكننا معرفة أي شيء ~~عن طريق مثل هذا العمل، وبوجه عام عن طريق أي شيء يتجاوز حدود فهمنا. والحق ~~أن كل ما نعرفه بوضوح وتميز يجب أن نعرفه إما بذاته وإما بشيء آخر يعرف ~~بذاته بوضوح وتميز؛ لذلك لا نستطيع، عن طريق المعجزة، أي عن طريق عمل يتجاوز حدود ~~فهمنا، معرفة ماهية الله أو وجوده أو أي شيء آخر يتعلق بالله وبالطبيعة. وعلى ~~العكس من ذلك، فعندما نعلم أن الله قد حدد كل شيء ونظمه، وأن العمليات التي ~~تتم في الطبيعة هي نتائج لماهية الله، «وأن قوانين الطبيعة أوامر أزلية وإرادات ~~إلهية» فعندئذ حتما يجب أن نستنتج أنه كلما ازدادت معرفتنا بالأشياء الطبيعية ~~وازداد تصورنا وضوحا لكيفية اعتمادها على العلة الأولى، وكيفية حدوثها طبقا ~~لقوانين الطبيعة الأزلية، ازددنا معرفة بالله وبإرادته؛ وعلى ذلك، فبالنسبة إلى ~~ذهننا تكون الأعمال التي نعرفها بوضوح وتميز أجدر كثيرا من الأعمال التي ~~نجهلها كل الجهل، بأن تسمى أعمالا إلهية، وبأن ترد إلى إرادة الله، على ~~الرغم من أن هذه الأخيرة تثير الخيال وتخلب ألباب الناس، ما دامت أعمال الطبيعة ~~التي نعرفها بوضوح وتميز هي وحدها التي تعطينا عن الله ms174 معرفة أكمل وتكشف لنا عن ~~إرادته وأوامره بوضوح تام؛ وعلى ذلك، فإن أولئك الذين يلجئون إلى إرادة الله إذا ما ~~جهلوا شيئا # 7 ~~- وهي طريقة مزرية للاعتراف بجهلهم - يكشفون عن تفاهة عقولهم وهم راضون. ~~وفضلا عن ذلك، فحتى لو كنا نستطيع أن نستنتج من المعجزات شيئا فإننا لا نستطيع ~~على الإطلاق أن نستنتج منها وجود الله لأن المعجزة عمل محدود، لا يدل إلا على ~~قوة محدودة، فمن المؤكد إذن أننا لا نستطيع أن نستنتج من مثل هذا المعلول وجود ~~علة لا حدود لقوتها، بل على أكثر تقدير، لأنه ينتج عن اجتماع كثير من العلل ~~عمل أقل قوة بالفعل من قوة هذه العلل مجتمعة، ولكنه يفوق بكثير قوة كل ~~علة منها على حدة. على أنه لما كانت قوانين الطبيعة (كما بينا من قبل) تسري ~~على عدد لا نهاية له من الموضوعات، ولما كنا نتصورها على نحو من الأزلية، ~~كانت الطبيعة تسير طبقا لهذه القوانين في نظام ثابت لا يتغير، فإن هذه القوانين ~~نفسها تكشف، في حدودها الخاصة، عن لا نهائية الله وعن أزليته وثباته. ننتهي من ذلك ~~إذن إلى أننا لا نستطيع بالمعجزات أن نعرف الله ووجوده وعنايته، وأننا نستطيع ~~استنباطها على نحو أفضل بكثير من نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير. وإني ~~لأتحدث في استنتاجي هذا عن المعجزة، حيث إن المقصود بها مجرد عمل يتجاوز ~~حدود الفهم الإنساني أو نعتقد أنه يتجاوزه، أما عندما نفترض أنها تخرق نظام ~~الطبيعة أو تقضي عليه أو تناقض قوانينها، فإنها بهذا المعنى لن تقتصر (كما بينا ~~من قبل) على أن تكون عاجزة عن إعطاء أية معرفة عن الله، بل على العكس ستمحو المعرفة ~~الفطرية التي لدينا، وتجعلنا نشك في الله وفي كل شيء. وأنا لا أعترف هنا بأي ~~فرق بين عمل مناقض للطبيعة وعمل خارق للطبيعة (أي كما يدعي البعض: عمل لا يناقض ~~الطبيعة ومع ذلك لا يمكن أن ينتج عنها أو يؤدى بوساطتها). وذلك لأن المعجزة ~~لما كانت تحدث خارج الطبيعة، بل فيها حتى ms175 مع كونها توصف بأنها فوق الطبيعة فحسب، ~~فإنها تخرق أيضا بالضرورة نظام الطبيعة الذي نتصوره، فيما عدا ذلك، ثابتا لا ~~يتغير بفضل أوامر الله. وعلى ذلك، فإذا حدث شيء في الطبيعة لا يتبع قوانينها الخاصة، ~~فإن ذلك يناقض النظام الضروري الذي وضعه الله في الطبيعة إلى الأبد من خلال قوانين ~~الطبيعة الشاملة، فهو إذن يناقض الطبيعة وقوانينها، وبالتالي فإن التصديق بالمعجزة ~~يجعلنا نشك في كل شيء ويؤدي بنا إلى الإلحاد. أظن أني بذلك قد أثبت ما ~~اعتزمت عرضه في النقطة الثانية بحجج متينة. ومن ذلك نستطيع أن نستنتج مرة أخرى أن ~~أية معجزة تناقض الطبيعة أو تتجاوز الطبيعة هي امتناع محض، وبالتالي لا نستطيع ~~تفسير المعجزة في الكتب المقدسة إلا بوصفها عملا للطبيعة يتجاوز الفهم الإنساني ~~أو نعتقد أنه كذلك، كما قلنا من قبل. # وقبل أن أنتقل إلى النقطة الثالثة يبدو لي أنه من المفيد أن أؤيد بنصوص ~~الكتاب هذا الرأي الذي أدافع عنه، وهو أننا لا نستطيع معرفة الله بالمعجزة. ومع أن ~~الكتاب لا يذكر هذا الرأي صراحة في أي من نصوصه، فإن من الممكن استنتاجه من وصية ~~موسى (التثنية، 13: 2-5)، عندما يحكم بالإعدام على متنبئ بالرغم مما يجريه من ~~معجزات، فيقول: «ولو تمت الآية أو المعجزة التي كلمك عنها ... إلخ، فلا تسمع ~~كلام هذا المتنبئ ... إلخ، فإن الرب إلهكم ممتحنكم ... إلخ، وذلك المتنبئ ... ~~يقتل.» ومن ذلك يظهر بوضوح أن مدعي النبوة يستطيعون بدورهم إجراء معجزات ~~وأن الناس - إن لم تعصمهم معرفة الله الصحيحة وحب الله - يمكنهم عن طريق ~~المعجزات أن يعبدوا آلهة باطلة بالسهولة نفسها التي يعبدون بها الإله الحق. ويضيف ~~موسى قائلا (13: 3): «فإن الرب إلهكم ممتحنكم ليعلم هل أنتم تحبون الرب ~~إلهكم من كل قلوبكم ونفوسكم.» ومن ناحية أخرى لم يستطع الإسرائيليون، بالرغم من كل ~~معجزاتهم، أن يكونوا عن الله فكرة صحيحة، كما تشهد بذلك التجربة، فعندما اعتقدوا ~~أن موسى قد رحل طلبوا من هارون آلهة مرئية، وكانت فكرة الله التي كونوها عن ~~طريق كل هذه المعجزات الكثيرة ms176 تتمثل (ويا للعار) في عجل! وقد شك أسآف # 8 # في عناية الله بالرغم من المعجزات العديدة التي سمع بها وكان يحيد عن ~~الطريق المستقيم، لولا أنه عرف أخيرا السعادة الروحية الحقة (انظر المزمور 73). # 9 # بل إن سليمان ذاته قد شك، في وقت كان ~~فيه اليهود في رخاء عظيم، في أن يكون كل شيء وليد الصدفة (انظر الجامعة، 3: ~~19-21، 9: 2-3 ... إلخ). # 10 # وأخيرا، فبالنسبة إلى جميع الأنبياء تقريبا، كانت معرفة الطريقة التي ~~يمكن بها التوفيق بين نظام الطبيعة والحوادث الإنسانية وبين فكرتهم عن الله، تمثل ~~مشكلة عويصة حقا. أما الفلاسفة الذين يحاولون معرفة الأشياء، لا بالمعجزات بل ~~بأفكار واضحة، فقد كانوا دائما يجدون هذه المسألة واضحة للغاية، وأنا أعني بذلك ~~أولئك الفلاسفة الذين يجعلون النعيم الحقيقي في الفضيلة وحدها وفي اطمئنان النفس، ~~والذين لا يحاولون إخضاع الطبيعة لأنفسهم بل يسعون، على عكس ذلك، إلى طاعتها، خاصة ~~وأنهم على يقين من أن الله لا يرعى الجنس البشري وحده بل يرعى الطبيعة كلها. ~~وهكذا ثبت من الكتاب نفسه أن المعجزات لا تعطي معرفة صحيحة عن الله، ولا ~~تدل بوضوح كاف على العناية الإلهية. والحقيقة أننا كثيرا ما نجد في الكتاب أن ~~الله قد أجرى بعض الخوارق حتى يكشف عن نفسه للبشر كما هو الحال في سفر الخروج (10: 2)، # 11 # حيث نجد أنه خدع المصريين وأعطى آيات عن نفسه حتى يعلم الإسرائيليون ~~أنه الله، ولكن ذلك لا يعني أن المعجزات تعطي حقيقة مثل هذه المعلومات، بل يعني ~~أنه كان من السهل على اليهود - وفقا لما كانت عليه آراؤهم في ذلك الحين - أن ~~يقتنعوا بوساطة المعجزات. ولقد بينا بوضوح في الفصل الثاني أن الحجج التي تعتمد ~~على النبوة، أو التي تعتمد على الوحي - وكلاهما واحد - لا تبدأ من أفكار شاملة ~~مشتركة، بل تبدأ من مجرد اتفاق بين معتقدات قد تكون ممتنعة أو من أفكار ~~من أرسل الوحي إليهم، وبعبارة أخرى من تريد الروح القدس إقناعهم. وقد أعطينا ~~أمثلة كثيرة على ذلك بل وأيدناه بشهادة بولس الذي كان يونانيا مع اليونان ~~ويهوديا مع ms177 اليهود. ولكن إذا كانت هذه المعجزات قد استطاعت أن تقنع المصريين ~~واليهود نظرا لاتفاقهم في المعتقدات فإنها لا تستطيع مع ذلك أن تعطي عن الله فكرة ~~صحيحة ومعرفة حقيقية، وكل ما يمكنها أن تفعله هو أن تجعل الناس يسلمون بوجود إله ~~أعظم قدرة من أي شيء آخر معروف، يرعى العبرانيين الذين لاقوا عندئذ في أعمالهم ~~نجاحا يفوق ما كانوا يأملون، أكثر مما يرعى بقية الناس. ولم يكن في استطاعة ~~المعجزات أن تعرف الناس بأن الله يرعى الجميع على قدم المساواة، فهذا ما يستطيعه ~~الفيلسوف وحده. ومن هنا، فإن اليهود - وكذلك كل من ترجع فكرتهم عن العناية الإلهية ~~إلى التفاوت في الأرزاق واللامساوة التي تلاحظ في الأوضاع الإنسانية - قد اقتنعوا ~~بأن الله أكثر حبا لليهود من الآخرين، مع أنهم لا يفوقون الآخرين في الكمال ~~الإنساني، كما أوضحنا من قبل في الفصل الثالث. # والآن أنتقل إلى النقطة الثالثة، وأبين معتمدا على الكتاب أن أوامر الله ~~ووصاياه ليست في الواقع إلا نظام الطبيعة، وبعبارة أخرى فعندما يقول الكتاب: إن هذا ~~الشيء أو ذاك حدث بالفعل طبقا لقوانين الطبيعة ونظامها، لا بأن الطبيعة قد توقفت ~~عن الفعل بعض الوقت أو أنها خرجت على نظامها، كما يعتقد العامة، إلا أن الكتاب لا ~~يخبرنا مباشرة بما يخرج عن صلب العقيدة، لأن هدفه (كما بينا في حديثنا عن ~~القانون الإلهي) ليس تعريفنا بالأشياء من خلال عللها الطبيعية أو إعطاءنا علما ~~نظريا. ونتيجة لذلك، يجب أن نصل إلى ما نريد البرهنة عليه عن طريق الاستنتاج، ~~معتمدين في ذلك على روايات معينة في الكتاب، كانت بالصدفة أطول من غيرها وأكثر ~~تفصيلا. وإذن فسأذكر بعضا منها. يورد سفر صموئيل الأول (9: 15-16) # 12 # رواية الوحي الذي أعطى الله صموئيل والذي أرسل له فيه شاءول، ومع ذلك لم ~~يرسل الله شاءول لصموئيل كما اعتاد الناس إرسال واحد منهم للآخر؛ إذ لم تكن رسالة ~~الله هذه إلا نظام الطبيعة؛ فقد كان شاءول يبحث عن بعض البغال التي فقدها (هذه هي ~~رواية الإصحاح المذكور) وفكر بالفعل ms178 في الرجوع إلى البيت بدونها عندما نصحه ~~خادمه بأن يذهب إلى النبي ليخبره بمكانها. ولا تشير الرواية مطلقا إلى أن ~~الله قد أمر شاءول بالذهاب إلى صموئيل لأي سبب آخر سوى هذا السبب المتفق مع ~~نظام الطبيعة. ويذكر في المزمور 105، الآية 24، # 13 # أن الله غير مشاعر المصريين وجعلهم يكرهون الإسرائيليين، على أن ~~التغيير كان طبيعيا إلى أبعد حد كما يدل على ذلك الإصحاح الأول من سفر الخروج، ~~الذي يتحدث عن السبب الخطير الذي من أجله استعبد المصريون الإسرائيليين، # 14 # وفي الإصحاح التاسع، الآية 13 من سفر التكوين # 15 # يخبر الله نوحا بأنه سيظهر قوس قزح في السحاب، على أن فعل الله هذا ~~ليس إلا تعبيرا عن سقوط أشعة الشمس وانعكاسها الذي يحدث للأشعة نفسها عندما تسقط ~~على قطرات الماء. وقد أطلق المزمور 147، الآية 18 # 16 # الفعل الطبيعي لريح ساخنة تسيل الصقيع والثلج اسم كلمة الله، وفي الآية 15 # 17 # سميت الريح الباردة كلام الله وكلمته. وسميت النار والريح في ~~المزمور 104، الآية 4 # 18 # باسم رسل الله وخدمه. وبالمثل نجد في الكتاب نصوصا أخرى كثيرة من هذا ~~النوع تدل بوضوح تام على أن أمر الله ووصيته وكلامه وكلمته ما هي إلا فعل ~~الطبيعة ذاتها ونظامها. لا شك إذن في أن كل ما يرويه الكتاب قد حدث بالفعل، ومع ~~ذلك، فقد نسبت هذه الحوادث إلى الله، لأن الكتاب - كما بينا من قبل - لا يرمي ~~إلى التعريف بالأشياء عن طريق عللها الطبيعية، بل إن كل ما يرمي إليه هو أن ~~يحكي أشياء يمكنها أن تحتل في الخيال مكانة خاصة، وبأسلوب كفيل بإثارة أكبر قدر ~~من الإعجاب، وبالتالي يبث الخشوع في نفوس العامة. وعلى ذلك فإذا وجدنا أن ~~الكتب المقدسة قد روت بعض الحوادث التي نجهل عللها وكأنها قد وقعت خارج نظام ~~الطبيعة، بل وعلى نحو مناقض له، فلا ينبغي أن نتوقف عندها بل نعتقد أن كل ما ~~حدث بالفعل قد حدث بطريقة طبيعية. ومما يؤيد رأينا هذا أيضا وجود ملابسات ~~عديدة في المعجزات تكشف عن ضرورة العلل الطبيعية، حتى ولو كانت هذه الملابسات ms179 ~~حذفت أحيانا، وخاصة عندما يستعمل الراوي أسلوبا شعريا، فقد ذر موسى ~~الرماد في الهواء ليعدي المصريين (انظر: الخروج، 9: 10)، # 19 # كذلك غزا الجراد مصر بأمر طبيعي من الله، أعني بريح شرقية هبت طيلة ~~يوم كامل وليلة، ثم طرد الجراد بريح غريبة عاتية (انظر: الخروج، 10: 14، 19). # 20 # وقد انشق البحر بأمر الله حتى يمر اليهود منه (الخروج، 14: 21) # 21 # وهبت الأوروس # 22 # بشدة ليلة كاملة. كذلك كان لا بد، لكي يعيد أليشاع # 23 # الحياة إلى الطفل الذي ظن الجميع أنه قد مات، أن يستلقي بجواره بعض الوقت ~~حتى يبعث فيه الدفء وفتح الطفل عينيه (انظر: الملوك الثاني، 4: 34-35)، # 24 # وكذلك يروي إنجيل يوحنا (الإصحاح 9) # 25 # بعض الملابسات التي استخدمها المسيح ~~لشفاء الأعمى، كما نجد في الكتاب نصوصا أخرى كثيرة تكفي لبيان أن المعجزات تتطلب ~~شيئا آخر إلى جانب الأمر المطلق - كما يسمونه - ~~الله. فيجب إذن أن نعتقد أنه بالرغم من ملابسات الحوادث وعللها الطبيعية لا تروى ~~دائما أو لا تروى كلها، فإنها كانت دائما موجودة، ويتضح هذا في سفر الخروج (14: 27)، # 26 # حيث روي فقط أن البحر قد أطاح موسى بحركة يسيرة منه دون أي ذكر للريح، ~~مع أن نشيد الإنشاد (15: 10) # 27 # يذكر أن هذا قد حدث بالفعل لأن الله قد نفخ ريحه (أي ريحا صرصرا ~~عاتية)؛ ذلك لأن حذف هذا الظرف التفصيلي يجعل المعجزة تبدو أعظم، ولكن قد يصر ~~أحد قائلا: إننا يمكن أن نجد في الكتب المقدسة حوادث عديدة يبدو أنه لا يمكن على ~~أي نحو تفسيرها بعلل طبيعية كالقول مثلا إن خطايا البشر وصلواتهم يمكن أن ~~تكون علة المطر والخصب للأرض، أو إن الإيمان يمكن أن يشفي العمى، وما شابه ذلك ~~من الحوادث التي روتها الكتب المقدسة. وأعتقد أنني أجبت عن هذا الاعتراض من ~~قبل، وبينت أن الكتاب لا يعرفنا الأشياء بعللها القريبة بل يرويها بترتيب ~~وأسلوب من شأنهما أن يثيرا في الناس، وفي العامة بوجه خاص، أعظم قدر ممكن من ~~الخشوع؛ لذلك يتحدث الكتاب عن الله وعن الأشياء بأسلوب غير دقيق، لأنه - فيما أقول ~~- لا يريد إقناع العقل، بل يريد إثارة ms180 الخيال وشحذ قدرته على التصوير. فلو روى ~~الكاتب سقوط دولة ما على طريقة المؤرخين السياسيين، لما حرك ساكنا عند ~~العامة، على حين أن الأثر يعظم عندما يصف ما حدث بأسلوب شاعري، وينسبه إلى ~~الله كما تعود أن يفعل، وإذن فعندما يروي الكتاب أن الأرض جدباء بسبب خطايا البشر، ~~أو أن العميان أبصروا بالإيمان، فلا ينبغي أن تؤثر فينا هذه الروايات أكثر مما ~~تؤثر فينا رواية أن الله قد غضب وحزن وندم على ما فعله أو على ما وعد به بسبب خطايا ~~البشر، أو أن الله تذكر وعده عندما رأى آية، وكثيرا من الروايات الأخرى التي هي في ~~الحقيقة إبداع شعري أو تعبير عن آراء الراوي وأحكامه المسبقة. نستنتج إذن على نحو ~~قاطع أن كل ما يرويه الكتاب على أنه حدث بالفعل، قد حدث بالضرورة طبقا لقوانين ~~الطبيعة، شأنه شأن كل ما يحدث، وإذا وجدنا حادثة ما نستطيع أن نوقن بأنها ~~تناقض قوانين الطبيعة أو بأنها لم تصدر عنها فيجب أن نعتقد أنها إضافة إلى الكتب ~~المقدسة أقحمها العابثون بالمقدسات؛ ذلك لأن كل ما يناقض الطبيعة يناقض ~~العقل، وكل ما يناقض العقل ممتنع ومن ثم وجب رفضه. # لم يبق إذن إلا أن نبدي بعض الملاحظات على تفسير المعجزات، أو بالأحرى أن نجمع ~~ما اعتزمنا إثباته في النقطة الرابعة في هذا الموضوع، وأن نوضحه بمثل أو ~~بمثلين بعد أن تحدثنا من قبل عن أهم ما فيه، وسأفعل ذلك خشية أن تثير معجزة ~~أسيء تفسيرها الشك في أن يكون بعض ما في الكتاب مناقضا للنور الفطري، فنادرا ما ~~يروي الناس شيئا كما حدث بسهولة، دون إقحام رأيهم الخاص فيه، ولتضف إلى ذلك أنهم ~~إذا أرادوا شيئا جديدا أو سمعوا به، فإن أذهانهم - ما لم يحترسوا كل الاحتراس من ~~آرائهم وأحكامهم المسبقة - تنشغل بهذه الآراء المسبقة إلى حد أنهم يدركون شيئا ~~مخالفا كل الاختلاف لما رأوه أو لما تعلموه من الآخرين، ولا سيما إذا كان الأمر ~~متعلقا بشيء يتجاوز فهم الراوي أو السامع، وبوجه ms181 أخص إذا كانت لهذا أو ذاك مصلحة ~~في أن يحدث الشيء على نحو معين؛ ونتيجة لذلك يروي الناس في أخبارهم وفي قصصهم ~~آراءهم الخاصة أكثر مما يروون الحوادث التي وقعت بالفعل، فتروى الحادثة الواحدة، ~~على يد شخصين مختلفي الآراء، بطريقتين مختلفتين كل الاختلاف، حتى ليبدو أنهما ~~يتحدثان عن واقعتين مختلفتين. وأخيرا فمن السهل للوصول للغاية، في كثير من ~~الأحيان، إرجاع الروايات إلى مصادرها في أفكار الراوي أو المؤرخ. وأستطيع هنا أن ~~أعطي أمثلة كثيرة من الرواة والفلاسفة الذين كتبوا التاريخ الطبيعي، تأكيدا لما ~~أقول، ولكني أرى أننا لسنا في حاجة إلى ذلك، وسأكتفي بمثل واحد من الكتاب، ~~ويستطيع القارئ أن يحكم بنفسه على الباقين. كان العبرانيون في زمن يشوع (وقد أبدينا ~~هذه الملاحظة قبل ذلك) يعتقدون أن الشمس تتحرك حركة تسمى يومية، في حين تظل ~~الأرض ثابتة، ثم كيفوا طبقا لهذه الفكرة المسبقة المعجزة لله التي حدثت في ~~أثناء معركتهم ضد الملوك الخمسة، فلم يرووا فقط أن النهار قد طال أكثر من ~~المعتاد، بل رووا أيضا أن الشمس والقمر قد توقفا، أي إن حركتهما قد انقطعت، ~~وكانت القصة، معروضة على هذا النحو نافعة للغاية ~~في ذلك الوقت لإقناع غير اليهود عبدة الشمس ~~وللبرهنة لهم بالتجربة ذاتها على أن الشمس خاضعة لقوة إلهية أخرى تستطيع بفعل ~~يسير أن تغير مسارها الطبيعي، وهكذا فإنهم، بدافع العقيدة ومن الرأي المسبق في ~~آن واحد، قد تصوروا الأمر ورووه على نحو مخالف كل الاختلاف لما كان من ~~الممكن أن يقع بالفعل. وعلى ذلك، فإذا أردنا تفسير معجزات الكتاب، وإذا شئنا أن نعرف ~~من رواياته كيف حدثت الأمور بالفعل، فمن الضروري أن نعرف آراء الرواة الأول، ~~وأول من دونوا الرواية، ثم نميز بين هذه الأفكار وبين التصور الحسي الذي ~~كان يمكن أن يتكون لدى الواقعة موضوع الرواية، وإلا فإننا سنخلط بين المعجزة ~~نفسها كما حدثت بالفعل وبين أفكار رواتها وأحكامهم. كذلك يجب علينا أن نعرف أفكار ~~الراوي، لا لكي نتجنب هذا الخلط فحسب، بل لكي لا ms182 نخلط أيضا بين الأشياء التي حدثت ~~بالفعل وبين الأشياء الخيالية التي لم تكن إلا رؤى نبوية، فقد نقلت أشياء كثيرة ~~في الكتاب على أنها وقعت بالفعل، وظنها الناس كذلك، ولكنها لم تكن إلا رؤى ~~وأمورا خيالية، مثل نزول الله (وهو الموجود الأعظم) من السماء (انظر: الخروج، 19: 18؛ ~~التثنية، 5: 23-26)، # 28 # وتصاعد الدخان من جبل سيناء؛ لأن الله قد نزل محاطا بالنار، وصعود ~~إلياس إلى السماء في عربة من نار وعلى خيول من نار، وكلها بلا شك لا تعدو أن ~~تكون رؤى تتناسب مع آراء أولئك الذين قصوا علينا رؤاهم كما تصوروها، أعني كأنها ~~وقائع. والحقيقة أن كل من لديهم معرفة تفوق بقليل معارف العامة يعلمون أن ~~الله ليس له يمين أو يسار، وأنه لا يتحرك ولا يسكن، ولا يوجد في مكان، بل هو لا ~~متناه على نحو مطلق، يحتوي في ذاته على جميع الكمالات. أقول: إن العلم بذلك ~~يتوافر لدى من يحكمون على الأشياء بإدراكات الذهن الخالص لا تبعا للانطباع الذي ~~تعطيه الحواس الخارجية للخيال، كما يفعل العامة ~~عندما يصطنعون إلها مجسما، يتمتع بسلطة ملكية ويرتكز عرشه على قبة ~~السماء فوق النجوم، التي لا يعتقد الجاهل أنها على بعد شاسع من الأرض ويرتبط ~~بهذه الأفكار وما شابهها (كما قلنا من قبل) عدد كبير من الوقائع التي يرويها ~~الكتاب والتي لا ينبغي على الفيلسوف التسليم بها وكأنها حدثت بالفعل. وأخيرا فلكي ~~تعرف الحوادث المعجزة كما وقعت بالفعل علينا أن نتعرف على الأساليب الخطابية ~~والصور البلاغية التي يستعملها العبرانيون، فإن لم ننتبه إليها فسنرى في الكتاب ~~كثيرا من المعجزات المختلفة التي لم يفكر من قاموا بتدوينها في روايتها أبدا، ~~ومن ثم نجهل تماما الوقائع والمعجزات كما حدثت بالفعل، بل نجهل أيضا فكر ~~مؤلفي الكتب المقدسة. فمثلا يتحدث زكريا (14: ~~7) عن حرب مستقبلة فيقول: «ويكون يوم وهو معلوم عند ~~الرب ليس نهارا ولا ليلا، بل يكون وقت المساء نورا.» فيبدو أنه بهذه الكلمات ~~تنبأ بمعجزة كبيرة، ومع ذلك فهي لا تعني أكثر من أن نهاية الحرب التي ms183 يعرفها الله ~~وحده ستظل مجهولة طوال النهار، وفي المساء سيتم النصر، فقد تعود الأنبياء بمثل ~~هذه العبارات أن يتنبئوا بانتصارات الأمة وهزائمها؛ وعلى هذا النحو نرى أشعيا وهو ~~يصف في الإصحاح 13 هدم بابل: «إن كواكب السماء ونجومها لا تبعث نورها، والشمس تظلم ~~في خروجها، والقمر لا يضيء بنوره.» ولا أظن أن هناك من يعتقد بأن ذلك قد ~~حدث بالفعل عندما هدمت إمبراطورية بابل، وكذلك ما يضيفه بعد ذلك: «فإني سأزعزع السماء ~~وأزلزل الأرض عن مقرها.» وكذلك يقول أشعيا (48، الآية قبل الأخيرة) ليخبر اليهود ~~بأنهم سيرجعون من بابل سالمين إلى أورشليم، وبأنهم لن يقاسوا من الظمأ في الطريق «فلم ~~يعطشوا حين سيرهم في القفار بل فجر لهم المياه من الصخر، شق الصخر ففاضت ~~المياه.» فكل ما يقصده بكلماته هذه هو أن اليهود سيجدون في الصحراء كما حدث ~~بالفعل، ينابيع تروي ظمأهم. وعندما عادوا إلى بيت المقدس بعد موافقة قورش # 29 # لم تحدث مثل هذه المعجزات بالفعل. وفي الكتب المقدسة أمثلة عديدة من ~~هذا النوع. وما هي في الحقيقة إلا أساليب في التعبير شائعة بين العبرانيين، ولسنا ~~في حاجة إلى سردها كلها، يكفي أن أذكر فقط أن هذه الطرق في التعبير، التي اعتادها ~~العبرانيون، ليست مجرد محسنات بديعية، بل هي ~~أساسا علامات تدل على الخشوع؛ لذلك نجد في هذه الكتب استعمال بارك الله بمعنى لعن ~~(انظر: الملوك الأول، 21: 10، أيوب، 2: 9) # 30 # وللسبب نفسه أرجعوا كل شيء إلى الله، وبالتالي يبدو أن الكتاب لا يروي ~~إلا معجزات مع أنه لا يتحدث إلا عن أشياء طبيعية بمعنى الكلمة. وقد قدمنا من ~~قبل الأمثلة على ذلك، وإذن فعندما يقول الكتاب: إن الله قد طبع قلب فرعون على القسوة، ~~يجب أن نعتقد أن ذلك لا يعني إلا أن فرعون قد عصى. وعندما يقال: إن الله قد فتح ~~نوافذ السماء، فذلك يعني أن المطر قد سقط بغزارة وهكذا. # 31 # فإذا راعينا هذه الخاصية بدقة، وتنبهنا إلى أن كثيرا من ~~الروايات مختصرة للغاية، ولا تعطي إلا تفصيلات قليلة، وقد تكون مبتورة، فإننا ms184 ~~لا نكاد نجد في الكتاب شيئا يمكن البرهنة على أنه مناقض للنور الفطري . ويصبح ~~كثير من النصوص التي بدت غامضة مفهومة بعد شيء من التفكير، وبذلك يسهل ~~تفسيرها. # أظنني الآن قد بينت بقدر كاف من الوضوح ما قصدت إليه، ومع ذلك فقبل أن أنتهي ~~من هذا الفصل أود أن أبدي ملاحظة أخرى، لقد اتبعت فيما يتعلق بالمعجزات منهجا ~~مخالفا كل الاختلاف للمنهج الذي اتبعته في حديثي عن النبوة؛ إذ لم أثبت شيئا ~~من النبوة إلا ما استنبطته من المبادئ الموحى بها في الكتب المقدسة، على حين ~~أني اعتمدت أساسا في هذا الفصل على المبادئ التي يمليها النور الطبيعي. وقد فعلت ~~ذلك عمدا لأن النبوة، في ذاتها، تتعدى حدود الفهم الإنساني، وهي موضوع اللاهوت ~~الخالص؛ لذلك لم أكن أستطيع أن أثبت أو أعلم شيئا بشأنها إلا من معطيات الوحي ~~الأساسية، وبالتالي اضطررت إلى أن أفحص النبوة أولا كمؤرخ، # 32 # وأن أستخلص من دراستي بعض النظريات التي تمكنني - بالقدر المستطاع - ~~من معرفة طبيعتها وخصائصها. وعلى العكس من ذلك، فلما كان موضوع بحثنا في المعجزات ~~وهو: هل نستطيع التسليم بحدوث شيء ما في الطبيعة يناقض قوانينها أو يستحيل استنباطه ~~منها - بحثا فلسفيا محضا - فإني لم أكن في حاجة إلى شيء كهذا، بل لقد وجدت أن من ~~الأصوب بحث هذه المسألة بالأسس المعروفة بالنور الفطري، # 33 # وبأفضل ما نعرفه منها بقدر الإمكان، أقول: ظننت أنه من الأصوب؛ لأني كنت ~~أستطيع بحثها بسهولة بعقائد ومعطيات مستمدة من الكتاب وحده، وسأعرضها هنا بإيجاز ~~حتى يراها الجميع. يؤكد الكتاب في بعض النصوص عن الطبيعة بوجه عام، أنها تسير طبقا ~~لنظام ثابت لا يتغير، كما نرى مثلا في المزمور 148: 6، # 34 # وفي إرميا (31: 35-36). # 35 # ويذهب الفيلسوف بدوره في «الجامعة» (1: 10) # 36 # بوضوح تام إلى أنه لا جديد يحدث في الطبيعة، ويشرح في الآيات 11، 12، # 37 # هذه العبارة بأن يضيف أن شيئا يبدو جديدا يحدث بالفعل في بعض الأحيان، ~~ولكن هذه الجدية ليست حقيقية، فقد حدثت الحالة نفسها في قرون ماضية لا نتذكرها ~~الآن؛ إذ لم تعد لدينا ms185، كما يقول، أية ذكريات من العصور الماضية، ولن يحتفظ الخلف ~~بأية ذكرى ممن يعيشون في زماننا هذا. ويقول بعد ذلك (3: 11)، # 38 # إن الله قد نظم كل شيء بإتقان في الزمن القديم. ويقول في الآية 14 # 39 # إنه يعلم أن كل ما يفعل الله يظل إلى الأبد، دون أن يضاف إليه أو ~~ينقص منه شيء. كل ذلك يدل بوضوح تام على أن الطبيعة تسير وفقا لنظام ثابت لا ~~يتغير، وعلى أن الله ظل كما هو في جميع العصور التي نعرفها والتي لا نعرفها، وأن ~~قوانين الطبيعة كاملة وخصبة إلى حد لا يمكن معه إضافة شيء إليها أو إنقاص شيء ~~منها. وأخيرا فالمعجزات لا تبدو شيئا جديدا إلا لجهل الناس بأن الكتاب ~~يعلمنا ذلك صراحة، ولكنه لا يقول في أي من نصوصه إن شيئا ما يحدث في الطبيعة ~~مناقضا قوانينها أو يستحيل استنباطه منها، فلا ينبغي إذن أن تدخل في الكتاب هذه ~~الخرافة. ولنضف إلى ذلك، أن المعجزات تتطلب كما بينا من قبل عللا ~~وملابسات وليست نتيجة لتلك القوى الملكية التي ينسبها العامة زورا وبهتانا ~~إلى الله، بل هي نتيجة لقدرة الله وأمره، أي (كما بينا بوساطة الكتاب نفسه) عن ~~قوانين الطبيعة ونظامها. ولنقل أخيرا: إن أساطين الكذب يستطيعون هم أنفسهم إجراء ~~معجزات، ودليلنا على ذلك الإصحاح 13 # 40 # من التثنية، والإصحاح 24 من متى. # 41 # يتبين من ذلك بأعظم قدر من الوضوح أن المعجزات كانت ظواهر طبيعية، ~~بالتالي يجب تفسيرها بحيث لا تبدو جديدة (مستعيرين عبارة سليمان) أو مناقضة ~~للطبيعة، بل يجب أن نفسرها مبينين، بقدر ما نستطيع، اتفاقها التام مع سائر ~~الأشياء الطبيعية. وقد قدمت بعض القواعد التي استخلصتها من الكتاب حتى يستطيع كل ~~فرد أن ينظر إلى المعجزة على هذا النحو دونما حرج. ومع ذلك، فعندما أقول: إن هذه ~~هي تعاليم الكتاب فإني لا أقصد أن الكتاب يعطي هذه التعاليم بحسبانها ضرورية ~~للخلاص، بل إن كل ما أقصده هو أن الأنبياء كانت لديهم الطريقة نفسها التي ~~لدينا في النظر إلى الأمور، وإذن فلكل فرد الحرية في ms186 أن يحكم طبقا لما يراه ~~أفضل وسيلة تؤدي إلى أن يمتلئ قلبه بالعقيدة وبعبادة الله، وهذا ما كان يعتقده ~~يوسف؛ لأنه يقول في آخر الكتاب الثاني من «أخبار الأقدمين»: «لا يجب على أحد لهذا ~~السبب أن يرفض الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بواقعة معجزة، وبأن أناسا من ~~القدماء، لم يعرفوا الرذيلة، قد انشق لهم عبر البحر طريق للنجاة، سواء أكان ذلك ~~بإرادة الله أم كان تلقائيا، على حين رأى جنود الإسكندر، ملك مقدونيا، ~~بحر بمافيليا يتراجع أمامهم، وأصبح لهم طريقا ~~بعد أن ضلوا كل طريق وذلك عندما أراد الله أن يقضي على قوة الفرس. هذا ما ~~يتفق عليه تماما جميع رواة أخبار الإسكندر، فلكل فرد الحرية في أن يعتقد ما يشاء.» # 42 # تلك هي أقوال يوسف وهذا هو حكمه على الإيمان بالمعجزات. # الفصل السابع # | تفسير الكتاب # يعترف جميع الناس بأن الكتاب المقدس كلام الله، وأنه يعلم الناس السعادة ~~الروحية الحقة أو طريق الخلاص، غير أن سلوك الناس يكشف عما يغاير ذلك تماما؛ ~~لأن العامة لا يحرصون أبدا على أن يعيشوا وفقا لتعاليم الكتاب المقدس، وترى جميع ~~الناس تقريبا وقد استبدلوا بكلام الله بدعهم الخاصة، ويبذلون قصارى جهودهم باسم ~~الدين من أجل إرغام الآخرين على أن يفكروا مثلهم. أقول: إننا نرى معظم ~~اللاهوتيين وقد انشغلوا بالبحث عن وسيلة لاستخلاص بدعهم الخاصة وأحكامهم ~~التعسفية من الكتب المقدسة بتأويلها قسرا، وبتبرير هذه البدع والأحكام ~~بالسلطة الإلهية، وهم لا يكونون أقل حرصا وأكثر جرأة في أي موضع آخر، بقدر ما ~~يكونون في تفسير الكتاب، أي تفسير فكر الروح القدس. والأمر الوحيد الذي يخشونه ~~بعملهم هذا ليس الخوف من أن ينسبوا إلى الروح القدس عقيدة باطلة أو أن يحيدوا عن ~~طريق الخلاص، بل أن يقنعهم الآخرون بخطئهم وأن يروا أعداءهم وقد قضوا على ~~سلطتهم، وأن يكونوا موضع احتقار الآخرين. والحق أنه لو كان الناس صادقين في ~~شهادتهم بصحة الكتاب لكان لهم أسلوب في الحياة مختلف كل الاختلاف، ولما اضطربت ~~نفوسهم بكل هذه المنازعات، ولما تصارعوا بمثل هذه ms187 الكراهية، ولما تملكتهم ~~هذه الرغبة العمياء الهوجاء في تفسير الكتاب وكشف البدع في الدين، بل لما جرءوا على ~~أن يؤمنوا برأي لم يدع إليه الكتاب بوضوح تام على أنه عقيدة في الكتاب. وأخيرا ~~لامتنع مدنسو المقدسات، الذين لم يتورعوا عن تحريف الكتاب في مواطن كثيرة، ~~عن ارتكاب مثل هذا الجرم ولما وضعوا عليه أيديهم الدنسة. إن الطموح الإجرامي ~~وحده هو الذي جعل من الدين دفاعا عن بدع إنسانية أكثر منه إطاعة لتعاليم الروح ~~القدس، بل إنه هو الذي جعله يستخدم في نشر أقسى أنواع الشقاق والكراهية بين الناس، ~~لا في نشر الإحسان، وذلك تحت قناع الحماس لدين الله والإيمان المشبوب. وأضيفت إلى هذه ~~الشرور الخرافة التي تدعو إلى احتقار الطبيعة والعقل، وإلى الإعجاب بما يناقضهما ~~وتعظيمه، ومن هنا لم يكن مما يدعو للدهشة أن يعمل الناس، من أجل زيادة تعظيم الكتاب ~~واحترامه، على تفسيره بحيث يبدو متناقضا إلى أكبر حد ممكن مع هذه الطبيعة نفسها ~~ومع هذا العقل ذاته، ومن ثم أصبح الناس يحلمون بأن هناك أسرارا عميقة للغاية ~~تخبئها الكتب المقدسة، وأخذوا يستنفذون قواهم في التكهن بها، متجاهلين المفيد ~~في سبيل الممتنع، ويعزون إلى الروح القدس كل ما يبتدعونه في هذيانهم هذا، ~~ويحاولون الدفاع عنه بكل ما أوتوا من قوة وحماس، وهذا هو حال الناس دائما: فهم ~~يدافعون بالذهن والعقل وحده عن كل ما يدركونه بالذهن الخالص، ويدافعون ~~بانفعالاتهم عن المعتقدات اللاعقلية التي تفرضها عليهم انفعالات النفس. ولكي نخرج ~~أنفسنا من هذه المتاهات ونحرر فكرنا من أحكام اللاهوتيين المسبقة، وحتى لا ~~نؤمن في غفلة منا ببدع من وضع البشر، وكأنها تعاليم إلهية، يجب أن نتحدث عن ~~المنهج الصحيح الذي يجب اتباعه لتفسير الكتاب، وأن يكون تصورنا له واضحا، ~~فطالما كنا نجهله لن نستطيع أن نعلم شيئا يقينيا عن تعاليم الكتاب أو الروح ~~القدس. ولكي لا أطيل الحديث ألخص هذا المنهج فأقول: إنه لا يختلف في شيء عن المنهج ~~الذي نتبعه في تفسير الطبيعة، بل يتفق معه في جميع جوانبه ms188، فكما أن منهج تفسير ~~الطبيعة يقوم أساسا وقبل كل شيء على ملاحظة الطبيعة ، وجمع المعطيات اليقينية، ~~ثم الانتهاء منها إلى تعريفات الأشياء الطبيعية، فكذلك يتحتم علينا في تفسير ~~الكتاب أن نحصل على معرفة تاريخية مضبوطة، وبعد الحصول عليها أي على معطيات ومبادئ ~~يقينية، يمكننا أن ننتهي من ذلك إلى استنتاج مشروع لفكر مؤلفي الكتاب. وعلى هذا ~~النحو (أعني إذا لم نسلم بمبادئ وبمعطيات لتفسير الكتاب ولتوضيح محتواه إلا ما ~~يمكن استخلاصه من الكتاب نفسه ومن تاريخه النقدي) يستطيع كل فرد أن يتقدم ~~(في بحثه) دون التعرض للوقوع في الخطأ كما يستطيع أن يكون فكرة عما يتجاوز حدود ~~فهمنا، يكون لها اليقين نفسه الذي لدينا عما نعرفه بالنور الطبيعي. # 1 # ولكي نبرهن على أن هذه الطريقة ليست يقينية فحسب، بل هي الطريقة الوحيدة ~~الممكنة، وهي تتفق مع منهج تفسير الطبيعة، يجب أن نذكر أن الكتاب يتناول في ~~كثير من الأحيان موضوعات لا يمكن استنباطها من المبادئ التي نعرفها بالنور الطبيعي، ~~وهي قصص وموضوعات للوحي تؤلف الجزء الأكبر من الكتاب، فالقصص تحتوي أساسا على ~~معجزات (أي كما بينا في الفصل السابق) روايات تقص وقائع غير مألوفة في الطبيعة، ~~وتلائم أفهام الرواة الذين قاموا بتدوينها وأحكامهم. أما موضوعات الوحي فقد تكيفت ~~حسب آراء الأنبياء، بحيث تتجاوز حقيقة حدود الفهم الإنساني كما بينا في الفصل ~~الثاني؛ لذلك، يجب أن نستمد معرفتنا بهذه الأشياء جميعها، أي بمحتوى الكتاب كله ~~تقريبا، من الكتاب نفسه، مثلما نستمد معرفتنا بالطبيعة من الطبيعة نفسها. أما فيما ~~يتعلق بالتعاليم الخلقية # 2 # الموجودة في الكتب المقدسة، فعلى الرغم من أنه من الممكن البرهنة عليها ~~بالأفكار الشائعة، فإننا لا نستطيع أن نبرهن بهذه الأفكار على أن الكتاب يعطي ~~التعاليم؛ لأن ذلك أمر لا يمكن البرهنة عليه إلا بالكتاب نفسه. وحتى لو أردنا أن ~~تظهر لنا قدسية الكتاب دون الاعتماد على أي حكم سابق، فيجب أن نبرهن بالكتاب ~~نفسه على أنه يعلم الحقيقة الخلقية، إذ إن هذه الطريقة هي الطريقة الوحيدة التي ~~يمكن بها البرهنة ms189 على قدسيته؛ ذلك لأننا قد بينا أن التصديق بالأنبياء ~~يقوم أساسا على كونهم ميالين إلى العدل والخير، فيجب إذن أن يثبت لنا ذلك حتى ~~يمكننا تصديقهم. ولقد برهنا من قبل على أن المعجزات لا تستطيع أن تبرهن على ~~قدسية الله، ولن أذكر هنا أن باستطاعة النبي الكذاب أيضا إجراء المعجزات، ~~فيجب إذن أن نستنتج قدسية الكتاب من دعوته إلى الفضيلة الحقة فحسب، وهذا ما لا ~~يمكن البرهنة عليه إلا بالكتاب نفسه، فإن لم يتم ذلك كان تصديقنا وشهادتنا ~~بقدسيته مرتكزا على حكم مسبق بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وإذن فجب ~~أن تكون معرفتنا بالكتاب مستمدة كلها من الكتاب وحده. وأخيرا، فإن الكتاب، شأنه ~~شأن الطبيعة، لا يعطينا تعريفات للأشياء التي يتحدث عنها؛ وعلى ذلك فكما يجب أن ~~نستنتج تعريفات الأشياء الطبيعية من أفعال الطبيعة المختلفة، كذلك يجب استخلاص ~~التعريفات التي لا يعطيها الكتاب من مختلف الروايات التي نجدها فيه بشأن كل ~~موضوع، وإذن فالقاعدة العامة التي نضعها لتفسير الكتاب هي ألا ننسب إليه ~~أية تعاليم سوى تلك التي يثبت الفحص التاريخي بوضوح تام أنه قال بها. وسنتحدث ~~الآن عن هذا الفحص التاريخي وعما ينبغي أن يكون عليه، وما ينبغي أن يعرفنا به ~~أساسا. ~~(1) # يجب أن يفهم طبيعة وخصائص اللغة التي دونت بها أسفار الكتاب ~~المقدس والتي اعتاد مؤلفوها التحدث بها، وبذلك يمكننا فحص كل ~~المعاني التي يمكن أن يفيدها النص حسب الاستعمال الشائع. ولما كان ~~جميع من قاموا بالتدوين، سواء في العهد القديم أو في العهد الجديد، ~~عبرانيين، فلا شك أن معرفة اللغة العبرية ضرورية قبل كل شيء، لا لكي ~~نفهم أسفار العهد القديم المكتوبة بهذه اللغة فحسب، بل لكي نفهم أيضا ~~أسفار العهد الجديد؛ فهذه الأسفار الأخيرة، مع أنها قد انتشرت بلغات أخرى، ~~إلا أنها مملوءة، بالتعبيرات العبرية. ~~(2) # يجب تجميع آيات كل سفر وتصنيفها تحت موضوعات أساسية عددها محدود، ~~حتى نستطيع العثور بسهولة على جميع الآيات المتعلقة بالموضوع نفسه، ~~وبعد ذلك، نجمع كل الآيات المتشابهة والمجملة، أو ms190 التي تعارض بعضها ~~البعض. وأعني بالآية المبينة أو المجملة سهولة أو صعوبة فهم المعنى من ~~السياق لا سهولة أو صعوبة فهم المعنى بالعقل؛ إذ إن ما يعنينا هنا ~~هو معاني النصوص لا حقيقتها، بل إنه يجب أولا وقبل كل شيء في بحثنا ~~عن معنى الكتاب الحرص على ألا ينشغل ذهننا باستدلالات قائمة على ~~مبادئ المعرفة الفطرية (فضلا عن الأحكام المسبقة). ولكيلا نخلط بين معنى ~~الكلام مع حقيقة الأشياء، يجب أن نحرص على العثور على المعنى معتمدين ~~في ذلك فحسب على استعمال اللغة أو على استدلالات مبنية على الكتاب ~~وحده. وسأوضح هذه الفروق بمثال كيما تزداد معرفتنا بها بسهولة. إن ~~العبارات التي قالها موسى مثل «الله نار أو الله غيور»، من أوضح العبارات ~~ما دمنا نقتصر على النظر إلى معاني الكلمات وحدها؛ لذلك أضعها بين ~~الآيات الواضحة، مع أنها في غاية الغموض من حيث العقل والحقيقة. وعلى ~~الرغم من كون المعنى الحرفي مناقضا للنور الفطري، فإنه إذا لم يكن ~~يتعارض على نحو قاطع مع المبادئ والمعطيات الأساسية التي نستمدها ~~من التاريخ النقدي للكتاب، فمن الواجب الاحتفاظ به (أي بالمعنى الحرفي). ~~وعلى العكس من ذلك، إذا كانت هذه الكلمات تتناقض في تفسيرها الحرفي مع ~~المبادئ التي نستمدها من الكتاب، برغم اتفاقها التام مع العقل، ~~فيجب قبول تفسير آخر لها (أعني تفسيرا مجازيا)، فلكي نعرف إن كان ~~موسى قد اعتقد حقا بأن الله نار أم لا، يجب أن نستنتج ذلك من ~~الكلام الآخر الذي قاله موسى، لا من اتفاق هذا الرأي مع العقل أو ~~مناقضته له. ومن هنا، فلما كان موسى قد ذكر بوضوح تام في نصوص ~~أخرى متعددة أن الله لا يشابه الأشياء المرئية في السموات أو في الأرض ~~أو في الماء، فيجب أن نستنتج من ذلك أنه يجب فهم هذا القول بعينه ~~أو كل الأقول المشابهة فهما مجازيا. على أنه لما كان علينا ألا ~~نبتعد عن المعنى الحرفي إلا في أضيق الحدود، فيجب أن نبحث أولا ~~إن كان هذا القول الواحد ms191: «الله نار.» يقبل معنى آخر غير المعنى ~~الحرفي، أي إن كان لفظ نار يعني شيئا آخر غير النار الطبيعية، فإذا لم ~~يكن الاستعمال اللغوي يسمح بإعطاء اللفظ معنى آخر، فلن نستطيع بأي ~~حال من الأحوال أن نفسر العبارة تفسيرا آخر، مع أن المعنى الحرفي ~~مناقض للعقل. وبالعكس يجب أن نأخذ في اعتبارنا معنى هذه العبارة في ~~تفسيرنا للعبارات الأخرى، حتى لو كانت هذه الأخيرة متفقة مع العقل، فإن ~~لم يكن الاستعمال اللغوي بدوره يسمح بذلك كان من المستحيل التوفيق بين ~~جميع العبارات، وبالتالي يجب التوقف عن الحكم عليها جميعا، ولكن لما ~~كان اللفظ نار يفيد أيضا معنى الغضب أو الغيرة (انظر: أيوب، 31: 12)، # 3 # فمن السهل التوفيق بين عبارات موسى، وبذلك ننتهي إلى هذه ~~النتيجة المشروعة، وهي أن هذه القضايا («الله نار، الله غيور») ليست في ~~الحقيقة إلا قضية واحدة، فلنواصل البحث. يقول موسى صراحة: إن الله ~~غيور، ولا يقول في أي موضع إن الله خال من الانفعالات أو من أهواء ~~النفس، ومن ذلك نستنتج أن موسى اعتقد بوجود الغيرة في الله، أو على ~~الأقل أراد أن ينادي بذلك مع أن هذا في رأينا يتنافى مع العقل، وقد ~~بينا من قبل أنه لا يفرض علينا أن نوائم قسرا بين فكر الكتاب ~~ومقتضيات عقلنا وأفكارنا المسبقة؛ إذ يجب علينا أن نستمد كل ~~معرفة لأسفار الكتاب المقدس من هذه الأسفار وحدها. ~~(3) # يجب أن يربط هذا الفحص التاريخي كتب الأنبياء بجميع الملابسات ~~الخاصة التي حفظتها لنا الذاكرة، أعني سيرة مؤلف كل كتاب وأخلاقه ~~والغاية التي كان يرمي إليها ومن هو وفي أية مناسبة كتب كتابه وفي ~~أي وقت ولمن وبأية لغة كتبه. كما يجب أن يقدم هذا الفحص الظروف ~~الخاصة بكل كتاب على حدة: كيف جمع أولا، وما الأيدي التي ~~تناولته، وكم نسخة مختلفة معروفة عن النص، ومن الذين قرروا إدراجه ~~في الكتاب المقدس، وأخيرا كيف جمعت جميع الكتب المقننة # 4 # في مجموعة واحدة؟ أقول: إن الفحص التاريخي يجب أن يتضمن ~~كل هذا؛ إذ إنه لكي ms192 نعلم أي القضايا قد نودي بها في صيغة قوانين ~~وأيها أصبحت تعاليم خلقية ، فمن الواجب أن نعرف سير المؤلفين ~~وأخلاقهم والهدف الذي كانوا يرمون إليه. هذا بالإضافة إلى أننا نستطيع ~~أن نفسر بسهولة أكثر أقوال إنسان ما إذا زادت معرفتنا ~~بعبقريته الخاصة وطبيعة تكوينه الذهني، وحتى لا نخلط بين التعاليم ~~الأزلية وتعاليم أخرى لا تصلح إلا لزمان معين ولمجموعة معينة من ~~الناس، فيجب أن نعرف في أية مناسبات وفي أي زمان ولأي أمة ~~وفي أي عصر كتبت هذه التعاليم كلها. وأخيرا يجب أيضا أن نعرف ~~الملابسات الأخرى المذكورة آنفا لكي نعلم إلى أي مدى يمكننا ~~الاعتماد على سلطة كل كتاب، ولكي نعلم أيضا إن كانت هناك يد آثمة ~~قامت بتحريف النص، أو - في حالة كونه غير محرف - إن كانت قد تسربت ~~إليه بعض الأخطاء، أو أن رجالا أكفاء جديرين بالثقة قد قاموا بتصحيح هذه ~~الأخطاء. يجب أن نعلم كل هذا حتى لا نسير كالعميان فيسهل وقوعنا ~~في الخطأ، وحتى لا نسلم إلا بما كان يقينيا لا يتطرق إليه ~~الشك. # وبعد أن ننتهي من هذا الفحص للكتاب، ونأخذ ~~قرارا حاسما بألا نسلم بشيء لا يخضع لهذا الفحص أو لا يستخلص منه بوضوح تام، ~~على أنه عقيدة مؤكدة للأنبياء، عندئذ يحين وقت العكوف على دراسة فكر الأنبياء ~~والروح القدس، ولكن لكي نقوم بهذه المهمة متبعين في ذلك المنهج والنظام ~~اللازمين، يجب أن نسير على النحو الذي نسير عليه عندما نرتقي من ملاحظة الطبيعة ~~إلى تفسيرها. فكما نهتم في دراسة الأشياء الطبيعية أولا بكشف أكثر الأشياء شمولا، ~~وهي الأشياء التي تشارك فيها الطبيعة كلها كالحركة والسكون، وكذلك كشف قوانينها ~~وقواعدها التي تتبعها الطبيعة دائما، والتي تفعل من خلالها بلا انقطاع، ثم نرتفع ~~تدريجيا إلى الأشياء الأخرى الأقل شمولا؛ فكذلك يجب أن نبدأ أولا، في تاريخ الكتاب ~~المقدس، بالبحث عن أكثر الأشياء شمولا وعن الأساس أو الأصل الذي يرتكز عليه ~~الكتاب المقدس، وعما أوصى به جميع الأنبياء على أنه عقيدة أزلية، لها أعظم المنفعة ms193 ~~للناس جميعا، كوجوب أن الله واحد قادر قدرة مطلقة وتجب عبادته وحده، يرى ~~الجميع، ويحب على الأخص من يعبدونه، ويحبون جارهم كما يحبون أنفسهم ... إلخ. ~~هذه التعاليم وما شابهها موجودة في كل موضع في الكتاب بقدر من الوضوح والصراحة ~~لم يستطع معه أي شخص أن يشك في معناها أما فيما يتعلق بطبيعة الله وكيفية رؤيته ~~ورعايته لجميع الأشياء فإن الكتاب لا يقول شيئا عن ذلك صراحة، ولا يعطي عقيدة ~~أزلية تتعلق بهذا الأمر وما شابهه من الأمور، بل على العكس لا يتفق الأنبياء ~~أنفسهم على هذه المسائل، كما بينا من قبل، فلا مجال إذن لوضع هذا الأمر بوصفه ~~عقيدة صادرة عن الروح القدس، مع أنه يمكن بحثه على أحسن وجه بالنور الفطري. ~~فإذا عرفنا هذه العقيدة الشاملة التي يدعو إليها الكتاب معرفة صحيحة، انتقلنا إلى ~~تعاليم أقل شمولا، تتعلق بالأمور العادية في الحياة، وتصدر عن هذه العقيدة ~~العامة كما تنساب الجداول من منابعها، وأعني بهذه الأمور، كل الأفعال الخاصة ~~الخارجية، الفاضلة بحق، والتي لا يمكن تحقيقها إلا إذا أتيحت الفرصة لذلك، فكل ~~ما نجده في الكتاب من غموض أو اشتباه بشأن هذه الأفعال، يجب إيضاحه وتحديده من خلال ~~العقيدة الشاملة التي يدعو إليها الكتاب. فإذا ظهرت متناقضات، فيجب أن نعرف في ~~أية مناسبة وفي أي وقت ولأي شخص كتبت هذه النصوص المتعارضة. # 5 # فعندما يقول المسيح مثلا: «طوبى للحزان (الذين يبكون) فإنهم يعزون.» لا ~~نعلم من هذا النص وحده أي حزن (بكاء) يقصد، ولكنه يخبرنا بعد ذلك أننا لا ~~ينبغي أن نهتم إلا بملكوت الله وحده وبعدالته التي يقدمها لنا النص بوصفها ~~خيرا أقصى (انظر: متى، 6: 33). # 6 # وإذن فالنص يعني بالذين يبكون، من يبكون على ملكوت الله والعدالة التي ~~جهلها الناس؛ لأن هذا وحده هو ما يبكيه، من يحبون ملكوت الله، أي من يحبون ~~العدل ويحتقرون كل ما سوى ذلك من حظوظ الدنيا، وكذلك عندما يقول: «من لطمك على ~~خدك الأيمن فحول له الآخر ... إلخ.» فلو كان المسيح قد أمر بذلك كما ms194 يأمر المشرع ~~الذي يريد تعريف القضاة بإرادته، لكان بهذه الوصية قد قضى على شريعة موسى، ولكن هذا ~~تفسير يحذرنا منه المسيح ذاته صراحة (انظر: متى، 5: 17). # 7 # فيجب إذن أن نبحث عمن قال هذا ولمن قاله وفي أي وقت قاله؟ إن ~~قائل هذه العبارة هو المسيح، الذي لم يضع قوانين كما يفعل المشرع، بل أعطى ~~تعاليم كما يفعل المعلم لأنه لم يكن يريد أن يصلح الأفعال الخارجية، بل ~~استعدادات النفس الداخلية (كما بينا من قبل). لقد قال هذه العبارة لأناس ~~مضطهدين، كانوا يعيشون في دولة فاسدة لا تعرف العدالة مطلقا، وتبدو مهددة ~~بالانهيار الوشيك، وهذا الذي يخبرنا به المسيح في هذا النص، عندما كانت المدينة ~~مهددة بالانهيار، قد أخبرنا به إرميا أيضا عند أول تخريب للمدينة، أي في وقت ~~مشابه (انظر: المراثي، 3، الحرفان: الطاء والياء)، # 8 # وإذن فما دام الأنبياء لم يعطونا هذه التعاليم إلا في وقت الاضطهاد، ولم ~~يضعوها أبدا في صيغة قانون، بل إن موسى (الذي لم يكتب في زمان اضطهاد، بل حاول ~~إقامة مجتمع سياسي سليم، وهذه ملاحظة هامة) قد أمر بأن تكون العين بالعين، ~~على الرغم من أنه أدان الانتقام من الجار وكراهيته، فإنه يتبين من ذلك بوضوح ~~تام، طبقا لمبادئ الكتاب ذاتها، أن هذه التعاليم التي أعطاها المسيح وإرميا، أعني ~~قبول الظلم وعدم مقاومة الفسق لا تسري إلا حين يجهل الناس العدالة، وفي وقت ~~الاضطهاد، لا في مجتمع سليم، # 9 # وعلى العكس من ذلك، ففي المجتمع السليم الذي يحافظ على العدالة يجب على ~~كل فرد - إن أراد أن يكون عادلا - أن يطلب من القاضي معاقبة من ظلمه (انظر: ~~الأحبار، 5: 1) # 10 # لا بدافع الانتقام (الأحبار، 19: 17-18)، # 11 # بل رغبة في الدفاع عن العدالة وعن قانون الوطن، وحتى لا يجني الأشرار ~~ثمارا من شرهم، ويتفق هذا كله اتفاقا تاما مع العقل الطبيعي بدوره. وأستطيع أن ~~أذكر أمثلة عديدة من هذا النوع، ولكني أرى أن ما أعطيته كاف لعرض فكرتي ولبيان ~~فائدتها، وهو ما أهدف إليه الآن. على أننا كنا حتى الآن نبين كيف يمكن ms195 دراسة ~~نصوص الكتاب التي تتعلق بتدبير شئون الحياة، والتي تسهل دراستها لهذا السبب ، لأنه ~~لا يوجد في الواقع أي خلاف في هذا الموضوع بين من دونوا الكتب المقدسة. ~~أما ما تبقى من محتوى الكتاب، الذي يدخل في ميدان التأمل النظري وحده، فإن ~~الوصول إليه أمر صعب، والطريق إليه أضيق؛ إذ إنه لما كان الأنبياء لم يتفقوا ~~فيما بينهم على الموضوعات النظرية، وكانت رواياتهم مهيأة بحيث تتلاءم، إلى أقصى حد، ~~مع الأحكام المسبقة لكل عصر، فإنه لا يحق لنا على الإطلاق أن نستنتج قول نبي ~~من نصوص أوضح قال بها نبي آخر، إلا إذا ثبت بوضوح تام أن نظرة كلا ~~النبيين إلى الأمور كانت واحدة. # وسأعرض الآن باختصار كيف يمكن في مثل هذه ~~الحالات معرفة أفكار الأنبياء من التاريخ النقدي للكتاب. # 12 # وعلينا أن نبدأ في هذه الحالة بدورها بأكثر المبادئ شمولا وأن نتساءل ~~أولا ما النبي؟ وما الوحي؟ وما مضمونه الأساسي؟ وما المعجزة؟ وهكذا بادئين بأكثر ~~الأشياء شمولا، ثم نهبط منها إلى الأفكار الخاصة بكل نبي، ونصل بعد ذلك إلى ~~معنى كل وحي أتى به نبي، وكل رواية وكل معجزة. ولقد بينا من قبل في ~~المواضع المناسبة، وبأمثلة عديدة، الاحتياطات التي يجب علينا اتخاذها كي لا نخلط ~~بين فكر الأنبياء والرواة من ناحية وبين فكر الروح القدس والحقيقة الأصلية من ~~ناحية أخرى، فلا داعي إذن للإسهاب في ذلك الآن، إلا أننا يجب أن نلحظ فيما ~~يتعلق بمعنى الوحي أن منهجا يعلمنا فقط كيف نبحث فيما رآه الأنبياء وسمعوه ~~بالفعل، لا فيما أرادوا أن يعبروا عنه أو يمثلوه بالصور الحسية، فذلك ما ~~نستطيع تخمينه، لا استنباطه عن يقين من معطيات الكتاب الأساسية. # 13 # هكذا عرضنا منهجا لتفسير الكتاب، وأثبتنا في الوقت نفسه أنه الطريق ~~الوحيد، وأنه طريق يقيني لمعرفة معناه الحقيقي. وإني لأعترف بأن من تلقوا ~~بأنفسهم عن الأنبياء حديثا أو شرحا حقيقيا - كذلك الذي ادعى الفريسيون أنهم ~~تلقوه، أو من يكون لديهم «بابا» معصوم في تفسير الكتاب، كما يفخر الكاثوليك الروم ~~- هؤلاء ms196 جميعا لديهم يقين أعظم، ولكن بما أننا لا نستطيع أن نستوثق من هذا الحديث ~~أو من هذه السلطة البابوية، فلا يمكن أن نقيم عليهما شيئا. وقد أنكر الرعيل الأول من المسيحيين # 14 # هذه السلطة، كما رفضت أقدم الفرق اليهودية هذه السنة. وإذا نظرنا إلى ~~عدد السنين التي نقل فيها الفريسيون من أحبارهم (فضلا عمن عداهم) وهو العدد الذي ~~يرجع هذه السنة إلى موسى وجدنا خطأ في الحساب، كما سأبرهن في موضع آخر. ومن ~~ثم يجب الشك في مثل هذه السنة إلى أقصى حد. غير أن هناك سنة لليهود يلزمنا ~~منهجنا بافتراض أنها خالية من أي تزييف، تلك هي معاني الكلمات في اللغة العبرية؛ ~~لأننا تلقينا هذه المعاني منهم، فعلى حين تبدو لنا السنة الأولى مشكوكا فيها، ~~فإن معاني الكلمات لا يتطرق إليها أي شك؛ ذلك لأن أحدا لم يستطع أن يجني فائدة ~~من تغيير معنى كلمة، على حين توجد في كثير من الأحيان مصلحة في تغيير معنى النص. ~~والتغيير الأول ولا شك صعب للغاية، فمن يريد تغيير معنى كلمة في لغة ما عليه في ~~الوقت نفسه أن يشرح جميع الكتاب الذين كتبوا بهذه اللغة والذين استعملوا هذه ~~الكلمة بالمعنى المتوارث، وذلك طبقا لتفكير كل منهم ولتكوينه الذهني، أو عليه ~~تزييفهم بحرص شديد. هذا فضلا عن أن اللغة تظل محفوظة لدى العامة ولدى ~~العلماء، على حين أن العلماء فقط هم الذين يحفظون معنى النصوص والكتب. ومن ذلك نستطيع ~~أن نتصور بسهولة أن العلماء كانوا يستطيعون أن يغيروا أو أن يحرفوا معنى النص ~~في كتاب نادر بين أيديهم، لا أن يغيروا معنى الكلمات. وفضلا عن ذلك فإذا أراد شخص ~~أن يغير معنى كلمة اعتاد على استعمالها فإنه لا يستطيع بسهولة مراعاة المعنى الجديد ~~في أحاديثه وكتاباته التالية. لهذه الأسباب كلها فإننا مقتنعون تماما بأنه لم ~~يخطر على بال إنسان تحريف اللغة، على حين أنه كان من الممكن في كثير من الأحيان ~~تغيير فكر الكاتب بتحريف النص أو بإساءة تفسيره. # وإذن فما دام منهجنا ms197 (القائم على هذه القاعدة التي تنص على أن معرفة الكتاب ~~تستمد من الكتاب نفسه) هو المنهج الوحيد والصحيح، فعلينا ألا نعلق أملا على ~~إمكان الاهتداء بأية وسيلة أخرى إلى ما لا يستطيع أن يعطينا إياه حتى نحصل ~~على معرفة شاملة بالكتاب. والآن فما الصعوبات التي تعترض هذا المنهج، أو ما الذي ~~ينقصه حتى يستطيع أن يعطينا معرفة شاملة ويقينية؟ هذا ما سنجيب عنه الآن. أولا، ~~هناك صعوبة كبيرة تنشأ من أن هذا المنهج يتطلب معرفة تامة باللغة العبرية، ~~فأين لنا بهذه المعرفة؟ لم يترك علماء اللغة العبرية القدماء للخلف أي شيء ~~بشأن الأسس والمبادئ التي تقوم عليها هذه اللغة، أو على أقل تقدير لا يوجد ~~لدينا أي شيء تركوه لنا: فلا يوجد قاموس أو كتاب في النحو أو في الخطابة. لقد ~~فقدت الأمة العبرية كل ما يشرف الأمة ويزينها (ولا عجب في ذلك بعد كل ~~ما عانت من المحن والاضطهاد) إلا فتات من لغتها وأدبها. لقد ضاعت تقريبا ~~جميع أسماء الفاكهة والطيور والأسماء وأسماء أخرى كثيرة على مر الزمان، كما أن ~~معاني كثيرة من الأسماء والأفعال التي نصادفها في التوراة، إما مفقودة أو على الأقل ~~مختلف عليها. فنحن إذن نفتقر إلى هذه المعاني، كما نفتقر، بدرجة أشد، إلى معرفة ~~التراكيب الخاصة في هذه اللغة، فقد محا الزمان، الذي يلتهم كل شيء، كل العبارات ~~والأساليب الخاصة التي استعملها العبرانيون تقريبا من ذاكرة الناس، فلن نستطيع إذن ~~أن نبحث لكل نص، كما نود، عن جميع المعاني المقبولة وفقا للاستعمال الجاري في هذه ~~اللغة، وسنجد نصوصا كثيرة تتضمن كلمات معروفة تماما ولكن معناها غامض للغاية، لا ~~يمكن إدراكه على الإطلاق، وفضلا عن أننا لا نستطيع أن نحصل على معرفة تامة ~~بالعبرية، فهناك تكوين هذه اللغة نفسه وطبيعتها؛ إذ يوجد فيها من المتشابهات ~~الكثيرة ما يستحيل معه العثور على منهج # 15 ~~⋆ # يسمح ~~لنا بأن نحدد عن يقين معاني جميع نصوص الكتاب. وبالإضافة إلى أسباب وجود ~~المتشابهات التي تشترك فيها جميع اللغات، هناك أسباب خاصة باللغة ms198 العبرية ينشأ ~~عنها كثير جدا من المتشابهات، وأعتقد من الأجدى ذكرها هنا. # أولا ، في كثير من الأحيان ينشأ اشتباه النص وغموضه في التوراة عن استبدال الحروف ~~التي ينطق بها العضو نفسه بعضها بالبعض الآخر، إذ يقسم العبرانيون جميع حروف ~~الأبجدية إلى خمس مجموعات طبقا لأعضاء الفم الخمسة التي تستخدم في نطقها: ~~الشفتين واللسان والأسنان والحلق والحنجرة. فمثلا تسمى الألف والجيم والعين ~~والهاء حروفا حلقية، ويستعمل أحدها بدلا عن الآخر دون أي فارق بينهما، فيما نعلم ~~على الأقل، وعلى هذا النحو تستعمل «ال» التي تعني «إلى» بدلا من «عل» التي تعني على ~~والعكس صحيح. وبذلك يحدث في كثير من الأحيان أن تصبح جميع أجزاء النص متشابهة أو ~~تكون أصواتا بلا معنى. # والسبب الثاني للتشابه هو تعدد المعاني لحروف العطف والظروف، فمثلا تستعمل ~~الواو على السواء للربط والتمييز فتعني «و»: لكن، لأن، مع ذلك، حينئذ. وكذلك تفيد ~~كلمة «كي» سبعة أو ثمانية معان: لأن، مع أن، إذا، عندما، مثلما، أن، احتراق ... ~~إلخ. وكذلك الحال في جميع الأدوات تقريبا. # وهناك سبب ثالث، ينتج عنه كثير من المتشابهات، هو أن الأفعال ليس لها من الصيغة ~~الإخبارية مضارع أو ماض مستمر أو ماض أتم أو مستقبل ماض سابق، وأزمنة أخرى ~~تستعمل بكثرة في اللغات الأخرى، ولا توجد أية أزمنة في الصيغتين الإخبارية ~~والمصدرية سوى الزمن الحاضر، أما في الصيغة الإنشائية فلا توجد أية أزمنة. ~~والحقيقة أن هناك قواعد مستنبطة من مبادئ هذه اللغة تسمح بتعويض هذه الأزمنة ~~والصيغ الناقصة بسهولة، وعلى مستوى رفيع من البلاغة، مع ذلك فإن أقدم الكتاب ~~أهملوها إهمالا تاما، واستعملوا الزمن المستقبل للدلالة على الحاضر وعلى الماضي بلا ~~تمييز، كما استعملوا الماضي للدلالة على المستقبل، والصيغة الإخبارية للدلالة على ~~الصيغة الإنشائية وعلى صيغة الأمر، فنتج عن ذلك كثير من المتشابهات. # وبالإضافة إلى هذه الأسباب الثلاثة للاشتباه، نذكر أيضا سببين آخرين أكثر خطورة ~~بكثير، الأول هو أن العبرانيين ليست لديهم حروف تعادل الحروف المتحركة، والثاني ~~أنهم لم يتعودوا أن يقسموا كلامهم المكتوب ms199 أو أن يبرزوا المعنى بصورة أقوى، أي ~~تأكيده بعلامات. ولا شك أنه كان يمكن التغلب على هذين النقصين بإضافة النقط والحركات، # 16 # ولكننا لا نستطيع الوثوق بهاتين الوسيلتين؛ لأن الذين وضعوها ~~واستعملوها علماء لغويون في عصر متأخر، لا تساوي سلطتهم شيئا. أما القدماء ~~فقد كتبوا دون نقاط (أي دون حروف علة ودون حركات) كما تدل على ذلك شهادات كثيرة، ~~فقد أضيفت النقاط في عصر متأخر عندما اعتقد الناس بوجوب تفسير التوراة، فالنقاط ~~التي لدينا الآن، وكذلك الحركات، إنما هي تفسيرات حديثة لا يحق لنا التصديق بها ولا ~~تفوق في سلطتها الشروح الأخرى. ومن يجهلون هذه الخاصية لا يعرفون لماذا يجب أن ~~نغفر لمؤلف «الرسالة إلى العبرانيين» تفسيره في الإصحاح 11، الآية 21 نصا من سفر ~~الخروج (47: 31) تفسيرا مخالفا للنص المنقوط، وكأنه كان مفروضا على الحواري ~~أن يعرف معنى الكتاب ممن نقطوه! وأنا من جانبي أرى أن الذين أخطئوا هم هؤلاء ~~المتأخرون. وحتى يستطيع كل فرد أن يتحقق من صدق ذلك وأن يرى في الوقت ذاته ~~أن هذا الاختلاف يرجع فقط إلى غياب الحروف المتحركة، أذكر هنا التفسيرين معا، ~~فنحن نقرأ النص المنقوط هكذا: «وسجدت إسرائيل على.» أو (وعندما نغير الحرف عين إلى ~~ألف وهو من المجموعة نفسها) «إلى رأس السرير.» # 17 # وفي مقابل ذلك يقرأ مؤلف الرسالة: «وسجدت إسرائيل رأس العصا.» بعد أن ~~استبدل بكلمة «ميتا» كلمة «ماتي» التي لا تختلف عن الكلمة الأولى إلا في حروف ~~العلة. ولما كانت الرواية تتحدث في هذا الموضع عن شيخوخة يعقوب لا عن مرضه ~~كما هو الحال في الإصحاح التالي، فالأرجح أن المؤرخ أراد أن يقول: انحنى يعقوب على ~~«رأس عصاه» (إذ يحتاج المسنون حقيقة بعد أن يتقدم بهم العمر إلى عصا يتكئون ~~عليها) لا على السرير، فضلا عن أن هذه القراءة لا تتطلب ضرورة استبدال الحروف. ~~هذا المثل لم أرد به أن أثبت اتفاق نص الرسالة إلى العبرانيين مع نص سفر ~~التكوين فقط، بل أردت أيضا، وعلى وجه الخصوص، أن أبين مقدار ضعف الثقة التي ~~يمكن ms200 أن نوليها للنقاط والحركات الحديثة، فمن يرد تفسير الكتاب دون أحكام مسبقة ~~عليه إذن أن يشك في النص الذي أكمل على هذا النحو وأن يعيد فحصه من جديد. # ولنعد إلى موضوعنا، قائلين: إنه لما كان هذا هو تركيب اللغة العبرية وطبيعتها ~~يمكننا أن نفهم بسهولة كيف أن المرء يصادف من هذه النصوص المتشابهة عددا ~~يبلغ من الكثرة حدا لا يوجد معه نهج واحد يسمح بتحديد المعنى الحقيقي لها جميعا، ~~ولا يمكننا أن نأمل الوصول إلى ذلك التحديد في جميع الحالات عن طريق مقابلة النصوص ~~بعضها على البعض الآخر (وقد بينا أن هذا هو الطريق الوحيد للوصول إلى المعنى ~~الحقيقي لنص واحد يفيد معاني كثيرة طبقا للاستعمال اللغوي)، فمن ناحية لا تستطيع ~~مقابلة النصوص أن تلقي الضوء على نص إلا مصادفة؛ نظرا إلى أن أي نبي لم ~~يكتب صراحة ليوضح كلمات نبي آخر أو كلماته هو، ومن ناحية أخرى لا نستطيع أن ~~نستنبط فكر نبي أو حواري من فكر نبي أو حواري آخر إلا فيما يتعلق بتدبير ~~أمور الحياة، كما أوضحنا من قبل بجلاء، لا في حديثهم عن الأمور النظرية، أي ما يتعلق ~~بالمعجزات أو القصص. وأستطيع أن أبرهن أيضا ببعض الأمثلة على وجود كثير من ~~النصوص في الكتاب المقدس لا يمكن شرحها، ولكني أفضل ألا أتوقف عند هذا ~~الموضوع الآن وأنتقل إلى الملاحظات الأخرى التي أود أن أبديها على صعوبة المنهج ~~الصحيح لتفسير الكتاب والعيوب التي لا يستطيع هذا المنهج أن يعالجها. # هناك صعوبة أخرى في هذا المنهج تأتي من أنه يتطلب المعرفة التاريخية للظروف الخاصة ~~لكل أسفار الكتاب، وهي معرفة لا تتوافر لدينا في معظم الأحيان. والواقع أننا ~~نجهل تماما مؤلفي كثير من هذه الأسفار، أو نجهل الأشخاص الذين كتبوها (إذا ~~كنا نفضل هذا التعبير) أو نشك فيهم كما سأبين بالتفصيل فيما بعد. ومن ناحية ~~أخرى، لا ندري في أية مناسبة وفي أي زمان كتبت هذه الأسفار التي نجهل ~~مؤلفيها الحقيقيين، ولا نعلم في أيدي من وقعت وممن جاءت ms201 المخطوطات الأصلية التي ~~وجد لها عدد من النسخ المتباينة. ولا نعلم أخيرا إن كانت هناك نسخ # 18 # كثيرة أخرى في مخطوطات من مصدر آخر، وقد بينت بإيجاز في موضع ~~آخر أهمية هذه الظروف جميعها، ولكني قصدت ألا أتحدث عن بعض المسائل التي ~~سأضيفها هنا. إننا عندما نقرأ كتابا يتضمن أمورا لا يمكن تصديقها ولا يمكن ~~إدراكها، أو عندما نقرأ كتابا بألفاظ غاية في الغموض، فمن العبث أن نبحث عن معناه ~~دون أن نعرف مؤلفه وزمن الكتابة ومناسبتها، ولا نستطيع مطلقا أن نعرف ما قصده ~~المؤلف أو ما كان يمكن أن يقصده دون أن نعرف هذه الظروف كلها. وعلى العكس إذا ~~عرفنا كل هذا بدقة، فإننا ننظم أفكارنا بحيث نتحرر من جميع الأحكام ~~المسبقة، أي لا نعطي المؤلف أو من ألف الكتاب من أجله أكثر مما يستحق ~~أو أقل، ولا نتصور أهدافا سوى تلك التي كان من الممكن أن يضعها المؤلف نصب ~~عينيه. وأعتقد أن هذا واضح للجميع، ففي كثير من الأحيان نقرأ روايات متشابهة للغاية ~~في كتب مختلفة، ومع ذلك يختلف حكمنا عليها تبعا لاختلاف آرائنا عن مؤلفيها. ~~وإني لأذكر أني قرأت في كتاب ما أن رجلا يدعى رولان الغاضب # 19 # كان من عادته أن يمتطي تنينا ذا جناحين يطير في الهواء ويحلق في ~~جميع المناطق كما يشاء، يفترس بمفرده عددا كبيرا من الناس والعمالقة. وحكايات ~~خرافية أخرى من هذا النوع لا يستطيع الذهن تصورها على أي نحو، وقد قرأت في كتاب ~~لأوفيد قصة مشابهة تماما عن برسيه، # 20 # وحكاية ثالثة في سفر القضاة وفي سفر الملوك عن شمشمون (الذي استطاع ~~وحده دون سلاح قتل ألف رجل) # 21 # وعن إيليا الذي كان يطير في الهواء وانتهى به الأمر إلى الوصول إلى السماء ~~بخيول، وعربة من نار. # 22 # أقول: إن هذه الحكايات متشابهة للغاية ومع ذلك تختلف أحكامنا على كل ~~منها اختلافا كبيرا؛ فالمؤلف الأول لم يقصد أن يكتب إلا تفاهات خيالية، ~~والمؤلف الثاني قصد غاية سياسية، # 23 # والثالث قصد أشياء مقدسة. # 24 # والسبب الوحيد الذي جعلنا نقتنع ms202 بذلك هو الرأي الذي كوناه عن ~~المؤلفين. وهكذا أثبتنا أن معرفة المؤلفين الذين كتبوا أشياء غامضة أو غير ~~معقولة ضرورية بوجه خاص لتفسير كتاباتهم. ولهذه الأسباب نفسها لا نستطيع اختيار ~~الصيغة الصحيحة من بين الصيغ المختلفة لنص يتضمن حكايات غامضة إلا بقدر ~~معرفتنا بمصدر المخطوطات الأصلية التي تتضمن هذه الصيغ، وإن لم تكن هناك صيغ ~~أخرى في مخطوطات أخرى لمؤلفين يتمتعون بسلطة أعظم. # وهناك صعوبة أخيرة نجدها في تفسير أسفار الكتاب وفقا لهذا المنهج، وهي أننا لا ~~نملك هذه الأسفار في لغتها الأصلية، أي في لغة كاتبها، فالرأي السائد هو أن ~~إنجيل متى وكذلك الرسالة إلى العبرانيين قد كتبتا بالعبرية، ثم فقد النص ~~العبري. وهناك تساؤل عن اللغة التي كتب بها سفر أيوب، فابن عزرا # 25 # يؤكد في شروحه أنه قد ترجم إلى العبرية من لغة أخرى، وأن هذا هو ~~سبب غموضه. ولن أتحدث عن الكتب المنحولة، التي تعد سلطتها أقل بكثير، وهكذا ~~عرضت جميع الصعوبات التي تنشأ عن هذا المنهج في تفسير الكتاب، بالفحص النقدي ~~لمعطيات التاريخ المتعلقة به، وأنا أعد هذه الصعوبات من الخطورة بحيث لا أتردد ~~في القول بأننا لا نعرف معاني نصوص كثيرة من الكتاب، أو أننا نجملها دون أي ~~يقين، ولكني أود أن أكرر ما قلته، من أن ما يمكن أن تؤدي إليه هذه ~~الصعوبات هو أن تمنعنا من فهم فكر الأنبياء فيما يتعلق بالأشياء غير القابلة ~~للإدراك، والتي لا نستطيع إلا تخيلها. أما الأشياء التي نستطيع إدراكها ~~بالذهن، والتي نستطيع بسهولة أن نكون عنها تصورا # 26 ~~⋆ # فأمرها ~~مختلف؛ إذ إن الأشياء التي يسهل إدراكها بطبيعتها، لا يمكن أن يبلغ التعبير عنها من ~~الغموض حدا لا يعود من السهل معه فهمها، وذلك طبقا للمثل القائل: «كلمة واحدة تكفي ~~لمن يفهم.» فمن السهل شرح إقليدس لجميع الناس وبكل اللغات لأنه لم يكتب إلا ~~أشياء يسيرة للغاية ومعقولة تماما، ولا يحتاج الإنسان مطلقا إلى معرفة تامة ~~باللغة التي كتب بها حتى يدرك تفكيره ويتأكد من فهمه للمعنى الحقيقي، بل ms203 تكفي ~~لذلك معرفة عادية جدا لا تتعدى معرفة الأطفال، كذلك لا يكون من المفيد معرفة حياة ~~المؤلف والغاية التي كان يرمي إليها وعاداته، واللغة التي كتب بها، ومن كتب لهم، ~~ومتى كتب، وظروف الكتاب، ومصيره، والصيغ المختلفة للنص، ومن هم الذين قرروا ~~جمعه. وما يقال عن إقليدس يقال أيضا عن جميع من كتبوا في موضوعات قابلة لأن ~~تدرك بطبيعتها. ننتهي من ذلك إذن إلى أننا نستطيع بسهولة تامة، بما يمكننا ~~التوصل إليه من معرفة تاريخية بالكتاب، أن ندرك فكر الكتاب فيما يتعلق بالتعاليم ~~الخلقية، وأننا في هذه الحالة نستطيع أن نعرف معناها عن يقين؛ إذ يتم التعبير عن ~~التعاليم المتعلقة بالتقوى الحقة بأكثر الكلمات تداولا، لأنها شائعة للغاية بين ~~الناس، ولأنها يسيرة جدا ويسهل فهمها. وفضلا عن ذلك، فلما كان الخلاص الحقيقي ~~والسعادة الروحية يكمنان في طمأنينة النفس، وكنا لا نجد الطمأنينة الحقيقية إلا ~~فيما نعلمه بوضوح تام، فمن الواضح أننا نستطيع أن ندرك عن يقين فكر الكتاب فيما ~~يتعلق بالأمور الجوهرية للخلاص والضرورية للسعادة الروحية. وإذن فليس هناك ما ~~يدعو إلى القلق على باقي الأمور، لأننا لما كنا في أغلب الأحيان نعجز عن ~~إدراكها بالعقل والذهن، فيجب اعتبارها أمورا أدخل في باب الغرائب منها في باب ~~الأشياء النافعة. # أعتقد أنني قد بينت على هذا النحو المنهج الصحيح لتفسير الكتاب، وشرحت بما فيه ~~الكفاية طريقتي في معالجة هذا الموضوع، ولا شك عندي أن كل شخص يرى الآن أن هذا ~~المنهج لا يتطلب نورا سوى النور الفطري؛ ذلك أن طبيعة هذا النور وصفته ~~المميزة تنحصر في استنباطه الأشياء الغامضة واستخلاصه إياها بوصفها نتيجة ~~مشروعة من الأشياء المعروفة أو الأشياء المعطاة على أنها معروفة، ولا يتطلب منهجنا ~~أكثر من هذا. ولا شك أننا نسلم بأن هذا المنهج لا يكفي لتوضيح كل ما ~~تتضمنه التوراة، ولكن ذلك لا يرجع إلى نقص في المنهج، بل يرجع إلى أن الطريق الذي ~~يدعو إليه، هو الطريق القويم والصحيح الذي لم يتبعه الناس، ولم يسلكوه من قبل ms204، ~~بحيث أصبح على مر الزمان وعرا يكاد يستحيل السير فيه. وأعتقد أني وضحت ذلك ~~تماما بما ذكرته من صعوبات موجودة فيه. # لم يبق الآن إلا أن نفحص الآراء المخالفة لرأينا. هناك أولا رأي من يظنون أن ~~النور الطبيعي لا يقدر على تفسير الكتاب، وأنه لا بد لذلك من وجود نور يفوق ~~الطبيعة. أما ما هو هذا النور الذي يضاف إلى النور الطبيعي، فهذا ما ينبغي عليهم ~~هم أنفسهم أن يوضحوه. وأنا من جانبي لا أستطيع إلا أن أفترض أنهم أرادوا برأيهم ~~هذا أن يعترفوا، مستخدمين تعبيرات أكثر إيهاما، بعدم تأكدهم من المعنى الحقيقي ~~لنصوص كثيرة من الكتاب؛ ذلك لأننا إذا نظرنا إلى تفسيراتهم فلن نجد فيها على ~~الإطلاق شيئا يفوق الطبيعة، بل سنجد مجرد تخمينات. ولو قارنا تفسيراتهم هذه ~~بتفسيرات من يعترفون صراحة بأن ليس لديه إلا النور الطبيعي، لوجدناها متشابهة ~~تماما؛ فكلا التفسيرين من ابتداع البشر، وكلاهما يرجع إلى جهد طويل في التفكير. ~~أما ما يقولونه عن عدم كفاية النور الطبيعي، فمن المؤكد أنه باطل؛ فمن ناحية لا ~~تأتي الصعوبة في تفسير الكتاب - كما بينا من قبل - من ضعف النور الفطري بل من ~~تراخي (إن لم نقل خبث) من أهملوا الحصول على معرفة تاريخية ونقدية بالكتاب في الوقت ~~الذي كانوا يستطيعون فيه ذلك، ومن ناحية أخرى، فإن هذا النور الذي يفوق الطبيعة ~~(والكل يسلم بذلك إلا المخطئون) هبة يعطيها الله المؤمنين وحدهم، إلا أن ~~الأنبياء والحواريين قد اعتادوا ألا يعظوا المؤمنين وحدهم بل وعظوا الكفار ~~والفاسقين أيضا، فلا بد إذن أن هؤلاء الأخيرين كانوا أيضا قادرين على فهم فكر ~~الأنبياء والحواريين، وإلا لظهر الأنبياء والحواريون كما لو كانوا يعظون الصبية ~~والأطفال الصغار، لا الرجال العقلاء، ولكان من العبث وضع قوانين موسى، ما دام فهمها ~~مستحيلا على المؤمنين وحدهم، الذين لا يحتاجون إلى أي قانون. وإذن، ففي اعتقادي أن ~~النور الطبيعي ينقص هؤلاء الذين يبحثون عن النور الذي يفوق الطبيعة من أجل فهم أفكار ~~الأنبياء والحواريين، وهم أبعد ما يكونون ms205 - فيما أعتقد - عن الحصول على هبة إلهية ~~تفوق الطبيعة. # وكان لابن ميمون # 27 # رأي آخر مخالف كل الاختلاف. كان يعتقد أن لكل نص من الكتاب ~~معاني كثيرة بل ومعاني متعارضة، وأننا لا نستطيع أن نعرف المعنى الحقيقي لأي ~~نص إلا بقدر ما نعرف أنه - كما نفسره نحن - لا يحتوي على شيء يعارض العقل ويناقضه. # 28 # فإذا فسر النص تفسيرا حرفيا وكان مناقضا للعقل وجب تفسير ~~النص تفسيرا آخر مهما كان واضحا. وهذا ما يعبر عنه بوضوح تام في الفصل 25، ~~الجزء الثاني من كتابه موريح نبوخيم بقوله: # اعلم أننا لا نرفض التسليم بقدم العالم بسبب النصوص التي نجدها في ~~الكتاب عن خلق العالم؛ لأن النصوص التي تشير إلى خلق العالم ليست أكثر من ~~تلك التي تشير إلى أن الله جسم. وليس هناك ما يمنعنا من تأويل النصوص ~~التي تفيد الخلق، وما كنا نتورع عن تأويلها كما فعلنا من قبل مع بعض ~~النصوص عندما رفضنا أن يكون لله جسم، بل ربما كان التفسير (في الحالة ~~الأولى) أسهل وأقل عناء، وكان تسليمنا بقدم العالم أيسر من رفضنا ~~جسمية الله الذي نعبده في شرحنا للكتاب، ومع ذلك لم أشأ أن أقوم بهذا ~~التفسير ورفضت هذه العقيدة (قدم العالم) لسببين: ~~(1) # يمكن البرهنة بوضوح على أن الله ليس جسما، وبالتالي يتحتم ~~تفسير كل النصوص التي يناقض معناها الحرفي هذا البرهان؛ إذ ~~يوجد حتما لمثل هذه الحالة تفسير آخر (غير التفسير الحرفي) ~~وعلى العكس لا يوجد أي برهان على قدم العالم، وبالتالي لا ~~يتحتم التعسف في تأويل الكتاب حتى يكون متفقا مع مجرد ~~رأي ظاهري، أعني رأيا يكون لدينا من الأسباب ما يجعلنا على ~~الأقل نفضل عليه رأيا مضادا. ~~(2) # الاعتقاد بأن الله ليس جسما لا يعارض المعتقدات التي تقوم ~~عليها الشريعة ... إلخ، في حين أن الاعتقاد بقدم العالم، كما هو ~~الحال عند أرسطو، يقضي على أساس الشريعة. # تلك هي أقوال ابن ميمون التي يظهر فيها بوضوح ما قلناه؛ فلو قام لديه البرهان ~~عقلا على قدم العالم لما تردد في ms206 تأويل الكتاب تعسفا وتفسيره بحيث تبدو هذه ~~العقيدة وكأنها صادرة منه. إنه ليكون عندئذ على يقين قاطع من أن الكتاب أراد أن ~~يبشر بقدم العالم، مهما عارض الكتاب في ذلك. وإذن فهو لا يمكن أن يستيقن من ~~المعنى الحقيقي للكتاب، مهما كان واضحا، ما دام يشك في حقيقة ما يقوله الكتاب، وما ~~دامت هذه الحقيقة لم تثبت في نظره بالبرهان. وطالما لم يقم البرهان على هذه ~~الحقيقة، فلن نعلم إن كان الكتاب متفقا مع العقل أم مناقضا له، وبالتالي لن ~~نعلم إن كان المعنى الحرفي صحيحا أم باطلا. فإذا كانت هذه الطريقة في التفسير ~~صحيحة، فإني أسلم كلية بأننا في حاجة في تفسيرنا للكتاب إلى نور آخر غير ~~النور الطبيعي، لأنه يستحيل استنباط كل ما يحتويه الكتاب تقريبا من مبادئ معروفة ~~بالنور الفطري (كما بينا ذلك من قبل)، فالنور الطبيعي عاجز إذن عن البرهنة على ~~أي شيء يتعلق بحقيقة الجزء الأكبر من هذا المحتوى، وبالتالي يعجز عن البرهنة على ~~المعنى الصحيح للكتاب وعلى ما فيه من أفكار، وسنحتاج عندئذ في ذلك إلى نور آخر. ~~وفضلا عن ذلك، فلو كانت طريقة ابن ميمون صحيحة، لكان على العامة، الذين هم في أغلب ~~الأحيان جاهلون بالبراهين أو عاجزون عن الاضطلاع بها، ألا يسلموا بشيء يتعلق ~~بالكتاب إلا معتمدين على سلطة المتفلسفين أو على شهادتهم، ولكن عليهم بالتالي أن ~~يفترضوا أن الفلاسفة معصومون من الخطأ في تفسيرهم الكتاب، وهذا يعني افتراض وجود ~~سلطة كنسية أخرى، كهنوت جديد، ونوع من البابوية، وهو أمر يثير سخرية العامة أكثر ~~مما يبعث في نفوسهم الاحترام. صحيح أن منهجنا في التفسير يتطلب معرفة ~~بالعبرية، التي لا تستطيع العامة أن تتعلمها، ولكن لا يحق توجيه هذا الاعتراض ~~إلينا؛ لأن عامة اليهود وغير اليهود وهم الذين وجه إليهم الأنبياء والحواريون ~~مواعظهم وكتبوا لهم كانوا يفهمون لغة الأنبياء والحواريين، وكانوا يدركون بها فكر ~~الأنبياء، على حين أنهم كانوا يجهلون البراهين على حقيقة التعاليم التي دعوا ~~إليها، وهي البراهين التي يرى ابن ميمون ms207 أنه كان عليهم معرفتها حتى يفهموا فكر ~~الأنبياء. وإذن فمنهجنا لا يشترط أن يعتمد العامة ضرورة على شهادة المفسرين، ~~لأنني أتحدث عن عامة كانوا يعرفون لغة الأنبياء والحواريين، على حين أن ابن ~~ميمون لا يعترف بوجود أي عامي يعرف علل الأشياء ويستطيع أن يدرك بها فكر ~~الأنبياء. أما فيما يتعلق بالعامة في عصرنا هذا فقد بينا من قبل أنه يمكنهم ~~بسهولة إدراك جميع الحقائق الضرورية للخلاص بأية لغة، وإن كانوا يجهلون البراهين ~~التي تقوم عليها، ما دامت هذه الحقائق شائعة يسهل التعبير عنها باللغة المتداولة، ~~وعلى هذا الإدراك، # 29 # لا على شهادة المفسرين، يعتمد العامة. أما فيما سوى ذلك، فإن حظ ~~العامة لا يختلف عن حظ العلماء في شيء. وعلى أية حال، فلنرجع إلى وجهة نظر ~~ابن ميمون ولنتمعن في فحصها. إنه يفترض أولا أن الأنبياء متفقون فيما بينهم ~~على جميع الموضوعات، وأنهم كانوا جميعا فلاسفة كبارا ولاهوتيين عظاما، ويعطيهم ~~قدرة الاستنتاج لأنهم عرفوا الحقيقة. وقد بينا خطأ ذلك في الفصل الثاني، ويفترض ~~ابن ميمون ثانيا أنه لا يمكن البرهنة على معنى الكتاب بالكتاب نفسه، لأن حقيقة ~~الأشياء التي يدعو إليها لا يمكن البرهنة عليها بالكتاب ذاته (لأن الكتاب لا ~~يبرهن على شيء ولا يعرفنا بالموضوعات التي يتحدث عنها عن طريق الحدود والعلل ~~الأولى) وإذن ففي رأي ابن ميمون أن المعنى الحقيقي للكتاب هو بدوره شيء لا يمكن ~~البرهنة عليه أو استخلاصه منه. ويتضح خطأ هذا الاستنتاج من هذا الفصل؛ لأننا ~~بينا بالاستدلال وبالأمثلة أنه لا يمكن التحقق من معنى الكتاب إلا ~~بالكتاب وحده، ولا يمكن استخلاصه إلا منه وحده، حتى ولو تحدث الكتاب عن أشياء ~~معروفة بالنور الطبيعي. وأخيرا، يفترض ابن ميمون أنه يحق لنا تفسير الكتاب ~~وتأويله بطريقة متعسفة طبقا لآرائنا المسبقة، ورفض المعنى الحرفي عمدا واستبدال ~~معاني أخرى به، حتى ولو كان هذا المعنى الحرفي هو أوضح المعاني أو أقربها إلى الذهن. ~~ومثل هذه الرخصة تبدو أمام الجميع متطرفة متهورة فضلا عن معارضتها التامة ~~لما برهنا عليه في ms208 هذا الفصل وفي الفصول السابقة. ولكن لنسلم له بهذه الحرية ~~العظمى، فماذا هو فاعل بها؟ إنه لن يفعل شيئا. فنحن لا نستطيع أن نعرف بالعقل ما لا ~~يمكن البرهنة عليه، وهو النور الأعظم من الكتاب، كما لا نستطيع شرحه وتفسيره طبقا ~~لقاعدة ابن ميمون. وعلى العكس من ذلك، نستطيع في معظم الأحيان شرحه بمنهجنا وتوضيحه ~~ونحن مطمئنون، كما بينا بالاستدلال وبالمثل. أما فيما يتعلق بما يمكن إدراكه ~~بطبيعته دون عناء، فإن من اليسير الوصول إلى معناه بالاستعانة بالسياق وحده، ~~كما بينا من قبل. فمنهج ابن ميمون إذن لا فائدة منه على الإطلاق، فضلا عن أنه ~~يقضي تماما على الثقة في فهم المعنى الحقيقي للكتاب، وهو ما يستطيع العامة الوصول ~~إليه بمنهج آخر في التفسير، فنحن إذن نرفض طريقة ابن ميمون بوصفها طريقة فاسدة ~~ممتنعة لا فائدة فيها. # والآن فيما يتعلق بالسنن المتداولة بين الفريسيين، فقد ذكرنا من قبل أنها غير ~~متفقة مع نفسها. أما سلطة حبر الرومان فتحتاج إلى شهادة أكثر قوة، ولهذا السبب ~~وحده أرفضها. # 30 # والحق أنه لو استطاع أحد أن يبرهن لنا بالكتاب نفسه على أن سلطة ~~حبر الرومان # 31 # قائمة على أساس يبلغ من اليقين ما بلغته سلطة أحبار اليهود في ~~الماضي، لما تزعزع اعتقادي مع ذلك، بسبب خسة بعض البابوات الكفرة الفاسقين. ~~كذلك كان هناك، من بين أحبار العبرانيين، كفرة فاسقون وصلوا إلى منصب الحبروية ~~بوسائل إجرامية، وكان لهم مع ذلك، طبقا لوصايا الكتاب، سلطة مطلقة في تفسير الشريعة ~~(انظر: التثنية، 17: 11-12، 33: 10، ملاخي، 2: 8). # 32 # ولكن لما لم تكن هناك أية شهادة من هذا النوع، فإن الشك يظل ~~قائما في سلطة الحبر الروماني. وحتى لا ينخدع الناس بمثل حبر العبرانيين، ولا ~~يعتقدون أن الديانة الكاثوليكية، تحتاج أيضا إلى حبر، يجب أن نذكر أن شرائح موسى ~~التي كانت تكون القانون العام للأمة، كانت في حاجة ضرورية إلى سلطة عامة للمحافظة ~~عليها؛ إذ لو كان لكل فرد حرية تفسير الشرائع كما يشاء، لما بقيت الدولة، ~~ولتفككت، ولأصبح القانون العام قانونا فرديا خاصا ms209. أما في حالة الدين فالأمر ~~مختلف كل الاختلاف، لأن قوام الدين ليس الأفعال الخارجية بل يسر النفس وصدقها ~~وحسن طويتها، ومن ثم فهو لا يخضع لأي قانون أو لأية سلطة عامة. ولا ~~يمكن إجبار إنسان، أيا كان، بالقوة أو بالقوانين على الحصول على السعادة الروحية، ~~بل إن ما يلزم لذلك هو النصائح التقية الأخوية، وكذلك التربية الصحيحة، وقبل ذلك ~~كله الحكم الحر السليم. وإذن فلما كان لكل فرد حق مطلق في حرية ~~التفكير، حتى في المسائل الدينية، ولما كان من المستحيل تصور انتزاع هذا الحق من ~~أي إنسان، فإن لكل فرد إذن الحق المطلق والسلطة المطلقة في الحكم على ~~الدين، وبالتالي في شرحه وتفسيره لنفسه. والواقع أن السبب الوحيد الذي من أجله ~~أصبح للقضاة السلطة العليا في تفسير القوانين المتعلقة بالنظام العام، هو أن ~~الأمر هنا متعلق بالنظام العام؛ ولهذا السبب نفسه يكون لكل فرد السلطة ~~المطلقة في شرح الدين والحكم عليه، لأن ذلك يدخل في نطاق القانون (الحق) الخاص. ~~وعلى ذلك، فإن كان حبر العبرانيين قد اكتسب سلطة تفسير قوانين الدولة، # 33 # فلا ينبغي على الإطلاق أن نستنتج من ذلك أن الحبر (البابا) الروماني ~~لديه سلطة تفسير الدين، بل إن العكس هو الصحيح؛ إذ ينتج بسهولة من سلطة حبر ~~العبرانيين هذه أن لكل فرد مطلق الحرية في أمور الدين. وكذلك يمكننا أن نستخلص ~~مما سبق أن منهجنا في تفسير الكتاب هو الأفضل؛ ذلك لأنه لما كانت السلطة ~~العليا في تفسير الكتاب ترجع إلى كل فرد، فلا ينبغي أن تكون هناك أية قاعدة أخرى ~~للتفسير سوى النور الطبيعي المشترك بين جميع الناس، فلا يوجد نور يفوق الطبيعة ولا ~~توجد سلطة خارجية، فمن الواجب إذن ألا يكون هذا المنهج من الصعوبة بحيث لا يمكن ~~أن يتبعه إلا الفلاسفة ذوو البصيرة النافذة، بل يجب أن يكون في متناول الذهن ~~العادي المشترك بين جميع الناس، ومتناسبا مع قدرتهم وقد بينا أن منهجنا ~~كذلك، وقد تبين لنا بالفعل أن الصعوبات التي نجدها فيه ترجع إلى ms210 إهمال الناس لا ~~إلى طبيعة هذا المنهج. # الفصل الثامن # | البرهنة على أن الأسفار الخمسة ... ليست صحيحة # وفيه تتم البرهنة على أن الأسفار الخمسة وأسفار يشوع والقضاة وراعوث ~~وصموئيل والملوك ليست صحيحة، ثم نبحث إن كان لهذه الأسفار مؤلفون كثيرون ~~أم واحد. ~~*** # تناولنا في الفصل السابق الأسس والمبادئ التي تقوم عليها معرفة ~~الكتب المقدسة، وبينا أنها ليست إلا المعرفة التاريخية والنقدية للكتاب ~~المقدس، ولكن القدماء أهملوا هذه المعرفة بالرغم من ضرورتها. وبالرغم من أنهم ~~دونوها ونقلوها فقد فقدت بعد أن أصابتها عوادي الزمان، وبالتالي ضاع منا ~~كلية جزء كبير من هذه الأسس والمبادئ. ولقد كان بالإمكان تحمل ذلك لو ظل ~~الخلف، فيما بعد، ملتزما حد الاعتدال، ونقل بأمانة إلى المتأخرين القليل ~~الذي وجده دون أن يدخل عليه بدعوى اختلقها هو، فقد كانت خيانته سببا في أن ~~أصبحت المعلومات التاريخية عن الكتاب ناقصة بل وكاذبة، أي إن الأسس التي تقوم ~~عليها معرفة الكتاب ليست غير كافية فقط من حيث الكم، بحيث لا نستطيع أن نقيم عليها ~~شيئا كاملا، بل إنها أيضا معيبة من حيث الكيف. لذلك، فقد استقر عزمي على أن ~~أصححها وأن أخلص اللاهوت من الأحكام المسبقة الشائعة فيه، ولكني أخشى أن ~~تكون محاولتي قد أتت بعد فوات الأوان؛ فقد وصلت الأمور إلى حد لم يعد الناس ~~معه يطيقون أن يصحح أحد آراءهم المتعلقة بالدين، وأصبحوا يدافعون بعناد عن ~~الأحكام المسبقة المتميزة التي يتمسكون بها باسم الدين، ولم يعد للعقل أي ~~مكان إلا عند عدد قليل (نسبيا)، على حين أن الأحكام المسبقة قد انتشرت ~~انتشارا واسعا، ومع ذلك سأحاول وسأستمر في محاولتي إلى النهاية؛ إذ ليس هناك ~~ما يدعو إلى اليأس الكامل. # ولكي أسير في بحثي بطريقة منظمة سأبدأ بالأحكام المسبقة المتعلقة بمن ~~قاموا بتدوين الكتب المقدسة، وسأبدأ أولا بمن قاموا بتدوين الأسفار الخمسة. لقد ~~ظن الجميع تقريبا أنه موسى، بل إن الفريسيين أيدوا هذا الرأي بإصرار شديد، حتى ~~أنهم عدوا من يظن خلاف ذلك من المارقين. ولهذا السبب، فإن ابن ms211 عزرا - وهو ~~رجل كان فكره حرا إلى حد ما، ولم يكن علمه يستهان به، وهو أول من تنبه إلى ~~هذا الخطأ فيما أعلم - لم يجرؤ على الإفصاح عن رأيه صراحة، واكتفى بالإشارة إليه ~~بألفاظ مبهمة. أما أنا فلن أخشى توضيحها وإظهار الحق ناصعا. هذه هي أقوال ابن ~~عزرا في شرحه على «التثنية»: «فيما وراء نهر الأردن ... إلخ. لو كنت تعرف سر ~~الاثنتي عشرة ... كتب موسى شريعته أيضا ... وكان الكنعاني على الأرض ... سيوحي به على جبل ~~الله ... ها هو ذا سريره، سرير من حديد، حينئذ تعرف الحقيقة.» بهذه الكلمات القليلة ~~يبين، ويثبت في الوقت ذاته، أن موسى ليس هو مؤلف الأسفار الخمسة بل إن ~~مؤلفها شخص آخر عاش بعده بزمن طويل، وأن موسى كتب سفرا مختلفا. وللبرهنة ~~على ذلك يذكر: ~~(1) # أن موسى لم يكتب مقدمة التثنية؛ لأنه لم يعبر نهر ~~الأردن. ~~(2) # نقش سفر موسى كله بوضوح تام على حافة مذبح واحد (انظر التثنية، ~~27؛ يشوع، 8: 32) # 1 # يتكون من اثنتي عشرة حجرة حسب عدد الأحبار، وينتج عن ذلك ~~أن سفر موسى كان في حجمه أقل بكثير من الأسفار الخمسة، وهذا ما قصد ~~إليه المؤلف بقوله «سر الاثنتي عشرة» ما لم يكن قصد اللعنات ~~الاثنتي عشرة في الإصحاح المذكور من قبل في التثنية، والتي ربما ظن ~~أنها لم توضع في سفر الشريعة؛ فبعد أن دون موسى الشريعة أمر ~~اللاويين أن يتلوا هذه اللعنات كي يجبر الشعب بحلف اليمين على ~~تطبيق الشريعة. وربما كان يقصد الإصحاح الأخير في التثنية، الخاص بموت ~~موسى، والذي يتكون من اثنتي عشرة آية. ولا فائدة هنا من التمعن في فحص ~~هذه الافتراضات وكذلك الافتراضات التي كونها الآخرون. ~~(3) # كذلك يذكر أنه قد ورد في التثنية (31: 9): «وقد كتب موسى هذه ~~التوراة.» ويستحيل أن يكون موسى قد قال ذلك، بل لا بد أن يكون قائلها ~~كاتبا آخر يروي أقوال موسى وأعماله. ~~(4) # يذكر هذا النص من التكوين (12: 1) وفيه يقص الراوي رحلة إبراهيم ~~في بلاد الكنعانيين ويضيف «والكنعانيون (والكنعاني) حينئذ في الأرض.» ~~وهذا يدل بوضوح على ms212 أن الأمر لم يعد كذلك عندما كان يكتب. فلا ~~بد أن هذه الكلمات قد كتبت بعد موت موسى، وبعد أن طرد ~~الكنعانيون ولم يعودوا يشغلون هذه المناطق. ويشير ابن عزرا إلى هذا ~~المعنى بوضوح في شرحه لهذا النص نفسه فيقول: «وكان الكنعاني حينئذ في ~~هذه الأرض، قد يعني هذا أن كنعان، حفيد نوح، استولى على هذه الأرض التي ~~كان يحتلها من قبل شخص آخر، فإن لم يكن الأمر كذلك، فهناك سر ~~على من يعرفه ألا يبوح به.» أي أنه إذا كان كنعان قد استولى على هذه ~~البقعة من الأرض، ويكون الراوي قد أراد أن يبين أن الوضع لم يكن كذلك ~~من قبل عندما كانت أمة أخرى تقطنها. أما لو كان كنعان أول من فلح ~~هذه البقاع (كما يتضح من الإصحاح 10 من التكوين) # 2 # لكان قصد الراوي أن الوضع لم يعد كذلك وقتما كان ~~يكتب، وإذن فالراوي لم يكن موسى لأن الكنعانيين في زمان موسى ~~كانوا لا يزالون يملكون هذه الأرض، وهذا هو السر الذي يوحي ابن عزرا ~~بكتمانه. ~~(5) # يذكر أنه جاء في التكوين (22: 14) # 3 # أن جبل موريا # 4 ~~⋆ # سمي جبل الله، ولم يحمل هذا الاسم إلا بعد الشروع في بناء المعبد، ~~وهذا الاختيار متأخر عن موسى في الزمان. والواقع أن موسى لا يشير ~~إلى أي مكان اختاره الله، بل إنه تنبأ بأن الله سيختار بعد ذلك ~~مكانا سيطلق عليه اسم الله. ~~(6) # وأخيرا، يذكر أن التثنية (الإصحاح 3) تدخل بعض الكلمات في الرواية ~~الخاصة بعوج ملك باشان: «ولقد بقي عوج ملك باشان وحده من بين العمالقة # 5 ~~⋆ # الآخرين وها هو سريره، سرير من حديد، هذا السرير الذي طوله تسعة أذرع ~~الموجود في الرباط عند أطفال آمون ... إلخ.» # هذه الإضافة تدل بوضوح تام على أن من كتب هذه الأسفار عاش بعد موسى بمدة ~~طويلة، فطريقته في الحديث عن الأشياء طريقة مؤلف يروي قصصا قديمة جدا، ~~ويذكر بعض الآثار التي ما زالت باقية من هذا الزمن البعيد، ليجعل كلامه موثوقا ~~به. وفضلا عن ذلك، فلا شك أنه لم ms213 يعثر على هذا السرير الحديدي إلا في عصر داود ~~الذي استولى على الرباط كما يروي صموئيل (الثاني، 12: 30) # 6 # وليست هذه هي الإضافة الوحيدة، إذ يضيف الراوي # 7 # بعد ذلك بقليل إلى كلمات موسى هذا الشرح: «وقد مد يائير بن منسي حكمه ~~على عرجوب حتى حدود الحسوريين والمهاتيين وأطلق اسمه على هذه المناطق كما أطلق ~~عليها اسم باشان. وهناك قرى حتى الآن باسم يائير.» أقول إن المؤرخ أضاف هذه الكلمات ~~ليشرح بها كلمات موسى التي أوردها قبل ذلك بقليل. «وقد أعطيت ما بقي من جلعاد ~~وكل مملكة باشان التي كان يملكها عوج إلى نصف قبيلة منسي، وسيمتد حكم عرجوب ~~على باشان كلها التي تسمى بأرض العمالقة.» ولا شك أن العبرانيين المعاصرين ~~لهذا الكاتب كانوا يعرفون بلاد يائير التي تنتمي إلى قبيلة يهوذا، ~~ولكنهم لم يعلموا أنها تحت حكم عرجوب وأنها أرض ~~العمالقة؛ لذلك اضطر إلى أن يشرح ما هي هذه البلاد التي كان يطلق عليها قديما ~~هذا الاسم، وأن يخبرنا في الوقت نفسه لم سماها سكانها في هذا الوقت باسم يائير، ~~مع أنهم ينتمون إلى قبيلة يهوذا لا إلى قبيلة منسي (انظر: الأخبار الأول، 2: 21-22)، # 8 # وهكذا شرحنا فكر ابن عزرا وكذلك نصوص الأسفار الخمسة التي ذكرها، لكي ~~يثبت فكره هذا. ولكن يبدو أنه قد فاته أن يذكر أهم الأمور، إذ يمكن إبداء ~~ملاحظات أخرى متعددة أكثر خطورة على هذه الأسفار. فمثلا: ~~(1) # لا يتحدث الكتاب عن موسى بضمير الغائب فحسب وإنما يعطي عنه شهادات ~~عديدة مثل: «تحدث الله مع موسى، كان الله مع موسى وجها لوجه، وكان موسى ~~رجلا حليما جدا أكثر من جميع الناس (العدد، 125: 3). فسخط موسى على ~~وكلاء الجيش (العدد، 31: 14). موسى رجل الله (التثنية، 13: 1) لقد مات موسى ~~خادم الله، ولم يقم من بعد نبي في إسرائيل كموسى.» وعلى العكس يتحدث ~~موسى ويقص أفعاله بضمير المتكلم في التثنية # 9 # التي كتبت فيها الشريعة التي شرحها موسى للشعب والتي ~~كتبها بنفسه، فيقول: «كلمني الرب (التثنية، 2: 1، 17 ... إلخ) ورجوت ~~الرب ... إلخ.» إلا في آخر السفر حيث يستمر المؤرخ ms214 بعد أن نقل ~~أقوال موسى ويحكي في روايته كيف أعطى موسى الشعب هذه الشريعة (التي ~~شرحها) كتابة ثم أعطاهم تحذيرا أخيرا، وبعد ذلك انتهت حياته. كل ~~ذلك، أعني طريقة الكلام والشواهد ومجموع نصوص القصة كلها يدعو إلى ~~الاعتقاد بأن موسى لم يكتب هذه الأسفار بل كتبها شخص آخر. ~~(2) # يجب أن نذكر أيضا أن هذه الرواية لا تقص فقط موت موسى ودفنه وحزن ~~الأيام الثلاثين للعبرانيين، بل تروي أيضا أنه فاق جميع الأنبياء، إذا ~~قورن بالأنبياء الذين عاشوا بعده «ولم يقم من بعد نبي في إسرائيل ~~كموسى الذي عرفه الرب وجها لوجه» (التثنية، 34: 1). هذه شهادة لم يكن ~~من الممكن أن يدلي بها موسى نفسه أو شخص آخر أتى من بعده مباشرة، بل ~~شخص عاش بعده بقرون عديدة، لا سيما أن المؤرخ قد استعمل صيغة الفعل ~~الماضي: «ولم يقم من بعد نبي في إسرائيل.» ويقول عن القبر: «ولم يعرف ~~أحد قبره إلى يومنا هذا» (التثنية، 34: 6). ~~(3) # يجب أن نذكر أيضا أن بعض الأماكن لم تطلق عليها الأسماء التي عرفت ~~بها في زمن موسى، بل أطلقت عليها أسماء عرفت بعده بوقت طويل؛ إذ يقال ~~إن إبراهيم تابع أعداءه حتى دان (انظر: التكوين، 14: 14)، # 10 # وهو اسم لم تأخذه المدينة التي تحمله إلا بعد موت يشوع ~~بمدة طويلة (انظر: 18: 29). # 11 ~~(4) # تمتد الروايات في بعض الأحيان إلى ما بعد موت موسى، فيروى في الخروج ~~(16: 35) # 12 # أن بني إسرائيل أكلوا المن أربعين يوما حتى وصلوا إلى ~~أرض مسكونة على حدود بلاد كنعان، أي حتى اللحظة التي يتحدث عنها سفر ~~يشوع (5: 12). # 13 # وكذلك يخبرنا سفر التكوين (6: 31): «وهؤلاء الملوك الذين ~~ملكوا في أرض أدوم قبل أن يملك ملك في بني إسرائيل.» ولا شك أن ~~المؤرخ يتحدث عن الملوك الذين كانوا يحكمون الأدوميين قبل أن يخضعهم ~~داود لحكمه # 14 ~~⋆ # ويضع حاميات ضده في أديميا (انظر: صموئيل الثاني، 8: 14). # 15 # من هذه الملاحظات كلها يبدو واضحا وضوح النهار أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة، ~~بل كتبها شخص عاش بعد موسى بقرون عديدة، ولكن لتبحث، إن شئت، بمزيد من الدقة ms215 ~~في الأسفار التي كتبها موسى نفسه، والمذكورة في الأسفار الخمسة، فمن الثابت، أولا ، ~~في «الخروج» (17: 14) # 16 # أن موسى كتب بأمر الله عن الحرب ضد عمالق، ولا يقول لنا هذا الإصحاح ~~نفسه أي سفر كتب، بل ترد في «العدد» (21: 14) # 17 # إشارة إلى سفر يسمى «حروب الرب» يحتوي ولا شك على قصة الحرب ضد ~~عمالق، وعلى كل أعمال إقامة المعسكرات (التي يشهد مؤلف الأسفار الخمسة في ~~«العدد» (23: 2) # 18 # بأن موسى قد عرضها كتابة). كما جاء في «الخروج» (21: 14) أن هناك ~~سفرا آخر يعرف باسم «سفر العهد»، # 19 # قرأه موسى أمام الإسرائيليين عندما عقدوا عهدا مع الله. ولا يحتوي هذا ~~السفر أو هذه الرسالة إلا على أشياء قليلة، أي إنه لا يحتوي إلا على شرائع الله ~~ووصاياه الموجودة في «الخروج» في الإصحاح 20 الآية 22، حتى الإصحاح 24. ولا يمكن أن ~~ينكر ذلك من يقرأ هذا الإصحاح المذكور بشيء من الفهم السليم، ودون تحيز. ففيه ~~يروى أنه بمجرد أنه عرف موسى رأي الشعب في العهد المبرم مع الله، كتب على ~~التو كلمات الله ووصاياه، ثم قرأ أمام المجتمع العام للشعب شروط العهد في ~~الصباح بعد إقامة بعض الطقوس. وبعد هذه القراءة دخل الشعب في هذا العهد بمحض رضاه ~~بعد أن عرف الناس كلهم، بلا شك هذه الشروط. ونظرا إلى ضيق الوقت الذي استغرقته ~~كتابة العهد المبرم - وكذلك نظرا إلى طبيعة هذا العهد - كان حتما ألا يحتوي هذا ~~السفر أكثر مما قلته الآن. وأخيرا فمن الثابت أن موسى قد شرح جميع ~~الشرائع التي سنها في السنة الأربعين بعد الخروج من مصر (انظر: التثنية، 1: 5)، # 20 # وأخذ من الشعب وعدا جديدا بأن يظلوا خاضعين لهذه الشرائع (انظر: ~~التثنية، 29: 14)، # 21 # ثم كتب سفرا يحتوي على هذه الشرائع التي تشرح هذا العهد الجديد ~~(انظر: التثنية، 31: 9). # 22 # وقد سمي هذا السفر «سفر توراة الله» وقد أضاف إليه يشوع بعد ذلك ~~بمدة طويلة رواية العهد الذي قطعه الشعب على نفسه من جديد في أيامه، وهو ثالث عهد ~~يقيمونه مع الله (انظر: يشوع، 24: 25-26). # 23 # ولما لم يكن لدينا أي سفر يحتوي في الوقت ms216 نفسه على عهد موسى وعهد ~~يشوع، فيجب أن نعترف ضرورة بأن هذا السفر قد فقد، وإلا فلنهذ مع يوناتان ~~الشارح الكلداني، # 24 # الذي يتعسف في تأويل كلمات الكتاب حسب هواه؛ فلقد فضل هذا المترجم ~~بعد أن أقلقته هذه الصعوبة، أن يحرف الكتاب على أن يعترف بجهله، فهو يترجم إلى ~~الكلدانية هذه الكلمات من سفر يشوع (انظر: 24: 26): «وكتب يشوع هذا الكلام في سفر ~~توراة الله بقوله: وكتب يشوع هذا الكلام وحفظه مع سفر توراة الله.» فماذا نفعل مع ~~أولئك الذين لا يروون إلا ما يوافق هواهم؟ وإني لأتساءل: أليس هذا إنكارا ~~للكتاب نفسه، وابتداعا لكتاب جديد من وضعه هو؟ نستنتج إذن أن سفر توراة الله ~~هذا الذي كتبه موسى لم يكن من الأسفار الخمسة، بل كان سفرا مختلفا كلية، أدخله ~~مؤلف الأسفار الخمسة في سفره في المكان الذي ارتآه. ويظهر ذلك بوضوح تام مما ~~سبق ومما سيأتي. أريد أن أقول إنه عندما يروي لنا في النص السابق ذكره من ~~التثنية، أن موسى كتب سفر التوراة، يضيف المؤرخ أن موسى أعطاه الأحبار ثم طلب ~~إليهم قراءته أمام الشعب في أوقات معلومة، وهذا يدل على أن السفر كان أقل حجما ~~بكثير من الأسفار الخمسة؛ إذ كان من الممكن قراءته كله في مجمع عام بحيث يفهمه ~~الجميع، ولا ننسى أنه، من بين جميع الأسفار التي كتبها موسى، لم يأمر إلا بالمحافظة ~~دينيا على سفر واحد وبالحرص على الإبقاء عليه، وهو سفر العهد الثاني والنشيد (الذي ~~كتبه بعد ذلك كي يعلمه لجميع أفراد الشعب). فبالنسبة إلى العهد الأول، كان ~~الحاضرون وحدهم هم الملتزمون به، أما العهد الثاني فكان ملزما للخلف أيضا ~~(انظر: التثنية، 29: 14-15)؛ # 25 # لذلك أمر بالمحافظة دينيا على سفر العهد الثاني للأجيال المقبلة، ~~وكذلك بالمحافظة على النشيد الذي يخص القرون التالية كما أشرنا من قبل. ولما لم ~~يكن من الثابت أن موسى قد كتب أسفارا أخرى سوى هذه الأسفار، ولم يوص بنفسه ~~بالمحافظة دينيا للأجيال القادمة إلا على سفر التوراة الصغير والنشيد، وأخيرا، ~~لما كانت توجد ms217 نصوص كثيرة من الأسفار الخمسة لا يمكن أن يكون موسى كاتبها، فإن ~~أحدا لا يستطيع أن يؤكد، عن حق، أن موسى هو مؤلف الأسفار الخمسة، بل على ~~العكس، يكذب العقل هذه النسبة. وقد يسألني سائل: هل كتب موسى، زيادة على هذين ~~النصين، الشرائع التي أعطيت له في الوحي الأول؟ ألم يكتب موسى طوال أربعين سنة ~~شرائع أخرى سوى هذا العدد القليل الذي ذكرت أنه متضمن في سفر العهد الأول؟ ~~وأجيب قائلا: حتى لو سلمت بأنه مما يبدو متفقا مع العقل أن يكون موسى قد ~~كتب الشرائع في الوقت نفسه وفي المكان نفسه الذي أوحيت إليه فيه، فإني مع ذلك ~~أنكر إمكان تأكيد ذلك لهذا السبب؛ فقد بينا من قبل أننا لا ينبغي أن نسلم ~~في مثل هذه الحالات إلا بما يثبته ذلك الكتاب نفسه، أو ما يستنبط كنتيجة مشروعة ~~من الأسس التي يقوم عليها؛ إذ إن الاتفاق الظاهر مع العقل ليس دليلا. # 26 # وأضيف إلى ذلك، أن العقل لا يضطرنا إلى التسليم بهذا؛ فمن الجائز فقط ~~أن مجلس موسى كان يسلم الشعب كتابة الشرائع التي كان يسنها موسى، والتي جمعها ~~المؤرخ في وقت متأخر وأدخلها في مكانها من سيرة موسى. هذا فيما يتعلق بأسفار موسى ~~الخمسة وعلينا الآن أن نفحص الأسفار الأخرى. # سنبرهن لأسباب مماثلة على أن سفر يشوع ليس من وضع يشوع نفسه، بل إن شخصا ~~آخر هو الذي شهد ليشوع بأن شهرته قد طبقت آفاق الأرض (انظر: 6: 27)، # 27 # وبأنه لم يغفل شيئا مما أوصى به موسى (انظر الآية الأخيرة من ~~الإصحاح 8، والإصحاح 9: 15) # 28 # وبأنه عندما تقدم به السن دعا الجميع إلى المجمع ثم قضى نحبه. وفضلا ~~عن ذلك، فإن الرواية تمتد إلى الوقائع التي حدثت بعد موته؛ إذ أنه يذكر على وجه ~~التحديد أنه بعد موته كان الإسرائيليون يعظمون الله ما عاش المسنون الذين ~~عرفوا يشوع ويذكر الإصحاح 16، الآية 10 أنهم أي (أفرائيم ومنسي): «لم يطردوا ~~الكنعانيين المقيمين بجازر.» (ويضيف) «فأقام الكنعانيون بين أفرائيم إلى هذا ~~اليوم وكانوا عبيدا يؤدون الجزية.» وتوجد ms218 هذه الرواية نفسها في سفر القضاة ~~(الإصحاح الأول)، # 29 # وتدل هذه الطريقة في الحديث باستعمال إلى «يومنا هذا» على أن من ~~يكتب ذلك يتحدث عن شيء قديم للغاية. ويشبه هذا النص تماما الآية الأخيرة من ~~الإصحاح 15 الخاصة بابن يهوذا وقصة كالب # 30 # في الآيات 14 وما بعدها من الإصحاح نفسه. # 31 # وهناك أيضا حادثة أخرى في الإصحاح 22، الآية 10 ... إلخ. # 32 # يروى فيها أن سبطين ونصفا أقاموا مذبحا وراء الأردن، وهي حادثة يبدو ~~أنها وقعت بعد موت يشوع، خاصة أن يشوع لم يذكر بتاتا في القصة كلها؛ إذ كان ~~الشعب وحده هو الذي يتشاور في أمور الحرب ويرسل المندوبين وينتظر ردودهم ثم ~~يصدر موافقته آخر الأمر. وأخيرا، يظهر بوضوح من الإصحاح 10، الآية 14 أن هذا ~~السفر قد كتب بعد يشوع بقرون عديدة، إذ يعطينا الإصحاح هذه الشهادة: «ولم يكن مثل ~~ذلك اليوم قبله ولا بعده سمع فيه الرب لصوت إنسان.» فإذا كان يشوع قد كتب أي ~~سفر، فمن المؤكد أنه هو ذلك السفر المذكور في هذه الرواية نفسها في الإصحاح 10، الآية 13. # 33 # أما سفر القضاة فلا أظن أن شخصا سليم العقل يعتقد أن القضاة ~~أنفسهم قد كتبوه؛ لأن نهاية القصة كلها في الإصحاح 21 تبين بوضوح أن ~~مؤرخا واحدا هو الذي كتبه كله. # 34 # ومن جهة أخرى، فلما كان مؤلفه يكرر دائما أنه لم يكن هناك في ~~عصره أي ملك لإسرائيل، فلا شك أنه لم يكتب بعد أن استولى الملوك على السلطة. ~~أما أسفار صموئيل فليس هناك ما يدعو إلى التوقف عندها طويلا لأن القصة تستمر ~~بعد وفاته بوقت طويل. ومع ذلك أريد أن أبين أن هذا السفر لا بد أنه قد ~~كتب بعد صموئيل بقرون عديدة؛ ذلك لأن المؤرخ في السفر الأول، الإصحاح 9، ~~الآية 9 يعطي هذا التحذير في جملة اعتراضية: «وكان فيما سبق إذا أراد الرجل من ~~إسرائيل أن يذهب ليسأل الله يقول له: هلم نذهب إلى الرائي لأن الذي يقال له ~~اليوم نبي كان يقال له من قبل راء.» وأخيرا، فإن أسفار الملوك قد تم ~~اقتباسها - كما هو ms219 ثابت في هذه الأسفار ذاتها - من كتب حكومة سليمان (انظر: الملوك ~~الأول، 11: 41) # 35 # ومن أخبار ملوك يهوذا (انظر: 14: 19، 29) # 36 # ومن أخبار ملوك إسرائيل، وبذلك ننتهي إلى أن كل الأسفار التي عرضنا ~~لها حتى الآن قد كتبها مؤلفون آخرون غير الذين تحمل هذه الأسفار أسماءهم، وأن ~~الروايات التي تتضمنها تقص علينا حوادث قديمة. # وإذا نظرنا الآن إلى تسلسل هذه الأسفار كلها وإلى محتواها، رأينا بسهولة أن الذي ~~كتبها مؤرخ # 37 # واحد أراد أن يروي تاريخ اليهود القديم منذ نشأتهم الأولى حتى هدم ~~المدينة لأول مرة. والواقع أن طريقة تسلسل هذه الأسفار تكفي وحدها لإثبات أنها ~~تضم رواية لمؤرخ واحد، فبمجرد انتهائه من قصة حياة موسى انتقل مباشرة إلى ~~قصة يشوع: «وحدث بعد موت موسى، خادم الله، أن قال الله ليشوع ... إلخ.» وبعد أن انتهى ~~من قصة موت يشوع انتقل بالطريقة نفسها إلى تاريخ القضاة وربطها بالطريقة نفسها بما ~~سبق «وبعد أن مات يشوع طلب بنو إسرائيل من الله ... إلخ.» ثم ألحق سفر راعوت ~~بوصفه تذييلا لسفر القضاة بهذه الطريقة: «وفي هذه الأيام التي يحكم فيها القضاة حدثت ~~مجاعة كبيرة على هذه الأرض.» ثم ربط بالطريقة نفسها سفر صموئيل الأول بسفر راعوت، ~~وعندما انتهى من هذا السفر الأول انتقل إلى الثاني أيضا بالطريقة نفسها. وإذن فمجموع ~~النصوص، والترتيب الذي تتعاقب به الروايات يدل على أن كاتبها مؤرخ واحد له غرض ~~محدد؛ فهو يبدأ بقصة النشأة الأولى للأمة العبرية، ثم يخبرنا بعد ذلك بالترتيب: ~~ما المناسبة، وفي أي الأوقات أقام موسى الشرائع وقام بتنبؤاته العديدة للعبرانيين، ~~بعد ذلك يخبرنا كيف استولوا على الأرض الموعودة كما تنبأ لهم موسى (انظر: التثنية، ~~الإصحاح 7)، # 38 # ثم كيف تركوا الشرائع بعد أن استولوا على الأرض (التثنية، 31: 16) # 39 # وما نتج عن ذلك من مصائب (الإصحاح نفسه، الآية 17) # 40 # وكيف أرادوا بعد ذلك انتخاب ملوك (التثنية، 17: 14) # 41 # كانوا بدورهم يزدهرون أو يتدهورون بمقدار طاعتهم للشرائع أو ~~تركهم لها (التثنية، 28: 36 والآية الأخيرة) # 42 # حتى انهيار الدولة الذي وقع كما تنبأ موسى به. أما ما عدا ذلك مما ~~لا ms220 يمكن استخدامه لتأييد الشريعة، فإن الراوي إما يتجاهله تماما، وإما يحيل ~~القارئ إلى مؤرخين آخرين؛ فهذه الأسفار إذن تستلهم كلها فكرا واحدا وترمي إلى ~~غاية واحدة هي تعليم الشريعة التي أملاها موسى، والبرهنة بالحوادث على ~~صدقها. # فإذا أخذنا في اعتبارنا هذه الخصائص الثلاث: وحدة الغرض في جميع الأسفار، وطريقة ~~ربطها فيما بينها، وتأليفها بعد الحوادث المروية بقرون عديدة، نستنتج من ذلك كما ~~قلنا من قبل أن مؤرخا واحدا هو الذي كتبها. أما من هو هذا المؤرخ، فإني لا ~~أستطيع أن أحدده بوضوح، ومع ذلك فإني أرتاب في أن يكون عزرا. ويقوم افتراضي هذا ~~على أسباب وجيهة إلى حد بعيد؛ ذلك لأنه لما كان المؤرخ يمتد بروايته (ونحن ~~نعلم من قبل أنها رواية وحيدة) حتى تحرير يواكين، ويضيف - أي الراوي - أنه كان ~~جالسا طيلة حياته على مائدة الملك (أي على مائدة يواكين أو مائدة نبوخذ نصر؛ لأن ~~المعنى غامض تماما) فلا يمكن أن يكون الراوي سابقا على عزرا. ولكن الكتاب لا يذكر ~~أحدا ازدهر في ذلك الوقت، سوى شهادة الكتاب الوحيدة لعزرا (انظر: عزرا، 7: 10) # 43 # الذي عكف بحماس بالغ على دراسة شريعة الله وعرضها، وكان كاتبا ملما ~~كل الإلمام بشريعة موسى. وإذن فنحن لا نجد شخصا آخر سوى عزرا يمكن الاشتباه في أن ~~يكون مؤلف هذه الأسفار. ومن ناحية أخرى، يشهد سفر عزرا بأن عزرا لم يعكف بحماسة ~~على دراسة شريعة الله فقط، بل عكف أيضا على عرضها. # 44 # ويذكر نحميا (8: 8) أنهم (أي هؤلاء الرجال) «قرءوا في سفر توراة الله ~~جهرا مبلغين حتى فهموا القراءة.» على أن سفر التثنية لا يحتوي على شريعة موسى ~~فحسب، أو على أكبر جزء منه على أقل تقدير، بل يتضمن أيضا شروحا كثيرة أضيفت ~~إليه؛ لذلك، أفترض أن سفر التثنية هذا هو سفر توراة الله الذي كتبه عزرا والذي ~~يحتوي على عرض الشريعة وشرحها الذي قرأه هؤلاء الذين يتحدث عنهم نحميا. وقد ~~بينا بمثلين في شرحنا لفكر ابن عزرا أن هناك شروحا كثيرا قد أدخلت في ~~ثنايا سفر ms221 التثنية. ويمكن ذكر أمثلة أخرى، كما هي الحال في الإصحاح 2، الآية 12: ~~«وأما سعير فأقام بها الحواريون قبل بني عيسو فطردوهم وأبادوهم من بين أيديهم ~~وأقاموا مكانهم كما صنع إسرائيل في أرض ميراثهم التي أعطاها الرب لهم.» فهذا شرح ~~للآيتين 3، 4 # 45 # اللتين تذكران أن بني عيسو لم يكونوا أول من نزل جبل سعير الذي ~~أصبح ملكا لهم، بل إنهم استولوا عليه من سكانه الأولين، وهم الحواريون، بعد ~~أن أجبروهم على الفرار وقضوا عليهم كما فعل الإسرائيليون مع الكنعانيين بعد موت ~~موسى. وكذلك أضيفت الآيات 6، 7، 8، 9، من الإصحاح 10 # 46 # وأدخلت في نص شريعة موسى. فالحق أن كل فرد لا بد أن يدرك أن ~~الآية 8 التي تبدأ على هذا النحو: «في ذلك الوقت فرز الرب سبط لاوي.» ترتبط ضرورة ~~بالآية 5، # 47 # لا بموت هارون، وأن السبب الوحيد الذي لأجله تحدث عزرا هنا عن هذا ~~الموت هو قول موسى في قصة العجل الذهبي الذي عبده الشعب (انظر: 9: 20) # 48 # إنه تضرع إلى الله من أجل هارون. ويشرح عزرا بعد ذلك أي الله اصطفى ~~سبط لاوي نفسه - في الوقت الذي كان موسى يتحدث عنه في هذا النص - حتى يبين ~~سبب هذا الاختيار، والسبب الذي من أجله لم يكن للاويين أي نصيب في ~~الميراث. بعد ذلك يرجع إلى الموضوع الرئيس في السفر، حين يذكر أقوال موسى. ولنضف ~~إلى ذلك، مقدمة السفر وكل النصوص التي تتحدث عن موسى بضمير الغائب. هذا ~~بالإضافة إلى عدد كبير من الإضافات والتغييرات في النص لا نستطيع التعرف عليها، ~~وهي إضافات أدخلت دون شك حتى يسهل على الناس في عصره إدراك الأمور. والحق ~~أنه لو كان لدينا سفر موسى لوجدنا، فيما أعتقد، اختلافات كبيرة، سواء في ~~التعبير عن الوصايا أم في ترتيبها والبراهين عليها. والواقع أنني عندما أقارن ~~الوصايا العشر وحدها في التثنية بالوصايا العشر في الخروج # 49 ~~(وفيه تروى قصتها صراحة) أجد اختلافات من جميع النواحي. فالوصية ~~الرابعة قد صيغت بطريقة مخالفة، وليس هذا فحسب، # 50 # بل لقد كانت في عباراتها أطول كثيرا. ويختلف السبب هنا كلية عن ~~السبب ms222 الوارد في «الخروج»؛ لذلك أعتقد، كما قلت من قبل بأن عزرا هو الذي أجرى ~~كل هذه التغيرات هنا وهناك لأنه شرح شريعة الله لمعاصريه، وبالتالي يكون هذا ~~سفر توراة الله كما شرحه عزرا وعرضه. وفي رأيي أن هذا هو أول سفر من بين ~~الأسفار التي قلت إنه كتبها، ويقوم افتراضي هذا على أساس أن هذا السفر يحتوي ~~على قوانين الأمة التي يحتاج إليها الشعب خاصة، وكذلك لأن هذا السفر لا ~~يرتبط بسابقه، كما هي الحال في الأسفار الأخرى جميعا، بل يبدأ فجأة: «هذه هي أقوال ~~موسى ... إلخ.» # وبعد أن أكمل هذا السفر وعلم الشرائع للشعب، أعتقد أنه شرع في رواية تاريخ ~~الأمة العبرية كله منذ خلق العالم حتى التدمير الأعظم للمدينة، ثم أدخل في هذا ~~التاريخ سفر التثنية في موضعه. وربما كان سبب تسميته الأسفار الخمسة الأولى باسم ~~موسى هو أنها تدور أساسا حول حياته، فأخذت اسم الشخصية الرئيسة؛ ولهذا السبب ~~نفسه، سمي (السفر) السادس باسم يشوع، والسابع باسم القضاة، والثامن باسم راعوث، ~~والتاسع وربما العاشر أيضا باسم صموئيل، والحادي عشر والثاني عشر باسم الملوك. ~~وسأرجئ إلى الفصل التالي المسألة الأخرى وهي: هل كان عزرا هو آخر من دون هذا ~~السفر، وهو الذي أكمله كما أراد؟ # الفصل التاسع # | أبحاث أخرى حول الأسفار نفسها، هل عزرا هو آخر من ~~صاغها؟ # أبحاث أخرى حول الأسفار نفسها، هل عزرا هو آخر من صاغها؟ وهل التعليقات ~~الهامشية الموجودة في المخطوطات العبرية قراءات مختلفة؟ ~~*** # يتبين بوضوح من النصوص نفسها التي اقتبسناها تأييدا لوجهة ~~نظرنا في الفصل السابق، أن البحث الذي قمنا به في هذا الفصل عن مؤلفها الحقيقي ~~يعيننا إلى أبعد حد في فهم هذه الأسفار؛ إذ إن هذه النصوص تبدو للجميع، بدون ~~هذا البحث، غامضة للغاية. ومع ذلك توجد في هذه الأسفار موضوعات أخرى تستحق ~~الملاحظة، ويؤدي شيوع الخرافة إلى الحيلولة دون تنبه العامة إليها. والمسألة ~~الأساسية هي أن عزرا (الذي أعده المؤلف الحقيقي، طالما لم يبرهن لي ~~أحد على مؤلف آخر ببرهان أكثر ms223 يقينا) لم يكن آخر من صاغ الروايات ~~المتضمنة في هذه الأسفار، وأنه لم يفعل أكثر من أنه جمع روايات موجودة عند ~~كتاب متعددين، وفي بعض الأحيان كان يقتصر على نسخها، ونقلها على هذا النحو ~~إلى الخلف دون فحصها أو ترتيبها. ولا أستطيع أن أخمن الأسباب التي منعته من ~~إتمام عمله هذا بحيث يوليه كل عنايته (إلا إذا كان موتا مبكرا). ولكن، ~~على الرغم من فقدان مؤلفات المؤرخين القدماء، فإن العدد القليل جدا من ~~الشذرات المتبقية لدينا يثبت هذه الحقيقة بوضوح تام، فقصة حزقيا ابتداء ~~من الآية 17، الإصحاح 18 من سفر الملوك الثاني، نسخة من رواية أشعيا كما نقلت في ~~أخبار ملوك يهوذا. ففي كتاب أشعيا المتضمن في أخبار ملوك يهوذا (انظر: أخبار الأيام ~~الثاني، الإصحاح 32، الآية قبل الأخيرة)، # 1 # نقرأ هذه القصة بأكملها بالألفاظ نفسها المستخدمة في سفر الملوك، فيما ~~عدا بعض الاستثناءات النادرة للغاية، # 2 ~~⋆ # وهذه ~~الاستثناءات لا يمكن أن نستنتج منها سوى وجود قراءات مختلفة لرواية أشعيا تجمع ~~بعضها مع البعض، إلا إذا كنا نفضل أن نحلم بوجود أسرار في هذا الموضوع. ومن ~~ناحية أخرى، نجد أن الإصحاح الأخير من سفر الملوك هذا متضمن في الإصحاح الأخير من ~~إرميا، الآيات 39، 40، # 3 # وكذلك نجد الإصحاح 7 من سفر صموئيل الثاني مكررا في سفر الأخبار ~~الأول (الإصحاح 17)، # 4 # ومع ذلك، فإن الألفاظ تختلف في فقرات متعددة بطريقة تدعو للدهشة # 5 ~~⋆ # إلى ~~حد يتعين معه الاعتراف بأن هذين الإصحاحين مأخوذان من صيغتين مختلفتين ~~لقصة ناثان. # 6 # وأخيرا نجد أن شجرة نسب ملوك أدوميا كما وردت في «التكوين» الإصحاح 36 # 7 ~~⋆ # ابتداء من الآية 31 موجودة في الألفاظ نفسها في سفر الأخبار الأول (الإصحاح الأول) # 8 # وإن كان من المؤكد أن مؤلف هذا السفر الأخير أخذ روايته من ~~مؤرخين آخرين، لا من الأسفار الاثني عشر التي نسبناها إلى عزرا. فلا شك إذن ~~أننا لو كنا لا نزال نملك كتابات المؤرخين لتحققنا من ذلك الأمر بسهولة، ~~ولكن لما كانت هذه الكتابات مفقودة فلا يبقى أمامنا إلا أن نفحص الروايات ~~نفسها من حيث ترتيبها وتسلسلها وطريقة ms224 تكرارها مع بعض التغييرات، ثم اختلافها في ~~حساب السنين، وهذا ما يسمح لنا بالحكم على بقية الأمور. # فلنفحص إذن هذه الروايات، أو على الأقل ~~الرئيسة منها، ولنبدأ بهذه القصة التي تدور حول يهوذا وثامار، # 9 # والتي يبدؤها الراوي في التكوين (الإصحاح 38)، وهكذا: «وكان في ذلك الوقت ~~أن يهوذا انفرد عن إخوته.» وواضح أن الوقت المذكور هنا يتعلق بوقت آخر ~~تحدث عنه قبل ذلك، وليس هو على وجه التحديد الوقت الذي تحدث عنه سفر التكوين ~~قبل ذلك مباشرة، فالواقع أنه منذ نزول يوسف مصر لأول مرة، حتى ذهاب البطريق يعقوب مع ~~جميع أفراد عائلته إلى هذا البلد نفسه، لا نستطيع أن نعد أكثر من اثنتين وعشرين ~~سنة؛ فقد كان عمر يوسف سبعة عشر عاما عندما باعه إخوته، وكان عمره ثلاثين عاما ~~عندما أخرجه فرعون من السجن، فإذا أضفنا إلى هذه السنين الثلاث عشرة سبع ~~سنين من الرخاء وسنتين من المجاعة يكون المجموع اثنتين وعشرين سنة. ومع ذلك لا ~~يمكن أن يتصور أحد حدوث كل هذه الأشياء في مثل هذا الوقت القصير؛ أعني أن يصبح ~~يهوذا أبا لثلاثة أطفال على التوالي من المرأة الوحيدة التي تزوجها، وأن يتزوج ~~أكبر هؤلاء الثلاثة ثامار عند بلوغه سن الزواج، وأن تتزوج ثامار من جديد بعد ~~موت الابن الثاني، وبعد موته هو الآخر، أي بعد هاتين الزيجتين وهاتين الميتتين، ~~يعاشر يهوذا زوجة أبنائه ثامار دون أن يعرف من تكون، ثم يولد له طفلان توءمان ~~يصبح أحدهما أبا في هذا الوقت القصير ذاته. ولما كان من المستحيل وقوع هذه ~~الحوادث كلها في الوقت القصير الذي يشير إليه «التكوين» وجب إرجاعها إلى وقت آخر ~~سبق أن تحدث عنه سفر آخر. ومن ثم فلا بد أن عزرا نقل هذه القصة ~~بسهولة وأدخلها في النص دون فحص. ولا يقتصر الحال على هذا الإصحاح فقط، بل إن ~~هذا ينطبق على كل قصة يوسف ويعقوب، التي ينبغي الاعتراف بأنها استخلصت ~~ونقلت من عدد من المؤرخين بدليل وجود اختلافات بين أجزائها المتعددة؛ ففي ~~الإصحاح ms225 47 يروى في «التكوين» أن يعقوب عندما أتى به يوسف ليحيي فرعون لأول ~~مرة كان عمره يومئذ مائة وثلاثين عاما. # 10 # فإذا طرحنا اثنين وعشرين عاما قضاها حزنا على فقدانه يوسف، وسبعة عشر ~~عاما عمر يوسف وقت بيعه، وسبعة أعوام خدم فيها يعقوب راحيل، # 11 # نجد أنه كان متقدما جدا في السن، أي كان عمره أربعة وثمانين ~~عاما، عندما تزوج ليئة. # 12 # وفي مقابل ذلك، كان عمر دينة # 13 # تقريبا سبعة أعوام # 14 ~~⋆ # عندما ~~اغتصبها شكيم وكان عمر شمعون # 15 # اثني عشر عاما وعمر لاوي # 16 # أحد عشر عاما تقريبا عندما خربوا هذه المدينة التي يتحدث عنها ~~«التكوين» عن آخرها، وقتلوا كل سكانها بالسيف. ولسنا في حاجة هنا إلى أن نبحث ~~كل محتويات الأسفار الخمسة، والخلط في الأزمنة والتكرار المستمر للقصص نفسها مع ~~بعض التغييرات الخطيرة أحيانا، لكي نسلم بسهولة بأننا أمام مجموعة من النصوص ~~المكدسة بحيث يمكن بعد ذلك فحصها وترتيبها بطريقة أيسر. ولا ينطبق هذا فقط على ~~الأسفار الخمسة، بل ينطبق أيضا على سائر الروايات المتضمنة في الأسفار السبعة ~~الأخرى حتى هدم المدينة، وهي الروايات التي جمعت بالطريقة نفسها. ومن منا لا يرى ~~أننا في الإصحاح 2 من سفر القضاة ابتداء من الآية 6 نجد أنفسنا إزاء مؤرخ جديد # 17 ~~(وهو الذي كتب أيضا تاريخ يشوع القديم) نقلت كلماته بحذافيرها فحسب؟ ~~والواقع أنه بعد أن روى المؤرخ الأول في الإصحاح الأخير من «يشوع» موت يشوع ودفنه، ~~وعد في سفر القضاة الأول أن يروي الحوادث التي وقعت بعد هذا الموت. # 18 # فلو أراد أن يواصل الخط الرئيس في قصته، فكيف كان يمكنه أن يربط ما ~~قاله قبل ذلك مباشرة، بالرواية التي بدأها عن يشوع نفسه؟ # 19 ~~⋆ # وكذلك ~~اقتبست الإصحاحات 17، 18 ... إلخ في سفر صموئيل من راو آخر غير الذي أخذت عنه ~~روايته في الإصحاحات السابقة، وهذا الراوي الآخر يقدم لتردد داود لأول مرة على ~~بلاط شاءول تفسيرا مختلفا كل الاختلاف عن تفسير الإصحاح 16، فهو لا يعتقد أن ~~شاءول قد استدعى داود اتباعا لنصيحة وزرائه (كما ذكر في الإصحاح 17) بل يعتقد أن ~~أبا داود ms226 أرسله صدفة إلى المعسكر عند إخوته، ثم عرفه شاءول بانتصاره على ~~الفلسطيني جلياث ، وبعد ذلك بقي في بلاط هذا الملك. وأعتقد أن هذا الشيء نفسه قد ~~حدث في الإصحاح 26 من هذا السفر نفسه؛ إذ يروي المؤرخ - فيما يبدو - القصة ~~نفسها الموجودة في الإصحاح 24، مستمدا إياها من رواية أخرى، # 20 # ومع هذا فلنترك هذا الموضوع، لننتقل إلى حساب السنين، يذكر الإصحاح 6 من ~~سفر الملوك الأول # 21 # أن سليمان بنى المعبد بعد الخروج من مصر بأربعمائة وثمانين عاما، مع ~~أننا طبقا للروايات نفسها نجد عددا من السنين أكبر بكثير. # والواقع أن: ~~(1) # موسى حكم الشعب في الصحراء 40 عاما. ~~(2) # يروي يوسف وبعض المؤرخين أن حكم يشوع الذي عاش مائة وعشرة أعوام لم ~~يزد عن 26 عاما. ~~(3) # أخضع كوشان رشعتائيم # 22 # الشعب 8 أعوام. ~~(4) # كان عتنئيل بن قاناز # 23 # قاضيا # 24 ~~⋆ # 40 عاما. ~~(5) # حكم عجلون # 25 # ملك مؤاب الشعب 18 عاما. ~~(6) # كان أهود وشمجر # 26 # قضاة 30 عاما. ~~(7) # أخضع يابين # 27 # ملك كنعان الشعب من جديد 20 عاما. ~~(8) # عاش الشعب بعد ذلك في سلام 40 عاما. ~~(9) # خضع بذلك للمدينيين # 28 # 7 أعوام. ~~(10) # ثم عاش حرا تحت إمرة جدعون # 29 # 40 عاما. ~~(11) # وتحت حكم أبيملك # 30 # 3 أعوام. ~~(12) # وكان تولع بن فوأة # 31 # قاضيا 23 عاما. ~~(13) # ياعير # 32 # 22 عاما. ~~(14) # خضع الشعب من جديد للفلسطينيين وبني عمون # 33 # 18 عاما. ~~(15) # كان يفتاح # 34 # قاضيا 6 أعوام. ~~(16) # أبيصان # 35 # من بيت لحم 7 أعوام. ~~(17) # أيلون الزابولوني # 36 # 10 أعوام. ~~(18) # عبدون الفرعتوني # 37 # 8 أعوام. ~~(19) # خضع الشعب من جديد للفلسطينيين 40 عاما. ~~(20) # كان شمشون # 38 # قاضيا # 39 ~~⋆ # 20 عاما. ~~(21) # عالي # 40 # 40 عاما. ~~(22) # خضع الشعب من جديد للفلسطينيين قبل أن يحرره صموئيل 20 عاما. ~~(23) # حكم داود 40 عاما. ~~(24) # وسليمان قبل بناء المعبد 4 أعوام. ~~(25) # فيكون مجموع الأعوام التي انقضت 580 عاما. # كما يجب إضافة السنوات التي ازدهرت فيها الدولة العبرية بعد موت يشوع حتى هزمها ~~كوشان رشعتائيم، وأعتقد أنها سنوات كثيرة. والواقع أنني لا يمكنني الاعتقاد بأنه بعد ~~موت يشوع مباشرة مات كل من رأى هذه الخوارق في لحظة واحدة أو بأن خلفاءهم تركوا ~~الشرائع فجأة ومرة واحدة، وسقطوا من أعلى قمم الفضيلة إلى أشد درجات العجز وأشنع ~~أنواع الإهمال، كما لا يمكنني الاعتقاد بأن كوشان رشعتائيم لم يكن عليه إلا أن ~~يظهر ms227 لكي يخضعهم. إن كل مرحلة من مراحل هذا الانحلال تتطلب جيلا بشريا ~~تقريبا ، بحيث يلخص الكتاب المقدس ولا شك في الإصحاح 2، الآيات 7، 9 # 41 # من سفر القضاة تاريخ أعوام عديدة لا يروي لنا عنها شيئا. كما يجب إضافة ~~الأعوام التي كان صموئيل فيها قاضيا والتي لم يعط الكتاب عددها، وكذلك يجب إضافة ~~الأعوام التي حكم فيها شاءول والتي لم أذكرها في الحساب السابق لأننا لا نستطيع أن ~~نعرف من قصته عدد السنين التي حكم فيها معرفة كافية؛ إذ يقال لنا في الإصحاح 13، ~~الآية 1 من سفر صموئيل الأول أنه حكم عامين، ولكن هذا النص منقوص، ونستطيع أن نستنتج ~~من القصة نفسها عددا أكبر من السنين. ولا شك أن من له معرفة أولية بالعبرية يستطيع ~~أن يستوثق من أن هذا النص منقوص، فهو يبدأ هكذا: «وكان شاءول ابن سنة في ملكه، ~~وملك سنتين على إسرائيل.» وإني لأتساءل الآن: من هنا لا يرى أن هذا النص قد حذف عمر ~~شاءول عندما استولى على السلطة الملكية؟ إن قصة شاءول نفسها لتدفعنا إلى التسليم ~~بعدد أكبر من السنين. وأعتقد أنه ليس هناك من يشك في ذلك، ففي الإصحاح 27، الآية 7 ~~من السفر نفسه # 42 # نجد أن داود مكث سنة وأربعة أشهر عند الفلسطينيين هربا من شاءول. ~~وطبقا لهذا الحساب كان من الضروري أن تقع باقي الحوادث في مدة ثمانية أشهر، وهذا ما ~~لا يصدقه أحد فيما أعتقد. ويصحح يوسف (المؤرخ) هذا النص في آخر الكتاب الثالث من ~~التاريخ القديم، فيجعله: «وحكم شاءول أيام صموئيل ثمانية عشر عاما وبعد موته سنتين ~~أخريين.» وعلى أية حال، فإن كل هذه القصة الواردة في الإصحاح 13 لا تتفق بتاتا ~~مع ما يسبقها؛ إذ يروى لنا عند نهاية الإصحاح 7 أن العبرانيين هزموا الفلسطينيين ~~هزيمة بلغت من الشدة حدا لم يعودوا منه يجرءون على عبور حدود إسرائيل طوال حياة ~~صموئيل. وفي الإصحاح 13 غزا الفلسطينيون العبرانيين (أيام صموئيل) وجلبوا لهم من ~~البؤس الشديد والفقر المدقع ما جعلهم يظلون دون أسلحة ودون أية وسيلة تصنعها. # 43 # وإنها لمحاولة مضنية ms228 حقا أن يوفق الإنسان بين جميع هذه القصص ~~الموجودة في سفر صموئيل الأول بحيث تبدو وكأن مؤرخا واحدا هو الذي كتبها ~~ورتبها. ولكني أعود الآن إلى موضوعي الأول، فأقول: إنه يجب إذن أن نضيف إلى الحساب ~~المذكور من قبل سنوات حكم شاءول. وأخيرا، فإني لم أضف سنوات وقوع العبرانيين في ~~الفوضى، لأن الكتاب نفسه لم يحددها بوضوح، أعني أنني لا أعلم كم من الوقت ~~استغرقت الحوادث التي وقعت منذ الإصحاح 17 حتى آخر سفر القضاة. # 44 # من هذا كله نستنتج بوضوح تام أننا لا نستطيع أن نقيم حسابا زمنيا ~~مضبوطا للسنوات معتمدين في ذلك على الروايات نفسها، وأن دراستها لا تؤدي بنا إلى ~~التسليم بصحة واحدة منها، بل إلى وضع افتراضات مختلفة، فيجب إذن أن نسلم بأن ~~هذه الروايات مجموعة من القصص مستمدة من مؤلفين عديدين، ثم جمعت قبل ترتيبها ~~وفحصها، كذلك يبدو أن هناك تعارضا لا يقل عن ذلك، فيما يتعلق بحساب السنين، ~~بين أسفار أخبار ملوك يهوذا وأسفار أخبار ملوك إسرائيل؛ ففي أخبار ملوك إسرائيل يذكر ~~أن يورام بن أحآب بدأ حكمه في السنة الثانية من حكم يورام بن يوشافاط (انظر الملوك ~~الثاني، 1: 17) # 45 # على حين يذكر في أخبار ملوك يهوذا أن يورام بن يوشافاط بدأ حكمه في السنة ~~الخامسة من حكم يورام بن أحآب (انظر: 8، 16 من السفر نفسه)، # 46 # وإذا أردنا مقارنة روايات سفر أخبار الأيام مع روايات سفر الملوك وجدنا ~~كثيرا من حالات التعارض المماثلة، التي لا تحتاج هنا إلى ذكرها، أو ذكر شروح ~~المؤلفين الذين حاولوا التوفيق بين هذه الروايات، كالأحبار الذين يهذون كلية، أو من ~~قرأت من الشراح الذين يحلمون ويختلقون شروحا وينتهون إلى إفساد اللغة نفسها، ~~فعندما يذكر مثلا في سفر أخبار الأيام الثاني: «كان عمر أحزيا اثنتين وأربعين سنة ~~عندما حكم.» يتصور بعض الشراح أن هذه السنين تبدأ من حكم «عمري» لا من ميلاد أحزيا، # 47 # ولو استطاع أحد أن يثبت أن هذا هو قصد مؤلف سفر أخبار الأيام لما ~~ترددت في القول إنه لا يعرف كيف ms229 يتحدث، وبالطريقة نفسها يختلقون شروحا كثيرة ~~تضطرني إلى القول - لو كانت هذه الشروح صحيحة - بأن قدماء العبرانيين قد جهلوا ~~تماما لغتهم، ولم تكن لديهم أية فكرة عن ترتيب الرواية، كما تضطرني إلى أن أعترف ~~بأنه لم يكن هناك أي منهج أو قاعدة لتفسير الكتاب، بل كان بإمكانهم اختلاق أي شيء ~~حسب هواهم. # فإذا ظن أحد مع ذلك أني أتحدث هنا بطريقة عامة جدا، دون أساس كاف، فإني أرجو ~~أن يكلف نفسه العناء ويدلنا على ترتيب يقيني لهذه الروايات، يستطيع المؤرخون ~~اتباعه في كتابتهم للأخبار دون الوقوع في خطأ جسيم. وعلى المرء في أثناء محاولته ~~تفسير الروايات والتوفيق بينها، أن يراعي العبارات والأساليب وطرق الوصل في الكلام، ~~ويشرحها بحيث نستطيع، طبقا لهذا الشرح، أن نقلدها في كتابتنا. # 48 ~~⋆ # ولسوف ~~أنحني مقدما في خشوع لمن يستطيع القيام بهذه المهمة، وإني لعلى استعداد لأن ~~أشبهه بأبولو نفسه. # 49 # على أن أعترف بأني لم أستطع أن أجد من يقوم بهذه المحاولة بالرغم من طول ~~بحثي عنه، كما أضيف أيضا أني لا أكتب هنا شيئا إلا بعد تأمل طويل. ومع أني ~~مشبع منذ طفولتي # 50 # بالآراء الشائعة عن الكتاب المقدس، فقد كان من المستحيل علي ألا ~~أنتهي إلى ما انتهيت إليه. # 51 # وعلى أية حال، فليس هناك ما يدعونا إلى أن نعطل القارئ هنا مدة طويلة ~~وأن نعرض عليه، في صورة تحد، أن يقوم بمحاولة ميئوس منها. وكل ما في الأمر أنه ~~كان علي أن أبين ما ستكون عليه هذه المحاولة حتى أعبر عن فكري تعبيرا أكثر ~~وضوحا. والآن أنتقل إلى الملاحظات الأخرى التي أبديها عن مصير هذه الأسفار. # وبعد أن بينا مصدر هذه الأسفار، يجب أن نذكر أن الخلف لم يحفظ هذه الأسفار ~~بعناية بحيث لا تتسرب إليها أية أخطاء، فقد لحظ قدماء النساخ كثيرا من القراءات # 52 # المشكوك فيها، بالإضافة إلى بعض النصوص المبتورة، دون أن يكونوا مع ذلك قد ~~تنبهوا إليها كلها. أما مسألة ما إذا كان لهذه الأخطاء من الأهمية ما يستحق وقفة ~~طويلة من القارئ ms230، فأنا أعتقد في الواقع أنها قليلة الأهمية، على الأقل بالنسبة إلى ~~من يقرءون الكتب المقدسة بعقلية متحررة. وأستطيع أن أؤكد عن يقين أني لم أجد ~~أي خطأ أو أي اختلاف في القراءات، وخاصة في النصوص الخاصة بالتعاليم الخلقية، ~~بحيث يجعلها غامضة أو مشكوكا فيها. ومع ذلك لا يسلم معظم المفسرين بوقوع أي ~~تحريف في النص، حتى في الأجزاء الأخرى، ويقررون أن الله، بعناية فريدة، قد حفظ ~~التوراة كلها من أي ضياع. أما اختلاف القراءات فهو في نظرهم علامة على أسرار في ~~غاية العمق، ويتناقشون بشأن النجوم الثماني والعشرين الموجودة وسط إحدى الفقرات بل ~~تبدو لهم أشكال الحروف ذاتها وكأنها تحتوي على أسرار كبيرة. ولست أدري إن كان ذلك ~~ناجما عن اختلاف العقل وعن نوع من تقوى العجائز المخرفين، أم أنهم قالوا ذلك ~~بدافع الغرور والخبث حتى نعتقد أنهم وحدهم الأمناء على أسرار الله؟ ولكني أعلم ~~فقط أني لم أجد مطلقا أي شيء عليه سيماء السر في كتبهم، ولم أجد فيها إلا ~~أعمالا صبيانية. ولقد قرأت أيضا بعض القباليين وعرفت ترهاتهم، # 53 # ولم تنقطع أبدا دهشتي من خبلهم. وإني لأعتقد أنه ما من أحد سيشك في ~~وقوع بعض الأخطاء في الأسفار - كما قلنا من قبل - إذا كان لديه أقل قدر من الحكم ~~السليم، وقرأ النص الخاص بشاءول (الذي ذكرناه من قبل من سفر صموئيل الأول، 13: 1) # 54 # وكذلك الآية 2، الإصحاح 6 من صموئيل الثاني: «ونهض داود وانطلق بجميع ~~الشعب الذين معه من بعليم يهوذا ليصعدوا من هناك تابوت الله.» إذ لا يمكن أن يغيب عن ~~ذهن أحد أن المكان الذي ذهب إليه ليحضر التابوت، وهو كارياتياريم، # 55 ~~⋆ # لم ~~يذكر. كما لا نستطيع أن ننكر أن الآية 37 من الإصحاح 13 في سفر صموئيل الثاني قد ~~غيرت وبترت، يقول النص: «وأما أبشالوم فهرب والتجأ إلى تلماي بن عمهود ملك جشور ~~وناح داود على ابنه كل الأيام، وهرب أبشالوم وذهب إلى جشور ولبث هناك ثلاث سنين.» وأنا ~~أعلم أني ذكرت من قبل نصوصا أخرى مشابهة لا تحضرني الآن. # أما فيما ms231 يتعلق بالتعليقات الهامشية التي نجدها هنا وهناك في الكتب العبرية، فلا ~~يمكن أن يتردد المرء في الاعتقاد بأنها قراءات مشكوك فيها، إذا عرفت أن معظمها ~~يرجع إلى التشابه الكبير بين الحروف العبرية خاصة بين «الكاف والباء»، وبين «الياء ~~والواو»، وبين «الدال والراء» ... إلخ. فمثلا نجد «وقتما تسمع» وفي الهامش بعد تغيير ~~حروف «عندما تسمع» وفي الإصحاح الثاني في سفر القضاة الآية 22، يقول النص: «وعندما أتى ~~آباؤهم وإخوتهم لدينا بكثرة.» (أي دائما) ... في حين نجد في الهامش بعد تغيير حرف ~~«ليعارضوا» بدل «بكثرة» وكذلك يرجع عدد كبير من القراءات المشكوك فيها إلى استعمال ~~الحروف التي نسميها حروف الوقف، والتي لا تنطق في أغلب الأحيان، ويخلط المرء ~~بينها إذا تجاورت. فمثلا في سفر الأحبار نجد (25: 30) # 56 ~~⋆ # نصا ~~يقول: «فقد ثبت البيت الذي في المدينة التي لا سور لها.» وفي الهامش «ذات السور ... ~~إلخ.» # ومع أن هذه الملاحظات واضحة بنفسها، فإني أرى أن من الأفضل الرد على حجج بعض ~~الفريسيين الذين يميلون إلى البرهنة على أن هذه التعليقات الهامشية قد أضافها إما ~~مؤلفو الكتب المقدسة أنفسهم، أو أنها كتبت بتوجيه منهم، ليعبروا عن أسرار غامضة. ~~وأول هذه الحجج، وهي حجة لا أهتم بها كثيرا، مستقاة من العادة المتبعة في ~~قراءة التوراة. يقولون: لو كانت هذه التعليقات قد وضعت في الهامش بسبب اختلاف القراءات ~~التي لم يستطع الخلف أن يختار بينها فلم جرت العادة على الاحتفاظ دائما بالمعنى ~~الهامشي؟ ولم ذكر في الهامش هذا المعنى الذي أريد الاحتفاظ به؟ لقد كان الواجب، على ~~العكس من ذلك، كتابة النص نفسه كما يراد له أن يقرأ، بدلا من أن يذكر في الهامش ~~المعنى والقراءة المحققان أكثر من غيرهما. والحجة الثانية التي تبدو على شيء من ~~الجدية، مستقاة من طبيعة الأشياء نفسها. يقولون: هناك أخطاء في النسخ تقع في ~~المخطوطات صدفة لا عمدا. ولما كانت الأخطاء عفوية وجب أن تختلف فيما بينها. على ~~أننا نجد في الأسفار الخمسة أن الكلمة العبرية التي تعني عذراء قد كتبت دائما ~~دون ms232 حرف الهاء إلا في نص واحد، مما يخالف قواعد اللغة، على حين كتبت في الهامش ~~كتابة صحيحة طبقا للقاعدة العامة، فهل يمكن أن يكون هنا الخطأ قد صدر عن الناسخ؟ ~~أي قدر هذا الذي أجبر قلم الكاتب على التسرع بالطريقة نفسها في كل مرة يقابل ~~فيها هذه الكلمة؟ لقد كان من الممكن بعد ذلك بسهولة إضافة الحرف الناقص دون حرج ~~وتصحيح هذا الخطأ مراعاة للقواعد. وبما أن هذه القراءات لم تحدث صدفة، وبما أنه لم ~~يتم تصحيح هذه الأخطاء الظاهرة، فلا بد من الاعتراف بأن هذه الكلمات كتبها ~~المؤلفون الأول عمدا كما هي موجودة في المخطوطات، ليدلوا بها على شيء، على أننا ~~نستطيع أن نرد بسهولة على ذلك. تعتمد الحجة الأولى على العادة المتبعة بين ~~الفريسيين، ولن أتوقف عندها، فأنا لا أدري إلى أي مدى ذهبت الخرافة، وربما نشأت هذه ~~العادة من أنهم كانوا يعتقدون أن الصياغتين صحيحتان أو مقبولتان، وبالتالي أرادوا أن ~~تكون الأولى مكتوبة والثانية مقروءة حتى لا تضيع هذه ولا تلك. والواقع أنهم كانوا يخشون ~~البت في أمر خطير كهذا، ويخافون من أخذ النص الباطل على أنه الصحيح، ومن هنا فإنهم ~~لم يشاءوا تفضيل أحد النصين على الآخر، وهو ما كان يتعين عليهم القيام به لو أنهم ~~اشترطوا أن تكون الكتابة والقراءة بالطريقة نفسها، لا سيما أن النسخ المستعملة ~~في الشعائر كانت خالية من التعليقات الهامشية، أو ربما أتت هذه العادة من أنهم أرادوا ~~أن تقرأ بعض الكلمات المكتوبة، مع كونها صحيحة من حيث النسخ، عن طريق كتابتها، بطريقة ~~مختلفة أي طبقا للصياغة المكتوبة في الهامش. وهكذا نشأت العادة الشائعة التي تقضي ~~بقراءة التوراة طبقا للتعليقات الهامشية. أما الدوافع التي جعلت النساخ يكتبون في ~~الهامش بعض الكلمات التي يقصد منها صراحة أن تقرأ فإني أبينها كما يلي: ليست كل ~~التعليقات الهامشية قراءات مشكوكا فيها، بل إن منها أيضا ما يصحح أساليب الكلام ~~التي لم تعد تستعمل، أعني الكلمات التي عفا عليها الزمان، وتلك التي لم تعد ~~الأخلاق ms233 الحسنة تسمح باستعمالها، فقد اعتاد المؤلفون القدماء - الذين لم يكونوا يعرفون ~~الرذيلة مطلقا - تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، دون اللف والدوران المستعمل ~~في القصور، وبعد ذلك ساد الترف وعمت الرذيلة بدأ الناس ينظرون إلى الأشياء التي ~~عبر عنها القدماء دون بذاءة، على أنها بذيئة، ولم تكن هناك حاجة من أجل ذلك إلى تغيير ~~الكتاب نفسه، ومع ذلك فقد جرت العادة في القراءة العامة، مراعاة لضعف نفوس ~~العامة، على تسمية النكاح والاستمناء بألفاظ غير ملائمة، وهي الألفاظ نفسها ~~الموجودة في الهامش. وأخيرا، فمهما كان السبب الذي من أجله جرت العادة على قراءة ~~الكتب وتفسيرها حسب التعليقات الهامشية، فإنه على الأقل ليس كون التفسير الصحيح هو ~~بالضرورة ذلك الذي يسير وفقا لهذه التعليقات. وبالإضافة إلى أن الأحبار أنفسهم في ~~التلمود يبتعدون في كثير من الأحيان عن النص الماسوريتي، # 57 # وكان لديهم نصوص أخرى يرونها أفضل، كما سأبين بعد قليل، فإنه يوجد ~~في الهامش بعض التغييرات تبدو أقل اتفاقا مع الاستعمال اللغوي الجاري من النص ~~نفسه، فمثلا يقول نص في سفر صموئيل الثاني (14: 22): «إذا فعل الملك ما قال عبده.» ~~وهو تركيب لغوي سليم تماما ومتفق مع تركيب الآية 15 من الإصحاح نفسه، هذا على حين ~~نجد في الهامش: «عبدك» وهو ما لا يتفق مع الفعل الذي وضع في صيغة ضمير الغائب. ~~وبالمثل يقول نص في الآية الأخيرة من الإصحاح 16 من السفر نفسه: «حسب (أي يستشار) ~~كلام الرب.» وفي الهامش كلمة أحد كفاعل للفعل، وهي إضافة لا مبرر لها؛ إذ إن العرف ~~الشائع في اللغة جرى على استعمال الأفعال اللاشخصية في ضمير الغائب المفرد المبني ~~للمعلوم، كما يعلم علماء اللغة جيدا. وهكذا توجد تعليقات كثيرة لا يمكن على أي نحو ~~تفضيلها على صيغة النص. أما حجة الفريسيين الثانية فيسهل الرد عليها بعد الذي ~~عرضناه، فقد قلنا: إن النساخ قد نبهوا إلى الكلمات التي لم تعد تستعمل ~~بالإضافة إلى القراءات المشكوك فيها، ولا شك أن كثيرا من الكلمات في اللغة العبرية، ~~كما في اللغات الأخرى، لم تعد مستعملة ms234 وأصبحت قديمة، وقد وجدت كلمات كهذه في ~~التوراة نبه إليها كلها النساخ المتأخرون حتى تكون القراءة العامة وفقا لعادة ~~عصرهم. فإذا كانت كلمة «نعر» قد دونت في كل مكان، فذلك لأنها كانت من قبل مشتركة ~~بين الجنسين (المذكر والمؤنث) وكان لها معنى الكلمة اللاتينية نفسها، وكذلك كانت عاصمة ~~العبرانيين تسمى قديما «أورشليم لا أورشلايم»، كذلك فإنه فيما يتعلق بالضمير هو، ~~هي، فقد جرت العادة على استبدال حرف الياء بحرف الواو (وهو تغيير شائع في العبرية) ~~للدلالة على المؤنث، على حين لم يعتد الناس في العهود الأقدم، تمييز المؤنث من ~~المذكر في هذا الضمير إلا بحروف العلة. وأخيرا، فقد كانت الصيغ الشاذة ~~للأفعال تتغير بدورها من عصر إلى عصر، وكان القدماء، توخيا منهم للتأنق ~~المميز لعصرهم، يستعملون الحروف الزائدة: هاء، ألف، ميم، نون، تاء، ياء، واو. ~~وأستطيع أن أعطي أمثلة كثيرة كهذه، ولكني لا أود أن أضيع وقت القارئ بموضوعات ~~ثقيلة. فإذا سألني سائل: من أين لي علم ذلك؟ أجبته قائلا بأني كثيرا ما لحظت ذلك ~~عند أقدم المؤلفين، أي في التوراة في حين لم يشأ المحدثون اتباع هذه العادة، وهذا هو ~~السبب الوحيد الذي توجد من أجله في اللغات الأخرى، حتى اللغات الميتة، كلمات لم ~~تعد مستعملة. # ولكن قد يصر أحد على أن يقول: ما دمت أسلم بأن معظم التعليقات الهامشية ~~قراءات مشكوك فيها، فلم لا يوجد أكثر من قراءتين للنص الواحد؟ لم لا توجد ~~أحيانا ثلاث قراءات أو أكثر؟ كذلك قد يعترض علي بأن النص في بعض الأحيان ~~يخالف بوضوح قواعد اللغة في حين تكون القراءة الموجودة في الهامش صحيحة، بحيث لا يمكن ~~أبدا الاعتقاد بأن الناسخين قد توقفوا وترددوا بين القراءتين، وهذا اعتراض يسهل ~~الرد عليه، فردا على الحجة الأولى أقول: إن بعض القراءات قد حذفت واستبقي ~~البعض الآخر، دون أن تخبرنا مخطوطاتنا بكل ذلك، ففي التلمود نجد صيغا أهملها ~~الماسوريون، وقد بلغ الفرق بين النصين في فقرات كثيرة حدا من الوضوح جعل ~~المصحح لتوراة بومبرج، # 58 # الذي كان ms235 مغرقا في الخرافات، يضطر إلى أن يعترف في مقدمته بأنه لا ~~يعرف كيف يوفق بينها، فيقول: «إن الإجابة الوحيدة التي يمكن إعطاؤها هنا هي التي ~~أجبنا بها من قبل وهي أن من عادة التلمود مناقضة الماسوريين.» وإذن فلا أساس ~~للتسليم بعدم وجود أكثر من صياغتين للفقرة الواحدة، ومع ذلك، فإني أسلم ~~مقتنعا - وهذا هو رأيي الخاص - بأنه لم يوجد أبدا أكثر من صياغتين للنص الواحد؛ ~~وذلك لسببين: ~~(1) # لا يسمح مصدر تغييرات النص، كما أوضحنا من قبل، بوجود أكثر من صياغتين، ~~لأنهما ينشآن في الغالب من تشابه بعض الحروف، وإذن فقد كان الشك ~~ينصب دائما على مسألة معرفة أي الحرفين المستعملين دائما يجب أن ~~يكتب: هل هو الباء أم الكاف، الياء أم الواو، الدال أم الراء ... إلخ. ~~وكثيرا ما كان يحدث أن يعطي كل من الحرفين معنى مقبولا. وفضلا عن ~~ذلك، فإن طول المقطع، أي كونه ممتدا أو قصيرا، يعتمد على هذه الحروف ~~التي سميناها حروف الوقف. وأخيرا فليست كل التعليقات قراءات مشكوكا ~~فيها، بل إن الدافع على كثير منها، كما قلنا هو اللياقة وشرح لفظ قديم ~~لم يعد مستعملا. ~~(2) # والسبب الثاني لاعتقادي هذا هو أن النساخ لم يكن لديهم إلا عدد ~~قليل من الأصول، وربما لم يكن لديهم أكثر من أصلين أو ثلاثة. ولا تذكر ~~رسالة الكتبة (الفصل السادس) # 59 # إلا شرحين، ويتوهم أنهما يرجعان إلى عصر عزرا؛ لأن ~~الاعتقاد قد ساد بأن عزرا هو كاتب هذه التعليقات. ومهما يكن من شيء فلو ~~كانت هناك ثلاثة أصول لأمكننا أن نتصور بسهولة اتفاق اثنين منها ~~دائما على الفقرة نفسها، ويكون غريبا حقا أن توجد للفقرة نفسها ثلاث ~~صياغات مختلفة في ثلاثة أصول، فأي قدر إذن ذلك الذي سبب هذا النقص في ~~الأصول بعد عزرا؟ إن المرء لن يعود يدهش لذلك لو قرأ فقط الإصحاح الأول ~~من سفر المكابيين الأول أو الفصل الخامس من الكتاب الثاني عشر من «تاريخ ~~اليهود القديم» ليوسف، بل إنه ليبدو معجزا حقا أن يكون قد أمكن ~~الاحتفاظ بهذا ms236 العدد القليل من النسخ بعد كل هذا الاضطهاد الطويل، وهو ~~ما لا يمكن أن يشك فيه - على ما أعتقد - كل من قرأ هذا التاريخ ~~بقدر ولو ضئيل من الانتباه. هذه هي إذن الأسباب التي تجعلنا لا نجد ~~أكثر من قراءتين في أي مكان، وبالتالي، فلا يمكننا من هذا العدد القليل ~~- أي القراءتين - أن نستنتج أن الفقرات التي تشرحها هذه التعليقات في ~~التوراة قد كتبت خطأ عن قصد لتدل على سر ما. أما الحجة الثانية ~~القائلة بأن النص يخطئ في بعض الأحيان إلى حد نستطيع معه التردد ~~في الاعتقاد بأنه مخالف للاستعمال الجاري في كل العصور، وبالتالي فقد ~~كانت المسألة، بسهولة، هي مسألة تصحيح للنص، لا وضع تعليق في الهامش، هذه ~~الحجة لا أهتم بها كثيرا، فأنا لا أصر على معرفة أي نوع من ~~الاحترام الديني أجبر النساخ على عدم تصحيح النص. وربما قاموا بدافع من ~~النزاهة، حتى ينقلوا التوراة للخلف كما هي بهذا العدد القليل من الأصول، ~~وأرادوا أن يصوروا التعارض بين الأصول على أنه تنوع في الصيغة، وليس ~~قراءات مشكوكا فيها. والواقع أنني لم أسمها قراءات مشكوكا فيها ~~إلا لأني في أغلب الأحيان لا أعلم حقيقة أيهما أفضل. وبالإضافة إلى هذه ~~القراءات المشكوك فيها نبه النساخ (بتركهم مسافة خالية في وسط ~~الفقرة) إلى فقرات كثيرة منقوصة يحصيها الماسوريون بثمان وعشرين فقرة ~~منقوصة. ولا أدري إن كان هذا العدد في رأيهم يدل بدوره على سر، على أن ~~الفريسيين، على الأقل، يراعون، بتقديس ديني، مقدار هذه المسافة الخالية. ~~ويوجد مثال في «التكوين» (إذ إنني أود أن أعطي مثالا واحدا) (4: ~~8) يقول فيه النص: «وقال قايين لهابيل أخيه ... فلما كان في الصحراء قايين ~~... إلخ.» وهنا لا نستطيع أن نعلم ماذا قال قايين لأخيه؛ فها هنا جزء مفقود، ~~وقد ذكر النساخ ثمانية وعشرين جزءا قد فقدوا من هذا النوع (بالإضافة ~~إلى ما ذكرناه من قبل)، ومع ذلك، لا يبدو كثير من هذه الفقرات المذكورة ~~منقوصة لو لم تكن هذه المسافة الخالية قد تركت، ولكن ms237 حسبنا ما قلناه في ~~هذا الموضوع. # الفصل العاشر # | فحص باقي أسفار العهد القديم بالطريقة نفسها # أنتقل الآن إلى أسفار العهد القديم الأخرى، ففيما يتعلق بسفري الأخبار لن أقول شيئا ~~يقينيا ذا قيمة سوى أنهما قد كتبا بعد عزرا بمدة طويلة، وربما بعد أن أعاد يهوداس المكابي # 1 ~~⋆ # بناء ~~المعبد؛ إذ يخبرنا الراوي في الإصحاح 9 من السفر الأول عن الأسر التي كانت تسكن ~~أورشليم في الأصل (أي في زمان عزرا) وبعد ذلك يذكر في الآية 17 أسماء «حراس الباب» # 2 # الذين ذكر منهم اثنان في نحميا أيضا (11: 19)، # 3 # وهذا يدل على أن هذه الأسفار قد كتبت بعد إعادة بناء المعبد بمدة ~~طويلة. وأنا لا أعلم شيئا يقينيا عن مؤلفيها الحقيقيين وعن السلطة التي يجب ~~الاعتراف بها لها، وعن فائدتها، والعقيدة التي تعرضها، بل إني لأعجب كيف أدخلت هذه ~~الأسفار في عداد الكتب المقدسة على حين أخرج سفر الحكمة # 4 # من الكتب المقننة، وكذلك سفر طوبى وبعض الأسفار الأخرى التي يقال إنها ~~منتحلة. ولا أقصد هنا أن أقلل من سلطتها، فما دام الجميع يسلمون بها فإني ~~أتركها كما هي بوضعها الحالي. # وقد جمعت المزامير بدورها وقسمت إلى خمسة أسفار بعد إعادة بناء المعبد، ويشهد ~~فيلون اليهودي # 5 # بأن المزمور 88 قد كتب وما زال الملك يواكين في السجن في بابل، وكتب ~~المزمور 89 بعد إطلاق سراحه. وما كان فيلون ليقول ذلك أبدا - فيما أعتقد - لو لم تكن ~~هذه الفكرة متواترة في عصره أو ما لم يكن قد تلاها من الثقات. وأعتقد أن أمثال ~~سليمان قد جمعت في العصر نفسه أو على الأقل في زمان الملك يوشيا؛ # 6 # وذلك لأنه جاء في الإصحاح 24، الآية الأخيرة، ما يلي: «هذه هي أمثال سليمان ~~التي نقلها رجال حزقيا ملك يهوذا» (الأمثال، 25: 1). ولا يفوتني هنا أن أشير إلى ~~تبجح الأحبار الذين أرادوا إخراج السفر، ومعه سفر الجامعة، من مجموع الكتب ~~المقننة والاحتفاظ سرا بأسفار أخرى ليست لدينا. ولقد كانوا خليقين بأن يفعلوا ~~ذلك لو لم يجدوا بعض الفقرات التي يوصى فيها بشريعة موسى. والحق أنه لمن ms238 المؤسف ~~أن الأشياء المقدسة والأفضل من بينها، كانت متوقفة على اختيار أناس كهؤلاء . صحيح ~~أنني أحمد لهم تفضلهم بنقل هذه الأسفار إلينا، ولكن لا أجد مع ذلك مفرا من ~~التساؤل عما إذا كانوا نقلوها بكل الأمانة والنزاهة اللازمين، وإن كنت لا أود مع ~~ذلك أن أفحص هذه المسألة فحصا دقيقا. # أنتقل إذن إلى أسفار الأنبياء، وعندما أفحصها أجد أن النبوات التي جمعت فيها قد ~~أخذت من كتب أخرى ورتبت ترتيبا معينا لم يكن دائما هو الترتيب الذي سار عليه ~~الأنبياء في أقوالهم أو في كتاباتهم. كذلك، فإن هذه الأسفار لا تتضمن جميع ~~النبوات، بل بعض النبوات التي أمكن العثور عليها هنا وهناك، وإذن فليست هذه الأسفار ~~إلا مجرد شذرات من الأنباء، فقد بدأ أشعيا نبوته في حكم عزيا، كما يشهد الناسخ ~~في الآية الأولى، # 7 # ولكنه لم يقتصر، في ذلك العهد، على التنبؤ، بل كتب أيضا جميع أفعال هذا ~~الملك (انظر: الأخبار الثاني، 26: 22)، # 8 # ولكنا لا نملك كتابه هذا، بل إن ما لدينا منه قد نقل عن أخبار ملوك ~~يهوذا وإسرائيل، كما بينا من قبل، كما ينبغي أن نضيف أن نبوة هذا النبي - على ما ~~يقول الأحبار - استمرت في حكم منسي # 9 # الذي قتله في النهاية. ومع أن هذه القصة تبدو خرافية، إلا أنها تدل ~~على أنهم لم يعتقدوا أنهم حصلوا على نبوات أشعيا كاملة، وبالمثل، فإن نبوات ~~إرميا التي صيغت على شكل رواية هي مجموعة من الفقرات المأخوذة من كتب الأخبار ~~المختلفة، هذا بالإضافة إلى أنها تكون خليطا دون ترتيب ودون مراعاة للتواريخ، كما ~~توجد بها روايات للقصة الواحدة. وهكذا نجد الإصحاح 21 يشير إلى سبب القبض على إرميا # 10 # أول مرة، بعد أن تنبأ لصدقيا # 11 ~~- الذي أتى لاستشارته - بخراب المدينة، ثم تقطع الرواية، وفي الإصحاح 22 ~~نجد الخطاب الذي ألقاه إرميا أمام يواكين الذي حكم قبل صدقيا، ونجده يتنبأ بأسر الملك، # 12 # وبعد ذلك يتحدث الإصحاح 25 عن الوحي الذي حدث قبل ذلك، أعني في السنة ~~الرابعة من حكم يواكين. # 13 # وتحتوي الإصحاحات التالية على الوحي الذي ms239 حدث للنبي في السنة الأولى لحكم ~~الملك، وتستمر في تكديس النبوات دون أية مراعاة لترتيبها الزمني، حتى تستأنف ~~أخيرا في الإصحاح 38، الرواية التي بدأت في الإصحاح 21 (وكأن الإصحاحات الخمسة عشر ~~الواقعة بين الإصحاحين مجرد استطراد). # 14 # فالواقع أن السياق الذي يبدأ به الإصحاح 38 يرتبط بالآيات 8، 9، 10 من ~~الإصحاح 21، # 15 # ثم تحشر في هذا الموضع رواية عن القبض على إرميا، في المرة الأخيرة، ~~مختلفة تماما عن رواية الإصحاح 37، وكذلك يروي سبب حجزه الطويل في غياهب السجن ~~بطريقة مختلفة كل الاختلاف. # 16 # يتضح لنا إذن أن كل هذا الجزء من سفر إرميا مجموعة من النصوص ~~مأخوذة من مؤرخين، وأنه لا يوجد سبب آخر يفسر هذا الخلط. أما النبوات الأخرى ~~المتضمنة في باقي الإصحاحات التي يتحدث فيها إرميا بضمير المتكلم، فيبدو أنها ~~منقولة من كتاب لباروخ أملاه إرميا نفسه، إذ لا يحتوي هذا الكتاب (كما هو واضح في ~~الإصحاح، 36: 2)، # 17 # إلا على الوحي الذي حدث لهذا النبي منذ زمان يوشيا حتى السنة الرابعة من ~~حكم يواكين، وفي هذا الوقت ذاته يبدأ سفر إرميا بدوره. كما يبدو أن النصوص الموجودة ~~ابتداء من الإصحاح 45 الآية 2، حتى الإصحاح 51 الآية 59، مأخوذة من سفر باروخ. # 18 # أما سفر حزقيال فتشير الآيات الأولى بوضوح عام إلى أنه شذرة. فمن منا لا ~~يدرك أن السياق الذي يبدأ به الكتاب يشير إلى أشياء ذكرت من قبل ويربطها بما سيتلو؟ # 19 # ولا يقتصر الأمر على السياق وحده، بل يوحي النص كله بأن هناك جزءا ~~ناقصا. فالإشارة إلى عمر النبي الذي بلغ ثلاثين عاما عندما بدأ السفر، تدل على ~~أن الأمر لا يتعلق ببداية في النبوة، بل باستمرار لها. # 20 # وبالفعل يلاحظ الكاتب ذلك في هذا الاستطراد الوارد في الآية 3 (1: 3) ~~«كانت كلمة الرب إلى حزقيال بن بوزي الكاهن في أرض الكلدانيين ... إلخ.» وكأنه يريد أن ~~يقول: إن أقوال حزقيال المنقولة حتى ذلك الحين كانت تتعلق بوحي آخر، حدث له قبل أن ~~يبلغ الثلاثين. وفضلا عن ذلك يروي يوسف في الكتاب العاشر من تاريخ اليهود القديم في ~~الفصل السابع أنه طبقا لنبوة ms240 حزقيال ما كان لصدقيا أن يرى بابل، على أننا نقرأ مثل ~~ذلك في السفر الذي في أيدينا، بل على العكس نجد في الإصحاح 17 أن صدقيا اقتيد ~~أسيرا إلى بابل. # 21 ~~⋆ # أما ~~سفر هوشع فإننا لا نستطيع أن نقول عن ثقة إنه كان أطول مما هو عليه الآن في السفر ~~الذي يحمل اسمه، ولكني أعجب حقا من أننا لا نعرف شيئا أكثر من هذا عن رجل ~~استمرت نبوته أكثر من أربع وثمانين سنة، كما يشهد الكاتب نفسه، ولكنا على الأقل ~~نعلم، بوجه عام، أن من قاموا بتدوين أسفار الأنبياء لم يجمعوا نبوات جميع ~~الأنبياء، كما لم يجمعوا كل نبوات من نعرف من الأنبياء. فنحن مثلا لا نعلم شيئا ~~عن الأنبياء الذين استمرت نبواتهم تحت حكم منسي، والذين وردت إشارات عامة ~~إليهم في سفر أخبار الأيام الثاني (33: 10، 18-19)، # 22 # كما أننا لا نعلم شيئا عن نبوات الأنبياء الاثني عشر المذكورين في الكتاب، # 23 # فلا يذكر عن يونس إلا نبواته عن النيناويين، مع أنه كان أيضا ~~نبيا للإسرائيليين، كما نرى في «الملوك» (السفر الثاني، 14: 25). # 24 # أما عن سفر أيوب، وعن أيوب نفسه، فقد دارت مناقشات طويلة بين الشراح في هذا ~~الصدد، فالبعض يظن أن موسى هو مؤلف هذا السفر، ويعتبرون القصة كلها مثلا للموعظة ~~فقط، وهذا ما يقوله بعض الأحبار في التلمود، كما يذهب ابن ميمون في كتابه «موريح ~~نبوخيم» إلى مثل هذا الرأي. والبعض الآخر يعتقد أنه قصة حقيقية، ومن هؤلاء الآخرين من ~~يظن أن أيوب عاش في زمان يعقوب وتزوج ابنته دينة. وفي مقابل ذلك فإن ابن عزرا، ~~الذي تحدثت عنه من قبل، يؤكد في شرح له على هذا السفر أنه ترجم إلى العبرية ~~من لغة أخرى. وكم كنت أتمنى لو أنه برهن على ذلك بأدلة أوضح؛ إذ كان يمكننا أن ~~نستنتج من ذلك أن غير اليهود كانت لهم بدورهم كتب مقدسة؛ لذلك أترك هذا الموضوع ~~معلقا. ومع ذلك فإني أعتقد أن أيوب كان من غير اليهود، وكان يتميز بقدر عظيم ~~من الصبر، بدأ حياته مزدهرا ms241 ثم عرف أشق المحن ثم أصبح سعيدا غاية السعادة في ~~النهاية. ويذكره حزقيال في الإصحاح 14، الآية 14 مع آخرين، # 25 # وإني لأعتقد أيضا أن هذه التقلبات التي مر بها أيوب، وهذا الصبر ~~الذي امتحن به قد أتاحت أكثر من فرصة للحديث عن عناية الله، أو على أقل تقدير ~~أتاحت لمؤلف هذا الكتاب فرصة لتأليف حوار لا يبدو موضوعه وأسلوبه صادرين عن شقي ~~أنهكه المرض وغطاه التراب، بل عن رجل متفرغ لا عمل له إلا التأمل في ~~مكان مخصص لربات الشعر. # 26 # وربما كنت أميل إلى الاعتقاد مع ابن عزرا بأن هذا الكتاب مترجم عن ~~لغة أخرى؛ لأنه يذكرنا بشعر غير اليهود، إذ يقال فيه إن أبا الآلهة دعا مجلسه ~~للاجتماع مرتين، ولكن موموس، # 27 # الذي يسمى هنا الشيطان، نقل كلام الله بتصرف كبير ... إلخ. ولكن هذه ~~مجرد افتراضات غير مؤكدة. # ولننتقل الآن إلى سفر دانيال، هذا السفر يحتوي بلا شك على النص نفسه الذي ~~كتبه دانيال ابتداء من الإصحاح 8. أما الإصحاحات السبعة الأولى # 28 # فلا أعلم مصدرها. ولما كانت باستثناء الإصحاح الأول مكتوبة باللغة الكلدانية، # 29 # فيمكننا أن نفترض أنها أخذت من كتب الأخبار الكلدانية، ولو أمكن إثبات ~~ذلك بوضوح، لكان شاهدا قويا على صحة الفكرة القائلة بأن الكتاب مقدس من حيث ~~إننا نعرف عن طريقه معاني الأشياء التي يدل عليها، لا من حيث إننا نعرف الكلمات ~~أي اللغة والعبارات التي استعملها في التعبير عن هذه الأشياء، وبأن كتب العقائد أو ~~التاريخ التي تحتوي على تعاليم طيبة تكون أيضا مقدسة، أيا كانت اللغة التي كتبت ~~بها، والأمة التي خاطبتها. وعلى أية حال، نستطيع على الأقل أن نذكر أن هذه ~~الإصحاحات قد دونت بالكلدانية، وأن ذلك لم يقلل من قدسيتها بالنسبة إلى الأسفار ~~الأخرى في التوراة. # ويرتبط سفر عزرا بسفر دانيال هذا على نحو يسهل معه إدراك أن كاتبهما واحد ~~استمر في كتابة تاريخ اليهود منذ وقوعهم في الأسر الأول، ولا أتردد في ربط سفر ~~إستير بسفر عزرا هذا؛ لأن السياق الذي يبدأ به لا يشير إلى ms242 سفر آخر ولا ينبغي أن ~~نعتقد أن سفر إسيتر هذا هو الكتاب نفسه الذي دونه مردخاي، # 30 # ففي الإصحاح 9، الآيات 20-22 # 31 # يذكر المؤلف أن مردخاي كتب رسائل ويعرفنا بمحتواها، كما يقص علينا في ~~الآية 31 من الإصحاح نفسه # 32 # أن الملكة إستير نظمت الاحتفال بعيد القرعة (فوريم) وقد دون مرسومها ~~في السفر، أي (إذا شئنا أن نعطي الكلمة معناها في العبرية) في كتاب يعرفه الجميع في ~~الوقت الذي كان يكتب فيه الراوي، على أن ابن عزرا يسلم، كما يضطر آخرون كثيرون ~~إلى التسليم معه، أن هذا الكتاب قد فقد في الوقت الذي فقدت فيه الكتب الأخرى. ~~وأخيرا، فإن القصة تحيل إلى أخبار ملوك الفرس للحصول على معلومات أخرى عن ~~مردخاي. وإذن فلا ينبغي الشك في أن مؤلف هذا السفر هو الراوي نفسه الذي كتب ~~قصة دانيال وقصة عزرا، وكذلك سفر نحميا # 33 # لأنه يسمى أيضا بالسفر الثاني لعزرا. وإذن فنحن نؤكد أن هذه ~~الأسفار الأربعة: دانيا وعزرا وإستير ونحميا، قد كتبها مؤرخ واحد. # 34 ~~⋆ # أما من ~~يكون هذا المؤرخ، فإني لا أستطيع حتى مجرد التخمين به. أما إذا شئنا معرفة المصدر ~~الذي استمد منه هذا المؤرخ، أيا كان، معلوماته عن هذه القصص وربما نقل عنه معظم ~~أجزائها، فيجب أن نذكر أن القضاة أو الأمراء الأوائل عند اليهود بعد بناء المعبد ~~- شأنهم شأن ملوكهم في الإمبراطورية القديمة - كان لديهم كتبة أو مؤرخون ~~يكتبون تواريخ السنين وأخبار الأيام حسب الترتيب الزمني. وقد ذكرت هذه التواريخ ~~والأخبار في مواضع عديدة من أسفار الملوك، كما ذكرت أخبار وتواريخ الأمراء وكهنة ~~المعبد الثاني أولا في سفر نحميا (12: 23). # 35 # ثم في سفر المكابيين الأول (16: 24). # 36 # ولا شك أن هذا هو الكتاب (انظر إستير، 9: 32) # 37 # الذي تحدثنا عنه منذ قليل، والذي يحتوي على مرسوم إستير وما كتبه ~~مردخاي، وهو الكتاب الذي قلنا عنه مع ابن عزرا إنه مفقود. وإذن فمن هذا الكتاب يبدو ~~أن كل مضمون الأسفار الأربعة التي ذكرناها من قبل في العهد القديم، قد أخذ أو ~~نقل؛ إذ إن مؤلفها لم يذكر أي سفر ms243 غيره، كما لا نعلم لأي كتاب آخر غيره ~~سلطة يعترف بها الجميع. كذلك لم يكتب هذه الأسفار عزرا أو نحميا، مما يتضح من ~~القائمة التي يعطيها نحميا (12: 10، 11) # 38 # خلفاء الكاهن الأعظم يشوع حتى يدوع الكاهن الأعظم السادس الذي سار أمام ~~الإسكندر الأكبر بعد سقوط إمبراطورية الفرس (انظر يوسف: تاريخ اليهود القديم، الكتاب ~~الحادي عشر، الفصل الثامن) وهو الذي سماه فيلون اليهودي في كتابه على العصور، # 39 # بالكاهن الأعظم السادس والأخير في ظل حكم الفرس. وقد أشار نحميا إلى ذلك ~~في هذا الإصحاح نفسه، الآية 22، إذ يقول: «وكان اللاويون في أيام الياسيب ويوباداع ~~ويوناثان (ويوحانان) ويدوع مكتوبين رؤساء آباء وكذلك الكهنة في ملك # 40 ~~⋆ # داريوس ~~الفارسي.» وتعني كلمة «مكتوبين» هنا أنهم كانوا مكتوبين في الأخبار، وأعتقد أنه لا يمكن ~~أن يخطر على بال أحد أن عزرا # 41 ~~⋆ # أو ~~نحميا عاش طيلة حكم الملوك الفرس الأربعة عشر، فقد كان قورش هو أول من سمح لليهود ~~بإعادة بناء المعبد، وقد مضت منذ هذه اللحظة حتى داريوس آخر ملوك الفرس الأربعة عشر ~~أكثر من مائتين وثلاثين سنة. لذلك أعتقد بلا تردد أن هذه الأسفار قد دونت بعد ~~أن أعاد يهوداس المكابي # 42 # الشعائر إلى المعبد من جديد بمدة طويلة، وأنها دونت لأنه انتشرت في ~~ذلك الحين كتب مزيفة لدانيال وعزرا وإستير كتبها قوم مغرضون، ينتمون ولا شك ~~إلى شيعة الصدوقيين. # 43 # والواقع أن الفريسيين لم يقبلوا مطلقا هذه الأسفار، على ما أعلم. ومع ~~أن بعضا من الأساطير المتضمنة فيما يسمى بالكتاب الرابع لعزرا موجودة في ~~التلمود فلا ينبغي مع ذلك نسبتها إلى الفريسيين؛ إذ لا يوجد شارح منهم - إلا إذا كان ~~في غاية الغباء - لم ير أن هذه الأساطير إضافة من مازح ثقيل. بل إنني أعتقد أن ~~الدافع على هذا العمل الهزلي هو إضعاف الثقة في التراث المنقول أمام الملأ، وربما ~~دونت هذه الأسفار ونشرت في ذلك العصر لتبين للشعب تحقق نبوات داينال لتقوية ~~عاطفته الدينية وحتى لا ييأس من المستقبل أو من خلاصه من المصائب المتلاحقة عليه في ~~ذلك ms244 الزمان. وسواء أكانت هذه الأسفار قد دونت في وقت مبكر أم في وقت متأخر، فقد ~~تسربت إليها أخطاء كثيرة بسبب سرعة الناسخين الفائقة على ما أعتقد. والواقع أننا نجد ~~في هذه الأسفار وفي غيرها، بل في هذه الأسفار أكثر من غيرها، بعضا من هذه التعليقات ~~الهامشية التي تحدثنا عنها في الفصل السابق، وكذلك بعض الفقرات لا يمكن تفسيرها إلا ~~بخطأ في النسخ. وقبل أن أبين ذلك، أود أن أنوه أننا إذا أردنا التسليم مع ~~الفريسيين بأن التعليقات الهامشية لهذه النصوص ترجع إلى المؤلفين الأوائل للأسفار، ~~فيجب أن نقول ضرورة - إن كان المؤلفون أكثر من واحد - إنهم أوردوها لأن نص أسفار ~~الأخبار التي استمدوا منها معلوماتهم والتي نقلوها لم يكن مكتوبا بعناية، وأنهم لم ~~يجرءوا على تصحيح نص قديم تركه الأجداد بالرغم من وضوح بعض الأخطاء. ولا أريد أن ~~أرجع إلى موضوع ناقشناه من قبل، ومن ثم فسأنتقل الآن إلى بعض الأخطاء التي لم ترد ~~ملاحظات عنها في الهامش: ~~(1) # لا أدري عدد الأخطاء التي يتعين علي أن أقول إنها تسربت إلى ~~الإصحاح الثاني من عزرا، ففي الآية 64 # 44 # يذكر المجموع الكلي لجميع ما تم حصره في مجموعات في ~~الإصحاح وهو 42360، ولكننا إذا قمنا بحساب المجاميع الجزئية وجدنا ~~29818 فقط. فهناك إذن خطأ في المجموع الكلي أو في المجاميع الجزئية. ومع ~~ذلك يبدو أن المجموع الكلي صحيح لأن الكل قد حفظه كشيء جدير ~~بالتذكر، على حين أن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى المجاميع الجزئية، فلو ~~كان الخطأ قد وقع في المجموع الكلي لأدركه الجميع في الحال ولقاموا ~~بتصحيحه، وهذا ما يؤكده أيضا الإصحاح 7 من نحميا، الذي يكرر إصحاح ~~عزرا هذا، (المسمى برسالة الأنساب)، كما تشير إلى ذلك صراحة الآية 5 # 45 # والتي تتفق تماما مع الإشارة التي يعطيها سفر عزرا بشأن ~~المجموع الكلي، على حين أن هناك اختلافات كثيرة فيما يتعلق ~~بالمجاميع الجزئية، بعضها أقل مما ورد في عزرا والبعض الآخر أكثر، ~~كما أن المجموع الكلي لهذه المجاميع الجزئية 31089. فلا يمكن إذن أن ~~يكون هناك شك ms245 في وجود أخطاء كثيرة في المجاميع الجزئية وحدها، سواء ما ~~ورد منها في عزرا أو في نحميا، ويبذل الشراح الذين يحاولون التوفيق ~~بين هذه التناقضات الظاهرة قصارى جهدهم لاختلاق تفسير ما، ولا يرون ~~أنهم بتقديسهم لحروف الكتاب وكلماته يضعون مؤلفي الأسفار موضع السخرية، ~~كما لحظنا من قبل؛ إذ يجعلون منهم أناسا لم يكونوا يعرفون كيف يتحدثون ~~أو ينظمون موضوعات حديثهم، بل إن كل ما يفعلونه هو أنهم يجعلون نص ~~الكتاب الواضح غامضا تماما؛ ذلك لأنه إذا استباح المرء لنفسه أن يفسر ~~جميع نصوص الكتب المقدسة على طريقتهم فلن يبقى لدينا نص واحد لا يمكن ~~الشك في معناه الحقيقي. وليس هناك ما يدعو إلى التوقف كثيرا عند هذا ~~الموضوع؛ لأني مقتنع تماما بأنه لو أراد مؤرخ ما محاكاة الطريقة التي ~~ينسبونها بإيمانهم إلى مؤلفي التوراة، لانهالوا عليه هم أنفسهم بالسخرية ~~والازدراء. وإذا كان هؤلاء الشراح يظنون أن المرء يجدف على الله ~~عندما يقول: «إن الكتاب محرف في بعض نصوصه.» فإني أتساءل: أي اسم ~~أطلقه على أولئك الذين يقحمون في الكتب المقدسة ما يشاءون من البدع؟ ~~أولئك الذين يحطون من قدر المؤرخين المقدسين حتى يبدوا وكأنهم ~~يهذون ويخلطون في كل شيء؟ أولئك الذين يرفضون من الكتاب أوضحه ~~وأكثره بداهة؟ فأي شيء في الكتاب أوضح مما قصد إليه عزرا ورفاقه في ~~رسالة الأنساب المكررة في الإصحاح 2 من الكتاب الذي يحمل اسمه، عندما ~~قسموا في مجموعات العدد الكلي للإسرائيليين الذين ذهبوا إلى أورشليم؟ ~~لا سيما أنهم لا يعطوننا فقط عدد من استطاعوا أن يعرفوا أنسابهم، بل ولا ~~يعطوننا أيضا عدد من لم يستطيعوا معرفتها، أي شيء أوضح مما تذكره الآية ~~5 في الإصحاح 7 # 46 # من نحميا من أن هذا الإصحاح منقول حرفيا من هذه الرسالة؟ ~~إن من يقومون بتفسير هذه النصوص على خلاف ذلك إنما ينكرون المعنى ~~الحقيقي للكتاب، وبالتالي ينكرون الكتاب نفسه، وذلك إذ يعتقدون أنهم ~~يثبتون تقواهم بالتوفيق بأي ثمن بين نص في الكتاب والنصوص الأخرى، ~~ويا لها من تقوى تدعو إلى السخرية تلك ms246 التي توفق بين نص واضح ونص غامض، # 47 # وتخلط بين الصادق والكاذب وتبطل الصحيح بالفاسد. ومع ذلك لا ~~أريد أن أصفهم بأنهم مجدفون على الله، لأنهم حسنو النية، وكل ~~إنسان معرض للخطأ. ومع ذلك فلأعد الآن إلى موضوعي الأول، فبالإضافة ~~إلى الأخطاء التي يجب أن نعترف بها في المجاميع الكلية لرسالة الأنساب، ~~سواء أكانت تلك هي المجاميع المذكورة في «عزرا» أم في «نحميا»، فإنا ~~نلحظ أخطاء كثيرة في أسماء العائلات نفسها، وكذلك في الأنساب وفي ~~الروايات، وأخشى أن أقول في النبوات نفسها. فالواقع أن نبوة إرميا ~~ليكونيا في الإصحاح 22 لا تبدو متفقة على الإطلاق مع قصة يكونيا # 48 ~~(انظر نهاية سفر الملوك الثامن وإرميا وأخبار الأيام الأول، 3: 17-19)، # 49 # ولا سيما كلمات الآية الأخيرة من هذا الإصحاح. ولست أدري ~~أيضا كيف استطاع أن يقول عن صدقيا الذي اقتلعت عيناه عندما رأى أطفاله ~~يقتلون: «بل تموت بسلام ... إلخ.» (انظر إرميا، 34: 5). # 50 # وإذا كان يجب علينا في تفسير النبوات أن نرجع إلى الواقعة ~~نفسها، كان من الواجب تغيير الأسماء وإحلال اسم صدقيا واسم يكونيا كل ~~محل الآخر، ولكن تلك حرية تصرف زائدة، والأفضل ترك هذا الموضوع ~~جانبا لأن من المستحيل فهمه، لا سيما أنه إذا كان ثمة خطأ ها هنا، ~~فيجب نسبته إلى الراوي لا إلى عيب في المخطوطات. أما الأخطاء الأخرى ~~التي تحدث عنها فلا أعتقد أنه يجب علي ذكرها هنا، لأني لا أستطيع أن ~~أفعل ذلك دون أن أسبب للقارئ مللا شديدا، فضلا عن أن الكثيرين قد ~~سبق لهم ملاحظة هذه الأخطاء، فقد اضطر الحبر سليمان، بسبب ما لحظه من ~~تناقضات صارخة في الأنساب المروية، إلى الوصول إلى النتيجة الآتية: ~~(انظر شرحه على السفر الأول، الإصحاح 8 من أخبار الأيام): «إذا كان عزرا ~~(الذي يظنه مؤلف أخبار الأيام) قد أطلق على بني بنيامين أسماء أخرى، ~~وأعطى ذريته نسبا مخالفا لما هو موجود في «التكوين»، وإذا كان يعطي ~~عن معظم مدن اللاويين معلومات غير التي يعطيها يشوع؛ فذلك لأنه ~~عرف أصولا مختلفة.» ثم يقول بعد ذلك بقليل ms247: «إذا كانت ذرية أبيجبعون # 51 # وآخرين غيره قد ذكرت مرتين بطريقتين مختلفتين فذلك ~~لأن عزرا استعمل لكل ذرية وثائق مختلفة، وتابع في ترديده لها ~~الاتجاه الذي توحي به أغلبية الوثائق. أما إذا كان عدد الأنساب ~~المتعارضة هو العدد نفسه في الحالتين فإنه يكون منقولا عن النسختين.» ~~وإذن، فالحبر سليمان يسلم تسليما تاما بأن هذه الكتب قد نقلت من ~~أصول لم تكن على قدر كبير من الصحة أو اليقين. وعندما يحاول ~~الشراح، في أغلب الأحيان، التوفيق بين النصوص المختلفة المتعارضة، لا ~~يفعلون حقيقة أكثر من إظهارهم أسباب الخطأ. وأخيرا، ففي تقديري أن ليس ~~هناك فرد واحد ذو حكم سليم يعترف بأن المؤرخين المقدسين أرادوا أن ~~يكتبوا بهذه الطريقة عمدا بحيث يكون النص في المواضع المختلفة ~~متناقضا مع نفسه، فإن قال قائل: إن طريقتي هذه في معالجة الكتاب ~~تقلبه رأسا على عقب، # 52 # إذ يستطيع كل فرد، باستعمال هذا المنهج، أن يشك فيه ~~ويعتبره باطلا من أوله إلى آخره، ولكني على العكس من ذلك، بينت ~~أنني، بهذا المنهج، قد نجحت في حماية النصوص الواضحة والصحيحة من أن ~~تحرف وتشوه بوساطة النصوص الباطلة التي يراد جعلها متفقة ~~معها، وليس فساد بعض النصوص سببا في الشك في صحة النصوص كلها؛ إذ لا ~~يسلم كتاب من الخطأ، فهل شك أحد في صحة كتاب بأكمله لوقوع بعض الخطأ ~~فيه؟ لم يحدث ذلك مطلقا وخاصة إذا كان النص واضحا وفكر المؤلف ~~مفهوما. # وبهذا أكون قد انتهيت من الملاحظات التي كنت أود إبداءها على أسفار العهد ~~القديم، ومنها يظهر بوضوح أنه لم تكن هناك مجموعة مقننة من الكتب المقدسة # 53 ~~⋆ # قبل ~~عصر المكابيين. أما الكتب المقننة الموجودة الآن فقد اختارها فريسيو المعبد ~~الثاني من بين كثير غيرها وذلك بقرار منهم فحسب، وهؤلاء هم أيضا واضعو صيغ ~~الصلاة؛ وعلى ذلك، فإن من يريد إثبات سلطة الكتاب عليه أن يثبت سلطة كل سفر. ~~ولا يكفي إثبات المصدر الإلهي لأحد الأسفار كي نستنتج المصدر الإلهي للأسفار كلها، ~~وإلا لكنا نسلم بأن الفريسيين لم يكن ms248 من الممكن أن يرتكبوا أي خطأ في ~~اختيارهم للأسفار. وهذا ما لا يستطيع أحد إثباته مطلقا. أما السبب الذي يجعلني ~~أسلم بأن الفريسيين وحدهم هم الذين اختاروا أسفار العهد القديم ووضعوها في ~~المجموعة المقننة، فهو أولا نبوءة سفر دانيال (الإصحاح الأخير، الآية 2) # 54 # ببعث الموتى، وهو البعث الذي رفضه الصدوقيون، وثانيا ما أشار إليه ~~الفريسيون أنفسهم بالتحديد في التلمود، فنحن نقرأ في رسالة السبت (الفصل 2، الورقة 30، ~~ص2): «قال الحبر يهوذا المسمى ربي، أراد الأذكياء إخفاء سفر الجامعة لأن أقوالهم ~~مناقضة لأقوال الشريعة (أي سفر شريعة موسى)، ولكن لماذا لم يخفوه؟ لأنه يبدأ طبقا ~~للشريعة وينتهي طبقا للشريعة.» ويقول بعد ذلك بقليل: «وأرادوا أيضا إخفاء سفر الأمثال ~~... إلخ.» وأخيرا نقرأ في الرسالة نفسها (الفصل الأول، الورقة 13، ص2): «كان هذا الرجل ~~المدعو نيخونيا # 55 # بن حزقيا مشهورا بحرصه وعنايته، إذ لولاه لاختفى سفر حزقيال لأن ~~أقواله تناقض أقوال الشريعة.» ومن ذلك نرى بوضوح تام أن رجالا متفقهين في ~~الشريعة قد اجتمعوا ليقرروا أي الأسفار يجب وضعها بين الكتب المقدسة، وأيها ~~يجب استبعادها. وإذن فمن يريد التأكد من سلطة جميع هذه الأسفار، عليه أن يضع نفسه ~~في هذا المجلس وأن يبدأ المداولات مطالبا بمعرفة أحقية كل منها بأن تكون له هذه ~~السلطة. # والآن، حان الوقت لفحص أسفار العهد الجديد على النحو نفسه، غير أني أعلم أن ~~رجالا على قدر كبير من العلم، وخاصة في علم اللغات قد قاموا بهذا العمل من ~~قبل. أما أنا فليست لدي معرفة كاملة باللغة اليونانية كي أخاطر بمثل هذا العمل. ~~وأخيرا، فليست لدينا النصوص الأصلية للأسفار المعروفة بالعبرية؛ لذلك أفضل ألا ~~أخوض في هذا المجال، # 56 # إلا أنني أعتقد أنه من واجبي أن أذكر الآن أهم النقاط التي تتعلق ~~بمشروعي هذا. # الفصل الحادي عشر # | مبحث فيما إذا كان الحواريون قد كتبوا رسائلهم ~~بوصفهم حواريين وأنبياء # مبحث فيما إذا كان الحواريون قد كتبوا رسائلهم بوصفهم حواريين وأنبياء أم ~~بوصفهم معلمين، ثم في دور الحواريين. ~~*** # لا يستطيع أحد أن يقرأ العهد الجديد دون ms249 أن يقتنع بأن الحواريين ~~كانوا أنبياء، # 1 # ولكن الأنبياء لم يكونوا يتحدثون دائما عن وحي، بل على العكس من ذلك كان ~~هذا نادرا للغاية، كما بينا في آخر الفصل الأول، وبالتالي نستطيع أن نتساءل إن كان ~~الحواريون قد كتبوا رسائلهم بوصفهم أنبياء بناء على وحي وتفويض خاص، ~~مثل موسى وإرميا وغيرهم، أو بوصفهم أفرادا ~~عاديين ومعلمين، خاصة أن بولس في الرسالة الأولى إلى أهل ~~كورنثة (14: 6) # 2 # يميز بين نوعين من التبشير؛ تبشير يعتمد على وحي، وتبشير يعتمد على ~~معرفة. فيمكنا إذن أن نتساءل إن كان الحواريون في «الرسائل» يتحدثون بوصفهم أنبياء ~~أو يعلمون بوصفهم فقهاء. والآن فإذا فحصنا أسلوب «الرسائل» وجدنا أنه يختلف ~~تماما عن أسلوب النبوة، فالأنبياء كانوا يؤكدون دائما أنهم يتحدثون بتفويض من ~~الله: «هذا هو كلام الرب، يقول رب الجيوش، بأمر الرب ... إلخ.» وليس ذلك في الأحاديث ~~التي يلقونها علنا فقط، بل أيضا في الرسائل التي تتضمن وحيا، كما هو واضح في ~~رسالة إيليا إلى يورام # 3 ~~⋆ ~~(انظر: ~~سفر الأخبار الثاني، 21: 12) التي تبدأ أيضا بهذه الكلمات: «هذا هو كلام الرب.» أما في ~~رسائل الحواريين فلا نجد شيئا كهذا، بل على العكس يتحدث بولس في الرسالة الأولى إلى ~~أهل كورنثة (7: 40) # 4 # وفقا لتفكيره الخاص. بل إننا نجد في فقرات كثيرة طرقا في الكلام تنم ~~عن نفس مزعزعة مضطربة مثل: (رسالة إلى أهل رومية، 3: 28) «لأننا نحسب» # 5 ~~⋆ # وكذلك ~~(8: 18): «وإني أحسب» وفقرات كثيرة أخرى مشابهة، وكذلك نجد طرقا للكلام بعيدة كل ~~البعد عن السلطة النبوية، مثل: «وأنا إنما أقول الحق ذلك على سبيل الإباحة # 6 # لا على سبيل الأمر» (انظر الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة، 7: 6). «فليس ~~فيها عندي وصية من الرب لكني أفيدكم فيها مشهورة بما أن الرب رحمني أن أكون ~~أمينا» (انظر الرسالة نفسها، 7: 25). وفقرات كثيرة أخرى مشابهة. ويلاحظ أنه عندما يقول ~~في الإصحاح السالف الذكر إن لديه تفويضا أو أوامر من الله، أو على العكس ليس لديه ~~ذلك، فإنه لا يعني أمرا أو تفويضا أوحى به الله إليه، بل يعني فقط التعاليم التي ~~أعطاها ms250 المسيح لتلاميذه على الجبل. ومن ناحية أخرى، فإذا فحصنا الطريقة التي نقل بها ~~الحواريون عقيدة الإنجيل، نجد أنها تختلف اختلافا كبيرا عن طريقة الأنبياء، ~~فالحواريون يستعملون الاستدلال في كل الأحيان، حتى ليبدو أنهم لا يتنبأون بل ~~يجادلون. وعلى العكس، لا تحتوي النبوات إلا على عقائد وأوامر، لأن الله نفسه هو ~~الذي يتحدث؛ أعني الله الذي لا يستدل، بل يأمر بما له من سلطة مطلقة تقضي بها ~~طبيعته، وهذا يرجع أيضا إلى أن سلطة النبي لا تتلاءم مع الاستدلال، فمن يريد ~~إثبات العقائد التي يعتنقها بالاستدلال، يخضعها بذلك لحكم كل فرد، ويبدو أن هذا هو ما ~~يفعله بولس، وذلك على وجه التحديد أنه يستدل، فهو في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة ~~(10: 15) يقول: «أقول كما يقول الحكماء فاحكموا أنتم فيما أقول.» وأخيرا، فقد كان ~~الرسل - كما بينا في الفصل الأول - يبلغوننا في الأمور الموحى بها، لا بالأمور ~~التي لا يمكن إدراكها بالنور الطبيعي، أي بالاستدلال. ومع أننا نستطيع أن نجد في ~~الأسفار الخمسة - على ما يبدو - بعض الأمور التي يستدل عليها، إلا أننا لو دققنا ~~النظر لوجدنا أنه من المستحيل أن نعد هذه الاستدلالات حججا قاطعة. فعندما يقول ~~موسى مثلا للإسرائيليين (التثنية، 31: 27): «... فإنكم وأنا في الحياة معكم اليوم قد ~~تمردتم على الرب فكيف بعد موتي.» لا ينبغي أن نفهم هذه العبارة وكأن موسى أراد أن ~~يقنع الإسرائيليين عن طريق الاستدلال بأنهم بعد موته سيبتعدون بالضرورة عن عبادة ~~الله الحقيقية؛ فالواقع أن الحجة تصبح في هذه الحالة باطلة، وهو ما يمكن البرهنة ~~عليه بالكتاب نفسه، فقد ظل الإسرائيليون متبعين الطريق المستقيم في حياة يشوع ~~و«القدماء» وبعد ذلك في ظل حكم صموئيل وداود وسليمان ... إلخ. فعبارة موسى إذن تأكيد ~~خلقي ألقاها كخطيب وتنبأ فيها بتدهور الشعب في المستقبل بأسلوب فيه من الحيوية ~~ما يعادل حيوية الصورة التي تمثلت لذهنه في هذا الموضوع. والسبب الذي يمنعني من ~~التسليم بأن موسى قد تحدث باسمه حتى يجعل نبوءته أكثر قبولا لدى الشعب، لا بوصفه ~~نبيا تلقى ms251 وحيا، وهو ما يذكر في الآية 21 من الإصحاح نفسه # 7 # من أن الله أوحى إلى موسى بألفاظ أخرى بهذه الهزيمة المستقبلة. ولا شك ~~أنه لم يكن في حاجة إلى التأكد من حقيقة نبوءته ومن الأمر الإلهي باستدلالات ~~ظنية، بل كان عليه حتما أن يتمثله حيا بالخيال، كما بينا في الفصل الأول. ~~وكان خير ما يمكنه فعله لهذا الغرض هو أن يتخيل في المستقبل عصيان الشعب الذي ~~طالما عانى في الحاضر. وبهذه الطريقة يجب أن نفهم جميع حجج موسى في الأسفار الخمسة؛ ~~فهي ليست براهين التجأ فيها إلى العقل، بل طرق في الحديث عبر بها عن أوامر الله على ~~نحو أكثر فاعلية، وتخيلها بها على نحو أكثر حيوية. ومع ذلك، لا أريد أن أنكر ~~كلية قدرة الأنبياء على المحاجة، ابتداء من الوحي، ولكني أؤكد فقط أنهم كلما ~~أحكموا حججهم اقتربت معرفتهم بأمور الوحي من المعرفة الطبيعية، خاصة ونحن ~~نسلم بأن الأنبياء كانت لديهم معرفة فوق الطبيعة فيما يتعلق بالعقائد الخالصة ~~والأوامر والأحكام التي يبشرون بها؛ لذلك لم يقم موسى، وهو أعظم الأنبياء، بأي ~~استدلال حقيقي. # وعلى العكس من ذلك، أعتقد أن بولس لم يكتب الاستنتاجات الطويلة والحجج الموجودة ~~في «الرسالة إلى أهل رومية» بفضل وحي يعلو على الطبيعة. وهكذا، فإن طرق حديث ~~الحواريين وأسلوبهم في المناقشة - كما هو واضح في الرسائل - يدل بوضوح تام على أن ~~هذه الكتابات لم تصدر عن وحي وبتفويض إلهي، بل هي مجرد أحكام شخصية وطبيعية ~~لمؤلفيها، ولا تتضمن إلا نصائح أخوية مقترنة بتعبيرات مجاملة مهذبة (وهذا مناقض ~~تماما للطريقة التي يعبر بها النبي عن سلطته) كما هي الحال في ذلك الاعتذار الذي ~~يقدمه بولس (رسالة إلى أهل رومية، 15: 15): «لقد اجترأت قليلا فيما قلت لكم أيها ~~الأخوة.» ونستطيع أن ننتهي إلى الاستنتاج نفسه إذا عرفنا أننا لا نجد في أي موضع ~~ما يدل على أن الحواريين قد تلقوا أمرا بالكتابة، بل تلقوا فقط أمرا بالتبشير ~~في كل مكان يذهبون إليه، وبتأييد أقوالهم بالآيات؛ إذ كان حضورهم ضروريا، وكذلك ms252 ما ~~يقومون به من آيات لهداية الناس إلى الدين ولتثبيتهم عليه، كما يصرح بذلك بولس نفسه ~~في «الرسالة إلى أهل رومية» (1: 11): «لأني أتشوق أن أراكم لأفيدكم شيئا من المواهب ~~الروحية لتأييدكم.» ومع ذلك، قد يعترض معترض ~~بأن بإمكاننا أن نستنتج بالطريقة نفسها أن تبشير الحواريين نفسه ليست له صفة ~~النبوة، فعندما كانوا يرحلون للتبشير هنا وهناك، لم يقوموا بذلك بتفويض خاص، كما ~~كانت الحال عند الأنبياء، فنحن نقرأ في العهد القديم أن يونس ذهب إلى نينوى للتبشير، ~~ونقرأ في الوقت نفسه أنه بعث إليهم صراحة، وأوحي إليه بما كان عليه أن يبشر به. ~~كذلك يروى لنا بالتفصيل عن موسى أنه رحل إلى مصر بوصفه رسولا لله، كما يروى لنا ما ~~كان يتعين عليه أن يقوله للإسرائيليين والملك فرعون، وما هي الآيات التي يمكنه بها ~~إقناعهم. كذلك تلقى أشعيا وإرميا وحزقيال أمرا صريحا بالتبشير للإسرائيليين. ~~وأخيرا، لم يبشر الأنبياء بشيء إلا بما تلقوه من الله كما يشهد بذلك الكتاب، ~~وذلك بخلاف الحواريين الذين كانوا يذهبون هنا وهناك للتبشير، دون أن نرى في العهد ~~القديم أنهم قد تلقوا شيئا مشابها أو على الأقل لا نرى ذلك إلا نادرا للغاية. ~~بل إننا نجد على العكس؛ إذ تشير بعض النصوص صراحة إلى أنهم اختاروا بأنفسهم وبمحض ~~إرادتهم الأماكن التي بشروا فيها كما هو واضح في المناقشة التي وصلت إلى النزاع ~~بين بولس وبرنابا (انظر: أعمال الرسل، 15: 37، 38 ... إلخ). # 8 # ونرى أيضا أنهم قد حاولوا الذهاب إلى مكان وأخفقوا في ذلك، كما يشهد بذلك ~~بولس نفسه (رسالة إلى أهل رومية، 1: 13): «... كثيرا ما قصدت أن آتيكم فمنعت إلى ~~الآن.» وفي الإصحاح 15 الآية 22: «وكذلك منعت مرارا كثيرة من القدوم إليكم.» وفي ~~الإصحاح الأخير من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة، الآية 12: «أما بولس الأخ فأخبركم ~~أني سألته كثيرا أن يأتيكم مع الإخوة فلم يرد أن يأتي الآن البتة لكنه سيأتي إذا ~~تيسر له الوقت ... إلخ.» من هذه اللغة، ومن المناقشة التي دارت بين الحواريين، ومن عدم ~~وجود نصوص تشهد بأنهم ms253 كانوا يرحلون للتبشير بتفويض من الله، كما كان يفعل الأنبياء؛ من ~~هذا كله نستنتج أن الحواريين قد قاموا بالتبشير بوصفهم معلمين لا بوصفهم أنبياء. ~~ومع ذلك، فإن حل المشكلة ميسور لو فحصنا الرسالة المختلفة التي اضطلع بها كل من ~~الحواريين وأنبياء العهد القديم، فهؤلاء الأخيرون لم يدعوا للتبشير وللتنبؤ كل ~~الأمم، بل بعض الأمم بعينها؛ لذلك كان لا بد لكل نبي من تفويض صريح خاص به. ~~وعلى العكس دعا الحواريون للتبشير للجميع على السواء، ولهداية الناس جميعا إلى الدين ~~(الجديد). وحيثما تولوا كانوا ينفذون تفويض المسيح، ولم يكونوا في حاجة إلى أن ~~توحى لهم موضوعات التبشير قبل أن يرحلوا وهم تلامذة المسيح الذين قال لهم المعلم: ~~«فإذا أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بماذا تتكلمون فإنكم ستعطون في تلك الساعة ما ~~تتكلمون به» (انظر: متى، 10: 19-20). نستطيع أن نستنتج أن الحواريين عرفوا بوحي ~~خاص ما بشروا به جهرا وأيدوه في الوقت نفسه بالآيات (انظر ما بيناه في ~~الفصل الثاني). أما ما اكتفوا بالدعوة إليه، دون تأييده بآيات، ودون كتابة أو جهر ~~به، فقد كتبوه أو قالوه لأنهم كانوا يعرفونه # 9 ~~(معرفة طبيعية)، انظر في هذا الموضوع الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة (14: 6). # 10 # ولا داعي هنا إلى التوقف عند الملاحظة القائلة: إن كل الرسائل تبدأ ~~بذكر الحواري من حيث هو حواري، فقد أعطي الحواريون المقدرة على التنبؤ، وكذلك ~~السلطة المطلوبة بالتبشير، كما سأبين ذلك الآن. وبهذا المعنى نقول: إنهم كتبوا ~~رسائلهم بوصفهم حواريين؛ ولهذا السبب ذاته ذكر كل منهم في أول رسالته صفته كحواري. ~~ومن الجائز أنهم أرادوا أن يجتذبوا ذهن القارئ ويسترعوا انتباهه بطريقة أيسر، ~~فأرادوا أن يشهدوا على أنهم هؤلاء الذين يعرفهم جميع المؤمنين بتبشيرهم، وهم الذين ~~أثبتوا بشواهد واضحة أنهم يبشرون بالدين الصحيح وبطريق الخلاص. والواقع أن كل ما ~~قالوه في رسائلهم عن الرسالة التي يضطلع بها الحواريون، أو عن الروح القدس الإلهية ~~التي كانت فيهم، يرتبط - فيما أعلم - بتبشيرهم، باستثناء الفقرات التي استخدم فيها ~~التعبير: «روح الله» أو «الروح القدس» بمعنى ms254 الفكر الصائب المستقيم المستوحى من الله ... ~~إلخ (وقد شرحنا ذلك في الفصل الأول). يقول بولس مثلا في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة ~~(7: 40): «غير أنها تكون أكثر غبطة إن بقيت على ما ~~هي عليه بحسب مشورتي وأظن أني أنا أيضا في روح الله.» فهو يقصد في هذا النص بروح ~~الله فكره الخاص، كما يفيد السياق، فهو يريد أن يقول: إني أحكم على الأرملة التي لا ~~تريد أن تتزوج من جديد بأنها سعيدة طبقا لرأيي الخاص، أنا الذي قررت أن أعيش عزبا ~~وأعتقد أني سعيد بذلك. وهناك نصوص أخرى كثيرة تفيد المعنى نفسه لا داعي لذكرها. ولكن ~~لما كان علينا أن نسلم بأن رسائل الحواريين قد كتبت بوحي من النور ~~الطبيعي وحده، فعلينا الآن أن نرى كيف استطاع ~~الحواريون بالمعرفة الطبيعية وحدها أن يبشروا بما لا يدخل في نطاقها. على ~~أننا إذا أخذنا في اعتبارنا النظرية التي عرضناها في الفصل السابق من هذه الرسالة (عن ~~تفسير الكتاب) اختفت كل الصعوبات، فمع أن مضمون التوراة يتعدى دائما حدود فهمنا ~~إلا أننا نستطيع أن نعمل على توضيحه ونحن مطمئنون، بشرط ألا نسلم بمبادئ ~~سوى تلك التي نستخلصها من الكتاب نفسه، وبالطريقة نفسها كان الحواريون يستطيعون أن ~~يستخلصوا نتائج عديدة مما رأوه وسمعوه وعرفوه بالوحي، وأن يبلغوه للناس إذا شاءوا. # 11 # وفضلا عن ذلك، فمع أن الدين كما بشر به الحواريون - أي مجرد رواية ~~سيرة المسيح - لا ينتمي إلى مجال العقل، فإن كلا منهم قادر بالنور الفطري على إدراك ~~جوهر الدين الذي يتألف أساسا، كما تتألف عقيدة المسيح كلها، # 12 ~~⋆ # من ~~تعاليم خلقية. وأخيرا، لم يكن الحواريون في حاجة إلى نور يعلو على الطبيعة ~~ليكيفوا الدين - بعد أن أثبتوا صدقه من قبل بالآيات - حسب فهم الناس حتى يسهل ~~على كل نفس قبوله، كما لم يكونوا في حاجة إليه لتبكيت الناس. وقد كان هذا وذاك هما ~~غاية الرسائل؛ أعني أنها كانت ترمي إلى دعوة الناس وتحذيرهم بالطريقة التي يراها كل ~~حواري أصلح ليثبتهم على الدين. ويجب أن نتذكر ms255 هنا ما قلناه من قبل، من أن ~~الحواريين لم تكن لديهم فحسب القدرة على التبشير بسيرة المسيح بوصفهم أنبياء أي ~~بتأييدها بالآيات، بل كانت لديهم أيضا السلطة المطلوبة للدعوة والتحذير بالطريقة ~~التي يراها كل حواري أصلح له. # 13 # ويشير بولس إلى هذين الهدفين في الرسالة الثانية إلى طيموتاوس (1: 11) ~~«الذي لأجله نصبت أنا كارزا ورسولا ومعلما للأمم، نصبت أنا كارزا ورسولا، ~~الحق أقول لا أكذب معلما للأمم في الإيمان الحق.» ولاحظ جيدا: «الحق أقول». إنه ~~بهذه الكلمات يطالب بكلا الصفتين؛ صفة الحواري، وصفة المعلم. وهو يتحدث عن ~~السلطة التي تسمح له بتبكيت الجميع في الرسالة إلى فيلمون قائلا (الآية 8): «ولذلك وإن ~~كان لي بالمسيح يسوع أن آمرك بالواجب بجرأة كثيرة ...» وفي هذه الفقرة يجب أن نلحظ أنه ~~لو كان بولس قد تلقى من الله بوصفه نبيا، لما أمكنه تغيير أوامر الله إلى ~~توسلات. فيجب إذن أن نسلم ضرورة بأنه يتحدث عن الحرية التي كانت لديه في ~~التبكيت بوصفه معلما لا بوصفه نبيا. # على أنه لا يتضح على نحو قاطع مما سبق أن الحواريين أمكنهم أن يختاروا في ~~تعليمهم ما رأوا أنه أفضل الطرق، بل يتضح فقط أن رسالتهم كانت تعطيهم صفة المعلمين ~~في الوقت نفسه الذي كانت تعطيهم فيه صفة الأنبياء. ونستطيع هنا بالفعل أن نلتجئ إلى ~~العقل الذي يقرر حتما أنه من له سلطة التعليم تكون له أيضا سلطة اختيار الطريق ~~الذي يفضله، ولكن من الأفضل إثبات ذلك بالكتاب وحده؛ إذ تقول النصوص صراحة: إن كل ~~حواري قد اختار لنفسه طريقا شخصيا. يقول لنا بولس في الرسالة إلى أهل رومية (15: 2) ~~«واعتنيت ألا أبشر بالإنجيل في موضع دعي فيه اسم المسيح لئلا أبني على أساس ~~غيري.» فمن المؤكد أنه لو كان جميع الحواريين قد اتبع الطريق نفسه في الدعوة، ~~وأقاموا جميعا دين المسيح على الأساس نفسه، لما استطاع بولس على أي نحو أن يصف ~~الأساس الذي يرتكز عليه حواري آخر بأنه «أساس غيره»، لأن جميع الحواريين يكون لهم ~~عندئذ الأساس نفسه. # 14 # ولكن ms256 لما كان بولس قد وصفه بأنه «أساس غيره»، فيجب أن نستنتج بالضرورة ~~أن كل حواري كان يقيم الدين على أساس مختلف، وأن الحواريين، عندما كانوا يؤدون ~~رسالتهم بوصفهم معلمين، كان في موقف المعلمين الآخرين نفسه الذين يتبع كل منهم ~~منهجا خاصا به، والذين يفضلون تعليم من ظلوا في جهل تام، ولم يبدءوا في تلقي ~~اللغات والعلوم من أي شخص آخر، حتى الرياضة التي لا يشك في صحتها أحد. ومن ~~ناحية أخرى، فإذا قرأنا الرسائل بإمعان وجدنا أن الحواريين، بالرغم من اتفاقهم ~~على الدين نفسه، كانوا يختلفون اختلافا ملحوظا على الأسس التي يقوم عليها. # 15 # فلكي يثبت بولس الناس في الدين ~~ويبين لهم أن الخلاص لا يتم إلا بالفضل الإلهي، علمهم أنه لا يحق لأحد أن ~~يتفاخر بأفعاله، بل بإيمانه فقط، وإن الأعمال لا تنقذ أحدا (انظر الرسالة إلى أهل ~~رومية، 3: 27-28)، # 16 # وأستخلص من ذلك عقيدة القدرية كلها. أما يعقوب فإنه على العكس من ذلك ~~يدعو في رسالته إلى أن خلاص الإنسان يتم بأعماله لا بإيمانه فقط # 17 ~~(انظر: رسالة يعقوب، 2: 24)، # 18 # ويجعل عقيدة الدين كلها تنحصر في هذه المبادئ القليلة وحدها، تاركا كل ~~مناقشات بولس جانبا. وأخيرا، لا شك في أن هذا الاختلاف في الأسس التي يقيم عليها ~~الحواريون الذي كان سببا لكثير من المنازعات والانقسامات التي ما زالت تعاني منها ~~الكنيسة منذ زمن الحواريين؛ لا شك أنها ستظل تعاني منها إلى الأبد، حتى يأتي اليوم ~~الذي ينفصل فيه الدين أخيرا عن التأملات الفلسفية ويقتصر على عدد صغير جدا من ~~العقائد الشديدة اليسر التي دعا إليها المسيح نفسه. أما الحواريون فلم يستطيعوا ذلك ~~لأن الناس كانوا يجهلون الإنجيل؛ وعلى ذلك فلكي لا يصدم الناس بشدة بهذه العقيدة ~~الجديدة، كيفها الحواريون بقدر استطاعتهم مع روح عصرهم (انظر الرسالة الأولى إلى ~~أهل كورنثة، 9: 19، 20 ... إلخ)، # 19 # وأقاموها على أكثر الأسس شيوعا وأوسعها قبولا في ذلك العصر؛ لذلك لم ~~يتفلسف أي حواري بقدر ما تفلسف بولس الذي دعا للتبشير بين الأمم. ~~أما الآخرون الذين كانوا يبشرون اليهود، المعروفين ~~باحتقارهم ms257 للفلسفة، فقد تكيفوا حسب روح اليهود (انظر في هذا الموضوع في الرسالة إلى ~~أهل غلاطية ، 2: 2 ... إلخ) # 20 # وعلموا الدين مجردا، خلوا من أية تأملات فلسفية. ولكم يسعد ~~عصرنا لو أمكننا أن نرى الدين وقد حرر فيه بدوره من كل خرافة. # الفصل الثاني عشر # | الميثاق الحقيقي للشريعة الإلهية وفي سبب تسمية الكتاب ~~مقدسا # في الميثاق الحقيقي للشريعة الإلهية وفي سبب تسمية الكتاب مقدسا ووصفه ~~بأنه كلام الله وفي أن الكتاب، بقدر ما يتضمن كلام الله، قد وصل إلينا دون ~~تحريف. ~~*** # إن من يعتقدون أن التوراة على ما هي عليه الآن رسالة من الله بعث ~~بها من السماء إلى البشر، لن يفوتهم أن يصرخوا قائلين بأني ارتكبت الخطيئة في حق ~~الروح القدس؛ إذ لقد قلت فعلا: إن كلام الله مزيف ومنقوص ومحرف، وإننا لا ~~نملك منه إلا شذرات، وإن الميثاق الذي يشهد بعقد الله عهدا مع اليهود قد فقد. ~~ومع ذلك، فإني لا أشك في أنهم لو وافقوا على فحص المسألة، لكفوا عن الاحتجاج. ~~والحقيقة أن نصوص الأنبياء والحواريين نفسها هي التي تشهد أكثر مما يشهد العقل نفسه، ~~بأن كلام الله الأبدي، وعهده والدين الحق، مسطور على نحو إلهي في قلب الإنسان ~~أي في الفكر الإنساني، وهذا هو الميثاق الحقيقي # 1 # الذي طبعه الله بخاتمه # 2 # أي بفكرته وكأنه طبعه بصورة لألوهيته. ففي المبدأ اعطي الدين لليهود ~~في صورة قانون مكتوب لأنهم كانوا وقتئذ أشبه بالأطفال. # 3 # ولكن موسى (التثنية، 30، 6) # 4 # وإرميا (31: 33) # 5 # تنبأ فيما بعد بأن زمانا سيأتي يسطر الله فيه الشريعة في قلوبهم. ~~وإذن فاليهود وحدهم، ولا سيما الصدوقيين منهم، # 6 # هم الذين كان عليهم أن يكافحوا من أجل قانون مكتوب على ألواح، أما من ~~كانوا يملكونه مدونا في قلوبهم فلم يكن عليهم أن يفعلوا شيئا من هذا، فمن يأخذ ~~ذلك في اعتباره لن يجد في الفصول السابقة شيئا مناقضا أو مكذبا لكلام الله أي ~~للدين الحق وللإيمان، بل على العكس سيرى أننا نوطد دعائمه، كما بينا أيضا في ~~نهاية الفصل العاشر. ولو لم يكن ما أقول ms258 صحيحا لكنت قد قررت التزام الصمت في جميع ~~هذه الموضوعات، ولسلمت راضيا، لكي أتجنب جميع المشكلات، بأن هناك أسرارا ~~عميقة مخبأة في الكتب المقدسة. ولكن لما كانت قد نشأت خرافات لا يمكن قبولها من ~~هذه الأسرار الكاذبة، التي هي مصدر كل الشرور الخطرة الأخرى التي تحدثت عنها في ~~مقدمة الفصل السابع، فقد رأيت أن من واجبي ألا أتخلى عن فحص هذه المسائل، خاصة ~~وأن الدين لا يحتاج إلى محسنات من الخرافة، بل على العكس تضيع روعته لو ~~زيناه بمثل هذه الأوهام. ولكن قد يعترض بأنه على الرغم من أن القانون الإلهي ~~مسطور في القلوب، فإن هذا لا يمنع من أن يظل الكتاب كلام الله، ومن ثم فلا يحق ~~لأحد أن يقول عن الكتاب إنه منقوص ومحرف، تماما كما لا يحق لأحد أن يقول ذلك عن ~~كلام الله. ولكني على العكس أخشى أن يؤدي التطرف في التقديس إلى تحويل الدين إلى ~~خرافة، وأن ينصرف الناس إلى عبادة التماثيل والصور، أي الورق المسود، بدلا من ~~كلام الله. وإني لأعلم أنني لم أقل شيئا ينال من الكتاب أو من كلام الله، لأني لم ~~أعرض شيئا لم أبرهن على صحته ببراهين واضحة للغاية؛ ولهذا السبب أيضا أستطيع أن ~~أؤكد واثقا أني لم أقل شيئا فيه كفر أو يشتم منه رائحة الكفر. وإني لأعترف ~~بأن بعض الذين يعدون الدين عبثا ثقيلا عليهم، قد يستخلصون من هذه الرسالة ما ~~يبيح لهم ارتكاب الإثم دون ما سبب سوى سعيهم وراء اللذات، وينتهون منها إلى أن ~~الكتاب برمته معيب ومحرف، وبالتالي فلا سلطة له. وأنا لا أستطيع شيئا حيال هذه ~~المساوئ، نظرا إلى هذه الحقيقة المعروفة وهي أنه يستحيل على الإنسان أن يقول شيئا ~~يبلغ من الصواب حدا يستحيل معه تشويهه أو إساءة تأويله. ومن يريد السعي وراء ~~اللذات يسهل عليه إيجاد المبررات لذلك، بل إن من كانوا، في الزمان الغابر، ~~يملكون الأصول وتابوت العهد، بل كان بينهم الأنبياء والحواريون، لم يكونوا أفضل ولا ~~أكثر طاعة، بل ظلوا ms259 جميعا - يهودا وغير يهود - على ما هم عليه، وظلت الفضيلة ~~نادرة للغاية في كل عصر . ومع ذلك، فإن من واجبي، لكي أزيل أي تحرج أن أبين هنا ~~أولا بأي معنى يقال عن الكتاب، أو عن أي شيء آخر ليس له صوت، إنه مقدس أو إلهي، ~~وثانيا ما هو كلام الله حقيقة، وإنه لا يوجد في عدد معين من الأسفار، وأخيرا ~~نبين أن الكتاب من حيث إنه يدعو إلى ما هو ضروري للطاعة والخلاص، لم يكن من ~~الممكن أن يحرف، وبذلك يسهل على المرء الحكم بأننا لم نقل شيئا مناقضا لكلام ~~الله، وأننا مبرءون من كل كفر. # يطلق اسم «مقدس» و«إلهي» على كل ما يؤدي إلى التقوى وإلى الدين، # 7 # ولا يظل الشيء مقدسا إلا إذا استمر الناس في استخدامه على نحو ~~ديني، فإذا لم يعودوا أتقياء، ضاعت قدسية ما كان مقدسا من قبل، فمثلا أطلق البطريق ~~يعقوب على مكان ما اسم «مسكن الله» لأنه عبد الله الذي أوحى إليه في هذا المكان. أما ~~الأنبياء فقد أطلقوا على المكان نفسه اسم «مسكن الطغيان» (انظر عاموس، 5: 5، هوشع، ~~10: 5) # 8 # لأن الإسرائيليين اعتادوا، تنفيذا لمشيئة ياربعام، على التضحية فيه ~~للأوثان. وهناك مثل آخر يوضح هذه المسألة تماما، وهو أن الكلمات لا تدل على معان ~~مضبوطة إلا في الاستعمال، فإذا كانت في هذا الاستعمال قادرة على أن تحث من ~~يقرءونها على التقوى، أصبحت هذه الكلمات مقدسة، وأصبح الكتاب الذي نظمت فيه هذه ~~الكلمات مقدسا، أما إذا حدث بعد ذلك أن بطل الاستعمال إلى حد أن الكلمات لا ~~يعود لها أي مدلول، أو أهمل الكتاب إهمالا تاما، إما لخبث البشر أو لأنهم لا ~~يعرفون ماذا يفعلون به، عندئذ تضيع فائدة الكلمات والكتاب معا، ولا تعود لهما أية ~~قداسة. وأخيرا، إذا اختلف مدلول الكلمات، أو شاع استعمالها بمدلولات مضادة، تصبح ~~الكلمات، وكذلك الكتاب، اللذين كانا مقدسين من قبل، دنسين لا قدسية فيهما. ~~نستنتج من ذلك أنه لا يوجد شيء على الإطلاق مقدس أو دنس لا قدسية فيه خارج ms260 ~~الفكر، بل إنه لا يكون كذلك إلا بالنسبة إلى الفكر، وهذا ما يمكن البرهنة عليه ~~بوضوح تام بنصوص عديدة من الكتاب. وسأعطي لذلك مثلا أو مثلين، يقول إرميا (7: 4) # 9 # إن يهود زمانه قد أطلقوا بطلانا على ~~معبد سليمان اسم معبد الله، ثم يعلل ذلك في الإصحاح نفسه بقوله: إن اسم الله لا ~~يمكن أن يرتبط بهذا المعبد إلا إذا كان الناس الذين يؤمونه يمجدون الله ~~ويدافعون عن العدالة، فإذا أمه القتلة واللصوص وعبدة الأوثان وسائر المجرمين، ~~يصبح حينئذ مأوى للأشرار. وكثيرا ما لحظت مدهشا أن الكتاب لا يذكر شيئا عن ~~مصير تابوت العهد، والأمر المؤكد أنه هدم أو حرق مع المعبد، مع أنه كان أعظم ~~المقدسات وأكثرها تبجيلا لدى العبرانيين؛ ولهذا السبب نفسه لا يكون الكتاب ~~مقدسا، ولا تكون نصوصه إلهية، إلا بقدر ما يحث الناس على تقوى الله، فإن ~~تخلوا كلية عن هذه التقوى، كما تخلى عنها اليهود من قبل، أصبح حبرا على ورق أو ~~ضاعت قدسيته كلية، وأصبح معرضا للتحريف، بحيث إنه لو حرف أو فقد، لكان من الخطأ ~~أن يقال إن كلام الله قد حرف أو فقد، وبالمثل كان من الخطأ أن يقال في زمان ~~إرميا: لقد التهمت النيران # 10 # المعبد، الذي كان وقتئذ معبد الله. وهذا ما يقوله إرميا عن الشريعة نفسها ~~عندما كان يسب كفار زمانه (8: 8): «كيف تقولون: نحن حكماء وشريعة الرب معنا؟ ~~إن قلم الكتبة الكاذب قد حولها إلى الكذب.» وهذا يعني أنه مع أن الكتاب بين ~~أيديكم فإنكم تكذبون إذا قلتم إنكم تملكون شريعة الله بعد أن جعلتموها كاذبة كل ~~الكذب. وكذلك عندما حطم موسى الألواح الأولى للتوراة، لم يقذف كلام الله مطلقا ولم ~~يحطمه بيديه غضبا (ومن ذا الذي يتصور ذلك وهو موسى وهذا كلام الله؟) # 11 # بل إن ما قذفه لم يكن إلا أحجارا، أعني أحجارا مقدسة من قبل، ~~لأن العهد الذي قطعه اليهود على أنفسهم كان مكتوبا عليها، ولكن بعد أن عبد اليهود ~~العجل، ومن ثم نقضوا هذا العهد، أصبحت هذه الأحجار خلوا ms261 من كل قدسية. وللسبب ~~نفسه ضاعت الألواح الثانية مع التابوت؛ لذلك، فليس هناك ما يدعو للدهشة إذا كانت ~~مخطوطات موسى الأصلية قد ضاعت، وإذا كانت الأسفار التي بين أيدينا قد لقيت المصير ~~الذي ذكرناه بعد أن ضاع تماما الأثر الأصلي بحق للميثاق الإلهي وهو أقدس الآثار ~~جميعا. فليكف خصومنا إذن عن اتهامنا بالكفر، نحن الذين لم نقل شيئا مناقضا ~~لكلام الله ولم ندنسه مطلقا، وليصبوا غضبهم - لو كان الغضب عن حق ممكنا ~~- على القدماء الذين دنسوا بخبثهم هيكل الله والشريعة وكل ما هو مقدس، ~~وعرضوها كلها للفساد. وأضيف أنه لو كانت في كل واحد منا كما يقول الحواري ~~(الرسالة الثانية إلى أهل كورنثة، 3: 3) # 12 # رسالة الله مكتوبة بروح الله لا بالمداد، وعلى لوح من اللحم وهو ~~القلب، لا على ألواح من الحجر، لكف الناس عن عبادة الحرف ولذهب قلقهم البالغ ~~عليه. # أعتقد أني شرحت على هذا النحو بما فيه الكفاية بأي معنى ينبغي أن ننظر إلى الكتاب ~~على أنه مقدس وإلهي، وعلينا الآن أن نرى ما المعنى الدقيق المقصود بلفظ «دبر يهوه» ~~(كلام الله). # 13 # تعني دبر: كلام، خطاب، أمر، شيء. ولكنا قد بينا في الفصل الأول ~~الأسباب التي يقال من أجلها عن الشيء في العبرية إنه ينتمي إلى الله أو يتعلق بالله، ~~وبذلك نعرف بسهولة ماذا يقصد الكتاب عندما يستعمل تعبيرات مثل كلمة الله وخطابه ~~ووصيته وأمره. فلا فائدة إذن من تكراره هنا أو من تكرار ما عرضنا له في النقطة ~~الثالثة من الفصل السادس ونحن نعالج موضوع المعجزات، # 14 # بل تكفي إشارة واحدة لإيضاح ما نريد قوله هنا على نحو أفضل. عندما يوصف ~~شيء لا يكون هو الله نفسه، بأنه كلام الله، فإن المقصود بذلك على وجه الدقة هذا ~~القانون الإلهي الذي عرضنا له في الفصل الرابع، أي هذا الدين الشامل، أو الكاثوليكي، ~~الذي يشارك فيه الجنس البشري كله، ويمكن الرجوع في هذا الموضوع إلى أشعيا (1: 10 ... إلخ)، # 15 # حيث تعلم الطريقة الصحيحة للحياة، التي لا تتكون من طقوس، بل من إحسان ~~وصدق ms262، وحيث يسميها النبي كلام الله وشريعته دون تمييز، وكذلك تستخدم الكلمة ~~مجازيا لكي تدل على نظام الطبيعة نفسه، وعلى القدر (لأنهما يعتمدان على الأمر ~~الأزلي للطبيعة الإلهية ويصدران عنه) ولكي تدل بوجه خاص على ذلك الجزء من نظام ~~الطبيعة، الذي تنبأ به الأنبياء؛ وذلك لأنهم لم يكونوا يدركون الأشياء المستقبلة ~~بعللها الطبيعية، بل بوصفها قرارات وأوامر إلهية. وتستعمل الكلمة أيضا للدلالة ~~على كل أمر نبوي، بقدر ما يكون قد أدركه بقدرته التي يتفرد بها، أو بهبة ~~النبوة، لا بالنور الطبيعي الذي يشارك فيه الجميع، خاصة وقد اعتاد الأنبياء بالفعل ~~تصور الله كمشرع، كما بينا ذلك في الفصل الرابع. لهذه الأسباب الثلاثة إذن سمي ~~الكتاب كلام الله؛ أولا: لأنه يعلم الدين الصحيح الذي وضعه الله أزليا. ثانيا: ~~لأنه يتنبأ في صورة رواية بالمستقبل بقدر ما قضى به الأمر الإلهي؟ ثالثا: لأن ~~مؤلفيه الحقيقيين كانوا في معظم الأحيان يدعون إلى ما حصلوا عليه بنور خاص بهم، ~~لا بالنور الفطري، وجعلوا الله نفسه هو الذي يتحدث. وعلى الرغم من أن جزءا من ~~محتوى الكتاب مجرد تاريخ يمكن إدراكه بالنور الفطري، فإن الاسم مستمد مما ~~يؤلف المضمون الأساسي للكتاب، بذلك ندرك بسهولة بأي معنى يجب أن نتصور الله ~~كمؤلف للتوراة؟ هذا المعنى هو أن التوراة تعلمنا الدين الصحيح، لا أن الله ~~أراد أن يعطي البشر عددا معينا من الكتب. ونستطيع أيضا أن نفهم سبب تقسيم الكتاب ~~إلى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد؛ ذلك لأن الأنبياء قبل ظهور المسيح كانوا ~~يبشرون بالدين على أنه قانون الأمة الإسرائيلية فحسب، ويستمدون قوتهم من ~~العهد الذي أبرم زمن موسى، على حين بشر الحواريون بعد ظهور المسيح بالدين نفسه ~~لجميع الناس بوصفه قانونا كاثوليكيا، واستمدوا قوتهم من آلام المسيح. وهذا لا ~~يعني اختلاف أسفار العهد الجديد في العقيدة عن أسفار العهد القديم أو أنها كتبت ~~كميثاق لعهد ما، أو أن الدين الكاثوليكي، وهو دين طبيعي إلى أقصى حد، # 16 # كان جديدا، إلا بالنسبة إلى الناس الذين لم يعرفوه من ms263 قبل. ومن هنا قال ~~يوحنا كاتب الإنجيل (1: 10): «كان في العالم ... والعالم لم يعرفه.» ولو كان لدينا عدد ~~أقل من أسفار العهد القديم او الجديد، لما أدى ذلك إلى حرماننا من شيء من كلام الله ~~(الذي ينبغي أن يكون معناه، كما قلنا، الدين الصحيح)، مثلما لا يمكن أن يؤدي ضياع ~~كتب أخرى كثيرة في غاية الأهمية إلى حرماننا من أي شيء فيه مثل سفر الشريعة الذي ~~كان محفوظا في المعبد على نحو ديني كميثاق للعهد، وكذلك كتب الحروب والأخبار وعدد ~~كبير آخر أخذت منه الأسفار التي لدينا في العهد القديم ثم جمع ذلك كله فيما ~~بعد. هذا فضلا عن وجود أسباب أخرى تؤيد ذلك، هي: ~~(1) # لم تدون أسفار العهدين والقديم والجديد بتفويض خاص في عصر واحد، ~~يسري على كل الأزمان، بل جاء تدوينها مصادفة، وقصد بها أناس ~~معينون، ودونت بحيث تلائم مقتضيات العصر والتكوين الشخصي لهؤلاء ~~الناس، وهذا ما تدل عليه رسالات الأنبياء (الذين أرسلوا نذيرا لكفار ~~عصرهم) وكذلك رسائل الحواريين. ~~(2) # تختلف معرفة الكتاب وفكر الأنبياء عن فهم فكر الله أي الحقيقة. # 17 # وقد برهنا على ذلك في الفصل الثاني الخاص بالأنبياء، ~~وينطبق هذا البرهان أيضا على الروايات وعلى المعجزات، كما بينا في ~~الفصل السادس، وعلى العكس من ذلك لا تنطبق هذه التفرقة على الفقرات التي ~~تتحدث عن الدين الصحيح والفضيلة الحقة. ~~(3) # تم اختيار أسفار العهد القديم من بين أسفار كثيرة أخرى، ثم ~~جمعها وأقرها مجلس الفريسيين، وكذلك قبلت أسفار العهد الجديد ضمن ~~المجموعة المقننة بقرار بعض المجامع الكنسية التي رفضت في الوقت نفسه ~~أسفارا أخرى كثيرة بوصفها منعدمة القيمة، مع أن كثيرا من الناس كانوا ~~يقدسونها. على أن أعضاء هذه المجامع الكنسية (سواء مجامع الفريسيين أم ~~مجامع المسيحيين) لم يكونوا أنبياء، بل كانوا من ذوي الخبرة والفقهاء فحسب. ~~ومع ذلك يجب أن نعترف بأنهم أخذوا كلام الله قاعدة لاختيارهم؛ وعلى ذلك ~~فلا بد أنهم عرفوا كلام الله قبل موافقتهم على جميع الأسفار. ~~(4) # لم يكتب الحواريون (كما قلنا في الفصل السابق) بوصفهم ms264 أنبياء بل ~~بوصفهم فقهاء، واختاروا أسهل الطرق لتعليم التلاميذ الذين يودون ~~تكوينهم؛ وبالتالي فإن رسائلهم تتضمن (كما قلنا في نهاية الفصل نفسه) ~~أشياء كثيرة يمكن الاستغناء عنها، دون أن يلحق ذلك أي ضرر ~~بالدين. ~~(5) # وأخيرا، فهناك أربعة أناجيل في العهد الجديد. ومن منا يستطيع أن ~~يعتقد أن الله أراد أن يقص سيرة المسيح وأن يبلغه للبشر أربع ~~مرات؟ لا شك أنه يوجد في كل إنجيل أشياء معينة لا توجد في ~~غيرها، وأن كل إنجيل يساعد على فهم الآخر. ومع ذلك، لا ينبغي أن ~~نستنتج من ذلك أن من الضروري معرفة كل ما يرويه كتاب الأناجيل ~~الأربعة، وأن الله قد اختارهم كتابا حتى يعرف الناس سيرة المسيح ~~على نحو أفضل، فلقد بشر كل واحد منهم بإنجيله في مكان خاص، وكتب ~~كل منهم ما بشر به، لا لشيء إلا لكي يروي سيرة المسيح بطريقة أوضح، ~~لا لكي يشرح الأناجيل الأخرى. فإذا كانت مقارنة الأناجيل تؤدي أحيانا ~~إلى فهم المرء لها على نحو أفضل وأيسر، فإن ذلك يحدث مصادفة، وبالنسبة ~~إلى عدد محدود من النصوص، يمكننا أن نتجاهلها دون أن تصبح السيرة، ~~نتيجة لذلك، أقل وضوحا، أو يصبح الناس أقل قدرة على السعادة ~~الروحية. # وهكذا بينا أن الكتاب قد سمي عن حق كلام الله، وذلك من وجهة نظر الدين ~~وحدها، أي من وجهة نظر القانون الإلهي الشامل، ولم يبق لنا إلا أن نبين أنه لا ~~يمكن أن يكون مختلفا أو محرفا أو منقوصا، بقدر ما يكون هذا الاسم منطبقا ~~عليه. وأود أن ألفت النظر هنا إلى أني أسمي النص مختلفا ومحرفا ومنقوصا ~~عندما يكون قد ساء التأليف والكتابة إلى حد لا يمكن معه التعرف على معناه، سواء ~~بالرجوع إلى الاستعمال اللغوي أو باستخلاصه من الكتاب وحده. ولست أعني بذلك أن ~~الكتاب، بقدر ما يحتوي على الشريعة الإلهية، كان له دائما النقط نفسه والحروف نفسها ~~والكلمات نفسها (وأترك للماسوريين # 18 # ولمن يعبدون الحرف بطريقة خرافية أمر البرهنة على ذلك)، بل أعني فقط ~~أن المعنى الذي ms265 من أجله وحده يسمى النص إلهيا، وصل إلينا دون تشويه، وإن كانت ~~الكلمات التي استخدمت أولا للتعبير عنه قد تغيرت مرات كثيرة، وهذا لا ينقص ~~مطلقا من ألوهية الكتاب لأنه يظل إلهيا وهو مكتوب بكلمات أخرى وبلغة أخرى. ~~فلا يمكن إذن أن يشك أحد في أن الشريعة بهذا المعنى، وقد وصلت إلينا دون تحريف؛ ~~لأننا ندرك بالكتاب نفسه، ودون أية صعوبة أو أي اشتباه، أن الشريعة تتلخص في هذه ~~الوصية: حب الله فوق كل شيء، وحب المرء لجاره كما يحب نفسه. ونحن واثقون ~~من أن هذه الوصية لا يمكن أن تكون نتيجة للتحريف، ولم يكتبها قلم متسرع، أو ~~متهم بالأخطاء، ولو كان الكتاب قد أعطى تعاليم مختلفة، لاختلفت تعاليمه أيضا في ~~جميع الموضوعات الأخرى؛ لأن هذه الوصية أساس الدين كله، بحيث إن محوها يؤدي ~~إلى هدم البناء كله في الحال، وبالتالي، فإن كتابا لا يدعو إلى ذلك لن يصبح ~~كتابا مقدسا، بل يكون كتابا مختلفا كل الاختلاف. فنحن إذن على يقين تام من أن ~~تعاليم الكتاب كانت كذلك دائما، وأنه لا يمكن، في هذا الصدد، لأي خطأ عرضي أن ~~يغير معنى هذه التعاليم وإلا اكتشف فورا، كما لا يمكن لأحد تزييف هذه ~~التعاليم إلا وظهر إثمه باديا للعيان. ولكن لما كان علينا أن نسلم بأن هذا ~~الأساس ظل دون إفساد، فيجب أن نعترف أيضا بجميع النتائج التي تترتب عليه دون ~~مناقشة، والتي تتسم بالطابع الأساسي نفسه؛ وهي أن الله موجود، وأن عنايته شاملة، ~~وأنه قادر على كل شيء، وأن أمره يقضي بأن يكون التقي سعيدا والعاصي شقيا، وأن ~~خلاصنا يتم بفضله وحده. ويعلم الكتاب ذلك كله بوضوح في جميع مواضعه، وكان لا ~~بد أن يعلمه دائما، وإلا لكان كل شيء آخر فيه عبثا لا أساس له. أما باقي ~~الحقائق الخلقية فإنها خالية أيضا من أي فساد، لأنها تنتج بوضوح من هذا الأساس ~~الشامل. مثال ذلك، الحرص على العدالة، ومساعدة المحتاج، والامتناع عن القتل، وعدم ~~التطلع إلى ما يملكه الغير ... إلخ ms266. أقول: إن شر الناس لم يمكنه أن يزيف من ~~هذه الحقائق شيئا، ولم يمح الزمان أقل قدر منها. وإذا كان قد حدث لها أي انهيار ~~جزئي، فإن أساسها الشامل كان كفيلا بإعادة بنائها كاملا في الحياة، وخاصة تعاليم ~~الإحسان التي يوصي بها العهدان في كل مواضعهما باعتبارها أهم الفضائل. ولنضف ~~إلى ذلك، أنه على الرغم من أن الإنسان قد ارتكب من الجرائم الشنعاء كل ما يمكن ~~تصوره، فلن يحاول أحد مع ذلك - كيما يجد عذرا لجريمة - أن يهدم القوانين، أو أن ~~يقدم قاعدة فاسقة بوصفها إحدى التعاليم الأزلية النافعة للخلاص. والحق أن ~~الطبيعة البشرية تتبدى دائما بحيث إنه إذا اقترف أحد جرما (سواء أكان ملكا أم من ~~الرعية) فإنه يحاول أن يحيطه بظروف كفيلة تجعل الناس يظنونه بريئا من كل جرم في ~~حق العدالة وفي حق الشرف، ففي استطاعتنا إذن أن نستنتج عن حق أن القانون الإلهي ~~الشامل الذي علمه الكتاب قد وصل إلينا كاملا دون أي تحريف. وبالإضافة إلى ذلك، هناك ~~بعض الموضوعات الأخرى التي لا يمكن الشك فيها لأن لدينا عنها تراثا جديرا ~~بالثقة، مثل جوهر روايات الكتاب، لأنها تروي وقائع معروفة ومشهورة لدى الجميع. فقد ~~اعتاد العامة من اليهود تذكر وقائع التاريخ الوطني عن طريق إنشاد المزامير، وكذلك عرف ~~الناس في كافة أنحاء الإمبراطورية الرومانية جوهر أفعال المسيح وآلامه، فلا يمكننا ~~أن نظن أن الخلف قد نقل إلينا جوهر هذا التاريخ على غير ما تلقاه إلا إذا ~~افترضنا تواطؤ السواد الأعظم من الجنس البشري. # وهذا أمر بعيد عن التصديق. وإذن فلم يكن من الممكن أن تقع التغييرات والأخطاء إلا ~~فيما بقي من الأمور؛ أعني في واحدة أو أخرى من ملابسات الرواية أو النبوة التي ~~تفيد في حث الشعب على التقوى، أو في هذه المعجزة أو تلك التي تقدم لبعث الارتباك ~~في عقول الفلاسفة، أو في الموضوعات التأملية التي أدخلتها الفرق المتنازعة في ~~الدين، حتى يتسنى لكل فرقة إيجاد ضمان من السلطة الإلهية لبدعها. ولكن لا يهم ~~كثيرا ms267 للحصول على الخلاص أن تكون هذه الأمور قد زيفت أم لا. وسأبين ذلك صراحة ~~في الفصل التالي، وإن كنت أعتقد أنني قد أقمت البرهان عليه من قبل، وخاصة في ~~الفصل الثاني. # الفصل الثالث عشر # | الكتاب لا يحتوي إلا على تعاليم يسيرة # وفيه نبين أن الكتاب لا يحتوي إلا على تعاليم يسيرة للغاية ولا ~~يحث إلا على الطاعة، وتقتصر عقيدته في الطبيعة الإلهية على ما يمكن ~~اتخاذه قاعدة عملية في حياة الناس اليومية. ~~*** # بينا في الفصل الثاني من هذه الرسالة أن الأنبياء كانت لهم ~~مقدرة فريدة على الخيال وحده، لا على المعرفة، وأن الله لم يوح لهم بأمور فلسفية ~~عميقة، بل بأفكار يسيرة للغاية، # 1 # وضعت بحيث تلائم الأحكام المسبقة لكي نبي، # 2 # كما بينا في الفصل الخامس أن الكتاب لم يقدم إلا تعاليم يسهل ~~إدراكها لأي فرد؛ لذلك لم يستعمل المنهج الاستنباطي الذي يبدأ من بديهيات وتعريفات ~~تتسلسل منها القضايا، ولكنه اقتصر على إعطاء حقائق يقصد منها أن يؤمن بها الناس، ثم ~~أيدها بالتجربة وحدها، أي بالمعجزات # 3 # وبالروايات التاريخية، واستعمل في هذه الروايات أكثر الأساليب والتعبيرات ~~قدرة على التأثير في العامة. ويمكن الرجوع في هذا الصدد إلى ما برهنا عليه من ~~قبل في النقطة الثالثة من الفصل السادس. # 4 # وأخيرا، بينا في الفصل السابع أن الصعوبة كلها في فهم دروس الكتاب ~~ترجع إلى اللغة وحدها، لا إلى عمق الموضوع، لا سيما أن الأنبياء لم يبشروا ~~لاهوتيين متعمقين، بل بشروا كل اليهود على الإطلاق، كما اعتاد الحواريون عرض ~~عقيدة الإنجيل في الكنائس، حيث يجتمع عامة المؤمنين. هذه الظروف المختلفة أسهمت ~~في جعل الكتاب مجموعة من الحقائق اليسيرة للغاية تدركها أكثر الأذهان خمولا، لا ~~مجموعة من التأملات الخالصة والنظريات الفلسفية؛ لذلك أجد نفسي عاجزا عن التعبير عن ~~دهشتي من التكوين الذهني لأولئك الذين تحدثت عنهم من قبل، والذين يرون في ~~الكتاب أسرارا بلغت من العمق حدا لا يمكن شرحها بأية لغة، والذين أقحموا في ~~الدين من التأملات الفلسفية ما جعل الكنيسة تتحول إلى أكاديمية، والدين ms268 يصبح ~~علما، بل جدلا. لا عجب إذن ألا يعترف أناس يتفاخرون بأن لديهم نورا أعلى من ~~النور الفطري، بأنهم أقل علما من الفلاسفة الذين لم يتعدوا حدود النور الفطري. ومن ~~المؤكد أنني سأتعجب كثيرا لو وجدت لدى هؤلاء الناس شيئا جديدا في ميدان ~~التأمل الخالص، أعني شيئا لا يكون مألوفا، بل تافها بالنسبة إلى فلسفة غير اليهود ~~(الذين يتهمهم هؤلاء مع ذلك، بأن بصيرتهم كانت عمياء!) فإذا نظرنا إلى هذه ~~الأسرار التي يخبئها الكتاب، والتي يدعون أنهم وحدهم القادرون على الكشف عنها، ~~فلن نجد فيها إلا بعضا مما ابتدعه أرسطو وأفلاطون أو من يشابههما، يستطيع أي ~~شخص من سذج العقول أن يؤلفها في حلمه بعناء أقل مما يبذله أعظم العلماء ~~عندما يستخلصها من الكتاب. وليس معنى هذا أننا نرفض على الإطلاق التسليم بوجود بعض ~~الحقائق النظرية الخالصة في الكتاب، لأننا ذكرنا بعض هذه الحقائق في الفصل السابق، ~~وأعلنا أنها أساسية في الكتاب ولكن أقول: إن هناك قدرا ضئيلا من هذا النوع، ~~وإن هذا القدر الضئيل يسير للغاية. وسأحاول الآن أن أبين ما هي هذه الحقائق، ~~والمنهج الذي يمكن به تحديدها، وسوف يسهل علينا ذلك لو عرفنا أن هدف الكتاب لم يكن ~~تلقيننا العلوم؛ إذ إننا حينئذ نستطيع أن نستنتج من هذا أنه يطلب من الناس الطاعة ~~وحدها، ويدين العصيان لا الجهل، ولكننا نعلم أن طاعة الله تنحصر كلها في حب ~~الجار (إذ يؤكد بولس في الرسالة إلى أهل رومية (13: 8) # 5 # أن من يحب جاره، أعني من يحبه طاعة لله، تتحقق لديه الشريعة)، ~~وبالتالي لا يوصي الكتاب بأية معرفة إلا المعرفة اللازمة لجميع الناس حتى يطيعوا ~~الله وفقا لوصيته، وهي المعرفة التي يصبحون بدونها عاصين أو على الأقل يفتقرون ~~إلى كل قاعدة للطاعة. أما التأملات النظرية التي لا ترمي مباشرة إلى تحقيق هذا ~~الغرض - سواء أكانت متعلقة بمعرفة الله أم بمعرفة الأشياء الطبيعية - فإنها لا تنتمي ~~إلى صميم الكتاب، ويجب فصلها عن الدين الموحى به. # ومع أن باستطاعة كل فرد كما قلنا ms269 من قبل أن يدرك بسهولة ما قلته، فإنه لما ~~كان هذا الأمر يقرر مصير نظرتنا إلى الدين بأسره، فإني سأقدم برهانا أدق ~~وشرحا أوضح لما أقول؛ ولهذا الغرض يجب أن نبين: أولا أن المعرفة العقلية، أي ~~المعرفة الصحيحة لله، # 6 # ليست كالطاعة هبة لكل المؤمنين. ثانيا أن المعرفة الوحيدة التي طلبها ~~الله من جميع الناس بلا استثناء، على لسان الأنبياء، والتي لا يمكن إعفاء أحد منها، ~~هي معرفة العدالة الإلهية والإحسان الإلهي. ومن السهل استخلاص هاتين الحقيقتين من ~~الكتاب ذاته: ~~(1) # هناك نص واضح كل الوضوح في سفر الخروج (1: 3) يقول الله فيه لموسى ~~كي يبرز له عظمة الفضل الذي أكرمه به: «أنا الذي تجليت لإبراهيم ~~وإسحاق ويعقوب إلها قادرا على كل شيء، وأما اسمي يهوه فلم أعلنه ~~لهم.» ولكي نشرح هذا النص يجب أن نلحظ أن «الشداي» تعني بالعبرية «الله الكافي» # 7 # لأنه يعطي كل فرد ما يكفيه، ومع أن لفظ «سداي» يستعمل في ~~كثير من الأحيان بمفرده للدلالة على الله، فإنه يجب ولا شك أن نفهم ~~ضمنا كلمة «ال» أي الله، على الدوام، كذلك يجب أن نلحظ أننا لا نجد ~~مطلقا في الكتاب اسما آخر غير «يهوه» للتعبير عن ماهية الله المطلقة، ~~التي لا تربطها صلة بالمخلوقات؛ ولذلك يقول العبرانيون: إن هذا الاسم، ~~وحده هو الذي ينتمي إلى الله بالمعنى الصحيح، أما الأسماء الأخرى فلا ~~تشير إلا إلى صفاته. والواقع أن التسميات الأخرى لله، التي يستخدم ~~فيها الاسم أو الصفة، تعبر إما عن صفات ملائمة له في علاقته ~~بالمخلوقات، أو عن تجليه من خلالها؛ فمثلا «ال - و» مع الحرف الزائد «ه» ~~«ألوه»، تعني فقط قادر - كما هو معروف. وعلى ذلك فهذا الاسم لا يلائم لله، ~~بمعنى أنه وحده هو «القادر» كما نقول إن بولس وحده هو الحواري. وباستثناء ~~هذه الحالة، تضاف صفات إلى هذه الكلمة «ال» للتعبير عن صفات هذه القدرة ~~مثل: العظيم، الجبار، العادل، الرحيم ... إلخ. أو إذا أردنا فهم هذه الصفات ~~المختلفة مرة واحدة استعملنا الكلمة في صيغة الجمع لتفيد ms270 المفرد، ويكثر ~~استعمال هذه الطريقة دائما في الكتاب، ومن ثم فعندما يقول الله لموسى ~~في الفقرة المذكورة: إنه لم يكشف عن نفسه قبل ذلك لآبائه باسم يهوه، يعني ~~أن العبرانيين القدماء لم يعرفوا أية صفة لله تدل على ماهيته ~~المطلقة، ولم يعرفوا إلا آثاره ووعوده، أي إنهم عرفوا مظاهر القدرة ~~الإلهية من خلال الأشياء الحسية. ولنلحظ أن الله يتحدث إلى موسى ~~هكذا، لا ليتهم قدماء العبرانيين بالكفر، بل على العكس ليثني على ~~تصديقهم وإيمانهم، فمع أنهم لم يعرفوا الله معرفة حقة مثل معرفة موسى ~~له، فإنهم صدقوا وعود الله القاطعة التي لا تخلف، على حين أن موسى ~~شك في الوعود بالرغم من أفكاره الأكثر عمقا، التي كونها عن الله، ~~واعترض على الله بأنه وضع اليهود في أسوأ المواقف بدلا من أن ~~يمنحهم الخلاص الموعود. وإذن فلما كان الأجداد قد جهلوا اسم الله ~~الحقيقي وأخبر الله موسى بهذا الجهل ليثني على سماحة نفوسهم وصدق ~~إيمانهم، وليذكر موسى بالفضل الفريد الذي وهبه إياه، فإننا نستطيع ~~أن نصل من هذا إلى نتيجة أولى واضحة كل الوضوح، وهي أنه لا يمكن لأي ~~أمر أن يجبر الناس على معرفة صفات الله، # 8 # وأن هذه المعرفة هبة خاصة لعدد قليل من المؤمنين، ولا ~~حاجة بنا من أجل البرهنة على ذلك إلى الاستشهاد بنصوص من الكتاب، ألا يبدو ~~واضحا حقيقة أن معرفة جميع المؤمنين بالله لم تكن متساوية؟ ألا يبدو ~~واضحا أن مجرد الحصول على أمر لا يكفي لاكتساب الحكمة (أو الحياة أو ~~الوجود)؟ إن الرجال والنساء والأطفال # 9 # لديهم القدرة نفسها على إطاعة الأمر، ولكن ليس على ممارسة ~~الحكمة. وإذا اعترض أحد قائلا بأننا لا نحتاج إلى معرفة صفات الله بل ~~نحتاج إلى الإيمان به في يسر ودون برهان، كان ردي هو أن الاعتراض ~~ينطوي على مغالطة # 10 # لأن الأشياء غير المنظورة التي هي موضوعات للفكر وحده، لا ~~يمكن إدراكها إلا بالبرهان. وإذن فمن بلا برهان لديه، لا يستطيع أن ~~يدركها على الإطلاق، ويصبح كل ما يقوله مما عرفه ms271 سماعا عن مثل هذه ~~الأشياء، غير مرتبط بفكره أو معبرا عنه، شأنه في ذلك شأن أصوات ~~ببغاء أو جهاز آلي لا يدل على أي معنى أو أي فكر. على أنني أرى من ~~واجبي، قبل أن أستمر في ملاحظاتي، أن أبين السبب الذي من أجله يصرح ~~سفر التكوين في كثير من الأحيان بأن البطارقة بشروا باسم يهوه، وهو ما ~~يبدو مناقضا تماما لما ذكرناه من قبل، على أننا لو عدنا بأذهاننا إلى ~~النتائج التي توصلنا إليها في الفصل الثامن، لاتضح لنا بسهولة أن ~~هذا التناقض ظاهري محض، فقد رأينا أن مؤلف الأسفار الخمسة لا يشير إلى ~~الحوادث والأماكن بالأسماء المتداولة في العصر الذي حدثت فيه القصة، بل ~~بالأسماء التي كانت شائعة في العصر الذي عاش هو نفسه فيه. وإذن فإله ~~البطارقة قد سمي في سفر التكوين باسم يهوه، لا لأن الأجداد أطلقوا ~~عليه هذا الاسم، بل لأن هذا الاسم أصبح فيما بعد يبعث على الاحترام ~~الشديد عند اليهود، وهذا التفسير الذي أقدمه هو التفسير الوحيد المقبول ~~لأن نص «الخروج» يصرح بأن البطارقة لم يعرفوا الله باسم يهوه، وكذلك ~~نجد في الخروج (3: 13) # 11 # أن موسى أراد أن يعرف اسم الله، فلو كان اسم يهوه معروفا من ~~قبل لما جهله موسى على الأقل، وإذن فيجب التسليم بما أردنا إثباته من أن ~~البطارقة المؤمنين لم يعرفوا اسم الله هذا، وأن معرفة الله هبة من الله، ~~لا أمر منه. # وسنحاول الآن البرهنة على النقطة الثانية، وهي أن الله لم يطلب على ~~لسان الأنبياء أن يعرف الناس عنه إلا عدله وإحسانه، أي الصفات التي ~~تعطي الناس قاعدة عملية للحياة؛ فهذا ما يدعو إليه إرميا بأصرح ~~العبارات. فلننظر مثلا إلى ما يقوله عن الملك يوشيا (22: 15-16): «أما ~~أكل أبوك وشرب وأجرى الحق والعدل، وحينئذ كان له خير. لقد أجرى الحكم ~~للبائس والمسكين وحينئذ كان خيرا. أليست هذه هي معرفته (لاحظ ذلك جيدا) ~~يقول الرب.» وهناك نص آخر لا يقل عن ذلك وضوحا (9: 24): «فليفتخر ~~المفتخر بأنه يفهم ويعرفني أنا الرب ms272 المجري الرحمة والحكمة والعدل في ~~الأرض لأني بهذه ارتضيت.» ونجد الدعوة نفسها في الإصحاح 34 من الخروج ~~(الآيات 6، 7)، # 12 # حيث لا يكشف الله عن صفاته لموسى، الذي يود معرفته ورؤيته، ~~إلا ما يظهر فيها عدله وإحسانه. وكذلك يجب أن نذكر، قبل أي نص آخر، ~~نصا ليوحنا سنعود إلى الحديث عنه بعد قليل؛ إذ لا يذكر يوحنا عن الله إلا ~~إحسانه لأن الله لا تدركه أبصار الخلق جميعا. وينتهي يوحنا من ذلك إلى ~~أن من يعمل الإحسان هو وحده الذي يدرك الله حقيقة، وهو الذي يعرفه. وهكذا ~~يرى إرميا وموسى ويوحنا أن معرفة الله التي يلتزم بها كل فرد تنحصر في ~~عدد قليل جدا من الصفات، # 13 # هي، كما عرضنا، أن الله عادل عدلا مطلقا ورحيم رحمة مطلقة، ~~أي أنه النموذج الفريد للحياة الحقة. هذا فضلا عن أن الكتاب لا يعطي ~~أي تعريف صحيح لله، ولا يطلب من المؤمنين أن يدركوا من صفات الله إلا ~~ما ذكرناه الآن، ولا يوحي صراحة بأية صفات أخرى. وننتهي من ذلك كله إلى ~~أن المعرفة العقلية لله، التي تصل إلى الطبيعة الإلهية في ذاتها، وهي ~~الطبيعة التي لا يعرف الناس كيف يتخذونها قاعدة عملية في الحياة ~~اليومية، أو يجعلونها أنموذجا تستمد منه قاعدة صحيحة للحياة؛ أقول: إن ~~هذه المعرفة العقلية لا تنتمي في شيء إلى الإيمان وإلى الدين الموحى به، ~~وبالتالي يستطيع الناس أن يخطئوا فيها كما يشاءون دون أن يرتكبوا جرما. ~~وإذن فليس هناك ما يدعو للدهشة إذا كان الله قد تلاءم مع خيال الأنبياء ~~وتصوراتهم المسبقة أو إذا تصور المؤمنون الله تصورات مختلفة كل ~~الاختلاف، كما بينا بأمثلة كثيرة في الفصل الثاني، وليس هناك أيضا ما ~~يدعو للدهشة إذا وجدنا الكتب المقدسة تتحدث عن الله بألفاظ لا تليق به، ~~فتنسب إليه يدين وقدمين وعينين وأذنين، كما تنسب إليه حركات في المكان # 14 # وانفعالات للنفس كالغيرة والرحمة ... إلخ. وكذلك تصفه كقاض ~~يستوي في السموات على عرش ملكي والمسيح على يمينه. والواقع أن الكتاب ~~يتحدث على مستوى فهم العامة ms273 الذين يهدف الكتاب إلى أن يجعلهم مطيعين، ~~لا متفقهين، على أن عامة اللاهوتيين عندما أدركوا بالنور الطبيعي أن ~~صفة معينة من هذه الصفات التي تعطى لله لا تتفق مع الطبيعة الإلهية ~~طالبوا بالالتجاء إلى التفسير المجازي، وبأن من الواجب، على العكس من ~~ذلك، أن يقبل حرفيا كل ما يتجاوز حدود فهمهم. ولكن لو كان من الواجب ~~تفسير جميع نصوص الكتاب من هذا النوع تفسيرا مجازيا، لوجب أن نسلم بأن ~~النص لم يكتب للعامة والجهلة، بل كان موجها إلى أكثر الناس خبرة ~~ومعرفة، وإلى الفلاسفة بوجه خاص. والواقع أنه لو كان التسليم بروح تقية ~~صافية بالمعتقدات التي ذكرناها، بدافع من التقوى وصفاء النفس، كفرا، ~~لحرص الأنبياء أشد الحرص على تجنب مثل هذه العبارات، وذلك على الأقل ~~لضعف ذهن العامة، وليعبروا عن الصفات الإلهية، على النحو الذي ينبغي ~~على كل فرد إدراكها عليه بوضوح وصراحة، ولكن الأنبياء لم يفعلوا ذلك. ~~وإذن فلا ينبغي الاعتقاد بأن الآراء في ذاتها - بغض النظر عن الأعمال - ~~تنطوي على أي قدر من الإيمان أو الكفر، فنحن نقول عن الاعتقاد الإنساني ~~أنه ينطوي على إيمان أو كفر بقدر ما يحث المؤمنين به على الطاعة، أو ~~يبيح لهم الخطيئة والعصيان؛ وعلى ذلك فإن من يصح اعتقاده ويعصي، يكذب ~~إيمانه، وعلى العكس فإن من يخطئ في اعتقاده ويطيع، يصدق إيمانه؛ ذلك ~~لأن معرفة الله الحقيقية، كما بينا، ليست أمرا بل هبة إلهية، والله ~~لم يطلب من الناس إلا معرفة عدله وإحسانه، وهي معرفة لا تطلب من أجل ~~العلم، بل من أجل الطاعة وحدها. # الفصل الرابع عشر # | ما هو الإيمان؟ وأي الناس هم المؤمنون؟ # ما هو الإيمان؟ وأي الناس هم المؤمنون؟ تحديد أركان الإيمان، وأخيرا الفصل ~~بين الإيمان والفلسفة. # 1 ~~*** # لا بد لنا، لكي نكتسب معرفة حقيقية بالإيمان، من أن نكون على ~~علم بأن الكتاب مهيأ بحيث يتلاءم مع فهم الأنبياء، بل ومع فهم عامة اليهود في ~~تباينهم وتقلبهم، وتلك حقيقة لا يمكن أن يجهلها أحد حتى بعد فحص سريع للموضوع؛ ~~ذلك ms274 لأننا قبلنا مضمون الكتاب كله بلا تمييز على أنه عقيدة شاملة مطلقة عن الله، ~~ولو لم نحرص على أن نميز فيه ما وضع على قدر أفهام العامة، لتعرضنا لا محالة ~~للخلط بين أفكار العامة والعقيدة الإلهية، والنظر إلى بدع الإنسان وما يزينه له ~~هواه من أحكام، على أنها تعاليم إلهية، ولأسأنا استعمال سلطة الكتاب، فهل يصعب علينا ~~أن ندرك أن هذا الخلط هو المسئول عما يدعو إليه مؤسسو الفرق من آراء عديدة، ~~مختلفة فيما بينها كل الاختلاف، يتخذونها أركانا للإيمان، ويؤيدونها بنصوص ~~كثيرة من الكتاب، حتى شاع بين الهولنديين منذ القدم مثل يقول: «ما من مجدف ~~إلا ويستند إلى نص.» # 2 # والواقع أن الكتب المقدسة ليس لها مؤلف واحد، ولم تكتب للعامة ~~الذين عاشوا في عصر بعينه، بل هي من عمل عدد كبير من الناس ذوي أمزجة مختلفة ~~عاشوا في عصور مختلفة. وإذا أردنا أن نحصي العصور التي تفصل بينها وجدناها ألفي عام ~~وربما أكثر، أما مؤسسو الفرق هؤلاء فلا نريد اتهامهم بالكفر لمجرد كونهم ~~قد أولوا كلام الكتاب حسب معتقداتهم؛ ذلك لأنه، مثلما أن الكتاب قد وضع من قبل ~~على قدر أفهام العامة، فإن لكل شخص الآن الحق في أن يكيفه حسب معتقداته ~~الخاصة، إذا كان يرى في ذلك وسيلة لطاعة الله، في الأمور المتعلقة بالعدل والإحسان، ~~بنفس راضية تمام الرضا، ولكننا نتهمهم بذلك لأنهم لا يعترفون للآخرين بالحرية ~~نفسها، ويحتقرون من يخالفونهم في الرأي، فيعدونهم أعداء الله، حتى لو كانوا ~~يعيشون على أشرف نحو يمكن تصوره، ويمارسون الفضيلة الحقة، كما أنهم على العكس من ~~ذلك، يحبون من ينقادون لهم كالأنعام، وكأنهم أصفياء الله، حتى ولو كانوا بعيدين ~~كل البعد عن الخلق القويم، وهذا هو أشد المواقف جرما وأكثرها ضررا على ~~الدولة. وإذن، فلكي نبين حدود حرية كل فرد في أن يفكر كما يشاء في أمور الإيمان، ~~ونحدد من هم الناس الذين يتعين علينا أن نعدهم مؤمنين بالرغم من اختلاف وجهات ~~نظرهم، علينا أن نحدد الخصائص الأساسية للإيمان. وهذا هو ms275 موضوع هذا الفصل، بالإضافة ~~إلى البحث في التمييز بين الإيمان والفلسفة وهو الغرض الرئيس من الكتاب كله. واتباعا ~~للترتيب السليم في البحث، نعود بأذهاننا إلى الغاية الرئيسة التي يرمي إليها الكتاب ~~المقدس، وبذلك نحصل على قاعدة صحيحة لتعريف الإيمان. لقد قلنا في الفصل السابق: إن ~~غرض الكتاب الوحيد هو تعليم الطاعة، وهو أمر لا يمكن أن يعارضني فيه أحد، فمن ذا الذي ~~لا يرى حقيقة أن العهدين، القديم والجديد، لا يعطيان إلا درسا في الطاعة، وأن ~~الغاية التي يرميان إليها هي جعل الناس يطيعون عن رضى؟ ولكي لا أكرر حجج الفصل ~~السابق أقول: إن موسى لم يحاول حقيقة إقناع الإسرائيليين بالفعل، بل جمع بينهم بعهد ~~وبحلف وبأعمال طيبة قدمها إليهم، ثم حث الشعب على طاعة القوانين، منذرا العاصين ~~بالعقاب، ومبشرا المطيعين بحسن الثواب، وكلها وسائل لا جدوى منها حين يكون الأمر ~~متعلقا بتحصيل المعارف، ولكنها فعالة في تحقيق الطاعة وحدها. ولا يدعو الإنجيل ~~إلا إلى الإيمان اليسير: وهو الإيمان بالله وبتبجيله أي طاعته. ولا حاجة بنا، من أجل ~~توضيح هذه النقطة توضيحا تاما، إلى تجميع نصوص الكتاب التي تحث على الطاعة والتي ~~توجد بأعداد ضخمة في العهدين. ومن ناحية أخرى، يخبرنا الكتاب أيضا بوضوح تام ~~بما يجب على الإنسان القيام به لطاعة الله. فهو يعلمنا أن الشريعة كلها تتلخص في ~~هذه الوصية وحدها: أحب جارك. # 3 # إذن فلا يستطيع أحد إنكار أن من يحب جاره كحبه لنفسه لأن الله ~~أوصى بذلك، يكون بحق مطيعا وسعيدا # 4 # حسب الشريعة، على حين أن من يكره جاره أو يتخلى عنه يكون عاصيا ~~مارقا. وأخيرا يسلم جميع الناس بأن الكتاب لم يدون ولم يروج له من أجل ~~العلماء وحدهم، بل من أجل البشر جميعا دون تمييز بينهم في السن أو في الجنس. ~~ويترتب على ذلك بوضوح تام أن الكتاب لا يلزمنا بالاعتقاد إلا بما هو ضروري ~~لتنفيذ هذه الوصية، فهذه الوصية إذن هي القاعدة الوحيدة للإيمان الكاثوليكي كله، وعن ~~طريقها وحدها ينبغي أن تحدد جميع عقائد ms276 الإيمان. # 5 # أعني القواعد التي يجب على كل فرد الالتزام بها. # فلنتساءل الآن: لما كان هذا الأمر واضحا تماما، وكان يمكن استنباط كل ما يتعلق ~~بالإيمان من هذا المبدأ وحده، معتمدين على العقل وحده، فكيف وقعت هذه الخلافات ~~العديدة داخل الكنيسة؟ هل هناك أسباب أخرى غير التي ذكرناها في الفصل السابع؟ إن هذه ~~الخلافات تدفعني إلى أن أبين الطريقة والمنهج اللذين ينبغي اتباعهما لتحديد عقائد ~~الإيمان ابتداء من هذا المبدأ الذي وجدناه؛ ذلك لأنني لو لم أقم بهذا البيان، ~~وتخليت عن وضع بعض الوقائع المحكمة في هذا الموضوع، لظن الجميع عن حق أني لم ~~أنجز حتى الآن إلا الشيء القليل؛ إذ يظل كل فرد حرا في أن يقحم على الإيمان ما ~~يشاء بحجة أن ما يقحمه وسيلة ضرورية للطاعة، وهو أمر تظهر خطورته بوجه خاص عند ~~البحث في مسألة صفات الله. # وإذن فلكي أسير في هذا الموضوع بترتيب سليم، سأبدأ بتعريف الإيمان ابتداء من المبدأ ~~الذي سلمنا به، فأقول: إن الإيمان هو أن ننسب إلى الله بالفكر خصائص يؤدي الجهل بها ~~إلى ضياع الطاعة، على حين أن وجود الطاعة يستتبع وجود هذه الخصائص بالضرورة. وهذا ~~تعريف واضح للغاية، وهو يترتب على البراهين السابقة بقدر من الوضوح لا يحتاج معه ~~إلى أي شرح. وسأحاول الآن باختصار أن أحصي نتائجه: ~~(1) # يجلب الإيمان الخلاص لا بنفسه بل لأنه يتضمن الخضوع، أو كما يقول يعقوب ~~(2: 17): # 6 # الإيمان دون الأعمال مائت (انظر في هذا الموضوع كل الإصحاح ~~الذي كتبه هذا الحواري). ~~(2) # ونتيجة لذلك، يكون الإنسان المطيع حقا هو صاحب الإيمان الحق، # 7 # أعني ذلك الإيمان الذي يكون الخلاص ثمرة له. ألم نقل أنه ~~إذا وجدت الطاعة وجد الإيمان؟ وهذا ما يقوله الحواري نفسه صراحة (2: ~~18): «فأرني إيمانك بغير الأعمال أما أنا فأريك إيماني بالأعمال.» وكذلك ~~يقول (الرسالة الأولى، 4: 7-8): «فكل من يحب (جاره) فهو مولود من الله ~~وعارف به، ومن لا يحب فإنه لا يعرف الله لأن الله محبة.» ومن هذا ~~نستنتج مرة أخرى أنه لا يمكن الحكم على أحد ms277 بأنه مؤمن أو غير «مؤمن ~~إلا بأعماله، فإذا كانت أفعاله حسنة، مع اختلافه في عقائده » عن بقية ~~المؤمنين، فهو مؤمن، وإذا كانت أفعاله سيئة واتفقت عقائده لفظيا مع ~~الآخرين، فهو غير مؤمن؛ ذلك لأنه إذا وجدت الطاعة وجد الإيمان ~~بالضرورة، والإيمان دون الأعمال مائت. # 8 # وهذا ما يقوله يوحنا صراحة في الآية 13 من الإصحاح نفسه: ~~«وبهذا نعلم أننا نثبت فيه وهو فينا بأنه آتانا من روحه.» # 9 # أي المحبة؛ لأنه قال قبل ذلك إن الله محبة. وهو يستنتج من ~~ذلك (أي من المبادئ التي سلم بها من قبل) أن روح الله تسكن في الإنسان ~~حقيقة عندما يحب، بل إنه استنتج اعتمادا على أن أحدا لم ير الله، ~~لأن أحدا لا يشعر بالله أو يدركه إلا بحب الجار، وبالتالي فإن ~~أحدا لا يستطيع أن يعرف أية صفة لله سوى هذه المحبة بقدر مشاركتنا ~~فيها. وعلى الرغم من أن حججي ليست قاطعة، فإنها تفسر بوضوح ما قصد ~~إليه يوحنا. ويتضح ذلك على نحو أصرح في الآيات 3، 4 من الإصحاح 2 من ~~الرسالة نفسها، التي تبين صراحة ما نود بيانه: «وبهذا نعلم أنا قد ~~عرفناه بأن نحفظ وصاياه. فمن قال إني عرفته ولم يحفظ وصاياه فهو كاذب ~~وليس الحق فيه.» ومن ذلك ننتهي من جديد إلى النتيجة القائلة: إن من ~~يضطهد الشرفاء محبي العدل لأنهم يختلفون معه في الرأي ولا يعتنقون العقائد ~~نفسها أو حقائق الإيمان نفسها، إنما هو عدو المسيح الحقيقي؛ ذلك لأننا ~~نعلم أن حب العدل والإحسان يكفي ليكون الإنسان مؤمنا، ومن يضطهد ~~المؤمنين يكون عدوا للمسيح. ويترتب على ذلك، أخيرا، أن الإيمان ~~يتطلب عقائد تحث على التقوى وقادرة على توجيه معتنقيها إلى الطاعة، ~~أكثر مما يتطلب عقائد صحيحة. ولا يهم بعد ذلك ألا يكون العدد ~~الأكبر من هذه العقائد محتويا على ذرة واحدة من الحقيقة، # 10 # ويكفي ألا يعرف من يعتنقونها أنها باطلة، وإلا لتمردوا ~~عليها بالضرورة؛ إذ كيف يمكن لفرد، يسعى إلى حب العدل وطاعة الله، أن ~~يعبد شيئا، على أنه إلهي، وهو يعلم ms278 أنه غريب على الطبيعة الإلهية؟ على ~~أن الناس قد يخطئون لسذاجة عقولهم، والكتاب كما نعلم ، لا يدين الجهل، ~~بل العصيان وحده، بل إن هذا ينتج بالضرورة عن تعريف الإيمان وحده؛ لأن ~~الإيمان كله يرتكز على الأساس الشامل الذي برهنا عليه من قبل، وعلى ~~الغاية الوحيدة التي يرمي إليها الكتاب - ما لم يكن هدفنا هو الخلط بين ~~الإيمان وما يروق لنا من الأحكام. وإذن، فالإيمان لا يتطلب عقائد صحيحة، ~~بل عقائد تؤدي ضرورة إلى الطاعة، أي تثبت القلوب على حب الجار؛ إذ ~~إن كل إنسان لا يكون في الله، ولا يكون الله في كل إنسان (كما يقول ~~يوحنا)، إلا بمقدار هذا الحب. وإذن فلما كان علينا، كيما نحكم على ~~تقوى كل إيمان أو فسوقه، ألا نأخذ في اعتبارنا سوى طاعة من يعتنق ~~هذا الإيمان أو عصيانه، بغض النظر عن صحة الإيمان ذاته أو بطلانه، وكذلك ~~لما كان من المسلم به أن التكوين الذهني للبشر متعدد للغاية، إذ ~~لا يستريح كل الناس للأفكار نفسها، بل على العكس، تحكمهم أفكار مختلفة، ~~بحيث إن الأفكار التي تحث أحدهم على التقوى، قد تثير في نفس الآخر ~~السخرية والاحتقار، فإننا نستنتج من ذلك كله أن الإيمان الكاثوليكي أو ~~الشامل، لا يحتوي على أية عقائد يمكن أن تثير خلافا بين الشرفاء. وأما ~~العقائد التي تقبل الجدل فتحث على الطاعة عندما تعتنقها نفس طيبة، وعلى ~~الفسوق عندما تعتنقها نفس أخرى (ما دام العامل الحاسم هو الأعمال وحدها). ~~والواقع أن الإيمان الشامل لا يحتوي إلا على عقائد تحث على طاعة الله على ~~نحو مطلق، ويؤدي الجهل بها إلى أن تستحيل الطاعة تماما. أما الجوانب ~~الأخرى للعقيدة فإن لكل فرد - ما دام هو خير من يعرف نفسه - أن ~~يتصورها كما يشاء بحيث يتسنى له أن يسلك على خير نحو طبقا للحب ~~والعدل. وأظن أن هذه القاعدة تمنع أي نزاع داخل الكنيسة. # والآن، لم يعد هناك ما أخشاه من صياغة عقائد الإيمان الشامل أي المعتقدات الأساسية ~~التي استهدفها الكتاب الشامل. # 11 # هذه ms279 العقائد يجب أن تتجه (كما يترتب بوضوح تام على ما جاء في هذا ~~الفصل وفي الفصل السابق) إلى مبدأ واحد؛ هو أن هناك موجودا أسمى يحب العدل ~~والإحسان يلزم الجميع طاعته حتى يتم لهم الخلاص، ويتعين عليهم عبادته بممارسة ~~العدل والإحسان نحو الجار. وابتداء من هذا المبدأ نستطيع بسهولة أن نحدد باقي ~~المبادئ، وهي: ~~(1) # يوجد إله، أي موجود أسمى، خير ورحيم على نحو مطلق، أي إنه بعبارة ~~أخرى نموذج للحياة الحقة، فمن لا يعرفه أو يؤمن بوجوده لا يستطيع طاعته ~~أو الاعتراف به حكما. ~~(2) # الله واحد لا شريك له، وهو أمر لا يمكن أن يشك أحد في أنه ضروري ضرورة ~~مطلقة، لكي يكون الله موضوعا أسمى للخشوع والإجلال والمحبة؛ إذ لا ينشأ ~~هذا الخشوع وهذا الإجلال وهذه المحبة إلا من رفعة هذا الموجود وسموه ~~على غيره من الموجودات. ~~(3) # الله حاضر في كل مكان ويرى كل شيء، فلو اعتقدنا أن شيئا يخفى ~~عليه، أو لم نعلم أنه يرى كل شيء، لتطرق إلينا الشك في كمال عدله ~~الذي يخضع له كل شيء. ~~(4) # لله الحق والقدرة المطلقة على كل شيء، وهو لا يجبر على أفعاله بل ~~يفعل ما يشاء بمشيئة مطلقة وبفضل ينفرد به. وعلى حين أن طاعته واجبة ~~على الجميع فإنه لا يطيع أحدا. ~~(5) # عبادة الله وطاعته لا تكون إلا في العدل والإحسان، أي في حب ~~الجار. ~~(6) # لا يتم الخلاص إلا لمن يطبقون هذه القاعدة في الحياة، أي لمن ~~يطيعون الله، على حين يهلك من يعيشون تحت سيطرة اللذات، ولو لم ~~يعتقد الناس بذلك اعتقادا جازما لما كان هناك ما يدعوهم إلى إيثار طاعة ~~الله على السعي وراء اللذات. ~~(7) # وأخيرا، يغفر الله للتائبين خطاياهم، وكل بني آدم خطاءون. فهذا أمر لو ~~لم يسلم به ليئس الجميع من خلاصهم، ولما وجدوا سببا للإيمان ~~بالرحمة الإلهية. أما من يعتقد اعتقادا جازما بأن الله برحمته وبفضله ~~الذي وسع كل شيء يغفر ذنوب البشر حقا، ومن ثم من يشتاق حب الله، ~~فإنه يعرف المسيح حقا بالروح ms280، ويكون المسيح فيه. # إن أحدا لا يستطيع أن يجادل في أن معرفة هذه الأمور ضرورية أولا وقبل كل شيء حتى ~~يتسنى للناس جميعا، وبلا استثناء، أن يطيعوا الله طبقا لوصية الشريعة التي شرحناها ~~من قبل. ففي رفض أحد هذه المعتقدات رفض لطاعة الله، أما معرفة ما هو الله، أي أنموذج ~~الحياة الحقة، فإن كونه نارا أو روحا أو نورا أو فكرا ... إلخ، لا يمس الإيمان ~~في شيء، وكذلك لا يهم الإيمان تحديد المعنى الذي ~~يكون به نموذجا للحياة الحقة، وهل يرجع ذلك إلى أنه عادل رحيم أو قادر على كل شيء، ~~أم إلى أننا به نعلم ونرى ما هو حق وعدل؛ # 12 # لأن الأشياء جميعا لا تكون ولا تفعل إلا به، فمهما كانت الآراء التي ~~كونها كل منا حول هذا الموضوع، فإنها كلها تتساوى في قيمتها. ومن ناحية أخرى لا ~~يهم الإيمان في شيء أن يكون الله في كل مكان بفضل ماهيته أو بفضل قدرته، وأن ~~يكون تدبيره الشامل للأمور طبقا لحريته أو طبقا لضرورة طبيعته، وأن يضع القوانين ~~كما يضعها الحاكم، أو أن يعلمها بوصفها حقائق أزلية، وأن يطيع الإنسان الله بإرادته ~~الحرة أو بالضرورة الصادرة عن المشيئة الإلهية، وأخيرا أن يكون ثواب الأخيار وعقاب ~~الأشرار، أمرا ينتمي إلى الطبيعة أم إلى خوارق الطبيعة. أقول: إنه مهما اختلفت ~~الطرق التي يوضح بها كل فرد هذه المسائل وما شابهها فإنها لا تؤثر في الإيمان ~~مطلقا، بشرط واحد هو ألا يكون هدفه من النتائج التي يصل إليها هو أن يسمح لنفسه ~~بمزيد من الحرية في ارتكاب الإثم، أو أن يصبح أقل طاعة لله. بل إنني لأذهب إلى ~~أبعد من ذلك، فأقول: إن كل فرد - كما بينت من قبل - ملزم بأن يهيئ عقائده في ~~الإيمان على قدر فهمه الخاص، وأن يفسرها بحيث يسهل عليه اعتناقها دون أي تردد # 13 # وبقلب صادق، كيما تأتي طاعة الله بدورها عن رغبة صادقة؛ ذلك لأنه، ~~مثلما أن الإيمان قد أوحي به قديما، وكتب على قدر فهم الأنبياء والعامة ms281 في ~~عصرهم، وطبقا لمعتقداتهم، فكذلك يتعين على كل فرد أن يهيئ الإيمان وفقا لآرائه، ~~حتى يمكنه اعتناقه دون أدنى مقاومة من فكره، ودون أي تردد، فالإيمان - كما نود ~~أن نردد مرة أخرى - لا يتطلب من الحقيقة بقدر ما يتطلب من التقوى، وهو لا يكون ~~باعثا على التقوى، ولا يؤدي إلى الخلاص إلا بقدر حثه على الطاعة. وعلى ذلك، فأفضل ~~المؤمنين ليس بالضرورة من يعرض أفضل الحجج، بل هو الذي يقدم أفضل أعمال العدل ~~والإحسان. وإني لأترك لكل منكم حرية الحكم في مدى نفع هذه العقيدة وضرورتها للدولة ~~إذا أردنا أن يعيش الناس في سلام ووئام، وفي مقدار ما تتيح من تجنب أسباب القلاقل ~~والجرائم، وما أكثرها وما أخطرها. # وقبل أن أستمر في البحث نلحظ أنه من السهل علينا - اعتمادا على ما أثبتناه الآن - ~~تفنيد الاعتراضات التي أثيرت (في الفصل الأول) بشأن الحديث الذي وجهه الله ~~للإسرائيليين من فوق جبل سيناء. فلا شك في أن الصوت الذي سمعوه لم يكن يستطيع أن ~~يعطيهم أي يقين فلسفي، أي رياضي، بوجود الله، ولكنه كان مع ذلك كافيا لأن يثير ~~فيهم إجلال الله كما كانوا يعرفونه من قبل، وأن يحثهم على طاعته، وقد كان ذلك هو ~~الغرض من هذا التجلي، فالله لم يكن يرمي إلى تعليم الإسرائيليين صفات ماهيته المطلقة ~~(التي لم يكشف منها عن شيء في تلك اللحظة) بل أراد أن يكسر من حدة عصيانهم وأن ~~يجبرهم على طاعته؛ لذلك تجلى لهم بضربات البوق والرعد والبرق لا بحجج عقلية ~~(انظر: الخروج، 20: 20). # 14 # وأخيرا، بقي أن نبين الآن أنه لا توجد أية صلة أو قرابة بين الإيمان واللاهوت ~~من ناحية وبين الفلسفة من ناحية أخرى، وهذا أمر لا يمكن أن يجهله من يعلم غاية كل ~~من هذين المبحثين وأساسه؛ إذ إنهما متعارضان أشد التعارض، فغاية الفلسفة هي الحق ~~وحده، وغاية الإيمان كما بينا من قبل، هي الطاعة والتقوى وحدهما. ومن ناحية أخرى، ~~فإن الأسس التي تقوم عليها الفلسفة هي الأفكار المشتركة، وهذه يجب أن تستخلص ms282 من ~~الطبيعة وحدها. أما الإيمان فأسسه هي التاريخ وفقه اللغة، وهي أسس ينبغي أن ~~تستمد من الكتاب والوحي وحدهما، كما بينا في الفصل السابع. فالإيمان إذن يكفل ~~لكل فرد الحرية المطلقة في أن يتفلسف، حتى ليستطيع أن يفكر كما يشاء في أي ~~موضوع دون أن يكون بذلك قد ارتكب جرما، وهو لا يدين إلا من يدعون الناس إلى ~~العصيان والكراهية والمنازعات والغضب، بوصفهم الخارجين على الدين ودعاة الفتن. أما ~~المؤمنون بحق فهم عنده أولئك الذين يدعون الناس من حولهم إلى العدل والإحسان بقدر ما ~~تسمح لهم عقولهم وقدراتهم. وأخيرا، فبما أني قد وصلت هنا إلى الموضوع الأساسي لهذه الرسالة، # 15 # فإني أود أن أدعو القارئ على الفور، قبل أن أستمر في بحثي إلى أن يقرأ ~~هذين الفصلين بعناية خاصة، وأن يعطيهما ما يستحقانه من دراسة وافية. وأرجو ~~ألا يعتقد بأني قد كتبت ما كتبت رغبة مني في تقديم بدع جديدة، بل لكي أرد ~~على بعض الأحكام الخاطئة التي أرجو أن تصحح في يوم من الأيام. # الفصل الخامس عشر # | اللاهوت ليس خادما للعقل # وفيه نبين أن اللاهوت ليس خادما للعقل وأن العقل ليس خادما للاهوت، ~~السبب الذي يدفعنا إلى التسليم بسلطة الكتاب المقدس. # 1 ~~*** # تدور مناقشة بين من يفرقون بين الفلسفة واللاهوت حول مسألة ما إذا ~~كان الكتاب ينبغي أن يكون خادما للعقل، أم العقل خادم للكتاب؛ أي هل يجب إخضاع معنى ~~الكتاب للعقل أم إخضاع العقل للكتاب؟ إن الموقف الأخير هو موقف الشكاك الذين ~~ينكرون يقين العقل، أما الموقف الأول فهو موقف القطعيين. وقد اتضح من عرضنا ~~السابق أن كلا النظريتين مخطئة أشد الخطأ، فتبعا لوجهة النظر التي نأخذ بها، ~~وهل هي الأولى أو الثانية، يصبح العقل أو الكتاب فاسدا بالضرورة. والواقع أننا قد ~~بينا بالعقل أن الكتاب لا يعلم الفلسفة بل يدعو إلى التقوى وحدها، كما بينا أن ~~مضمونه كله مهيأ على قدر فهم العامة وأحكامهم المسبقة. وإذن فمن يريد إخضاع الكتاب ~~للفلسفة فإنه ينسب بخياله إلى الأنبياء أفكارا لم تخطر ms283 ببالهم حتى في الحلم، ويسيء ~~تأويل فكرهم، وعلى العكس من ذلك، فإن من يجعل العقل والفلسفة خادمين للاهوت، يضطر ~~إلى قبول الأحكام المسبقة للعامة في العصور الماضية على أنها أمور إلهية، بحيث تطغى ~~هذه الأحكام المسبقة على ذهنه وتعميه كلية؛ وعلى ذلك، فإن كليهما يهذي: الأول بدون ~~العقل، والثاني بالعقل. ولقد كان أول من ادعى، من بين الفريسيين، وجوب إخضاع الكتاب ~~للعقل هو ابن ميمون، # 2 ~~(وقد لخصنا موقفه في الفصل السابع ودحضناه بحجج عديدة). ومع ما ~~يكن الفريسيون لهذا المؤلف من احترام بالغ، فإن جمهورهم خالفه في هذا الموضوع، ~~واتبع رأي يهوذا الفخار # 3 # الذي أراد أن يتجنب خطأ ابن ميمون فوقع في الخطأ المضاد، # 4 # وهو ضرورة نزول العقل على حكم الكتاب وخضوعه له كلية. # 5 ~~⋆ # فقد ~~رأى أنه لا ينبغي تفسير أي فقرة من الكتاب تفسيرا مجازيا (كما يفعل البعض) بدعوى أن ~~المعنى الحرفي مناقض للعقل، بل إن هذا التفسير لا يجوز إلا حين يتناقض هذا المعنى ~~مع الكتاب ذاته، أي مع العقائد التي يدعو إليها بوضوح. وهكذا صاغ هذه القاعدة الشاملة: ~~«كل ما يدعو له الكتاب بطريقة قطعية، # 6 ~~⋆ # وينص ~~عليه بألفاظ صريحة، يجب قبوله على أنه حق مطلق، اعتمادا على سلطة الكتاب وحدها.» ~~ولن نجد في الكتاب عقيدة تتعارض مع عقيدة أخرى تعارضا مباشرا، بل نجد التعارض فقط ~~بين النتائج المترتبة عليها، بمعنى أن طرق الكتاب في التعبير تبدو وكأنها تفيد ~~عكس ما يدعو إليه صراحة؛ ولهذا السبب وحده يجب تفسير هذه الفقرات تفسيرا مجازيا. ~~فمثلا يدعو الكتاب صراحة إلى أن الله واحد لا شريك له (انظر: التثنية، 6: 4)، # 7 # ولا يوجد أي نص يؤكد تأكيدا مباشرا تعدد الآلهة، ولكننا نجد من ~~ناحية أخرى نصوصا كثيرة يتحدث فيها الله عن نفسه ويتحدث فيها الأنبياء عن الله في ~~صيغة الجمع، وما هذا إلا أسلوب في الحديث يفيد ضمنا تعدد الآلهة، دون أن يشير النص ~~إلى ذلك صراحة؛ ولهذا السبب - أي لأن الكتاب يدعو دعوة صريحة لوحدانية الله، لا ~~لأن هذا التعدد مناقض للعقل ms284 - يجب تفسير هذه الفقرات تفسيرا مجازيا. كذلك يدعو ~~الكتاب صراحة (في رأي الفخار) في سفر التثنية (4: 15) # 8 # إلى أن الله لا جسم له، ومن ثم فنحن ملزمون، بناء على شهادة النص ~~القاطعة، لا على شهادة العقل، بالاعتقاد بأن الله لا جسم له، ومن ثم فإننا ~~ملزمون أيضا، بناء على سلطة هذا النص وحده، بأن نفسر تفسيرا مجازيا كل ~~الفقرات التي تنسب إلى الله يدين وقدمين ... إلخ، وهي الفقرات التي يبدو أن أسلوبها ~~في التعبير ينطوي على نسبة الجسمية إلى الله. هذا إذن هو رأي هذا الكاتب، وإني على ~~رغبته في تفسير الكتاب بالكتاب، ولكني أعجب كيف يحاول رجل وهب نعمة العقل أن يهدم ~~العقل؟! صحيح أنه يجب تفسير الكتاب بالكتاب ما دمنا نجد صعوبة في الاهتداء إلى معنى ~~النصوص وفكر الأنبياء، ولكن ما إن نجد المعنى الصحيح حتى يجب أن نستخدم قدرتنا ~~على الحكم وأن نعمل عقلنا حتى يمكننا الموافقة # 9 # على هذا الفكر. وإني لأتساءل: إذا كان على العقل أن يخضع للكتاب بالرغم من ~~معارضته له، فهل ينبغي أن يقوم هذا الخضوع على العقل، أم يكون خضوعا أعمى؟ لو كان ~~خضوعا أعمى فإننا نسلك كالبلهاء، بلا حكمة: ولو كان خضوعا قائما على العقل ~~فإننا نأخذ جانب الكتاب بناء على أمر العقل وحده، ومن ثم فلو عارض العقل لما ~~سلمنا به. وإني لأتساءل مرة أخرى: كيف يقبل المرء بفكره معتقدا يعارضه العقل؟ ~~وماذا يعني رفض أي شيء بالفكر سوى أن العقل يعارضه؟ لذلك فإني لا أستطيع أن أكتم ~~دهشتي البالغة عندما أجد أحدا يريد إخضاع العقل، هذه الهبة العليا، وهذا النور ~~الإلهي، لحرف مائت استطاع الفساد الإنساني تحريفه، وعندما أجد أحدا يعتقد أنه لا ~~يرتكب جرما حين يحط من شأن العقل، وهو الوثيقة التي تشهد بحق على كلام الله، ~~ويتهمه بالفساد والعمى والسقوط، على حين أنه يجعل من الحرف المائت، وصورة كلام الله ~~صنما معبودا، ومن ثم يعتقد أن أشنع الجرائم هو وصف هذا الحرف بالصفات ~~السابقة. # وهكذا، يظن المرء نفسه تقيا ms285 حين يبدي ارتيابه في العقل والحكم السليم، ويرى أن ~~الفسوق إنما يكمن في إبداء أقل قدر من الشك فيمن نقلوا لنا الكتب المقدسة، ولكن ~~ما أبعد ذلك عن التقوى! إنه هو الخبل المحض! وإني لأتساءل: ما هذا القلق الذي استولى ~~عليهم؟ ماذا يخافون؟ هل يلزم للدفاع عن الدين وللإيمان أن يبذل الناس جهدهم من أجل ~~الجهل بكل شيء، وأن يلغوا عقولهم نهائيا؟ الحق أن من يعتقد هذا الرأي خاف من ~~الكتاب أكثر مما يثق فيه، فلنرفض إذن على نحو قاطع هذه الفكرة القائلة بأن ~~الدين والتقوى يريدان أن يجعلا من العقل خادما، أو أن العقل يريد إخضاع الدين له، ~~ولنرفض أيضا الفكرة القائلة بأن العقل والإيمان لا يستطيعان العيش في سلام ووئام، ~~كل في ميدانه الخاص. وتلك على أية حال مسألة سنبحثها دون إبطاء، ولكن علينا قبل ذلك ~~أن نفحص أولا قاعدة هذا الحبر، فهو كما قلنا يريد إجبارنا على أن نقبل كل ما يثبته ~~الكتاب على أنه حق وأن نرفض كل ما ينفيه الكتاب على أنه باطل. (بالإضافة إلى أن ~~الكتاب - فيما يقول - لا يثبت أو ينفي شيئا يناقض ما أعلنه في نصوص أخرى) # 10 # ولا يجهل أحد إذن أن هاتين قضيتان خرافيتان، وأنا لن آخذ عليه ~~هنا أنه لم يدرك أن الكتاب ربما يكون من كتب مختلفة، دونها مؤلفون مختلفون، في ~~عصور مختلفة، لقراء مختلفين، ولن أذكر أيضا أنه وضع مبادئه بوحي من آرائه ~~الشخصية، لأنها لا تعتمد على العقل ولا على الكتاب، وكان يجب عليه على الأقل أن ~~يبرهن على إمكان التفسير المجازي المقبول لكل الفقرات التي لا يوجد بينها إلا ~~تناقض ضمني فحسب، وذلك دون تعسف مع اللغة، ومع عمل حساب للسياق دائما. ومن ناحية ~~أخرى كان عليه أن يبرهن على أن الكتاب وصل إلينا دون تحريف. فلنفحص هذه الموضوعات على ~~التوالي، وأبدأ أولا بسؤاله: ما العمل إذا عارض العقل؟ هل نحن مضطرون مع ذلك ~~لقبول ما يثبته الكتاب على أنه حق ورفض ما ينفيه على أنه ms286 باطل؟ قد يجيب بأنه لا ~~يوجد في الكتاب ما يناقض العقل. # 11 # ومع ذلك، فإني أصر على رأيي: فالكتاب يؤكد صراحة أن الله غيور ~~(انظر: الوصايا العشر في الخروج، 34: 14، التثنية، 4: 24، وفقرات أخرى كثيرة) # 12 # وهذا مناقض للعقل، فيجب إذن أن نفترض، بالرغم من اعتراض العقل، بأن ~~ذلك صحيح. وحتى لو وجدنا نصوصا أخرى في الكتاب تفيد أن الله ليس غيورا، فيجب ~~تفسير هذه النصوص الأخيرة تفسيرا مجازيا حتى لا يكون لدينا معان متعارضة. وكذلك ~~ينص الكتاب صراحة على نزول الله على جبل سيناء (انظر: الخروج، 19: 20 ... إلخ) # 13 # وينسب إليه في مواقع عديدة حركات في المكان، على حين أنه لا يوجد نص ~~واحد يفيد صراحة أنه لا يتحرك. فعلينا إذن أن نؤمن بأن الله يتحرك بالفعل. صحيح ~~أن سليمان قال: إن الله لا يوجد في مكان (انظر: الملوك الأول، 8: 27)، # 14 # ولكنه لم يعلن صراحة أن الله لا يتحرك وكان ذلك مجرد استنتاج ~~مما قال. فعلينا إذن أن نفسر الفقرة بحيث لا تنفي حركة الله في المكان، كذلك ~~يجب النظر إلى السموات على أنها مسكن لله وعرشه، لأن الكتاب ينص على ذلك صراحة، ~~وهكذا الحال في نصوص كثيرة تتفق مع معتقدات الأنبياء والعامة، ولا يستطيع كشف ~~بطلانها إلا العقل والفلسفة وحدهما لا الكتاب. ومع ذلك فمن الواجب افتراض صحة هذه ~~النصوص كلها، كما يدعي هذا الكتاب، لأننا لا ينبغي أن نحكم العقل في مثل هذه الأمور، ~~ومن ناحية أخرى لا أوافق على التناقض الموجود بين أي نصين من الكتاب تناقضا غير ~~مباشر أو غير صريح؛ إذ يؤكد موسى تأكيدا مباشرا أن الله نار (انظر: التثنية، 4: 24) # 15 # ويرفض رفضا باتا أن يكون مشابها للموضوعات الحسية (انظر: التثنية، ~~4: 24) # 16 # فهل يدعي الفخار أن موسى ينكر ضمنا لا صراحة أن الله نار؟ حينئذ ~~يجب تفسير النص الذي ينكر المظهر الحسي لله بحيث لا يبدو مناقضا للنص الآخر. ~~فلنسلم جدلا بأن الله نار ... ولكني أفضل أن أترك هذا المثل وأذكر مثلا آخر حتى ~~لا نشطح مع هذا المؤلف: ينفي صموئيل # 17 # نفيا قاطعا ms287 أن الله يندم على قرار اتخذه (انظر: صموئيل الأول، 15: 29)، # 18 # ويؤكد إرميا عكس ذلك، أي أن الله يندم على ما قرره من خير أو شر (انظر: ~~إرميا، 18: 8-10) # 19 # فما العمل؟ ألا يتعارض هذان التصريحان تعارضا مباشرا. وأي التصريحين ~~يراد تفسيره تفسيرا مجازيا؟ إن القضيتين كليتان متناقضتان، تثبت إحداهما ~~صراحة ما تنفيه الأخرى صراحة. وتطبيقا للقاعدة التي وضعها، عليه أن يسلم بأن ~~كلا منهما صحيحة وبأنه يجب رفعها بوصفها قضية كاذبة. كذلك لا يهم كثيرا أن يكون ~~التناقض بين نص ونص آخر تناقضا غير مباشر، إذا كانت النتيجة التي استخلصناها ~~منه واضحة، وإذا لم يكن السياق أو طبيعة النص يسمح بتفسير مجازي، على أننا نجد في ~~الكتاب نصوصا كثيرة من هذا النوع، كما رأينا في الفصل الثاني (وقد بينا فيه أن ~~الأنبياء دعوا إلى معتقدات مختلفة ومتعارضة)، ولا حاجة بنا هنا إلى تكرارها كلها، ~~فقد قلنا ما يكفي للبرهنة على امتناع النتائج المترتبة على قاعدة الفخار وعلى ~~بطلانها، ولإثبات تسرع هذا الكاتب. # وهكذا برهنا على بطلان هذه الطريقة الثانية في تفسير الكتاب، كما برهنا من قبل ~~على بطلان طريقة ابن ميمون، وبذلك نكون قد أثبتنا أن اللاهوت ليس خادما للعقل، وأن ~~العقل ليس خادما للاهوت، بل إن لكل منهما مملكته الخاصة؛ للعقل مملكة الحقيقة ~~والحكمة، كما قلنا من قبل، وللاهوت مملكة التقوى والخضوع، وقد بينا أن قدرة ~~العقل لا تذهب إلى حد يستطيع معه أن يقرر إذا كان الناس يستطيعون الحصول على ~~السعادة بالطاعة وحدها دون معرفة بالأشياء، وفي مقابل ذلك، لا يدعي اللاهوت إلا ~~هذا، ولا يوحي إلا بالطاعة، ولا يريد أو يستطيع أن يفعل شيئا مضادا للعقل، فهو ~~يحدد عقائد الإيمان (كما بينا في الفصل السابق) على قدر ما تتطلبه الطاعة ~~ويترك للعقل، الذي هو نور الفكر، والذي بدونه لا يرى إلا أحلاما وخيالات، مهمة ~~تحديد المعنى الدقيق الذي ينبغي أن تفهم به هذه العقائد بغية الوصول إلى حقيقتها. ~~وأنا أعني باللاهوت هنا، على وجه التحديد، الوحي من حيث إنه يشير ms288 إلى الغاية التي ~~قلنا إن الكتاب يرمي إليها (أي بواعث الخضوع وطرقه، أي عقائد الإيمان الصحيح ~~والتقوى الصادقة) أي ما يمكن تسميته حقيقة بكلام الله، الذي لا ينحصر في عدد ~~معين من الكتب (انظر في هذا الموضوع الفصل الثاني عشر). وبهذا المعنى الدقيق يتفق ~~اللاهوت إذا تأملنا وصاياه وتعاليمه في الحياة، اتفاقا تاما مع العقل، كما أن ~~غايته وهدفه لا يتعارضان مع العقل، وبالتالي فهو شامل يخاطب جميع الناس. أما بالنسبة ~~إلى الكتاب على وجه العموم فقد بينا من قبل في الفصل السابع أن تحديد معناه يجب ~~أن يقوم على النقد التاريخي وحده لا على تاريخ الطبيعة الشامل، الذي هو المعطى الأساسي ~~للفلسفة وحدها. وعندئذ، فإذا افترضنا أننا بعد أن بحثنا عن المعنى الصحيح للكتاب، ~~وجدنا فيه ما يناقض العقل، فلا ينبغي التوقف عنده لأننا نعلم عن يقين أن كل ~~ما يمكن وجوده، بهذا الوصف، في الكتاب - شأنه شأن الأفكار التي يمكن أن يجهلها الناس ~~دون أن ينال ذلك من الإحسان - لا صلة له باللاهوت أو بكلام الله، وبالتالي يستطيع كل ~~فرد في مثل هذه الأمور أن يفكر كما يشاء دون أي خوف. نستنتج إذن، على نحو قاطع، أنه ~~لا ينبغي أن يخضع الكتاب للعقل ولا العقل للكتاب. # ومع ذلك، فلما كنا لا نستطيع أن نبرهن عقلا على صحة أو بطلان المبدأ الأساسي للاهوت، # 20 # أعني أن خلاص البشر إنما يكون بالطاعة وحدها، فقد يعترض معترض قائلا: ~~لم نعتقد ذلك؟ إن كنا نؤمن بهذه العقيدة إيمانا أعمى فنحن بدورنا نتصرف كالبلهاء ~~المفتقرين إلى الحكمة. أما إذا بينا أنه يمكن البرهنة على هذا الأساس عقلا، ففي ~~هذه الحالة يصبح اللاهوت جزءا من الفلسفة ولن يمكن فصله عنها. وردي على ذلك، هو أني ~~أوافق تماما على أنه يستحيل كشف العقيدة الأساسية للاهوت بالنور الطبيعي، أو على الأقل ~~لم يبرهن أحد على ذلك مطلقا، وبالتالي كان الوحي ضروريا إلى أقصى درجة. ومع ذلك، ~~فإننا نستطيع أن نبرر قبولنا لهذه العقيدة الموحى بها بحيث يكون ms289 لدينا بشأنها يقين ~~أخلاقي على الأقل. وأقول: إنه يقين أخلاقي لأننا لا نستطيع أن ندعي بشأنها يقينا ~~أعظم مما وصل إليه الأنبياء أنفسهم عندما تلقوا الوحي الأول بهذه العقيدة. وقد كان ~~يقين الأنبياء أخلاقيا خالصا كما بينا في الفصل الثاني من هذه الرسالة. وإذن فمن ~~الخطأ البين أن يريد المرء إقامة سلطة الكتاب على براهين رياضية؛ ذلك لأن سلطة ~~الكتاب تتوقف على سلطة الأنبياء، فلا يمكن إذن البرهنة عليها بحجج أقوى من تلك ~~التي اعتاد الأنبياء استعمالها لإقناع الناس بسلطتهم، بل إن يقيننا نفسه بهذا ~~الموضوع لا يمكن أن يرتكز على أي أساس سوى هذا الذي أقام عليه الأنبياء أنفسهم يقينهم ~~وسلطتهم الخاصة. وقد بينا من قبل أن يقين الأنبياء قائم على دعائم ثلاث: (1) خيال ~~خصب واضح. (2) آية. (3) وأخيرا، بوجه خاص، نفس تنزع إلى العدل والخير. ولم يقيموا ~~يقينهم على دعائم أخرى، وبالتالي كانت هذه هي الدعائم الوحيدة التي أمكنهم بها البرهنة ~~على سلطتهم للناس بالحديث المباشر في أثناء حياتهم، ولنا بكتاباتهم بعد مماتهم. على ~~أن الدعامة الأولى (التخيل الخصب لبعض الأمور) لا يسري تأثيرها إلا على الأنبياء ~~وحدهم، وبالتالي لا بد أن يكون يقين الآخرين في موضوع الوحي مركزا بأسره على ~~الدعامتين الأخريين فقط: الآية والعقيدة. وهذا ما دعا إليه موسى صراحة؛ ففي سفر ~~التثنية (الإصحاح، 8) # 21 # يأمر الشعب بطاعة كل نبي قدم آية صحيحة باسم الله، أما إذا تنبأ ~~النبي بشيء خطأ، حتى لو فعل ذلك باسم الله، فيجب الحكم عليه بالموت، شأنه شأن من أراد ~~إبعاد الناس عن سبيل الدين الصحيح، حتى لو كان قد دعم سلطته بالآيات وبخوارق ~~الأفعال(انظر: التثنية، الإصحاح 13). # 22 # والنتيجة التي تترتب على ذلك هي أن النبي الصادق يتميز عن النبي ~~الكاذب بالعقيدة وبالمعجزة، ومن يجتمع فيه هذان الشرطان يعترف به موسى نبيا صادقا ~~ويأمر الناس بأن يطيعوه دون أن يخشوا منه خداعا، أما الأنبياء الكذبة فهم الذين ~~يتنبئون خطأ ولو باسم الله أو يدعون لآلهة باطلة، ولو قاموا بمعجزات حقيقية. ~~وعلى ذلك فعلينا ms290 بدورنا أن نؤمن بالكتاب لهذا السبب نفسه فحسب، وأعني به أن عقيدته ~~مؤيدة بالآيات. وبما أننا نرى أن الأنبياء قد أوصوا حقيقة بالإحسان والعدل ~~وفضلوهما على كل شيء آخر، يحق لنا أن نؤمن بأنهم لم يريدوا خداعنا عمدا، بل ~~كانوا يتحدثون بإخلاص عندما دعوا إلى أن السعادة الروحية للبشر إنما تكون في ~~الطاعة والإيمان. ولما كانوا قد أيدوا دعوتهم هذه بالآيات أيضا، فإن هذا كفيل ~~بإقناعنا بأنهم كانوا جادين في حديثهم، وأنهم لم يكونوا يهذون عندما كانوا ~~يتنبئون، ويزداد اقتناعنا قوة عندما نرى أن كل تعاليمهم الخلقية متفقة مع ~~العقل؛ إذ إن الاتفاق التام بين كلام الله، الذي أعطاه الأنبياء، وكلام الله الذي ~~يوجد في أعماق سرائرنا، أمر له أهميته القصوى، وبذلك تكون المعتقدات التي نستخلصها ~~الآن من الكتاب، مماثلة في يقينها لتلك التي استخلصها اليهود من قبل من الكلام الذي ~~سمعوه من النبي بالفعل. والواقع أننا قد بينا في نهاية الفصل الثاني عشر أن ~~الدروس الأخلاقية، وكذلك معظم الروايات التاريخية في الكتاب قد وصلت إلينا دون ~~تحريف. وإذن فعلى حين أنه لا يمكن البرهنة على العقيدة الأساسية التي يقوم عليها ~~اللاهوت كله والكتاب ببرهان رياضي، فإن قبولنا لها أمر مشروع إلى أبعد حد. وإنه ~~ليكون من خطأ الرأي حقا ألا تقبل عقيدة تؤيدها شهادات كل هذا العدد من ~~الأنبياء، ويستطيع أولئك الذين لا تبلغ عقولهم مستوى رفيعا أن يجدوا فيها كل هذا ~~العزاء، وينتج عنها نفع كبير للدولة، فضلا عن أن التسليم بها تسليما مطلقا لا ~~يستتبع أي خطر أو خسارة. أقول: إن من خطل الرأي رفضها لا لشيء إلا لاستحالة ~~البرهنة عليها رياضيا. فهل نحن نحرص دائما، عندما نود أن ننظم حياتنا بحكمة، ~~على ألا نحكم على شيء بأنه حقيقة ما لم تغب عنه جميع أسباب الشك؟ أليست معظم ~~أفعالنا حافلة بالمخاطر، مفتقرة إلى اليقين؟ إني لأعترف، فضلا عن ذلك، بأن من يرون ~~تعارض الفلسفة واللاهوت فيما بينهما، ويرون بالتالي ضرورة استبعاد أحدهما من مملكته، ~~وضرورة إلغاء أحدهما ms291 في سبيل الآخر، يكون تفكيرهم منطقيا مع نفسه عندما يطالبون ~~بإقامة اللاهوت على أسس متينة ويحاولون إقامة البراهين الرياضية عليه؛ إذ إن من ~~يرضى بإلغاء العقل وباحتقار جميع العلوم والفنون وبإنكار يقين العقل، لا بد أن يكون ~~يائسا مخبولا. ومع ذلك، فإننا لا نستطيع أن نلتمس لهم أي عذر، ما داموا يلتجئون إلى ~~العقل لهدم العقل ويبحثون عن دافع يقيني لإنكار يقين العقل، وعندما يحاولون ~~بالبراهين الرياضية أن يثبتوا شرعية سلطة اللاهوت وحقيقته، وأن يقضوا على سلطة ~~العقل والنور الطبيعي، أليسوا، بهذه المحاولة ذاتها، يدفعون اللاهوت إلى الاعتراف ~~بسيادة العقل؟ ألا يبدو أنهم يفترضون أن سلطة اللاهوت تستمد كل وضوحها من العقل ~~ومن النور الفطري؟ أما إذا ادعوا على العكس من ذلك، أنهم لا يعتمدون إلا على الشهادة ~~الباطنية للروح القدس، ولا يلتجئون إلى العقل إلا لإفحام الكافرين، فيجب ألا نثق ~~بأقوالهم على الإطلاق، لأننا نستطيع أن نبرهن بسهولة على أنها صادرة عن أهوائهم ~~وكبرهم. وقد بينا بوضوح تام في الفصل السابق أن الروح القدس لا توحي إلا ~~بأعمال الخير التي سماها بولس لهذا السبب في الرسالة إلى أهل غلاطية ثمار الروح ~~القدس (انظر: 5: 22)، # 23 # وأن هذه الروح ليست في ذاتها إلا الرضا الذي يشعر به الإنسان في قرارة ~~نفسه عندما يؤدي أعمالا خيرة. أما حقيقة الأمور النظرية المحضة ويقينها فلا تشهد ~~به أي روح، بل إن العقل وحده، كما بينا من قبل، هو صاحب السلطة في مملكة الحقيقة. ~~فإذا ادعوا بأن روحا ما غير العقل هي التي تمنحهم يقين الحقيقة، فإنهم يتباهون ~~كذبا، وتكشف أقوالهم عن حكمهم المسبق الباطل الذي تدفعهم إليه أهواؤهم، أو هم يخشون ~~أن يفند الفلاسفة أقوالهم وأن يسخر الناس منهم، فيحتمون بالعالم المقدس ولكن دون ~~جدوى؛ فأي معبد يمكن أن يكون ملجأ لمن يطعن في جلالة العقل؟ ولكن، حسبنا ما قلناه ~~عنهم، إذ يكفي لإثبات رأيي أن أكون قد بينت السبب الذي يتحتم من أجله فصل الفلسفة ~~عن اللاهوت، وأوضحت الماهية الأساسية لكل منهما، وبينت أن ms292 من المستحيل وضع أي ~~منهما في خدمة الأخرى (إذ إن لكل منهما مملكته الخاصة، التي لا تتعارض مع الأخرى ~~على الإطلاق)، وأخيرا كشفت كلما سنحت لي الظروف، عن المتناقضات التي تنتج عن ~~خلط الناس على هذا النحو العجيب بين هذين المبحثين، وعدم قدرتهم على التمييز ~~والفصل بينهما. وقبل أن أستمر في بحثي أود أن أنوه مرة أخرى # 24 ~~⋆ # بأني ~~لا أقلل أبدا من منفعة الكتاب المقدس - أو الوحي - إذ لا يستطيع النور الفطري أن ~~يبين لنا أن الطاعة هي وحدها طريق الخلاص، # 25 ~~⋆ # بل ~~إن الوحي وحده هو الذي يخبرنا بأن ذلك يتم بفضل إلهي خاص يند عن فهم ~~العقل، ومن ذلك يتضح أن الكتاب يقدم عزاء كبيرا للناس، إذ يستطيع الجميع ~~طاعته، على حين تستطيع فئة ضئيلة للغاية من البشر أن تصل إلى حالة الفضيلة عن طريق ~~العقل. وعلى ذلك فلو لم تكن لدينا شهادة الكتاب، لتملكنا الشك في خلاص السواد ~~الأعظم من الناس. # الفصل السادس عشر # | مقومات الدولة،1 حق الفرد الطبيعي والمدني،2 حق الحاكم3 # كان اهتمامنا حتى الآن منصبا على الفصل بين ~~الفلسفة واللاهوت، وبيان أن اللاهوت يترك لكل فرد حرية التفلسف. والآن حان الوقت ~~لكي نتساءل: إلى أي حد يمكن المضي في ممارسة حرية الفكر والقول في أفضل الدول. ~~ولكي نسير في بحثنا هذا بطريقة منهجية سنبدأ بمعالجة الأسس التي تقوم عليها الدولة، ~~ونتساءل أولا: ما الحق الطبيعي لكل إنسان، بغض النظر عن الدين والدولة. أعني بالحق # 4 # الطبيعي وبالتنظيم الطبيعي مجرد القواعد التي تتميز بها طبيعة كل فرد، ~~وهي القواعد التي ندرك بها أن كل موجود يتحدد وجوده وسلوكه حتميا على نحو ~~معين. فمثلا يتحتم على الأسماك، بحكم طبيعتها، أن تعوم وأن يأكل الكبير منها ~~الصغير، وبالتالي تستمتع الأسماك بالماء، طبقا لقانون طبيعي مطلق. والواقع أننا ~~إذا نظرنا إلى الطبيعة في ذاتها، نجد أنها تتمتع بحق مطلق على كل من يدخل تحت ~~سيطرتها أي إن حق الطبيعة يمتد بقدر امتداد قدرتها؛ لأن قدرة الطبيعة هي قدرة ~~الله نفسه الذي ms293 له حق مطلق على كل شيء. ولكن لما كانت قدرة الطبيعة الشاملة ~~كلها لا تعدو أن تكون مجموع قدرات الموجودات الطبيعية، فقد ترتب على ذلك أن يكون ~~لكل موجود طبيعي حق مطلق على كل ما يقع تحت قدرته، أي إن حق كل فرد ~~يشمل كل ما يدخل في حدود قدرته الخاصة. ولما كان القانون الأعظم للطبيعة هو أن ~~كل شيء يحاول بقدر استطاعته أن يبقى على وضعه، وبالنظر إلى نفسه فقط، دون اعتبار ~~لأي شيء آخر، فينبني على ذلك أن يكون لكل موجود حق مطلق في البقاء على وضعه، أي ~~(كما قلنا من قبل) في أن يوجد ويسلك كما يتحتم عليه طبيعيا أن يفعل. وفي هذا ~~الصدد، لا نجد فارقا بين الناس والموجودات الطبيعية الأخرى، أو بين ذوي العقول ~~السليمة ومن هم خلو منها، أو بين أصحاء النفوس والأغبياء وضعاف العقول. والواقع أن ~~كل من يفعل شيئا طبقا لقوانين الطبيعة إنما يمارس حقا مطلقا؛ لأنه يسلك طبقا ~~لما تمليه عليه طبيعته ولا يمكنه أن يفعل سوى ذلك، فبقدر ما ننظر إلى الناس على ~~أنهم يعيشون تحت حكم الطبيعة وحدها، نجد أن لهم جميعا وضعا واحدا؛ فمن لم يعرف ~~العقل بعده، أو من لم يحصل بعد على حياة فاضلة، يعيش طبقا لحق مطلق، خاضع ~~لقوانين الشهوة وحدها شأنه شأن من يعيش طبقا لقوانين العقل، وكما أن للحكيم حقا ~~مطلقا في أن يعمل كل ما يأمر به العقل، أي من يحيا طبقا لقوانين العقل، فإن ~~للجاهل، ولمن هو خلو من أية صفة خلقية، حقا مطلقا في أن يفعل كل ما ~~تدفعه الشهوة نحوه، أي أن يعيش طبقا لقوانين الشهوة، # 5 # وتلك هي عقيدة بولس نفسها، التي لا تعترف بوجود الخطيئة قبل الشريعة ~~(أي ما دام الناس يعيشون تحت سيطرة الطبيعة). # وعلى ذلك، فإن الحق الطبيعي لكل إنسان يتحدد حسب الرغبة والقدرة، لا حسب العقل ~~السليم. وليس في طبيعة جميع الناس أن تتفق أفعالهم مع قوانين العقل، بل على العكس ~~يولد الجميع في حالة ms294 من الجهل المطبق، وقبل أن يستطيعوا معرفة الأنموذج الصحيح ~~للحياة وممارسة الحياة الفاضلة، يكون الجزء الأكبر من حياتهم قد انقضى، حتى ولو كانوا ~~على مستوى عال من التربية. على أنهم يكونون خلال ذلك مضطرين إلى أن يعيشوا وإلى أن ~~يبقوا، بقدر استطاعتهم، على حالتهم الراهنة، أي أن يخضعوا لدافع الشهوة وحده؛ ~~لأن الطبيعة لم تعطهم سواه، وحرمتهم من القدرة الفعلية على الحياة وفقا للعقل ~~السليم، ومن ثم فهم لا يستطيعون العيش طبقا لقوانين الذهن الصحيح، كما لا يستطيع ~~القط أن يحيا طبقا لقوانين طبيعة الأسد؛ وعلى ذلك فإن كل ما يراه الفرد الخاضع ~~لمملكة الطبيعة وحدها نافعا له، سواء أكان في ذلك مدفوعا بالعقل السليم، أو بقوة ~~انفعالاته، يحق له أن يشتهيه طبقا لحق طبيعي مطلق، وأن يستولي عليه بأية ~~وسيلة، سواء بالقوة، أم بالمخادعة، أم بالصلوات، أم بأية وسيلة أخرى أيسر من غيرها، ~~وبالتالي يحق له إذن أن يعد من يمنعه من تحقيق غرضه عدوا له. # ونستنتج من ذلك أن الحق والتنظيم الطبيعيين اللذين ينشأ فيهما جميع الناس ~~ويعيشون بموجبهما طوال الجزء الأكبر من حياتهم، لا يحظران إلا ما لا يرغب فيه أو ~~ما لا يستطيعه أحد، فهما لا يمنعان النزوع ولا الكراهية ولا الغضب ولا الخداع ولا أي ~~شيء تدفع إليه الشهوة، ولا عجب في ذلك؛ إذ إن الطبيعة لا تقتصر على قوانين العقل ~~الإنساني الذي يعد هدفه الوحيد هو المنفعة الحقيقية والمحافظة على البشر، بل إنها ~~تشتمل على ما لا نهاية له من القوانين الأخرى المتعلقة بالنظام الأزلي للطبيعة ~~بأكملها، التي لا يمثل الإنسان إلا جزءا ضئيلا منها. وضرورة هذا النظام هي ~~وحدها التي تحتم على كل الموجودات الطبيعية أن توجد وتسلك بطريقة معينة. ~~وعلى ذلك فكلما بدا لنا في الطبيعة شيء مضحك أو متناقض أو سيئ فذلك يرجع إلى ~~أننا لا نعرف الأشياء إلا جزئيا، وإلى جهلنا الكبير بنظام الطبيعة الكاملة ~~واتساقها، ورغبتنا في أن ينظم كل شيء حسب ما يمليه عقلنا، مع أن ما ~~يستنتجه ms295 العقل لا يكون قبيحا بالنسبة إلى نظام الطبيعة الكاملة وقوانينها بل بالنسبة ~~لقوانين طبيعتنا (الإنسانية) وحدها . # على أنه يظل من الصحيح دون شك، أن من الأنفع كثيرا للناس أن يعيشوا طبقا لقوانين ~~عقولهم ومعاييرها اليقينية، لأنها كما قلنا لا تتجه إلا إلى تحقيق ما فيه نفع ~~حقيقي للبشر. وفضلا عن ذلك، فإن كل إنسان يود العيش في أمان من كل خوف بقدر ~~الإمكان، ولكن ذلك مستحيل ما دام كل فرد يستطيع أن يفعل ما يشاء، وما دام العقل لا ~~يعطي حقوقا تعلو على حقوق الكراهية والغضب. والواقع أنه لا يوجد إنسان واحد يعيش ~~دون قلق وسط العداء والكراهية والغضب والمخادعة، ومن ثم فلا يوجد إنسان واحد لا ~~يحاول الخلاص من ذلك بقدر استطاعته. ولنلحظ أيضا أن الناس يعيشون في شقاء عظيم ~~إذا لم يتعاونوا ويظلون عبيدا لضرورات الحياة إن لم ينموا عقولهم - كما ~~بينا في الفصل الخامس. ومن ثم يظهر لنا بوضوح تام أنه لكي يعيش الناس في أمان ~~وعلى أفضل نحو ممكن، كان لزاما عليهم أن يسعوا إلى التوحد في نظام واحد، وكان من ~~نتيجة ذلك أن الحق الذي كان لدى كل منهم، بحكم الطبيعة على الأشياء جميعا، أصبح ~~ينتمي إلى الجماعة، ولم تعد تتحكم فيه قوته أو شهوته، بل قوة الجميع وإرادتهم، على ~~أنه كان لا بد لمحاولتهم هذه أن تفشل لو كان الناس قد أصروا على اتباع الشهوة ~~(إذ إن قوانين الشهوة تحتم أن يسير كل فرد في اتجاه مختلف)، وإذن فقد كان لزاما ~~عليهم أن يتفقوا فيما بينهم، # 6 # عن طريق تنظيم وتعاهد حاسم، على إخضاع كل شيء لتوجيهات العقل وحده (الذي ~~لا يستطيع أحد معارضته صراحة حتى لا يبدو فاقدا للحس السليم)، وعلى كبح جماح ~~الشهوة بقدر ما تسبب أضرارا للآخرين، وعلى معاملة الناس بمثل ما يحبون أن ~~يعاملوا به، وأخيرا على المحافظة على حق الآخرين كما لو كانوا يحافظون على حقهم ~~الخاص. ولكي يكون هذا التحالف متينا ومضمونا وجب إبرامه بشروط معينة سنفحصها ~~الآن. إنه ms296 لقانون شامل للطبيعة أن أحدا لا يترك ما يعتقد أنه خير إلا أملا في ~~خير أعظم ، أو خوفا من ضرر أكبر، ولا يقبل شرا إلا تجنبا لشر أعظم منه أو ~~أملا في خير أكبر، وبعبارة أخرى، يختار كل فرد ما يبدو له أعظم الخيرين وأهون ~~الشرين، وقد تعمدت أن أقول: ما يبدو في لحظة الاختيار أعظم الخيرين أو أهون الشرين ~~ولا أقول: إن الواقع نفسه يكون متفقا بالضرورة مع حكمه. وهذا القانون مسطور في ~~الطبيعة البشرية بقوة تحتم علينا أن نضعه بين الحقائق الأبدية التي لا يمكن ~~لأحد أن يغفل عنها. وينتج عن هذا القانون ضرورة أن أحدا لا يمكن أن يعد ~~(إلا إذا كان سيء النية) # 7 ~~⋆ # بالتخلي عن الحق الذي له على كل شيء، ولا يمكن أن يفي مطلقا بوعده هذا، إلا ~~خوفا من شر أعظم أو طمعا في خير أكبر. وزيادة في الإيضاح لنفترض أن لصا ~~أجبرني على أن أعده بإعطائه كل ثروتي وقتما يشاء، ولما كان حقي الطبيعي ~~محددا بقدرتي وحدها، كما بينت من قبل، فلا شك أنني إذا استطعت التنصل من ~~اللص بإعطائه وعدا كاذبا، أيا كان، فإن حقي الطبيعي يسمح لي بأن أفعل ~~ذلك، أي أن أبرم العقد الذي يريده دون أن يكون في نيتي أن أفي به. ولنفترض ~~أيضا أنني وعدت شخصا ما، عن حسن نية، بألا أتناول طعاما طيلة عشرين يوما، ~~وأن أمتنع حتى عن أيسر غذاء، ثم أدركت أنني قطعت على نفسي عهدا يتسم ~~بالحمق، وأن وفائي له سيلحق بي أعظم الضرر فلما كان القانون الطبيعي ~~يلزمني اختيار أهون الشرين، فإني أستطيع استخدام حقي المطلق في التحلل من ~~هذا العقد، وعدم تنفيذ أي شيء مما وعدت به. وأقول: إن القانون الطبيعي يرخص ~~لي بألا أفي بوعدي، سواء أكنت أرى أني أسأت صنعا بوعدي، بناء على سبب حقيقي ~~يقيني، أو بناء على مجرد الظن، ففي كلتا الحالتين، سواء أكنت مصيبا أم ~~مخطئا في تراجعي عما قلته، أكون قد خشيت شرا أعظم، وحاولت أن ms297 أتجنبه ~~بكل الوسائل طبقا لما تمليه الطبيعة. ومن ذلك نستنتج أن صحة أي عقد رهن ~~بمنفعته ، فإذا بطلت المنفعة، انحل العقد في الحال، ولم يعد ساريا، ومن ثم ~~يكون من الغباء أن يطلب إنسان من آخر أن يلتزم بعقد إلى الأبد، دون أن يحاول ~~في الوقت نفسه أن يبين له أن فسخ العقد يضر من يفسخه أكثر مما ينفعه. وهذه ~~نقطة مهمة للغاية في تأسيس الدولة. ولنلحظ الآن أنه لو كان الناس جميعا ينقادون ~~بسهولة لهداية العقل، ويدركون أن تأسيس الدولة يجلب لهم نفعا كبيرا، وأنه أمر ~~ضروري إلى أقصى حد، لما رضي أحد منهم بالخداع أبدا، ولحافظ الجميع على العقود ~~بدقة لا حد لها؛ وذلك رغبة منهم في الإبقاء على هذا الخير الأسمى، الذي هو ~~المحافظة على الدولة، والأهم من ذلك كله أنهم كانوا عندئذ سيحافظون على ولائهم، ~~وهو أقوى دعامة للدولة. ولكن من المستبعد أن يترك جميع الناس أنفسهم لهداية العقل ~~وحده؛ إذ تسيطر على كل فرد شهوته، وكثيرا ما يسيطر عليه البخل والغرور # 8 # والحسد والكراهية إلى حد يستحيل معه سماع صوت العقل. ولهذا السبب فإنه، ~~بالرغم من أن الناس يقدمون شواهد مقنعة على صفاء نيتهم عندما يعدون، عن طريق ~~الكلمة أو الميثاق المكتوب، بالوفاء بعهودهم، فإن أحدا لا يستطيع أن يثق بحسن ~~نية الآخر إلا إذا أضيف ضمان إيجابي إلى هذا الوعد؛ إذ يستطيع كل شخص طبقا ~~للحق الطبيعي الالتجاء إلى الحيلة، ولا يلتزم باحترام العقد إلا طمعا في خير ~~أعظم أو خوفا من شر أكبر، ولكن لما كان الحق الطبيعي لكل فرد محددا ~~بقدرته، كما بينا من قبل، فبقدر ما يفوض فرد ما، طوعا أو كرها، قدرته ~~الخاصة إلى فرد آخر، فإنه يتخلى بالضرورة عن حقه لهذا الآخر، ومن له سلطة ~~مطلقة تتيح له إجبار الآخرين بالقوة والسيطرة عليهم بإرهابهم بالعقاب الشديد، بحيث ~~يخشاه الجميع، يكون له حق مطلق على جميع الناس، وهو لا يحتفظ بهذا الحق إلا ~~بقدر احتفاظه بقدرته على تنفيذ ما يشاء، وبدون ms298 هذا الشرط لا ينفذ أمره ويصبح ~~ملغي، ولن يكون أحد ممن يتمتعون بقوة أكبر منه، ملزما بإطاعته، إذا لم يشأ ~~ذلك. # والآن سأعرض الشرط الذي يمكن أن يتكون به مجتمع إنساني دون أدنى تعارض مع الحق ~~الطبيعي، ويمكن به احترام كل عقد احتراما تاما. هذا الشرط هو أنه يجب على كل ~~فرد أن يفوض إلى المجتمع كل ما له من قدرة، بحيث يكون لهذا المجتمع الحق ~~الطبيعي المطلق على كل شيء، أي السلطة المطلقة في إعطاء الأوامر التي يتعين ~~على كل فرد أن يطيعها إما بمحض اختياره، وإما خوفا من العقاب الشديد، ~~ويسمى نظام المجتمع الذي يتحقق على هذا النحو بالديمقراطية. # 9 # فالديمقراطية هي اتحاد الناس في جماعة لها حق مطلق على كل ما في ~~قدرتها، وتترتب على ذلك النتيجة القائلة: إن الحاكم لا يلتزم بأي قانون، ويجب على ~~الجميع في كل شيء # 10 # لأنهم قد فوضوا له، بموجب عقد صريح أو ضمني، كل قدرة كانت لديهم على ~~المحافظة على أنفسهم، أي حقهم الطبيعي كله. ولو أرادوا أن يحتفظوا لأنفسهم بأي شيء ~~من هذا الحق، لكان عليهم أن يصبحوا في الوقت نفسه، قادرين على الدفاع عن هذا الحق ~~دفاعا مؤكدا، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، وما كانوا ليفعلوه دون أن تحدث الفرقة ويسقط ~~الحكم. ولهذا السبب نفسه خضعوا لمشيئة السلطة الحاكمة، أيا كانت هذه المشيئة. وبعد ~~أن تم هذا الخضوع المطلق (كما رأينا من قبل) سواء أكان ذلك تحت ضغط الضرورة، أم ~~طبقا لمقتضيات العقل نفسه - إلا إذا شئنا أن نكون أعداء للسلطة القائمة، وعملنا ~~ضد العقل الذي يدعونا إلى الإبقاء على هذا التنظيم بكل قوانا - فإننا نصبح ~~ملزمين بأن ننفذ حرفيا كل ما يأمر به الحاكم، حتى لو كانت أوامره غاية في التناقض. ~~وهذا ما يأمرنا به العقل لأنه يعني اختيار أهون الشرين، وبالإضافة إلى ذلك، فإن ~~الفرد يستطيع بسهولة مواجهة خطر الخضوع لإرادة الآخر ومشيئته؛ إذ إن الحاكم لا ~~يكتسب الحق في أن يأمر بما يشاء إلا بقدر ما يملك السلطة ms299 العليا بالفعل، فإذا ~~فقدها فقد في الوقت ذاته الحق في الأمر، وتحول هذا الحق إلى من يستطيع، أو من ~~يستطيعون الحصول على هذه السلطة والمحافظة عليها؛ لذلك كان من النادر أن يعطي ~~الحكام أوامر متناقضة للغاية، لأن فطنتهم وحرصهم على الاحتفاظ بالسلطة ~~تجعلهم يهتمون إلى أقصى حد بالسهر على المصلحة العامة، وتوجيه دفة الأمور ~~جميعا وفقا لأحكام العقل. وكما يقول سنيكا، لم يستطع أحد أن يستمر في الحكم ~~طويلا عن طريق العنف، وفضلا عن ذلك، فإن الخوف من القرارات المتناقضة يقل في ~~نظام الحكم الديمقراطي بوجه خاص وذلك لسببين: أولهما أنه يكاد يكون من المستحيل ~~أن يتفق أغلبية الناس، داخل مجتمع كبير على أمر ممتنع. وثانيهما أن الغاية ~~التي ترمي إليها الديمقراطية والمبدأ الذي تقوم عليه هو، كما قلنا من قبل، تخليص ~~الناس من سيطرة الشهوة العمياء والإبقاء عليهم بقدر الإمكان في حدود العقل بحيث يعيشون ~~في وئام وسلام. فإذا خضع هذا الأساس انهار البناء كله، فعلى عاتق الحاكم وحده تقع ~~مهمة المحافظة على هذا المبدأ، وعلى الرعايا تنفيذ أوامره وألا يعترفوا بقانون ~~إلا ما يسنه الحاكم. وقد يدعي مدع أننا بهذا المبدأ نحيل الرعايا إلى ~~عبيد؛ إذ إن العبد، كما يظن الناس، هو من ينفذ أمر إنسان آخر، والحر من ~~يفعل ما يشاء. غير أن هذا ليس صحيحا صحة مطلقة، فالواقع أن الفرد الذي ~~تسيطر عليه شهوته إلى حد أنه لا يستطيع أن يرى أو يفعل ما تتطلبه مصلحته ~~الحقيقية، يكون في أحط درجات العبودية، أما الحر فهو الذي يختار بمحض إرادته أن ~~يعيش بهداية العقل وحده، أما السلوك الذي يتحقق تلبية لأمر، أي بالطاعة، فمع أنه ~~يقضي على الحرية على نحو ما، فإنه لا يجعل من يقوم به عبدا في الحال، بل إن ~~الذي يجعله كذلك هو الدافع الموجه للفعل؛ فإذا كانت غاية الفعل تحقيق مصلحة الآمر ~~بالفعل، لا مصلحة الفاعل، يكون الفاعل عبدا لا يحقق مصلحته الخاصة، أما الدولة ~~أو نظام الحكم الذي لا تؤخذ فيه مصلحة ms300 الآمر بوصفها قانونا أسمى، بل تراعي مصلحة ~~الشعب كله - فمن الواجب ألا يعد من يطيع الحكم عبدا لا يحقق مصلحة خاصة، ~~بل مواطنا، وعلى ذلك تكون أكثر الدول حرية تلك التي تعتمد قوانينها على العقل السليم. ~~ففي مثل هذه الدولة يستطيع كل فرد - إذا أراد - أن يكون حرا، # 11 ~~⋆ # أن ~~يعيش بمحض اختياره وفقا للعقل، وكذلك لا يكون الأطفال عبيدا، بالرغم من أنهم ~~ملزمون بإطاعة أوامر آبائهم، لأن أوامر الآباء ~~تبغي مصلحة الأطفال قبل كل شيء. فهناك إذن فرق كبير بين العبد والابن والمواطن، ~~نصوغه كما يلي: العبد هو من يضطر إلى الخضوع للأوامر التي تحقق مصلحة سيده، ~~والابن هو من ينفذ، بناء على أوامر والديه، أفعالا تحقق مصلحته الخاصة، وأما ~~المواطن فهو من ينفذ، بناء على أوامر الحاكم، أفعالا تحقق المصلحة العامة، ~~وبالتالي مصلحته الشخصية. # أظن أني بينت حتى الآن بما فيه الكفاية مبادئ الحكم الديمقراطي الذي فضلته ~~على أنظمة الحكم الأخرى، لأنه يبدو أقربها إلى الطبيعة وأقلها بعدا عن الحرية التي ~~تقرها الطبيعة للأفراد، ففي النظام الديمقراطي لا يفوض أي فرد حقه الطبيعي ~~إلى فرد آخر بحيث لا يستشار بعد ذلك في شيء، بل يفوضه إلى الغالبية العظمى # 12 # من المجتمع، الذي يؤلف هو ذاته جزءا منه، وفيه يتساوى الأفراد كما كان ~~الحال من قبل في الحالة الطبيعية. ومن ناحية أخرى، أردت الحديث صراحة عن نظام الحكم ~~هذا لأنه أفضل نظام يوضح هدفي؛ وهو بيان أهمية الحرية في الدولة؛ لذلك لن أتحدث ~~هنا عن مبادئ نظام الحكم الأخرى، فلكي نعرف ما هو الحق الذي ترتكز عليه، لا نحتاج ~~(في الوقت الراهن على الأقل) إلى البحث في الأصل الذي كانت، ولا تزال، تستمد منه، ~~فقد عرضنا لهذا الحق بما فيه الكفاية فيما سبق. فسواء أكانت السلطة العليا في يد ~~شخص واحد، أو موزعة بين بعض الأفراد، أو مشتركة بين الجميع، فإن صاحبها يتمتع ~~أيضا بحق مطلق في أن يأمر بكل ما يشاء، كذلك فإن من فوض مقدرته على الدفاع ~~إلى شخص ms301 آخر بعينه، سواء أكان ذلك طوعا أم كرها، فقد تنازل عن حقه الطبيعي ~~وبالتالي قرر إطاعة هذا الشخص في كل ما يأمر به، وهو يظل ملزما بهذه الطاعة ما ~~دام الملك أو النبلاء أو الشعب يحتفظون بالسلطة العليا، التي كان تفويضه لحقه يرتكز ~~على قبوله إياها. ولسنا في حاجة إلى الإفاضة في هذا الموضوع أكثر من ذلك. # 13 # وبعد أن بينت أسس الدولة وحقها (في السيادة)، يسهل الآن تعريف القانون المدني الخاص، # 14 # وانتهاك القانون، والعدل والظلم في حالة المجتمع المنظم، ثم ما هو ~~الحليف والعدو، وأخيرا جريمة الطعن في السيادة. فالقانون المدني الخاص لا يمكن أن ~~يعني في رأينا إلا حرية الفرد في المحافظة على حالته، كما حددتها وضمنتها ~~له مراسيم السلطة العليا. فبعد أن يفوض كل فرد إلى شخص آخر حقه في أن ~~يعيش وفقا لرغباته الخاصة، أي حريته في المحافظة على وجوده وقدرته على ذلك، وهو ~~حق لم يكن له من حدود سوى قدرته، فإنه يصبح ملزما بأن يحيا وفقا للطريقة ~~التي يفرضها عليه هذا الشخص، وبألا يعتمد في المحافظة على ذاته إلا على ~~حمايته. # وينتهك القانون عندما يعمد شخص ما لأن يلحق الضرر بأحد المواطنين أو ~~الرعايا ضاربا بالقانون المدني عرض الحائط أي رافضا أوامر الحاكم، ولا يمكن تصور ~~انتهاك القانون إلا في مجتمع منظم، ولكن الحاكم الذي يبيح له القانون أن يفعل ما ~~يشاء، لا يمكنه أن ينتهك حق الرعية. وعلى ذلك فإن انتهاك الحقوق لا يمكن أن يحدث ~~داخل الدولة إلا بين الأفراد الذين يحرم عليهم القانون أن يضر أحدهم ~~الآخر. # أما العدل فهو استعداد دائم للفرد لأن يعطي كل ذي حق ما يستحقه طبقا للقانون ~~المدني، وأما الظلم فهو أن يسلب شخص، متذرعا بالقانون، ما يستحقه شخص آخر ~~طبقا للتفسير الصحيح للقوانين. ويسمى العدل والظلم أيضا بالإنصاف وعدم الإنصاف؛ ~~لأن من واجب القضاة، المكلفين بوضع حد للخصومات، ألا يفرقوا بين الأشخاص ~~بل أن ينظروا إليهم على قدم المساواة، ويحافظوا بقدر متساو على حق كل منهم ms302، ~~فلا يحسدون الغني ولا يحتقرون الفقير. # أما الحلفاء فهما شعبا أمتين # 15 # مختلفتين يتفقان تعاقديا فيما بينهما على ألا يضر أحدهما ~~بالآخر تجنبا لأخطار الحرب أو لأي سبب آخر متعلق بمصالحهما، وأن يعين أحدهما ~~الآخر وقت الحاجة. ولكن تظل كل أمة منهما دولة مستقلة، ويظل التعاقد # 16 # ساريا طالما وجد السبب؛ أعني احتمال الخطر أو المصلحة المرجوة، إذ ~~إن أحدا لا يعقد اتفاقا ولا يلتزم بالوفاء بتعاهد إلا طمعا في مغنم أو ~~خوفا من ضرر، فإذا ذهب هذا الباعث انفك الحلف من تلقاء نفسه، كما تشهد التجربة ~~ذاتها في كثير من الحالات. على أنه، في حين تتعهد الدول المستقلة، بناء على ~~اتفاق بينها، بألا تضر إحداهما بالأخرى، فإنها تحاول بقدر الإمكان أن تحول دون ~~زيادة قوة الدولة الأخرى، ولا تثق إحداهما بشروط العقد المبرمة إلا بقدر ما ~~تتضح غاية الاتفاق والمصلحة منه لكلا الجانبين. وبعبارة أخرى، فإن كل دولة تخشى أن ~~تخدعها الدولة الأخرى، وهي على حق في ذلك؛ إذ إن المرء لا بد أن يكون غبيا جاهلا ~~بحق السلطات العليا لكي يثق بعهود دولة أخرى وبوعودها على حين تحتفظ هي لنفسها ~~بسيادتها وبحقها المطلق في أن تفعل ما تشاء ولا تعترف بأي قانون أعلى من مصلحة ~~نظامها السياسي الخاص ومنفعته. وحتى إذا تأملنا الأمر من وجهة نظر الدين والتقوى، ~~فسوف يتبين لنا أن أي فرد يكون قد ارتكب جرما إذا وفى بوعوده وكان في ذلك ضرر على ~~الدولة التي يحكم فيها؛ ذلك لأنه لا يستطيع الوفاء بهذا الوعد عندما يكشف أنه يلحق ~~الضرر بالدولة إلا إذا تخلى عن ولائه لرعاياه، مع أن هذا الولاء واجب عليه قبل ~~أي شيء آخر، فضلا عن أنه يكون عادة قد تعهد بالإبقاء عليه أمام الملأ. # أما العدو فهو الذي يعيش خارج أمة معينة، ولا يعترف بسلطتها بوصفه حليفا ~~لها، أو واحدا من رعاياه، ولا تنشأ العداوة للدولة من الشعور بالكراهية بل من وضع ~~قانون الدولة ضده، فللدولة، إزاء من لا يعترف بسلطتها التي أقامتها بأي ms303 نوع من ~~العقد، الحق نفسه الذي لها إزاء من يلحق بها الضرر، فلها الحق إذن في أن ~~ترغمه على إطاعتها أو التحالف معها بكل ما لديها من وسائل. # أما جريمة الطعن في السيادة فلا يقترفها إلا الرعايا أو المواطنون الذين فوضوا ~~كل حقهم إلى الدولة بناء على عقد ضمني أو صريح، ويقال عن أحد أفراد الرعية إنه ~~اقترف هذه الجريمة عندما يحاول لسبب ما سلب السلطة العليا حقها أو نقله إلى شخص ~~آخر. أقول «عندما يحاول» لأنه لو وقعت الإدانة بعد ارتكاب الجريمة، لجاء تدخل الدولة ~~في معظم الأحيان بعد فوات الأوان؛ إذ يكون حقها في السيادة قد اغتصب أو نقل إلى ~~شخص آخر بالفعل. وأقول بصيغة مطلقة: «من يحاول لسبب ما سلب السلطة العليا حقها ~~في السيادة.» إذ إنه سواء نتج عن ذلك إلحاق الضرر بالدولة أو على العكس ازدهارها ~~ازدهارا عظيما، فإن الأمر لا يتغير على الإطلاق، فأيا كان سبب محاولة ارتكاب ~~الجريمة، فهناك طعن في السيادة، ويقع المذنب تحت طائلة القانون. إن الجميع يسلمون ~~بأن هذه الإدانة لها ما يبررها في زمن الحرب؛ فإذا ترك جندي موقعه وهاجم العدو ~~دون أمر من قائده، فإنه مهما كانت خطته في الهجوم محكمة وحتى لو أجبر الأعداء ~~على الفرار، فلا يشك أحد في أنه يتعرض للحكم عليه بالإعدام، لأنه أخل بقسم ~~الطاعة وحق قائده. ولكن، في مقابل ذلك، لا يدرك الناس جميعا، هذا القدر نفسه من ~~الوضوح، أن هذا الحق ملزم للمواطنين جميعا، على نحو مطلق، في كل الأحوال، على ~~أن المبدأ مع ذلك واحد؛ ذلك لأنه، لما كان من الواجب أن تكون السلطة العليا ~~وحدها هي الحافظة والحاكمة للدولة، ولما كان الرعايا أو المواطنون قد فوضوا للحاكم ~~وحده هذا الحق بناء على عقد يلتزمون به التزاما مطلقا، فلو أخذ أحد الأفراد على ~~عاتقه، من تلقاء نفسه، ودون علم من الجمعية العليا # 17 # تصريف أمر عام، فإنه، حتى لو نتج عن ذلك ازدهار فعلي للدولة، يكون قد ~~انتهك حق السلطة العليا ms304 وطعن في السيادة وحقت إدانته. # ومنعا لأي تردد بقي لنا أن نرد على اعتراض قد يوجه ضد الرأي الذي ~~قلناه من قبل، وهو الفرد المحروم من ملكة العقل يعيش على حالة الطبيعة، ويسير طبقا ~~لقوانين الشهوة بناء على حق الطبيعة المطلق. ألا يعارض ذلك القانون الإلهي ~~الموحى به معارضة صريحة؟ الحق أنه لما كان ينبغي علينا جميعا بلا استثناء (سواء ~~أكانت لدينا القدرة على استخدام العقل أم لا) أن نحب جارنا كما نحب أنفسنا ~~تنفيذا لأوامر الله فإننا لا نستطيع إلحاق الضرر بالآخرين، كما لا نستطيع العيش ~~وفقا لقوانين الشهوة دون انتهاك للقانون، ولكن من السهل الرد على هذا الاعتراض إذا ~~تأملنا قليلا حالة الطبيعة، لأنها سابقة على الدين بطبيعتها ومن حيث الزمان. إن ~~الطبيعة لم تعلم أحدا # 18 ~~⋆ # مطلقا ~~طاعة الله ولا يمكن معرفة ذلك بالاستدلال # 19 # بل بالوحي المدعوم بالآيات. ومن ثم فقبل الوحي لا يمكن أن يلتزم أحد ~~بالقانون الإلهي، الذي هو جاهل به بالضرورة فيجب إذن ألا نخلط بين حالة الدين ~~وحالة الطبيعة التي يجب أن نعدها حالة لا شأن لها بالدين والقانون. وبالتالي لا ~~شأن لها بالخطيئة وانتهاك القانون، وهذا ما برهنا عليه من قبل مستشهدين ببولس. ~~وفضلا عن ذلك فليس الجهل وحده هو السبب في اعتبار حالة الطبيعة سابقة على القانون ~~الإلهي الموحى به ولا شأن لها بالقانون، بل إن هذا يرجع أيضا إلى الحرية الأصلية ~~التي يولد بها جميع البشر، فلو كان البشر ملتزمين بطبيعتهم بالقانون الإلهي أو لو ~~كان القانون الإلهي قانونا بالطبيعة لما كان هناك داع لأن يعقد الله معهم عهدا ~~أو أن يلزمهم بميثاق وبقسم. فيجب إذن أن نسلم دون أي شك بأن القانون الإلهي ~~يبدأ في اللحظة نفسها التي وعد فيها الناس، في عهد صريح بطاعة الله في كل شيء. ~~وبهذا العهد يمكن القول بأنهم تخلوا عن حريتهم الطبيعية وفوضوا حقهم لله، كما ~~يحدث في حالة المجتمع التي أوضحناها من قبل (وسأسهب في هذا الموضوع فيما بعد). # 20 # ومع ذلك يمكن الاعتراض ms305 علينا أيضا بأن على السلطات العليا شأنها شأن الرعايا، ~~الالتزام بهذا القانون الإلهي، مع أننا قلنا من قبل إنها تحتفظ بحقها الطبيعي ~~وبحقها في أن تفعل ما تشاء. وتوضيحا لهذه المشكلة، التي تتعلق بقانون الطبيعة أكثر ~~من تعلقها بحالة الطبيعة، أقول إن كل شخص في حالة الطبيعة ملزم بالقانون الموحى ~~به كما أنه يعيش طبقا لنظام العقل؛ لأن ذلك ضروري لمصلحته ولخلاصه، ولكنه في ذلك ~~حر في أن يرفض ذلك محتملا ما ينتج عن رفضه من مخاطر وأضرار. وهو أيضا حر في ~~أن يعيش كما يشاء لا كما يشاء الآخرون، وليس عليه أن يعترف بأي مخلوق حكما أو ~~مدافعا عن حق الدين. هذا الحق، في رأيي، هو الذي تتمتع به السلطة العليا، التي ~~تستطيع أن تأخذ رأي الأفراد، دون أن تكون ملتزمة بالاعتراف بأي فرد حكما أو ~~بأي مخلوق من فوقها مدافعا عن أي حق، إلا إذا كان نبيا بعثه الله وبرهن ~~بآيات لا شك فيها على بعثته. وحتى في هذه الحالة، تلتزم السلطة العليا بأن تعترف ~~بالله نفسه حكما، لا بأي من بني البشر. فإذا رفضت السلطة العليا طاعة الله فيما ~~أوحى به من قانون فهي حرة في ذلك، وعليها أن تتحمل ما ينتج عن ذلك من أضرار أو ~~أخطار، أعني أنه لا يمكن أن يقف في سبيل ذلك أي قانون مدني أو قانون طبيعي؛ إذ يعتمد ~~القانون المدني على مشيئة هذه السلطة وحدها، أما القانون الطبيعي، فإنه يعتمد ~~على قوانين الطبيعة التي لا علاقة لها بالدين (الذي يتخذ المصلحة الإنسانية هدفه ~~الوحيد) بل تتعلق بنظام الطبيعة الشامل، أي بمشيئة إلهية أزلية لا نعلمها، وهذا ~~ما يبدو أن البعض شعروا به شعورا مبهما، حتى قالوا: إن الإنسان يستطيع أن يخطئ في ~~حق إرادة الله التي أوحى بها، ولكن ليس في حق المشيئة الأزلية التي قرر بها مقدما ~~مصير كل شيء. # وقد يسألني سائل: ما العمل إذا ما أعطت السلطة العليا أمرا مناقضا للدين والطاعة ~~التي وعدنا بها الله تنفيذا ms306 للعهد الصريح؟ هل يجب الخضوع للأمر الإلهي أم للأمر ~~البشري؟ ونظرا إلى أني سأعالج هذا الموضوع بالتفصيل فيما بعد، سأكتفي بأن أقول هنا ~~بأن عليه أن يطيع الله قبل كل شيء عندما يكون لدينا وحي يقيني لا شك فيه. ومع ~~ذلك، فلما كان اختلاف طبائعهم يولد بينهم ما يشبه المنافسة على الأوهام ~~الباطلة، كما تشهد التجربة اليومية مرارا وتكرارا، فمن المؤكد أنه لو لم يكن المرء ~~ملزما - بموجب القانون - بطاعة قانون السلطة العليا فيما يظنه من أمور الدين، لأصبح ~~قانون الدولة متوقفا ولا شك على الأحكام الشخصية وعلى الانفعالات الفردية، إذ لا ~~يلتزم أحد بالقوانين الجارية إذا ظن أنها مخالفة لعقيدته أو خرافته، وبهذه ~~الحجة يسمح كل فرد لنفسه بأن يفعل ما يشاء. ولما كان قانون الدولة ينتهك كلية ~~في هذه الحالة، فإن السلطة العليا، التي هي المكلفة، وحدها، بناء على حقها ~~الإلهي وحقها الطبيعي، بالمحافظة على حقوق الدولة وحمايتها، يكون لها الحق ~~المطلق في اتخاذ جميع الإجراءات المناسبة في موضوع الدين، وعلى جميع الأفراد ~~الالتزام بطاعة قرارات السلطة العليا وأوامرها في هذا الصدد، نظرا إلى الولاء الذي ~~وعدوها به، والذي يأمر الله بالالتزام به التزاما تاما. فإذا كان ممثلو السلطة من ~~الوثنيين فإما أن يرفض المرء عقد أي اتفاق معهم، ويتعرض عندئذ لأبشع ~~الأضرار، دون أن يفوض لهم أي حق، وإما أن يظل على الولاء والطاعة لهم، ويحفظ ~~عهده لهم، إن طوعا وإن كرها، إذا ما تم له عقد اتفاق معهم وتفويض الحق لهم، ~~لأنه بذلك يكون قد تخلى عن حقه في الدفاع عن ذاته وعن عقيدته، والاستثناء الوحيد من ~~ذلك هو الشخص الذي وعده الله عن طريق وحي يقيني بمساعدة خاصة ضد الطاغية أو ~~من أراد الله أن يستثنيه بشخصه. فنحن مثلا نعلم ثلاثة فتية فقط، من بين يهود ~~بابل جميعا، قد رفضوا طاعة نبوخذ نصر؛ # 21 # لأنهم كانوا على يقين من مساعدة الله لهم، على حين أطاع الآخرون ~~(باستثناء دانيال الذي كان معظما عند الملك نفسه) القهر الشرعي ms307، وربما ظنوا في ~~قرارة نفوسهم أنهم وقعوا تحت سيطرة الملك تنفيذا لمشيئة إلهية، وأن الملك قد حصل على ~~السلطة العليا واحتفظ بها تحقيقا لغاية إلهية. وعلى العكس من ذلك، أراد العازر إعطاء ~~مواطنيه مثلا على المثابرة، # 22 # في الوقت الذي لم يكن قد تم فيه القضاء على وطنه كلية، حتى يقبلوا أن ~~يتحملوا معه أقسى الآلام، بدلا من أن يفوضوا حقهم وسلطتهم لليونان، وحتى لا ~~ترغمهم أقسى المحن على التعهد بالولاء للوثنيين. وتؤكد الخبرة اليومية كل ~~ما قلته الآن، ففي أيامنا هذه لا تتردد السلطات المسيحية في عقد معاهدات مع المسلمين # 23 # والوثنيين، صونا لسلامة الدولة، وهي توصي رعاياها الذين يتوجهون ~~للإقامة في هذه البلاد، بألا تتعدى حريتهم، في أمور دينهم ودنياهم، حدود ما ~~تم الاتفاق عليه في عقود مكتوبة، أو ما تسمح لهم به السلطات العليا في هذه البلاد، ~~ويتمثل ذلك في المعاهدة المعقودة بين الهولنديين واليابانيين، والتي تحدثنا عنها ~~من قبل. # 24 # الفصل السابع عشر # | نبين أن أحدا لا يستطيع تفويض كل ما يملك إلى السلطة العليا # وفيه نبين أن أحدا لا يستطيع تفويض كل ما يملك إلى السلطة العليا وأن ~~هذا التفويض ليس ضروريا. دولة العبرانيين # 1 # وكيف كانت في حياة موسى وبعد موته. # مزايا هذه الدولة، وأسباب انهيار الدولة الإلهية بعد أن شاعت فيها الفتن دائما. # 2 ~~*** # إن الآراء التي انتهينا إليها في الفصل السابق عن الحق الشامل ~~الذي تتمتع به السلطات العليا، وعن تفويض الفرد حقه الطبيعي لها، تصدق بالفعل إلى ~~حد غير قليل في الحياة العملية، ويمكن تنظيم الحياة العملية بحيث تزداد منها ~~اقترابا. ومع ذلك فإن هذه الآراء تظل نظرية صرفة في كثير من جوانبها. فمثلا لا ~~يستطيع أي فرد أن يصل في التخلي عن قدرته - وبالتالي عن حقه - لفرد آخر، إلى ~~الحد الذي يلغي فيه وجوده كإنسان، ولن يحدث أبدا أن تملك أية سلطة عليا من القوة ~~ما يسمح لها بتنفيذ كل ما تريد. فمثلا لن تطاع إذا ما أمرت أحد أفراد الرعية بأن ~~يكره من يحسن ms308 إليه، أو أن يحب من يسيء إليه، أو أن يسمع السباب دون أن يشعر ~~بالإهانة، أو ألا يحاول التحرر من الخوف، وما شابه ذلك من الأمور التي تتبع ~~بالضرورة قوانين الطبيعة البشرية، # 3 # وفي اعتقادي أن التجربة تقدم إلينا شهادة واضحة على ذلك، فلم يحدث ~~أبدا أنه تخلى الناس عن حقهم، ونقلوا سلطتهم إلى شخص آخر، إلى الحد الذي لا ~~يعود معه من حصلوا على هذا الحق وعلى هذه السلطة أن يخشوهم ولا يظل معه تهديد ~~المواطنين للدولة، حتى بعد سلب حقوقهم، أشد من تهديد الأعداء لها. هب أن من ~~الممكن سلب الناس حقهم الطبيعي إلى الحد الذي لا يعودون معه قادرين على التصرف ~~في أية قدرة لهم إلا بعد الحصول على موافقة من لهم الحق الأعلى، # 4 ~~⋆ # فما ~~أشد العنف الذي سيسمح الحاكم لنفسه عندئذ باستعماله ضد الرعايا! ولا أظن أن ~~هذا القدر من التطرف قد خطر على بال أحد مطلقا. فيجب إذن أن نسلم بأن الفرد ~~يحتفظ لنفسه بقدر كبير من حقه، وهو، بالتالي، قدر لا يعود رهنا بمشيئة الآخر، بل ~~بمشيئته هو، ومع ذلك، فإذا أردنا أن ندرك إلى أي حد تمتد سلطة الدولة العليا ~~وحقها، يجب أن نلحظ أن سلطتها لا تقتصر على استعمال القهر المرتكز على التخوين ~~فحسب، بل تشمل كافة الوسائل التي تحمل الناس على طاعة أوامرها؛ فليس ما يميز الرعية ~~هو الباعث على الطاعة، بل هو الطاعة ذاتها. ومهما كان الباعث الذي يدفع الإنسان إلى ~~تنفيذ أوامر السلطة العليا - أعني الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب أو حب الوطن أو ~~أية عاطفة أخرى - فإنه يكون قد اتخذ قراره بمحض إرادته، ومع ذلك يظل خاضعا لأوامر ~~السلطة العليا. وإذن فمن الواجب، إذا رأينا شخصا يفعل شيئا بمحض إرادته، أن ~~نستنتج من ذلك على الفور أنه يسلك بناء على حقه، لا على حق من يمثل السلطة ~~العليا في الدولة، فلنذكر دائما أنه يسلك بمحض إرادته ومشيئته، سواء أكان مدفوعا ~~بالحب أم كان مضطرا خوفا من العقاب ms309. ومن ثم فإن المرء ما إن يعترف للدولة ~~بحق ما إزاء رعاياها، حتى يمتد هذا الحق بالضرورة ليشمل جميع الوسائل التي يقبل ~~بها الرعايا سيادة هذه الدولة؛ وعلى ذلك فكل ما يفعله أحد أفراد الرعية تنفيذا ~~لأوامر السلطة العليا، سواء كان يفعله، بدافع من الحب أو بفعل الخوف، أو كان ~~صادرا عن الرجاء والرهبة معا (وهو الأغلب) أو عن عاطفة - مثل الاحترام - يجتمع ~~فيها الإعجاب والرهبة أو بأي دافع آخر - أقول إن كل ما يفعله يكون بحق السلطة في ~~الدولة، لا بحقه الخاص. ومن الممكن بلوغ هذه النتيجة نفسها دون عناء إذا أدركنا ~~أن الطاعة ليست فعلا خارجيا، بل هي فعل داخلي للنفس، بحيث إن أكثر الناس خضوعا ~~لسلطة فرد آخر هو من يشرع في تنفيذ أوامر هذا الآخر بنفس راضية تمام الرضا، ~~وبالتالي تكون أقوى السلطات هي أكثرها سيطرة على نفوس رعاياها. ليست قوة السلطة ~~بمقدار ما تثيره من خوف، وإلا كان رعايا الطاغية هم الذين يملكون أقوى سلطة لأنه ~~يخشاهم إلى أبعد حد. ومن ناحية أخرى فإذا كان من الصحيح أن السيطرة على النفوس أصعب ~~من السيطرة على الألسنة، فإن النفوس، مع ذلك، تقع إلى حد ما تحت سيطرة السلطة ~~العليا التي تستطيع بمختلف الوسائل أن تجعل الأغلبية العظمى من الناس تعتقد وتحب ~~وتكره كما تشاء هذه السلطة. وعلى ذلك، فإذا لم تكن هذه المشاعر على الإطلاق نتيجة ~~مباشرة لأوامرها، فإنها تظل مع ذلك صادرة عن سلطة قدرتها، وعن توجيهها، أي عن حقها، ~~كما تشهد التجربة في كثير من الأحيان، ولذلك ففي استطاعتنا أن نتصور - دون أي تناقض ~~ذهني - أناسا لا يعتقدون ولا يحبون ولا يكرهون ولا يحتقرون ولا تدفعهم أية عاطفة ~~إلا بتوجيه من السلطة العليا وحقها، على أننا مهما توسعنا في تصورنا حق ~~من يمارس السيادة في الدولة وقدرته، فإن هذه السلطة لا يمكن على الإطلاق أن تتسع ~~حتى تعطي أصحابها سلطة مطلقة تتيح لهم أن يفعلوا كل ما يشاءون، (وأظن أني قد ~~برهنت على ذلك ms310 بما فيه الكفاية). # 5 # ولقد سبق لي أن ذكرت أنني لا أعتزم أن أعرض هنا للشروط التي يمكن أن تنظم بها ~~السلطة بحيث تظل في أمن دائم، ومع ذلك سأذكر التعاليم التي أعطيت لموسى عن طريق ~~الوحي حتى أبين ما أريد الانتهاء إليه في هذا الموضوع، وبعد ذلك سنفحص تاريخ ~~العبرانيين وتقلباته حتى نرى ما هي التنازلات التي ينبغي أن تقدمها السلطة ~~العليا لرعاياها حتى تضمن للدولة أعظم قدر من الأمن والازدهار. # يعتمد قيام الدولة أولا وقبل كل شيء على ولاء الرعايا وعلى فضيلتهم ومثابرتهم ~~على تنفيذ الأوامر، كما يشهد العقل والتجربة بوضوح تام، ولكن ليس من السهل، بالمقدار ~~نفسه، إدراك الطريقة التي ينبغي بها حكم الرعية لتظل على ولائها وفضيلتها؛ ذلك لأن ~~الحكام والمحكومين على السواء بشر، أي كائنات تميل إلى ترك العمل والسعي وراء ~~اللذة. وكل من عرف طبائع العامة الشديدة التقلب، يكاد ينتابه اليأس التام ~~منها؛ إذ لا يحكمها العقل، بل تحكمها انفعالات النفس وحدها، كما أن افتقارهم ~~التام إلى ضبط النفس يجعلها تنقاد بسهولة لمساوئ البذخ والطمع، وكل فرد منها ~~يعتقد أنه الوحيد الذي يعرف كل شيء ويريد أن يفصل في كل شيء وفقا لهواه، وتبدو ~~له الأشياء منصفة أو مجحفة، مشروعة أو غير مشروعة بمقدار ما يرى فيها من كسب أو ~~خسارة له، ويحتقر أترابه غرورا بنفسه، ولا يقبل منهم أية نصيحة، ويتمنى الشر ~~للآخرين ويتلذذ بوقوعه حسدا لمن هم أكثر منه شرفا أو غنى. تلك، على أية حال، ~~أمور لا نحتاج فيها إلى مزيد من الحصر، إذ لا يجهل أحد الجرائم التي يدفع الناس إلى ~~ارتكابها سأمهم من وضعهم الراهن، والرغبة في التغيير، والغضب الذي لا ضابط له، ~~وكراهية الفقر، كما لا يجهل أحد مدى سيادة هذه الانفعالات على نفوسهم وإشاعتها ~~الاضطراب فيها. وإنه لعمل شاق حقا أن تعمل الدولة ما من شأنه تجنب هذه الشرور، ~~وإقامة سلطة تكفل القضاء على الخداع، وأن تقيم في كل مجال من الأنظمة ما يجعل ~~الجميع - مهما كانت استعدادتهم ms311 الشخصية - يضعون المصلحة العامة فوق مصالحهم الخاصة. ~~صحيح أن الضرورة قد دفعت الناس إلى بناء جهود كبيرة في سبيل تحقيق هذه الغاية، ولكن ~~لم يحدث مطلقا أن وصلت الأمور إلى حالة أصبح فيها تهديد المواطنين لسلامة الدولة ~~أقل خطورة من تهديد الأعداء الخارجيين، أو أصبح فيها من يمثلون السلطة العليا ~~يخشون المواطنين أقل مما يخشون الأعداء الخارجيين. وأبلغ دليل على ذلك هو ~~الإمبراطورية الرومانية، التي كانت دائما تنتصر على أعدائها، ولكن هزمها مواطنوها ~~مرات عديدة ووضعوها في أسوأ المواقف، وخاصة في الحرب الأهلية بين فسباسيان ~~وفتليوس. ويمكن الرجوع في ذلك إلى تاكيتوس الذي يصف في أول الكتاب الرابع من تاريخه ~~مظهر المدينة المؤلم. وكذلك كان الإسكندر - على ما يقول كوينتوس كوريتوس في آخر الكتاب ~~الثامن - يفضل أن يمدحه أعداؤه على أن يمدحه مواطنوه؛ لأنه كان يظن أن انهيار ~~عظمته سيأتي على أيدي مواطنيه، وقد وجه إلى أصدقائه هذا الرجاء خشية من أن يلقى هذا ~~المصير: «لو أمنتموني على مؤامرات الداخل ومكائد أعواني لواجهت مخاطر الحروب ~~والمعارك دون تهيب. ولقد كان فيليب أكثر أمانا في ميدان المعركة منه في المسرح، فقد ~~نجا من ضربات الأعداء، ولكنه لم يستطع أن يتجنب ضربات أعوانه. ولو أحصيتم من بين ~~الملوك الآخرين الذين لقوا حتفهم غيلة، أولئك الذين قتلهم مواطنوهم، فستجدونهم ~~أكثر ممن لقوا حتفهم على أيدي الأعداء» (انظر كوينتوس كوريتوس، الكتاب 9: 6). ~~ولهذا السبب حاول الملوك الذين اغتصبوا السلطة قديما أن يؤمنوا أنفسهم بإقناع ~~شعوبهم بأنهم من سلالة الآلهة الخالدة، وكانوا يعتقدون أنه لو عدهم رعاياهم وجميع ~~الناس آلهة لا بشرا مثلهم فسيرضخون لإرادتهم، ويخضعون لهم بسهولة. وهكذا أقنع ~~أوغسطس الرومان بأنه سليل أنياس، الذي كان يعتقده الناس ابنا لفينوس ويعدونه من ~~بين الآلهة، وكان يريد «أن يعبده الناس ويقيموا له في المعابد صورة مقدسة وكهنة كبارا ~~وصغارا» (انظر تاكيتوس، الحوليات، الكتاب الأول). وقد عظم الناس الإسكندر بوصفه ابن ~~جوبتر، ويبدو أن ذلك لم يكن عن غرور منه، بل عن رغبة في التحوط كما يدل ms312 على ذلك ~~رده على هجوم هرمولاوس عليه، فقال: «إنه لمضحك حقا أن يطلب مني هرمولاوس أن ~~أكفر بجوبتر الذي اشتهرت بفضل نبوءته، أو يظن الناس أني المسيطر على إجابات ~~الآلهة. لقد اعطاني جوبتر اسم الابن وقد قبلته (لاحظ ذلك جيدا) لمصلحة الأعمال التي ~~أقوم بها، ولقد شاءت السماء أيضا أن يظنوني في الهند إلها! إن الشهرة هي التي ~~تقرر مصير الحروب، وكثيرا ما حل الاعتقاد مكان الحقيقة» (انظر كوينتوس كويتوس، 8: ~~8). وبهذه الكلمات القليلة استمر ببراعة في إقناع الجهلة بألوهيته المدعاة، وفي ~~الوقت نفسه كشف عن الدافع إلى هذا الادعاء. وقد فعل كليون هذا الشيء نفسه في خطابه إلى ~~المقدونيين، الذي حاول فيه إقناعهم بالطاعة امتثالا لملكهم، فبعد أن مجد ~~الإسكندر في حديثه، وأشاد بمزاياه، وألبس الادعاء بذلك ثوب الحقيقة، أخذ يعدد ~~مزايا هذا الموقف قائلا: «لقد عبد الفرس ملوكهم كما لو كانوا آلهة، لا بدافع من ~~الدين فحسب، بل بدافع من الفطنة. وأنا شخصيا سأركع على الأرض عندما يعطي الملك ~~إشارة بدء الحفل، ومن واجب الآخرين، وخاصة الحكماء منهم، أن يفعلوا مثلي» (المصدر ~~نفسه، 8: 5). ولكن المقدونيين كانوا على قدر وافر من الوعي، ولا يمكن أن يقبل ~~الناس، ما لم يكونوا في إحدى درجات الهمجية، أن يخدعوا بمثل هذه الطريقة المكشوفة، ~~وأن يتحولوا من رعايا إلى عبيد عاجزين عن تحقيق مصلحتهم الخاصة. ومع ذلك فقد نجح ~~بعض الملوك بسهولة أكبر في إقناع الناس بأن لهم جلالا يعلو على البشر، وبأنهم ظل ~~الله في الأرض، وبأن الله هو الذي ولاهم دون اقتراع عام أو موافقة الناس، وأن ~~هناك عناية خاصة تحفظه، وعونا إلهيا يحميه. وعلى المنوال نفسه وجد بعض ~~الملوك وسائل أخرى لتأمين سلطتهم، ولكني لن أتحدث عنها هنا لأنها خارجة عما أود ~~البرهنة عليه، وسأذكر فقط كما قلت من قبل الوسائل التي كشفها الوحي الإلهي ~~لموسى. # لقد ذكرنا من قبل، في الفصل الخامس، أن العبرانيين بعد خروجهم من مصر، لم يكونوا ~~ملتزمين بأي تشريع لأمة أخرى، وكان من حقهم أن يضعوا ms313 قواعد جديدة، ويحتلوا ما ~~يشاءون من الأراضي؛ ذلك لأنهم بعد تحررهم من اضطهاد المصريين الذي لا يطاق، لم ~~يعودوا مرتبطين بأي عقد مع أية سلطة بشرية، واستعادوا حقهم الطبيعي على كل ما ~~كان في نطاق قدرتهم، وكان في استطاعة كل فرد منهم أن يتساءل من جديد عما إذا كان ~~يود الاحتفاظ بهذا الحق أو التخلي عنه وتفويضه إلى شخص آخر. واتباعا لنصائح موسى، ~~الذي كان لديهم أعظم قدر من الثقة فيه، قرروا الخروج من هذه الحالة الطبيعية التي ~~وجدوا أنفسهم فيها، وتفويض كل حقهم إلى الله وحده، لا إلى أية سلطة بشرية. وهكذا ~~فإنهم، دون تردد، وبصوت واحد، وعدوا الله بأن ينفذوا أوامره، وبألا يعترفوا ~~منذ ذلك الحين بأي قانون إلا ما يقرره الله نفسه بوحي نبوي، هذا الوعد، أو هذا ~~التحويل للحق إلى الله، قد تم على النحو نفسه الذي ذكرنا من قبل أنه يحدث في حالة ~~المجتمع العادي، عندما يقرر الناس التخلي عن حقهم الطبيعي، فقد تخلى ~~العبرانيون عن حقهم الطبيعي وفوضوه إلى الله (انظر الخروج، 24: 7) # 6 # وذلك بعهد صريح وقسم، أعطوهما بكامل حريتهم دون أن يكونوا قد خضعوا لقوة ~~قاهرة أو للخوف من وعيد. ومن ناحية أخرى فإن الله، لكي يضمن العهد ويجعله راسخا ~~آمنا من كل خداع، لم يبرم معهم شيئا إلا بعد أن شرعوا بهذه القدرة العجيبة التي ~~أمكن بفضلها وحدها تحقيق الخلاص لهم في الماضي وفي المستقبل (انظر الخروج، 19: 4-5). # 7 # وإذن فاعتقاد العبرانيين بأنهم يحتاجون دائما في بقائهم إلى عناية القدرة ~~الإلهية، هو الذي جعلهم يفوضون الله كل قدرتهم الطبيعية على البقاء، التي ربما ~~كانوا يعتقدون قبل هذا التفويض أنهم هم الذين يملكونها. وبالتالي فوضوا له جميع ~~حقوقهم. ومنذ ذلك الحين أصبحت سلطة الحاكم عند العبرانيين لله وحده، وأصبحت الدولة التي ~~قامت على هذا النحو هي وحدها التي تستحق، بفضل هذا العهد، اسم مملكة الله، كما أصبح ~~الله يسمى بحق ملك العبرانيين، وبالتالي كان أعداء هذه الدولة أعداء الله، كما ~~أن من أراد من المواطنين اغتصاب ms314 السلطة، أصبحوا مدانين بجريمة الطعن في سلطة الله ~~العلية. وأخيرا، أصبح تشريع الدولة هو مجموع قوانين الله وأوامره، في هذه الدولة، إذن ~~كان القانون المدني والدين، الذي يتلخص كما رأينا في طاعة الله، شيئا واحدا. ~~وبعبارة أخرى لم تكن عقائد الدين تعاليم بل مجموعة من القوانين والأوامر، وكانت التقوى ~~تعد عدالة، والفسوق جرما وإثما، فمن ترك دينه لا يعود مواطنا، ويصبح لهذا ~~السبب وحده عدوا، ومن ضحى بحياته في سبيل الدين يكون شهيدا للوطن، فلم يكن هناك أي ~~فرق بين القانون المدني والدين؛ ولذلك أمكن تسمية دولة العبرانيين بالحكم الإلهي ~~(تيوقراطية)؛ إذ إن المواطنين لم يكونوا ملتزمين بالخضوع لأي تشريع سوى ما أوحى الله ~~به، ومع ذلك يجب القول بأن هذا الوصف نظري أكثر منه واقعي، فقد احتفظ العبرانيون - ~~كما سنبين فيما بعد - بحقهم في حكم أنفسهم، ويتضح ذلك في الوسائل التي ~~استخدمت والقواعد التي اتبعت في إدارة الدولة، وهذا ما سأعرضه الآن. # إن العبرانيين لم يخولوا حقهم إلى شخص آخر، بل تخلى عنه الجميع كما هو الحال في ~~النظام الديمقراطي، وصاحوا بصوت واحد: «سنفعل كل ما يطلبه الله منا.» (دون أي وسيط) ~~وبناء على هذا العهد ظل الجميع متساويين تماما؛ فكان لهم جميعا الحق نفسه في ~~مخاطبة الله، وفي تلقي قوانينه وتفسيرها، وكانوا يشاركون جميعا بوجه عام في إدارة ~~شئون الدولة؛ ولهذا السبب كان الجميع، في البداية، يقصدون الله ليسمعوا أوامره، ولكنهم ~~في أثناء هذه الحضرة الأولى فزعوا فزعا شديدا، وآثار فيهم كلام الله من القلق ما ~~جعلهم يظنون أن نهايتهم قد حانت، فتوجهوا إلى موسى للمرة الثانية وهم يرتجفون ~~وقالوا: «ها نحن قد استمعنا إلى الله وهو يحدثنا في النار، وليس هناك ما يدعونا لأن ~~نرغب في الموت. فهذه النار العظيمة ستلتهمنا يقينا، وسنموت حتما لو سمعنا صوت ~~الله مرة أخرى. وإذن فلتذهب أنت ولتستمع إلى كل ما يقوله الله لك وتبلغنا إياه ~~(أنت لا الله) وسنطيعك في كل ما سيقوله الله لك وسنعمل على تنفيذه.» وبهذا الكلام ms315 ~~أبطلوا العهد الأول وفوضوا إلى موسى كلية حقهم في التشاور مع الله وتفسير أوامره، ~~ولم يعد وعدهم منصبا على طاعة كل ما يبلغهم الله به، كما كان الحال من قبل، بل على ~~كل ما سيتلقاه موسى من الله (انظر التثنية، 5: الوصايا العشر؛ 18: 15-16). # 8 # ومنذ هذه اللحظة كان لموسى وحده الحق في إعلان شريعة الله وتفسيرها، وكان ~~وحده هو القاضي الأعظم الذي لا يحكم عليه أحد، أيا كانت العظمة القصوى (لأنه وحده ~~كان له الحق في مخاطبة الله وتبليغ الشعب ردوده وإجباره على تنفيذ أوامره). أقول: ~~إنه كان هو وحده الذي يملك هذا الحق، لأنه لو كان أحد في زمن موسى قد أراد أن يبشر ~~بشيء باسم الله لاتهم، حتى ولو كان نبيا حقيقيا، باغتصاب الحق الأعظم (انظر ~~العدد، 11: 28). # 9 ~~⋆ # وفي هذا الصدد، ينبغي أن نلحظ أنه بالرغم من أن الشعب قد اختار موسى، فإنه لم يكن له ~~الحق في انتخاب خليفة له؛ ذلك لأنه، بعد أن فوض العبرانيون لموسى حقهم في مخاطبة ~~الله، ووعدوا دون قيد أو شرط بأن يروا فيه متحدثا باسم الرب، فقدوا بذلك جميع ~~حقوقهم، وكان عليهم قبول من يختاره موسى خلفا له، وكأن الله هو الذي اختاره، ولو كان ~~موسى قد اختار خليفة له لأخذ على عاتقه مهمة إدارة شئون الدولة، أي كان من حقه ~~وحده مخاطبة الله في خبائه وبالتالي كانت لديه سلطة من القوانين وإلغائها، وإعلان ~~الحرب، وإقرار السلام، وإرسال السفراء وتعيين القضاة، واختيار خليفة له، أي بوجه ~~عام، القيام بجميع وظائف السلطة العليا؛ لو كان قد فعل ذلك، لأصبح نظام الحكم ~~ملكيا، مع فارق يسير هو أن الملكية العادية تقوم على تنفيذ مشيئة إلهية خافية على ~~الملك نفسه، على حين تقوم دولة العبرانيين أو يجب أن تقوم طبقا لمشيئة إلهية ~~أوحيت إلى الملك وحده، وهو فارق يزيد من سلطة الملك وحقه على كل شيء ولا يقلل ~~منها شيئا، أما الشعب فإنه يكون في كلا النوعين من النظام الملكي خاضعا، جاهلا ~~بالمشيئة الإلهية؛ إذ إنه في ms316 كلتا الدولتين يعتمد كلية على كلمة ذلك، ويعلم منه ~~وحده ما هو مشروع وما هو غير مشروع؛ إذ إن اعتقاد الشعب بأن جميع أوامر الملك قد ~~ألهمته إياها المشيئة الإلهية من شأنه أن يزيد من خضوعه له، لا أن يقلله. على ~~أن موسى لم يختر خليفة له على هذا النحو، وترك لخلفائه دولة تدار شئونها بطريقة ~~لا يمكن وصفها بأنها نظام شعبي أو أرستقراطي أو ملكي بل هي نظام تيوقراطي، فقد كان ~~حق تفسير القوانين وتبليغ ردود الله متروكا لسلطة شخص واحد، وحق إدارة شئون ~~الدولة حسب القوانين التي تم تفسيرها والردود التي تم تبليغها على هذا النحو ~~متروكا لشخص آخر (انظر في هذا الموضوع سفر العدد (27: 21)). # 10 ~~⋆ # ولكي يتضح ذلك سأعرض بطريقة منهجية طريقة ~~إدارة جميع شئون الدولة. أولا، أمر الشعب ببناء مسكن كان بمثابة بلاط لله، وهو ~~السلطة العليا لهذه الدولة. وكان من الطبيعي ألا يتحمل فرد واحد بعينه تكاليف هذا ~~البناء، بل يتحمله الشعب كله حتى يكون المسكن الذي يتم فيه التماس المشورة من ~~الله ملكا للجميع. وقد اختير اللاويون لخدمة هذا البلاط الإلهي وإدارته، واختير ~~هارون أخو موسى ليكون رئيسا لهم، ونائبا للملك الإله، ثم يخلفه في ذلك أبناؤه ~~خلافة شرعية. وإذن، كان هارون، وهو أقرب العبرانيين إلى الله، هو المفسر الأعظم ~~للقوانين الإلهية، وهو الذي يعطي الشعب ردود النبوة الإلهية، وهو الذي كان يتوجه ~~أخيرا بتضرعاته إلى الله من أجل الشعب، ولو كان له، بالإضافة إلى ذلك، حق الأمر ~~بما يريد لما أصبح ينقصه شيء ليكون ملكا مطلقا، ولكنه لم يحصل على هذا الحق، وكان ~~سبط لاوي كله مستبعدا بوجه عام من الاشتراك في الحكم إلى حد أنه لم يكن له ~~الحق، كباقي الأسباط في الاستحواذ على بعض الممتلكات ليستطيع على الأقل أن يرتزق ~~منها، فقد أمر موسى أن يقوم الشعب بسد حاجاته المادية، على أن هذا الوضع الخاص قد ~~جلب لهذا السبط احتراما عظيما من الشعب، على أساس أنه هو وحده الذي وهب نفسه ~~لله ms317. ثانيا، تكون جيش من الأسباط الاثني عشر الآخرين، وصدر له الأمر بغزو بلاد ~~الكنعانيين، وقسمت الأرض التي تم الاستيلاء عليها إلى اثني عشر قسما بالتساوي، ~~وتوزيعها بالقرعة، وقد ساعدهم في مهمتهم هذه يشوع والعازار كعب الأحبار. وبعد أن ~~عين يشوع قائدا عاما للجيش، أصبح له وحده الحق في سؤال الله كلما ظهرت ~~مشكلات جديدة، ولكنه لم يعتزل كموسى في خبائه أو في المظلة بل كان لا بد له من ~~الاستعانة بوساطة كعب الأحبار الذي يسمع وحده ردود الله، ثم يصدر يشوع الأوامر ~~المبلغة إليه من الحبر، ويدفع الناس إلى تنفيذها، ويبحث عن الوسائل اللازمة لذلك ~~ويستخدمها، ويختار في الجيش العدد الذي يريده من الرجال، ويرسل السفراء باسمه. وكان ~~قانون الحرب رهن مشيئته، ولم يخلفه شرعا أحد من بعده ولم يتم اختيار أحد إلا من ~~الله مباشرة، عندما كانت مصلحة الشعب كله تتطلب ذلك. وفيما سوى ذلك نقباء الأسباط ~~الاثنا عشر يقومون بتنظيم شئون الحرب والسلم، كما سأبين بعد قليل. وقد أمر موسى ~~بالخدمة العسكرية للجميع من العشرين حتى الستين، وبتكوين الجيش من المواطنين فقط، ~~ثم يقسم هذا الجيش يمين الولاء للدين، أي لله، لا للقائد العام أو كعب الأحبار؛ ~~ولذلك سمي جيش الله، وكتائبه كتاب الله كما سمي الله عند العبرانيين إله الجيوش؛ ~~ولهذا السبب كان تابوت العهد ينصب وسط الجند في المعارك الكبرى التي يتحدد فيها ~~مصير الشعب كله بالنصر أو الهزيمة، حتى يبذل الشعب قصارى جهده في المعركة، وكأن ~~الملك حاضر بينهم. ويكفي أن نتذكر وصايا موسى لخلفائه، لنفهم أنه عين موظفين في ~~الدولة لا سادة لها؛ ذلك لأنه لم يعط أحدا حق مخاطبة الله وحده وأينما شاء، ~~وبالتالي لم يعط أحد هذه السلطة المهيبة التي كانت لموسى نفسه؛ سلطة سن ~~القوانين وإلغائها، وإعلان الحرب وإقامة السلام، واختيار القائمين على تنظيم شئون الدين ~~وأمور الدولة، وباختصار القيام بجميع مهام السلطة العليا. صحيح أن كعب الأحبار كان ~~له الحق في تفسير القوانين وفي تبليغ ردود الله، ولكنه لم يكن ms318 يقوم بذلك وقتما ~~يشاء، كما كان الحال عند موسى، بل بناء على طلب قائد الجيش أو الجمعية العليا أو ~~السلطات المختصة في الدولة. # 11 # وعلى العكس من ذلك كان القائد الأعلى للجيش والمجالس السياسية يستطيعون أن ~~يخاطبوا الله كما يريدون، ولكنهم لم يكونوا يتلقون ردا إلا عن طريق كعب الأحبار؛ ~~ولذلك لم تكن كلمات الله على لسان الحبر أوامر كما كانت على لسان موسى، بل كانت مجرد ~~ردود، ولم تكن لها قوة الأمر والقرار إلا بعد أن يتلقاها يشوع والمجالس، هذا فضلا ~~عن أن كعب الأحبار الذي كان يتلقى بنفسه من الله الردود الإلهية لم يكن يعتمد على ~~أي جيش ولم يكن له حق إصدار الأوامر. وعلى العكس من ذلك لم يكن لمن يتمتعون بحقوق ~~ملكية الأرض أي حق في وضع القوانين. ولنضف إلى ذلك أنه إذا كان موسى قد عين كعب ~~الأحبار في حالة هارون وابنه العازار، فإن أحدا لم يعد له، بعد موت موسى، أي حق في ~~أن يختار حبرا. وكان الابن يخلف أباه شرعا، كذلك عين موسى القائد الأعلى للجيش ~~وأضفى عليه صفة القيادة بناء على حق موسى الذي فوضه له، لا بناء على حق كعب ~~الأحبار؛ ولهذا السبب فإنه عندما توفي يشوع لم يختر كعب الأحبار أحدا ليخلفه، ~~ولم يطلب نقباء الأسباط من الله المشورة في تعيين قائد جديد لجميع الجيوش، بل احتفظ ~~كل منهم بحق يشوع على جيش سبطه كما احتفظ جميع النقباء بالحق نفسه على جيش ~~العبرانيين كله. ويبدو أن العبرانيين بعد ذلك لم يكونوا في حاجة إلى قائد أعلى، إلا ~~في الحالات التي كانوا يوحدون فيها كل قواتهم لمحاربة عدو مشترك. وقد حدث ذلك في ~~زمان يشوع حين لم يكن لأي سبط موطن دائم، وكانت ملكية الأشياء حقا مشاعا بين ~~الجميع، وفيما بعد، عندما تم تقسيم الأراضي التي استولى عليها الأسباط بحق الغزو ~~وكذلك الأراضي التي كانوا يعتزمون غزوها، لم تعد هناك ملكية عامة مشتركة، ولم ~~يعد هناك، لهذا السبب ذاته، ما يدعو إلى ms319 وجود قائد عام، لأنه ابتداء من هذا التقسيم ~~أصبحت الأسباط المتميزة أقرب إلى الدولة الحليفة منها إلى الدولة الواحدة. صحيح أنه ~~بالنسبة إلى الله والدين، كان يجب النظر إلى العبرانيين على أنهم أمة واحدة، أما ~~بالنسبة لحق كل سبط على الآخر فقد كانوا أسباطا متحالفة، شأنهم في ذلك (إذا ~~استثنينا المعبد المشترك)، شأن «دول الاتحاد الهولندي» # 12 # السامية. والواقع أن تقسيم أية ملكية عامة إلى أجزاء، معناه أن يمتلك ~~كل فرد نصيبه وحده، وأن يتخلى الآخرون عما كان لهم من حق فيه؛ ولذلك عين موسى ~~نقباء للأسباط، حتى يتفرغ كل منهم بعد التقسيم لتنظيم شئون نصيبه أي ليضطلع بمهمة ~~استشارة الله في شئون سبطه، على لسان كعب الأحبار، وقيادة جيشه، وتأسيس المدن وتحصينها، ~~وتعيين القضاة فيها، ومحاربة عدو دولته الخاصة، وتنظيم شئون الحرب والسلم بوجه عام. ~~ولم يكن كل نقيب ملزما بالاعتراف بأي حكم سوى الله، أو على الأقل نبي بعثه ~~الله بالفعل. # 13 ~~⋆ # فإذا لم يقم نقيب سبط ما بواجباته نحو الله، كان على باقي الأسباط ألا تعامله على ~~أنه من بين الرعايا، بل إن عليها محاربته وكأنه عدو نقض عهدا أخذه على نفسه. وفي ~~الكتاب أمثلة كثيرة على ذلك، فبعد موت يشوع خاطب أبناء إسرائيل الله، ولم يخاطبه قائد ~~الجيش، وعندما علم أن على سبط يهوذا مهاجمة عدوه أولا، تحالف مع سبط شمعون وحده ~~لتوحيد قواتهما ضد العدو، ولم تدخل باقي الأسباط هذا الحلف (انظر القضاة، 1: 1-3)، # 14 # ويروى في الإصحاح نفسه أيضا أن كل سبط حارب العدو بمفرده وقبل ~~التسليم أو الخضوع ممن أرادوا ذلك، مع أن الأوامر الأصلية كانت تقضي بإبادة جميع ~~الأعداء بلا رحمة، وعدم التفاوض معهم على أي شرط من الشروط. صحيح أن السبط الذي كان ~~يقترف هذا الإثم، كان يوجه إليه اللوم، ولكنه لم يكن يدان، فلم يكن ذلك دافعا ~~كافيا لكي تتطاحن الأسباط في حرب بينها ويتدخل كل سبط في شئون الآخر. وعلى ~~العكس عندما أهان سبط بنيامين الأسباط الآخرين وقطع العلاقات السلمية التي تربطه ~~بهم ms320، بحيث إن الأسباط الحلفاء لم تعد تجد فيه حليفا يعتمد عليه، نشبت الحرب، ~~وبعد المعركة الثالثة انتصر الأسباط الآخرون وقتلوا، طبقا لقوانين الحرب، جميع أبناء ~~بنيامين، المذنبين منهم والأبرياء، ثم ندموا على هذه الجريمة بعد فوات الأوان ~~وحزنوا عليها. # هكذا أثبتنا بالأمثلة، على نحو قاطع، ما قلناه فيما يتعلق بحق كل سبط. وقد يسألني ~~سائل: من الذي كان يعين خليفة نقيب كل سبط؟ الواقع أني لم أجد في الكتاب جوابا ~~يقينيا في هذا الموضوع، ولكني أفترض أن أكبر المشايخ سنا كان له الحق في ~~خلافة نقيب السبط، نظرا إلى أن كل سبط كان مقسما إلى أسر يختار شيوخها من بين ~~المسنين في الأسرة، وقد اختار موسى من بين المشايخ سبعين معاونا له كانوا ~~يكونون معه المجلس الأعلى، وقد أطلق الكتاب اسم الشيوخ على من تولوا إدارة شئون ~~الدولة بعد موت يشوع، وكان لفظ الشيوخ يستعمل دائما عند العبرانيين للإشارة إلى ~~القضاة، وهو أمر يعلمه الجميع ولا شك. وفضلا عن ذلك فلا يهمنا كثيرا، بالنسبة ~~إلى مقصدنا، أن نعرف معرفة يقينية تعيين نقباء الأسباط، بل يكفي أن أكون قد بينت أن ~~أحدا بعد وفاة موسى لم يقم بكل مهام السلطة العليا، فلما لم يكن تصريف الأمور ~~العامة في دولة العبرانيين يعتمد على مشيئة إنسان واحد، أو مجلس واحد، أو حتى على الشعب ~~نفسه، وكان بعض منها من اختصاص سبط ما والبعض الآخر من اختصاص باقي الأسباط، وكان ~~لجميع الأسباط الحقوق نفسها، فإنه يتبين من ذلك بوضوح تام أن نظام الحكم بعد وفاة ~~موسى لم يكن ملكا ولا أرستقراطيا ولا شعبيا، بل كان حكما للسلطة اللاهوتية ~~(ثيوقراطيا) كما قلت من قبل (وذلك للأسباب الآتية): ~~(1) # كان المعبد هو المقر الملكي للدولة، وبالنسبة إليه وحده، كان جميع أفراد ~~الأسباط كلهم مواطنين في دولة واحدة كما بينا من قبل. ~~(2) # كان على جميع المواطنين أن يقسموا يمين الولاء لله حاكمهم الأعظم (وهو ~~وحده الذي وعدوه بالطاعة المطلقة في كل شيء). ~~(3) # كان الله وحده هو الذي يختار ms321 عند الحاجة قائدا أعلى. # 15 # وقد تنبأ موسى بذلك للشعب صراحة باسم الله (التثنية، 17: 15) # 16 # كما يشهد بذلك أيضا اختيار جدعون وشمشمون وصموئيل، وهو أمر لا يترك ~~مجالا للشك في أن القواد المخلصين الآخرين قد اختيروا بالطريقة نفسها، حتى ولو لم ~~يكن ذلك قد ذكر في تاريخهم. # والآن علينا أن نبحث كيف نجح نظام الحكم الثيوقراطي في تخفيف حدة انفعالات الحكام ~~والمحكومين على السواء، بحيث لم يصبح المحكومون عصاة ولا الحكام طغاة. # إذا ارتكب الذين يحكمون دولة ما أو الذين يرأسونها جرما ما، فإنهم يحاولون ~~دائما إخفاءه تحت ستار من القانون، وإقناع الشعب بأن سلوكهم جدير بالثناء، وهم ينجحون ~~في ذلك بلا عناء لأنهم هم وحدهم الذين لهم الحق في تفسير القانون، ومن ثم فإنهم ~~يستغلون هذه الميزة في ارتكاب كل أفعالهم المغرضة، وكل ما تدفعهم الشهوة إليه. ~~وعلى العكس تحد حريتهم المطلقة في السلوك لو كان هناك شخص آخر له حق تفسير ~~القوانين، وخاصة إذا كان التفسير المقترح صحيحا لا يمكن أن ينازع فيه أحد. ~~ويتبين من ذلك بوضوح تام أن أحد الدوافع القوية لعدد كبير من الجرائم التي ~~يرتكبها الأمراء، لم يكن قائما عند العبرانيين: # أولا: # لأن حق تفسير الشريعة كان متروكا بأسره للاويين وحدهم (انظر ~~التثنية، 21: 5) # 17 # الذين لم يكونوا يشاركون في أي تنظيم سياسي، ولم يكن لهم ~~حق الملكية، وكان كل ما يتمتعون به من امتياز واحترام مستمدا ~~من تفسيرهم الصحيح للقوانين. # ثانيا: # لأنه كان على الشعب كله، تطبيقا لأوامر الله، أن يجتمع مرة كل ~~سبع سنوات في مكان محدد، لكي يتلقى من الحبر معلومات عن ~~الشريعة، كما كان على كل فرد أن يقرأ باستمرار سفر الشريعة ويعيد ~~قراءته (انظر: التثنية، 31: 9 وما بعدها؛ 6: 7)، # 18 # بحيث كان على الرؤساء، حرصا على مصلحتهم الخاصة، أن ~~يعملوا على تصريف الشئون العامة طبقا للقوانين التي سنت من قبل، ~~والتي كان الجميع يعرفونها معرفة لا بأس بها، وذلك إذا أراد هؤلاء ~~الرؤساء أن يكونوا موضع أعظم احترام من الشعب، الذي كان يبجلهم، ~~عندما يتوافر فيهم ms322 هذا الشرط، باعتبارهم رسل مملكة السموات وخلفاء ~~الله. أما إذا لم يتوافر فيهم هذا الشرط (أي إذا خرقوا القوانين) فلم ~~يكن من الممكن أن يسلموا من كراهية الرعية لهم (وهي أشد ألوان ~~الكراهية، كما هي العادة في كل كراهية لاهوتية) وهناك عامل آخر ساعد ~~على منع نقباء الأسباط من الاندفاع وراء أطماعهم، هو تكليف جميع ~~المواطنين بالخدمة العسكرية (من العشرين إلى الستين بلا استثناء) ~~وحظر استقدام النقباء للمرتزقة من الخارج، وكان لهذا الإجراء أثر ~~كبير، إذ يحتاج الطغاة، من أجل قهر الشعب، إلى جيش يرتزق منهم، ~~فضلا عن أن هؤلاء الطغاة لا يخشون شيئا بقدر ما يخشون جيشا ~~يتألف من مواطنين أحرار بذلوا شجاعتهم وجهدهم وأريق دمهم في ~~سبيل عزة الوطن وحريته؛ ولهذا السبب فإن الإسكندر عندما كان عليه ~~محاربة داريوس للمرة الثانية، لم ينفجر غضبا على بارمينون بعد أن سمع ~~منه نصيحته، بل غضب على بوليسبرخون، الذي أبدى رأي بارمينون نفسه؛ ذلك ~~لأنه فيما يقول كوينتوس كوريتوس، (الكتاب الرابع: 13): «لم يجرؤ على ~~توجيه اللوم مرة أخرى إلى بارمينون، بعد أن كان قد غضب عليه من قبل ~~غضبا شديدا، ولم يستطع القضاء على حرية المقدونيين، التي كان ~~يخشاها، إلا بعد أن أسر من الجنود عددا أكبر من المقدونيين، ~~وأدخلهم في جيشه، بعد ذلك أطلق لانفعالاته العنان، بعد أن كانت ~~حرية فضلاء المواطنين قد كبتها طويلا. فإذا كانت حرية الجيش ~~المؤلف من مواطنين تسطيع أن تكبح جماح انفعالات رؤساء دولة أقامها ~~البشر، وهم الذين اعتادوا أن يحتفظوا لأنفسهم بكل أمجاد النصر، فإن ~~تأثيرها ولا شك كان أعظم بكثير على رؤساء العبرانيين الذين حارب ~~جنودهم في سبيل المجد الإلهي، لا مجد أحد الرؤساء، ولم يكونوا يبدءون ~~معركة قبل أن يستشيروا الله ويسمعوا إجابته. # ولنضف إلى ذلك ثانيا أن نقباء الأسباط لم يرتبطوا فيما بينهم إلا ~~برباط الدين المشترك، فإذا بدأ أحدهم في التخلي عنه والنيل من حق ~~الفرد الإلهي، # 19 # كان من حق الآخرين القضاء عليه وكأنه عدو. # ثالثا: # يجب أن نذكر أيضا ms323 الخوف من ظهور نبي جديد، فقد كان يكفي أن يأتي ~~إنسان معروف بالشرف ويبرهن ببعض الآيات الصحيحة على نبوته ~~ليكون له حق مطلق في إعطاء الأوامر بوصفه ممثلا لله الذي ~~تكشف له وحده، مثل موسى لا بوصفه ممثلا لله بتوسط الحبر على ~~طريقة الأسباط. ولا شك أن أمثال هؤلاء الأنبياء كانوا يستطيعون ~~بسهولة اكتساب ثقة الشعب المضطهد وإقناعه بكل ما يريدون بآيات ~~يسيرة. وعلى العكس إذا استطاع النقيب أن ينظم الشئون العامة ~~باستقامة أمكنه أن يتدخل في الوقت المناسب وأن يجعل النبي ~~يمثل أمام محكمته، حتى يعلم بأنه كان يعيش عيشة شريفة حقا، وإن ~~كان قد تلقى بالفعل آيات على بعثته، وإن كان ما يقوله وما يدعي ~~أنه من عند الله متفقا مع العقيدة الدينية الموروثة ومع التشريع ~~الوطني العام، فإن لم تكن للآيات القيمة المطلوبة، أو كانت التعاليم ~~بدعة، كان من حق النقيب الحكم عليه بالموت، وإلا تم الاعتراف ~~بالنبي، على ألا يكون ذلك إلا بناء على سلطة النقيب وبشهادته. # رابعا: # لم يكن نقيب السبط يفضل مواطنيه في النبل والعظمة أو في أي حق ~~موروث، بل كان يعهد إليه بحكم الدولة نظرا لسنه وفضيلته ~~وحدهما. # وأخيرا: # نلحظ عند العبرانيين أن النقباء والجند لم يكن من الممكن أن ~~يفضلوا الحرب على السلم، فقد كان الجيش - كما قلنا من قبل - ~~مكونا من المواطنين وحدهم، وكانوا هم أنفسهم الذين يتولون أمور ~~الحرب والسلم، فمن كان جنديا وقت الحرب كان مواطنا عاديا في ~~الحياة المدنية، ومن كان ضابطا آمرا، كان قاضيا في دائرته، أما ~~القائد الأعلى فكان قاضي قضاة المدينة. فلم يكن من الممكن إذن أن ~~يرغب أحد في الحرب من أجل الحرب، بل لإقامة السلام وللدفاع عن الحرية. ~~والأرجح أن نقيب السبط كان يتجنب بقدر ما يستطيع أي تغيير في ~~النظام القائم، حتى لا يتوجه إلى الحبر ويهين كرامته. # هذه هي الأسباب التي منعت النقباء من الخروج على حد الاعتدال. ولنبحث الآن في ~~الكيفية التي تم بها ضبط انفعالات الشعب، وهو بدوره ms324 أمر تبينه لنا أسس ~~التنظيم الاجتماعي بوضوح، فحتى لو ألقينا على هذه الأسس نظرة عابرة لوجدنا أنها كان ~~لا بد أن تبث في قلوب المواطنين حبا فريدا لوطنهم، يستحيل عليهم معه التفكير ~~في خيانته أو التخلي عنه، بل لقد تعلق الجميع به إلى حد أنهم كانوا يفضلون ~~الموت على أية سيطرة أجنبية عليهم. فالواقع أنهم بعد أن فوضوا حقهم إلى الله ~~واعتقدوا أن مملكتهم مملكة الله، وأنهم وحدهم أبناء الله، وأن الشعوب الأخرى أعداء ~~الله؛ ولهذا السبب كانوا يكنون لهذه الشعوب كراهية شديدة (وهي كراهية كانت تبدو لهم ~~علامة على التقوى، انظر: المزمور 139: 21-22). # 20 # وكانوا يشعرون بفزع شديد إزاء فكرة التعهد بالولاء للأجنبي أو وعده ~~بالطاعة، ولم يكن هناك أشنع أو أبغض، في نظرهم، من خيانة وطنهم، أي مملكة الله الذي ~~يعبدونه، وكانت مجرد الإقامة في أرض أجنبية تبدو لهم عارا، لأنه لم يكن يسمح لهم ~~بإقامة شعائر دينهم، التي هم أحرص الناس عليها، في أي مكان آخر؛ ولهذا السبب ~~أيضا كانوا يرون أرض وطنهم مقدسة وكل أرض أخرى دنسة لا قدسية فيها. ومن هنا ~~فإن داود عندما اضطر إلى هجر وطنه، ندب على حاله أمام شاءول قائلا: «إن كان من ~~يحنقوك علي بشر فعليهم اللعنة لأنهم يسلبون مني ميراثي الإلهي وينزعونني منه ~~ويقولون لي: اذهب واعبد آلهة أجنبية.» لذلك لم يحكم على مواطن بالنفي مطلقا، وهذا ~~أمر يجب ملاحظته جيدا؛ لأن من يرتكب جرما كان في نظرهم يستحق العقاب، لا العار، ~~لذلك لم يكن حب العبرانيين لوطنهم مجرد حب، بل كان تقوى تحييها العبادة اليومية ~~وتغذيها، كما تثيرها في الوقت نفسه كراهيتهم للشعوب الأخرى، بحيث أصبحت هاتان ~~العاطفتان طبيعة ثانية عند العبرانيين. الواقع أن شعائر الدين العبري لم تكن تختلف عن ~~شعائر باقي الأديان فحسب بحيث يشعر المؤمنون بأنهم مختلفون كل الاختلاف عن غيرهم، ~~بل كانت مناقضة لها أشد التناقض، وقد كان لا بد أن يتولد عن العار الذي كانوا ~~يلحقونه بالأجنبي كل يوم، كراهية شديدة له، كانت أشد تملكا ms325 لقلوبهم من أية ~~عاطفة أخرى، وهي كراهية تتولد عن الإيمان والتقوى، بل كانت هي نفسها تعد تقوى، ~~وتلك بحق هي أقوى أنواع الكراهية وأشدها تأملا. ولقد كان يتمثل في هذه الحالة ~~بدورها ذلك العامل المألوف الذي كان يزيد من حدة الكراهية على الدوام، وأعني به ~~الكراهية المتبادلة والمتأصلة التي كانت تكنها الشعوب الأخرى بدورها ~~للعبرانيين. كل هذه الظروف مجتمعة؛ أعني حرية المواطنين في الدولة إزاء غيرهم من ~~المواطنين، والولاء للوطن، والحق المطلق ضد الأجنبي، وإباحة الكراهية الشديدة لكل ~~من هو غير يهودي وجعلها واجبا مقدسا، والتميز بالعادات والشعائر. أقول: إن ~~هذه الظروف كلها قد ساعدت على تثبيت قلوبهم، بحيث تعلم المواطنون أن يتحملوا ~~دائما بصبر وشجاعة في سبيل وطنهم أي امتحان. وهذا أمر يوضحه لنا العقل وتشهد به ~~التجربة. وطالما كانت مدينتهم قائمة لم يستطع العبرانيون الخضوع طويلا للأجنبي، حتى ~~تعود الناس تسمية أورشليم بالمدينة المتمردة (انظر: عزرا، 4: 12، 15) # 21 # فلم يستطع الرومان بسهولة هدم الدولة العبرية الثانية (التي كانت على ~~أكثر تقدير ظلا للدولة الأولى، بعد أن سلب الأحبار حقوق نقباء الأسباط) ويشهد ~~تاكيتوس على ذلك في الكتاب الثاني من تاريخه بقوله: «لقد انتصر فسباسيان في حربه ضد ~~اليهود، ولكنه لم يستطع اقتحام أورشليم، فقد كانت تلك مهمة صعبة وشاقة، ويرجع ذلك ~~إلى الاستعداد النفسي الخاص للشعب وشدة تعصبه، أكثر مما يرجع إلى قواته الحقيقية ~~الباقية المحاصرين لمواجهة ضرورات الموقف.» وبالإضافة إلى هذا الباعث، الذي يختلف ~~تقديره من فرد لآخر، كان هناك باعث آخر فريد له في الدولة العبرية أعظم الأثر في ~~تثبيت نفوس المواطنين، في المحافظة عليهم من أي ضعف أو رغبة في هجر وطنهم، وأعني به ~~عامل المنفعة الذي يعطي الأفعال الإنسانية قوتها وحياتها. ففي هذه الدولة كان ~~للمصلحة الخاصة أهمية فريدة؛ إذ لم يكن المواطنون في أي مكان آخر يملكون أموالهم ~~عن حق مضمون بقدر ما كانوا يملكونها في هذه الدولة، فقد كان نصيب كل منهم من ~~الأرض والحقول مساويا لنصيب النقيب، وكان كل منهم هو السيد الدائم ms326 لأرضه، فإذا ~~اضطر أحد بسبب الفقر إلى أن يبيع ممتلكاته أو حقه ردت إليه الأرض في وقت ~~العيد (اليوبيل)، وكانت هناك أنظمة أخرى من هذا النوع تمنع من سلب أحد نصيبه ~~المعتاد من الممتلكات. وكان الفقر محتملا في هذا البلد أكثر منه في أي بلد آخر؛ ~~إذ كان الإحسان للآخرين أي للمواطنين عملا صالحا يتقرب به الناس إلى الملك الإله. ~~وإذن فلم يكن في استطاعة العبرانيين أن يعيشوا سعداء خارج وطنهم، إذ كانوا معرضين ~~لجميع ألوان العوز والخزي في كل مكان. ومما كان له أكبر الأثر في ربطهم بأرض الوطن، وفي ~~حثهم على تجنب الحرب الأهلية وكل أسباب الشقاق، أن أحدا لم يكن سيدا للآخر، ~~بل كان الله سيدا للجميع، وكان حب المواطنين والإحسان إليهم أفضل مظاهر التقوى، ~~وكان يقوي من هذا الحب كراهيتهم للشعوب وكراهية الشعوب لهم. وفضلا عن ذلك فقد ~~كانت الطاعة نتيجة للنظام الصارم الذي نشئوا عليه؛ فقد كانت جميع أفعالهم خاضعة لأحكام ~~الشريعة، ولم يكن حرث الأرض مصرحا به في كل الظروف، بل في أوقات معينة وفي ~~سنوات معينة فقط، وبمواش من نوع معين، كذلك لم يكن البذر والحصد مسموحا بهما ~~إلا بطريقة معينة وفي وقت معين. وبوجه عام كانت حياة العبرانيين كلها طاعة ~~مستمرة (انظر في هذا الموضوع الفصل الخامس عن فائدة الشعائر)، ونظرا إلى اعتيادهم ~~هذه الحياة فإنها لم تعد في نظرهم عبودية، بل بدت لهم هي والحرية شيئا ~~واحدا، بحيث لم يعد الممنوع مرغوبا فيه من أحد، بل أصبح الفعل الذي يؤمرون به هو ~~وحده المرغوب. وذلك كان التزامهم بأيام الراحة والمتعة الدورية في الجيش طاعة لله لا ~~إمتاعا لأنفسهم، وكانوا يحلون ضيوفا على الله ثلاث مرات سنويا (انظر التثنية، 16)، # 22 # كما كان عليهم التوقف عن العمل والإخلاد إلى الراحة في اليوم السابع، وفي ~~مناسبات أخرى لم تكن المتع البريئة وإقامة المآدب مصرحا بها فقط بل كانت مفروضة ~~بالأمر، ولا أعتقد أن هناك تدابير أكثر فاعلية من هذه في التأثير على قلوب الناس، ~~فليس ms327 هناك شيء أقوى تأثيرا في النفس من الفرح المنبعث من الإيمان، أي من الحب والإعجاب. # 23 # ومع ذلك لم يكن هناك خوف من أن ينتابهم ملل التكرار المستمر لأن ~~الشعائر الخاصة بأيام العيد كانت نادرة ومتنوعة. يضاف إلى ذلك احترامهم الشديد ~~للمعبد فكانوا يحافظون عليه بدافع ديني نظرا إلى الطابع الفريد الذي كانت تتسم به ~~شعائره والطقوس الواجب اتباعها حتى يسمح بالدخول فيه. وحتى في أيامنا هذه، ما زال ~~ينتاب اليهود فزع شديد كلما قرءوا قصة تدنيس منسي للمعبد # 24 # عندما تجرأ وأقام فيه صنما، ولم يكن الشعب أقل احتراما للقوانين التي ~~كانوا يحتفظون بها بعناية وبدافع ديني في المحراب الأكثر أمنا. ولذلك قل الخوف من ~~القلاقل الناجمة عن انتشار الأحكام المسبقة بين الشعب، ولم يجرؤ أحد على أن يصدر ~~حكما على الأمور الإلهية، بل كان على الجميع أن يطيعوا كل ما أمر الله به، إما ~~بناء على سلطة الرد الخاص الذي يبعث به الله، وإما بناء على سلطة الشريعة التي ~~أوحى بها الله منذ القدم، دون إعمال للعقل. # أظنني الآن قد عرضت المبادئ الأساسية لهذه الدولة عرضا واضحا، وإن كان موجزا، ~~ولم يبق لنا إلا أن نعرف الأسباب التي من أجلها لم يحافظ العبرانيون في كثير ~~من الأحيان على الشريعة، # 25 # والتي جعلتهم يقعون مرات عديدة تحت نير الأجنبي حتى انهارت دولتهم ~~تماما في النهاية، # 26 # قد يقال: إن السبب في ذلك هو عصيان هذه الأمة، وهو قول صبياني؛ فلماذا ~~كانت هذه الأمة أكثر عصيانا من الأمم الأخرى؟ لم تكن الطبيعة حتما هي السبب في ~~ذلك؛ لأن الطبيعة لا تخلق شعوبا، بل أفرادا # 27 # لا ينقسمون إلى شعوب إلا لاختلافهم في اللغة والقوانين والعادات ~~الموروثة، فالقوانين والعادات وحدها هي التي تعطي كل أمة طابعا مميزا، ووضعا ~~خاصا، وأحكاما مسبقة تنفرد بها. # فإذا سلمنا بأن العبرانيين كانوا أكثر عصيانا من باقي البشر، فيجب أن يرجع ذلك ~~إلى أوجه نقص معينة في قوانينهم أو في عاداتهم الموروثة. # 28 # صحيح أنه لو كان الله قد أراد أن يعطيهم ms328 دولة أكثر استقرارا، لجعل لهم ~~دستورا مختلفا وقوانين مغايرة، ولأقام حكما آخر، وهكذا نضطر إلى القول أنهم ~~قد أغضبوا إلههم ابتداء من التشريع الأول لا ابتداء من تأسيس المدينة كما يظن ~~إرميا (انظر 32: 31). # 29 # وهذا ما يؤكده حزقيال بقوله (20: 25): «فأعطيتهم رسوما غير صالحة ~~وأحكاما لا يحيون بها ونجستهم بعطاياهم بإجازتهم في النار كل فاتح رحم لكي ~~أدمرهم حتى يعلموا أني أنا الرب.» # 30 # ولكي نفهم جيدا هذه الكلمات، وسبب انهيار دولة العبرانيين، فلنتذكر ~~أولا أن الهدف الأصلي كان قصر البعثة المقدسة على الأطفال حديثي الولادة دون ~~تمييز خاص للاويين (انظر العدد، 8: 17)، # 31 # ولكن بعد أن عبد الجميع العجل، باستثناء اللاويين، استبعد الأطفال حديثو ~~الولادة، وأصبحوا يعدون مدنسين، وتم اختيار اللاويين بدلا عنهم (التثنية، 10: 8). # 32 # والحق أنني كلما فكرت في هذا التغيير وجدت نفسي أقول مع تاكيتوس: ~~عندئذ لم يعد الله يهتم بسلامة العبرانيين، بل بانتقامه الخاص، وأكاد أصعق دهشة # 33 # عندما أتأمل شدة هذا الغضب الذي تملك روحه السماوية (أي روح الله) ~~بحيث جعله يضع القوانين إرضاء لرغبته في الانتقام وعقابا للعبرانيين، لا من أجل ~~خلاص الشعب كله وسلامته وشرفه، كما جرت العادة في وضع القوانين. وهكذا أصبحت هذه ~~القوانين تبدو أقرب إلى التعذيب والعقاب منها إلى القوانين الفعلية، التي هي وسيلة ~~لخلاص الشعب. والحقيقة أن كل الهبات التي كان العبرانيون مضطرين إلى إعطائها ~~اللاويين والكهنة - وهي وجود فداء الأطفال حديثي الولادة، ودفع مبلغ من المال عن كل ~~فرد في الأسرة للاويين، وأخيرا تميز اللاويين على غيرهم بأن من حقهم وحدهم ~~دخول الأماكن المقدسة - كل هذه دلائل متكررة على تدنيس الشعب ونبذ الله له. ~~وفضلا عن ذلك، كان اللاويون ينتهزون كل فرصة ليشعروا العبرانيين بعارهم. ~~ولا شك أنه كان هناك، من بين خدام المعبد من اللاويين الذين يعدون ~~بالآلاف، بعض الكهنة المنافقين، مما جعل الشعب يراقب بدقة أفعال اللاويين، ~~وهم بشر على أية حال، ويلقي عليهم جميعا أي ذنب يرتكبه واحد منهم. وهذا سبب ~~استمرار القلاقل المتوالية بين الشعب، والسأم الذي شعر به وخاصة في ms329 سنوات القحط، ~~من إعانة هؤلاء العاطلين المكروهين الذين لا تربطهم بهم أية قرابة، فلا عجب إذن ~~إن كان الشعب، في فترات الهدوء التي لا تظهر فيها معجزات صارخة أو رجال ذوو سلطة ~~فائقة، يستسلم لغضبه وأطماعه الشديدة، فيفقد أولا حميته الدينية، ثم يتخلى عن ~~ممارسة عبادة دينية هي حقا إلهية، ولكنه يراها مصدرا لإذلاله، بل موضوعا ~~لارتيابه، وسرعان ما تتجه رغبته إلى البحث عن عبادة أخرى، ولا عجب إن كان ~~النقباء، في بحثهم الدائم عن وسيلة للتقرب إلى الشعب وإبعاده عن الحبر، لكي يحصلوا ~~وحدهم على حقوق الحكام، يرضخون لرغبات الشعب، ويقدمون له عبادات جديدة. ولو كانت ~~دولة العبرانيين قد قامت كما أراد مؤسسها الأول لكان لجميع الأسباط الحق نفسه، ~~والشرف نفسه، ولعم الأمان في كل مكان، فمن الذي يرغب في التعدي على الحق ~~المقدس لأقربائه؟ وأي شيء يرغب فيه المرء أكثر من إطعام الآباء والإخوة والأقرباء ~~بدافع من الحمية الدينية. ومن تعلم تفسير القوانين منهم، وتلقي الردود الإلهية ~~منهم؟ بهذه الطريقة؛ أعني لو كان لكل سبط الحق نفسه في تنظيم شئون الدين، كان من ~~الممكن ربط الأسباط فيما بينهم برباط قوي. ولو كان قد تم اختيار اللاويين ~~بدافع غير الغضب والانتقام لما كان هناك ما يخشى منه، ولكن العبرانيين - كما ~~قلنا من قبل - أغضبوا ربهم، وتركهم الله - حسب تعبير حزقيال - يدنسون أنفسهم ~~بقرابينهم التي يفدون بها كل فتح في الرحم حتى يستطيع إهلاكهم. وتؤيد الروايات ~~التاريخية كل ما أقوله، فبمجرد أن بدأ الشعب في التمتع بالراحة في الصحراء رفض ~~عدد كبير من الناس - لم يكونوا مع العامة - امتياز اللاويين، وانتهزوا هذه الفرصة ~~لكن يروا فيها دليلا على أن موسى لم يضع هذه التنظيمات المختلفة بأمر من الله بل ~~بمحض خياله، ألم يفضل سبطه ويعطي أخاه الحبروية إلى الأبد؟ وهكذا قامت جماعة ~~منهم بثورة صاخبة ضد موسى، مطالبين بمساواتهم جميعا في القدسية الدينية، ~~ومعترضين بأن تفضيله سبطا على الآخرين فيه خرق للشريعة، وعندما أخفق موسى في ~~تهدئة معارضيه بالحجة العقلية ms330 التجأ إلى معجزة كان المفروض منها أي تؤدي إلى إعادة ~~الإيمان، ولكنها أدت إلى هلاك الجميع ، ونشأت عن ذلك فتنة جديدة بين الشعب كله، عندما ~~آمن الشعب بأنه هلك بحيلة بارعة من موسى لا بأمر الله، وبعد مذبحة كبيرة وظهور ~~الطاعون، أدى الإعياء الذي تملكهم إلى استتباب الهدوء بينهم، ولكن جميع العبرانيين ~~أصبحوا يفضلون الموت على الحياة، وهكذا خمدت الفتنة دون أن يعم الوفاق ويشهد ~~الكتاب على ذلك (التثنية، 31: 21)، فبعد أن تنبأ الله لموسى بتخلي الشعب بعد موته ~~عن عبادة الله أضاف قائلا: «لأني عالم بخواطرهم التي يجرونها اليوم من قبل أن ~~أدخلهم الأرض كما أقسمت.» وبعد ذلك بقليل قال موسى للشعب: «لأني أعلم تمردكم ~~وقساوة رقابكم فإنكم وأنا في الحياة معكم اليوم قد تمردتم على الرب فكيف بعد ~~موتي؟» وكلنا نعلم أن ما تنبأ به موسى هو الذي حدث، فقد أدت التغيرات الكبيرة ~~والإباحية المطلقة والترف والإهمال إلى انهيار عام في الدولة، حتى وقع ~~العبرانيون مرات عديدة تحت نير الأجنبي، فنقضوا عهدهم مع الله بعد أن سقط حقه، ~~وأرادوا لأنفسهم ملوكا من البشر بحيث لا يعود المعبد مركز السلطة، بل البلاط، وبحيث ~~أصبح رجال الأسباط كلهم مواطنين، لا بسبب خضوعهم لقانون الله والحبروية، ~~بل بسبب خضوعهم لملك واحد. وقد كان هذا التغيير ~~سببا قويا لوقوع فتن جديدة أدت إلى الانهيار التام للدولة؛ ذلك لأن الملوك لا ~~يقبلون مطلقا أن يحكموا حكما غير مأمون، ولا يسمحون بوجود دولة مستقلة داخل ~~الدولة. صحيح أن الملوك الأوائل المختارين من بين الرعية كانوا راضين بما وصلوا إليه ~~من مراتب الشرف، ولكن بمجرد اعتلاء الأبناء العرش خلفا للآباء بحق الوراثة، عملوا ~~على إحداث تغييرات تدريجية حتى يتمكنوا آخر الأمر من الاستيلاء على حق السلطة في ~~الدولة كاملا، ولكن سلب منهم قدر عظيم من هذا الحق، ما دامت سلطتهم لم تمتد إلى ~~التشريع الذي كان الحبر هو الذي يحافظ عليه في المحراب، وهو الذي يفسره للشعب؛ وعلى ~~هذا النحو اضطر الملوك كباقي الرعية إلى احترام ms331 القوانين، ولم يكن لهم حق ~~نسخها أو وضع قوانين جديدة لها بالسلطة نفسها، والسبب الذي أدى إلى سلب هذا الحق ~~منهم هو أن قانون اللاويين كان يمنع الملوك والرعية على السواء - لأنهم ~~دنيويون - من رعاية شئون الدين. والسبب الأخير هو أن سلطتهم لم تكن مضمونة أمام ~~إرادة أي رجل واحد يعترف به نبيا، ويستطيع بذلك القضاء عليها وعلى سيطرة الملك، ~~وهو أمر كانت له أمثلة كثيرة، ألم يكن صموئيل يعطي بكل ثقة أوامر ملزمة لشاءول؟ ~~ألم ينتزع منه النبي بكل سهولة حقه في الحكم وأعطاه داود مقابل خطأ واحد ارتكبه ~~شاءول؟ لذلك كان عليهم الحذر من وجود دولة داخل الدولة، وكانوا يحكمون حكما محفوفا ~~بالخطر. ولكي يقلل الملوك من خطورة هذين العاملين سمحوا بأن تخصص معابد أخرى ~~لعبادة آلهة مختلفة، بحيث لا يسأل اللاويون في شيء، ثم حرضوا بعض الناس مرات ~~عديدة على التنبؤ باسم الله بحيث يعارض هؤلاء المتنبئون الأنبياء الصادقين. ولكن ~~بالرغم من كل هذه الجهود لم يحققوا غرضضهم، فقد استعد الأنبياء لكل شيء، ~~وكانوا ينتظرون الوقت المناسب، وهو وقت انتقال السلطة إلى ملك جديد تكون سلطته ضعيفة، ~~خاصة وأن ذكرى الملك السابقة ما زالت حية، فكان سهلا على الأنبياء عندئذ، اعتمادا ~~على السلطة الإلهية، أن يدفعوا بشخص حانق على الملك ومعروف بشجاعته في الدفاع عن حق ~~الله إلى الاستيلاء على السلطة أو على جزء منها. ولكن لم يستطع الأنبياء بهذه ~~الطريقة الوصول إلى شيء؛ فإذا كانوا قد نجحوا في القضاء على طاغية، فإنهم أخفقوا في ~~القضاء على الدوافع الحقيقية للطغيان، فيظهر طاغية جديد بعد دفع ثمن باهظ من دماء ~~المواطنين، ويستمر الشقاق، وتتوالى الحروب الأهلية بلا انقطاع، وتبقى الدوافع نفسها ~~المؤدية إلى خرق القانون الإلهي، ولا تختفي تماما إلا بعد انهيار الدولة نفسها. # نستطيع الآن أن نرى كيف أدخل الدين في مملكة العبرانيين، وكيف كان يمكن لهذا النظام ~~أن يستمر إلى الأبد لو سمح له الغضب العادي للمشرع # 34 # بالبقاء كما أنشأه من قبل. ولكن لما كان ذلك ms332 مستحيلا، فقد قضى على هذا ~~النظام. ويلاحظ، فضلا عن ذلك، أنني لم أتحدث هنا إلا عن الدولة العبرانية الأولى، ~~أما الثانية فكانت مجرد ظل لها، إذ اضطر شعبها إلى احترام تشريع الفرس بعد ~~خضوعه لهم، وبعد تحرره استولى الأحبار على حق نقباء الأسباط وكانت لهم السلطة ~~المطلقة، وهكذا تولدت عند الكهنة رغبة قوية في الوصول إلى الحكم والحبروية على ~~السواء. وهذا هو السبب في أننا فضلنا عدم التوقف كثيرا عند هذه الدولة. ~~وسنتحدث في الفصول القادمة عما إذا كانت الدولة الأولى، بما فيها من سمات افترضنا ~~أنها كان يمكن أن تجعلها باقية، يمكن أن تتخذ أنموذجا نحاكيه الآن، أو أن ~~محاكاتها بقدر الإمكان دليل على التقوى. # وفي نهاية هذه المناقشة سأكتفي بإبداء ملحوظة على موضوع أثير من قبل، فالنتيجة ~~التي ينتهي إليها هذا الفصل كله هي أن الحق الإلهي نتيجة لعهد لا يوجد بدونه ~~أي حق إلا حق الطبيعة؛ لذلك لم يكن للعبرانيين - بأمر دينهم - أي واجب مقدس ~~تجاه الشعوب الأخرى التي لم تشارك في هذا العهد، بل كان واجبهم هذا يسري إلى مواطنيهم وحدهم. # 35 # الفصل الثامن عشر # | استنتاج بعض النظريات السياسية من دولة العبرانيين ~~وتاريخها # مع أن النظام التيوقراطي للعبرانيين - كما عرضنا في الفصل السابق - كان يستطيع أن ~~يبقى دواما، # 1 # فلم يكن من الممكن اتخاذه أنموذجا في ظروف تاريخية أخرى وإلا خرج ~~قصدنا عن حدود العقل. فلو أراد بعض الناس تفويض حقهم لله وجب عليهم عقد ميثاق ~~صريح مع الله كما فعل العبرانيون من قبل. فلا تكفي إذن مجرد إرادة التفويض ~~الجماعي للحق، # 2 # بل لا بد من إرادة الله الذي يفوض له هذا الحق. على أن الله قد أوحى ~~إلى الحواريين بأن حلفه لن يكتب بعد الآن بالمداد أو على ألواح من الحجر، بل ~~بروح الله في القلوب. # 3 # ثانيا، لا يلائم نظام الحكم التيوقراطي إلا شعبا معزولا يريد أن ~~يعيش دون علاقات مع الخارج مغلقا على نفسه داخل حدوده، ومنفصلا تماما عن باقي ~~العالم، لا شعبا يدخل بالضرورة في ms333 علاقات مع الشعوب الأخرى؛ لذلك لا ينطبق هذا ~~النظام إلا على نطاق محدود للغاية، ومع ذلك فإنه لم يكن يصلح أنموذجا في عصرنا ~~الحاضر، فسيظل من الصحيح أنه يقدم لنا بعض السمات التي يجدر ذكرها ويحق لنا ~~أن نتخذها مثلا يحتذى، ولكنه نظرا إلى أنني لم أقصد تناول مسألة الدولة ~~صراحة في هذا الكتاب - وقد نبهت إلى ذلك من قبل - وسأترك معظم هذه السمات ~~جانبا، ولن أذكر منها إلا ما يتعلق ببحثي الخاص. # ألحظ أولا أن حكم الله لا ينبغي مطلقا تعيين سلطة بشرية تتمتع بحق السيادة ~~المطلق في المجال السياسي. فبعد أن فوض العبرانيون حقهم إلى الله، سلموا لموسى ~~بحق مطلق في إصدار الأوامر، وكانت له وحده سلطة وضع القوانين ونسخها واختيار ~~القائمين على شئون الدين، وسلطة القضاء والتعليم والعقاب، أي بالاختصار، القيام بكل ~~أعباء الحكم في جميع الميادين. ومن ناحية أخرى لم يكن من بين اختصاصات القائمين على ~~شئون الدين - مع أنهم مفسرو القانون - ما يسمح لهم بالحكم على المواطنين أو حرمان ~~أحدهم من حقوقه الدينية، فذلك حق القضاة والنقباء الذين اختارهم الشعب وحدهم (انظر ~~يشوع، 6: 26، القضاة، 21: 18، صموئيل، 14: 24). # 4 # وهناك ملحوظات أخرى كثيرة طريفة نستطيع استخلاصها من تاريخ العبرانيين ~~ومصيرهم. ~~(1) # لم تنشأ الفرق الدينية إلا في عصر متأخر عندما أصبح للأحبار في ~~الدولة الثانية سلطة إصدار القرارات وتصريف شئون الدولة. ولكي يحتفظوا ~~بهذه السلطة على الدوام اغتصبوا لأنفسهم حق النقيب، وأرادوا أخيرا ~~تنصيب أنفسهم ملوكا. ويسهل معرفة السبب في ذلك؛ ففي الدولة الأولى كان من ~~المستحيل إصدار أي قرار باسم الحبر؛ لأن الحبر لم يكن له حق إصدار ~~القرارات، بل كان حقه يقتصر على إعطاء الردود الإلهية بناء على طلب ~~النقباء أو المجالس، وبالتالي لم يكن من الممكن أن يتطلع الأحبار إلى ~~اتخاذ قرارات جديدة، بل كان جهدهم منصبا على تنظيم القرارات الموروثة ~~وحمايتها، وكانت المحافظة على القوانين من الفساد أفضل وسيلة يملكونها ~~للدفاع عن حرياتهم ضد النقباء. وعلى العكس من ذلك فإنهم، بمجرد ~~تدخلهم في شئون الدولة، وممارستهم ms334 حق الرئيس بالإضافة إلى الحبروية، ~~طمح كل منهم في أن يشتهر اسمه في ميدان الدين وفي الميادين الأخرى، ~~بحيث ينظم كل شيء بسلطة الحبر، ويصدر كل يوم قرارات جديدة خاصة ~~بالشعائر والإيمان وبموضوعات أخرى، ويدعي أنها لا تقل في قدسيتها وفي ~~إلزامها عن قوانين موسى. ومنذ ذلك الحين بدأ الدين في التدهور حتى أصبح ~~مجرد خرافة مشئومة، على حين فسد المعنى الحقيقي للقوانين وتفسيراتها ~~الصحيحة. وفضلا عن ذلك، ففي العصور الأولى بعد إعادة بناء الدولة، بينما ~~كان الأحبار يحاولون شق طريق للوصول إلى السلطة، أخذوا يوافقون على جميع ~~أفعال عامة الشعب، توددا إليها، ووافقوا على أبعد هذه الأفعال عن ~~الدين، ووفقوا بين الكتاب وأسوأ العادات. ويشهد «ملاخي» على ذلك شهادة ~~صريحة، فبعد أن لام كهنة زمانه الذين سماهم المفسدين باسم الله، واصل ~~هجومه عليهم قائلا: «لأن شفتي الكاهن تحفظان العلم ومن فيه يطلبون ~~الشريعة إذ هو ملاك رب الجنود، أما أنتم فعدلتم عن الطريق وشككتم ~~كثيرين في الشريعة ونقضتم عهد لاوي، قال رب الجنود» (ملاخي، 2: 7-8). ~~واستمر في توجيه الاتهامات إليهم، قائلا: إنهم يفسرون القوانين كما ~~يشاءون وكما يهوى البشر لا كما يريد الله. ومما لا شك فيه أن الأحبار ~~لم يكونوا على قدر من الفطنة يمكنهم من تغطية سلوكهم بالنسبة إلى من هم ~~أكثر منهم ذكاء. ومن هنا فقد تجرأ هؤلاء الأخيرون على القول بأن ~~القوانين المكتوبة هي وحدها الملزمة، أما القراءات التي يلحقها ~~الفريسيون، بسبب غفلتهم، بتراث القدماء # 5 ~~(يرى يوسف في تاريخ اليهود القديم أن معظم الفريسيين كانوا ~~ينتسبون إلى العامة)، فإنها لا تستحق التنفيذ. ومهما يكن من شيء، فلا ~~يمكن إنكار أن التملق الشديد للأحبار، وفساد الدين والقوانين بعد أن ~~تضخمت نصوصه بطريقة مذهلة، قد أدى إلى إثارة المنازعات المتكررة ~~والخصومات المستمرة، ودخل الناس في هذا الجدل بتعصب شديد، مستندين ~~في هذا الجانب وذاك إلى رجال القانون، # 6 # وصار من المستحيل إرجاعهم إلى حد الاعتدال، وأصبح الشقاق ~~بين الفرق أمرا حتميا. ~~(2) # يجب أن نلحظ أيضا أن الأنبياء - وهم مجرد ms335 رعايا عاديين - دفعوا الناس ~~إلى التطرف أكثر مما دفعوهم إلى الصلاح نتيجة للحرية التي استباحوها ~~لأنفسهم في التعرض للناس وفي سبهم ولومهم، على حين أن الملوك استطاعوا، ~~باستخدام سلطتهم العادية، أن يحملوهم على التسليم لهم دون مقاومة تذكر، ~~بل إن الأنبياء كثيرا ما كانوا يثيرون سخط الملوك، حتى الأتقياء منهم، ~~بسبب السلطة التي كان معترفا بها لهم في الحكم على حسن الأفعال ~~وقبحها، وفي لوم الملوك أنفسهم عندما يتعارض سلوكهم العام أو الخاص مع ~~ما قرره الأنبياء، ويروي الكتاب أن الملك آسا # 7 # حكم طبقا للشريعة الإلهية ولكنه وضع النبي حناني # 8 # في الطاحونة (انظر الأخبار الثاني، 16) # 9 # لأنه تجرأ على لومه علانية لوما شديدا للاتفاق الذي عقده ~~مع ملك الأرمن. وهناك أمثلة أخرى على أن مثل هذه الحرية أضرت بالدين ~~أكثر مما أفادته. ولا حاجة بنا إلى الحديث عن الحروب الأهلية التي نشبت ~~بسبب الحقوق المفرطة التي كان الأنبياء يطالبون بها. ~~(3) # ومما هو جدير بالملاحظة أيضا أنه طوال فترة حكم الشعب لم تنشب إلا ~~حرب أهلية واحدة وانتهت دون أحقاد، وأشفق المنتصرون على خصومهم ~~المهزومين إلى حد أنهم ساعدوهم بكل الوسائل على استرداد كرامتهم ~~وقوتهم الأولى، ولكن عندما استبدل الشعب - الذي لم يكن مهيئا للخضوع ~~للسلطة الملكية - نظاما ملكيا بالنظام الأول، توالت الحروب الأهلية ~~دون توقف ووقعت معارك رهيبة لم يحدث مثلها حتى ذلك الحين، فقد قتل ~~محاربو يهوذا خمسمائة ألف إسرائيلي في معركة واحدة (وهو أمر لا يكاد يكون ~~من الممكن تصديقه)، وفي معركة أخرى أباد محاربو إسرائيل بدورهم عددا ~~كبيرا من سكان يهوذا (لا يذكر الكتاب العدد المضبوط) وأسروا الملك، ~~وهدموا جزءا كبيرا من حائط أورشليم، وسلبوا المعبد كله (تعبيرا عن ~~غضبهم الذي لم يكن له حدود). وقد رجعوا بغنيمة عظيمة من إخوتهم بعد أن ~~ارتووا من دمائهم وأخذوا معهم رهائن، وتركوا الملك في مملكته الخربة ~~تقريبا. وعندما وضعوا أسلحتهم، كان ذلك راجعا إلى ضعف يهوذا لا إلى ~~ولائهم لها. وبعد ذلك ببضع سنوات بعد أن استعاد شعب يهوذا قوته ms336، قامت ~~معركة جديدة خرج بعدها الإسرائيليون منتصرين، وفي هذه المرة قتلوا مائة ~~وعشرين ألف رجل من يهوذا، وأسروا مائتي ألف امرأة وطفل، وحصلوا مرة ~~أخرى على غنيمة كبيرة. وبعد هذه المعركة وغيرها مما يذكر في تاريخهم ~~الطويل، أنهكت قواهم، وانتهى بهم الأمر إلى أن وقعوا فريسة لأعدائهم. ~~ثانيا، لو أردنا أن نحسب الفترات التي استطاع فيها السكان أن ينعموا ~~بسلام دائم لوجدنا هذا الاختلاف البين نفسه، فقبل تنصيب الملوك، كان ~~يحدث في كثير من الأحيان أن تمضي أربعون سنة، ومرة ثمانون سنة (وهو أمر ~~يدعو إلى الدهشة) في سلام دائم دون أن تنشب حرب أهلية أو خارجية، ولكن ما ~~إن استولى الملوك على السلطة تغير الوضع إذ لم تعد الحرب تشن من ~~أجل إقرار السلام والدفاع عن الحرية، بل من أجل العظمة. وباستثناء سليمان ~~(الذي كانت فضيلته، وهي الحكمة، تظهر وقت السلم أكثر مما تظهر وقت ~~الحرب) اشترك الجميع في حروب، وكان طريق الوصول إلى العرش بالنسبة إلى ~~معظمهم - ممن تملكتهم شهوة الحكم - مفروشا بالدماء. وأخيرا ففي أثناء ~~حكم الشعب لم تفسد القوانين، وكانت تطبق بحذافيرها، وكان يندر قبل عصر ~~الملوك أن يحذر الأنبياء الشعب، وما كاد يتم انتخاب الملك الأول حتى ~~ظهر عدد كبير من الأنبياء رأوا أن من واجبهم التدخل من أجل التحذير. فقد ~~أنقذ عوبديا # 10 # من المذبحة مائة بعد أن خبأهم حتى لا يلاقوا حتفهم مع ~~الآخرين. كذلك نجد أن الأنبياء الكذبة لم يخدعوا الشعب إلا بعد أن ~~تركت مقاليد الدولة للملوك، والذين كان كثير من الأنبياء الكذبة ~~يتملقونهم. وأخيرا فإن الشعب، الذي اعتاد أن يتنقل بين روح التعالي ~~وروح التواضع، حسب الظروف، كان يستطيع أن يقوم نفسه بسهولة عندما تحل ~~به المصائب، فيتوجه إلى الله ويعيد للقوانين حرمتها، بحيث لا يتعرض ~~لأي خطر. أما الملوك، الذين اعتادوا الكبر والغرور، فلم يكن في ~~استطاعتهم أن يطأطئوا رءوسهم دون إذلال لأنفسهم؛ ولذلك تمسكوا برذائلهم ~~حتى حل الخراب الكامل بالمدينة. # ومن هذا كله يتضح لنا الآتي: ~~(1) # من الخطورة على ms337 الدين وعلى الدولة على السواء إعطاء من يقومون بشئون ~~الدين الحق في إصدار القرارات، أيا كانت ، أو التدخل في شئون ~~الدولة، وعلى العكس يكون الاستقرار أعظم إذا اقتصروا على الإجابة على ~~الأسئلة المقدمة إليهم، والتزموا في أثناء ذلك، في تعاليمهم وفي أدائهم ~~لشعائر العبادة، بالتراث القديم الأكثر يقينا والأوسع قبولا بين ~~الناس. ~~(2) # من الخطورة أن نجعل القانون الإلهي معتمدا على المذاهب التي تقوم على ~~النظر البحت، وأن نضع القوانين على أساس من الآراء التي هي على ~~الأقل موضوع خلاف دائم بين الناس، فلا تخلو ممارسة السلطة من أشد ~~ألوان العنف في دولة ينظر فيها إلى الآراء التي هي حق للفرد لا يمكن ~~انتزاعه منه، كما ينظر إلى الجرائم. في مثل هذه الدولة تحكم انفعالات ~~الشعب الهوجاء عادة؛ فقد حكم بيلاطس على المسيح بالصلب، وهو يعلم أنه ~~بريء مسايرة منه لغضب الفريسيين، بعد ذلك شرع الفريسيون في إثارة ~~الخلافات الدينية واتهام الصدوقيين بالفسوق حتى يسلبوا أكثر ~~المواطنين ثراء ما يملكون. وكذلك نرى في كل عصر المنافقين وقد ~~تملكهم جنون مشابه - يظهرونه بمظهر التحمس الشديد للحق الإلهي ~~- يطعنون رجالا يتسمون بكل سمات الشرف ومظاهر الفضيلة، ~~ويمقتهم عامة الشعب لهذا السبب ذاته، فيحتقرون آراءهم كأنها آراء ~~شنيعة، يثيرون ضدهم غضب العامة الشديد. وليس من السهل القضاء على هذه ~~الوقاحة التي لا حد لها، لأنها تتستر وراء الدين، وخاصة في بلد يكون ~~أصحاب السلطة العليا فيه مسئولين عن ظهور فرقة تدعو لعقيدة لا تخضع ~~لسلطتهم؛ إذ إنهم في هذه الحالة لا يعدون مفسرين للقانون الإلهي، ~~بل أنصارا لفرقة دينية يكون دعاتها وحدهم مفسري القانون الإلهي، ~~وبالتالي تكف العامة عن احترام سلطة رجال القضاء بالنسبة إلى الأفعال ~~التي يوحي بها التعصب الديني، على حين يزداد احترامهم لسلطة الفقهاء ~~إلى حد الاعتقاد بأن على الملوك أنفسهم أن يخضعوا لتفسيرهم. وتجنبا ~~لهذه الشرور لن توجد وسيلة أفضل من النظر إلى التقوى والعبادة التي ~~يفرضها الدين على أنها تنحصر في الأعمال وحدها؛ أي في ممارسة العدل ~~والإحسان وترك ms338 كل ما سوى ذلك لحكم الفرد الحر. وسنسهب في هذا الموضوع ~~فيما بعد. ~~(3) # من الضروري الاعتراف للسلطة العليا بالحق في تقرير ما هو شرعي وما هو ~~غير شرعي، وذلك تحقيقا لمصلحة الدين والدولة على السواء؛ ذلك لأن هذا ~~الحق - حق تقرير الأفعال - عندما منح من قبل لأنبياء الله، أدى إلى إلحاق ~~ضرر كبير بالدين والدولة على السواء. ومن ثم كان من الواجب، أو ~~بالأحرى، ألا يعطى من لا يعرفون التنبؤ بالمستقبل أو إجراء ~~المعجزات، وسنعالج هذا الموضوع بالتفصيل في الفصل التالي كله. ~~(4) # وأخيرا فإن شعبا لم يتعود أن يعيش في ظل حكم ملكي، وكانت له من ~~قبل قوانين قائمة، يسوء حاله لو نصب عليه ملك؛ فمن ناحية لا يستطيع ~~الشعب أن يتحمل سلطة قوية كهذه، ومن ناحية أخرى لا تسمح السلطة ~~الملكية مطلقا بوجود تشريع آخر (يعبر عن حقوق الشعب) وضعته سلطة ~~أقل منها شأنا، وبالتالي لن يأخذ الملك على عاتقه حمايته، خاصة وأن ~~النظم لم تنص على وجود ملك، بل نصت فقط على الشعب وعلى الجمعية ~~السياسية صاحبة السلطة العليا. وهكذا فإن الملك، إذا احترم قوانين ~~الشعب القديمة، كان بالنسبة إلى شعبه أقرب إلى العبد منه إلى السيد، ومن ~~هنا فإن الملك سيحاول، بمجرد تنصيبه، وضع قوانين جديدة وتغيير التشريع ~~القائم في الدولة لمصلحته الخاصة، ووضع الشعب في مواقف يكون فيها النيل من ~~مهابة الملك أصعب بالنسبة إليه من إضفائها عليه. # وفي مقابل ذلك، لا يفوتني أن أذكر أنه من الخطورة بالمقدار نفسه اغتيال ملك حاكم، ~~حتى لو ثبت على نحو قاطع أنه طاغية؛ ذلك لأن شعبا ~~تعود على الانضواء تحت السلطة الملكية والالتزام بها لا بد أن يحتقر حكما أقل ~~منها سلطة ويسخر منه، وبالتالي فإذا اغتيل أحد الملوك، وجب على الشعب تعيين ملك ~~آخر ليحل محله، كما كان يفعل الأنبياء من قبل، وسيضطر هذا الحاكم الجديد إلى ~~أن يكون طاغية رغما عنه، فكيف يثق بمواطنين ما زالت أيديهم مضرجة بدماء الملك ~~المقتول، يفتخرون باغتيال شخصية كبيرة وكأنه ms339 عمل مجيد، لا مفر لهم من أن ~~يعد عبرة للملك الجديد. فإذا أراد أن يكون ملكا حقا وألا يعترف بأن الشعب ~~حاكمه وسيده وألا تكون سلطته معرضة للزوال فسيضطر إلى الانتقام لاغتيال الملك ~~السابق ويقدم إليهم، لمصلحته الخاصة، مثلا آخر في مقابل المثل الذي قدموه ~~حتى يثنى عن أي تفكير في تكرار جريمته. ولكن كيف ينتقم لموت طاغية بإعدام بعض ~~المواطنين إن لم يسر على نهج سابقه، ويوافق على مسلكه؛ أعني إن لم يقتف أثره في ~~كل شيء؟ وهكذا يحدث في كثير من الأحيان أن يتمكن الشعب من تغيير طاغية، ولكنه لا ~~يستطيع أبدا أن يتخلص من الطغيان نفسه أو أن يستبدل بالملكية نظاما مغايرا. وقد ~~أعطى الشعب الإنجليزي # 11 # مثلا قريب العهد لهذه المأساة؛ فبعد أن بحث عن أسباب يتذرع بها - تحت ~~ستار من القانون - لاغتيال الملك، تصور أنه استطاع فعلا أن يغير شكل الحكومة، ~~ولكنه بعد إراقة الدماء لم يفعل إلا أن هتف باسم ملك جديد (وكأن المسألة هي ~~مجرد تغيير الاسم). ولم يكن في متناول يد هذا الملك الجديد، كي يبقى في الحكم، ~~من وسيلة إلا أن يستأصل كلية سلالة الملك المخلوع، ويغتال أصدقاءه أو من يظن ~~أنهم أصدقاؤه ويقضي بالحرب على الاضطرابات التي سببها الفراغ في وقت السلم، حتى تعيش ~~العامة مع أفكار جديدة وتنشغل بها عن اغتيال الملك. وبعد وقت متأخر أدرك الشعب ~~أنه لم يعمل شيئا لخلاص الوطن، بل انتهك حق ملكه الشرعي وغير النظام الموجود ~~بنظام أسوأ منه. ومن ثم قرر - بعد أن عادت إليه حريته - أن يرجع إلى الأوضاع ~~القديمة، ولم يهدأ إلا بعد أن عاد كل شيء إلى سيرته الأولى. وقد يدعي أحد ~~أن الشعب الروماني يعطينا مثلا مناقضا، لأنه لم يجد أي عناء في التخلص من ~~طاغية، ولكني أعتقد، بعكس ذلك، أن هذا المثل يؤكد نظريتي كل التأكيد؛ فقد ~~استطاع الشعب الروماني بمزيد من السهولة التخلص من الطاغية واستبدال نظام الحكم ~~لأن حق اختيار الملك أو خلفائه كان يرجع إلى الشعب ms340 نفسه، بالإضافة إلى أن هذا ~~الشعب (الذي كان يتألف في معظمه من منشقين ومثيرين للفتن) لم يتعود على طاعة ~~الملوك؛ فقد قتل من بين ملوكه الستة ثلاثة. وبالرغم من ذلك فإن كل ما فعله هو أنه ~~اختار بدلا من طاغية واحد طغاة كثيرين، أبقوه بسبب الحروب الداخلية والخارجية في ~~أسوأ حالات التمزق، حتى عادت السلطة أخيرا إلى التركز في يد ملك واحد، بعد أن ~~تغير اسمه فقط، كما هو الحال في إنجلترا. # أما جماعة الولايات الهولندية فهي على ما أعلم لم تعترف بملوك يتولون حكمها، بل ~~على أكثر تقدير اعترفت بحكام (كونتات) لم يفوض لهم حق السلطة في أي وقت. وكما ~~أعلنت السلطات العليا للولايات الهولندية # 12 # في تصريح صدر في عهد الكونت ليسستر، فإنها احتفظت لنفسها بسلطة استدعاء ~~«الكونتات» لخدمتها، واحتفظت لنفسها دائما بالسلطة الضرورية للدفاع عن كرامتها وعن ~~حرية مواطنيها انتقاما من «الكونتات» لو أنهم انساقوا في تيار الطغيان، وللسيطرة ~~عليهم بحيث يستحيل عليهم عمل شيء دون تصريح الدويلات وموافقتها. ونتج عن ذلك أن ~~ظل حق السيادة العليا في يد هذه الولايات، وعندما أراد آخر كونت اغتصاب هذه ~~السيادة لم يستطع سلبها حقها واستعادت الولايات سلطتها القديمة الضائعة. # هذه الأمثلة تؤكد نظريتي القائلة: إن على كل دولة أن تحتفظ بنظام الحكم الذي ~~يسود فيها، وإن تغييره يؤدي إلى تعريضها للانهيار التام. هذه هي الملاحظات التي ~~رأيت أن من واجبي إبداءها في هذا الموضوع. # الفصل التاسع عشر # | السلطة الحاكمة هي وحدها صاحبة الحق في تنظيم الشئون الدينية # وفيه نبين أن السلطة الحاكمة هي وحدها صاحبة الحق في تنظيم الشئون الدينية، # 1 # وأن الطاعة الحقيقية لله تحض على الاتفاق بين ممارسة ~~العبادة الدينية وبين سلامة الدولة. ~~*** # عندما قلت سابقا: إن لأصحاب السلطة الحق في تنظيم كل شيء وأن كل ~~قانون رهن بإرادتهم، لم أكن أعني القانون المدني وحده، بل كنت أعني أيضا القانون ~~المتعلق بالشئون الدينية، الذي ينبغي أن يكونوا هم أيضا المفسرين له ~~والمدافعين عنه. وسأحاول في هذا الفصل أن أوضح ms341 ذلك وأن أبينه صراحة لأن ~~كثيرا من الكتاب يرفضون الاعتراف للسلطة العليا الحاكمة بحقها في تنظيم الشئون ~~الدينية ويأبون عليها تفسير القانون المقدس؛ لذلك سمحوا لأنفسهم باتهامها، وتقديمها ~~للمحاكمة أمام هيئة كنسية بل وطردها من الكنيسة (مثل طرد أمبرواز للإمبرطور تيودوز). # 2 # وسنرى في هذا الفصل أنهم بموقفهم هذا يبذرون عناصر الفرقة في الدولة بل ~~يبحثون عن وسيلة للاستيلاء على السلطة. وسأبدأ في بيان أن الدين لا تكون له قوة ~~القانون إلا بإرادة من لهم الحق في الحكم، وأنه ليس هناك حكم خاص يمارسه الله على ~~البشر ويتميز عن ذلك الذي تمارسه السلطة السياسية، وأن ممارسة العبادات الشرعية ~~وأفعال التقوى الظاهرة يجب أن تتفق مع سلامة الدولة ومصلحتها، وهذا يعني أن تقوم ~~السلطة العليا وحدها بتنظيمها وتفسيرها. وأنا أتحدث هنا صراحة عن أفعال التقوى ~~الظاهرة والعبادات الشرعية، لا عن التقوى نفسها أو عن العبادة الباطنة لله، أي عن ~~الوسائل التي تستطيع بها الروح الإنسانية تعظيم الله من أعماقها الباطنة بإخلاص كامل؛ ~~إذ إن هذه العبادة الباطنة لله، وهذه التقوى، تتعلق (كما قلنا عند نهاية الفصل ~~السابع) بحق الفرد الذي لا يمكن تفويضه لأحد سواه. وفضلا عن ذلك فأعتقد أني وضحت ~~في الفصل الرابع عشر من هذه الرسالة ماذا أقصد بحكم الله، فقد بينت فيه أن العمل ~~بقانون الله هو العمل بالعدل والإحسان تنفيذا لأوامر الله، وينتج عن ذلك أن الحكم ~~الإلهي يقوم عندما يأخذ العدل والإحسان قوة القانون والأمر، ولا فرق عندي مطلقا ~~بين دعوة الله إلى العدل والإحسان وأمره بهما عن طريق النور الطبيعي أو عن طريق الوحي، ~~إذ لا تهم الطريقة التي يكشف بها عن عبادة الله، ما دامت قد اكتسبت طابع القانون ~~المطلق، وأصبحت هي الشريعة العليا للبشر. فإذا بينت الآن أن العدل والإحسان لا ~~يأخذان قوة القانون والأمر إلا بحق الدولة، كان من السهل أن نستنتج (نظرا إلى ~~أن حق حكم الدولة لا ينتمي إلا إلى السلطة العليا وحدها) أن الدين لا يكتسب قوة ~~القانون إلا بإرادة ms342 من لهم الحق في الحكم، وأن الله لا يباشر حكما خاصا على ~~البشر إلا بوساطة أصحاب السلطة السياسية). # ولكن الفصول السابقة بينت بوضوح أن العبادة القائمة على العدل والإحسان لا تكون ~~لها قوة القانون إلا عن طريق الحق الذي يملكه الحاكم، فقد أثبتنا في الفصل السادس ~~عشر أن العقل في حالة الطبيعة لا يكون له حق أكثر مما للشهوة، وأن من يعيشون ~~طبقا لقوانين الشهوة، شأنهم شأن من يعيشون طبقا لقوانين العقل، لهم الحق في كل ما ~~يدخل في نطاق قدراتهم؛ ولهذا السبب لم نستطع أن نتصور خطيئته في حالة الطبيعة. أو ~~أن نتمثل الله حاكما يعاقب البشر على خطاياهم، وسلمنا بأن كل شيء يحدث في ~~هذه الحالة طبقا للقوانين المألوفة للطبيعة كلها، وأن الفرص تتساوى عندئذ بين ~~العادل والظالم، وبين الطاهر والدنس، (كما يقول سليمان)، إذ لا يمكن الحديث في هذه ~~الحالة عن عدل أو إحسان. ولكي تكون لتعاليم العقل (أي للتعاليم الإلهية كما قلنا في ~~الفصل الرابع عن القانون الإلهي) قوة القانون، كان لا بد للفرد من أن يتخلى عن ~~حقه الطبيعي وذلك بتفويضه إياه إلى الجماعة، أو إلى بعض الناس، أو إلى فرد واحد. ~~حينئذ فقط عرفنا العدل والظلم والإنصاف والإجحاف؛ وعلى ذلك فإن العدل - وعلى وجه ~~العموم كل تعاليم العقل الصحيحة، وبالتالي الإحسان إلى الجار أيضا - لم تصبح له قوة ~~القانون والأمر إلا بناء على حق حكم الدولة، أي بإرادة من لهم حق الحكم (طبقا ~~لما بيناه في هذا الفصل نفسه). وبما أن حكم الله (كما بينت من قبل) يتلخص في ~~تطبيق أحكام العدل والإحسان، أي أحكام الدين والحق، فيجب إذن التسليم معنا بأن الله ~~يحكم البشر بوساطة السلطات الحاكمة في الدول وحدها. وأعود فأكرر أنه لا فارق على ~~الإطلاق بين تصورنا للدين على أنه موحى به بالنور الطبيعي أو بالنور الفطري؛ ذلك ~~لأن برهاني يسري على جميع الحالات لأن الدين واحد سواء افترضنا أنه بلغ ~~للناس بهذه الطريقة أو بتلك. ومن هنا كان من الضروري ms343، لكي يكتسب الدين الموحى به عن ~~طريق النبوة قوة القانون عند العبرانيين، أن يتخلى كل فرد عن حقه الطبيعي، وأن ~~يقرر الجميع، باتفاق فيما بينهم، ألا يطيعوا سوى القوانين التي أوحى بها الله عن ~~طريق الأنبياء، تماما كما يحدث في الديمقراطية عندما يقرر الجميع باتفاق فيما ~~بينهم - كما رأينا من قبل - أن يعيشوا طبقا لنظام العقل وحده. ومع أن العبرانيين ~~فوضوا حقهم هذا إلى الله، فقد كان هذا التفويض نظريا أكثر منه واقعيا. فالواقع ~~أنهم احتفظوا بحقه السياسي (كما رأينا من قبل)، إلى أن فوضوه لموسى فيما بعده، ~~وجعلوا منه ملكا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. ومنذ هذه اللحظة حكم الله العبرانيين من ~~خلال موسى وحده، وبما أن الدين لا تكون له قوة القانون إلا من خلال حق من يتولى ~~التشريع السياسي، فإن موسى لم يوقع أي عقاب على من انتهكوا حرمة السبت قبل العهد، ~~أي عندما كان العبرانيون ما زالوا مستقلين (انظر الخروج، 16: 27) # 3 # ثم تغير الموقف كلية بعد العهد (انظر العدد، 15: 36) # 4 # إذ تخلى كل فرد عن حقه الطبيعي وأصبح للسبت، بفضل التشريع السياسي، ~~قوة الأمر؛ ولهذا السبب نفسه لم يعد للدين الموحى به قوة القانون بعد انهيار دولة ~~العبرانيين، فقد انتهى ولا شك حكم الله الخارجي وقانونه الإلهي بمجرد أن فوض ~~العبرانيون إلى ملك بابليون، وبذلك ألغي العهد الذي وعدوا عليه بطاعة كل كلمة ~~لله، والذي كان هو أساس الحكم الإلهي، إلغاء تاما، ولم يعد باستطاعتهم المحافظة ~~على هذا العهد لأنهم منذ ذلك الوقت لم يعودوا شعبا مستقلا (كما كانوا من قبل في ~~الصحراء أو في وطنهم) بل اضطروا، تحت حكم ملك بابليون إلى أن يطيعوا أوامره (كما ~~بينا في الفصل السادس عشر)، وقد حذرهم إرميا (29: 7) صراحة بقوله: «واطلبوا ~~سلام المدينة التي أجليتكم إليها وصلوا من أجلها إلى الرب فإنه بسلامها يكون لكم ~~سلام.» على أنه لم يكن في استطاعتهم (وهم أسرى) المحافظة على سلام هذه المدينة ~~بوصفهم حكاما لها، بل إنهم استطاعوا ذلك بوصفهم عبيدا، أي بطاعتهم في كل ms344 شيء ~~تجنبا للفتن، وبالمحافظة على حقوق الدولة وقوانينها التي كانت تختلف كل الاختلاف ~~عن تلك التي اعتادوها في وطنهم ... إلخ. وينتج عن ذلك بوضوح تام أن الدين عند ~~العبرانيين لم تكن له قوة القانون إلا بفضل التشريع السياسي وحده. فإذا ما قضي على هذا التشريع، # 5 # لم يعد من الممكن اتخاذ الدين قاعدة سلوك ملزمة لدولة معينة، بل ~~يصبح مجرد تعاليم عقلية شاملة، وأقول عقلية لأن الدين الشامل لم يكن قد أعطي ~~للبشر بعد، وبذلك ننتهي دون تردد إلى أن الدين، سواء أكان موحى به بوساطة النور ~~الطبيعي أو بالنور النبوي، لا تكون له قوة الأمر إلا بإرادة من لهم الحق في الحكم، ~~وأن الله لا يحكم البشر حكما خاصا إلا من خلال أصحاب السلطة في الدولة. ويظهر ذلك ~~بمزيد من الوضوح مما قلناه في الفصل الرابع؛ فقد بينا في هذا الفصل أن ~~لقرارات الله في ذاتها حقيقة أزلية ضرورية، بحيث لا يمكن تصور الله كما لو كان ~~أميرا أو مشرعا يفرض قوانينه على الناس؛ لذلك فإن التعاليم الموحى بها عن طريق ~~النور الطبيعي أو النبوي لا تستمد مباشرة من الله قوة الأمر، بل تستمدها ~~ضرورة ممن لهم الحق في الحكم وفي إصدار القرارات، أو بتوسطهم. وبدون هذه الوسيلة ~~لن نستطيع تصور أن الله يحكم البشر بالفعل، أو يسير الأمور الإنسانية بالعدل ~~والإنصاف، وهذا ما تؤيده التجربة ذاتها؛ إذ لا تبدو مظاهر العدل الإلهي إلا في ~~البلاد التي يحكمها العادلون، أما في الحالات الأخرى فإننا نجد أن للعادل ~~والظالم، وللطاهر والدنس، حظا واحدا (إذا شئنا أن نستخدم كلمة سليمان مرة أخرى) ~~مما جعل كثيرا ممن يعتقدون بأن الله يحكم البشر مباشرة ويوجه الطبيعة ~~كلها لمصلحة الإنسان، يشكون في العناية الإلهية. وعلى ذلك فما دام العقل والتجربة ~~يشهدان بأن القانون الإلهي يقوم على مشيئة السلطات العليا الحاكمة وحدها، ينتج ~~عن ذلك أن لهذه السلطات نفسها حق تفسيره. وسنرى الآن بأي معنى نقول ذلك؛ إذ إنه ~~قد حان الوقت لنبين أن العبادات الظاهرة ms345 في الدين، وكل المظاهر الخارجية للتقوى، ~~يجب أن تتفق مع سلامة الدولة لو أردنا أن نطيع الله مباشرة، وبعد الانتهاء من ~~البرهنة على ذلك، يسهل علينا أن نعرف بأي معنى تكون السلطات العليا هي مفسرة ~~الدين والتقوى. # لا شك أن الحب المقدس للوطن هو أسمى صورة للشعور بالتقوى يستطيع إنسان أن ~~يظهرها، فلو زالت الدولة لكان معنى ذلك زوال كل شيء خير، وضياع الأمن في كل ~~مكان، ولانتشر الرعب والفسوق، وعم الفزع في كل مكان، ويترتب على ذلك أولا ~~أن حب الجار لا بد أن يكون فسوقا إذا أدى إلى الإضرار بالدولة، وأن الفعل ~~الفاسق يكتسب، بعكس ذلك، طابع التقوى لو كان يؤدي إلى المحافظة على الدولة. فلنفترض ~~أن أحدا قد هاجمني وأراد أن ينتزع مني ردائي، فعندئذ يقضي الإحسان بأن ~~أعطيه إياه، بل وأعطيه معطفي أيضا، ولكن حين يحكم المرء على هذا الفعل بأنه خطر ~~على بقاء الدولة، يصبح من التقوى أن أقدم السارق للعدالة، حتى ولو كان معرضا ~~للحكم عليه بالموت. ألم يحظ مانليوس توركواتوس # 6 # بإعجاب الناس، لأنه فضل مصلحة الشعب على حبه لابنه؟ وهذا يدل على ~~أن مصلحة الشعب هي القانون الأسمى الذي ينبغي أن تخضع له كل التشريعات الإنسانية ~~والإلهية! ولما كان من واجب السلطة العليا وحدها أن تحدد ما تقتضيه مصلحة ~~الشعب وسلامة الدولة وأن تتخذ الإجراءات التي تراها ضرورية لذلك، فإن هذه السلطة ~~نفسها هي التي يقع على عاتقها تحديد الأفعال التي يعبر بها الأفراد عن الإحسان ~~للجار أعني الأفعال التي يطيعون بها الله. # ومن ذلك يتضح لنا؛ أولا: بأي معنى تكون السلطات العليا الحاكمة هي مفسرة ~~الدين بالنسبة إلى شعوبها. وثانيا: أنه لا يمكن لأحد أن يطيع الله حقا إلا إذا ~~اتفق سلوكه الديني مع المصلحة العامة، وأطاع جميع قرارات السلطة العليا؛ ذلك ~~لأنه لما كان علينا جميعا، بموجب الأمر الإلهي، معاملة الناس جميعا بلا استثناء ~~بالإحسان دون إضرار أي شخص، لم يكن من واجب أحد مساعدة فرد آخر لو أدى ذلك إلى ms346 ضرر ~~فرد ثالث، وبالأحرى لو أدى ذلك إلى ضرر الدولة كلها. وبالتالي لا يمكن أن يقدم أحد ~~الإحسان إلى الجار، تنفيذا للأمر الإلهي، إلا إذا كان سلوكه في مجال الدين والتقوى ~~متفقا مع المصلحة العامة، على أنه لا يمكن لأحد أن يعرف المصلحة العامة إلا ~~بناء على قرارات السلطة الحاكمة التي هي وحدها المسئولة عن تصريف الشئون العامة، وإذن ~~فلا يستطيع أحد أن يمارس الإيمان الصادق أو أن يطيع الله إلا إذا أطاع قرارات ~~السلطة الحاكمة. وهذا ما تؤكده الحياة العملية نفسها، فإذا ما حكم على فرد ما، ~~مواطنا كان أو أجنبيا، فردا عاديا من الشعب أو رئيسا لدولة أخرى؛ إذا حكم عليه ~~بأنه مذنب في جريمة يعاقب عليها بالإعدام، أو أعلنت السلطة الحاكمة أنه عدو ~~لها، فعندئذ لا يحق لأحد من رعايا هذه السلطة مساعدته. وعلى ذلك، فبرغم أن ~~العبرانيين كانت لديهم سنة تقضي بأن يحب كل فرد جاره كحبه لنفسه (انظر ~~الأحبار، 19: 17-18) # 7 # فقد كانوا ملزمين بتقديم كل من يناقض فعله أحكام الشريعة للمحاكمة ~~(انظر: الأحبار، 5: 1؛ التثنية، 13: 8-9) # 8 # وبالحكم على المتهم بالموت لو ثبتت عليه جريمة عظمى. ثانيا، كان على ~~العبرانيين قبل كل شيء أن يحافظوا على الحرية التي حصلوا عليها ويستمروا في امتلاك ~~الأراضي التي احتلوها. ولتحقيق هذا الغرض كان لا بد لهم أن يوفقوا بين دينهم ~~وبين الظروف الخاصة لدولتهم (كما بينا في الفصل السابع عشر)، وأن يؤكدوا ~~انفصالهم عن الشعوب الأخرى. ومن هنا كانت القاعدة هي: أحب جارك واكره عدوك (انظر ~~متى، 5: 43). # 9 # وفيما بعد، عندما دالت دولتهم ووقعوا في الأسر وسيقوا إلى بابل، ~~أمرهم إرميا بالمحافظة على مصلحة هذه المدينة التي حجزوا فيها أسرى. وأخيرا، فعندما ~~رآهم المسيح أخيرا مشتتين في أنحاء الأرض، دعاهم إلى الإحسان لجميع الناس بلا ~~استثناء، كل ذلك يبين بوضوح تام أن التوفيق بين الدين وبين المصلحة العامة ~~كان أمرا ضروريا على الدوام. # فإذا سأل سائل: بأي حق بشر تلامذة المسيح بالدين وهم مجرد أفراد عاديين؟ ~~أجبت بأنه كان لهم الحق في ذلك ms347 بناء على السلطة التي أعطاهم إياها المسيح على الأرواح ~~الدنسة (انظر: متى، 10: 1)، # 10 # وقد بينت بصراحة من قبل، في آخر الفصل السادس عشر، أنه إذا كان جميع ~~الرعايا مضطرين إلى الالتزام بالولاء حتى للطاغية، فيجب أن يستثنى من ذلك كل ~~إنسان وعد الله بمساعدته - بوحي يقيني - ضد الطاغية. وعلى ذلك، فليس لأحد أن يعطي ~~نفسه سلطة تلامذة المسيح إلا إذا استطاع إثبات ذلك بالمعجزات، وهذا يتضح أيضا من ~~قول المسيح لتلامذته (انظر متى، 10: 28): # 11 # إنه لا ينبغي لهم أن يخشوا من يقتلون الأجساد، فلو كانت هذه الموعظة ~~موجهة إلى جميع المؤمنين، لما ظل لتأسيس الدولة أي معنى، ولكانت عبارة سليمان ~~(الأمثال، 24: 31): «يا بني اتق الرب والملك.» تدل على الفسوق، وهذا غير ~~صحيح. فيجب إذن أن نعترف بأن هذه السلطة التي أعطاها المسيح لتلامذته قد أعطيت لهم ~~شخصيا وليس من حق أي إنسان آخر أن يسمح لنفسه بمثلها. # أما أنصار الدعوة المعارضة التي تفرق بين القانون الوضعي # 12 # والقانون الديني، ويجعلون الأول من حق الحاكم وحده، والثاني من حق ~~الكنيسة الشاملة، فقد قدموا حججا لن أقف عندها لأنها أتفه من أن تستحق ~~التفنيد. ولكن هناك نقطة واحدة لا يصح السكوت عليها، وهي الخطأ المؤسف الذي وقع ~~فيه أولئك الذين يستشهدون من أجل تأييد رأيهم الهدام (وليعذرني القارئ لاستخدامي ~~هذا اللفظ العنيف) بحالة كعب الأحبار عند العبرانيين، الذي كان له الحق، قديما، في ~~تنظيم شئون الدين وينسون أن الأحبار قد حصلوا على هذا الحق من موسى (الذي رأينا ~~أنه احتفظ لنفسه وحده بسلطة الحكم العليا) وأن موسى كان يستطيع، بمجرد إبداء ~~مشيئته، أن يسحب منهم هذا الحق، فهو الذي اختار هارون وابنه العازر # 13 # وحفيده فنحاس، # 14 # حتى يفوض لهم سلطة رعاية شئون الحبروية. وإذا كان الأحبار قد احتفظوا ~~بعد موت موسى بهذا الحق، فقد حدث ذلك بوصفهم نوابا عن موسى أي عن السلطة الحاكمة. ~~والواقع أن موسى، كما رأينا من قبل، لم يعين أحدا لممارسة السلطة العليا من بعده، ~~ووزع في غياب الملك وهو لا يزال ms348 حيا. وبعد ذلك احتفظ الأحبار في دولتهم الثانية ~~بحق السيادة على نحو مطلق، بعد أن جمعوا بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، ~~وهكذا كان حق الأحبار يتوقف دائما على قرار السلطة العليا، ولم يحصل الأحبار ~~على هذا الحق إلا بعد أن حصلوا في الوقت نفسه على السلطة السياسية، بل إن الملوك ~~كان لهم الحق المطلق في تنظيم شئون الدين - كما سنرى بعد ذلك في آخر هذا الفصل - مع ~~تحفظ يسير، هو عدم السماح لهم بإقامة الطقوس في المعبد بأيديهم لأنهم ليسوا من سلالة ~~هارون؛ ولذلك كانوا يعدونهم من رجال الدنيا. ويختلف الوضع بطبيعة الحال في الدول ~~المسيحية، فلا شك في أن تنظيم شئون الدين (التي يتطلب تنظيمها طريقة خاصة في ~~الحياة، ولكنه لا يقتصر على أسرة خاصة، بحيث لا ينبغي أن يستبعد منها أصحاب السلطة) # 15 # يقع على عاتق السلطة الحاكمة وحدها، وأن أحدا ليس له الحق أو القدرة - ~~إلا باسم السلطة أو بموافقة منها - على تنظيم هذه الأمور، أو اختيار القائمين على ~~شعائر العبادة أو تحديد أسس عقائد الكنيسة وإقامتها، أو إصدار حكم على الأفعال ~~والعادات التي تتسم بالتقوى، أو القبول داخل الكنيسة أو الحرمان منها، أو رعاية ~~حاجات الفقراء. # إن رأينا هذا ليس صحيحا فحسب (كما أثبتنا الآن)، بل إن من الممكن البرهنة ~~بسهولة على مدى أهميته للدين والدولة على السواء، فنحن نعلم إلى أي حد يحترم ~~كل شعب حق تنظيم شئون الدين وسلطته، وكيف يثق ثقة عمياء بمن يمثلهما، بل ~~يمكننا أن نؤكد أن من له هذه السلطة يسيطر على جميع النفوس. وعلى ذلك فإن كل ~~محاولة لسلبها من السلطة العليا تعني تقسيم الدولة، وهذا التقسيم يؤدي دائما إلى ~~جدل وصراع لا يمكن التخفيف من حدته، كما كان الحال من قبل بين الملوك والأحبار ~~عند العبرانيين، وفضلا عن ذلك، فإن كل من يحاول سلب هذه السلطة من الحاكم يبحث ~~(كما قلت من قبل) عن وسيلة للاستيلاء على السلطة في الدولة، فماذا يتبقى لرئيس ~~الدولة إذا سلبنا منه هذا الحق ms349؟ إنه لن يستطيع أن يتخذ قرارا بشأن الحرب أو ~~السلام أو أي أمر آخر، وأن يعرف منه إن كان ما يراه نافعا أقرب إلى التقوى أو إلى ~~الفسوق، أي مشروعا أو غير مشروع. وقد ظهرت في جميع العصور أمثلة عديدة على مثل هذه ~~التبعية أذكر منها مثلا واحدا كنموذج للباقين. عندما أعطي هذا الحق المطلق ~~بابا روما، شرع في وضع جميع الملوك تدريجيا تحت سيطرته، حتى أصبح هو نفسه في قمة ~~السلطة، وقد أخفقت جميع المحاولات التي قام بها الملوك، وخاصة الأباطرة الجرمان، ~~للحد من سلطة البابا - ولو بقدر ضئيل - بل أدت إلى زيادتها، ومع ذلك فإن رجال ~~الكنيسة استطاعوا بأقلامهم وحدها أن يقوموا بما لم يستطع أي ملك أن يقوم به باستخدام ~~الحديد والنار. # 16 # وهذا يكفي لبيان قوة السلطة وهيبتها في أمور الدين، ويبين في الوقت ~~ذاته ضرورة احتفاظ الحاكم السياسي بهذه السلطة. وإذا تذكرنا الملحوظات التي ~~أبديناها في الفصل السابق، وجدنا أن الدين والتقوى ذاتهما ينتفعان كثيرا من هذا ~~الوضع، فقد لحظنا أن الأنبياء أنفسهم، بالرغم مما كان لديهم من قوة إلهية، لم ~~يستطيعوا، لكونهم أفرادا عاديين، أن يصلحوا الناس عن طريق الوعيد واللوم ~~والتحذير، بل لقد دفعوهم إلى التطرف، على حين لم يجد الملوك أي عناء في التأثير ~~على رعاياهم بالوعيد والعقاب كما لحظنا. ثانيا أن الملوك أنفسهم، نظرا إلى أنهم لم ~~يكونوا يملكون هذا الحق، كانوا في أكثر الأحيان ينحرفون عن طريق الدين، ويجرون ~~وراءهم الشعب كله تقريبا، وهذا ما حدث أيضا في الدول المسيحية للسبب نفسه، فإن قال ~~قائل: لو أراد أصحاب السلطة السياسية الابتعاد عن الطريق القويم، فمن الذي سيدافع عن ~~النفوس؟ هل يجب حينئذ التسليم للسلطة العليا الحاكمة بحق تفسير الدين؟ وبدلا من ~~أن أرد على هذا الاعتراض، سأوجه بدوري سؤالا: ما العمل إذا أراد رجال الكنيسة ~~(وهم على أية حال مجرد بشر عاديين، مسئولين عن أمورهم الخاصة وحدها) أو غيرهم ممن ~~فوضنا لهم حق تنظيم شئون الدين، الابتعاد عن الطريق القويم الذي ms350 يفرضه الإيمان؟ ~~هل نستمر في الوثوق بتفسيراتهم للدين؟ من المؤكد أنه إذا أراد أصحاب السلطة السير على ~~هواهم فلا يهم بعد ذلك أن تشمل رعايتهم الدين أم لا، لأنهم سيجلبون الكوارث في ~~أمور الدين والدنيا على السواء، وتزداد الكارثة فداحة إذا فرض أفراد من الداعين ~~للفتنة أنفسهم مدافعين عن القانون الإلهي. وعلى ذلك فإذا رفضنا أن نعطي السلطات ~~السياسية هذا الحق فلن يتحسن الموقف في شيء، بل على العكس سيزداد سوءا. ويدل ~~سلوك الملوك العبرانيين، الذين لم يمنحوا هذا الحق على نحو مطلق، على أن الحكام ~~يصبحون أقرب إلى الفسوق، وبالتالي تتعرض الدولة كلها لأضرار حتمية مؤكدة، لا ~~مجرد أضرار عابرة محتملة الوقوع. ومجمل القول إننا، سواء نظرنا إلى الأمر من ~~زاوية الحقيقة أو سلامة الدولة أو مصلحة الدين، يجب أن نسلم بأن القانون الإلهي أي ~~المنظم لشئون الدين يعتمد مباشرة على مشيئة السلطة العليا الحاكمة، وبأن هذه ~~هي التي يجب أن تقوم بمهمة تفسيره وحمايته، وبذلك لا يعود من الممكن أن ينكر أحد ~~أن الدعاة الحقيقيين لكلام الله هم من يدعون التقوى مع اعترافهم بسلطة الحاكم، ~~ومع امتثالهم لقراراته التي يوفق بها بين التقوى والمصلحة العامة. # وأخيرا لم يبق لنا إلا أن نبين السبب في استمرار الجدل في هذا الموضوع في ~~الدول المسيحية، على حين أن العبرانيين - على ما أعلم - لم يخرجوا أبدا على الإجماع ~~في هذا الموضوع. وقد يبدو مريعا حقا أن أمرا في مثل هذا الوضوح والضرورة أصبح ~~موضوعا للجدل، وأن السلطات العليا الحاكمة لم تتمتع بهذا الحق دون معارضة، ودون ~~تهديد خطير بإحداث الفتن، وإلحاق أضرار جسيمة بالدين. ولا شك أننا إن لم نكن قد ~~استطعنا التعرف على الدافع الحقيقي لهذا الأمر، فإني أسلم عن طيب خاطر بأن كل ~~ما أثبته في هذا الفصل، كان نظريا محضا، أي أنه من قبيل التأملات التخمينية ~~التي لا تصدق على شيء. ومع ذلك يكفينا أن نفكر في الطابع الأصلي للدين المسيحي حتى ~~يظهر لنا السبب الذي نبحث عنه بوضوح ms351 تام، فلم يكن الذين دعوا إلى المسيحية في الأصل ~~ملوكا، بل كانوا أفرادا من الرعية اعتادوا طويلا أن يتجمعوا ضد إرادة السلطات ~~السياسية الحاكمة، في كنائس خاصة، وأن ينظموا شئون الدين ويصرفوها، ويضعوا ~~الأنظمة، ويتخذوا القرارات دون عمل أي حساب للدولة. وبعد سنوات عديدة، عندما بدأ ~~الدين أخيرا في الدخول في الدولة، كان على رجال الكنيسة أن يبشروا به الأباطرة ~~أنفسهم بالطريقة نفسها التي سبق أن نظموه بها؛ لذلك لم تكن هناك صعوبة كبيرة في ~~الاعتراف بهم رعاة للكنيسة وخلفاء لله؛ لأنهم كانوا من قبل معلمين دينيين ومفسرين ~~له، وفيما بعد اتخذ رجال الكنيسة إجراءات ذكية حتى لا يستولي الملوك بعد ذلك على هذه ~~السلطة، مثل تحريم زواج كبار رجال الكنيسة والمفسر الأعظم للعقيدة. وبعد ذلك ازداد عدد ~~العقائد الدينية واختلطت بالفلسفة مما جعل من الضروري أن يكون المفسر الأعظم ~~فيلسوفا ولاهوتيا من الطراز الأول، قادرا على القيام بكثير من التأملات العميقة، ~~وهو ما لم يكن ممكنا إلا لمن لديهم كثير من الفراغ، وهذا الوضع يختلف كل ~~الاختلاف عما كان عليه الحال عند العبرانيين، حيث أسست الدولة والكنيسة في الوقت ~~نفسه، وكان موسى صاحب السلطة السياسية المطلقة، وهو نفسه الذي قدم إلى الشعب ~~التعاليم الدينية ونظم شئون الدين واختار القائمين عليها؛ ولذلك كان للملكية هيبتها ~~عند الشعب، وكان للملوك حق واسع جدا على شئون الدين. ومع أن أحدا بعد موسى لم ~~يكن صاحب السيادة المطلقة في الدولة، فقد كان لكل نقيب (كما بينا من قبل) ~~الحق في اتخاذ القرارات في شئون الدين والدنيا على السواء. ومن ناحية أخرى فعندما ~~كان الشعب يرغب في أن يستزيد علما في أمور دينه وإيمانه لم يكن ملزما بالرجوع ~~إلى الحبر أكثر مما كان ملزما بالرجوع إلى قاضي القضاة (انظر التثنية، 17: 9-10). # 17 # وأخيرا فمع أن هؤلاء الملوك لم يكن لهم الحق نفسه الذي كان لموسى، فقد ~~كانوا هم الذين يصدرون القرارات الخاصة بتنظيم شئون الدين واختيار الكهنة. كان داود ~~هو الذي اتخذ قرار تشييد المعبد (انظر ms352 الأخبار الأول، 28: 11-12 وما بعدها) # 18 # واختار ثمانين ألفا من اللاويين لإنشاد المزامير، وستة آلاف لكي يكون ~~من بينهم القضاة ورجال الإدارة، وأربعة آلاف لحراسة الأبواب، وأربعة آلاف للعزف على ~~الآلات الموسيقية (انظر السفر نفسه، 23: 4-5) # 19 # وهو الذي وزعهم في جماعات عين لكل منها رئيسا، ويقوم كل منها بخدمة ~~المعبد بالتناوب، لفترة من الوقت (انظر الإصحاح نفسه 9)، # 20 # كما نظم الكهنة في جماعات مماثلة. ولكنني لما كنت لا أود الدخول ~~في كل هذه التفصيلات فإني أحيل القارئ إلى سفر الأخبار الثاني، الإصحاح 8، الآية ~~13، الذي جاء فيه: «حينئذ أصعد سليمان محرقات للرب ... بحسب وصية موسى ويشهد الراوي ~~الخزائن.» من هذه النصوص ومن الروايات الأخرى عن الملوك يتبين في الآية 15 بأنه «لم ~~يعدل عن وصية الملك للكهنة في كل أمر وفى.» بوضوح تام أن العبادة وشئون الدين كانت ~~من اختصاص الملك وحده، وعندما قلت من قبل: إن الملوك لم يكن لديهم الحق نفسه الذي كان ~~لموسى في تعيين الحبر الأعظم وفي مخاطبة الله مباشرة أو في إدانة الرعايا الذين ~~يدعون النبوة في أثناء حكمهم، فإني لم أقل ذلك إلا لأن الأنبياء بما لهم من ~~سلطة كان لهم الحق في اختيار ملك جديد والعفو عن قاتل الملك (السابق)، ولكن هذا لا ~~يعني أنه كان باستطاعتهم تقديم الملك للمحاكمة أو اتخاذ أي إجراء ضده لو سمح ~~لنفسه بخرق القوانين. # 21 ~~⋆ # فلو لم ~~يكن هناك أنبياء باستطاعتهم بفضل وحي خاص بهم العفو عن قاتل الملك لكان للملوك ~~العبرانيين الحق المطلق في كل الأمور الدينية والدنيوية. # أما اليوم، فإن الحكام لما كانوا لا يجدون أنبياء أمامهم، ولما كانوا ~~بحكم تشريعاتهم، غير ملزمين بالاعتراف بهم (لأنهم لا يلتزمون بقوانين العبرانيين) فإن ~~لهم الحق المطلق في الأمور الدينية، مع أنهم لا يحيون حياة العزوبة، وسيحتفظون بها ~~دائما بشرط ألا يسمحوا بحدوث زيادة مفرطة في عقائد الدين، أو بالخلط بينها وبين ~~المعارف العلمية. # الفصل العشرون # | حرية التفكير والتعبير مكفولة لكل فرد في الدولة ~~الحرة # وفيه نبين أن حرية التفكير والتعبير مكفولة لكل فرد في ms353 الدولة الحرة. # 1 ~~*** # لو كان من السهل السيطرة على الأذهان مثلما يمكن السيطرة على ~~الألسنة، لما وجدت أية حكومة نفسها في خطر، ولما احتاجت أية سلطة لاستعمال العنف، ~~ولعاش كل فرد وفقا لهوى الحكام، ولما أصدر حكما على حق أو باطل، على عدل أو ~~ظلم إلا وفقا لمشيئتهم. ولكن الأمور لا تجري على هذا النحو كما لحظنا في أول الفصل ~~السابع عشر، لأن ذهن الإنسان لا يمكن أن يقع تحت سيطرة أي إنسان آخر؛ إذ لا يمكن أن ~~يخول أحد بإرادته أو رغما عنه إلى أي إنسان حقه الطبيعي أو قدرته على التفكير ~~وعلى الحكم الحر في كل شيء. وعلى ذلك فإن سلطة تدعي أنها تسيطر على الأذهان ~~إنما توصف بالعنف، كما تبدو السيادة الحاكمة ظالمة لرعاياها ومغتصبة لحقوقهم عندما ~~تحاول أن تفرض على كل منهم ما يتعين عليه قبوله على أنه حق، وما يتعين عليه ~~رفضه على أنه باطل، وأن تفرض عليه المعتقدات التي تحثه على تقوى الله؛ ذلك لأن ~~هذه الأمور تعد حقا خاصا بكل فرد، لا يمكن لأحد - إن شاء - أن يسلبه إياه، ~~وأنا أعترف بأن هناك أناسا كثيرين لا يخضعون حقا خضوعا مباشرا لسلطة فرد ~~آخر، ولكن ذهنهم يحتشد بقدر من الأفكار المسبقة العجيبة يجعلهم ينساقون وراء ~~أفكار هذا الآخر، إلى حد نستطيع معه أن نصفهم بأنهم تابعون له في فكره، ولكنه مهما ~~كانت درجة الخضوع الذي يحصل عليه البعض بوسائل مفتعلة، فمن المحال أن نمنع الناس من ~~الاعتقاد بأن آراءهم الخاصة أفضل من آراء الآخرين، وبأن اختلاف الأذهان لا يقل عن ~~اختلاف الأذواق؛ فموسى، الذي عرف كيف يكسب ثقة شعبه، لا بالالتجاء إلى الخداع، بل ~~بصفته الإلهية، حتى لقد اعتقد الناس أن أفعاله وأقواله موحى بها من الله؛ أقول: ~~إن موسى نفسه لم يسلم مع ذلك من الشبهات أو من التأويلات المعارضة له، فكيف ~~يسلم الملوك أنفسهم من ذلك؟ وفضلا عن ذلك، فإذا كان من الممكن تصور عبودية ~~الأذهان في النظام الملكي فإن هذا الاحتمال مستبعد ms354 تماما في نظام الحكم الديمقراطي، # 2 # حيث يشارك الشعب كله أو معظمه في السلطة الجماعية، وأظن أن السبب في ~~ذلك لا يخفى على أحد. # وإذن فمهما عظم الحق الذي تتمتع به السلطة العليا الحاكمة في جميع المجالات، ~~ومهما ساد الاعتراف بها على أنها مفسرة للقانون والتقوى فإنها لا تستطيع منع ~~الأفراد من إصدار أحكامهم في كل شيء طبقا لآرائهم الخاصة أو الانفعال - على نحو ~~فردي - بهذا الشيء أو ذاك. صحيح أن من حق هذه السلطة العليا اعتبار من لا يشاركونها ~~في رأيها في كل شيء أعداء، ولكننا لا نناقش الآن حقها، بل نبحث فيما يحقق ~~مصلحتها. إننا نسلم بأنها تستطيع شرعا الحكم بأعنف الطرق وإصدار أحكام الإعدام ~~على المواطنين لأتفه الأسباب، ولكن الكل مجمعون على أن هذا الأسلوب في الحكم ~~يعارض العقل السليم، بل إنه لما كانت السلطة العليا لا تستطيع أن تحكم بهذا ~~الأسلوب، دون أن تعرض الدولة للخطر، فإننا نستطيع إنكار مقدرتها على استعمال هذه ~~الوسائل وما شابهها، وبالتالي إنكار حقها المطلق في ذلك؛ لأننا نعلم أن حق ~~السلطة العليا يتحدد حسب قدرتها. # وعلى ذلك، فإذا لم يكن من الممكن أن يتخلى أحد عن حريته في الرأي وفي التفكير ~~كما يشاء، وإذا كان كل فرد شيد تفكيره بناء على حق طبيعي أسمى، فإن أية ~~محاولة لإرغام أناس ذوي آراء مختلفة، بل ومتعارضة، على ألا يقولوا إلا ما ~~تقرره السلطة العليا تؤدي إلى أوخم العواقب، بل إن الأذكياء منهم - ناهيك بالعامة - ~~لا يمكنهم أن يلزموا الصمت؛ ذلك لأن من الأخطاء الشائعة بين الناس أنهم يبوحون ~~بنواياهم للآخرين، حتى في الحالات التي يحسن فيها الكتمان. وعلى ذلك فإن السلطة ~~السياسية تكون أشد عنفا إذا أنكرت على الفرد حقه في التفكير وفي الدعوة لما ~~يفكر فيه، وعلى العكس تكون معتدلة إذا سلمت له بهذه الحرية. ومع ذلك فنحن لا ~~ننكر أن سيادة الدولة يمكن أن يطعن فيها بالأقوال كما يطعن فيها بالأفعال. ~~وبالتالي فإذا كان من المستحيل سلب الرعايا لحريتهم في التعبير ms355 كلية، فإن من ~~الخطورة التسليم لهم بها كلية؛ لذلك سنحاول أن نبين إلى أي حد يمكن ويجب التسليم ~~بهذه الحرية دون أن يكون في ذلك تهديد لسلامة الدولة أو لحق السلطة العليا، وهذا، كما ~~أعلنت في أول الفصل السادس عشر، هو الموضوع الرئيس لهذا الكتاب. # يتبين بوضوح تام، من الأسس التي تقوم عليها الدولة، والتي بيناها من قبل، ~~أن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة، أو إرهاب الناس، أو جعلهم يقعون تحت ~~نير الآخرين، بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كل فرد في أمان بقدر الإمكان، ~~أي يحتفظ بالقدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضرر ~~بالغير. وأكرر القول بأن الغاية من تأسيس الدولة ليست تحويل الموجودات العاقلة إلى ~~حيوانات أو آلات صماء، بل إن المقصود منها هو إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم كيما ~~تقوم بوظائفها كاملة في أمان تام، بحيث يتسنى لهم أن يستخدموا عقولهم استخداما ~~حرا دون إشهار لأسلحة الحقد أو الغضب أو الخداع، وبحيث يتعاملون معا دون ظلم أو ~~إجحاف، فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة. وقد رأينا أيضا أن الشرط ~~الوحيد الضروري لقيام الدولة هو أن تنبع سلطة إصدار القرار من الجماعة أو من بعض ~~الأفراد أو من فرد واحد. ولما كانت أحكام الناس، إذا ما تركوا أحرارا، تختلف فيما ~~بينها كل الاختلاف، ولما كان كل فرد يظن أنه وحده الذي يعلم كل شيء، ~~ونظرا إلى أن من المستحيل أن يفكر الناس كلهم ويعبروا عن أفكارهم بطريقة واحدة، ~~فإنهم ما كانوا ليعيشوا في سلام لو لم يتخل كل فرد عن حقه في أن يسلك وفقا لما ~~يمليه عليه قراره الشخصي. وعلى ذلك فإن الحق الوحيد الذي تخلى عنه الفرد هو حقه ~~في أن يسلك كما يشاء وليس حقه في التفكير والحكم. وعلى ذلك فإن كل من يسلك ضد ~~مشيئة السلطة العليا يلحق بها الضرر، ولكن المرء يستطيع أن يفكر وأن يصدر حكمه، ومن ~~ثم يستطيع الكلام أيضا، بحرية تامة ms356، بشرط ألا يتعدى حدود الكلام أو الدعوة، وأن ~~يعتمد في ذلك على العقل وحده، لا على الخداع أو الغضب أو الحقد، ودون أن يكون في ~~نيته تغيير أي شيء في الدولة بمحض إرادته. فلنفرض مثلا أن شخصا قد بين ~~تعارض أحد القوانين مع العقل، وأعرب عن رأيه في ضرورة إلغائه، وفي الوقت نفسه عرض ~~رأيه على السلطة العليا لتحكم عليه لا لأنها وحدها هي التي لها الحق في إلغاء ~~القوانين، وكف في أثناء محاولته هذه عن أي مظهر من مظاهر المعارضة للقانون ~~المذكور، فإنه يكون جديرا بلقب المواطن الصالح وبثناء الدولة عليه، أما إذا كان ~~الهدف من تدخله هو اتهام السلطات العامة بالظلم وجعلها مثارا للغضب، أو حاول إلغاء ~~القانون رغما عن السلطات العامة عن طريق إثارة الفتن، فإنه يكون مشاغبا ~~عاصيا. # وهكذا تتضح لنا الآن الشروط التي يستطيع بموجبها الفرد أن يعبر عما يفكر ~~فيه وأن يدعو له دون أن ينال من حق السلطة العليا أو من سلطتها، أي دون تهديد ~~للسلام الداخلي: يكفيه أن يترك للسلطة العليا مهمة اتخاذ القرارات العملية، وألا يقوم ~~بأي شيء ضد هذه القرارات، حتى ولو اضطر في كثير من الأحيان أن يسلك على نحو ~~مخالف لرأيه الذي يجاهر بصوابه، حينئذ لا يمثل سلوكه هذا أية خطورة على العدالة أو ~~على التقوى، بل إني لأذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وأقول: إن من واجبه أن يفعل ذلك إن ~~أراد أن يكون عادلا تقيا؛ وذلك لأن العدالة، كما بينا من قبل، تتعلق بمشيئة ~~السلطة العليا وحدها، بحيث لا يمكن لأحد أن يعدل دون أن يكون سلوكه مطابقا ~~لقراراتها. أما التقوى فإن أسمى مظاهرها هي تلك التي تؤدي إلى سلامة الدولة وأمنها ~~الداخلي (وقد بينا ذلك في الفصل السابق) وهو ما لا يتحقق لو عاش كل فرد وفق ~~هواه، فمن الفسوق إذن أن يفعل المرء شيئا طبقا لرأيه الخاص ضد مشيئة السلطة العليا ~~التي يعد هو أحد رعاياها؛ إذ إنه لو استباح الجميع لأنفسهم أن ms357 يفعلوا ذلك لأدى هذا ~~إلى انهيار الدولة، بل إن الإنسان لا يعمل شيئا مطلقا ضد ما يقضي به عقله وما ~~يقرره، ما دام يعمل طبقا لمشيئة السلطة العليا، إذ إن العقل ذاته هو الذي أقنعه ~~بأنه يخول لها حقه في أن يحيا على هواه طبقا لمشيئته الخاصة. ولو أن التجربة ~~اليومية تقدم إلينا دليلا آخر على ذلك، ففي المجالس - سواء أكانت مجالس عالية أم ~~مجالس ثانوية الأهمية - يندر أن تصدر القرارات بإجماع الآراء، ومع ذلك يصدر كل ~~قرار معبرا عن إرادة جميع الأعضاء، سواء منهم من صوتوا معه أو ضده. # 3 # ولكن، لنرجع إلى موضوعنا الأصلي، فقد رأينا بعد الرجوع إلى الأسس التي تقوم عليها ~~الدولة، ما هي الشروط التي يستعمل بها الفرد حريته في الرأي دون أن ينال من حق السلطة ~~العليا. ومن السهل الآن تحديد الآراء التي يؤدي التصديق بها إلى الفتن في الدولة؛ فتلك ~~هي الآراء التي تؤدي المناداة بها إلى نقض العهد الذي تخلى به الفرد عن حقه في ~~أن يفعل ما يشاء. ومن أمثلة ذلك، الرأي الذي ينكر استقلال السلطة العليا من حيث ~~المبدأ، أو الرأي الذي لا يحتم على كل فرد الوفاء بوعده، أو الذي يوصي بأن يعيش ~~كل على هواه، وما شابه ذلك من الآراء التي تتعارض مع هذا العهد تعارضا مباشرا، ~~والتي يكون معتنقها داعية للفتنة، لا بسبب حكمه أو رأيه في ذاته، بل بسبب السلوك ~~المترتب عليها؛ إذ إن اعتناق هذه الآراء يعني التخلي - ضمنا أو صراحة - عن ~~الولاء للسلطة العليا، أما الآراء الأخرى التي لا تنطوي على مسلك من نوع نقض العهد، أو ~~الانتقام، أو الغضب ... إلخ، فلا يمكن أن توصف بأنها داعية للفتنة، ما لم يكن ذلك في ~~دولة فاسدة؛ أي في دولة أحرز فيها المتعصبون الطامعون الذين لا يطيقون كل من ~~كان على خلق قويم، نجاحا جعلهم يشتهرون بين العامة إلى حد أصبحت معه سلطتهم ~~تطغى على سلطة الحاكم. ومع ذلك فنحن لا ننكر وجود بعض الآراء التي لا ms358 يكون من الأمانة ~~عرضها ونشرها مع أنها تبدو وكأنها مجرد آراء تحتمل الصواب والخطأ. وقد بينا في ~~الفصل الخامس عشر # 4 # هذه الآراء، مع حرصنا على ألا نحد على أي نحو من حرية الفعل. ~~وأخيرا فإذا أدركنا أن الأفعال، أي الإحسان للجار مثلا، هي الوسيلة الوحيدة التي ~~يستطيع بها كل فرد أن يثبت ولاءه للدولة، كما يثبت ولاءه لله، اعترفنا بلا تردد بأن ~~أفضل الدول هي تلك التي تسلم للفرد بالحرية نفسها التي يسلم له بها الإيمان. وإني ~~لأعترف بأن هذه الحرية قد تسبب بعض المضايقات ولكن هل هناك تنظيم وضعي يبلغ من ~~الحكمة حدا يجعل من المستحيل أن تنشأ عنه بعض المضايقات؟ إن من يريد تنظيم الحياة ~~الإنسانية كلها بالقونين يزيد من حدة العيوب دون أن يقومها، ومن الأفضل السماح بما ~~لا نستطيع منعه مهما كان الضرر الناتج عن ذلك. إننا نعلم العواقب الوخيمة ~~المترتبة على الترف والحسد والشهوة والثمالة وما شابهها من الانفعالات، ومع ذلك ~~نسمح بهذا كله لأننا لا نستطيع إلغاءه بسلطة القانون، مع أنها رذائل فعلية، فالأولى ~~أن نسمح بحرية الحكم، التي هي فضيلة في الواقع، وألا نقضي عليها. ولنضف إلى ذلك أنه ~~لا يوجد ضرر واحد ينتج عن حرية التفلسف لا تستطيع السلطات العليا أن تتجنبه ~~(وسأبرهن على ذلك الآن). وأخيرا أليست الحرية شرطا أساسيا لتقدم العلوم والفنون؟ ~~إن العلوم والفنون لا تتقدم تقدما ملموسا إلا على أيدي أناس تخلصوا تماما ~~من المخاوف وأصبحت لهم حرية الحكم. # فلنفرض، مع ذلك، أنه يمكن سلب الناس حريتهم والقضاء على استقلالهم بحيث لا يمكنهم ~~التفوه بكلمة واحدة إلا بأمر السلطة العليا، في هذه الحالة لن يحدث مطلقا أن ~~تتفق جميع أفكارهم مع أفكار السلطة العليا، والنتيجة الحتمية لذلك هي استمرار ~~الرعايا في التفكير على نحو يتعارض مع أقوالهم، وبذلك تضيع الثقة، التي هي شرط ~~ضروري لإقامة الدولة، ويؤدي تشجيع الفساد الكريه والخداع إلى سيادة المخاتلة ~~والغش في جميع العلاقات الاجتماعية. وفضلا عن ذلك فإن من يتوقع من جميع الناس ms359 تكرار ~~الأقوال نفسها التي تلقن لهم يكون واهما بحق؛ فالواقع يثبت عكس ذلك، إذ إنه ~~كلما حاول المرء سلب الناس حريتهم في التعبير استثار مقاومتهم. وأنا لا أقصد أولئك ~~الشرهين المتملقين الذين لا خلق لهم، والذين تنحصر أعظم أمانيهم في تأمل ~~بريق الذهب وفي إشباع بطونهم، بل أقصد أولئك الذين تحرروا بفضل حسن تعليمهم وطهارة ~~حياتهم ونبل أخلاقهم. لقد طبع معظم الناس على الاستياء الشديد إذا ما عدت بعض ~~آرائهم التي يعتقدون بصحتها جرما، وإذا ما وصف ما يحث نفوسهم على تقوى الله ~~وحب الناس أنه جريمة. ويؤدي بهم ذلك، في نهاية المطاف، إلى رفض قوانين الدولة، ~~والتجرؤ على فعل ما يضر بالسلطات العامة. وعندئذ يرون أن إثارة الفتنة واستعمال ~~كل ألوان العنف في سبيل ما يعتقدونه شيء رائع لا عار فيه. ولما كانت الطبيعة ~~الإنسانية على هذا النحو، إذن يتضح لنا أن القوانين الموضوعة ضد هذه الآراء لا ~~تهدد المجرمين، بل تهدد أصحاب الشخصيات المستقلة وأنها لا تضع عقابا للأشرار، ~~بل إساءة للشرفاء. ومن ثم كان الإبقاء عليها يمثل خطرا شديدا على الدولة. وعلى ~~أية حال، فإن هذه القوانين الموضوعة لإدانة الآراء لا تنطوي على أية فائدة، لأن من ~~يؤمنون بصحة الآراء لا يمكنهم طاعة هذه القوانين، أما من يرفضونها لبطلانها فيجدون ~~في هذه القوانين امتيازات لهم وينتابهم الغرور بانتصارهم، بحيث لا تستطيع السلطات ~~العامة - لو أرادت إلغائها - لتضيف إلى ما قلناه الآن تلك النتائج التي استخلصناها من ~~الفصل الثامن عشر في النقطة الثانية من تاريخ العبرانيين. وأخيرا، فما أكثر الفرق ~~التي نشأت داخل الكنيسة عندما أرادت السلطات العامة وضع حد لجدل رجال الدين بوساطة ~~القوانين. والواقع أنه لو لم يسيطر على الناس الأمل في أن يجتذبوا القوانين والسلطات ~~العامة لصفهم، ولينتصروا على أعدائهم وسط تصفيق العامة لهم، وتلقي مظاهر التكريم، ~~لما تقاتلوا بكل هذا القدر من سوء النية، ولما تملك نفوسهم كل هذا الغضب، وهذا ~~ما تؤكده التجربة ذاتها - فضلا عن العقل - بأمثلة كثيرة من الحياة اليومية، فمعظم ms360 ~~القوانين التي تأمر كل فرد بما ينبغي أن يعتقد، وتحرم عليه أن يتكلم أو أن يكتب ~~ضد هذا الرأي أو ذاك، قد وضعت لإرضاء أناس لا يطيقون أن يروا غيرهم معتزين ~~بشخصيتهم المستقلة، أو بالأحرى استسلاما لغضبهم. وهؤلاء هم الذين يستطيعون بسهولة، ~~بما لديهم من نفوذ ضار، تحويل إخلاص العامة الميالة إلى الفتن، إلى غضب عارم، ~~وإثارتها ضد من يريدون هم أنفسهم أن يقضوا عليهم. # أليست السيطرة على غضب العامة واندفاعها أفضل من وضع قوانين لا يمكن أن يرفضها ~~إلا محبو الفنون والفضيلة وحدهم، ومن سقوط الدولة إلى هذا الحضيض الذي لا نستطيع ~~فيه تحمل وجود بعض الشرفاء من بين رعاياها. إن أسوأ موقف توضع فيه الدولة هو ذلك ~~الذي تبعث فيه إلى المنفى بالشرفاء من رعاياها وكأنهم مجرمون، لا لشيء إلا لأنهم ~~اعتنقوا آراء مخالفة لا يستطيعون إخفاءها. إنها لمصيبة فادحة أن يعامل بعض الأفراد ~~على أنهم أعداء الدولة ويساقون إلى الموت بلا ذنب ارتكبوه وبلا جرم اقترفوه، بل ~~لمجرد كونهم يعتزون بشخصيتهم، بحيث تصبح المقصلة، التي يرتعش منها الأشرار، ~~مسرحا عظيما تمثل عليه أدوار رائعة من الشجاعة وقوة التحمل، على حين لا يلحق ~~بالسلطة العليا إلا العار؛ ذلك لأن من يعلم براءته لا يخاف الموت كما يخافه ~~المجرمون، ولا يطلب العفو، ومن لا يعذبه تأنيب الضمير لذنب اقترفه، يقبل الموت ~~في سبيل غاية نبيلة على أنه شرف، لا عقاب، ويصبح عظيما حقا لأنه ضحى بحياته في ~~سبيل الحرية، فأي مثل يعطيه هؤلاء بموتهم الذي لا يفهم سببه الأغبياء ~~والجبناء، ويحقره دعاة الفتنة، ويعظمه الفضلاء؟ إن كل ما يستخلصه الحاضرون من هذا ~~المشهد الأليم هو أن عليهم إما أن يسيروا في خطى أولئك الشهداء، وإما أن يصفقوا ~~لجلاديهم. # أما إذا أردنا أن يكون الولاء، لا التهاون والنفاق، هو الجدير بالتقدير، وألا ~~تضعف السلطة العليا أو تخضع لدعاة الفتن، فيجب الاعتراف لكل فرد بحريته في الرأي، ~~وحكم الناس بحيث يعيشون في سلام بالرغم من اختلافهم وتعارضهم في الآراء. ولا يمكننا ms361 ~~أن نشك في أن هذه الطريقة في الحكم هي أفضل الطرق وأكثرها اتفاقا مع الطبيعة ~~الإنسانية ، ففي الدولة الديمقراطية (وهي أقرب نظم الحكم إلى حالة الطبيعة) بينا أن ~~جميع الناس يتفقون على العمل بإرادة مشتركة، ولكنهم لا يتفقون على أن يبدوا ~~آراءهم أو يفكروا بطريقة واحدة. # 5 # وبعبارة أخرى، فلما كان الناس يعلمون أنهم لا يستطيعون دائما الاجتماع ~~على رأي واحد، فقد اتفقوا على العمل بالرأي الذي تجتمع عليه أغلبية الناس، وعلى ~~إعطائه قوة القانون مع الاحتفاظ بحقهم في إلغاء هذا القرار الأول عندما يجدون ما هو ~~أفضل منه، وكلما قلت حرية الرأي عند الناس ابتعدوا عن حالة الطبيعة، واشتد عنف ~~السلطة. # وهناك أمثلة كثيرة على أن الحرية لا تمثل أي ضرر لا تستطيع السلطة العليا ~~تجنبه بمفردها، وعلى أن احترام الناس لهذه السلطة وحدها يمنعهم من أن يسيئوا إلى ~~بعضهم البعض مهما كان بينهم من اختلاف في الآراء. ولسنا في حاجة إلى الذهاب بعيدا ~~لكي نهتدي إلى هذه الأمثلة، فلدينا مثلا مدنية أمستردام، التي جنت ثمار هذه الحرية ~~فنالها من ذلك أعظم الفائدة، وحازت إعجاب جميع الأمم الأخرى، ففي هذه الجمهورية ~~المزدهرة وفي هذه المدينة الرائعة يعيش الناس، من كل جنسية ومن كل طائفة في وفاق ~~كامل، وإذا أراد أحد أن يستدين فإنهم يسألون فقط إن كان غنيا أو فقيرا، جديرا ~~بالثقة أو مشهورا بالخداع، ولا يهمهم معرفة دينه أو مذهبه؛ لأن هذه الاعتبارات لا ~~تتدخل في كسب القضية أو خسرانها إذا رفع الأمر يوما إلى القضاء. ولا توجد ~~طائفة، مهما كانت مكروهة، لا يتمتع أنصارها بحماية السلطة العامة لها (بشرط ألا ~~تسبب هذه الطائفة أي ضرر لأي فرد، وأن ترد لكل ذي حق حقه وأن تحيا ~~حياة شريفة). وعلى العكس عندما تدخل رجال الدولة، وتدخلت دول الأقاليم من قبل في ~~الجدل اللاهوتي بين المعاتبين وأعداء المعاتبين # 6 # حيث الانقسام والفتنة، وأثبتت الأمثلة العديدة عندئذ أن القوانين ~~الموضوعة للدين لإنهاء الجدل تثير الناس أكثر مما تصلحهم، وأن كثيرا من الناس ~~يتخذون ms362 من هذه القوانين ذريعة ليفعلوا ما يشاءون. وفضلا عن ذلك فإن الانقسام إلى ~~شيع لا ينشأ عن رغبة صادقة في معرفة الحقيقة لأن هذه الرغبة تؤدي إلى الطيبة ~~والتسامح، بل عن شهوة عارمة للحكم. ومن ذلك يتبين بوضوح لا يقبل أي شك أن ~~دعاة الفتنة هم أولئك الذين يدينون كتابات الآخرين ويثيرون غضب الشعوب ضد ~~مؤلفيها، وليسوا هم المؤلفين الذين لا يكتبون إلا للعلماء، ولا يعتمدون إلا على ~~العقل وحده. أما مثيرو الشغب الحقيقيون فهم الذين يريدون في دولة حرة القضاء على ~~حرية الرأي، التي لا يمكن قمعها. # وهكذا نكون قد بينا أنه: ~~(1) # يستحيل سلب الأفراد حريتهم في التعبير عما يعتقدون. ~~(2) # لا يهدد الاعتراف بهذه الحرية حق السلطة العليا أو هيبتها، ويستطيع ~~الفرد الاحتفاظ بحريته دون تهديد لهذا الحق بشرط ألا يسمح لنفسه ~~بتغيير قوانين الدولة المعترف بها أو بأن يفعل شيئا ضد القوانين ~~القائمة. ~~(3) # يستطيع الفرد أن يتمتع بهذه الحرية دون أن يكون في ذلك خطر على سلامة ~~الدولة أو ضرر يصعب إيجاد علاج له. ~~(4) # لا يجلب التمتع بهذه الحرية أي خطر على التقوى. ~~(5) # لا فائدة من القوانين الموضوعة بشأن المسائل النظرية العقلية. ~~(6) # وأخيرا، فإن تمتع كل فرد بحريته لا يهدد - كما بينا - ~~سلامة الدولة، أو التقوى أو حق السلطة العليا، بل هو بالإضافة إلى ذلك ~~ضروري للمحافظة على ذلك كله. # والواقع أنه عندما يحاول الناس سلب خصومهم هذه الحرية، وعندما تقدم معتقدات ~~المنشقين للمحاكمة، لا مواقفهم واتجاهاتهم الإنسانية (التي هي الشيء الوحيد الذي يمكن ~~إدانته)، تكون تلك الأحكام التي توقع على الشرفاء أمثلة للاستشهاد، وتثير في نفوس ~~الحاضرين من التعاطف، بل من الرغبة في الانتقام للضحايا، أكثر مما تبعثه في ~~نفوسهم من الخوف، ثم تفسد العلاقات الاجتماعية ويضيع حسن النية، على حين تقوى شوكة ~~التملق والخداع، ويصيب أعداء المتهمين الغرور لأن السلطات سايرتهم في غضبهم، ~~ولأن رؤساء الدول أصبحوا مشايعين لذلك الرأي الذي جعلوا من أنفسهم رسلا له، ~~وبالتالي يتجرءون على اغتصاب حق السلطة العليا وعلى النيل من ms363 هيبتها، ويصل بهم ~~الصلف إلى حد الادعاء المباشر بأن الله قد اختارهم بحيث يضفون على ~~قراراتهم صبغة إلهية # 7 # يريدون أن تخضع لها السلطة العليا، التي هي إنسانية محضة. ولا يجهل أحد ~~أن هذا الوضع مضاد على طول الخط لمصلحة الدولة. وكما فعلنا في الفصل الثامن نختتم ~~عرضنا فنقول: لو أردنا أن نضمن سلامة الدولة، فيجب أن نجعل التقوى والدين مقتصرين ~~على ممارسة العدل والإحسان، كما يجب أن ينصب تشريع السلطة العليا في المجالين ~~الديني والدنيوي على أفعال الرعايا وحدها، وأن يترك لكل فرد حريته في التفكير ~~والتعبير. # وهكذا انتهيت من معالجة جميع المسائل التي اعتزمت بحثها عندما شرعت في الكتابة، ~~ولم يبق لي إلا أن أعلن صراحة أنني أقدم عن طيب خاطر كل ما كتبت للسلطات ~~العليا لوطني لكي تفحصه وتحكم عليه، فإن بدت لها إحدى قضاياي معارضة لقوانين البلاد ~~أو ضارة بالمصلحة العامة، فإني أتراجع عنها؛ ذلك لأني أدرك أنني بشر وأن من ~~الممكن أن أكون قد أخطأت، ولكني على الأقل حاولت بقدر طاقتي ألا أقع في ~~الخطأ، وحرصت بوجه خاص على ألا أكتب شيئا يتعارض مع قوانين بلدي أو يتنافى مع ~~الحرية والأخلاق الحميدة. # 8 ms364