######OpenITI# #META# 000.SortField :: JK_011658 #META# 000.BookURI :: NOCODE #META# 010.AuthorAKA :: الماوردي #META# 010.AuthorNAME :: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى : 450هـ) #META# 011.AuthorBORN :: NOTGIVEN #META# 011.AuthorDIED :: 450 #META# 019.AuthorDIED :: NODATA #META# 020.BookTITLE :: أدب الدنيا والدين #META# 020.BookTITLESUB :: NODATA #META# 021.BookSUBJ :: كتب الأخلاق والسلوك :: كتب متفرقة في الأخلاق والسلوك #META# 022.BookVOLS :: NODATA #META# 025.BookLANG :: NODATA #META# 029.BookTITLEalt :: أدب الدنيا والدين #META# 030.LibURI :: JK_011658 #META# 030.LibURIextra :: NODATA #META# 031.LibREADONLINE :: NODATA #META# 031.LibURL :: NODATA #META# 031.LibURLFILE :: NODATA #META# 031.LibURLextra :: NODATA #META# 040.EdALL :: NODATA #META# 040.EdEDITOR :: NODATA #META# 041.EdNUMBER :: NODATA #META# 041.EdNumber :: NODATA #META# 043.EdPUBLISHER :: NODATA #META# 044.EdPLACE :: NODATA #META# 045.EdYEAR :: NODATA #META# 049.EdISBN :: NODATA #META# 049.EdPAGES :: NODATA #META# 049.EdPHYSICAL :: NODATA #META# 049.EdVOLUME :: NODATA #META# 090.RecMISC :: NODATA #META# 999.MiscINFO :: NODATA #META#Header#End# # مقدمة المؤلف الحمد لله ذي الطول والآلاء ، وصلى الله على سيدنا محمد ~~خاتم الرسل والأنبياء ، وعلى آله وأصحابه الأتقياء . # أما بعد فإن شرف المطلوب بشرف نتائجه ، وعظم خطره بكثرة منافعه ، وبحسب ~~منافعه تجب العناية به ، وعلى قدر العناية به يكون اجتناء ثمرته ، وأعظم ~~الأمور خطرا وقدرا وأعمها نفعا ورفدا ما استقام به الدين والدنيا وانتظم به ~~صلاح الآخرة والأولى ؛ لأن باستقامة الدين تصح العبادة ، وبصلاح الدنيا تتم ~~السعادة . # وقد توخيت بهذا الكتاب الإشارة إلى آدابهما ، وتفصيل ما أجمل من أحوالهما ~~، على أعدل الأمرين من إيجاز وبسط أجمع فيه بين تحقيق الفقهاء ، وترقيق ~~الأدباء ، فلا ينبو عن فهم ، ولا يدق في وهم ، مستشهدا من كتاب الله - جل ~~اسمه - بما يقتضيه ، ومن سنن رسول الله - صلوات الله عليه - بما يضاهيه ، ~~ثم متبعا ذلك بأمثال الحكماء ، وآداب البلغاء ، وأقوال الشعراء ؛ لأن ~~القلوب ترتاح إلى الفنون المختلفة وتسأم من الفن الواحد . # وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إن القلوب تمل كما تمل الأبدان ~~فاهدوا إليها طرائف الحكمة . # فكأن هذا الأسلوب ، يحب التنقل في المطلوب ، من مكان إلى مكان وكان ~~المأمون رحمه الله تعالى ، يتنقل كثيرا في داره من مكان إلى مكان وينشد قول ~~أبي العتاهية : لا يصلح النفس إذ كانت مدبرة إلا التنقل من حال إلى حال ~~وجعلت ما تضمنه هذا الكتاب خمسة أبواب : الباب الأول : في فضل العقل وذم ~~الهوى . # الباب الثاني : في أدب العلم . # الباب PageV01P001 الثالث : في أدب الدين . # الباب الرابع : في أدب الدنيا . # الباب الخامس : في أدب النفس . # وإنما أستمد من الله تعالى حسن معونته ، وأستودعه حفاظ موهبته ، بحوله ~~ومشيئته ، وهو حسبي من معين وحفيظ . PageV01P002 الباب الأول فضل العقل وذم ~~الهوى اعلم أن لكل فضيلة أسا ولكل أدب ينبوعا ، وأس الفضائل وينبوع الآداب ~~هو العقل الذي جعله الله تعالى للدين أصلا وللدنيا عمادا ، فأوجب الدين ~~بكماله وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه ، وألف به بين خلقه مع اختلاف هممهم ~~ومآربهم ، وتباين أغراضهم ومقاصدهم ، وجعل ما تعبدهم به قسمين : قسما وجب ms001 ~~بالعقل فوكده الشرع ، وقسما جاز في العقل فأوجبه الشرع فكان العقل لهما ~~عمادا . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما اكتسب المرء مثل عقل ~~يهدي صاحبه إلى هدى ، أو يرده عن ردى } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لكل شيء عمل دعامة ودعامة ~~عمل المرء عقله فبقدر عقله تكون عبادته لربه أما سمعتم قول الفجار { لو كنا ~~نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } } . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أصل الرجل عقله ، وحسبه دينه ، ~~ومروءته خلقه . # وقال الحسن البصري : ما استودع الله أحدا عقلا إلا استنقذه به يوما ما . # وقال بعض الحكماء : العقل أفضل مرجو ، والجهل أنكى عدو . # وقال بعض الأدباء : صديق كل امرئ عقله وعدوه جهله . # وقال بعض البلغاء : خير المواهب العقل ، وشر المصائب الجهل . # وقال بعض الشعراء ، وهو إبراهيم بن حسان : يزين الفتى في الناس صحة عقله ~~وإن كان محظورا عليه مكاسبه يشين الفتى في الناس قلة عقله وإن كرمت أعراقه ~~ومناسبه 18 يعيش الفتى بالعقل في الناس إنه على العقل يجري علمه وتجاربه ~~وأفضل PageV01P003 قسم الله للمرء عقله فليس من الأشياء شيء يقاربه إذا ~~أكمل الرحمن للمرء عقله فقد كملت أخلاقه ومآربه واعلم أن بالعقل تعرف حقائق ~~الأمور ويفصل بين الحسنات والسيئات . # وقد ينقسم قسمين : غريزي ومكتسب . # فالغريزي هو العقل الحقيقي . # وله حد يتعلق به التكليف لا يجاوزه إلى زيادة ولا يقصر عنه إلى نقصان . # وبه يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان ، فإذا تم في الإنسان سمي عاقلا وخرج ~~به إلى حد الكمال كما قال صالح بن عبد القدوس : إذا تم عقل المرء تمت أموره ~~وتمت أمانيه وتم بناؤه وروى الضحاك في قوله تعالى : { لينذر من كان حيا } ~~أي من كان عاقلا واختلف الناس فيه وفي صفته على مذاهب شتى . # فقال قوم : هو جوهر لطيف يفصل به بين حقائق المعلومات . # ومن قال بهذا القول اختلفوا في محله . # فقالت طائفة منهم محله الدماغ ؛ لأن الدماغ محل الحس . # وقالت طائفة أخرى منهم ms002 محله القلب ؛ لأن القلب معدن الحياة ومادة الحواس ~~. # وهذا القول في العقل بأنه جوهر لطيف فاسد من وجهين : أحدهما : إن الجواهر ~~متماثلة فلا يصح أن يوجب بعضها ما لا يوجب سائرها . # ولو أوجب سائرها ما يوجب بعضها لاستغنى العاقل بوجود نفسه عن وجود عقله . # والثاني : أن الجوهر يصح قيامه بذاته . # فلو كان العقل جوهرا لجاز أن يكون عقل بغير عاقل كما جاز أن يكون جسم ~~بغير عقل فامتنع بهذين أن يكون العقل جوهرا . # وقال آخرون : العقل هو المدرك للأشياء على ما هي عليه من حقائق المعنى . # وهذا القول وإن كان PageV01P004 أقرب مما قبله فبعيد من الصواب من وجه ~~واحد وهو أن الإدراك من صفات الحي ، والعقل عرض يستحيل ذلك منه كما يستحيل ~~أن يكون متلذذا أو آلما أو مشتهيا . # وقال آخرون من المتكلمين العقل هو جملة علوم ضرورية وهذا الحد غير محصور ~~لما تضمنه من الإجمال ، ويتأوله من الاحتمال . # والحد إنما هو بيان المحدود بما ينفي عنه الإجمال والاحتمال . # وقال آخرون ، وهو القول الصحيح : إن العقل هو العلم بالمدركات الضرورية . # وذلك نوعان : أحدهما ما وقع عن درك الحواس . # والثاني : ما كان مبتدئا في النفوس . # فأما ما كان واقعا عن درك الحواس فمثل المرئيات المدركة بالنظر ، ~~والأصوات المدركة بالسمع ، والطعوم المدركة بالذوق ، والروائح المدركة ~~بالشم ، والأجسام المدركة باللمس ، فإذا كان الإنسان ممن لو أدرك بحواسه ~~هذه الأشياء ثبت له هذا النوع من العلم ؛ لأن خروجه في حال تغميض عينيه من ~~أن يدرك بهما ويعلم لا يخرجه من أن يكون كامل العقل من حيث علم من حاله أنه ~~لو أدرك لعلم . # وأما ما كان مبتدئا في النفوس فكالعلم بأن الشيء لا يخلو من وجود أو عدم ~~، وأن الموجود لا يخلو من حدوث أو قدم ، وأن من المحال اجتماع الضدين ، وأن ~~الواحد أقل من الاثنين . # وهذا النوع من العلم لا يجوز أن ينتفي عن العاقل مع سلامة حاله ، وكمال ~~عقله ، فإذا صار عالما بالمدركات الضرورية من هذين النوعين فهو كامل العقل ~~وسمي بذلك ms003 تشبيها بعقل الناقة ؛ لأن العقل يمنع الإنسان من الإقدام على ~~PageV01P005 شهواته إذا قبحت ، كما يمنع العقل الناقة من الشرود إذا نفرت . # ولذلك قال عامر بن قيس : إذا عقلك عقلك عما لا ينبغي فأنت عاقل . # وقد جاءت السنة بما يؤيد هذا القول في العقل وهو ما روي عن النبي صلى ~~الله عليه وسلم أنه قال { العقل نور في القلب يفرق بين الحق والباطل } . # وكل من نفى أن يكون العقل جوهرا أثبت محله في القلب ؛ لأن القلب محل ~~العلوم كلها . # قال الله تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } . # فدلت هذه الآية على أمرين : أحدهما : أن العقل علم ، والثاني : أن محله ~~القلب . # وفي قوله تعالى : { يعقلون بها } ، تأويلان : أحدهما : يعلمون بها ، ~~والثاني يعتبرون بها . # فهذه جملة القول في العقل الغريزي . PageV01P006 وأما العقل المكتسب فهو ~~نتيجة العقل الغريزي وهو نهاية المعرفة ، وصحة السياسة ، وإصابة الفكرة . # وليس لهذا حد ؛ لأنه ينمو إن استعمل وينقص إن أهمل . # ونماؤه يكون بأحد وجهين : إما بكثرة الاستعمال إذا لم يعارضه مانع من هوى ~~ولا صاد من شهوة ، كالذي يحصل لذوي الأسنان من الحنكة وصحة الروية بكثرة ~~التجارب وممارسة الأمور . # ولذلك حمدت العرب آراء الشيوخ حتى قال بعضهم : المشايخ أشجار الوقار ، ~~ومناجع الأخبار ، لا يطيش لهم سهم ، ولا يسقط لهم وهم ، إن رأوك في قبيح ~~صدوك ، وإن أبصروك على جميل أمدوك . # وقيل : عليكم بآراء الشيوخ فإنهم إن فقدوا ذكاء الطبع فقد مرت على عيونهم ~~وجوه العبر ، وتصدت لأسماعهم آثار الغير . # وقيل في منثور الحكم : من طال عمره نقصت قوة بدنه وزادت قوة عقله . # وقيل فيه : لا تدع الأيام جاهلا إلا أدبته . # وقال بعض الحكماء : كفى بالتجارب تأدبا وبتقلب الأيام عظة . # وقال بعض البلغاء : التجربة مرآة العقل ، والغرة ثمرة الجهل . # وقال بعض الأدباء : كفى مخبرا عما بقي ما مضى وكفى عبرا لأولي الألباب ما ~~جربوا . # وقال بعض الشعراء : ألم تر أن العقل زين لأهله ولكن تمام العقل طول ~~التجارب وقال آخر : إذا طال عمر المرء في غير ms004 آفة أفادت له الأيام في كرها ~~عقلا وأما الوجه الثاني فقد يكون بفرط الذكاء وحسن الفطنة . # وذلك جودة الحدس في زمان غير مهمل للحدس ، فإذا امتزج بالعقل الغريزي ~~صارت نتيجتهما نمو العقل المكتسب كالذي يكون في الأحداث PageV01P007 من ~~وفور العقل وجودة الرأي ، حتى قال هرم بن قطبة حين تنافر إليه عامر بن ~~الطفيل وعلقمة بن علاثة : عليكم بالحديث السن ، الحديد الذهن . # ولعل هرما أراد أن يدفعهما عن نفسه فاعتذر بما قال . # لكن لم ينكرا قوله إذعانا للحق فصارا إلى أبي جهل لحداثة سنه ، وحدة ذهنه ~~، فأبى أن يحكم بينهما فرجعا إلى هرم فحكم بينهما . # وفيه قال لبيد : يا هرم ابن الأكرمين منصبا إنك قد أوتيت حكما معجبا وقد ~~قالت العرب عليكم بمشاورة الشباب فإنهم ينتجون رأيا لم ينله طول القدم ، ~~ولا استولت عليه رطوبة الهرم . # وقد قال الشاعر : رأيت العقل لم يكن انتهابا ولم يقسم على عدد السنينا ~~ولو أن السنين تقاسمته حوى الآباء أنصبة البنينا وحكى الأصمعي رحمه الله ~~قال : قلت لغلام حدث من أولاد العرب كان يحادثني فأمتعني بفصاحة وملاحة : ~~أيسرك أن يكون لك مائة ألف درهم ، وأنت أحمق ؟ قال : لا والله . # قال : فقلت : ولم ؟ قال : أخاف أن يجني علي حمقي جناية تذهب بمالي ويبقى ~~علي حمقي . # فانظر إلى هذا الصبي كيف استخرج بفرط ذكائه ، واستنبط بجودة قريحته ما ~~لعله يدق على من هو أكبر منه سنا ، وأكثر تجربة . # وأحسن من هذا الذكاء والفطنة ما حكى ابن قتيبة أن عمر بن الخطاب رضي الله ~~عنه مر بصبيان يلعبون وفيهم عبد الله بن الزبير فهربوا منه إلا عبد الله . # فقال له عمر رضي الله عنه : ما لك ؟ لم لا تهرب مع أصحابك ؟ فقال : يا ~~أمير المؤمنين لم أكن على ريبة فأخافك ، ولم يكن الطريق ضيقا فأوسع ~~PageV01P008 لك . # فانظر ما تضمنه هذا الجواب من الفطنة وقوة المنة وحسن البديهة . # كيف نفى عنه اللوم ، وأثبت له الحجة فليس للذكاء غاية ، ولا لجودة ~~القريحة نهاية . # وحكي أن سليمان بن عبد الملك أمر ms005 الفرزدق بضرب أعناق أسارى من الروم ~~فاستعفاه الفرزدق فلم يفعل ، وأعطاه سيفا لا يقطع شيئا فقال الفرزدق بل ~~أضربهم بسيف أبي رغوان مجاشع ، يعني سيف نفسه ، فقام فضرب به عنق رومي منهم ~~فنبا السيف عنه ، فضحك سليمان ومن حوله فقال الفرزدق : أيعجب الناس أن ~~أضحكت سيدهم خليفة الله يستسقى به المطر لم ينب سيفي من رعب ولا دهش عن ~~الأسير ولكن أخر القدر ولن يقدم نفسا قبل ميتتها جمع اليدين ولا الصمصامة ~~الذكر ثم غمد سيفه وهو يقول : ما إن يعاب سيد إذا صبا ولا يعاب صارم إذا ~~نبا ولا يعاب شاعر إذا كبا ثم جلس وهو يقول : كأن بابن المراغة قد هجاني ~~فقال : بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم ثم قام ~~فانصرف وحضر جرير وخبر بالخبر ولم ينشد له الشعر فأنشأ يقول : بسيف أبي ~~رغوان سيف مجاشع ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم ثم قال : يا أمير المؤمنين ~~كأن بابن القين وقد أجابني فقال : ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل ~~الأعناق حمل المغارم فاستحسن سليمان حدس الفرزدق على جرير ثم أخبر الفرزدق ~~بشعر جرير ولم يخبره بحدسه فقال الفرزدق : كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ~~وتقطع أحيانا مناط التمائم ولن نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق ~~حمل PageV01P009 المغارم وهل ضربة الرومي جاعلة لكم أبا عن كليب أو أخا مثل ~~دارم فشاع حديث الفرزدق بهذا حتى حكي أن المهدي أتى بأسرى من الروم فأمر ~~بقتلهم وكان عنده شبيب بن شيبة فقال له : اضرب عنق هذا العلج . # فقال : يا أمير المؤمنين قد علمت ما ابتلي به الفرزدق فعير به قوم إلى ~~اليوم . # فقال : إنما أردت تشريفك وقد أعفيتك . # وكان أبو الهول الشاعر حاضرا فقال : جزعت من الرومي وهو مقيد فكيف ولو ~~لاقيته وهو مطلق دعاك أمير المؤمنين لقتله فكاد شبيب عند ذلك يفرق تنح ~~شبيبا عن قراع كتيبة وادن شبيبا من كلام يلفق وليس العجب من كلام الفرزدق ~~إن صح من جودة القريحتين ولكن من ms006 اتفاق الخاطرين . # ولمثل ذلك قالت الحكماء : آية العقل سرعة الفهم ، وغايته إصابة الوهم ، ~~وليس لمن منح جودة القريحة وسرعة الخاطر عجز عن جواب وإن أعضل ، كما قيل ~~لعلي رضي الله عنه : كيف يحاسب الله العباد على كثرة عددهم ؟ قال : كما ~~يرزقهم على كثرة عددهم . # وقيل لعبد الله بن عباس : أين تذهب الأرواح إذا فارقت الأجساد ؟ قال : ~~أين تذهب نار المصابيح عند فناء الأدهان ؟ وهذان الجوابان جوابا إسكات ~~تضمنا دليلي إذعان وحجتي قهر . # ومن غير هذا الفن وإن كان مسكتا ما حكي عن إبليس - لعنه الله - أنه حين ~~ظهر لعيسى ابن مريم عليه السلام فقال : ألست تقول أنه لن يصيبك إلا ما كتبه ~~الله عليك ؟ قال : نعم . # قال : فارم نفسك من ذروة هذا الجبل فإنه إن يقدر لك السلامة تسلم . # فقال له : يا ملعون إن لله أن PageV01P010 يختبر عباده وليس للعبد أن ~~يختبر ربه . # ومثل هذا الجواب لا يستغرب من أنبياء الله تعالى الذين أمدهم بوحيه ، ~~وأيدهم بنصره ، وإنما يستغرب ممن يلجأ إلى خاطره ويعول على بديهته . # وروى قثم بن العباس رضي الله عنهما قال : قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله ~~عنه : كم بين السماء والأرض ؟ قال : دعوة مستجابة . # قيل : فكم بين المشرق والمغرب ؟ قال : مسيرة يوم للشمس . # فكان هذا السؤال من سائله إما اختبارا ، وإما استبصارا فصدر عنه من ~~الجواب ما أسكت . # فأما إذا اجتمع هذان الوجهان في العقل المكتسب وهو ما ينميه فرط الذكاء ~~بجودة الحدس وصحة القريحة بحسن البديهة ، مع ما ينميه الاستعمال بطول ~~التجارب ومرور الزمان بكثرة الاختبار ، فهو العقل الكامل على الإطلاق في ~~الرجل الفاضل الاستحقاق . # روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال { : أثني على رجل عند رسول الله صلى ~~الله عليه وسلم بخير فقال : كيف عقله ؟ قالوا : يا رسول الله إن من عبادته ~~، إن من خلقه ، إن من فضله ، إن من أدبه . # فقال : كيف عقله ؟ قالوا : يا رسول الله نثني عليه بالعبادة ، وأصناف ~~الخير وتسألنا عن عقله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه ms007 وسلم : إن الأحمق ~~العابد يصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر وإنما يقرب الناس من ربهم بالزلف ~~على قدر عقولهم } . # واختلف الناس في العقل المكتسب إذا تناهى وزاد هل يكون فضيلة أم لا فقال ~~قوم : لا يكون فضيلة ؛ لأن الفضائل هيئات متوسطة بين فضيلتين ناقصتين ، كما ~~أن الخير توسط PageV01P011 بين رذيلتين فما جاوز التوسط خرج عن حد الفضيلة ~~. # وقد قالت الحكماء للإسكندر : أيها الملك عليك بالاعتدال في كل الأمور ، ~~فإن الزيادة عيب والنقصان عجز . # هذا مع ما وردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ~~خير الأمور أوساطها } . # وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : خير الأمور النمط الأوسط ، إليه ~~يرجع العالي ، ومنه يلحق التالي . # وقال الشاعر : لا تذهبن في الأمور فرطا لا تسألن إن سألت شططا وكن من ~~الناس جميعا وسطا قالوا : لأن زيادة العقل تفضي بصاحبها إلى الدهاء والمكر ~~وذلك مذموم وصاحبه ملوم . # وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسى الأشعري أن يعزل زيادا عن ~~ولايته فقال زياد : يا أمير المؤمنين أعن موجدة أو خيانة ؟ فقال : لا عن ~~واحدة منهما ، ولكن خفت أن أحمل على الناس فضل عقلك . # ولأجل هذا المحكي عن عمر ما قيل قديما : إفراط العقل مضر بالجسد . # وقال بعض الحكماء : كفاك من عقلك ما دلك على سبيل رشدك . # وقال بعض البلغاء : قليل يكفي خير من كثير يطغي . # وقال آخرون ، وهو أصح القولين : زيادة العقل فضيلة ؛ لأن المكتسب غير ~~محدود ، وإنما تكون زيادة الفضائل المحمودة نقصا مذموما ؛ لأن ما جاوز الحد ~~لا يسمى فضيلة كالشجاع إذا زاد على حد الشجاعة نسب إلى التهور ، والسخي إذا ~~زاد على حد السخاء نسب إلى التبذير . # وليس كذلك حال العقل المكتسب ؛ لأن الزيادة فيه زيادة علم بالأمور وحسن ~~إصابة بالظنون ومعرفة ما لم يكن إلى ما يكون ، وذلك فضيلة PageV01P012 لا ~~نقص . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أفضل الناس أعقل الناس ~~} . # وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ms008 : { العقل حيث كان مألوف } . # وقد قيل في تأويل قوله تعالى : { قل كل يعمل على شاكلته } أي بحسب عقله . # وقال القاسم بن محمد كانت العرب تقول : من لم يكن عقله أغلب خصال الخير ~~عليه ، كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه . # وقيل في منثور الحكم : كل شيء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه إذا كثر غلا . # وقال بعض البلغاء : إن العاقل من عقله في إرشاد ، ومن رأيه في إمداد ، ~~فقوله سديد ، وفعله حميد ، والجاهل من جهله في إغواء ، ومن هواه في إغراء ، ~~فقوله سقيم ، وفعله ذميم ، وأنشدني ابن لنكك لأبيه . # من لم يكن أكثر عقله أهلكه أكثر ما فيه فأما الدهاء والمكر فهو مذموم ؛ ~~لأن صاحبه صرف فضل عقله إلى الشر ولو صرفه إلى الخير لكان محمودا . # وقد ذكر المغيرة بن شعبة عمر بن الخطاب فقال : كان والله أفضل من أن يخدع ~~، وأعقل من أن يخدع . # وقال عمر : لست بالخب ولا يخدعني الخب . # واختلف الناس فيمن صرف فضل عقله إلى الشر كزياد ، وأشباهه من الدهاة ، هل ~~يسمى الداهية منهم عاقلا أم لا . # فقال بعضهم : أسميه عاقلا ؛ لوجود العقل منه . # وقال آخرون : لا أسميه عاقلا حتى يكون خيرا دينا ؛ لأن الخير والدين من ~~موجبات العقل . # فأما الشرير فلا أسميه عاقلا وإنما أسميه صاحب روية وفكر . PageV01P013 ~~وقد قيل : العاقل من عقل عن الله أمره ونهيه حتى قال أصحاب الشافعي رضي ~~الله عنه فيمن أوصى بثلث ماله لأعقل الناس أنه يكون مصروفا في الزهاد ؛ ~~لأنهم انقادوا للعقل ولم يغتروا بالأمل . PageV01P014 وروى لقمان بن أبي ~~عامر عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { يا عويمر ~~ازدد عقلا تزدد من ربك قربا . # قلت : بأبي أنت وأمي ، ومن لي بالعقل ؟ قال : اجتنب محارم الله ، وأد ~~فرائض الله تكن عاقلا ثم تنفل بصالحات الأعمال تزدد في الدنيا عقلا وتزدد ~~من ربك قربا وبه عزا } . # وأنشدني بعض أهل الأدب هذه الأبيات ، وذكر أنها لعلي بن أبي طالب رضي ~~الله عنه : إن المكارم أخلاق مطهرة فالعقل ms009 أولها والدين ثانيها والعلم ~~ثالثها والحلم رابعها والجود خامسها والعرف ساديها والبر سابعها والصبر ~~ثامنها والشكر تاسعها واللين عاشيها والنفس تعلم أني لا أصدقها ولست أرشد ~~إلا حين أعصيها والعين تعلم في عيني محدثها من كان من حزبها أو من أعاديها ~~عيناك قد دلتا عيني منك على أشياء لولاهما ما كنت تبديها واعلم أن العقل ~~المكتسب لا ينفك عن العقل الغريزي ؛ لأنه نتيجة منه . # وقد ينفك العقل الغريزي عن العقل المكتسب فيكون صاحبه مسلوب الفضائل ، ~~موفور الرذائل ، كالأنوك الذي لا يجد له فضيلة ، والأحمق الذي قل ما يخلو ~~من رذيلة . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الأحمق كالفخار لا يرقع ~~ولا يشعب } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الأحمق أبغض خلق الله إليه ~~، إذ حرمه أعز الأشياء عليه } . # وقال بعض الحكماء : الحاجة إلى العقل أقبح من الحاجة إلى المال ، وقال ~~بعض البلغاء : دولة الجاهل عبرة العاقل ، وقال أنوشروان لبزرجمهر : ~~PageV01P015 أي الأشياء خير للمرء ؟ قال : عقل يعيش به . # قال : فإن لم يكن ؟ قال : فإخوان يسترون عيبه . # قال : فإن لم يكن ؟ قال : فمال يتحبب به إلى الناس . # قال : فإن لم يكن ؟ قال : فعي صامت . # قال : فإن لم يكن ؟ قال : فموت جارف . # وقال سابور بن أردشير : العقل نوعان : أحدهما مطبوع ، والآخر مسموع . # ولا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه ، فأخذ ذلك بعض الشعراء فقال : رأيت ~~العقل نوعين فمسموع ومطبوع ولا ينفع مسموع إذا لم يك مطبوع كما لا تنفع ~~الشمس وضوء العين ممنوع وقد وصف بعض الأدباء العاقل بما فيه من الفضائل ، ~~والأحمق بما فيه من الرذائل ، فقال : العاقل إذا والى بذل في المودة نصره ، ~~وإذا عادى رفع عن الظلم قدره ، فيسعد مواليه بعقله ، ويعتصم معاديه بعدله . # إن أحسن إلى أحد ترك المطالبة بالشكر ، وإن أساء إليه مسيء سبب له أسباب ~~العذر ، أو منحه الصفح والعفو . # والأحمق ضال مضل إن أونس تكبر ، وإن أوحش تكدر ، وإن استنطق تخلف ، وإن ~~ترك تكلف . # مجالسته مهنة ، ومعاتبته محنة ، ومحاورته تعر ms010 ، وموالاته تضر ، ومقاربته ~~عمى ، ومقارنته شقا . # وكانت ملوك الفرس إذا غضبت على عاقل حبسته مع جاهل . # والأحمق يسيء إلى غيره ويظن أنه قد أحسن إليه فيطالبه بالشكر ، ويحسن ~~إليه فيظن أنه قد أساء فيطالبه بالوتر . # فمساوئ الأحمق لا تنقضي وعيوبه لا تتناهى ولا يقف النظر منها إلى غاية ~~إلا لوحت ما وراءها مما هو أدنى منها ، وأردى ، وأمر ، وأدهى . # فما أكثر العبر لمن نظر ، وأنفعها لمن PageV01P016 اعتبر . # وقال الأحنف بن قيس : من كل شيء يحفظ الأحمق إلا من نفسه . # وقال بعض البلغاء : إن الدنيا ربما أقبلت على الجاهل بالاتفاق ، وأدبرت ~~عن العاقل بالاستحقاق . # فإن أتتك منها سهمة مع جهل ، أو فاتتك منها بغية مع عقل ، فلا يحملنك ذلك ~~على الرغبة في الجهل ، والزهد في العقل . # فدولة الجاهل من الممكنات ، ودولة العاقل من الواجبات . # وليس من أمكنه شيء من ذاته ، كمن استوجبه بآلته ، وأدواته . # وبعد فدولة الجاهل كالغريب الذي يحن إلى النقلة ، ودولة العاقل كالنسيب ~~الذي يحن إلى الوصلة . # فلا يفرح المرء بحالة جليلة نالها بغير عقل ، ومنزلة رفيعة حلها بغير فضل ~~. # فإن الجهل ينزله منها ، ويزيله عنها ، ويحطه إلى رتبته ، ويرده إلى قيمته ~~، بعد أن تظهر عيوبه ، وتكثر ذنوبه ، ويصير مادحه هاجيا ، ووليه معاديا . # واعلم أنه بحسب ما ينشر من فضائل العاقل ، كذلك يظهر من رذائل الجاهل ، ~~حتى يصير مثلا في الغابرين ، وحديثا في الأخرين ، مع هتكه في عصره ، وقبح ~~ذكره في دهره ، كالذي رواه عطاء عن جابر قال : كان في بني إسرائيل رجل له ~~حمار . # فقال : يا رب لو كان لك حمار لعلفته مع حماري . # فهم به نبي من أنبياء الله ، فأوحى الله إليه : إنما أثيب كل إنسان على ~~قدر عقله . # واستعمل معاوية رجلا من كلب فذكر المجوس يوما عنده فقال : لعن الله ~~المجوس ينكحون أمهاتهم ، والله لو أعطيت عشرة آلاف درهم ما نكحت أمي . # فبلغ ذلك معاوية فقال : - قبحه الله - أترونه لو زادوه فعل ؟ وعزله ~~PageV01P017 وولى الربيع العامري - وكان من النوكى - على سائر اليمامة ~~فأقاد كلبا بكلب فقال ms011 فيه الشاعر : شهدت بأن الله حقا لقاؤه وأن الربيع ~~العامري رقيع أقاد لنا كلبا بكلب ولم يدع دماء كلاب المسلمين تضيع وليس ~~لمعار الجهل غاية ، ولا لمضار الحمق نهاية . # قال الشاعر : لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها ~~PageV01P018 الهوى : فصل : وأما الهوى فهو عن الخير صاد ، وللعقل مضاد ؛ ~~لأنه ينتج من الأخلاق قبائحها ، ويظهر من الأفعال فضائحها ، ويجعل ستر ~~المروءة مهتوكا ، ومدخل الشر مسلوكا . # قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : الهوى إله يعبد من دون الله . # ثم تلا : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } وقال عكرمة في قوله تعالى : { ~~ولكنكم فتنتم أنفسكم } يعني بالشهوات { وتربصتم } يعني بالتوبة { وارتبتم } ~~يعني في أمر الله { وغرتكم الأماني } يعني بالتسويف { حتى جاء أمر الله } ~~يعني الموت { وغركم بالله الغرور } يعني الشيطان . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { طاعة الشهوة داء ، ~~وعصيانها دواء } . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها ~~طلاعة تنزع إلى شر غاية . # إن هذا الحق ثقيل مري ، وإن الباطل خفيف وبي ، وترك الخطيئة خير من ~~معالجة التوبة ورب نظرة زرعت شهوة ، وشهوة ساعة أورثت حزنا طويلا . # وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أخاف عليكم اثنين : اتباع الهوى ~~وطول الأمل . # فإن اتباع الهوى يصد عن الحق وطول الأمل ينسي الآخرة . # وقال الشعبي : إنما سمي الهوى هوى ؛ لأنه يهوي بصاحبه . # وقال أعرابي : الهوى هوان ولكن غلط باسمه ، فأخذه الشاعر وقال : إن ~~الهوان هو الهوى قلب اسمه فإذا هويت فقد لقيت هوانا وقيل في منثور الحكم : ~~من أطاع هواه ، أعطى عدوه مناه . # وقال بعض الحكماء : العقل صديق مقطوع ، والهوى عدو متبوع . # وقال بعض البلغاء أفضل PageV01P019 الناس من عصى هواه ، وأفضل منه من رفض ~~دنياه . # وقال هشام بن عبد الملك بن مروان : إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى إلى ~~كل ما فيه عليك مقال قال ابن المعتز رحمه الله : لم يقل هشام بن عبد الملك ~~سوى هذا البيت . # وقال الشاعر ms012 : إذا ما رأيت المرء يعتاده الهوى فقد ثكلته عند ذاك ثواكله ~~وقد أشمت الأعداء جهلا بنفسه وقد وجدت فيه مقالا عواذله وما يردع النفس ~~اللجوج عن الهوى من الناس إلا حازم الرأي كامله فلما كان الهوى غالبا وإلى ~~سبيل المهالك موردا جعل العقل عليه رقيبا مجاهدا يلاحظ عثرة غفلته ، ويدفع ~~بادرة سطوته ، ويدفع خداع حيلته ؛ لأن سلطان الهوى قوي ، ومدخل مكره خفي . # ومن هذين الوجهين يؤتى العاقل حتى تنفذ أحكام الهوى عليه أعني بأحد ~~الوجهين : قوة سلطانه وبالآخر خفاء مكره . # فأما الوجه الأول فهو أن يقوى سلطان الهوى بكثرة دواعيه حتى يستولي عليه ~~مغالبة الشهوات فيكل العقل عن دفعها ، ويضعف عن منعها ، مع وضوح قبحها في ~~العقل المقهور بها ، وهذا يكون في الأحداث أكثر وعلى الشباب أغلب ؛ لقوة ~~شهواتهم ؛ وكثرة دواعي الهوى المتسلط عليهم وإنهم ربما جعلوا الشباب عذرا ~~لهم ، كما قال محمد بن بشير : كل يرى أن الشباب له في كل مبلغ لذة عذرا ~~ولذلك قال بعض الحكماء : الهوى ملك غشوم ، ومتسلط ظلوم . # وقال بعض الأدباء : الهوى عسوف ، والعدل مألوف . # وقال بعض الشعراء : يا عاقلا أردى الهوى عقله مالك قد سدت عليك الأمور ~~أتجعل العقل أسير الهوى إنما العقل PageV01P020 عليه أمير وحسم ذلك أن ~~يستعين بالعقل على النفس النفورة فيشعرها ما في عواقب الهوى من شدة الضرر ، ~~وقبح الأثر ، وكثرة الإجرام ، وتراكم الآثام . # فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { حفت الجنة بالمكاره وحفت النار ~~بالشهوات } . # أخبر أن الطريق إلى الجنة احتمال المكاره ، والطريق إلى النار اتباع ~~الشهوات . # قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إياكم وتحكيم الشهوات على أنفسكم فإن ~~عاجلها ذميم ، وآجلها وخيم ، فإن لم ترها تنقاد بالتحذير والإرهاب ، فسوفها ~~بالتأميل والإرغاب ، فإن الرغبة والرهبة إذا اجتمعا على النفس ذلت لهما ~~وانقادت . # وقد قال ابن السماك : كن لهواك مسوفا ، ولعقلك مسعفا ، وانظر إلى ما تسوء ~~عاقبته فوطن نفسك على مجانبته فإن ترك النفس وما تهوى داؤها ، وترك ما تهوى ~~دواؤها ، فاصبر على الدواء ، كما تخاف من ms013 الداء . # وقال الشاعر : صبرت على الأيام حتى تولت وألزمت نفسي صبرها فاستمرت وما ~~النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن طمعت تاقت وإلا تسلت فإذا انقادت النفس ~~للعقل بما قد أشعرت من عواقب الهوى لم يلبث الهوى أن يصير بالعقل مدحورا ، ~~وبالنفس مقهورا ، ثم له الحظ الأوفى في ثواب الخالق وثناء المخلوقين . # قال الله تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة ~~هي المأوى } وقال الحسن البصري : أفضل الجهاد جهاد الهوى . # وقال بعض الحكماء : أعز العز الامتناع من ملك الهوى . # وقال بعض البلغاء : خير الناس من أخرج الشهوة من قلبه ، وعصى PageV01P021 ~~هواه في طاعة ربه . # وقال بعض الأدباء : من أمات شهوته ، فقد أحيا مروءته . # وقال بعض العلماء : ركب الله الملائكة من عقل بلا شهوة ، وركب البهائم من ~~شهوة بلا عقل ، وركب ابن آدم من كليهما ؛ فمن غلب عقله على شهوته فهو خير ~~من الملائكة ، ومن غلبت شهوته على عقله فهو شر من البهائم . # وقيل لبعض الحكماء : من أشجع الناس ، وأحراهم بالظفر في مجاهدته ؟ قال : ~~من جاهد الهوى طاعة لربه ، واحترس في مجاهدته من ورود خواطر الهوى على قلبه ~~. # وقال بعض الشعراء : قد يدرك الحازم ذو الرأي المنى بطاعة الحزم وعصيان ~~الهوى وأما الوجه الثاني : فهو أن يخفي الهوى بكره حتى تتموه أفعاله على ~~العقل فيتصور القبيح حسنا والضرر نفعا . # وهذا يدعو إليه أحد شيئين : إما أن يكون للنفس ميل إلى ذلك الشيء فيخفى ~~عنها القبيح لحسن ظنها وتتصوره حسنا لشدة ميلها . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ؛ { حبك الشيء يعمي ويصم } . # أي يعمي عن الرشد ويصم عن الموعظة . # وقال علي رضي الله عنه : الهوى عمى . # قال الشاعر : حسن في كل عين من تود وقال عبيد الله بن معاوية بن عبد الله ~~بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه : ولست براء عيب ذي الود كله ولا بعض ما ~~فيه إذا كنت راضيا فعين الرضى عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي ~~المساويا وأما السبب الثاني ms014 : فهو اشتغال الفكر في تمييز ما اشتبه فيطلب ~~الراحة في اتباع ما استسهل حتى يظن أن ذلك أوفق أمريه ، وأحمد حاليه ، ~~اغترارا بأن الأسهل PageV01P022 محمود والأعسر مذموم فلن يعدم أن يتورط ~~بخدع الهوى وريبة المكر في كل مخوف حذر ، ومكروه عسر . # ولذلك قال عامر بن الظرب : الهوى يقظان والعقل راقد فمن ثم غلب . # وقال سليمان بن وهب : الهوى أمنع ، والرأي أنفع . # وقيل في المثل : العقل وزير ناصح ، والهوى وكيل فاضح . # وقال الشاعر : إذا المرء أعطى نفسه كلما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل ~~باطل وساقت إليه الإثم والعار بالذي دعته إليه من حلاوة عاجل وحسم السبب ~~الأول أن يجعل فكر قلبه حكما على نظر عينه . # فإن العين رائد الشهوة ، والشهوة من دواعي الهوى ، والقلب رائد الحق ~~والحق من دواعي العقل . # وقال بعض الحكماء : نظر الجاهل بعينه وناظره ، ونظر العاقل بقلبه وخاطره ~~. # ثم يتهم نفسه في صواب ما أحبت وتحسين ما اشتهت ؛ ليصح له الصواب ويتبين ~~له الحق ، فإن الحق أثقل محملا ، وأصعب مركبا فإن أشكل عليه أمران اجتنب ~~أحبهما إليه ، وترك أسهلهما عليه . # فإن النفس عن الحق أنفر ، وللهوى آثر . # وقد قال العباس بن عبد المطلب : إذا اشتبه عليك أمران فدع أحبهما إليك ، ~~وخذ أثقلهما عليك . # وعلة هذا القول هو أن الثقيل يبطئ النفس عن التسرع إليه فيتضح مع الإبطاء ~~وتطاول الزمان صواب ما استعجم ، وظهور ما استبهم . # وقد قال علي بن أبي طالب : من تفكر أبصر والمحبوب أسهل شيء تسرع النفس ~~إليه ، وتعجل بالإقدام عليه ، فيقصر الزمان عن تصفحه ويفوت استدراكه لتقصير ~~فعله فلا ينفع التصفح بعد العمل ولا الاستبانة PageV01P023 بعد الفوت . # وقال بعض الحكماء : ما كان عنك معرضا ، فلا تكن به متعرضا . # وقال الشاعر : أليس طلاب ما قد فات جهلا وذكر المرء ما لا يستطيع ولقد ~~وصف بعض البلغاء حال الهوى وما يقارنه من محن الدنيا فقال : الهوى مطية ~~الفتنة ، والدنيا دار المحنة ، فانزل عن الهوى تسلم ، واعرض عن الدنيا تغنم ~~، ولا يغرنك هواك بطيب الملاهي ولا تفتنك ms015 دنياك بحسن العواري . # فمدة اللهو تنقطع وعارية الدهر ترتجع ، ويبقى عليك ما ترتكبه من المحارم ~~، وتكتسبه من المآثم . # وقال علي بن عبد الله الجعفري : سمعتني امرأة بالطواف ، وأنا أنشد : أهوى ~~هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بهوى اللذات والدين فقالت : هما ضرتان ~~فذر أيهما شئت وخذ الأخرى . # فأما فرق ما بين الهوى والشهوة مع اجتماعهما في العلة والمعلول ، ~~واتفاقهما في الدلالة والمدلول ، فهو أن الهوى مختص بالآراء والاعتقادات ، ~~والشهوة مختصة بنيل اللذة . # فصارت الشهوة من نتائج الهوى وهي أخص ، والهوى أصل هو أعم . # ونحن نسأل الله تعالى أن يكفينا دواعي الهوى ، ويصرف عنا سبل الردى ، ~~ويجعل التوفيق لنا قائدا ، والعقل لنا مرشدا . # فقد روي أن الله تعالى أوحى إلى عيسى عليه السلام : عظ نفسك فإن اتعظت ~~فعظ الناس وإلا فاستحي مني . # وقال محمد بن كناسة : ما من روى أدبا فلم يعمل به ويكف عن زيغ الهوى ~~بأديب حتى يكون بما تعلم عاملا من صالح فيكون غير معيب ولقلما تغني إصابة ~~قائل أفعاله أفعال غير مصيب وقال آخر : يا أيها الرجل PageV01P024 المعلم ~~غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح ~~به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك ~~تعذر إن وعظت ويقتدى بالقول منك ويقبل التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله ~~عار عليك إذا فعلت عظيم حكى أبو فروة أن طارقا صاحب شرطة خالد القسري مر ~~بابن شبرمة وطارق في موكبه فقال ابن شبرمة : أراها وإن كانت تخب كأنها ~~سحابة صيف عن قريب تقشع اللهم لي ديني ولهم دنياهم . # فاستعمل ابن شبرمة بعد ذلك على القضاء فقال له ابنه أبو بكر : أتذكر قولك ~~يوم كذا إذ مر بك طارق في موكبه ؟ فقال : يا بني إنهم يجدون مثل أبيك ولا ~~يجد أبوك مثلهم . # إن أباك أكل من حلاوتهم ، فحط في أهوائهم . # أما ترى هذا الدين الفاضل كيف عوجل بالتقريع وقوبل بالتوبيخ من أخص ذويه ~~، ولعله من أبر بنيه . # فكيف ms016 بنا ونحن أطلق منه عنانا ، وأقلق منه جنانا . # إذا رمقتنا أعين المتتبعين ، وتناولتنا ألسن المتعتبين . # هل نجد غير توفيق الله تعالى ملاذا ، وسوى عصمته معاذا ؟ PageV01P025 ~~الباب الثاني أدب العلم اعلم أن العلم أشرف ما رغب فيه الراغب ، وأفضل ما ~~طلب وجد فيه الطالب ، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب ؛ لأن شرفه يثمر على ~~صاحبه ، وفضله ينمي على طالبه . # قال الله تعالى : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } فمنع ~~المساواة بين العالم والجاهل لما قد خص به العالم من فضيلة العلم . # وقال تعالى : { وما يعقلها إلا العالمون } فنفى أن يكون غير العالم يعقل ~~عنه أمرا ، أو يفهم منه زجرا . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أوحي إلى إبراهيم عليه ~~السلام أني عليم أحب كل عليم } . # وروى أبو أمامة قال : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلين ~~أحدهما عالم والآخر عابد فقال صلى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد ~~كفضلي على أدناكم رجلا } . # وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الناس أبناء ما يحسنون . # وقال مصعب بن الزبير : تعلم العلم فإن يكن لك مال كان لك جمالا وإن لم ~~يكن لك مال كان لك مالا . # وقال عبد الملك بن مروان لبنيه : يا بني تعلموا العلم فإن كنتم سادة فقتم ~~، وإن كنتم وسطا سدتم ، وإن كنتم سوقة عشتم . # وقال بعض الحكماء : العلم شرف لا قدر له ، والأدب مال لا خوف عليه . # وقال بعض الأدباء : العلم أفضل خلف ، والعمل به أكمل شرف . # وقال بعض البلغاء : تعلم العلم فإنه يقومك ويسددك صغيرا ، ويقدمك ويسودك ~~كبيرا ، ويصلح زيفك وفاسدك ، ويرغم عدوك وحاسدك ، ويقوم عوجك وميلك ، ويصحح ~~همتك ، وأملك . # وقال علي رضي PageV01P026 الله تعالى عنه : قيمة كل امرئ ما يحسن . # فأخذه الخليل فنظمه شعرا فقال : لا يكون العلي مثل الدني لا ولا ذو ~~الذكاء مثل الغبي قيمة المرء قدر ما يحسن المرء قضاء من الإمام علي وليس ~~يجهل فضل العلم إلا أهل الجهل ؛ لأن فضل العلم إنما يعرف بالعلم ms017 . # وهذا أبلغ في فضله ؛ لأن فضله لا يعلم إلا به . # فلما عدم الجهال العلم الذي به يتوصلون إلى فضل العلم جهلوا فضله ، ~~واسترذلوا أهله ، وتوهموا أن ما تميل إليه نفوسهم من الأموال المقتناة ، ~~والطرف المشتهاة ، أولى أن يكون إقبالهم عليها ، وأحرى أن يكون اشتغالهم ~~بها . # وقد قال ابن المعتز في منثور الحكم : العالم يعرف الجاهل ؛ لأنه كان ~~جاهلا ، والجاهل لا يعرف العالم ؛ لأنه لم يكن عالما . # وهذا صحيح ، ولأجله انصرفوا عن العلم ، وأهله انصراف الزاهدين ، وانحرفوا ~~عنه وعنهم انحراف المعاندين ؛ لأن من جهل شيئا عاداه . # وأنشدني ابن لنكك لأبي بكر بن دريد : جهلت فعاديت العلوم وأهلها كذاك ~~يعادي العلم من هو جاهله ومن كان يهوى أن يرى متصدرا ويكره لا أدري أصيبت ~~مقاتله وقيل لبزرجمهر : العلم أفضل أم المال ؟ فقال : بل العلم . # قيل : فما بالنا نرى العلماء على أبواب الأغنياء ولا نكاد نرى الأغنياء ~~على أبواب العلماء ؟ فقال : ذلك لمعرفة العلماء بمنفعة المال وجهل الأغنياء ~~لفضل العلم . # وقيل لبعض الحكماء : لم لا يجتمع العلم والمال ؟ فقال : لعز الكمال . # فأنشدت لبعض أهل هذا العصر : وفي الجهل قبل الموت موت لأهله فأجسامهم ~~PageV01P027 قبل القبور قبور وإن امرأ لم يحي بالعلم ميت فليس له حتى ~~النشور نشور ووقف بعض المتعلمين بباب عالم ثم نادى : تصدقوا علينا بما لا ~~يتعب ضرسا ، ولا يسقم نفسا . # فأخرج له طعاما ونفقة . # فقال : فاقتي إلى كلامكم ، أشد من فاقتي إلى طعامكم ، إني طالب هدى لا ~~سائل ندى . # فأذن له العالم ، وأفاده من كل ما سأل عنه فخرج جذلا فرحا ، وهو يقول : ~~علم أوضح لبسا ، خير من مال أغنى نفسا . # واعلم أن كل العلوم شريفة ، ولكل علم منها فضيلة ، والإحاطة بجميعها محال ~~. # قيل لبعض الحكماء : من يعرف كل العلوم ؟ فقال : كل الناس . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من ظن أن للعلم غاية فقد ~~بخسه حقه ، ووضعه في غير منزلته التي وصفه الله بها حيث يقول : { وما ~~أوتيتم من العلم إلا قليلا } . # وقال بعض العلماء : لو ms018 كنا نطلب العلم لنبلغ غايته كنا قد بدأنا العلم ~~بالنقيصة ، ولكنا نطلبه لننقص في كل يوم من الجهل ونزداد في كل يوم من ~~العلم . # وقال بعض العلماء : المتعمق في العلم كالسابح في البحر ليس يرى أرضا ، ~~ولا يعرف طولا ولا عرضا . # وقيل لحماد الراوية : أما تشبع من هذه العلوم ؟ فقال : استفرغنا فيها ~~المجهود ، فلم نبلغ منها المحدود ، فنحن كما قال الشاعر : إذا قطعنا علما ~~بدا علم وأنشد الرشيد عن المهدي بيتين وقال أظنهما له : يا نفس خوضي بحار ~~العلم أو غوصي فالناس ما بين معموم ومخصوص لا شيء في هذه الدنيا نحيط به ~~إلا إحاطة منقوص بمنقوص PageV01P028 وإذا لم يكن إلى معرفة جميع العلوم ~~سبيل وجب صرف الاهتمام إلى معرفة أهمها والعناية بأولاها ، وأفضلها . # وأولى العلوم ، وأفضلها علم الدين ؛ لأن الناس بمعرفته يرشدون ، وبجهله ~~يضلون . # إذ لا يصح أداء عبادة جهل فاعلها صفات أدائها ، ولم يعلم شروط إجزائها . # ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ { فضل العلم خير من فضل ~~العبادة } . # وإنما كان كذلك ؛ لأن العلم يبعث على فضل العبادة والعبادة مع خلو فاعلها ~~من العلم بها قد لا تكون عبادة ، فلزم علم الدين كل مكلف . # وكذلك قال النبي : صلى الله عليه وسلم { طلب العلم فريضة على كل مسلم . # } وفيه تأويلان : أحدهما : علم ما لا يسع جهله من العبادات . # والثاني : جملة العلم إذا لم يقم بطلبه من فيه كفاية . # وإذا كان علم الدين قد أوجب الله تعالى فرض بعضه على الأعيان ، وفرض ~~جميعه على الكافة كان أولى مما لم يجب فرضه على الأعيان ولا على الكافة . # قال الله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ~~ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } وروى عبد الله بن عمر { أن ~~رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فإذا هو بمجلسين ، أحدهما يذكرون ~~الله تعالى ، والآخر يتفقهون . # فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلا المجلسين على خير ، وأحدهما أحب ~~إلي من صاحبه . # أما هؤلاء فيسألون الله ms019 تعالى ويذكرونه فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم . # وأما المجلس الآخر فيتعلمون الفقه ويعلمون الجاهل . PageV01P029 وإنما ~~بعثت معلما وجلس إلى أهل الفقه } . # وروى مروان بن جناح عن يونس بن ميسرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ~~أنه قال : { الخير عادة والشر لجاجة ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين } ~~. # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { خيار أمتي علماؤها وخيار ~~علمائها فقهاؤها } . # وروى معاذ بن رفاعة ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال : قال رسول ~~الله صلى الله عليه وسلم : { ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه ~~تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { علي بخلفائي . # قالوا : ومن خلفاؤك ؟ قال : الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله } . # وروى حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { التفقه في الدين ~~حق على كل مسلم ألا فتعلموا وعلموا وتفقهوا ولا تموتوا جهالا } . # وروى سليمان بن يسار عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ~~ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في الدين ، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ~~ألف عابد ، ولكل شيء عماد وعماد الدين الفقه } . # وربما مال بعض المتهاونين بالدين إلى العلوم العقلية ورأى أنها أحق ~~بالفضيلة ، وأولى بالتقدمة استثقالا لما تضمنه الدين من التكليف ، ~~واسترذالا لما جاء به الشرع من التعبد والتوقيف . # والكلام مع مثل هذا في أصل ، لا يتسع له هذا الفصل . # ولن ترى ذلك فيمن سلمت فطنته ، وصحت رويته لأن العقل يمنع من أن يكون ~~الإنسان PageV01P030 هملا أو سدى . # يعتمدون على آرائهم المختلفة وينقادون لأهوائهم المتشعبة لما تؤول إليه ~~أمورهم من الاختلاف والتنازع ، ويفضي إليه أحوالهم من التباين والتقاطع . # فلم يستغنوا عن دين يتألفون به ويتفقون عليه . # ثم العقل موجب له أو مانع ولو تصور هذا المختل التصور أن الدين ضرورة في ~~العقل ، وأن العقل في الدين أصل ، لقصر عن التقصير ، وأذعن للحق ولكن أهمل ~~نفسه فضل وأضل . PageV01P031 وقد يتعلق ms020 بالدين علوم قد بين الشافعي فضيلة ~~كل واحد منها فقال : من تعلم القرآن عظمت قيمته ، ومن تعلم الفقه نبل ~~مقداره ، ومن كتب الحديث قويت حجته ، ومن تعلم الحساب جزل رأيه ، ومن تعلم ~~العربية رق طبعه ، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه عمله . # ولعمري إن صيانة النفس أصل الفضائل ؛ لأن من أهمل صيانة نفسه ثقة بما ~~منحه العلم من فضيلته ، وتوكلا على ما يلزم الناس من صيانته ، سلوه فضيلة ~~علمه ووسموه بقبيح تبذله ، فلم يف ما أعطاه العلم بما سلبه التبذل ؛ لأن ~~القبيح أنم من الجميل والرذيلة أشهر من الفضيلة ؛ لأن الناس لما في طبائعهم ~~من البغضة والحسد ونزاع المنافسة تنصرف عيونهم عن المحاسن إلى المساوئ ، ~~فلا ينصفون محسنا ولا يحابون مسيئا لا سيما من كان بالعلم موسوما وإليه ~~منسوبا ، فإن زلته لا تقال وهفوته لا تعذر إما لقبح أثرها واغترار كثير من ~~الناس بها . # وقد قيل في منثور الحكم : إن زلة العالم كالسفينة تغرق ويغرق معها خلق ~~كثير ، وقيل لعيسى ابن مريم عليه السلام من أشد الناس فتنة ؟ قال : زلة ~~العالم إذا زل زل بزلته عالم كثير . # فهذا وجه . # وإما لأن الجهال بذمه أغرى ، وعلى تنقصه أحرى ؛ ليسلبوه فضيلة التقدم ~~ويمنعوه مباينة التخصيص عنادا لما جهلوه ومقتا لما باينوه ؛ لأن الجاهل يرى ~~العلم تكلفا ولوما ، كما أن العالم يرى الجهل تخلفا وذما . # وأنشدت عن الربيع للشافعي رضي الله عنه : ومنزلة السفيه من الفقيه كمنزلة ~~الفقيه من PageV01P032 السفيه فهذا زاهد في قرب هذا وهذا فيه أزهد منه فيه ~~إذا غلب الشقاء على سفيه تقطع في مخالفة الفقيه وقال يحيى بن خالد لابنه : ~~عليك بكل نوع من العلم فخذ منه ، فإن المرء عدو ما جهل ، وأنا أكره أن تكون ~~عدو شيء من العلم ، وأنشد : تفنن وخذ من كل علم فإنما يفوق امرؤ في كل فن ~~له علم فأنت عدو للذي أنت جاهل به ولعلم أنت تتقنه سلم وإذا صان ذو العلم ~~نفسه حق صيانتها ، ولازم فعل ما يلزمها أمن تعيير الموالي وتنقيص ms021 المعادي ، ~~وجمع إلى فضيلة العلم جميل الصيانة وعز النزاهة فصار بالمنزلة التي يستحقها ~~بفضائله . # وروى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { العلماء ورثة ~~الأنبياء لأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم } . # وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { للأنبياء على ~~العلماء فضل درجتين وللعلماء على الشهداء فضل درجة } . # وقال بعض البلغاء : إن من الشريعة أن تجل أهل الشريعة ، ومن الصنيعة أن ~~ترب حسن الصنيعة . # فينبغي لمن استدل بفطرته على استحسان الفضائل ، واستقباح الرذائل ، أن ~~ينفي عن نفسه رذائل الجهل بفضائل العلم وغفلة الإهمال باستيقاظ المعاناة ، ~~ويرغب في العلم رغبة متحقق لفضائله واثق بمنافعه ، ولا يلهيه عن طلبه كثرة ~~مال وجده ولا نفوذ أمر وعلو منزلة . # فإن من نفذ أمره فهو إلى العلم أحوج ، ومن علت منزلته فهو بالعلم أحق . # وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم PageV01P033 أنه قال : { ~~إن الحكمة تزيد الشريف شرفا ، وترفع العبد المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك ~~} . # وقد قال بعض الأدباء : كل عز لا يوطده علم مذلة ، وكل علم لا يؤيده عقل ~~مضلة . # وقال بعض علماء السلف : إذا أراد الله بالناس خيرا جعل العلم في ملوكهم ، ~~والملك في علمائهم . # وقال بعض البلغاء : العلم عصمة الملوك ؛ لأنه يمنعهم من الظلم ، ويردهم ~~إلى الحلم ، ويصدهم عن الأذية ، ويعطفهم على الرعية . # فمن حقهم أن يعرفوا حقه ، ويستبطنوا أهله . # فأما المال فظل زائل وعارية مسترجعة وليس في كثرته فضيلة ، ولو كانت فيه ~~فضيلة لخص الله به من اصطفاه لرسالته ، واجتباه لنبوته . # وقد كان أكثر أنبياء الله تعالى مع ما خصهم الله به من كرامته وفضلهم على ~~سائر خلقه ، فقراء لا يجدون بلغة ولا يقدرون على شيء حتى صاروا في الفقر ~~مثلا ، فقال البحتري : فقر كفقر الأنبياء وغربة وصبابة ليس البلاء بواحد ~~ولعدم الفضيلة في المال منحه الله الكافر وحرمه المؤمن . # قال الشاعر : كم كافر بالله أمواله تزداد أضعافا على كفره ومؤمن ليس له ~~درهم يزداد إيمانا على فقره يا ms022 لائم الدهر وأفعاله مشتغلا يزري على دهره ~~الدهر مأمور له آمر ينصرف الدهر على أمره وقد بين علي بن أبي طالب رضي الله ~~عنه فضل ما بين العلم والمال فقال : العلم خير من المال . # العلم يحرسك ، وأنت تحرس المال . # العلم حاكم والمال محكوم عليه . # مات خزان الأموال وبقي خزان العلم أعيانهم مفقودة ، وأشخاصهم في القلوب ~~PageV01P034 موجودة . # وسئل بعض العلماء : أيما أفضل المال أم العلم ؟ فقال : الجواب عن هذا ~~أيما أفضل المال أم العقل . # وقال صالح بن عبد القدوس : لا خير فيمن كان خير ثنائه في الناس قولهم غني ~~واجد PageV01P035 وربما امتنع الإنسان من طلب العلم لكبر سنه واستحيائه من ~~تقصيره في صغره أن يتعلم في كبره ، فرضي بالجهل أن يكون موسوما به وآثره ~~على العلم أن يصير مبتدئا به . # وهذا من خدع الجهل وغرور الكسل ؛ لأن العلم إذا كان فضيلة فرغبة ذوي ~~الأسنان فيه أولى . # والابتداء بالفضيلة فضيلة . # ولأن يكون شيخا متعلما أولى من أن يكون شيخا جاهلا . # حكي أن بعض الحكماء رأى شيخا كبيرا يحب النظر في العلم ويستحي فقال له : ~~يا هذا أتستحي أن تكون في آخر عمرك أفضل مما كنت في أوله ، وذكر أن إبراهيم ~~بن المهدي دخل على المأمون وعنده جماعة يتكلمون في الفقه فقال : يا عم ما ~~عندك فيما يقول هؤلاء : فقال : يا أمير المؤمنين شغلونا في الصغر واشتغلنا ~~في الكبر . # فقال : لم لا نتعلمه اليوم ؟ قال : أو يحسن بمثلي طلب العلم ؟ قال : نعم ~~. # والله لأن تموت طالبا للعلم خير من أن تعيش قانعا بالجهل . # قال : وإلى متى يحسن بي طلب العلم ؟ قال : ما حسنت بك الحياة ؛ ولأن ~~الصغير أعذر وإن لم يكن في الجهل عذر ؛ لأنه لم تطل به مدة التفريط ولا ~~استمرت عليه أيام الإهمال . # وقد قيل في منثور الحكم : جهل الصغير معذور ، وعلمه محقور ، فأما الكبير ~~فالجهل به أقبح ، ونقصه عليه أفضح ؛ لأن علو السن إذا لم يكسبه فضلا ولم ~~يفده علما وكانت أيامه في الجهل ماضية ، ومن الفضل خالية ، كان الصغير ms023 أفضل ~~منه ؛ لأن الرجاء له أكثر ، والأمل فيه أظهر ، وحسبك نقصا في رجل يكون ~~الصغير المساوي له في الجهل أفضل منه . PageV01P036 وأنشدت لبعض أهل الأدب ~~: إذا لم يكن مر السنين مترجما عن الفضل في الإنسان سميته طفلا وما تنفع ~~الأيام حين يعدها ولم يستفد فيهن علما ولا فضلا أرى الدهر من سوء التصرف ~~مائلا إلى كل ذي جهل كأن به جهلا PageV01P037 وربما امتنع من طلب العلم ~~لتعذر المادة وشغله اكتسابها عن التماس العلم . # وهذا ، وإن كان أعذر من غيره مع أنه قل ما يكون ذلك إلا عند ذي شره وعيب ~~وشهوة مستعبدة ، فينبغي أن يصرف إلى العلم حظا من زمانه . # فليس كل الزمان زمان اكتساب . # ولا بد للمكتسب من أوقات استراحة ، وأيام عطلة . # ومن صرف كل نفسه إلى الكسب حتى لم يترك لها فراغا إلى غيره ، فهو من عبيد ~~الدنيا ، وأسراء الحرص . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لكل شيء فترة ، فمن ~~كانت فترته إلى العلم فقد نجا } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { كونوا علماء صالحين ، فإن ~~لم تكونوا علماء صالحين فجالسوا العلماء واسمعوا علما يدلكم على الهدى ، ~~ويردكم عن الردى } . # وقال بعض العلماء : من أحب العلم أحاطت به فضائله . # وقال بعض الحكماء : من صاحب العلماء وقر ، ومن جالس السفهاء حقر . ~~PageV01P038 وربما منعه من طلب العلم ما يظنه من صعوبته ، وبعد غايته ، ~~ويخشى من قلة ذهنه وبعد فطنته . # وهذا الظن اعتذار ذوي النقص وخيفة أهل العجز ؛ لأن الأخبار قبل الاختبار ~~جهل ، والخشية قبل الابتلاء عجز . # وقد قال الشاعر : لا تكونن للأمور هيوبا فإلى خيبة يصير الهيوب وقال رجل ~~لأبي هريرة رضي الله عنه : أريد أن أتعلم العلم ، وأخاف أن أضيعه . # فقال : كفى بترك العلم إضاعة . # وليس ، وإن تفاضلت الأذهان وتفاوتت الفطن ، ينبغي لمن قل منها حظه أن ~~ييأس من نيل القليل وإدراك اليسير الذي يخرج به من حد الجهالة إلى أدنى ~~مراتب التخصيص . # فإن الماء مع لينه يؤثر في صم الصخور فكيف ms024 لا يؤثر العلم الزكي في نفس ~~راغب شهي ، وطالب خلي ، لا سيما وطالب العلم معان . # قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ~~رضا بما يطلب . # } PageV01P039 وربما منع ذا السفاهة من طلب العلم أن يصور في نفسه حرفة ~~أهله وتضايق الأمور مع الاشتغال به حتى يسمهم بالإدبار ويتوسمهم بالحرمان ، ~~فإن رأى محبرة تطير منها وإن رأى كتابا أعرض عنه ، وإن رأى متحليا بالعلم ~~هرب منه كأنه لم ير عالما مقبلا وجاهلا مدبرا . # ولقد رأيت من هذه الطبقة جماعة ذوي منازل ، وأحوال كنت أخفي عنهم ما ~~يصحبني من محبرة وكتاب لئلا أكون عندهم مستثقلا ، وإن كان البعد عنهم مؤنسا ~~ومصلحا ، والقرب منهم موحشا ومفسدا . # فقد قال بزرجمهر : الجهل في القلب كالنز في الأرض ، يفسد ما حوله . # لكن اتبعت فيهم الحديث المروي عن أبي الأشعث عن أبي عثمان عن ثوبان عن ~~النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { خالطوا الناس بأخلاقهم وخالفوهم في ~~أعمالهم } . # ولذلك قال بعض البلغاء : رب جهل وقيت به علماء ، وسفه حميت به حلماء . # وهذه الطبقة ممن لا يرجى لها صلاح ، ولا يؤمل لها فلاح . # لأن من اعتقد أن العلم شين ، وأن تركه زين ، وأن للجهل إقبالا مجديا ، ~~وللعلم إدبارا مكديا ، كان ضلاله مستحكما ورشاده مستعبدا ، وكان هو الخامس ~~الهالك الذي قال فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه : { اغد عالما أو متعلما ~~أو مستمعا أو محبا ولا تكن الخامس فتهلك } . # وقد رواه خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه ~~وسلم مسندا وليس لمن هذه حاله : في العذل نفع ولا في الإصلاح مطمع . # وقد قيل لبزرجمهر : ما لكم لا تعاتبون الجهال ؟ فقال : إنا لا ~~PageV01P040 نكلف العمي أن يبصروا ، ولا الصم أن يسمعوا . # وهذه الطائفة التي تنفر من العلم هذا النفور ، وتعاند أهله هذا العناد ، ~~ترى العقل بهذه المثابة وتنفر من العقلاء هذا النفور ، وتعتقد أن العاقل ~~محارف ، وأن الأحمق محظوظ . # وناهيك بضلال من هذا اعتقاده في العقل والعلم ms025 هل يكون لخير أهلا ، أو ~~لفضيلة موضعا . # وقد قال بعض البلغاء : أخبث الناس المساوي بين المحاسن والمساوئ ؛ وعلة ~~هذا أنهم ربما رأوا عاقلا غير محظوظ ، وعالما غير مرزوق ، فظنوا أن العلم ~~والعقل هما السبب في قلة حظه ورزقه . # وقد انصرفت عيونهم عن حرمان أكثر النوكى وإدبار أكثر الجهال ؛ لأن في ~~العقلاء والعلماء قلة وعليهم من فضلهم سمة . # ولذلك قيل : العلماء غرباء لكثرة الجهال . # فإذا ظهرت سمة فضلهم وصادف ذلك قلة حظ بعضهم تنوهوا بالتمييز واشتهروا ~~بالتعيين ، فصاروا مقصودين بإشارة المتعنتين ، ملحوظين بإيماء الشامتين . # والجهال والحمقى لما كثروا ولم يتخصصوا انصرفت عنهم النفوس فلم يلحظ ~~المحروم منهم بطرف شامت ، ولا قصد المجدود منهم بإشارة عائب . # فلذلك ظن الجاهل المرزوق أن الفقر والضيق مختص بالعلم ، والعقل دون الجهل ~~والحمق ولو فتشت أحوال العلماء والعقلاء ، مع قلتهم ، لوجدت الإقبال في ~~أكثرهم . # ولو اختبرت أمور الجهال والحمقى ، مع كثرتهم ، لوجدت الحرمان في أكثرهم . # وإنما يصير ذو الحال الواسعة منهم ملحوظا مشتهرا ؛ لأن حظه عجيب وإقباله ~~مستغرب . # كما أن حرمان العاقل PageV01P041 العالم غريب وإقلاله عجيب . # ولم تزل الناس على سالف الدهور من ذلك متعجبين وبه معتبرين حتى قيل ~~لبزرجمهر : ما أعجب الأشياء ؟ فقال : نجح الجاهل وإكداء العاقل . # لكن الرزق بالحظ والجد ، لا بالعلم والعقل ، حكمة منه تعالى يدل بها على ~~قدرته وإجراء الأمور على مشيئته . # وقد قالت الحكماء : لو جرت الأقسام على قدر العقول لم تعش البهائم . # فنظمه أبو تمام فقال : ينال الفتى من عيشه وهو جاهل ويكدي الفتى من دهره ~~وهو عالم ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا هلكن إذن من جهلهن البهائم وقال ~~كعب بن زهير بن أبي سلمى : لو كنت أعجب من شيء لأعجبني سعي الفتى وهو مخبوء ~~له القدر يسعى الفتى لأمور ليس يدركها والنفس واحدة والهم منتشر على أن ~~العلم والعقل سعادة وإقبال ، وإن قل معهما المال ، وضاقت معهما الحال . # والجهل والحمق حرمان وإدبار وإن كثر معهما المال ، واتسعت فيهما الحال ؛ ~~لأن السعادة ليست بكثرة المال فكم من مكثر شقي ms026 ومقل سعيد . # وكيف يكون الجاهل الغني سعيدا والجهل يضعه . # أم كيف يكون العالم الفقير شقيا والعلم يرفعه ؟ وقد قيل في منثور الحكم : ~~كم من ذليل أعزه علمه ، ومن عزيز أذله جهله . # وقال عبد الله بن المعتز : الجاهل كروضة على مزبلة . # وقال بعض الحكماء : كلما حسنت نعمة الجاهل ازداد قبحا . # وقال بعض العلماء لبنيه : يا بني تعلموا العلم فإن لم تنالوا به من ~~الدنيا حظا فلأن يذم الزمان لكم أحب إلي من أن يذم الزمان بكم . # وقال بعض الأدباء : PageV01P042 من لم يفد بالعلم مالا كسب به جمالا ، ~~وأنشد بعض أهل الأدب لابن طباطبا : حسود مريض القلب يخفي أنينه ويضحى كئيب ~~البال عندي حزينه يلوم علي أن رحت للعلم طالبا أجمع من عند الرواة فنونه ~~فأعرف أبكار الكلام وعونه وأحفظ مما أستفيد عيونه ويزعم أن العلم لا يكسب ~~الغنى ويحسن بالجهل الذميم ظنونه فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي فقيمة كل ~~الناس ما يحسنونه وأنا أستعيذ بالله من خدع الجهل المذلة ، وبوادر الحمق ~~المضلة . # وأسأله السعادة بعقل رادع يستقيم به من زل ، وعلم نافع يستهدي به من ضل . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا استرذل الله عبدا حظر ~~عليه العلم . PageV01P043 فينبغي لمن زهد في العلم أن يكون فيه راغبا ولمن ~~رغب فيه أن يكون له طالبا ، ولمن طلبه أن يكون منه مستكثرا ، ولمن استكثر ~~منه أن يكون به عاملا ، ولا يطلب لتركه احتجاجا ولا للتقصير فيه عذرا . # وقد قال الشاعر : فلا تعذراني في الإساءة إنه شرار الرجال من يسيء فيعذر ~~ولا يسوف نفسه بالمواعيد الكاذبة ويمنيها بانقطاع الأشغال المتصلة ، فإن ~~لكل وقت شغلا ولكل زمان عذرا . # وقال الشاعر : نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي تموت مع المرء ~~حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي ويقصد طلب العلم واثقا بتيسير الله قاصدا وجه ~~الله تعالى بنية خالصة وعزيمة صادقة . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من تعلم علما لغير الله ~~وأراد به غير الله ms027 فليتبوأ مقعده من النار } . # وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { تعلموا ~~العلم قبل أن يرفع ، ورفعه ذهاب أهله . # فإن أحدكم لا يدري متى يحتاج إليه أو متى يحتاج إلى ما عنده } . ~~PageV01P044 وليحذر أن يطلبه لمراء أو رياء فإن المماري به مهجور لا ينتفع ~~، والمرائي به محقور لا يرتفع . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تعلموا العلم لتماروا ~~به السفهاء ، ولا تعلموا العلم لتجادلوا به العلماء ، فمن فعل ذلك منكم ~~فالنار مثواه } . # وليس المماري به هو المناظر فيه طلبا للصواب منه ، ولكنه القاصد لدفع ما ~~يرد عليه من فاسد أو صحيح . # وفيهم جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يجادل ~~إلا منافق أو مرتاب } . # وقال الأوزاعي : إذا أراد الله بقوم شرا أعطاهم الجدل ، ومنعهم العمل . # وأنشد الرياشي لمصعب بن عبد الله : أجادل كل معترض ظنين وأجعل دينه غرضا ~~لديني وأترك ما عملت لرأي غيري وليس الرأي كالعلم اليقين وما أنا والخصومة ~~وهي شيء يصرف في الشمال وفي اليمين فأما ما علمت فقد كفاني وأما ما جهلت ~~فجنبوني وقد بين ذلك بعض العلماء فقال لصاحبه : لا يمنعنك حذر المراء من ~~حسن المناظرة ، فإن المماري هو الذي لا يريد أن يتعلم منه أحد ولا يرجو أن ~~يتعلم من أحد . # واعلم أن لكل مطلوب باعثا . # والباعث على المطلوب شيئان : رغبة أو رهبة ، فليكن طالب العلم راغبا ~~راهبا . # أما الرغبة ففي ثواب الله تعالى لطالبي مرضاته ، وحافظي مفترضاته . # وأما الرهبة فمن عقاب الله تعالى لتاركي أوامره ، ومهملي زواجره . # فإذا اجتمعت الرغبة والرهبة أديا إلى كنه العلم وحقيقة الزهد ؛ لأن ~~الرغبة أقوى الباعثين على العلم ، والرهبة أقوى PageV01P045 السببين في ~~الزهد . # وقد قالت الحكماء : أصل العلم الرغبة وثمرته السعادة ، وأصل الزهد الرهبة ~~وثمرته العبادة فإذا اقترن الزهد والعلم فقد تمت السعادة وعمت الفضيلة ، ~~وإن افترقا فيا ويح مفترقين ما أضر افتراقهما ، وأقبح انفرادهما . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ms028 أنه قال : { من ازداد في العلم رشدا ~~، فلم يزدد في الدنيا زهدا ، لم يزدد من الله إلا بعدا } . # وقال مالك بن دينار : من لم يؤت من العلم ما يقمعه ، فما أوتي منه لا ~~ينفعه . # وقال بعض الحكماء : الفقيه بغير ورع كالسراج يضيء البيت ويحرق نفسه . ~~PageV01P046 التعلم : فصل : واعلم أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها ، ~~ومداخل تفضي إلى حقائقها . # فليبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخرها ، وبمداخلها لتفضي إلى ~~حقائقها . # ولا يطلب الآخر قبل الأول ، ولا الحقيقة قبل المدخل . # فلا يدرك الآخر ولا يعرف الحقيقة ؛ لأن البناء على غير أس لا يبنى ، ~~والثمر من غير غرس لا يجنى . # ولذلك أسباب فاسدة ودواع واهية . # فمنها : أن يكون في النفس أغراض تختص بنوع من العلم فيدعو الغرض إلى قصد ~~ذلك النوع ويعدل عن مقدماته ، كرجل يؤثر القضاء ويتصدى للحكم فيقصد من علم ~~الفقه أدب القاضي وما يتعلق به من الدعوى والبينات ، أو يحب الاتسام ~~بالشهادة فيتعلم كتاب الشهادات فيصير موسوما بجهل ما يعاني . # فإذا أدرك ذلك ظن أنه قد حاز من العلم جمهوره ، وأدرك منه مشهوره ، ولم ~~ير ما بقي منه إلا غامضا طلبه عناء ، وغويصا استخراجه فناء ؛ لقصور همته ~~على ما أدرك ، وانصرافها عما ترك . # ولو نصح نفسه لعلم أن ما ترك أهم مما أدرك ؛ لأن بعض العلم مرتبط ببعض ، ~~ولكل باب منه تعلق بما قبله فلا تقوم الأواخر إلا بأوائلها . # وقد يصح قيام الأوائل بأنفسها فيصير طلب الأواخر بترك الأوائل تركا ~~للأوائل والأواخر فإذن ليس يعرى من لوم وإن كان تارك الآخر ألوم . ~~PageV01P047 ومنها : أن يحب الاشتهار بالعلم إما لتكسب أو لتجمل فيقصد من ~~العلم ما اشتهر من مسائل الجدل وطريق النظر . # ويتعاطى علم ما اختلف فيه دون ما اتفق عليه ؛ ليناظر على الخلاف وهو لا ~~يعرف الوفاق ، ويجادل الخصوم وهو لا يعرف مذهبا مخصوصا . # ولقد رأيت من هذه الطبقة عددا قد تحققوا بالعلم تحقق المتكلفين ، ~~واشتهروا به اشتهار المتبحرين . # إذا أخذوا في مناظرة الخصوم ظهر كلامهم ، وإذا سئلوا عن واضح ms029 مذهبهم ضلت ~~أفهامهم ، حتى إنهم ليخبطون في الجواب خبط عشواء فلا يظهر لهم صواب ، ولا ~~يتقرر لهم جواب . # ولا يرون ذلك نقصا إذا نمقوا في المجالس كلاما موصوفا ، ولفقوا على ~~المخالف حجابا مألوفا . # وقد جهلوا من المذاهب ما يعلم المبتدئ ويتداوله الناشئ . # فهم دائما في لغط مضل ، أو غلط مذل ورأيت قوما منهم يرون الاشتغال ~~بالمذاهب تكلفا ، والاستكثار منه تخلفا . # وحاجني بعضهم عليه فقال : لأن علم حافظ المذاهب مستور ، وعلم المناظر ~~عليه مشهور . # فقلت : فكيف يكون علم حافظ المذهب مستورا وهو سريع عليه الجواب ، كثير ~~الصواب ؟ فقال : لأنه إن لم يسأل سكت فلم يعرف ، والمناظر إن لم يسأل سائل ~~يعرف . # فقلت : أليس إذا سئل الحافظ فأصاب بان فضله ؟ قال : نعم . # قلت : أفليس إذا سئل المناظر فأخطأ بان نقصه ، وقد قيل : عند الامتحان ~~يكرم المرء أو يهان ؟ فأمسك عن جوابي ؛ لأنه إن أنكر كابر المعقول ، ولو ~~اعترف لزمته الحجة . # والإمساك إذعان والسكوت رضى ، وأن ينقاد إلى الحق أولى من أن PageV01P048 ~~يستفزه الباطل . # وهذه طريقة من يقول اعرفوني وهو غير عروف ولا معروف وبعيد ممن لا يعرف ~~العلم أن يعرفه . # وقد قال زهير : ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس ~~تعلم . PageV01P049 ومن أسباب التقصير أيضا أن يغفل عن التعلم في الصغر ، ~~ثم يشتغل به في الكبر فيستحي أن يبتدئ بما يبتدئ الصغير ، ويستنكف أن ~~يساويه الحدث الغرير ، فيبدأ بأواخر العلوم ، وأطرافها ، ويهتم بحواشيها ، ~~وأكنافها ؛ ليتقدم على الصغير المبتدي ، ويساوي الكبير المنتهي . # وهذا ممن رضي بخداع نفسه ، وقنع بمداهنة حسه ؛ لأن معقوله إن أحس ومعقول ~~كل ذي حس يشهد بفساد هذا التصور ، وينطق باختلال هذا التخيل ؛ لأنه شيء لا ~~يقوم في وهم . # وجهل ما يبتدئ به المتعلم أقبح من جهل ما ينتهي إليه العالم . # وقد قال الشاعر : ترق إلى صغير الأمر حتى يرقيك الصغير إلى الكبير فتعرف ~~بالتفكر في صغير كبيرا بعد معرفة الصغير ولهذا المعنى ، وأشباهه كان ~~المتعلم في الصغر أحمد . # روى مروان بن سالم عن إسماعيل بن ms030 أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى ~~الله عليه وسلم ؛ { مثل الذي يتعلم في صغره كالنقش على الصخر والذي يتعلم ~~في كبره كالذي يكتب على الماء . # } . # وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : قلب الحدث كالأراضي الخالية ما ~~ألقي فيها من شيء قبلته وإنما كان كذلك ؛ لأن الصغير أفرغ قلبا ، وأقل شغلا ~~، وأيسر تبذلا ، وأكثر تواضعا . # وقد قيل في منثور الحكم : المتواضع من طلاب العلم أكثرهم علما ، كما أن ~~المكان المنخفض أكثر البقاع ماء . # فأما أن يكون الصغير أضبط من الكبير إذا عري من هذه الموانع ، وأوعى منه ~~إذا خلا من هذه القواطع فلا . # حكي أن الأحنف بن قيس سمع رجلا يقول : PageV01P050 التعليم في الصغر ~~كالنقش على الحجر . # فقال الأحنف : الكبير أكثر عقلا ولكنه أشغل قلبا . # ولعمري لقد فحص الأحنف عن المعنى ونبه على العلة ؛ لأن قواطع الكبير ~~كثيرة : فمنها : ما ذكرنا من الاستحياء . # وقد قيل في منثور الحكم : من رق وجهه رق علمه . # وقال الخليل بن أحمد : يرتع الجهل بين الحياء والكبر في العلم . # ومنها : وفور شهواته وتقسم أفكاره . # وقال الشاعر : صرف الهوى عن ذي الهوى عزيز إن الهوى ليس له تمييز وقال ~~بعض البلغاء : إن القلب إذا علق كالرهن إذا غلق . # ومنها : الطوارق المزعجة والهموم المذهلة . # وقد قيل في منثور الحكم : الهم قيد الحواس . # وقال بعض البلغاء : من بلغ أشده لاقي من العلم أشده . # ومنها : كثرة اشتغاله وترادف حالاته حتى أنها تستوعب زمانه وتستنفد أيامه ~~. # فإذا كان ذا رئاسة ألهته ، وإن كان ذا معيشة قطعته . # ولذلك قيل : تفقهوا قبل أن تسودوا . # وقال بزرجمهر : الشغل مجهدة والفراغ مفسدة . # فينبغي لطالب العلم أن لا يني في طلبه وينتهز الفرصة به ، فربما شح ~~الزمان بما سمح وضن بما منح . # ويبتدئ من العلم بأوله ويأتيه من مدخله ولا يتشاغل بطلب ما لا يضر جهله ~~فيمنعه ذلك من إدراك ما لا يسعه جهله . # فإن لكل علم فصولا مذهلة وشذورا مشغلة ، إن صرف إليها نفسه قطعته عما هو ~~أهم منها . # وقال ابن عباس ms031 رضي الله عنهما : العلم أكثر من أن يحصى فخذوا من كل شيء ~~أحسنه . # وقال المأمون : ما لم يكن العلم بارعا فبطون الصحف أولى به من قلوب ~~الرجال PageV01P051 . # وقال بعض الحكماء : بترك ما لا يعنيك تدرك ما يغنيك . # ولا ينبغي أن يدعوه ذلك إلى ترك ما استصعب عليه إشعارا لنفسه أن ذلك من ~~فضول علمه وإعذارا لها في ترك الاشتغال به ، فإن ذلك مطية النوكى وعذر ~~المقصرين . # ومن أخذ من العلم ما تسهل وترك منه ما تعذر كان كالقناص إذا امتنع عليه ~~الصيد تركه فلا يرجع إلا خائبا إذ ليس يرى الصيد إلا ممتنعا . # كذلك العلم كله صعب على من جهله ، سهل على من علمه ؛ لأن معانيه التي ~~يتوصل إليها مستودعة في كلام مترجم عنها . # وكل كلام مستعمل فهو يجمع لفظا مسموعا ومعنى مفهوما ، فاللفظ كلام يعقل ~~بالسمع والمعنى تحت اللفظ يفهم بالقلب . # وقد قال بعض الحكماء : العلوم مطالعها من ثلاثة أوجه : قلب مفكر ، ولسان ~~معبر ، وبيان مصور . # فإذا عقل الكلام بسمعه فهم معانيه بقلبه . # وإذا فهم المعاني سقط عنه كلفة استخراجها وبقي عليه معاناة حفظها ~~واستقرارها ؛ لأن المعاني شوارد تضل بالإغفال ، والعلوم وحشية تنفر ~~بالإرسال . # فإذا حفظها بعد الفهم أنست ، وإذا ذكرها بعد الأنس رست . # وقال بعض العلماء : من أكثر المذاكرة بالعلم لم ينس ما علم واستفاد ما لم ~~يعلم . # وقال الشاعر : إذا لم يذاكر ذو العلوم بعلمه ولم يستفد علما نسي ما تعلما ~~فكم جامع للكتب في كل مذهب يزيد مع الأيام في جمعه عمى PageV01P052 وإن لم ~~يفهم معاني ما سمع كشف عن السبب المانع منها ليعلم العلة في تعذر فهمها ~~فإنه بمعرفة أسباب الأشياء وعللها يصل إلى تلافي ما شذ وصلاح ما فسد . # وليس يخلو السبب المانع من ذلك من ثلاثة أقسام : إما أن يكون لعلة في ~~الكلام المترجم عنها . # وإما أن يكون لعلة في المعنى المستودع فيها . # وإما أن يكون لعلة في السامع المستخرج . # فإن كان السبب المانع من فهمها لعلة في الكلام المترجم عنها لم يخل ms032 ذلك ~~من ثلاثة أحوال : أحدها : أن يكون لتقصير اللفظ عن المعنى فيصير تقصير ~~اللفظ عن ذلك المعنى سببا مانعا من فهم ذلك المعنى . # وهذا يكون من أحد وجهين : إما من حصر المتكلم وعيه ، وإما من بلادته وقلة ~~فهمه . # الحال الثاني : أن يكون لزيادة اللفظ على المعنى فتصير الزيادة علة مانعة ~~من فهم المقصود منه . # وهذا قد يكون من أحد وجهين : إما من هذر المتكلم وإكثاره ، وإما لسوء ظنه ~~بفهم سامعه . # والحال الثالث : أن يكون لمواضعة يقصدها المتكلم بكلامه ، فإذا لم يعرفها ~~السامع لم يفهم معانيها . # وأما تقصير اللفظ وزيادته فمن الأسباب الخاصة دون العامة ؛ لأنك لست تجد ~~ذلك عاما في كل الكلام ، وإنما تجده في بعضه . # فإن عدلت عن الكلام المقصر إلى الكلام المستوفي ، وعن الزائد إلى الكافي ~~أرحت نفسك من تكلف ما يكد خاطرك . # وإن أقمت على استخراجه إما لضرورة دعتك إليه عند إعواز غيره ، أو لحمية ~~داخلتك عند تعذر فهمه ، فانظر في سبب الزيادة والتقصير . # فإن كان التقصير PageV01P053 لحصر والزيادة لهذر سهل عليك استخراج المعنى ~~منه ؛ لأن ما له من الكلام محصول لا يجوز أن يكون المختل منه أكثر من ~~الصحيح وفي الأكثر على الأقل دليل . # وإن كانت زيادة اللفظ على المعنى دليلا لسوء ظن المتكلم بفهم السامع كان ~~استخراجه أسهل . # وإن كان تقصير اللفظ عن المعنى لسوء فهم المتكلم فهو أصعب الأمور حالا ، ~~وأبعدها استخراجا ؛ لأن ما لم يفهمه مكلمك فأنت من فهمه أبعد إلا أن يكون ~~بفرط ذكائك وجودة خاطرك تتنبه بإشارته على استنباط ما عجز عنه واستخراج ما ~~قصر فيه فتكون فضيلة الاستيفاء لك وحق التقدم له . # وأما المواضعة فضربان : عامة وخاصة . # أما العامة فهي مواضعة العلماء فيما جعلوه ألقابا لمعان لا يستغني ~~المتعلم عنها ولا يقف على معنى كلامهم إلا بها ، كما جعل المتكلمون الجواهر ~~، والأعراض والأجسام ألقابا تواضعوها لمعان اتفقوا عليها . # ولست تجد من العلوم علما يخلو من هذا . # وهذه المواضعة العامة تسمى عرفا . # وأما الخاصة فمواضعة الواحد يقصد بباطن كلامه غير ظاهره ms033 . # فإذا كانت في الكلام كانت رمزا ، وإن كانت في الشعر كانت لغزا . # فأما الرمز فلست تجده في علم معنوي ، ولا في كلام لغوي وإنما يختص غالبا ~~بأحد شيئين : إما بمذهب شنيع يخفيه معتقده ويجعل الرمز سببا لتطلع النفوس ~~إليه واحتمال التأويل فيه سببا لدفع التهمة عنه . # وإما لما يدعي أربابه أنه علم معوز ، وأن إدراكه بديع معجز ، كالصنعة ~~التي وضعها أربابها اسما لعلم الكيمياء PageV01P054 فرمزوا بأوصافه ، ~~وأخفوا معانيه ؛ ليوهموا الشح به والأسف عليه خديعة للعقول الواهية والآراء ~~الفاسدة . # وقد قال الشاعر : منعت شيئا فأكثرت الولوع به أحب شيء إلى الإنسان ما ~~منعا ثم ليكونوا براء من عهدة ما قالوه إذا جرب . # ولو كان ما تضمن هذين النوعين ، وأشباههما من الرموز معنى صحيحا وعلما ~~مستفادا لخرج من الرمز الخفي إلى العلم الجلي ، فإن أغراض الناس مع اختلاف ~~أهوائهم لا تتفق على ستر سليم وإخفاء مفيد . # وقد قال زهير : الستر دون الفاحشات ولا يلقاك دون الخير من ستر وربما ~~استعمل الرمز من الكلام فيما يراد تفخيمه من المعاني ، وتعظيمه من الألفاظ ~~؛ ليكون أحلى في القلوب موقعا ، وأجل في النفوس موضعا ، فيصير بالرمز سائرا ~~وفي الصحف مخلدا . # كالذي حكي عن فيثاغورس في وصاياه المرموزة أنه قال : احفظ ميزانك من ~~البذيء ، وأوزانك من الصديء . # يريد بحفظ الميزان من البذيء حفظ اللسان من الخنا ، وحفظ الأوزان من ~~الصدى حفظ العقل من الهوى . # فصار بهذا الرمز مستحسنا ومدونا ولو قاله باللفظ الصريح والمعنى الصحيح ، ~~لما سار عنه ، ولا استحسن منه . # وعلة ذلك أن المحجوب عن الأفهام كالمحجوب عن الأبصار فيما يحصل له في ~~النفوس من التعظيم ، وفي القلوب من التفخيم . # وما ظهر منها ولم يحتجب هان واسترذل ، وهذا إنما يصح استحلاؤه فيما قل ~~وهو باللفظ الصريح مستقل . # فأما العلوم المنتشرة التي تتطلع النفوس إليها فقد استغنت بقوة الباعث ~~عليها وشدة الداعي إليها عن الاستدعاء PageV01P055 إليها برمز مستحل ولفظ ~~مستغرب . # بل ذلك منفر عنها ؛ لما في التشاغل باستخراج رموزها من الإبطاء عن ~~إدراكها ، فهذا حال الرمز . # وأما ms034 اللغز فهو تحري أهل الفراغ وشغل ذوي البطالة ؛ ليتنافسوا في تباين ~~قرائحهم ، ويتفاخروا في سرعة خواطرهم ، فيستكدوا خواطر قد منحوا صحتها فيما ~~لا يجدي نفعا ولا يفيد علما ، كأهل الصراع الذين قد صرفوا ما منحوه من صحة ~~أجسامهم إلى صراع كدود يصرع عقولهم ويهد أجسامهم ولا يكسبهم حمدا ولا يجدي ~~عليهم نفعا . # انظر إلى قول الشاعر : رجل مات وخلف رجلا ابن أم ابن أبي أخت أبيه معه أم ~~بني أولاده وأبا أخت بني عم أخيه أخبرني عن هذين البيتين وقد روعك صعوبة ما ~~تضمنهما من السؤال . # إذا استكديت الفكر في استخراجه فعلمت أنه أراد ميتا خلف أبا وزوجة وعما ، ~~ما الذي أفادك من العلم ونفى عنك من الجهل ؟ ألست بعد علمه تجهل ما كنت ~~جاهلا من قبله ؟ ولو أن السائل قلب لك السؤال فأخر ما قدم وقدم ما أخر لكنت ~~في الجهل به قبل استدراجه كما كنت في الجهل الأول وقد كددت نفسك ، وأتعبت ~~خاطرك ثم لا تعدم أن يرد عليك مثل هذا مما تجهله فتكون فيه كما كنت قبله . # فاصرف نفسك - تولى الله رشدك - عن علوم النوكى وتكلف البطالين . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من حسن إسلام المرء ~~تركه ما لا يعنيه } . # ثم اجعل ما من الله به عليك من صحة القريحة وسرعة الخاطر مصروفا إلى علم ~~ما يكون إنفاق خاطرك فيه مذخورا ، وكد فكرك فيه مشكورا . # وقد روى PageV01P056 سعيد بن أبي هند عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ~~قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : { نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس ~~الصحة والفراغ } . # ونحن نستعيذ بالله من أن نغبن بفضل نعمته علينا ، ونجهل نفع إحسانه إلينا ~~. # وقد قيل في منثور الحكم : من الفراغ تكون الصبوة . # وقال بعض البلغاء : من أمضى يومه في غير حق قضاه ، أو فرض أداه ، أو مجد ~~أثله أو حمد حصله ، أو خير أسسه أو علم اقتبسه ، فقد عق يومه وظلم نفسه . # وقال بعض الشعراء : لقد أهاج الفراغ عليك ms035 شغلا وأسباب البلاء من الفراغ ~~فهذا تعليل ما في الكلام من الأسباب المانعة من فهم معانيه حتى خرج بنا ~~الاستيفاء والكشف إلى الإغماض . PageV01P057 وأما القسم الثاني : وهو أن ~~يكون السبب المانع من فهم السامع لعلة في المعنى المستودع فلا يخلو حال ~~المعنى من ثلاثة أقسام : إما أن يكون مستقلا بنفسه ، أو يكون مقدمة لغيره ، ~~أو يكون نتيجة من غيره . # فأما المستقل بنفسه فضربان : جلي وخفي . # فأما الجلي فهو يسبق إلى فهم متصوره من أول وهلة ، وليس هو من أقسام ما ~~يشكل على من تصوره . # وأما الخفي فيحتاج في إدراكه إلى زيادة تأمل وفضل معاناة لينجلي عما أخفى ~~وينكشف عما أغمض ، وباستعمال الفكر فيه يكون الارتياض به وبالارتياض به ~~يسهل منه ما استصعب ويقرب منه ما بعد ، فإن للرياضة جراءة وللدراية تأثيرا ~~، وأما ما كان مقدمة لغيره فضربان : أحدهما : أن تقوم المقدمة بنفسها وإن ~~تعدت إلى غيرها ، فتكون كالمستقل بنفسه في تصوره وفهمه مستدعيا لنتيجته . # والثاني : أن يكون مفتقرا إلى نتيجته فيتعذر فهم المقدمة إلا بما يتبعها ~~من النتيجة ؛ لأنها تكون بعضا وتبعيض المعنى أشكل له وبعضه لا يغني عن كله ~~، وأما ما كان نتيجة لغيره فهو لا يدرك إلا بأوله ولا يتصور على حقيقته إلا ~~بمقدمته والاشتغال به قبل المقدمة عناء ، وإتعاب الفكر في استنباطه قبل ~~قاعدته إيذاء . # فهذا يوضح تعليل ما في المعاني من الأسباب المانعة من فهمها . ~~PageV01P058 وأما القسم الثالث : وهو أن يكون السبب المانع لعلة في المستمع ~~فذلك ضربان . # أحدهما : من ذاته . # والثاني : من طارئ عليه . # فأما ما كان من ذاته فيتنوع نوعين : أحدهما : ما كان مانعا من تصور ~~المعنى ، والثاني : ما كان مانعا من حفظه بعد تصوره وفهمه . # فأما ما كان مانعا من تصور المعنى وفهمه فهو البلادة وقلة الفطنة وهو ~~الداء العياء . # وقد قال بعض الحكماء : إذا فقد العالم الذهن قل على الأضداد احتجاجه ، ~~وكثر إلى الكتب احتياجه . # وليس لمن بلي به إلا الصبر والإقلال ؛ لأنه على القليل أقدر ، وبالصبر ~~أحرى أن ينال ويظفر . # وقد ms036 قال بعض الحكماء : قدم لحاجتك بعض لجاجتك . # وليس يقدر على الصبر من هذا حاله إلا أن يكون غالب الشهوة ، بعيد الهمة ، ~~فيشعر قلبه الصبر ؛ لقوة شهوته ، وجسده احتمال التعب ؛ لبعد همته . # فإذا تلوح له المعنى بمساعدة الشهوة أعقبه ذلك إلحاح الآملين ونشاط ~~المدركين فقل عنده كل كثير ، وسهل عليه كل عسير . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تنالون ما تحبون إلا ~~بالصبر على ما تكرهون ، ولا تبلغون ما تهوون إلا بترك ما تشتهون } . # وقيل في منثور الحكم : أتعب قدمك ، فإن تعب قدمك . # وقال بعض البلغاء : إذا اشتد الكلف ، هانت الكلف ، وأنشد بعض أهل الأدب ~~لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه - : لا تعجزن ولا يدخلك مضجرة فالنجح يهلك ~~بين العجز والضجر PageV01P059 وأما المانع من حفظه بعد تصوره وفهمه فهو ~~النسيان الحادث عن غفلة التقصير وإهمال التواني . # فينبغي لمن بلي به أن يستدرك تقصيره بكثرة الدرس ويوقظ غفلته بإدامة ~~النظر . # فقد قيل لا يدرك العلم من لا يطيل درسه ، ويكد نفسه . # وكثرة الدرس كدود لا يصبر عليه إلا من يرى العلم مغنما ، والجهالة مغرما ~~. # فيحتمل تعب الدرس ليدرك راحة العلم وينفي عنه معرة الجهل . # فإن نيل العظيم بأمر عظيم ، وعلى قدر الرغبة تكون المطالب ، وبحسب الراحة ~~يكون التعب . # وقد قيل : طلب الراحة قلة الاستراحة . # وقال بعض الحكماء : أكمل الراحة ما كانت عن كد التعب ، وأعز العلم ما كان ~~عن ذل الطلب . # وربما استثقل المتعلم الدرس والحفظ واتكل بعد فهم المعاني على الرجوع إلى ~~الكتب والمطالعة فيها عند الحاجة فلا يكون إلا كمن أطلق ما صاده ثقة ~~بالقدرة عليه بعد الامتناع منه فلا تعقبه الثقة إلا خجلا والتفريط إلا ندما ~~. # وهذه حال قد يدعو إليها أحد ثلاثة أشياء : إما الضجر من معاناة الحفظ ~~ومراعاته وطول الأمل في التوفر عليه عند نشاطه وفساد الرأي في عزيمته . # وليس يعلم أن الضجور خائب ، وأن الطويل الأمل مغرور ، وأن الفاسد الرأي ~~مصاب . # والعرب تقول في أمثالها : حرف في قلبك ، خير من ms037 ألف في كتبك . # وقالوا : لا خير في علم لا يعبر معك الوادي ، ولا يعمر بك النادي ، ~~وأنشدت عن الربيع للشافعي رضي الله عنه : علمي معي حيث ما يممت ينفعني قلبي ~~وعاء له لا بطن صندوقي إن كنت في البيت كان العلم فيه PageV01P060 معي أو ~~كنت في السوق كان العلم في السوق وربما اعتنى المتعلم بالحفظ من غير تصور ~~ولا فهم حتى يصير حافظا لألفاظ المعاني قيما بتلاوتها . # وهو لا يتصورها ولا يفهم ما تضمنها يروي بغير روية ، ويخبر عن غير خبرة . # فهو كالكتاب الذي لا يدفع شبهة ، ولا يؤيد حجة . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { همة السفهاء الرواية ~~وهمة العلماء الرعاية } . # وقال ابن مسعود رضي الله عنه : كونوا للعلم رعاة ، ولا تكونوا له رواة ، ~~فقد يرعوي من لا يروي ، ويروي من لا يرعوي . # وحدث الحسن البصري بحديث فقال له رجل : يا أبا سعيد ، عمن ؟ قال : ما ~~تصنع بعمن ، أما أنت فقد نالتك عظته ، وقامت عليك حجته . # وربما اعتمد على حفظه وتصوره ، وأغفل تقييد العلم في كتبه ثقة بما استقر ~~في ذهنه وهذا خطأ منه ؛ لأن الشكل معترض والنسيان طارق . # وقد روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { قيدوا ~~العلم بالكتاب } . # وروي أن { رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم النسيان فقال له : ~~استعمل يدك ، أي اكتب حتى ترجع إذا نسيت إلى ما كتبت } . # وقال الخليل بن أحمد : اجعل ما في الكتب رأس المال ، وما في القلب النفقة ~~. # وقال مهبود . # لولا ما عقدته الكتب من تجارب الأولين ، لانحل مع النسيان عقود الآخرين . # وقال بعض البلغاء : إن هذه الآداب نوافر تند عن عقل الأذهان فاجعلوا ~~الكتب عنها حماة ، والأقلام لها رعاة . # وأما الطوارئ فنوعان : أحدهما : شبهة تعترض المعنى فتمنع عن PageV01P061 ~~نفس تصوره وتدفع عن إدراك حقيقته ، فينبغي أن يزيل تلك الشبهة عن نفسه ~~بالسؤال والنظر ؛ ليصل إلى تصور المعنى وإدراك حقيقته . # ولذلك قال بعض العلماء : لا تخل قلبك من المذاكرة فتعد ms038 عقيما ، ولا تعف ~~طبعك من المناظرة فيعد سقيما . # وقال بشار بن برد : شفاء العمى طول السؤال وإنما دوام العمى طول السكوت ~~على الجهل فكن سائلا عما عناك فإنما دعيت أخا عقل لتبحث بالعقل والثاني : ~~أفكار تعارض الخاطر فيذهل عن تصور المعنى . # وهذا سبب قلما يعرى منه أحد لا سيما فيمن انبسطت آماله واتسعت أمانيه . # وقد يقل فيمن لم يكن له في غير العلم أرب ، ولا فيما سواه همة ، فإن طرأت ~~على الإنسان لم يقدر على مكابرة نفسه على الفهم وغلبة قلبه على التصور ؛ ~~لأن القلب مع الإكراه أشد نفورا ، وأبعد قبولا . # وقد جاء الأثر بأن القلب إذا أكره عمي ، ولكن يعمل في دفع ما طرأ عليه من ~~هم مذهل أو فكر قاطع ليستجيب له القلب مطيعا . # وقد قال الشاعر : وليس بمغن في المودة شافع إذا لم يكن بين الضلوع شفيع ~~وقال بعض الحكماء : إن لهذه القلوب تنافر كتنافر الوحش فتألفوها بالاقتصاد ~~في التعليم ، والتوسط في التقديم ؛ لتحسن طاعتها ، ويدوم نشاطها . # فهذا تعليل ما في المستمع من الأسباب المانعة من فهم المعاني . ~~PageV01P062 وها هنا قسم رابع يمنع من معرفة الكلام وفهم معانيه . # ولكنه قد يعرى من بعض الكلام ، فلذلك لم يدخل في جملة أقسامه ، ولم نستجز ~~الإخلال بذكره ؛ لأن من الكلام ما كان مسموعا لا يحتاج في فهمه إلى تأمل ~~الخط به . # والمانع من فهمه هو على ما ذكرنا من أقسامه ومنه ما كان مستودعا بالخط ، ~~محفوظا بالكتابة ، مأخوذا بالاستخراج ، فكان الخط حافظا له ومعبرا عنه . # وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { أو أثارة من علم } ~~قال : يعني الخط . # وروي عن مجاهد في قوله تعالى : { يؤتي الحكمة من يشاء } يعني الخط { ومن ~~يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } يعني الخط . # والعرب تقول : الخط أحد اللسانين ، وحسنه أحد الفصاحتين . # وقال جعفر بن يحيى : الخط سمط الحكمة به يفصل شذورها ، وينظم منثورها . # وقال ابن المقفع : اللسان مقصور على القريب الحاضر والقلم على الشاهد ~~والغائب وهو للغابر الكائن مثله ms039 للقائم الدائم . # وقال حكيم الروم : الخط هندسة روحانية ، وإن ظهرت بآلة جسمانية . # وقال حكيم العرب : الخط أصل في الروح وإن ظهر بحواس الجسد . PageV01P063 ~~واختلف في أول من كتب الخط فذكر كعب الأحبار أن أول من كتب آدم عليه السلام ~~كتب سائر الكتب قبل موته بثلاثمائة سنة في طين ثم طبخه فلما غرقت الأرض في ~~أيام نوح - على نبينا وعليه السلام - بقيت الكتابة فأصاب كل قوم كتابهم . # وبقي الكتاب العربي إلى أن خص الله تعالى به إسماعيل فأصابه وتعلمها . # وحكى ابن قتيبة أن أول من كتب إدريس - على نبينا وعليه السلام - وكانت ~~العرب تعظم قدر الخط وتعده من أجل نافع حتى قال عكرمة : بلغ فداء أهل بدر ~~أربعة آلاف حتى إن الرجل ليفادى على أنه يعلم الخط ، لما هو مستقر في ~~نفوسهم من عظم خطره وجلالة قدره وظهور نفعه وأثره . # وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { اقرأ وربك الأكرم الذي ~~علم بالقلم } . # فوصف نفسه بالكرم ، وأعد ذلك من نعمه العظام ، ومن آياته الجسام ، حتى ~~أقسم به في كتابه فقال سبحانه وتعالى : { ن والقلم وما يسطرون } . # فأقسم بالقلم وما يخط بالقلم . PageV01P064 واختلف في أول من كتب ~~بالعربية فذكر كعب الأحبار أن أول من كتب به آدم عليه السلام ثم وجدها بعد ~~الطوفان إسماعيل - على نبينا وعليه السلام - وحكى ابن عباس رضي الله عنه أن ~~أول من كتب بها ووضعها إسماعيل عليه السلام على لفظه ومنطقه . # وحكى عروة بن الزبير رضي الله عنه أن أول من كتب بها قوم من الأوائل ~~أسماؤهم أبجد ، وهوز ، وحطي ، وكلمن ، وسعفص ، وقرشت ، وكانوا ملوك مدين . # وحكى ابن قتيبة في المعارف أن أول من كتب بالعربي مرامر بن مرة من أهل ~~الأنبار ومن الأنبار انتشرت . # وحكى المدائني أن أول من كتب بها مرامر بن مرة ، وأسلم بن سدرة وعامر بن ~~حدرة . # فمرامر وضع الصور ، ، وأسلم فصل ووصل ، وعامر وضع الإعجام . PageV01P065 ~~ولما كان الخط بهذا الحال وجب على من أراد حفظ العلم أن يعبأ بأمرين : ~~أحدهما ms040 : تقويم الحروف على أشكالها الموضوعة لها . # والثاني : ضبط ما اشتبه منها بالنقط والأشكال المميزة لها . # ثم ما زاد على هذين من تحسين الخط وملاحة نظمه فإنما هو زيادة حذق بصنعته ~~وليس بشرط في صحته . # وقد قال علي بن عبيدة : حسن الخط لسان اليد وبهجة الضمير . # وقال أبو العباس المبرد : رداءة الخط زمانة الأدب . # وقال عبد الحميد : البيان في اللسان والخط في البنان . # وأنشدني بعض أهل العلم لأحد شعراء البصرة : اعذر أخاك على نذالة خطه ~~واغفر نذالته لجودة ضبطه فإذا أبان عن المعاني لم يكن تحسينه إلا زيادة ~~شرطه واعلم بأن الخط ليس يراد من تركيبه إلا تبين سمطه ومحل ما زاد على ~~الخط المفهوم من تصحيح الحروف وحسن الصورة محل ما زاد على الكلام المفهوم ~~من فصاحة الألفاظ وصحة الإعراب . # ولذلك قالت العرب : حسن الخط أحد الفصاحتين . # وكما أنه لا يعذر من أراد التقدم في الكلام أن يطرح الفصاحة والإعراب وإن ~~فهم ، وأفهم . # كذلك لا يعذر من أراد التقدم في الخط أن يطرح تصحيح الحروف وتحسين الصورة ~~، وإن فهم ، وأفهم . # وربما تقدم بالخط من كان الخط من جل فضائله ، وأشرف خصائله ، حتى صار ~~عالما مشهورا ، وسيدا مذكورا . # غير أن العلماء أطرحوا صرف الهمة إلى تحسين الخط ؛ لأنه يشغلهم عن العلم ~~ويقطعهم عن التوفر عليه . # ولذلك تجد خطوط العلماء في الأغلب رديئة لا يخط إلا من أسعده PageV01P066 ~~القضاء . # وقد قال الفضل بن سهل : من سعادة المرء أن يكون رديء الخط ؛ لأن الزمان ~~الذي يفنيه بالكتابة يشغله بالحفظ والنظر . # وليست رداءة الخط هي السعادة ، وإنما السعادة أن لا يكون له صارف عن ~~العلم . # وعادة ذي الخط الحسن أن يتشاغل بتحسين خطه عن العلم فمن هذا الوجه صار ~~برداءة خطه سعيدا ، وإن لم تكن رداءة الخط سعادة . PageV01P067 وإذا كان ~~ذلك كذلك فقد يعرض للخط أسباب تمنع من قراءته ومعرفته كما يعرض للكلام ~~أسباب تمنع من فهمه وصحته . # والأسباب المانعة من قراءة الخط وفهم ما تضمنه قد تكون من ثمانية أوجه : ~~أحدها : إسقاطه ألفاظ ms041 من أثناء الكلام يصير الباقي بها مبتورا لا يعرف ~~استخراجه ، ولا يفهم معناه . # وهذا يكون إما من سهو الكاتب أو من فساد نقله . # وهذا يسهل استنباطه على من كان مرتاضا بذلك النوع فيستدل بحواشي الكلام ~~وما سلم منه على ما سقط أو فسد ، لا سيما إذا قل ؛ لأن الكلمة تستدعي ما ~~يليها ومعرفة المعنى توضح عن الكلام المترجم عنه . # فأما من كان قليل الارتياض بذلك النوع فإنه يصعب عليه استنباط المعنى منه ~~، لا سيما إذا كان كثيرا ؛ لأنه يحتاج في فهم المعاني إلى الفكرة والروية ~~فيما قد استخرجه بالكتابة . # فإذا هو لم يعرف تمام الكلام المترجم عن المعنى قصر فهمه عن إدراكه وضل ~~فكره عن استنباطه . # والوجه الثاني : زيادة ألفاظ في أثناء الكلام يشكل بها معرفة الصحيح غير ~~الزائد من معرفة السقيم الزائد فيصير الكل مشكلا . # وهذا لا يكاد يوجد كثيرا إلا أن يقصد الكاتب تعمية كلامه فيدخل في أثنائه ~~ما يمنع من فهمه ، فيصير ذلك رمزا يعرف بالمواضعة . # فأما وقوعه سهوا فقد يكون بالكلمة والكلمتين وذلك لا يمنع من فهمه على ~~المرتاض وغيره . # والوجه الثالث : إسقاط حروف من أثناء الكلمة يمنع من استخراجها على الصحة ~~وقد يكون هذا تارة من السهو فيقل ، وتارة من ضعف الهجاء PageV01P068 فيكثر ~~. # والقول فيه كالقول في الوجه الأول . # والوجه الرابع : زيادة حروف في أثناء الكلمة يشكل بها معرفة الصحيح من ~~حروفها . # وهذا يكون تارة من سهو الكاتب فيقل فلا يمنع من استخراج الصحيح ، ويكون ~~تارة لتعمية ومواضعة يقصد بها الكاتب إخفاء غرضه فيكثر كالتراجم . # ويكون القول فيه كالقول في الوجه الثاني . # والوجه الخامس : وصل الحروف المفصولة وفصل الحروف الموصولة ، فيدعو ذلك ~~إلى الإشكال ؛ لأن الكلمة ينبه عليها وصل حروفها ويمنع فصلها من مشاركة ~~غيرها . # فإن كان ذلك من سهو قل فسهل استخراجه ، وإن كان ذلك من قلة معرفة بالخط ~~أو مشقا تشبق به اليد كثيرا فصعب استخراجه إلا على المرتاض به ، ولذلك قال ~~عمر بن الخطاب رضي الله عنه : شر الكتابة الشبق كما أن ms042 شر القراءة الهذرمة ~~. # وإن كان للتعمية والرمز لم يعرف إلا بالمواضعة . # والوجه السادس : تغيير الحروف عن أشكالها وإبدالها بأغيارها حتى يكتب ~~الحاء على شكل الباء ، والصاد على شكل الراء . # وهذا يكون في رموز التراجم ولا يوقف عليه إلا بالمواضعة إلا لمن قد زاد ~~فيه الذكاء فقدر على استخراج المعنى . # والوجه السابع : ضعف الخط عن تقويم الحروف على الأشكال الصحيحة وإثباتها ~~على الأوصاف الحقيقية حتى لا تكاد الحروف تمتاز عن أغيارها حتى تصير العين ~~الموصولة كالفاء والمفصولة كالحاء . # وهذا يكون من رداءة الخط وضعف اليد ، واستخراج ذلك ممكن بفضل المعاناة ~~وشدة التأمل ، وربما أضجر قارئه ، وأوهى معانيه ، ولذلك PageV01P069 قيل : ~~إن الخط الحسن ليزيد الحق وضوحا . # والوجه الثامن : إغفال النقط والأشكال التي تتميز بها الحروف المشتبهة . # وهذا أيسر أمرا ، وأخف حالا ؛ لأن من كان مميزا بصحة الاستخراج ومعرفة ~~الخط لم تخف عليه معرفة الخط وفهم ما تضمنه مع إغفال النقط والأشكال ، بل ~~استقبح الكتاب ذلك في المكاتبات ورأوه من تقصير الكاتب أو سوء ظنه بفهم ~~المكاتب ، وإن كان استقباحهم له في مكاتبة الرؤساء أكثر . # حكى قدامة بن جعفر أن بعض كتاب الدواوين حاسب عاملا فشكا العامل منه إلى ~~عبيد الله بن سليمان وكتب رقعة يذكر فيها احتجاجا لصحة دعواه ، ووضوح شكواه ~~. # فوقع فيها عبيد الله بن سليمان هذا ، هذا ، فأخذها العامل وقرأها فظن أن ~~عبيد الله أراد بهذا هذا إثباتا لصحة دعواه وصدق قوله ، كما يقال في إثبات ~~الشيء هو هو ، فحمل الرقعة إلى كاتب الديوان ، وأراه خط عبيد الله وقال له ~~: إن عبيد الله قد صدق قولي ، وصحح ما ذكرت . # فخفي على الكاتب ذلك ، وأطيف به على كتاب الدواوين فلم يقفوا على مراد ~~عبيد الله . # ورد إليه ليسأل عن مراده به فشدد عبيد الله الكلمة الثانية وكتب تحتها ~~والله المستعان استعظاما منه لتقصيرهم في استخراج مراده حتى احتاج إلى ~~إبانته بالشكل . # فهذه حال الكتاب في استقباحهم إعجام المكاتبات بالنقط والأشكال . # فأما غير المكاتبات من سائر العلوم فلم يروه قبيحا بل استحسنوه ms043 لا سيما ~~في كتب الأدب التي يقصد بها معرفة صيغة الألفاظ وكيفية مخارجها مثل كتب ~~PageV01P070 النحو واللغة والشعر الغريب فإن الحاجة إلى ضبطها بالشكل ~~والإعجام أكثر ، وهي فيما سواه من العلوم أيسر . # وقد قال النوري : الخطوط المعجمة كالبرود المعلمة . # وقال بعض البلغاء : إعجام الخط يمنع من استعجامه ، وشكله يؤمن من إشكاله ~~. # وقال بعض الأدباء : رب علم لم تعجم فصوله فاستعجم محصوله . # وكما استقبح الكتاب الشكل والإعجام في المكاتبات ، وإن كان في كتب العلوم ~~مستحسنا ، فكذلك استحسنوا مشق الخط في المكاتبات وإن كان في كتب العلوم ~~مستقبحا . # وسبب ذلك أنهم لفرط إدلالهم في الصنعة وتقدمهم في الكتابة يكتفون ~~بالإشارة ويقتصرون على التلويح ، ويرون الحاجة إلى استيفاء شروط الإبانة ~~تقصيرا ولفصل ما يعتقدونه من التقدم بهذا الحال رأوا ما نبه عليه من سواد ~~المداد أثرا جميلا ، وعلى الفضل والتخصيص دليلا . # حكي أن عبيد الله بن سليمان رأى على بعض ثيابه أثر صفرة فأخذ من مداد ~~الدواة فطلاه به ثم قال : المداد بنا أحسن من الزعفران ، وأنشد : إنما ~~الزعفران عطر العذارى ومداد الدوي عطر الرجال فهذه جملة كافية في الإبانة ~~على الأسباب المانعة من فهم الكلام ومعرفة معانيه لفظا كان أو خطا ، والله ~~ولي التوفيق . PageV01P071 فينبغي لطالب العلم أن يكشف عن الأسباب المانعة ~~عن فهم المعنى ليسهل عليه الوصول إليه ، ثم يكون من بعد ذلك سائسا لنفسه ~~مدبرا لها في حال تعلمه . # فإن للنفس نفورا يفضي إلى تقصير ووفورا يئول إلى سرف وقيادها عسر ولها ~~أحوال ثلاث : فحال عدل وإنصاف ، وحال غلو وإسراف ، وحال تقصير وإجحاف . # فأما حال العدل والإنصاف فهي أن تختلف قوى النفس من جهتين متقابلتين : ~~طاعة مسعدة وشفقة كافة . # فطاعتها تمنع التقصير ، وشفقتها ترد عن السرف والتبذير . # وهذه أحمد الأحوال ؛ لأن ما منع من التقصير نما ، وما صد عن السرف مستديم ~~. # والنمو إذا استدام فأخلق به أن يستكمل . # وقال بعض الحكماء : إياك ومفارقة الاعتدال ، فإن المسرف مثل المقصر في ~~الخروج عن الحد . # وأما حال الغلو والإسراف فهي أن تختص النفس ms044 بقوى الطاعة وتقدم قوى الشفقة ~~فيبعثها اختصاص الطاعة على إفراغ الجهد ، ويفضي إفراغ الجهد إلى عجز الكلال ~~، فيؤدي عجز الكلال إلى الترك والإهمال ، فتصير الزيادة نقصانا ، والربح ~~خسرانا . # وقد قالت الحكماء : طالب العلم وعامل البر كآكل الطعام إن أخذ منه قوتا ~~عصمه ، وإن أسرف فيه أبشمه . # وربما كان فيه منيته كأخذ الأدوية التي فيها شفاء ومجاوزة القصد فيها ~~السم المميت ، وأما حال التقصير والإجحاف فهي أن تختص النفس بقوى الشفقة ~~وتعدم قوى الطاعة فيدعوها الإشفاق إلى المعصية ، وتمنعها المعصية من ~~الإجابة فلا تطلب شاردا ، ولا تقبل عائدا ، ولا تحفظ مستودعا . # ومن لم يطلب PageV01P072 الشارد ، ويقبل العائد ، ويحفظ المستودع فقد ~~الموجود ، ولم يجد المفقود . # ومن فقد ما وجد فهو مصاب محزون ، ومن لم يجد ما فقد فهو خائب مغبون . # وقد قال بعض الحكماء : العجز مع الواني ، والفوت مع التواني . # وقد يكون للنفس مع الأحوال الثلاث حالتان مشتركتان بغلبة إحدى القوتين ، ~~فيكون للنفس طاعة وإشفاق ، وأحدهما أغلب من الآخر . # فإن كانت الطاعة أغلب كانت إلى الوفور أميل ، وإن كان الإشفاق أغلب كانت ~~إلى التقصير أقرب . # فإذا عرف من نفسه قدر طاعتها ، وخبر منها كنه إشفاقها راض نفسه لتثبت على ~~أحد حالاتها . # وقد أشار إلى ما وصفنا من حال النفس الفرزدق في قوله : لكل امرئ نفسان ~~نفس كريمة وأخرى يعاصيها الفتى ويطيعها ونفسك من نفسيك تشفع للندى إذا قل ~~من إحرازهن شفيعها وإن أهمل سياستها ، فأغفل رياضتها ، ورام أن يأخذها ~~بالعنف ، ويقهرها بالعسف ، استشاطت نافرة ولحت معاندة فلم تنقد إلى طاعة ~~ولم تنكف عن معصية وقال سابق البربري : إذا زجرت لجوجا زدته علقا ولجت ~~النفس منه في تماديها فعد عليه إذا ما نفسه جنحت باللين منك فإن اللين ~~يثنيها فإذا استصعب عليه قياد نفسه ودام منه نفور قلبه مع سياستها ، ~~ومعاناة رياضتها ، تركها ترك راحة ، ثم عاودها بعد الاستراحة ، فإن إجابتها ~~تسرع ، وطاعتها ترجع . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن القلب يموت ويحيى ~~ولو بعد حين } . # وقال ابن ms045 مسعود : للقلوب شهوة وإقبال وفترة وإدبار فأتوها من قبل شهوتها ~~ولا PageV01P073 تأتوها من قبل فترتها . # وقال الشاعر : وما سمي الإنسان إلا لأنسه ولا القلب إلا أنه يتقلب فأما ~~الشروط التي يتوفر بها علم الطالب وينتهي معها كمال الراغب مع ما يلاحظ به ~~من التوفيق ويمد به من المعونة فتسعة شروط : أحدها : العقل الذي يدرك به ~~حقائق الأمور . # والثاني : الفطنة التي يتصور بها غوامض العلوم . # والثالث : الذكاء الذي يستقر به حفظ ما تصوره وفهم ما علمه . # والرابع : الشهوة التي يدوم بها الطلب ولا يسرع إليه الملل . # والخامس : الاكتفاء بمادة تغنيه عن كلف الطلب . # والسادس : الفراغ الذي يكون معه التوفر ويحصل به الاستكثار . # والسابع : عدم القواطع المذهلة من هموم ، وأمراض . # والثامن : طول العمر واتساع المدة ؛ لينتهي بالاستكثار إلى مراتب الكمال ~~. # والتاسع : الظفر بعالم سمح بعلمه متأن في تعليمه . # فإذا استكمل هذه الشروط التسعة فهو أسعد طالب ، وأنجح متعلم . # وقد قال الإسكندر : يحتاج طالب العلم إلى أربع : مدة وجدة وقريحة وشهوة . # وتمامها في الخامسة معلم ناصح . PageV01P074 أدب المتعلم فصل : وسأذكر ~~طرفا مما يتأدب به المتعلم ويكون عليه العالم . # اعلم أن للمتعلم تملقا وتذللا فإن استعملهما غنم ، وإن تركهما حرم ؛ لأن ~~التملق للعالم يظهر مكنون عمله ، والتذلل له سبب لإدامة صبره . # وبإظهار مكنونه تكون الفائدة وباستدامة صبره يكون الإكثار . # وقد روى معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ليس من أخلاق ~~المؤمن الملق إلا في طلب العلم } . # وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : ذللت طالبا فعززت مطلوبا . # وقال بعض الحكماء : من لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا . # وقال بعض حكماء الفرس ؛ إذا قعدت ، وأنت صغير حيث تحب قعدت ، وأنت كبير ~~حيث لا تحب . # ثم ليعرف له فضل علمه وليشكر له جميل فعله فقد روت عائشة رضي الله عنها ~~عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من وقر عالما فقد وقر ربه } . # وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا يعرف فضل أهل العلم إلا ms046 أهل ~~الفضل . # وقال بعض الشعراء : إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يكرما ~~فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه واصبر لجهلك إن جفوت معلما ولا يمنعه من ذلك علو ~~منزلته إن كانت له ، وإن كان العالم خاملا ؛ فإن العلماء بعلمهم قد استحقوا ~~التعظيم لا بالقدرة والمال . # وأنشدني بعض أهل الأدب لأبي بكر بن دريد : لا تحقرن عالما وإن خلقت ~~أثوابه في عيون رامقه وانظر إليه بعين ذي أدب مهذب الرأي في طرائقه فالمسك ~~بينا تراه ممتهنا بفهر عطاره PageV01P075 وساحقه حتى تراه في عارضي ملك ~~وموضع التاج من مفارقه وليكن مقتديا بهم في أخلاقهم ، متشبها بهم في جميع ~~أفعالهم ؛ ليصير لها آلفا ، وعليها ناشئا ، ولما خالفها مجانبا . # فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { خيار شبانكم المتشبهون بشيوخكم ~~وشرار شيوخكم المتشبهون بشبانكم } . # وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من ~~تشبه بقوم فهو منهم } . # وأنشدني بعض أهل الأدب لأبي بكر بن دريد : العالم العاقل ابن نفسه أغناه ~~جنس علمه عن جنسه كن ابن من شئت وكن مؤدبا فإنما المرء بفضل كيسه وليس من ~~تكرمه لغيره مثل الذي تكرمه لنفسه وليحذر المتعلم البسط على من يعلمه وإن ~~آنسه ، والإدلال عليه وإن تقدمت صحبته . # قيل لبعض الحكماء : من أذل الناس ؟ فقال : عالم يجري عليه حكم جاهل . # { وكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم جارية من السبي فقال لها : من أنت ~~؟ فقالت : بنت الرجل الجواد حاتم . # فقال صلى الله عليه وسلم : ارحموا عزيز قوم ذل ، ارحموا غنيا افتقر ، ~~ارحموا عالما ضاع بين الجهال } . # ولا يظهر له الاستكفاء منه والاستغناء عنه ، فإن في ذلك كفرا لنعمته ، ~~واستخفافا بحقه . # وربما وجد بعض المتعلمين قوة في نفسه لجودة ذكائه وحدة خاطره ، فقصد من ~~يعلمه بالإعنات له والاعتراض عليه إزراء به وتبكيتا له ، فيكون كمن تقدم ~~فيه المثل السائر لأبي البطحاء : أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده ~~رماني وهذه من مصائب العلماء PageV01P076 وانعكاس حظوظهم أن يصيروا عند من ~~يعلموه مستجهلين ms047 ، وعند من قدموه مسترذلين . # وقال صالح بن عبد القدوس : وإن عناء أن تعلم جاهلا فيحسب أهلا أنه منك ~~أعلم متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم متى ينتهي عن ~~سيئ من أتى به إذا لم يكن منه عليه تندم وقد رجح كثير من الحكماء حق العالم ~~على حق الوالد حتى قال بعضهم : يا فاخرا للسفاه بالسلف وتاركا للعلاء ~~والشرف آباء أجسادنا هم سبب لأن جعلنا عرائض التلف من علم الناس كان خير أب ~~ذاك أبو الروح لا أبو النطف ولا ينبغي للمتعلم أن يبعثه معرفة الحق له على ~~قبول الشبهة منه ، ولا يدعوه ترك الإعنات له على التقليد فيما أخذ عنه ، ~~فإنه ربما غلا بعض الأتباع في عالمهم حتى يروا أن قوله دليل ، وإن لم يستدل ~~، وأن اعتقاده حجة ، وإن لم يحتج ، فيفضي بهم الأمر إلى التسليم له فيما ~~أخذ منه فلا يبعد أن تبطل تلك المقالة إن انفردت أو يخرج أهلها من عداد ~~العلماء فيما شاركت ؛ لأنه قد لا يرى لهم من يأخذ عنهم ما كانوا يرونه لمن ~~أخذوا عنه فيطالبهم بما قصروا فيه فيضعفوا عن إبانته ، ويعجزوا عن نصرته ، ~~فيذهبوا ضائعين ويصيروا عجزة مضعوفين . # ولقد رأيت من هذه الطبقة رجلا يناظر في مجلس حفل وقد استدل عليه الخصم ~~بدلالة صحيحة فكان جوابه عنها أن قال : إن هذه دلالة فاسدة ، وجه فسادها أن ~~شيخي لم يذكرها وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه . # فأمسك عنه المستدل تعجبا ؛ ولأن شيخه كان محتشما . # وقد PageV01P077 حضرت طائفة يرون فيه مثل ما رأى هذا الجاهل ، ثم أقبل ~~المستدل علي وقال لي : والله لقد أفحمني بجهله وصار سائر الناس المبرئين من ~~هذه الجهالة ما بين مستهزئ ومتعجب ، ومستعيذ بالله من جهل مغرب . # فهل رأيت كذلك عالما أوغل في الجهل ، وأدل على قلة العقل . # وإذا كان المتعلم معتدل الرأي فيمن يأخذ عنه ، متوسط الاعتقاد ممن يتعلم ~~منه ، حتى لا يحمله الإعنات على اعتراض المبكتين ، ولا يبعثه الغلو على ~~تسليم المقلدين ، برئ المتعلم ms048 من المذمتين ، وسلم العالم من الجهتين . # وليس كثرة السؤال فيما التبس إعناتا ، ولا قبول ما صح في النفس تقليدا . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { العلم خزائن ومفتاحه ~~السؤال فاسألوا - رحمكم الله - فإنما يؤجر في العلم ثلاثة : القائل ~~والمستمع والآخذ } . # وقال عليه الصلاة والسلام : { هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي ~~السؤال } . # فأمر بالسؤال وحث عليه ، ونهى آخرين عن السؤال وزجر عنه ، فقال صلى الله ~~عليه وسلم : { أنهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال } . # وقال عليه الصلاة والسلام : { إياكم وكثرة السؤال فإنما هلك من قبلكم ~~بكثرة السؤال } . # وليس هذا مخالفا للأول وإنما أمر بالسؤال من قصد به علم ما جهل ، ونهى ~~عنه من قصد به إعنات ما سمع ، وإذا كان السؤال في موضعه أزال الشكوك ونفى ~~الشبهة . # وقد قيل لابن عباس رضي الله عنهما : بم نلت هذا العلم ؟ قال : بلسان سئول ~~وقلب عقول . # وروى نافع عن ابن PageV01P078 عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه ~~وسلم قال : { حسن السؤال نصف العلم } . # وأنشد المبرد عن أبي سليمان الغنوي : فسل الفقيه تكن فقيها مثله لا خير ~~في علم بغير تدبر وإذا تعسرت الأمور فأرجها وعليك بالأمر الذي لم يعسر ~~وليأخذ المتعلم حظه ممن وجد طلبته عنده من نبيه وخامل ، ولا يطلب الصيت ~~وحسن الذكر باتباع أهل المنازل من العلماء إذا كان النفع بغيرهم أعم ، إلا ~~أن يستوي النفعان فيكون الأخذ عمن اشتهر ذكره وارتفع قدره أولى ؛ لأن ~~الانتساب إليه أجمل والأخذ عنه أشهر . # وقد قال الشاعر : إذا أنت لم يشهرك علمك لم تجد لعلمك مخلوقا من الناس ~~يقبله وإن صانك العلم الذي قد حملته أتاك له من يجتنيه ويحمله وإذا قرب منك ~~العلم فلا تطلب ما بعد ، وإذا سهل من وجه فلا تطلب ما صعب . # وإذا حمدت من خبرته فلا تطلب من لم تختبره ، فإن العدول عن القريب إلى ~~البعيد عناء ، وترك الأسهل بالأصعب بلاء ، والانتقال من المخبور إلى غيره ~~خطر . # وقد قال علي بن ms049 أبي طالب رضي الله عنه : عقبى الأخرق مضرة ، والمتعسف لا ~~تدوم له مسرة . # وقال بعض الحكماء : القصد أسهل من التعسف ، والكف أودع من التكلف . # وربما تتبع نفس الإنسان من بعد عنه استهانة بمن قرب منه ، وطلب ما صعب ~~احتقارا لما سهل عليه ، وانتقل إلى من لم يخبره مللا لمن خبره ، فلا يدرك ~~محبوبا ولا يظفر بطائل . # وقد قالت العرب في أمثالها : العالم كالكعبة يأتيها البعداء ، ويزهد فيها ~~القرباء . PageV01P079 وأنشدني بعض شيوخنا لمسيح بن حاتم : لا ترى عالما ~~يحل بقوم فيحلوه غير دار الهوان قل ما توجد السلامة والصحة مجموعتين في ~~إنسان فإذا حلتا مكانا سحيقا فهما في النفوس معشوقتان هذه مكة المنيعة بيت ~~الله يسعى لحجها الثقلان ويرى أزهد البرية في الحج لها أهلها لقرب المكان ~~PageV01P080 فصل : فأما ما يجب أن يكون عليه العلماء من الأخلاق التي بهم ~~أليق ، ولهم ألزم ، فالتواضع ومجانبة العجب ؛ لأن التواضع عطوف والعجب منفر ~~. # وهو بكل أحد قبيح وبالعلماء أقبح ؛ لأن الناس بهم يقتدون وكثيرا ما ~~يداخلهم الإعجاب لتوحدهم بفضيلة العلم . # ولو أنهم نظروا حق النظر وعملوا بموجب العلم لكان التواضع بهم أولى ، ~~ومجانبة العجب بهم أحرى ؛ لأن العجب نقص ينافي الفضل لا سيما مع قول النبي ~~صلى الله عليه وسلم : { إن العجب ليأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب } . # فلا يفي ما أدركوه من فضيلة العلم بما لحقهم من نقص العجب . # وقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله ~~عليه وسلم : { قليل العلم خير من كثير العبادة . # وكفى بالمرء علما إذا عبد الله عز وجل ، وكفى بالمرء جهلا إذا أعجب برأيه ~~} . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة ~~والحلم وتواضعوا لمن تعلمون وليتواضع لكم من تعلمونه ، ولا تكونوا من ~~جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم . # وقال بعض السلف : من تكبر بعلمه وترفع وضعه الله به ، ومن تواضع بعلمه ~~رفعه به . # وعلة إعجابهم انصراف نظرهم إلى كثرة من دونهم من الجهال ، وانصراف نظرهم ~~عمن ms050 فوقهم من العلماء فإنه ليس متناه في العلم إلا وسيجد من هو أعلم منه إذ ~~العلم أكثر من أن يحيط به بشر . # قال الله تعالى : { نرفع درجات من نشاء } . # يعني في العلم : { وفوق كل ذي علم عليم } قال PageV01P081 أهل التأويل : ~~فوق كل ذي علم من هو أعلم منه حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى وقيل لبعض ~~الحكماء : من يعرف كل العلم ؟ قال : كل الناس . # وقال الشعبي : ما رأيت مثلي وما أشاء أن ألقى رجلا أعلم مني إلا لقيته . # لم يذكر الشعبي هذا القول تفضيلا لنفسه فيستقبح منه ، وإنما ذكره تعظيما ~~للعلم عن أن يحاط به . # فينبغي لمن علم أن ينظر إلى نفسه بتقصير ما قصر فيه ليسلم من عجب ما أدرك ~~منه . # وقد قيل في منثور الحكم : إذا علمت فلا تفكر في كثرة من دونك من الجهال ، ~~ولكن انظر إلى من فوقك من العلماء ، وأنشدت لابن العميد : من شاء عيشا ~~هنيئا يستفيد به في دينه ثم في دنياه إقبالا فلينظرن إلى من فوقه أدبا ~~ولينظرن إلى من دونه مالا وقلما تجد بالعلم معجبا وبما أدرك مفتخرا ، إلا ~~من كان فيه مقلا ومقصرا ؛ لأنه قد يجهل قدره ، ويحسب أنه نال بالدخول فيه ~~أكثره . # فأما من كان فيه متوجها ومنه مستكثرا فهو يعلم من بعد غايته ، والعجز عن ~~إدراك نهايته ، ما يصده عن العجب به . # وقد قال الشعبي : العلم ثلاثة أشبار فمن نال منه شبرا شمخ بأنفه وظن أنه ~~ناله . # ومن نال الشبر الثاني صغرت إليه نفسه وعلم أنه لم ينله ، وأما الشبر ~~الثالث فهيهات لا يناله أحد أبدا . # ومما أنذرك به من حالي أنني صنفت في البيوع كتابا جمعت فيه ما استطعت من ~~كتب الناس ، وأجهدت فيه نفسي وكددت فيه خاطري ، حتى إذا تهذب واستكمل وكدت ~~أعجب به وتصورت أنني أشد الناس اضطلاعا بعلمه ، حضرني ، وأنا في ~~PageV01P082 مجلسي أعرابيان فسألاني عن بيع عقداه في البادية على شروط ~~تضمنت أربع مسائل لم أعرف لواحدة منهن جوابا ، فأطرقت مفكرا ، وبحالي ~~وحالهما معتبرا فقالا ms051 : ما عندك فيما سألناك جواب ، وأنت زعيم هذه الجماعة ~~؟ فقلت : لا . # فقالا : واها لك ، وانصرفا . # ثم أتيا من يتقدمه في العلم كثير من أصحابي فسألاه فأجابهما مسرعا بما ~~أقنعهما وانصرفا عنه راضيين بجوابه حامدين لعلمه ، فبقيت مرتبكا ، وبحالهما ~~وحالي معتبرا وإني لعلى ما كنت عليه من المسائل إلى وقتي ، فكان ذلك زاجر ~~نصيحة ونذير عظة تذلل بها قياد النفس ، وانخفض لها جناح العجب ، توفيقا ~~منحته ورشدا أوتيته . # وحق على من ترك العجب بما يحسن أن يدع التكلف لما لا يحسن . # فقديما نهى الناس عنهما ، واستعاذوا بالله منهما . # ومن أوضح ذلك بيانا استعاذة الجاحظ في كتاب البيان حيث يقول : اللهم إنا ~~نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل ، ونعوذ بك من التكلف لما ~~لا نحسن ، كما نعوذ بك من العجب بما نحسن ، ونعوذ بك من شر السلاطة والهذر ~~، كما نعوذ بك من شر العي والحصر . # ونحن نستعيذ بالله تعالى مثل ما استعاذ فليس لمن تكلف ما لا يحسن غاية ~~ينتهي إليها ولا حد يقف عنده . # ومن كان تكلفه غير محدود فأخلق به أن يضل ويضل . PageV01P083 وقال بعض ~~الحكماء : من العلم أن لا تتكلم فيما لا تعلم بكلام من يعلم فحسبك جهلا من ~~عقلك أن تنطق بما لا تفهم . # ولقد أحسن زرارة بن زيد حيث يقول : إذا ما انتهى علمي تناهيت عنده أطال ~~فأملى أو تناهى فأقصرا ويخبرني عن غائب المرء فعله كفى الفعل عما غيب المرء ~~مخبرا فإذا لم يكن إلى الإحاطة بالعلم سبيل فلا عار أن يجهل بعضه ، وإذا لم ~~يكن في جهل بعضه عار لم يقبح به أن يقول لا أعلم فيما ليس يعلم . # وروي { أن رجلا قال : يا رسول الله أي البقاع خير ، وأي البقاع شر ؟ فقال ~~: لا أدري حتى أسأل جبريل } . # وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : وما أبردها على القلب إذا سئل أحدكم ~~فيما لا يعلم أن يقول الله أعلم ، وإن العالم من عرف أن ما يعلم فيما لا ~~يعلم ms052 قليل . # وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : إذا ترك العالم قول لا أدري ~~أصيبت مقاتله . # وقال بعض العلماء : هلك من ترك لا أدري . # وقال بعض الحكماء : ليس لي من فضيلة العلم إلا علمي بأني لست أعلم . # وقال بعض البلغاء : من قال لا أدري علم فدرى ، ومن انتحل مما لا يدري ~~أهمل فهوى ، ولا ينبغي للرجل وإن صار في طبقة العلماء الأفاضل أن يستنكف من ~~تعلم ما ليس عنده ليسلم من التكلف . # وقد قال عيسى ابن مريم - على نبينا وعليه السلام - : يا صاحب العلم تعلم ~~من العلم ما جهلت وعلم الجهال ما علمت . # وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : خمس خذوهن عني فلو ركبتم الفلك ما ~~وجدتموهن إلا عندي : ألا لا يرجون أحد إلا ربه ، ولا PageV01P084 يخافن إلا ~~ذنبه ، ولا يستنكف العالم أن يتعلم لما ليس عنده وإذا سئل أحدكم عما لا ~~يعلم فليقل لا أعلم ، ومنزلة الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد . # وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : لو كان أحدكم يكتفي من العلم ~~لاكتفى منه موسى - على نبينا وعليه السلام - لما قال : { هل أتبعك على أن ~~تعلمن مما علمت رشدا } وقيل للخليل بن أحمد : بم أدركت هذا العلم ؟ قال : ~~كنت إذا لقيت عالما أخذت منه ، وأعطيته . # وقال بزرجمهر : من العلم أن لا تحتقر شيئا من العلم ، ومن العلم تفضيل ~~جميع العلم وقال المنصور لشريك : أنى لك هذا العلم ؟ قال : لم أرغب عن قليل ~~أستفيده ، ولم أبخل بكثير أفيده . # على أن العلم يقتضي ما بقي منه ويستدعي ما تأخر عنه ، وليس للراغب فيه ~~قناعة ببعضه . # وروى عون بن عبد الله عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : منهومان لا ~~يشبعان : طالب علم وطالب دنيا . # أما طالب العلم فإنه يزداد للرحمن رضى ، ثم قرأ { إنما يخشى الله من ~~عباده العلماء } . # وأما طالب الدنيا فإنه يزداد طغيانا ثم قرأ : { كلا إن الإنسان ليطغى أن ~~رآه استغنى } PageV01P085 وليكن مستقلا للفضيلة منه ليزداد منها ، ومستكثرا ~~للنقيصة ms053 فيه لينتهي عنها ، ولا يقنع من العلم بما أدرك ؛ لأن القناعة فيه ~~زهد ، وللزهد فيه ترك ، والترك له جهل . # وقد قال بعض الحكماء : عليك بالعلم والإكثار منه فإن قليله أشبه شيء ~~بقليل الخير ، وكثيره أشبه شيء بكثيره ، ولن يعيب الخير إلا القلة ، فأما ~~كثرته فإنها أمنية . # وقال بعض البلغاء : من فضل علمك استقلالك لعلمك ، ومن كمال عقلك استظهارك ~~على عقلك . # ولا ينبغي أن يجهل من نفسه مبلغ علمها ، ولا يتجاوز بها قدر حقها . # ولأن يكون بها مقصرا فيذعن بالانقياد ، أولى من أن يكون بها مجاوزا ، ~~فيكف عن الازدياد ؛ لأن من جهل حال نفسه كان لغيرها أجهل . # وقد قالت عائشة رضي الله عنها : { يا رسول الله ، متى يعرف الإنسان ربه ؟ ~~قال : إذا عرف نفسه } . # وقد قسم الخليل بن أحمد أحوال الناس فيما علموه أو جهلوه أربعة أقسام ~~متقابلة لا يخلو الإنسان منها فقال : الرجال أربعة : رجل يدري ويدري أنه ~~يدري فذلك عالم فاسألوه ، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك ناس فذكروه ، ~~ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه ، ورجل لا يدري ولا ~~يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه . # وأنشد أبو القاسم الآمدي : إذا كنت لا تدري ولم تكن بالذي يسائل من يدري ~~فكيف إذا تدري جهلت ولم تعلم بأنك جاهل فمن لي بأن تدري بأنك لا تدري إذا ~~كنت من كل الأمور معميا فكن هكذا أرضا يطأك الذي يدري ومن أعجب الأشياء أنك ~~لا تدري PageV01P086 وأنك لا تدري بأنك لا تدري PageV01P087 وليكن من شيمته ~~العمل بعلمه ، وحث النفس على أن تأتمر بما يأمر به ، ولا يكن ممن قال الله ~~تعالى فيهم { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل ~~أسفارا } . # فقد قال قتادة في قوله تعالى : { وإنه لذو علم لما علمناه } : يعني أنه ~~عامل بما علم . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ويل لجماع القول ويل ~~للمصرين } . # يريد الذين يستمعون القول ولا يعملون به . # وروى عبد الله بن وهب عن سفيان ms054 أن الخضر - على نبينا وعليه السلام - قال ~~لموسى عليه السلام : يا ابن عمران تعلم العلم لتعمل به ، ولا تتعلمه لتحدث ~~به فيكون عليك بوره ، ولغيرك نوره . # وقال علي بن أبي طالب : إنما زهد الناس في طلب العلم لما يرون من قلة ~~انتفاع من علم بما علم . # وقال أبو الدرداء : أخوف ما أخاف إذا وقفت بين يدي الله أن يقول : قد ~~علمت فماذا عملت إذ علمت ؟ وكان يقال : خير من القول فاعله ، وخير من ~~الصواب قائله ، وخير من العلم حامله . # وقيل في منثور الحكم : لم ينتفع بعلمه من ترك العمل به . # وقال بعض العلماء : ثمرة العلم أن يعمل به ، وثمرة العمل أن يؤجر عليه . # وقال بعض الصلحاء : العلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه أقام وإلا ارتحل . # وقال بعض العلماء : خير العلم ما نفع ، وخير القول ما ردع . # وقال بعض الأدباء : ثمرة العلوم العمل بالعلوم . # وقال بعض البلغاء : من تمام العلم استعماله ، ومن تمام العمل استقلاله . # فمن استعمل علمه لم يخل من رشاد ، ومن استقل عمله لم يقصر PageV01P088 عن ~~مراد . # وقال حاتم الطائي : ولم يحمدوا من عالم غير عامل خلافا ولا من عامل غير ~~عالم رأوا طرقات المجد عوجا قطيعة وأفظع عجز عندهم عجز حازم لأنه لما كان ~~علمه حجة على من أخذ عنه واقتبسه منه حتى يلزمه العمل به والمصير إليه كان ~~عليه أحج وله ألزم ؛ لأن مرتبة العلم قبل مرتبة القول ، كما أن مرتبة العلم ~~قبل مرتبة العمل . # وقد قال أبو العتاهية رحمه الله : اسمع إلى الأحكام تحملها الرواة إليك ~~عنكا واعلم هديت بأنها حجج تكون عليك منكا ثم ليتجنب أن يقول ما لا يفعل ، ~~وأن يأمر بما لا يأتمر به ، وأن يسر غير ما يظهر ، ولا يجعل قول الشاعر هذا ~~: اعمل بقولي وإن قصرت في عملي ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري عذرا له في ~~تقصير يضمره وإن لم يضر غيره . # فإن إعذار النفس يغريها ويحسن لها مساوئها . # فإن من قال ما لا يفعل فقد مكر ، ومن أمر بما لا يأتمر ms055 فقد خدع ، ومن أسر ~~غير ما يظهر فقد نافق . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { المكر والخديعة ~~وصاحباهما في النار } . # على أن أمره بما لا يأتمر مطرح ، وإنكاره ما لا ينكره من نفسه مستقبح . # بل ربما كان ذلك سببا لإغراء المأمور بترك ما أمر به عنادا ، وارتكاب ما ~~نهى عنه كيادا . # وحكي أن أعرابيا أتى ابن أبي ذئب فسأله عن مسألة طلاق فأفتاه بطلاق ~~امرأته ، فقال : انظر حسنا . # قال : نظرت وقد بانت فولى الأعرابي وهو يقول : أتيت ابن ذئب أبتغي الفقه ~~عنده فطلق حتى البت تبت أنامله أطلق في PageV01P089 فتوى ابن ذئب حليلتي ~~وعند ابن ذئب أهله وحلائله فظن بجهله أنه لا يلزمه الطلاق بقول من لم يلتزم ~~الطلاق . # فما ظنك بقول يجب فيه اشتراك الآمر والمأمور كيف يكون مقبولا منه وهو غير ~~عامل به ولا قابل له كلا . # وقال أحمد بن يوسف : وعامل بالفجور يأمر بالبر كهاد يخوض في الظلم أو ~~كطبيب قد شفه سقم وهو يداوي من ذلك السقم يا واعظ الناس غير متعظ ثوبك طهر ~~أولا فلا تلم وقال آخر : عود لسانك قلة اللفظ واحفظ كلامك أيما حفظ إياك أن ~~تعظ الرجال وقد أصبحت محتاجا إلى الوعظ وأما الانقطاع عن العلم إلى العمل ، ~~والانقطاع عن العمل إلى العلم إذا عمل بموجب العلم ، فقد حكي عن الزهري فيه ~~ما يغني عن تكلف غيره ، وهو أنه قال : العلم أفضل من العمل لمن جهل ، ~~والعمل أفضل من العلم لمن علم . # وأما فضل ما بين العلم والعبادة إذا لم يخل بواجب ولم يقصر في فرض ، فقد ~~روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يبعث العالم والعابد فيقال ~~للعابد : ادخل الجنة ، ويقال للعالم : اتئد حتى تشفع للناس . PageV01P090 ~~ومن آداب العلماء أن لا يبخلوا بتعليم ما يحسنون ولا يمتنعوا من إفادة ما ~~يعلمون . # فإن البخل به لوم وظلم ، والمنع منه حسد وإثم . # وكيف يسوغ لهم البخل بما منحوه جودا من غير بخل ، وأوتوه عفوا من غير بذل ms056 ~~. # أم كيف يجوز لهم الشح بما إن بذلوه زاد ونما ، وإن كتموه تناقص ووهي . # ولو استن بذلك من تقدمهم لما وصل العلم إليهم ولانقرض عنهم بانقراضهم ، ~~ولصاروا على مرور الأيام جهالا ، وبتقلب الأحوال وتناقصها أرذالا . # وقد قال الله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه ~~للناس ولا تكتمونه } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تمنعوا العلم أهله فإن ~~في ذلك فساد دينكم والتباس بصائركم ، ثم قرأ : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا ~~من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ~~ويلعنهم اللاعنون } } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من كتم علما يحسنه ألجمه ~~الله يوم القيامة بلجام من نار } . # وروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال : ما أخذ الله العهد على ~~أهل الجهل أن يتعلموا ، حتى أخذ على أهل العلم العهد أن يعلموا . # وقال بعض الحكماء : إذا كان من قواعد الحكمة بذل ما ينقصه البذل فأحرى أن ~~يكون من قواعدها بذل ما يزيده البذل . # وقال بعض العلماء : كما أن الاستفادة نافلة للمتعلم ، كذلك الإفادة فريضة ~~على المعلم . # وقد قيل في منثور الحكم : من كتم علما فكأنه جاهل . # وقال خالد بن PageV01P091 صفوان : إني لأفرح بإفادتي المتعلم أكثر من ~~فرحي باستفادتي من المعلم . # ثم له بالتعليم نفعان : أحدهما ما يرجوه من ثواب الله تعالى . # فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم التعليم صدقة فقال : { تصدقوا على ~~أخيكم بعلم يرشده ، ورأي يسدده } . # وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { تعلموا وعلموا ~~فإن أجر العالم والمتعلم سواء } . # قيل : وما أجرهما ؟ قال : مائة مغفرة ومائة درجة في الجنة . # والنفع الثاني : زيادة العلم وإتقان الحفظ . # فقد قال الخليل بن أحمد : اجعل تعليمك دراسة لعلمك ، واجعل مناظرة ~~المتعلم تنبيها على ما ليس عندك . # وقال ابن المعتز في منثور الحكم : النار لا ينقصها ما أخذ منها ، ولكن ~~يخمدها أن لا تجد حطبا . # كذلك العلم لا يفنيه الاقتباس ms057 ، ولكن فقد الحاملين له سبب عدمه . # فإياك والبخل بما تعلم . # وقال بعض العلماء : علم علمك وتعلم علم غيرك . PageV01P092 فإذا علمت ما ~~جهلت ، وحفظت ما علمت ، فاعلم أن المتعلمين ضربان : مستدعى وطالب . # فأما المستدعى إلى العلم فهو من استدعاه العالم إلى التعليم لما ظهر له ~~من جودة ذكائه ، وبان له من قوة خاطره . # فإذا وافق استدعاء العالم شهوة المتعلم كانت نتيجتها درك النجباء ، وظفر ~~السعداء ؛ لأن العالم باستدعائه متوفر ، والمتعلم بشهوته مستكثر . # وأما طالب العلم لداع يدعوه ، وباعث يحدوه ، فإن كان الداعي دينيا ، وكان ~~المتعلم فطنا ذكيا ، وجب على العالم أن يكون عليه مقبلا وعلى تعليمه متوفرا ~~لا يخفي عليه مكنونا ، ولا يطوي عنه مخزونا . # وإن كان بليدا بعيد الفطنة فينبغي أن لا يمنع من اليسير فيحرم ، ولا يحمل ~~عليه بالكثير فيظلم . # ولا يجعل بلادته ذريعة لحرمانه فإن الشهوة باعثة والصبر مؤثر . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تمنعوا العلم أهله ~~فتظلموا ، ولا تضعوه في غير أهله فتأثموا } . # وقال بعض الحكماء : لا تمنعوا العلم أحدا فإن العلم أمنع لجانبه . # فأما إن لم يكن الداعي دينيا نظر فيه فإن كان مباحا ، كرجل دعاه إلى طلب ~~العلم حب النباهة وطلب الرئاسة فالقول فيه يقارب القول الأول في تعليم من ~~قبل ؛ لأن العلم يعطفه إلى الدين في ثاني حال ، وإن لم يكن مبتدئا به في ~~أول حال . # وقد حكي عن سفيان الثوري أنه قال : تعلمنا العلم لغير الله تعالى فأبى أن ~~يكون إلا لله . # وقال عبد الله بن المبارك : طلبنا العلم للدنيا فدلنا على ترك الدنيا . # وإن كان PageV01P093 الداعي محظورا ، كرجل دعاه إلى طلب العلم شر كامن ، ~~ومكر باطن يريد أن يستعملهما في شبه دينية ، وحيل فقهية ، لا تجد أهل ~~السلامة منها مخلصا ، ولا عنها مدافعا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ~~{ أهلك أمتي رجلان : عالم فاجر وجاهل متعبد . # وقيل : يا رسول الله أي الناس أشر ؟ قال : العلماء إذا فسدوا } . # فينبغي للعالم إذا رأى من هذه حاله أن ms058 يمنعه عن طلبته ، ويصرفه عن بغيته ~~. # فلا يعينه على إمضاء مكره ، وإعمال شره . # فقد روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { واضع العلم ~~في غير أهله كمقلد الخنازير اللؤلؤ والجوهر والذهب } . # وقال عيسى ابن مريم - على نبينا وعليه السلام - : لا تلقوا الجوهر ~~للخنزير فالعلم أفضل من اللؤلؤ ، ومن لا يستحقه شر من الخنزير . # وحكي أن تلميذا سأل عالما عن بعض العلوم فلم يفده ، فقيل له : لم منعته ؟ ~~فقال : لكل تربة غرس ، ولكل بناء أس . # وقال بعض البلغاء : لكل ثوب لابس ، ولكل علم قابس . # وقال بعض الأدباء : إرث لروضة توسطها خنزير ، وابك لعلم حواه شرير . # وينبغي أن يكون للعالم فراسة يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته ، وقدر ~~استحقاقه ليعطيه ما يتحمله بذكائه ، أو يضعف عنه ببلادته فإنه أروح للعالم ~~، وأنجح للمتعلم ، وقد روى ثابت عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى ~~الله عليه وسلم : { إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم } . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إذا أنا لم أعلم ما لم أر فلا ~~PageV01P094 علمت ما رأيت . # وقال عبد الله بن الزبير : لا عاش بخير من لم ير برأيه ما لم ير بعينيه . # وقال ابن الرومي : ألمعي يرى بأول رأي آخر الأمر من وراء المغيب لوذعي له ~~فؤاد ذكي ما له في ذكائه من ضريب لا يروي ولا يقلب طرفا وأكف الرجال في ~~تقليب وإذ كان العالم في توسم المتعلمين بهذه الصفة ، وكان بقدر استحقاقهم ~~خبيرا ، لم يضع له عناء ولم يخب على يديه صاحب . # وإن لم يتوسمهم وخفيت عليه أحوالهم ومبلغ استحقاقهم كانوا وإياه في عناء ~~مكد وتعب غير مجد ؛ لأنه لا يعدم أن يكون فيهم ذكي محتاج إلى الزيادة ، ~~وبليد يكتفي بالقليل فيضجر الذكي منه ويعجز البليد عنه ومن يردد أصحابه بين ~~عجز وضجر ملوه وملهم . # وقد حكى عبد الله بن وهب أن سفيان بن عبد الله قال : قال الخضر لموسى ~~عليهما السلام : يا طالب العلم إن القائل أقل ملالة من ms059 المستمع فلا تمل ~~جلساءك إذا حدثتهم يا موسى ، واعلم أن قلبك وعاء فانظر ما تحشو في وعائك . # وقال بعض الحكماء : خير العلماء من لا يقل ولا يمل . # وقال بعض العلماء : كل علم كثر على المستمع ولم يطاوعه الفهم ازداد القلب ~~به عمى . # وإنما ينفع سمع الآذان ، إذا قوي فهم القلوب في الأبدان . PageV01P095 ~~وربما كان لبعض السلاطين رغبة في العلم لفضيلة نفسه ، وكرم طبعه فلا يجعل ~~ذلك ذريعة في الانبساط عنده ، والإدلال عليه ، بل يعطى ما يستحقه بسلطانه ~~وعلو يده . # فإن للسلطان حق الطاعة والإعظام ، وللعالم حق القبول والإكرام . # ثم لا ينبغي أن يبتدئه إلا بعد الاستدعاء ، ولا يزيده على قدر الاكتفاء ، ~~فربما أحب بعض العلماء إظهار علمه للسلطان فأكثره فصار ذلك ذريعة إلى ملل ~~ومفضيا إلى بعده ، فإن السلطان متقسم الأفكار مستوعب الزمان ، فليس له في ~~العلم فراغ المنقطعين إليه ولا صبر المنفردين به . # وقد حكى الأصمعي رحمه الله قال : قال لي الرشيد : يا عبد الملك أنت أعلم ~~منا ونحن أعقل منك لا تعلمنا في ملاء ، ولا تسرع إلى تذكيرنا في خلاء ، ~~واتركنا حتى نبتدئك بالسؤال فإذا بلغت من الجواب حد الاستحقاق فلا تزد إلا ~~أن يستدعى ذلك منك ، وانظر إلى ما هو ألطف في التأديب ، وأنصف في التعليم ، ~~وبلغ بأوجز لفظ غاية التقويم . # وليخرج تعليمه مخرج المذاكرة والمحاضرة لا مخرج التعليم والإفادة ؛ لأن ~~لتأخير التعلم خجلة تقصير يجل السلطان عنها ، فإن ظهر منه خطأ أو زلل في ~~قول أو عمل لم يجاهره بالرد وعرض باستدراك زلله ، وإصلاح خلله . # وحكي أن عبد الملك بن مروان قال للشعبي : كم عطاؤك ؟ قال : ألفين . # قال : لحنت . # قال لما ترك أمير المؤمنين الإعراب كرهت أن أعرب كلامي عليه . # ثم ليحذر اتباعه فيما يجانب الدين ويضاد الحق موافقة لرأيه ومتابعة لهواه ~~، فربما PageV01P096 زلت أقدام العلماء في ذلك رغبة أو رهبة فضلوا ، وأضلوا ~~مع سوء العاقبة وقبح الآثار . # وقد روى الحسن البصري رحمه الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ~~: { لا تزال هذه الأمة ms060 تحت يد الله وفي كنفه ما لم يمار قراؤها أمراءها ، ~~ولم يزك صلحاؤها فجارها ، ولم يمار أخيارها أشرارها . # فإذا فعلوا ذلك رفع عنهم يده ثم سلط عليهم جبابرتهم فساموهم سوء العذاب ، ~~وضربهم بالفاقة والفقر وملأ قلوبهم رعبا } . PageV01P097 ومن آدابهم : ~~نزاهة النفس عن شبه المكاسب ، والقناعة بالميسور عن كد المطالب . # فإن شبهة المكسب إثم وكد الطلب ذل ، والأجر أجدر به من الإثم والعز أليق ~~به من الذل . # وأنشدني بعض أهل الأدب لعلي بن عبد العزيز القاضي رحمه الله تعالى : ~~يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما أرى الناس من ~~داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما ولم أقض حق العلم إن كان كلما ~~بدا طمع صيرته لي سلما وما كل برق لاح لي يستفزني ولا كل من لاقيت أرضاه ~~منعما إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظما انهها عن بعض ~~ما لا يشينها مخافة أقوال العدا فيم أو لما ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ~~لأخدم من لاقيت لكن لأخدما أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة إذا فاتباع الجهل قد ~~كان أحزما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن ~~أهانوه فهان ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما على أن العلم عوض من كل لذة ، ~~ومغن عن كل شهوة . # ومن كان صادق النية فيه لم يكن له همة فيما يجد بدا منه . # وقال بعض البلغاء : من تفرد بالعلم لم توحشه خلوة ، ومن تسلى بالكتب لم ~~تفته سلوة . # ومن آنسه قراءة القرآن ، لم توحشه مفارقة الإخوان . # وقال بعض العلماء : لا سمير كالعلم ، ولا ظهير كالحلم . PageV01P098 ومن ~~آدابهم : أن يقصدوا وجه الله بتعليم من علموا ويطلبوا ثوابه بإرشاد من ~~أرشدوا ، من غير أن يعتاضوا عليه عوضا ، ولا يلتمسوا عليه رزقا . # قال الله تعالى : { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } قال أبو العالية : لا ~~تأخذوا عليه أجرا وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول يا ابن آدم علم مجانا ~~كما علمت مجانا . # وروي عن ms061 النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أجر المعلم كأجر الصائم ~~القائم } . # وحسب من هذا أجره أن يلتمس عليه أجرا . PageV01P099 ومن آدابهم : نصح من ~~علموه والرفق بهم ، وتسهيل السبيل عليهم وبذل المجهود في رفدهم ، ومعونتهم ~~، فإن ذلك أعظم لأجرهم ، وأسنى لذكرهم ، وأنشر لعلومهم ، وأرسخ لمعلومهم . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه قال لعلي - كرم الله وجهه - : ~~يا علي لأن يهدي الله بك رجلا خير مما طلعت عليه الشمس } . PageV01P100 ومن ~~آدابهم : أن لا يعنفوا متعلما ، ولا يحقروا ناشئا ، ولا يستصغروا مبتدئا ~~فإن ذلك أدعى إليهم ، وأعطف عليهم ، وأحث على الرغبة فيما لديهم . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { علموا ولا تعنفوا فإن ~~المعلم خير من المعنف } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { وقروا من تتعلمون منه ، ~~ووقروا من تعلمونه } . # ومن آدابهم : أن لا يمنعوا طالبا ولا يؤيسوا متعلما لما في ذلك من قطع ~~الرغبة فيهم والزهد فيما لديهم ، واستمرار ذلك مفض إلى انقراض العلم ~~بانقراضهم . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ألا أنبئكم بالفقيه كل ~~الفقيه . # قالوا : بلى يا رسول الله . # قال : من لم يقنط الناس من رحمة الله تعالى ، ولا يؤيسهم من روح الله ، ~~ولا يدع القرآن رغبة إلى ما سواه . # ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه ، ولا علم ليس فيه تفهم ، ولا قراءة ~~ليس فيها تدبر } . # فهذه جملة كافية ، والله ولي التوفيق . PageV01P101 الباب الثالث أدب ~~الدين اعلم أن الله سبحانه وتعالى إنما كلف الخلق متعبداته ، وألزمهم ~~مفترضاته ، وبعث إليهم رسله وشرع لهم دينه لغير حاجة دعته إلى تكليفهم ، ~~ولا من ضرورة قادته إلى تعبدهم ، وإنما قصد نفعهم تفضلا منه عليهم كما تفضل ~~بما لا يحصى عدا من نعمه . # بل النعمة فيما تعبدهم به أعظم ؛ لأن نفع ما سوى المتعبدات مختص بالدنيا ~~العاجلة ، ونفع المتعبدات يشتمل على نفع الدنيا والآخرة ، وما جمع نفع ~~الدنيا والآخرة كان أعظم نعمة وأكثر تفضلا . # وجعل ما تعبدهم به مأخوذا ms062 من عقل متبوع ، وشرع مسموع فالعقل متبوع فيما ~~لا يمنع منه الشرع ، والشرع مسموع فيما لا يمنع منه العقل ؛ لأن الشرع لا ~~يرد بما يمنع منه العقل ، والعقل لا يتبع فيما يمنع منه الشرع . # فلذلك توجه التكليف إلى من كمل عقله فأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره ~~على الدين كله ولو كره المشركون . # فبلغهم رسالته ، وألزمهم حجته ، وبين لهم شريعته ، وتلا عليهم كتابه ، ~~فيما أحله وحرمه ، وأباحه وحظره ، واستحبه وكرهه ، وأمر به ونهى عنه ، وما ~~وعد به من الثواب لمن أطاعه وأوعد به من العقاب لمن عصاه . # فكان وعده ترغيبا ، ووعيده ترهيبا ؛ لأن الرغبة تبعث على الطاعة ، ~~والرهبة تكف عن المعصية ، والتكليف يجمع أمرا بطاعة ونهيا عن معصية . # ولذلك كان التكليف مقرونا بالرغبة والرهبة ، وكان ما تخلل كتابه من قصص ~~الأنبياء السالفة ، وأخبار القرون الخالية ، عظة واعتبارا تقوى PageV01P102 ~~معهما الرغبة ، وتزداد بهما الرهبة . # وكان ذلك من لطفه بنا وتفضله علينا . # فالحمد لله الذي نعمه لا تحصى وشكره لا يؤدى . # ثم جعل إلى رسوله : صلى الله عليه وسلم بيان ما كان مجملا ، وتفسير ما ~~كان مشكلا ، وتحقيق ما كان محتملا ؛ ليكون له مع تبليغ الرسالة ظهور ~~الاختصاص به ومنزلة التفويض إليه . # قال الله تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم ~~يتفكرون } . # ثم جعل إلى العلماء استنباط ما نبه على معانيه ، وأشار إلى أصوله ~~بالاجتهاد فيه إلى علم المراد ، فيمتازوا بذلك عن غيرهم ويختصوا بثواب ~~اجتهادهم . # قال الله تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ~~} وقال الله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } فصار ~~الكتاب أصلا والسنة فرعا واستنباط العلماء إيضاحا وكشفا . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { القرآن أصل علم الشريعة ~~نصه ودليله } ، والحكمة بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمة المجتمعة ~~حجة على من شذ عنها . # وكان من رأفته بخلقه وتفضله على عباده أن أقدرهم على ما كلفهم ، ورفع ~~الحرج عنهم فيما تعبدهم ؛ ليكونوا مع ما قد ms063 أعده لهم ناهضين بفعل الطاعات ~~ومجانبة المعاصي . # قال الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقال : { وما جعل ~~عليكم في الدين من حرج } وجعل ما كلفهم ثلاثة أقسام : قسما أمرهم باعتقاده ~~، وقسما أمرهم بفعله ، وقسما أمرهم بالكف عنه ؛ ليكون اختلاف PageV01P103 ~~جهات التكليف أبعث على قبوله ، وأعون على فعله ، حكمة منه ولطفا . # وجعل ما أمرهم باعتقاده قسمين : قسما إثباتا ، وقسما نفيا . # فأما الإثبات فإثبات توحيده ، وصفاته ، وإثبات بعثته رسله ، وتصديق محمد ~~صلى الله عليه وسلم فيما جاء به . # وأما النفي فنفي الصاحبة ، والولد ، والحاجة ، والقبائح أجمع . # وهذان القسمان أول ما كلفه العاقل وجعل ما أمرهم بفعله ثلاثة أقسام : ~~قسما على أبدانهم كالصلاة والصيام ، وقسما في أموالهم كالزكاة والكفارة ، ~~وقسما على أموالهم وأبدانهم كالحج والجهاد ، ليسهل عليهم فعله ويخف عنهم ~~أداؤه نظرا منه تعالى لهم ، وتفضلا منه عليهم . # وجعل ما أمرهم بالكف عنه ثلاثة أقسام : قسما لإحياء نفوسهم وصلاح أبدانهم ~~، كنهيه عن القتل ، وأكل الخبائث والسموم ، وشرب الخمور المؤدية إلى فساد ~~العقل وزواله . # وقسما لائتلافهم وإصلاح ذات بينهم ، كنهيه عن الغضب ، والغلبة ، والظلم ، ~~والسرف المفضي إلى القطيعة ، والبغضاء . # وقسما لحفظ أنسابهم وتعظيم محارمهم ، كنهيه عن الزنا ونكاح ذوات المحارم ~~. # فكانت نعمته فيما حظره علينا كنعمته فيما أباحه لنا ، وتفضله فيما كفنا ~~عنه كتفضله فيما أمرنا به . # فهل يجد العاقل في رويته مساغا أن يقصر فيما أمر به وهو نعمة عليه ، أو ~~يرى فسحة في ارتكاب ما نهى عنه وهو تفضل منه عليه ؟ وهل يكون من أنعم عليه ~~بنعمة فأهملها ، مع شدة فاقته إليها ، إلا مذموما في العقل مع ما جاء من ~~وعيد الشرع ؟ ثم من لطفه PageV01P104 بخلقه وتفضله على عباده أن جعل لهم من ~~جنس كل فريضة نفلا ، وحمل لها من الثواب قسطا ، وندبهم إليه ندبا ، وجعل ~~لهم بالحسنة عشرا ليضاعف ثواب فاعله ، ويضع العقاب عن تاركه . # ومن لطيف حكمته أن جعل لكل عبادة حالتين : حالة كمال وحالة جواز ، رفقا ~~منه بخلقه لما سبق في علمه أن فيهم العجل المبادر والبطيء ms064 المتثاقل ، ومن ~~لا صبر له على أداء الأكمل ليكون ما أخل به من هيئات عبادته غير قادح في ~~فرض ، ولا مانع من أجر ، فكان ذلك من نعمه علينا وحسن نظره إلينا . # وكان أول ما فرض بعد تصديق نبيه صلى الله عليه وسلم عبادات الأبدان ، وقد ~~قدمها على ما يتعلق بالأموال ؛ لأن النفوس على الأموال أشح وبما يتعلق ~~بالأبدان أسمح ، وذلك الصلاة والصيام . # فقدم الصلاة على الصيام ؛ لأن الصلاة أسهل فعلا ، وأيسر عملا ، وجعلها ~~مشتملة على خضوع له وابتهال إليه . # فالخضوع له رهبة منه ، والابتهال إليه رغبة فيه . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إذا قام أحدكم إلى صلاته فإنما ~~يناجي ربه فلينظر بما يناجيه } . # وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان كلما دخل عليه وقت صلاة ~~اصفر لونه مرة واحمر أخرى فقيل له في ذلك ، فقال : أتتني الأمانة التي عرضت ~~على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها أنا فلا ~~أدري أأسيء فيها أم أحسن . # ثم جعل لها شروطا لازمة من رفع حدث ، وإزالة نجس ؛ ليستديم النظافة للقاء ~~ربه ، والطهارة لأداء فرضه . PageV01P105 ثم ضمنها تلاوة كتابه المنزل ~~ليتدبر ما فيه ، من أوامره ونواهيه ، ويعتبر إعجاز ألفاظه ومعانيه . # ثم علقها بأوقات راتبة ، وأزمان مترادفة ؛ ليكون ترادف أزمانها وتتابع ~~أوقاتها سببا لاستدامة الخضوع له والابتهال إليه ، فلا تنقطع الرهبة منه ~~ولا الرغبة فيه ، وإذا لم تنقطع الرغبة والرهبة استدام صلاح الخلق . # وبحسب قوة الرغبة والرهبة يكون استيفاؤها على الكمال أو التقصير فيها حال ~~الجواز . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : { الصلاة مكيال فمن وفى وفي له ~~ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من هانت عليه صلاته كانت ~~على الله تعالى وعز وجل أهون } . # وأنشدت لبعض الفصحاء في ذلك : أقبل على صلواتك الخمس كم مصبح وعساه لا ~~يمسي واستقبل اليوم الجديد بتوبة تمحو ذنوب صبيحة الأمس فليفعلن بوجهك الغض ~~البلى فعل الظلام ms065 بصورة الشمس ثم فرض الله تعالى الصيام وقدمه على زكاة ~~الأموال لتعلق الصيام بالأبدان . # وكان في إيجابه حث على رحمة الفقراء وإطعامهم وسد جوعاتهم لما عاينوه من ~~شدة المجاعة في صومهم . # وقد قيل ليوسف - على نبينا وعليه السلام - : أتجوع وأنت على خزائن الأرض ~~؟ فقال : أخاف أن أشبع فأنسى الجائع . # ثم لما في الصوم من قهر النفس وإذلالها وكسر الشهوة المستولية عليها ~~وإشعار النفس ما هي عليه من الحاجة إلى يسير الطعام والشراب . # والمحتاج إلى الشيء ذليل به . # وبهذا احتج الله تعالى - PageV01P106 على من اتخذ عيسى - على نبينا وعليه ~~السلام - وأمه إلهين من دونه ، فقال : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد ~~خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام } . # فجعل احتياجهما إلى الطعام نقصا فيهما عن أن يكونا إلهين . # وقد وصف الحسن البصري نقص الإنسان بالطعام والشراب فقال : مسكين ابن آدم ~~محتوم الأجل ، مكتوم الأمل ، مستور العلل . # يتكلم بلحم وينظر بشحم ، ويسمع بعظم . # أسير جوعه ، صريع شبعه تؤذيه البقة ، وتنتنه العرقة وتقتله الشرقة . # لا يملك لنفسه ضرا ، ولا نفعا ولا موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا . # فانظر إلى لطفه بنا ، فيما أوجبه من الصيام علينا . # كيف أيقظ العقول له ، وقد كانت عنه غافلة أو متغافلة . # ونفع النفوس به ولم تكن منتفعة ولا نافعة . # ثم فرض زكوات الأموال وقدمها على فرض الحج ؛ لأن في الحج مع إنفاق المال ~~سفرا شاقا ، فكانت النفس إلى الزكاة أسرع إجابة منها إلى الحج ، فكان في ~~إيجابها مواساة للفقراء ، ومعونة لذوي الحاجات ، تكفهم عن البغضاء وتمنعهم ~~من التقاطع وتبعثهم على التواصل ؛ لأن الآمل وصول والراجي هائب ، وإذا زال ~~الأمل وانقطع الرجاء واشتدت الحاجة وقعت البغضاء واشتد الحسد فحدث التقاطع ~~بين أرباب الأموال والفقهاء ، ووقعت العداوة بين ذوي الحاجات والأغنياء ، ~~حتى تفضي إلى التغالب على الأموال والتغرير بالنفوس . # هذا مع ما في أداء الزكاة من تمرين النفس على السماحة المحمودة ومجانبة ~~الشح المذموم ؛ لأن السماحة تبعث على أداء الحقوق PageV01P107 والشح يصد ~~عنها . # وما يبعث على أداء الحقوق ms066 فأجدر به حمدا ، وما صد عنها فأخلق به ذما . # وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { شر ~~ما أعطي العبد شح هالع ، وجبن خالع } . # فسبحان من دبرنا بلطيف حكمته ، وأخفى عن فطنتنا جزيل نعمته ، حتى استوجب ~~من الشكر بإخفائها أعظم مما استوجبه بإبدائها . # ثم فرض الحج فكان آخر فروضه ؛ لأنه يجمع عملا على بدن وحقا في مال . # فجعل فرضه بعد استمرار فروض الأبدان وفروض الأموال ؛ ليكون استئناسهم بكل ~~واحد من النوعين ذريعة إلى تسهيل ما جمع بين النوعين . # فكان في إيجابه تذكير ليوم الحشر بمفارقة المال والأهل ، وخضوع العزيز ~~والذليل في الوقوف بين يديه ، واجتماع المطيع والعاصي في الرهبة منه ~~والرغبة إليه ، وإقلاع أهل المعاصي عما اجترحوه ، وندم المذنبين على ما ~~أسلفوه ، فقل من حج إلا وأحدث توبة من ذنب وإقلاعا من معصية ، ولذلك قال ~~النبي صلى الله عليه وسلم : { من علامة الحجة المبرورة أن يكون صاحبها ~~بعدها خيرا منه قبلها } . # وهذا صحيح ؛ لأن الندم على الذنوب مانع من الإقدام عليها ، والتوبة مكفرة ~~لما سلف منها . # فإذا كف عما كان يقدم عليه أنبأ عن صحة توبته ، وصحة التوبة تقتضي قبول ~~حجته . # ثم نبه بما يعاني فيه من مشاق السفر المؤدي إليه على موضع النعمة برفاهة ~~الإقامة وأنسة الأوطان ليحنو على من سلب هذه النعمة من أبناء السبيل . # ثم أعلم بمشاهدة حرمه الذي أنشأ منه دينه PageV01P108 ، وبعث فيه رسوله . # ثم بمشاهدة دار الهجرة التي أعز الله بها أهل طاعته ، وأذل بنصرة نبيه ~~محمد عليه الصلاة والسلام أهل معصيته ، حتى خضع له عظماء المتجبرين ، وتذلل ~~له زعماء المتكبرين . # إنه لم ينتشر عن ذلك المكان المنقطع ، ولا قوي بعد الضعف البين حتى طبق ~~الأرض شرقا وغربا إلا بمعجزة ظاهرة ونصر عزيز . # فاعتبر - ألهمك الله الشكر ووفقك للتقوى - إنعامه عليك فيما كلفك ، ~~وإحسانه إليك فيما تعبدك . # فقد وكلتك إلى فطنتك وأحلتك على بصيرتك بعد أن كنت لك رائدا صدوقا ، ~~وناصحا شفوقا هل تحسن نهوضا بشكره إذا فعلت ms067 ما أمرك ، وتقبلت ما كلفك ؟ كلا ~~إنه لا يوليك نعمة توجب الشكر إذا وصلها قبل شكر ما سلف بنعمة توجب الشكر ~~في المؤتنف . # وقال الحسن بن علي : نعم الله أكثر من أن تشكر إلا ما أعان عليه ، وذنوب ~~ابن آدم أكثر من أن تغفر إلا ما عفا عنه . # وأنشدت لمنصور بن إسماعيل الفقيه المصري رحمه الله تعالى : شكر الإله ~~نعمة موجبة لشكره فكيف شكري بره وشكره من بره وإذا كنت عن شكر نعمه عاجزا ~~فكيف بك إذا قصرت فيما أمرك ، أو فرطت فيما كلفك ، ونفعه أعود عليك لو ~~فعلته . # هل تكون لسوابغ نعمه إلا كفورا ، وببداية العقول إلا مزجورا ؟ وقد قال ~~الله تعالى : { يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها } قال مجاهد : أي يعرفون ما ~~عدد الله عليهم من نعمه وينكرونها بقولهم أنهم ورثوها عن آبائهم واكتسبوها ~~بأفعالهم . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يقول الله يا PageV01P109 ~~ابن آدم ما أنصفتني أتحبب إليك بالنعم وتتمقت إلي بالمعاصي . # خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد كم من ملك كريم يصعد إلي منك بعمل قبيح } . # وقال بعض صلحاء السلف : قد أصبح بنا من نعم الله تعالى ما لا نحصيه ، مع ~~كثرة ما نعصيه ، فلا ندري أيهما نشكر ، أجميل ما ينشر ، أم قبيح ما يستر . # فحق على من عرف موضع النعمة أن يقبلها ممتثلا لما كلف منها وقبولها يكون ~~بأدائها ، ثم يشكر الله تعالى على ما أنعم من إسدائها . # فإن بنا من الحاجة إلى نعمه أكثر مما كلفنا من شكر نعمه . # فإن نحن أدينا حق النعمة في التكليف تفضل بإسداء النعمة من غير جهة ~~التكليف ، فلزمت النعمتان ومن لزمته النعمتان فقد أوتي حظ الدنيا والآخرة ، ~~وهذا هو السعيد بالإطلاق . # وإن قصرنا في أداء ما كلفنا من شكره قصر عنا ما لا تكليف فيه من نعمه ، ~~فنفرت النعمتان ومن نفرت عنه النعمتان فقد سلب حظ الدنيا والآخرة ، فلم يكن ~~له في الحياة حظ ولا في الموت راحة ، وهذا هو الشقي بالاستحقاق . # وليس يختار الشقوة ms068 على السعادة ذو لب صحيح ولا عقل سليم . # وقد قال الله تعالى : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا ~~يجز به } . # وروى الأعمش عن سليم قال ، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : { يا رسول ~~الله ما أشد هذه الآية : { من يعمل سوءا يجز به } . # فقال : يا أبا بكر إن المصيبة في الدنيا جزاء } . # واختلف المفسرون في تأويل قوله تعالى : { سنعذبهم مرتين } . # فقال بعضهم : أحد العذابين الفضيحة في الدنيا ، PageV01P110 والثاني عذاب ~~القبر . # وقال عبد الرحمن بن يزيد : أحد العذابين مصائبهم في الدنيا في أموالهم ~~وأولادهم ، والثاني عذاب الآخرة في النار . # وليس وإن نال أهل المعاصي لذة من عيش أو أدركوا أمنية من دنيا كانت عليهم ~~نعمة ، بل قد يكون ذلك استدراجا ونقمة . # وروى ابن لهيعة عن عقبة بن مسلم بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ~~قال : { إذا رأيت الله تعالى يعطي العباد ما يشاؤن على معاصيهم إياه فإنما ~~ذلك استدراج منه لهم ثم تلا : { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب ~~كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } . # } PageV01P111 فأما المحرمات التي يمنع الشرع منها واستقر التكليف ، عقلا ~~أو شرعا ، بالنهي عنها فتنقسم قسمين . # منها ما تكون النفوس داعية إليها ، والشهوات باعثة عليها ، كالسفاح وشرب ~~الخمر ، فقد زجر الله عنها ؛ لقوة الباعث عليها ، وشدة الميل إليها بنوعين ~~من الزجر : أحدهما : حد عاجل يرتدع به الجريء . # والثاني : وعيد آجل يزدجر به التقي . # ومنها ما تكون النفوس نافرة منها ، والشهوات مصروفة عنها ، كأكل الخبائث ~~والمستقذرات وشرب السموم المتلفات ، فاقتصر الله في الزجر عنها بالوعيد ~~وحده دون الحد ؛ لأن النفوس مستعدة في الزجر عنها ، ومصروفة عن ركوب ~~المحظور منها . # ثم أكد الله زواجره بإنكار المنكرين لها فأوجب الأمر بالمعروف والنهي عن ~~المنكر ليكون الأمر بالمعروف تأكيدا لأوامره ، والنهي عن المنكر تأييدا ~~لزواجره . # لأن النفوس الأشرة قد ألهتها الصبوة عن اتباع الأوامر ، وأذهلتها الشهوة ~~عن تذكار الزواجر . # وكان إنكار المجالسين أزجر لها ، وتوبيخ المخاطبين ms069 أبلغ فيها . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ما أقر قوم المنكر بين أظهرهم ~~إلا عمهم الله بعذاب محتضر } . # وإذا كان ذلك فلا يخلو حال فاعلي المنكر من أحد الأمرين : أحدهما : أن ~~يكونوا آحادا متفرقين ، وأفرادا متبددين ، لم يتحزبوا فيه ، ولم يتضافروا ~~عليه ، وهم رعية مقهورون ، وأفذاذ مستضعفون ، فلا خلاف بين الناس أن أمرهم ~~بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، مع المكنة وظهور القدرة واجب على من شاهد ذلك ~~PageV01P112 من فاعليه ، أو سمعه من قائليه . # وإنما اختلفوا في وجوب ذلك على منكريه هل وجب عليهم بالعقل أو بالشرع . # فذهب بعض المتكلمين إلى وجوب ذلك بالعقل ؛ لأنه لما وجب بالعقل وجب أن ~~يمتنع من القبيح ، ووجب أيضا بالعقل أن يمنع غيره منه ؛ لأن ذلك أدعى إلى ~~مجانبته ، وأبلغ في مفارقته . # وقد روى عبد الله بن المبارك رحمه الله قال : قال رسول الله صلى الله ~~عليه وسلم : { إن قوما ركبوا سفينة فاقتسموا فأخذ كل واحد منهم موضعا ، ~~فنقر رجل منهم موضعا بفأس . # فقالوا : ما تصنع ؟ فقال : هو مكاني أصنع فيه ما شئت . # فلم يأخذوا على يديه فهلك وهلكوا } . # وذهب آخرون إلى وجوب ذلك بالشرع دون العقل ؛ لأن العقل لو أوجب النهي عن ~~المنكر ، ومنع غيره من القبيح ، لوجب مثله على الله تعالى ، ولما جاز ورود ~~الشرع بإقرار أهل الذمة على الكفر ، وترك النكير عليهم ، ؛ لأن واجبات ~~العقول لا يجوز إبطالها بالشرع ، وفي ورود الشرع بذلك دليل على أن العقل ~~غير موجب لإنكاره . # فأما إذا كان في ترك إنكاره مضرة لاحقة بمنكره وجب إنكاره بالعقل على ~~القولين معا . # وأما إن لحق المنكر مضرة من إنكاره ولم تلحقه من كفه وإقراره لم يجب عليه ~~الإنكار بالعقل ولا بالشرع . # أما العقل فلأنه يمنع من اجتلاب المضار التي لا يوازيها نفع . # وأما الشرع فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه ~~وسلم أنه قال : { أنكر المنكر بيدك فإن لم تستطع فبلسانك ، فإن لم تستطع ~~فبقلبك ، وذلك PageV01P113 أضعف الإيمان } . # فإن أراد الإقدام على ms070 الإنكار مع لحوق المضرة به نظر . # فإن لم يكن إظهار النكير مما يتعلق بإعزاز دين الله ، ولا إظهار كلمة ~~الحق ، لم يجب عليه النكير إذا خشي ، بغالب الظن ، تلفا أو ضررا ، ولم يخش ~~منه النكير أيضا . # وإن كان في إظهار النكير إعزاز دين الله تعالى ، وإظهار كلمة الحق ، حسن ~~منه النكير مع خشية الإضرار والتلف ، وإن لم يجب عليه ، إذا كان الغرض قد ~~يحصل له بالنكير وإن انتصر أو قتل . # وعلى هذا الوجه قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إن من أفضل الأعمال ~~كلمة حق عند سلطان جائر } . # فأما إذا كان يقتل قبل حصول الغرض قبح في العقل أن يتعرض لإنكاره ، وكذلك ~~لو كان الإنكار يزيد المنهى إغراء بفعل المنكر ، ولجاجا في الإكثار منه ، ~~قبح في العقل إنكاره . # والحال الثانية : أن يكون فعل المنكر من جماعة قد تضافروا عليه ، وعصبة ~~قد تحزبت ودعت إليه . # وقد اختلف الناس في وجوب إنكاره على مذاهب شتى فقالت طائفة من أصحاب ~~الحديث وأهل الآثار : لا يجب إنكاره والأولى بالإنسان أن يكون كافا ، ممسكا ~~، وملازما لبيته ، وادعا غير منكر ولا مستفز . # وقالت طائفة أخرى ممن يقول بظهور المنتظر : لا يجب إنكاره ولا التعرض ~~لإزالته إلا أن يظهر المنتظر فيتولى إنكاره بنفسه ويكونوا أعوانه . # وقالت طائفة أخرى ، منهم الأصم : لا يجوز للناس إنكاره إلا أن يجتمعوا ~~على إمام عدل ، فيجب عليهم الإنكار معه . # وقال جمهور المتكلمين : إنكار ذلك واجب ، والدفع عنه لازم PageV01P114 ~~على شروطه في وجود أعوان يصلحون له . # فأما مع فقد الأعوان فعلى الإنسان الكف ؛ لأن الواحد قد يقتل قبل بلوغ ~~الغرض ، وذلك قبيح في العقل أن يتعرض له . # فهذا ما أكد الله تعالى به أوامره وأيد به زواجره من الأمر بالمعروف ~~والنهي عن المنكر ، وما يختلف من أحوال الآمرين به والناهين عنه . ~~PageV01P115 ثم ليس يخلو حال الناس فيما أمروا به ونهوا عنه ، من فعل ~~الطاعات واجتناب المعاصي ، من أربعة أحوال : فمنهم من يستجيب إلى فعل ~~الطاعات ، ويكف عن ارتكاب المعاصي . # وهذا أكمل أحوال أهل ms071 الدين ، وأفضل صفات المتقين . # فهذا يستحق جزاء العاملين ، وثواب المطيعين . # روى محمد بن عبد الملك المدائني . # عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه ~~وسلم : { الذنب لا ينسى والبر لا يبلى ، والديان لا يموت ، فكن كما شئت ، ~~وكما تدين تدان } . # وقد قيل : كل يحصد ما يزرع ، ويجزى بما يصنع . # بل قالوا : زرع يومك حصاد غدك . # ومنهم من يمتنع من فعل الطاعات ويقدم على ارتكاب المعاصي ، وهي أخبث ~~أحوال المكلفين . # فهذا يستحق عذاب اللاهي عن فعل ما أمر به من طاعته ، وعذاب المجترئ على ~~ما أقدم عليه من معاصيه . # وقد قال ابن شبرمة : عجبت لمن يحتمي من الطيبات مخافة الداء ، كيف لا ~~يحتمي من المعاصي مخافة النار . # فأخذ ذلك بعض الشعراء فقال : جسمك قد أفنيته بالحمى دهرا من البارد ~~والحار وكان أولى بك أن تحتمي من المعاصي حذر النار وقال ابن صباوة : إنا ~~نظرنا فوجدنا الصبر على طاعة الله تعالى أهون من الصبر على عذاب الله تعالى ~~. # وقال آخر : اصبروا عباد الله على عمل لا غنى بكم عن ثوابه ، واصبروا عن ~~عمل لا صبر لكم على عقابه . # وقيل للفضيل بن عياض رضي الله عنه : رضي الله عنك . # فقال : كيف يرضى عني ولم أرضه . PageV01P116 ومنهم من يستجيب إلى فعل ~~الطاعات ويقدم على ارتكاب المعاصي . # فهذا يستحق عذاب المجترئ ؛ لأنه تورط بغلبة الشهوة على الإقدام على ~~المعصية ، وإن سلم من التقصير في فعل الطاعة . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أقلعوا عن المعاصي قبل ~~أن يأخذكم الله هتا بتا } : الهت الكسر والبت القطع . # ولذلك قال بعض العلماء : أفضل الناس من لم تفسد الشهوة دينه ، ولم تترك ~~الشبهة يقينه . # وقال حماد بن زيد : عجبت لمن يحتمي من الأطعمة لمضراتها ، كيف لا يحتمي ~~من الذنوب لمعراتها . # وقال بعض الصلحاء : أهل الذنوب مرضى القلوب وقيل للفضيل بن عياض رحمه ~~الله : ما أعجب الأشياء ؟ فقال : قلب عرف الله عز وجل ثم عصاه . # وقال بعض الألباء : يدل ms072 بالطاعة العاصي وينسى عظيم المعاصي . # وقال رجل لابن عباس رضي الله عنه : أيما أحب إليك رجل قليل الذنوب قليل ~~العمل ، أو رجل كثير الذنوب كثير العمل ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه : لا ~~أعدل بالسلامة شيئا . # وقيل لبعض الزهاد : ما تقول في صلاة الليل ؟ فقال : خف الله بالنهار ونم ~~بالليل . # وسمع بعض الزهاد رجلا يقول لقوم : أهلككم النوم . # فقال : بل أهلكتكم اليقظة . # وقيل لأبي هريرة رضي الله عنه : ما التقوى ؟ فقال : أجزت في أرض فيها شوك ~~؟ فقال : نعم . # فقال : كيف كنت تصنع ؟ فقال : كنت أتوقى . # قال : فتوق الخطايا . # وقال عبد الله بن المبارك : أيضمن لي فتى ترك المعاصي وأرهنه الكفالة ~~بالخلاص أطاع الله قوم واستراحوا ولم يتجرعوا غصص PageV01P117 المعاصي ~~PageV01P118 ومنهم من يمتنع من فعل الطاعات ، ويكف عن ارتكاب المعاصي فهذا ~~يستحق عذاب اللاهي عن دينه ، المنذر بقلة يقينه . # وروى أبو إدريس الخولاني عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى ~~الله عليه وسلم أنه قال : { كانت صحف موسى - على نبينا وعليه السلام - كلها ~~عبرا . # عجبت لمن أيقن بالنار ثم يضحك ، وعجبت لمن أيقن بالقدر ثم يتعب ، وعجبت ~~لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها ، وعجبت لمن أيقن بالموت ثم ~~يفرح ، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم لا يعمل } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { اجتهدوا في العمل فإن قصر ~~بكم ضعف فكفوا عن المعاصي } . # وهذا واضح المعنى ؛ لأن الكف عن المعاصي ترك وهو أسهل ، وعمل الطاعات فعل ~~وهو أثقل . # ولذلك لم يبح الله تعالى ارتكاب المعصية بعذر ولا بغير عذر ؛ لأنه ترك ~~والترك لا يعجز المعذور عنه ، وإنما أباح ترك الأعمال بالأعذار ؛ لأن العمل ~~قد يعجز المعذور عنه . # وقال بكر بن عبد الله : رحم الله امرأ كان قويا فأعمل قوته في طاعة الله ~~تعالى أو كان ضعيفا فكف عن معصية الله تعالى . # وقال عبد الأعلى بن عبد الله الشامي رحمه الله تعالى : العمر ينقص ~~والذنوب تزيد وتقال عثرات الفتى فيعود هل يستطيع جحود ذنب ms073 واحد رجل جوارحه ~~عليه شهود والمرء يسأل عن سنيه فيشتهي تقليلها وعن الممات يحيد واعلم أن ~~لأعمال الطاعات ومجانبة المعاصي آفتين : إحداهما تكسب الوزر والأخرى توهن ~~الأجر . # فأما المكسبة للوزر PageV01P119 فإعجاب بما سلف من عمله ، وقدم من طاعته ~~؛ لأن الإعجاب به يفضي إلى حالتين مذمومتين : إحداهما : أن المعجب بعمله ~~ممتن به والممتن على الله تعالى جاحد لنعمه . # قال ابن عباس رضي الله عنه : أوحى الله تعالى إلى نبي من أنبيائه : أما ~~زهدك في الدنيا فقد استعجلت به الراحة ، وأما انقطاعك إلي فهو عز لك ، ~~فهذان لك وبقيت أنا . # والثانية أن المعجب بعمله مدل به والمدل بعمله مجترئ ، والمجترئ على الله ~~عاص . # وقال مورق العجلي : خير من العجب بالطاعة أن لا يأتي بطاعة . # وقال بعض السلف : ضاحك معترف بذنبه ، خير من باك مدل على ربه ، وباك نادم ~~على ذنبه خير من ضاحك معترف بلهوه . # وأما الموهنة للأجر فالثقة بما أسلف والركون إلى ما قدم ؛ لأن الثقة تئول ~~إلى أمرين شينين : أحدهما يحدث اتكالا على ما مضى وتقصيرا فيما يستقبل . # ومن قصر واتكل لم يرج أجرا ولم يؤد شكرا . # والثاني : أن الواثق آمن . # والآمن من الله تعالى غير خائف ، ومن لم يخف الله تعالى هانت عليه أوامره ~~، وسهلت عليه زواجره . # وقال الفضيل بن عياض : رهبة المرء من الله تعالى على قدر علمه بالله ~~تعالى . # وقال مورق العجلي : لأن أبيت نائما وأصبح نادما أحب إلي من أن أبيت قائما ~~وأصبح ناعما . # وقال الحكماء : ما بينك وبين أن لا يكون فيك خير إلا أن ترى أن فيك خيرا ~~. # وقيل لرابعة العدوية - رحمها الله - : هل عملت عملا قط ترين أنه يقبل منك ~~؟ قالت : إن كان شيء فخوفي أن يرد علي عملي . # وقال ابن السماك - PageV01P120 رحمة الله عليه - : إنا لله فيما مضى ما ~~أعظم فيه الخطر ، وإنا لله فيما بقي ما أقل منه الحذر . # وحكي أن بعض الزهاد وقف على جمع فنادى بأعلى صوته : يا معشر الأغنياء لكم ~~أقول : استكثروا من الحسنات فإن ذنوبكم كثيرة ، ويا ms074 معشر الفقراء لكم أقول ~~: أقلوا من الذنوب فإن حسناتكم قليلة . # فينبغي - أحسن الله إليك بالتوفيق - أن لا تضيع صحة جسمك وفراغ وقتك ~~بالتقصير في طاعة ربك ، والثقة بسالف عملك . # فاجعل الاجتهاد غنيمة صحتك ، والعمل فرصة فراغك ، فليس كل الزمان مستسعدا ~~ولا ما فات مستدركا ، وللفراغ زيغ أو ندم ، وللخلوة ميل أو أسف . # وقال عمر بن الخطاب : الراحة للرجال غفلة وللنساء غلمة . # وقال بزرجمهر : إن يكن الشغل مجهدة ، فالفراغ مفسدة . # وقال بعض الحكماء : إياكم والخلوات فإنها تفسد العقول ، وتعقد المحلول . # وقال بعض البلغاء : لا تمض يومك في غير منفعة ، ولا تضع مالك في غير صنعة ~~. # فالعمر أقصر من أن ينفد في غير المنافع ، والمال أقل من أن يصرف في غير ~~الصنائع . # والعاقل أجل من أن يفني أيامه فيما لا يعود عليه نفعه وخيره ، وينفق ~~أمواله فيما لا يحصل له ثوابه وأجره . # وأبلغ من ذلك قول عيسى ابن مريم - على نبينا وعليه السلام - : البر ثلاثة ~~: المنطق والنظر والصمت . # فمن كان منطقه في غير ذكر فقد لغا ، ومن كان نظره في غير اعتبار فقد سها ~~، ومن كان صمته في غير فكر فقد لها . PageV01P121 واعلم أن للإنسان فيما ~~كلف من عباداته ثلاث أحوال : إحداها أن يستوفيها من غير تقصير فيها ولا ~~زيادة عليها . # والثانية : أن يقصر فيها . # والثالثة : أن يزيد عليها . # فأما الحال الأولى : فهي أن يأتي بها على حال الكمال من غير زيادة فيها ، ~~ولا زيادة تطوع على راتبتها . # فهي أوسط الأحوال وأعدلها ؛ لأنه لم يكن منه تقصير فيذم ، ولا تكثير ~~فيعجز . # وقد روى سعيد بن أبي سعيد رضي الله عنه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ~~النبي صلى الله عليه وسلم قال : { سددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة ~~والروحة وشيء من الدلجة } . # وقال الشاعر : عليك بأوساط الأمور فإنها نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا ~~وأما الحال الثانية : وهو أن يقصر فيها . # فلا يخلو حال تقصيره من أربعة أحوال : إحداهن : أن يكون لعذر أعجزه عنه ، ~~أو مرض أضعفه عن أداء ما كلف به ms075 . # فهذا يخرج عن حكم المقصرين ، ويلحق بأحوال العاملين ، لاستقرار الشرع على ~~سقوط ما دخل تحت العجز . # وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما من عامل كان ~~يعمل عملا فيقطعه عنه مرض إلا وكل الله تعالى به من يكتب له ثواب عمله . # } والحال الثانية : أن يكون تقصيره فيه اغترارا بالمسامحة فيه ، ورجاء ~~العفو عنه . # فهذا مخدوع العقل مغرور بالجهل ، فقد جعل الظن ذخرا والرجاء عدة . # فهو كمن قطع سفرا بغير زاد ظنا بأنه سيجده في المفاوز الجدبة فيفضي به ~~الظن إلى الهلكة ، وهلا كان الحذر أغلب عليه وقد ندب الله تعالى إليه ~~PageV01P122 . # وحكي أن إسرائيل بن محمد القاضي قال : لقيني مجنون كان في الخرابات فقال ~~: يا إسرائيل خف الله خوفا يشغلك عن الرجاء فإن الرجاء يشغلك عن الخوف ، ~~وفر إلى الله ولا تفر منه . # وقيل لمحمد بن واسع رحمه الله : ألا تبكي ؟ فقال : تلك حلية الآمنين . # وحكي أن أبا حازم الأعرج أخبر سليمان بن عبد الملك بوعيد الله للمذنبين ، ~~فقال سليمان : أين رحمة الله ؟ قال : قريب من المحسنين . # وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : ما انتفعت ولا اتعظت بعد رسول ~~الله صلى الله عليه وسلم بمثل كتاب كتبه إلي علي بن أبي طالب - كرم الله ~~وجهه - : أما بعد فإن الإنسان ليسره درك ما لم يكن ليفوته ويسوءه فوت ما لم ~~يكن ليدركه ، فلا تكن بما نلته من دنياك فرحا ، ولا لما فاتك منها ترحا ، ~~ولا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل ، ويؤخر التوبة بطول الأمل ، فكأن قد ~~والسلام . # وقال محمود الوراق رحمه الله : أخاف على المحسن المتقي وأرجو لذي الهفوات ~~المسي فذلك خوفي على محسن فكيف على الظالم المعتدي على أن ذا الزيغ قد ~~يستفيق ويستأنف الزيغ قلب التقي والحال الثالثة : أن يكون تقصيره فيه ~~ليستوفي ما أخل به من بعد فيبدأ بالسيئة في التقصير قبل الحسنة في ~~الاستيفاء اغترارا بالأمل في إمهاله ، ورجاء لتلافي ما أسلف من تقصيره ~~وإخلاله ، فلا ينتهي به الأمل ms076 إلى غاية ، ولا يفضي به إلى نهاية ؛ لأن ~~الأمل هو في ثاني حال ، كهو في أول حال . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من يؤمل PageV01P123 أن ~~يعيش غدا ، فإنه يؤمل أن يعيش أبدا } . # ولعمري إن هذا صحيح ؛ لأن لكل يوم غدا . # فإذا يفضي به الأمل إلى الفوت من غير درك ، ويؤديه الرجاء إلى الإهمال من ~~غير تلاف ، فيصير الأمل خيبة والرجاء إياسا . # وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ~~{ أول صلاح هذه الأمة بالزهد واليقين ، وفسادها بالبخل والأمل } . # وقال الحسن البصري رحمه الله : ما أطال عبد الأمل ، إلا أساء العمل . # وقال رجل لبعض الزهاد بالبصرة : ألك حاجة ببغداد ؟ قال : ما أحب أن أبسط ~~أملي إلى أن تذهب إلى بغداد وتجيء . # وقال بعض الحكماء : الجاهل يعتمد على أمله ، والعاقل يعتمد على عمله . # وقال بعض البلغاء : الأمل كالسراب غر من رآه ، وخاب من رجاه . # وقال محمد بن يزدان : دخلت على المأمون وكنت يومئذ وزيره فرأيته قائما ~~وبيده رقعة فقال : يا محمد أقرأت ما فيها ؟ فقلت : هي في يد أمير المؤمنين ~~. # فرمى بها إلي فإذا فيها مكتوب : إنك في دار لها مدة يقبل فيها عمل العامل ~~أما ترى الموت محيطا بها قطع فيها أمل الآمل تعجل بالذنب لما تشتهي وتأمل ~~التوبة من قابل والموت يأتي بعد ذا بغتة ما ذاك فعل الحازم العاقل فلما ~~قرأتها قال المأمون رحمه الله تعالى : هذا من أحكم شعر قرأته . # وقال أبو حازم الأعرج : نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب ، ونحن لا نتوب حتى ~~نموت . # وقال بعض البلغاء : زائد الإمهال رائد الإهمال . # والحال الرابعة : أن يكون تقصيره فيه استثقالا للاستيفاء ، وزهدا في ~~التمام ، PageV01P124 واقتصارا على ما سنح ، وقلة اكتراث فيما بقي . # فهذا على ثلاثة أضرب : أحدها : أن يكون ما أخل به وقصر فيه غير قادح في ~~فرض ، ولا مانع من عبادة ، كمن اقتصر في العبادة على فعل واجباتها ، وعمل ~~مفترضاتها ، وأخل بمسنوناتها وهيئاتها . # فهذا ms077 مسيء فيما ترك إساءة من لا يستحق وعيدا ولا يستوجب عتابا ؛ لأن أداء ~~الواجب يسقط عنه العقاب ، وإخلاله بالمسنون يمنع من إكمال الثواب . # وقد قال بعض الحكماء : من تهاون بالدين هان ، ومن غالب الحق لان . # وقال الشاعر : ويصون توبته ويترك غير ذلك لا يصونه وأحق ما صان الفتى ~~ورعى أمانته ودينه والضرب الثاني : أن يكون ما أخل به من مفروض عبادته ، ~~لكن لا يقدح ترك ما بقي فيما مضى كمن أكمل عبادات وأخل بغيرها . # فهذا أسوأ حالا ممن تقدمه لما استحقه من الوعيد واستوجبه من العقاب . # والضرب الثالث : أن يكون ما أخل به من مفروض عبادته وهو قادح فيما عمل ~~منها كالعبادة التي يرتبط بعضها ببعض ، فيكون المقصر في بعضها تاركا ~~لجميعها فلا يحتسب له ما عمل لإخلاله بما بقي . # فهذا أسوأ أحوال المقصرين وحاله لاحقة بأحوال التاركين ، بل قد تكلف ما ~~لا يسقط فرضا ولا يؤدي حقا . # فقد ساوى التاركين في استحقاق الوعيد ، وزاد عليهم في تكلف ما لا يفيد . # فصار من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة . # ثم لعله لا يفطن لشأنه ، ولا يشعر بخسرانه ، وقد خسر الدنيا والآخرة ، ~~ويفطن لليسير من ماله إن وهى واختل . # وأنشدني بعض أهل PageV01P125 العلم : أبني إن من الرجال بهيمة في صورة ~~الرجل السميع المبصر فطن بكل مصيبة في ماله وإذا يصاب بدينه لم يشعر ~~PageV01P126 وأما الحال الثالثة : وهو أن يزيد فيما كلف . # فهذا على ثلاثة أقسام : أحدها : أن تكون الزيادة رياء للناظرين ، وتصنعا ~~للمخلوقين ، حتى يستعطف به القلوب النافرة ، ويخدع به العقول الواهية ، ~~فيتبهرج بالصلحاء وليس منهم ، ويتدلس في الأخيار وهو ضدهم . # وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرائي بعمله مثلا فقال : { ~~المتشبع بما لا يملك كلابس ثوبي زور } . # يريد بالمتشبع بما لا يملك المتزين بما ليس فيه . # وقوله كلابس ثوبي زور هو الذي يلبس ثياب الصلحاء ، فهو بريائه محروم ~~الأجر ، مذموم الذكر ؛ لأنه لم يقصد وجه الله تعالى فيؤجر عليه ، ولا يخفى ~~رياؤه على الناس ms078 فيحمد به . # قال الله تعالى : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك ~~بعبادة ربه أحدا } . # قال جميع أهل التأويل : معنى قوله { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } أي لا ~~يرائي بعمله أحدا ، فجعل الرياء شركا ؛ لأنه جعل ما يقصد به وجه الله تعالى ~~مقصودا به غير الله تعالى . # وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى ، في قوله تعالى : { ولا تجهر بصلاتك ~~ولا تخافت بها } . # قال : لا تجهر بها رياء ، ولا تخافت بها حياء . # وكان سفيان بن عيينة رحمه الله يتأول قوله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل ~~والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } . # أن العدل استواء السريرة والعلانية في العمل لله تعالى ، والإحسان أن ~~تكون سريرته أحسن من علانيته ، والفحشاء والمنكر أن تكون علانيته أحسن من ~~سريرته . # وكان PageV01P127 غيره يقول : العدل شهادة أن لا إله إلا الله ، والإحسان ~~الصبر على أمره ونهيه وطاعة الله في سره وجهره ، وإيتاء ذي القربى صلة ~~الأرحام ، وينهى عن الفحشاء يعني الزنا ، والمنكر القبائح ، والبغي الكبر ~~والظلم . # وليس يخرج الرياء بالأعمال من هذا التأويل أيضا ؛ لأنه من جملة القبائح . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أخوف ما أخاف على أمتي ~~الرياء الظاهر والشهوة الخفية } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أشد الناس عذابا يوم ~~القيامة من يرى أن فيه خيرا ولا خير فيه } . # وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : لا تعمل شيئا من الخير رياء ولا ~~تتركه حياء . # وقال بعض العلماء : كل حسنة لم يرد بها وجه الله تعالى فعلتها قبح الرياء ~~، وثمرتها سوء الجزاء . # وقد يفضي الرياء بصاحبه إلى استهزاء الناس به كما حكي أن طاهر بن الحسين ~~قال لأبي عبد الله المروزي : منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عبد الله ؟ قال ~~: دخلت العراق منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائم . # فقال : يا أبا عبد الله ، سألتك عن مسألة فأجبت عن مسألتين . # وحكى الأصمعي رحمه الله أن أعرابيا صلى فأطال ms079 وإلى جانبه قوم فقالوا : ما ~~أحسن صلاتك ، فقال : وأنا مع ذلك صائم : صلى فأعجبني وصام فرابني نح القلوص ~~عن المصلي الصائم فانظر إلى هذا الرياء ، مع قبحه ، ما أدله على سخف عقل ~~صاحبه . # وربما ساعد الناس مع ظهور ريائه على الاستهزاء بنفسه ، كالذي حكي أن ~~زاهدا نظر إلى رجل في وجهه PageV01P128 سجادة كبيرة واقفا على باب السلطان ~~فقال : مثل هذا الدرهم بين عينيك وأنت واقف ههنا ؟ فقال : إنه ضرب على غير ~~السكة . # وهذا من أجوبة الخلاعة التي يدفع بها تهجين المذمة . # ولقد استحسن الناس من الأشعث بن قيس قوله ، وقد خفف صلاته مرة ، فقال بعض ~~أهل المسجد : خففت صلاتك جدا . # فقال : إنه لم يخالطها رياء . # فتخلص من تنقيصهم بنفي الرياء عن نفسه ، ورفع التصنع في صلاته . # وقد كان النكار لولا ذلك متوجها عليه واللوم لاحقا به . # ومر أبو أمامة ببعض المساجد فإذا رجل يصلي وهو يبكي فقال له : أنت أنت لو ~~كان هذا في بيتك . # فلم ير ذلك منه حسنا ؛ لأنه اتهمه بالرياء ، ولعله كان بريئا منه ، فكيف ~~بمن صار الرياء أغلب صفاته ، وأشهر سماته ، مع أنه آثم فيما عمل ، أنم من ~~هبوب النسيم بما حمل . # ولذلك قال عبد الله بن المبارك : أفضل الزهد إخفاء الزهد . # وربما أحس ذو الفضل من نفسه ميلا إلى المراءاة ، فبعثه الفضل على هتك ما ~~نازعته النفس من المراءاة فكان ذلك أبلغ في فضله ، كالذي حكي عن عمر بن ~~الخطاب رضي الله عنه أنه أحس على المنبر بريح خرجت منه ، فقال : أيها الناس ~~إني قد مثلت بين أن أخافكم في الله تعالى ، وبين أن أخاف الله فيكم ، فكان ~~أن أخاف الله فيكم أحب إلي ألا وإني قد فسوت ، وها أنا نازل أعيد الوضوء . # فكان ذلك منه زجرا لنفسه لتكف عن نزاعها إلى مثله . # وقال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القرظي : عظني فقال : لا أرضى نفسي ~~لك واعظا ؛ لأني أجلس PageV01P129 بين الغني والفقير فأميل على الفقير ~~وأوسع للغني ، ولأن طاعة الله تعالى في العمل ms080 لوجهه لا لغيره . # وحكي أن قوما أرادوا سفرا فحادوا عن الطريق ، فانتهوا إلى راهب فقالوا : ~~قد ضللنا ، فكيف الطريق ؟ فقال : ههنا وأومأ بيده إلى السماء . # والقسم الثاني : أن يفعل الزيادة اقتداء بغيره . # وهذا قد تثمره مجالسة الأخيار الأفاضل ، وتحدثه مكاثرة الأتقياء الأماثل ~~. # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { المرء على دين خليله فلينظر ~~أحدكم من يخالل } . # فإذا كاثرهم المجالس ، وطاولهم المؤانس ، أحب أن يقتدي بهم في أفعالهم ، ~~ويتأسى بهم في أعمالهم ، ولا يرضى لنفسه أن يقصر عنهم ، ولا أن يكون في ~~الخير دونهم ، فتبعثه المنافسة على مساواتهم ، وربما دعته الحمية إلى ~~الزيادة عليهم والمكاثرة لهم فيصيروا سببا لسعادته ، وباعثا على استزادته . # والعرب تقول : لولا الوئام لهلك الأنام . # أي لولا أن الناس يرى بعضهم بعضا فيقتدي بهم في الخير لهلكوا . # ولذلك قال بعض البلغاء : من خير الاختيار صحبة الأخيار ، ومن شر الاختيار ~~مودة الأشرار . # وهذا صحيح ؛ لأن للمصاحبة تأثيرا في اكتساب الأخلاق ، فتصلح أخلاق المرء ~~بمصاحبة أهل الصلاح وتفسد بمصاحبة أهل الفساد . # ولذلك قال الشاعر : رأيت صلاح المرء يصلح أهله ويعديهم عند الفساد إذا ~~فسد يعظم في الدنيا بفضل صلاحه ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد وأنشدني ~~بعض أهل الأدب لأبي بكر الخوارزمي : لا تصحب الكسلان في حالاته كم صالح ~~PageV01P130 بفساد آخر يفسد عدوى البليد إلى الجليد سريعة والجمر يوضع في ~~الرماع فيخمد والقسم الثالث : أن يفعل الزيادة ابتداء من نفسه التماسا ~~لثوابها ورغبة في الزلفة بها . # فهذا من نتائج النفس الزاكية ، ودواعي الرغبة الوافية ، الدالين على خلوص ~~الدين ، وصحة اليقين ، وذلك أفضل أحوال العاملين ، وأعلى منازل العابدين . # وقد قيل : الناس في الخير أربعة : منهم من يفعله ابتداء ، ومنهم من يفعله ~~اقتداء ، ومنهم من يتركه استحسانا ، ومنهم من يتركه حرمانا . # فمن فعله ابتداء فهو كريم ، ومن فعله اقتداء فهو حكيم ، ومن تركه ~~استحسانا فهو رديء ، ومن تركه حرمانا فهو شقي . # ثم لما يفعله من الزيادة حالتان : إحداهما : أن يكون مقتصدا فيها ، ~~وقادرا على الدوام عليها . # فهي أفضل الحالتين ، وأعلى المنزلتين ms081 . # عليها انقرض أخيار السلف ، وتتبعهم فيها فضلاء الخلف . # وقد روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أيها ~~الناس افعلوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا ~~من العمل ، وخير الأعمال ما ديم عليه } . # والعرب تقول : القصد والدوام وأنت السابق الجواد . # ولأن من كان صحيح الرغبة في ثواب الله تعالى لم يكن له مسرة إلا في طاعته ~~. # وقال عبد الله بن المبارك : قلت لراهب : متى عيدكم ؟ قال : كل يوم لا ~~أعصي الله فيه فهو يوم عيد . # انظر إلى هذا القول منه وإن لم يكن من مقاصد الطاعة ما أبلغه في حب ~~الطاعة ، وأحثه على بذل الاستطاعة . # وخرج بعض الزهاد في PageV01P131 يوم عيد في هيئة رثة فقيل له : لم تخرج ~~في مثل هذا اليوم في مثل هذه الهيئة الناس متزينون ؟ فقال : ما يتزين لله ~~تعالى بمثل طاعته . # والحالة الثانية : أن يستكثر منها استكثار من لا ينهض بدوامها ، ولا يقدر ~~على اتصالها . # فهذا ربما كان بالمقصر أشبه ؛ لأن الاستكثار من الزيادة إما أن يمنع من ~~أداء اللازم فلا يكون إلا تقصيرا ؛ لأنه تطوع بزيادة أحدثت نقصا ، وبنفل ~~منع فرضا . # وإما أن يعجز عن استدامة الزيادة ويمنع من ملازمة الاستكثار من غير إخلال ~~بلازم ولا تقصير في فرض . # فهي إذا قصيرة المدى قليلة اللبث ، والقليل العمل في طويل الزمان أفضل ~~عند الله - عز وجل - من كثير العمل في قصير الزمان ؛ لأن المستكثر من العمل ~~في الزمان القصير قد يعمل زمانا ويترك زمانا فربما صار في زمان تركه لاهيا ~~أو ساهيا . # والمقلل في الزمان الطويل مستيقظ الأفكار ، مستديم التذكار . # وقد روى أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ~~أنه قال : { إن الإسلام شرة وللشرة فترة فمن سدد وقارب فأرجوه ، ومن أشير ~~إليه بالأصابع فلا تعدوه } . # فجعل الإسلام شرة وهي الإيغال في الإكثار ، وجعل للشرة فترة وهي الإهمال ~~بعد الاستكثار . # فلم يخل بما أثبت من أن تكون هذه الزيادة ms082 تقصيرا أو إخلالا ولا خير في ~~واحد منهما . PageV01P132 واعلم - جعل الله العلم حاكما لك وعليك ، والحق ~~قائدا لك وإليك - أن الدنيا إذا وصلت فتبعات موبقة ، وإذا فارقت ففجعات ~~محرقة . # وليس لوصلها دوام ولا من فراقها بد ، فرض نفسك على قطيعتها لتسلم من ~~تبعاتها ، وعلى فراقها لتأمن فجعاتها . # فقد قيل : المرء مقترض من عمره المنقرض . # مع أن العمر وإن طال قصير ، والفراغ وإن تم يسير . # وأنشدت لعلي بن محمد رحمه الله تعالى : إذا كملت للمرء ستون حجة فلم يحظ ~~من ستين إلا بسدسها ألم تر أن النصف بالليل حاصل وتذهب أوقات المقيل بخمسها ~~فتأخذ أوقات الهموم بحصة وأوقات أوجاع تميت بمسنها فحاصل ما يبقى له سدس ~~عمره إذا صدقته النفس عن علم حدسها ورياضة نفسك ، لذلك ، تترتب على أحوال ~~ثلاث ، وكل حالة منها تتشعب ، وهي لتسهيل ما يليها سبب . # فالحالة الأولى : أن تصرف حب الدنيا عن قلبك فإنها تلهيك عن آخرتك ، ولا ~~تجعل سعيك لها فتمنعك حظك منها ، وتوق الركون إليها ، ولا تكن آمنا لها . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أشرب قلبه حب الدنيا ~~وركن إليها التاط منها بشغل لا يفرغ عناه ، وأمل لا يبلغ منتهاه ، وحرص لا ~~يدرك مداه . # وقال عيسى ابن مريم - على نبينا وعليه السلام - : الدنيا لإبليس مزرعة ~~وأهلها له حراث وقال علي بن أبي طالب : مثل الدنيا مثل الحية لين مسها قاتل ~~سمها ، فأعرض عما أعجبك منها لقلة ما يصحبك منها ، وضع عنك همومها لما ~~أيقنت من فراقها ، وكن أحذر ما تكون لها وأنت آنس ما تكون بها PageV01P133 ~~، فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصه عنها مكروه ، وإن سكن منها ~~إلى إيناس أزاله عنها إيحاش وقال بعض البلغاء : الدنيا لا تصفو لشارب ، ولا ~~تبقى لصاحب ، ولا تخلو من فتنة ، ولا تخلي محنة ، فأعرض عنها قبل أن تعرض ~~عنك ، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك ، فإن نعيمها يتنقل ، وأحوالها تتبدل ، ~~ولذاتها تفنى ، وتبعاتها تبقى . # وقال بعض الحكماء : انظر إلى الدنيا نظر ms083 الزاهد المفارق لها ، ولا ~~تتأملها تأمل العاشق الوامق بها . # وقال بعض الشعراء : ألا إنما الدنيا كأحلام نائم وما خير عيش لا يكون ~~بدائم تأمل إذا ما نلت بالأمس لذة فأفنيتها هل أنت إلا كحالم فكم غافل عنه ~~وليس بغافل وكم نائم عنه وليس بنائم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ~~قال : { من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها ، ولا ينال ما عنده إلا ~~بتركها } . # وروى سفيان أن الخضر قال لموسى عليهما السلام : يا موسى أعرض عن الدنيا ~~وانبذها وراءك فإنها ليست لك بدار ، ولا فيها محل قرار ، وإنما جعلت الدنيا ~~للعباد ؛ ليتزودوا منها للمعاد . # وقال عيسى ابن مريم عليه السلام : الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها . # وقال علي كرم الله وجهه يصف الدنيا : أولها عناء ، وآخرها فناء ، حلالها ~~حساب ، وحرامها عقاب ، من صح فيها أمن ومن مرض فيها ندم ، ومن استغنى فيها ~~فتن ، ومن افتقر فيها حزن ، ومن ساعاها فاتته ، ومن قعد عنها أتته ، ومن ~~نظر إليها أعمته ، ومن نظر بها بصرته . # وقال بعض البلغاء : إن الدنيا تقبل PageV01P134 إقبال الطالب ، وتدبر ~~إدبار الهارب ، وتصل وصال الملول ، وتفارق فراق العجول ، فخيرها يسير ، ~~وعيشها قصير ، وإقبالها خديعة ، وإدبارها فجيعة ، ولذاتها فانية ، وتبعاتها ~~باقية ، فاغتنم غفوة الزمان ، وانتهز فرصة الإمكان ، وخذ من نفسك لنفسك ، ~~وتزود من يومك لغدك . # وقال وهب بن منبه : مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت ~~الأخرى . # وقال عبد الحميد : الدنيا منازل ، فراحل ونازل . # وقال بعض الحكماء : الدنيا إما نقمة نازلة ، وإما نعمة زائلة . # وقيل في منثور الحكم : من الدنيا على الدنيا دليل . # وقال الشاعر : تمتع من الأيام إن كنت حازما فإنك منها بين ناه وآمر إذا ~~أبقت الدنيا على المرء دينه فما فاته منها فليس بضائر فلن تعدل الدنيا جناح ~~بعوضة ولا وزن ذر من جناح لطائر فما رضي الدنيا ثوابا لمؤمن ولا رضي الدنيا ~~جزاء لكافر وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الدنيا يومان : ~~يوم فرح ويوم هم ، وكلاهما زائل ms084 عنك فدعوا ما يزول ، وأتعبوا نفوسكم في ~~العمل لما لا يزول } . # وقال عيسى ابن مريم عليه السلام : لا تنازعوا أهل الدنيا في دنياهم ~~فينازعوكم في دينكم ، فلا دنياهم أصبتم ، ولا دينكم أبقيتم . # وقال علي بن أبي طالب : لا تكن ممن يقول في الدنيا بقول الزاهدين ، ويعمل ~~فيها عمل الراغبين ، فإن أعطي منها لم يشبع ، وإن منع منها لم يقنع . # يعجز عن شكر ما أوتي ، ويبتغي الزيادة فيما بقي ، وينهى الناس ولا ينتهي ~~، ويأمر بما لا يأتي . # يحب الصالحين ولا يعمل PageV01P135 بعملهم ، ويبغض الطالحين وهو منهم . # وقال الحسن البصري : الدنيا كلها غم فما كان منها من سرور فهو ريح . # وقال بعض العلماء : إن الدنيا كثيرة التغيير ، سريعة التنكير ، شديدة ~~المكر ، دائمة الغدر ، فاقطع أسباب الهوى عن قلبك ، واجعل أبعد أملك بقية ~~يومك ، وكن كأنك ترى ثواب أعمالك وقال بعض الحكماء : الدنيا إما مصيبة ~~موجعة ، وإما منية مفجعة ، وقال الشاعر : خل دنياك إنها يعقب الخير شرها هي ~~أم تعق من نسلها من يبرها كل نفس فإنها تبتغي ما يسرها والمنايا تسوقها ~~والأماني تغرها فإذا استحلت الجنى أعقب الحلو مرها يستوي في ضريحه عبد أرض ~~وحرها فإذا رضت نفسك من هذه الحالة بما وصفت اعتضت منها بثلاث خلال : ~~إحداهن : أن تكفي إشفاق المحب وحذر الوامق فليس لمشفق ثقة ، ولا لحاذر راحة ~~. # والثانية : أن تأمن الاغترار بملاهيها فتسلم من عادية دواهيها ، فإن ~~اللاهي بها مغرور ، والمغرور فيها مذعور . # والثالثة : أن تستريح من تعب السعي لها ، ووصب الكد فيها ، فإن من أحب ~~شيئا طلبه ، ومن طلب شيئا كد له ، والمكدود فيها شقي إن ظفر ومحروم إن خاب ~~. # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لكعب : { يا كعب ، الناس ~~غاديان : فغاد بنفسه فمعتقها ، وموبق نفسه فموثقها } . # وقال عيسى ابن مريم عليهما السلام : تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها ~~بغير عمل ، ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بعمل . # وقال بعض البلغاء : من نكد الدنيا أن لا تبقى على حالة ، ولا تخلو من ~~PageV01P136 استحالة ، تصلح ms085 جانبا بإفساد جانب ، وتسر صاحبا بمساءة صاحب ، ~~فالركون إليها خطر ، والثقة بها غرر . # وقال بعض الحكماء : الدنيا مرتجعة الهبة والدهر حسود لا يأتي على شيء إلا ~~غيره ولمن عاش حاجة لا تنقضي . # ولما بلغ مزدك من الدنيا أفضل ما سمت إليه نفسه نبذها وقال : هذا سرور ، ~~لولا أنه غرور ، ونعيم ، لولا أنه عديم ، وملك ، لولا أنه هلك ، وغناء ، ~~لولا أنه فناء ، وجسيم ، لولا أنه ذميم ، ومحمود ، لولا أنه مفقود ، وغنى ، ~~لولا أنه منى ، وارتفاع ، لولا أنه اتضاع ، وعلاء ، لولا أنه بلاء ، وحسن ، ~~لولا أنه حزن ، وهو يوم لو وثق له بغد . # وقال بعض الحكماء : قد ملك الدنيا غير واحد ، من راغب وزاهد ، فلا الراغب ~~فيها استبقت ، ولا عن الزاهد فيها كفت . # وقال أبو العتاهية : هي الدار دار الأذى والقذى ودار الفناء ودار الغير ~~فلو نلتها بحذافيرها لمت ولم تقض منها الوطر أيا من يؤمل طول الخلود وطول ~~الخلود عليه ضرر إذا ما كبرت وبان الشباب فلا خير في العيش بعد الكبر وروي ~~عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ~~، ونفس لا تشبع ، وقلب لا يخشع ، وعين لا تدمع . # هل يتوقع أحدكم إلا غنى مطغيا أو فقرا منسيا ، أو مرضا مفسدا أو هرما ~~مقيدا ، أو الدجال فهو شر غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر } . # وحكي أن الله تعالى أوحى إلى عيسى ابن مريم عليه السلام أن هب لي من قلبك ~~الخشوع ، ومن بدنك الخضوع ، ومن عينك الدموع ، فإني قريب . # وقال عيسى ابن PageV01P137 مريم عليه السلام أوحى الله إلى الدنيا : من ~~خدمني فاخدميه ، ومن خدمك فاستخدميه . # وقال بعض البلغاء : زد من طول أملك في قصير عملك ، فإن الدنيا ظل الغمام ~~، وحلم النيام ، فمن عرفها ثم طلبها فقد أخطأ الطريق ، وحرم التوفيق . # وقال بعض الحكماء : لا يؤمننك إقبال الدنيا عليك من إدبارها عنك ، ولا ~~دولة لك من إذالة منك . # وقال آخر : ما مضى من الدنيا كما لم يكن ، وما بقي منها كما قد ms086 مضى . # وقيل لزاهد : قد خلعت الدنيا فكيف سخت نفسك عنها ؟ فقال : أيقنت أني أخرج ~~منها كارها ، فرأيت أن أخرج منها طائعا . # وقيل لحرقة بنت النعمان : ما لك تبكين ؟ فقالت : رأيت لأهلي غضارة ، ولن ~~تمتلئ دار فرحا ، إلا امتلأت ترحا . # وقال ابن السماك : من جرعته الدنيا حلاوتها بميله إليها ، جرعته الآخرة ~~مرارتها لتجافيه عنها . # وقال صاحب كليلة ودمنة : طالب الدنيا كشارب ماء البحر كلما ازداد شربا ~~ازداد عطشا . # وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل بهذه الأبيات : نهارك يا مغرور سهو وغفلة ~~وليلك نوم والأسى لك لازم تسر بما يفنى وتفرح بالمنى كما سر باللذات في ~~النوم حالم وشغلك فيما سوف تكره غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم وسمع رجل ~~رجلا يقول لصاحبه : لا أراك الله مكروها ، فقال : كأنك دعوت على صاحبك ~~بالموت ، إن صاحبك ما صاحب الدنيا فلا بد أن يرى مكروها . # وقال أبو العتاهية : إن الزمان ولو يلين لأهله لمخاشن خطواته المتحركات ~~كأنهن سواكن . PageV01P138 والحال الثانية : من أحوال رياضتك لها أن تصدق ~~نفسك فيما منحتك من رغائبها ، وأنالتك من غرائبها فتعلم أن العطية فيها ~~مرتجعة ، والمنحة فيها مستردة ، بعد أن تبقي عليك ما احتقنت من أوزار ~~وصولها إليك ، وخسران خروجها عنك . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تزول قدما ابن آدم ~~حتى يسأل عن ثلاث : شبابه فيما أبلاه ، وعمره فيما أفناه ، وماله من أين ~~اكتسبه وفيم أنفقه } . # وروي عن عيسى ابن مريم عليه السلام ، أنه قال : في المال ثلاث خصال . # قالوا : وما هن يا روح الله ؟ قال : يكسبه من غير حله . # قالوا : فإن كسبه من حله ؟ قال : يضعه في غير حقه . # قالوا : فإن وضعه في حقه ؟ قال : يشغله عن عبادة ربه . # ودخل أبو حازم على بشر بن مروان فقال : يا أبا حازم ما المخرج مما نحن ~~فيه ؟ قال : تنظر ما عندك فلا تضعه إلا في حقه ، وما ليس عندك فلا تأخذه ~~إلا بحقه . # قال : ومن يطيق هذا يا أبا حازم ؟ قال : فمن أجل ذلك ملئت ms087 جهنم من الجنة ~~والناس أجمعين . # وعيرت اليهود عيسى ابن مريم عليه السلام بالفقر فقال : من الغنى دهيتم . # ودخل قوم منزل عابد فلم يجدوا شيئا يقعدون عليه فقال : لو كانت الدنيا ~~دار مقام لاتخذنا لها أثاثا . # وقيل لبعض الزهاد : ألا توصي ؟ قال : بماذا أوصي والله ما لنا شيء ، ولا ~~لنا عند أحد شيء ، ولا لأحد عندنا شيء . # انظر إلى هذه الراحة كيف تعجلها وإلى السلامة كيف صار إليها . # ولذلك قيل : الفقر ملك ليس فيه محاسبة . # وقيل لعيسى ابن مريم عليهما السلام : ألا PageV01P139 تتزوج ؟ فقال : ~~إنما نحب التكاثر في دار البقاء . # وقيل : لو دعوت الله تعالى أن يرزقك حمارا ؟ فقال : أنا أكرم على الله من ~~أن يجعلني خادم حمار . # وقيل لأبي حازم رضي الله عنه : ما مالك ؟ قال : شيئان : الرضى عن الله ، ~~والغنى عن الناس . # وقيل له : إنك لمسكين . # فقال : كيف أكون مسكينا ومولاي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما ~~وما تحت الثرى . # وقال بعض الحكماء : رب مغبوط بمسرة هي داؤه ، ومرحوم من سقم هو شفاؤه . # وقال بعض الأدباء : الناس أشتات ولكل جمع شتات . # وقال بعض البلغاء : الزهد بصحة اليقين ، وصحة اليقين بنور الدين ، فمن صح ~~يقينه زهد في الثراء ، ومن قوي دينه أيقن بالجزاء ، فلا تغرنك صحة نفسك ، ~~وسلامة أمسك ، فمدة العمر قليلة ، وصحة النفس مستحيلة . # وقال بعض الشعراء : رب مغروس يعاش به عدمته عين مغترسه وكذاك الدهر مأتمه ~~أقرب الأشياء من عرسه فإذا رضت نفسك من هذه الحال بما وصفت اعتضت منها ثلاث ~~خلال : إحداهن : نصح نفسك وقد استسلمت إليك ، والنظر لها وقد اعتمدت عليك ، ~~فإن غاش نفسه مغبون ، والمنحرف عنها مأفون . # والثانية : الزهد فيما ليس لك لتكفى تكلف طلبه وتسلم من تبعات كسبه . # والثالثة : انتهاز الفرصة في مالك أن تضعه في حقه ، وأن تؤتيه لمستحقه ، ~~ليكون لك ذخرا ، ولا يكون عليك وزرا . # فقد روي { أن رجلا قال : يا رسول الله إني أكره الموت . # قال : ألك مال ؟ قال : نعم . # قال : قدم مالك فإن قلب المؤمن عند ماله ms088 } . # وقالت عائشة رضي الله عنها : { ذبحنا PageV01P140 شاة فتصدقنا بها . # فقلت : يا رسول الله ما بقي إلا كتفها . # قال : كلها بقي إلا كتفها } . # وحكي أن عبد الله بن عبيد الله بن عتبة بن مسعود باع دارا بثمانين ألف ~~درهم فقيل له : اتخذ لولدك من هذا المال ذخرا . # فقال : أنا أجعل هذا المال ذخرا لي عند الله عز وجل وأجعل الله ذخرا ~~لولدي ، وتصدق بها . # وعوتب سهل بن عبد الله المروزي في كثرة الصدقة فقال : لو أن رجلا أراد أن ~~ينتقل من دار إلى دار أكان يبقي في الأولى شيئا ، وقال سليمان بن عبد الملك ~~لأبي حازم : ما لنا نكره الموت ؟ قال : لأنكم أخربتم آخرتكم ، وعمرتم ~~دنياكم ، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب . # وقيل لعبد الله بن عمر : ترك زيد بن خارجة مائة ألف درهم ، فقال : لكنها ~~لا تتركه . # وقال الحسن البصري رحمه الله : ما أنعم الله على عبد نعمة إلا وعليه فيها ~~تبعة إلا سليمان بن داود عليه السلام فإن الله تعالى قال له : { هذا عطاؤنا ~~فامنن أو أمسك بغير حساب } . # وقال أبو حازم : إن عوفينا من شر ما أعطينا لم يضرنا فقد ما زوي عنا . # وقال بعض السلف : قدموا كلا ليكون لكم ، ولا تخلفوا كلا فيكون عليكم . # وقال إبراهيم : نعم القوم السؤال يدقون أبوابكم يقولون أتوجهون للآخرة ~~شيئا . # وقال سعيد بن المسيب : مر بي صلة بن أشيم فما تمالكت أن نهضت إليه فقلت : ~~يا أبا الصهباء ، ادع لي . # فقال : رغبك الله فيما يبقى ، وزهدك فيما يفنى ، ووهب لك اليقين الذي لا ~~تسكن النفس إلا إليه ، ولا يعول في الدين إلا عليه . # ولما ثقل PageV01P141 عبد الملك بن مروان رأى غسالا يلوي بيده ثوبا فقال ~~: وددت أني كنت غسالا لا أعيش إلا بما أكتسبه يوما فيوما . # فبلغ ذلك أبا حازم فقال : الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن ~~فيه ، ولا نتمنى نحن عنده ما هم فيه . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يقول ابن آدم مالي ms089 مالي . # وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت ، أو أعطيت ~~فأمضيت } . # وقال خالد بن صفوان : بت ليلتي أتمنى فكسبت البحر الأخضر والذهب الأحمر ، ~~فإذا يكفيني من ذلك رغيفان وكوزان وطمران . # وقال مورق العجلي : يا ابن آدم تؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن ، وينقص عمرك ~~وأنت لا تحزن ، تطلب ما يطغيك وعندك ما يكفيك . # وقال أبو حازم : إنما بيننا وبين الملوك يوم واحد . # أما أمس فقد مضى فلا يجدون لذته . # وإنا وهم من غد على وجل ، وإنما هو اليوم فما عسى أن يكون . # وقال بعض السلف : تعز عن الشيء إذا منعته لقلة ما يصحبك إذا أعطيته . # وقال بعض الحكماء : من ترك نصيبه من الدنيا استوفى حظه من الآخرة . # وقال آخر : ترك التلبس بالدنيا قبل التشبث بها أهون من رفضها بعد ~~ملابستها . # وقال آخر : ليكن طلبك للدنيا اضطرارا ، وتذكرك في الأمور اعتبارا ، وسعيك ~~لمعادك ابتدارا . # وقال آخر : الزاهد لا يطلب المفقود حتى يفقد الموجود . # وقال آخر : من آمن بالآخرة لم يحرص على الدنيا ، ومن أيقن بالمجازاة لم ~~يؤثر على الحسنى . # وقال آخر : من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر . # وقال أبو العتاهية : PageV01P142 أرى الدنيا لمن هي في يديه عذابا كلما ~~كثرت لديه تهين المكرمين لها بصغر وتكرم كل من هانت عليه إذا استغنيت عن ~~شيء فدعه وخذ ما أنت محتاج إليه وحكى الأصمعي رحمه الله قال : دخلت على ~~الرشيد - رحمة الله عليه - يوما وهو ينظر في كتاب ودموعه تسيل على خده . # فلما أبصرني قال : أرأيت ما كان مني ؟ قلت : نعم يا أمير المؤمنين . # فقال : أما إنه لو كان لأمر الدنيا ما كان هذا . # ثم رمى إلي بالقرطاس فإذا فيه شعر أبي العتاهية رحمه الله تعالى : هل أنت ~~معتبر بمن خربت منه غداة قضى دساكره وبمن أذل الدهر مصرعه فتبرأت منه ~~عساكره وبمن خلت منه أسرته وتعطلت منه منابره أين الملوك وأين عزهم صاروا ~~مصيرا أنت صائره يا مؤثر الدنيا للذته والمستعد لمن يفاخره نل ms090 ما بدا لك أن ~~تنال من الد نيا فإن الموت آخره فقال الرشيد - رحمة الله عليه - : والله ~~لكأني أخاطب بهذا الشعر دون الناس ، فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا حتى مات ~~رحمه الله . PageV01P143 ثم الحالة الثالثة : من أحوال رياضتك لها أن تكشف ~~لنفسك حال أجلك ، وتصرفها عن غرور أملك حتى لا يطيل لك الأمل أجلا قصيرا ، ~~ولا ينسيك موتا ولا نشورا . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعض خطبه : { أيها الناس إن ~~الأيام تطوى ، والأعمار تفنى ، والأبدان تبلى ، وإن الليل والنهار يتراكضان ~~كتراكض البريد ، يقربان كل بعيد ، ويخلقان كل جديد ، وفي ذلك عباد الله ما ~~ألهى عن الشهوات ، ورغب في الباقيات الصالحات } . # وقال مسعر كم من مستقبل يوما وليس يستكمله ، ومنتظر غدا وليس من أجله . # ولو رأيتم الأجل ومسيره ، لأبغضتم الأمل وغروره . # وقال رجل من الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم : { من أكيس الناس ؟ قال : ~~أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعدادا له . # أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة } . # وقال عيسى ابن مريم عليه السلام : كما تنامون كذلك تموتون ، وكما ~~تستيقظون كذلك تبعثون . # وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : أيها الناس اتقوا الله الذي إن ~~قلتم سمع ، وإن أضمرتم علم ، وبادروا الموت الذي إن هربتم أدرككم ، وإن ~~أقمتم أخذكم . # وقال العلاء بن المسيب : ليس قبل الموت شيء إلا والموت أشد منه ، وليس ~~بعد الموت شيء إلا الموت أيسر منه . # وقال بعض الحكماء : إن للباقي بالماضي معتبرا ، وللآخر بالأول مزدجرا ، ~~والسعيد لا يركن إلى الخدع ، ولا يغتر بالطمع . # وقال بعض الصلحاء : إن بقاءك إلى فناء ، وفناءك إلى بقاء ، فخذ من فنائك ~~الذي لا يبقى ؛ PageV01P144 لبقائك الذي لا يفنى . # وقال بعض العلماء : أي عيش يطيب ، وليس للموت طبيب . # وقال بعض البلغاء : كل امرئ يجري من عمره إلى غاية تنتهي إليها مدة أجله ~~، وتنطوي عليها صحيفة عمله ، فخذ من نفسك لنفسك ، وقس يومك بأمسك ، وكف عن ~~سيئاتك ، وزد في حسناتك قبل أن تستوفي مدة الأجل وتقصر عن الزيادة ms091 في السعي ~~والعمل . # وقيل في منثور الحكم : من لم يتعرض للنوائب تعرضت له . # وقال أبو العتاهية : ما للمقابر لا تجيب إذا دعاهن الكئيب حفر مسقفة ~~عليهن الجنادل والكثيب فيهن ولدان وأطفال وشبان وشيب كم من حبيب لم تكن ~~نفسي بفرقته تطيب غادرته في بعضهن مجندلا وهو الحبيب وسلوت عنه وإنما عهدي ~~برؤيته قريب ووعظ النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فقال : { أقلل من الدنيا ~~تعش حرا ، وأقلل من الذنوب يهن عليك الموت ، وانظر حيث تضع ولدك فإن العرق ~~دساس } . # وقال الرشيد لابن السماك - رحمهما الله تعالى - : عظني وأوجز . # فقال : اعلم أنك أول خليفة يموت . # وعزى أعرابي رجلا عن ابن صغير له فقال : الحمد لله الذي نجاه مما ههنا من ~~الكدر ، وخلصه مما بين يديه من الخطر . # وقال بعض السلف : من عمل للآخرة أحرزها والدنيا ، ومن آثر الدنيا حرمها ~~والآخرة . # وقال بعض الصلحاء : استغنم تنفس الأجل ، وإمكان العمل ، واقطع ذكر ~~المعاذير والعلل ، فإنك في أجل محدود ، ونفس معدوم ، وعمر غير ممدود . # وقال بعض الحكماء : الطبيب معذور ، إذا لم يقدر على دفع المحذور . # وقال بعض البلغاء : اعمل عمل PageV01P145 المرتحل فإن حادي الموت يحدوك ، ~~ليوم ليس يعدوك . # وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : بعد وفاة رسول الله صلى ~~الله عليه وسلم : غر جهولا أمله يموت من جا أجله ومن دنا من حتفه لم تغن ~~عنه حيله وما بقاء آخر قد غاب عنه أوله والمرء لا يصحبه في القبر إلا عمله ~~وقال أبو العتاهية : لا تأمن الموت في لحظ ولا نفس وإن تمنعت بالحجاب ~~والحرس واعلم بأن سهام الموت قاصدة لكل مدرع منها ومترس ترجو النجاة ولم ~~تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس فإذا رضت نفسك من هذه الحالة ~~بما وصفت اعتضت منها ثلاث خلال : إحداها : أن تكفى تسويف أمل يرديك ، ~~وتسويل محال يؤذيك . # فإن تسويف الأمل غرار ، وتسويل المحال ضرار . # والثانية : أن تستيقظ لعمل آخرتك ، وتغتنم بقية أجلك بخير عملك . # فإن من قصر أمله ، واستقل أجله ms092 ، حسن عمله . # والثالثة : أن يهون عليك نزول ما ليس عنه محيص ، ويسهل عليك حلول ما ليس ~~إلى دفعه سبيل . # فإن من تحقق أمرا توطأ لحلوله ، فهان عليه عند نزوله . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر : { نبه بالتفكر قلبك ~~، وجاف عن النوم جنبك ، واتق الله ربك } . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي ذر رضي الله عنه : عظني . # فقال : ارض بالقوت وخف من الفوت ، واجعل صومك الدنيا وفطرك الموت . # وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : ما رأيت يقينا لا شك فيه ، أشبه ~~بشك لا يقين فيه ، من يقين نحن فيه . # فلئن كنا مقرين إنا لحمقى ، ولئن PageV01P146 كنا جاحدين إنا لهلكى . # وقال الحسن البصري - رحمة الله عليه - : نهارك ضيفك فأحسن إليه فإنك إن ~~أحسنت إليه ارتحل بحمدك ، وإن أسأت إليه ارتحل بذمك ، وكذلك ليلك . # وقال الجاحظ ، في كتاب البيان وجد مكتوبا في حجر : يا ابن آدم لو رأيت ~~يسير ما بقي من أجلك ، لزهدت في طويل ما ترجو من أملك ، ولرغبت في الزيادة ~~من عملك ، ولقصرت من حرصك وحيلك ، وإنما يلقاك غدا ندمك ، لو قد زلت بك ~~قدمك ، وأسلمك أهلك وحشمك ، وتبرأ منك القريب ، وانصرف عنك الحبيب . # ولما حضر بشر بن منصور الموت فرح ، فقيل له : أتفرح بالموت ؟ فقال : ~~أتجعلون قدومي على خالق أرجوه كمقامي مع مخلوق أخافه ؟ وقيل لأبي بكر ~~الصديق رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه : لو أرسلت إلى الطبيب ؟ فقال : ~~قد رآني . # قالوا : فما قال لك ؟ قال : قال : إني فعال لما أريد . # وقيل للربيع بن خثيم ، وقد اعتل : ندعو لك بالطبيب ؟ قال : قد أردت ذلك ~~فذكرت عادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وعلمت أنه كان فيهم ~~الداء والمداوي فهلكوا جميعا . # وسأل أنوشروان : متى يكون عيش الدنيا ألذ ؟ قال : إذا كان الذي ينبغي أن ~~يعمله في حياته معمولا . # وقال بعض الحكماء : من ذكر المنية نسي الأمنية . # وقال بعض الأدباء : عن الموت تسل ، وهو كريشة تسل ، وقال بعض البلغاء ms093 : ~~الأمل حجاب الأجل . # وأنشد بعض أهل الأدب ما ذكر أنه لعلي رضي الله عنه : ولو أنا إذا متنا ~~تركنا لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعد ذا عن كل شي ~~وقال بعض PageV01P147 الشعراء : ألا إنما الدنيا مقيل لراكب قضى وطرا من ~~منزل ثم هجرا وراح ولا يدري علام قدومه ألا كل ما قدمت تلقى موفرا وروى ~~سعيد بن مسعود رضي الله عنه أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال : { يا رسول ~~الله أوصني . # فقال صلى الله عليه وسلم : اكسب طيبا ، واعمل صالحا ، واسأل الله تعالى ~~رزق يوم بيوم ، واعدد نفسك من الموتى } . # وكتب الربيع بن خيثم إلى أخ له : قدم جهازك ، وافرغ من زادك ، وكن وصي ~~نفسك والسلام . # وقال بعض السلف : أصاب الدنيا من حذرها ، وأصابت الدنيا من أمنها . # ومر محمد بن واسع - رحمة الله عليه - بقوم فقيل : هؤلاء زهاد . # فقال : ما قدر الدنيا حتى يحمد من زهد فيها . # وقال بعض الحكماء : السعيد من اعتبر بأمسه ، واستظهر لنفسه ، والشقي من ~~جمع لغيره وبخل على نفسه . # وقال بعض البلغاء : لا تبت عن غير وصية إن كنت من جسمك في صحة ، ومن عمرك ~~في فسحة ، فإن الدهر خائن ، وكل ما هو كائن كائن . # وقال بعض الشعراء : من كان يعلم أن الموت مدركه والقبر مسكنه والبعث ~~مخرجه وأنه بين جنات ستبهجه يوم القيامة أو نار ستنضجه فكل شيء سوى التقوى ~~به سمج وما أقام عليه منه أسمجه ترى الذي اتخذ الدنيا له وطنا لم يدر أن ~~المنايا سوف تزعجه وروى جعفر بن محمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ~~عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال في بعض خطبه : { أيها الناس إن لكم ~~نهاية فانتهوا إلى نهايتكم ، وإن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم ، وإن ~~المؤمن بين مخافتين : PageV01P148 أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه ، ~~وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه . # فليتزود العبد من نفسه لنفسه ، ومن دنياه لآخرته ، ومن الحياة قبل ms094 الموت ~~، فإن الدنيا خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة . # فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا دار ، إلا ~~الجنة أو النار } . # وقال الحسن البصري - رحمة الله عليه - : أمس أجل ، واليوم عمل ، وغدا أمل ~~. # فأخذ أبو العتاهية هذا المعنى فنظمه شعرا : ليس فيما مضى ولا في الذي ~~يأتيك من لذة لمستحليها إنما أنت طول عمرك ما عمرت في الساعة التي أنت فيها ~~علل النفس بالكفاف وإلا طلبت منك فوق ما يكفيها وقيل لزاهد : ما لك تمشي ~~على العصا ولست بكبير ولا مريض ؟ فقال : إني أعلم أني مسافر وأنها دار بلغة ~~وإن العصا من آلة السفر . # فأخذه بعض الشعراء فقال : حملت العصا لا الضعف أوجب حملها علي ولا أني ~~تحنيت من كبر ولكنني ألزمت نفسي حملها لأعلمها أني مقيم على سفر وقال بعض ~~المتصوفة : الدنيا ساعة ، فاجعلها طاعة . # وقال ذو القرنين رضي الله عنه : رتعنا في الدنيا جاهلين ، وعشنا فيها ~~غافلين ، وأخرجنا منها كارهين . # وقال عبد الحميد : المرء أسير عمر يسير . # وقيل في بعض المواعظ : عجبا لمن يخاف العقاب كيف لا يكف عن المعاصي ، ~~وعجبا لمن يرجو الثواب كيف لا يعمل . # وقال بعض الحكماء : المسيء ميت وإن كان في دار الحياة ، والمحسن حي وإن ~~كان في دار الأموات ، وكل بالأثر يومه أو غده . # وقال بعض السلف : الله المستعان على ألسنة PageV01P149 تصف ، وقلوب تعرف ~~، وأعمال تخالف . # وقال آخر : الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما . # وقال آخر : اعملوا لآخرتكم في هذه الأيام التي تسير ، كأنها تطير . # وقال آخر : الموت قصاراك ، فخذ من دنياك لأخراك . # وقال آخر : عباد الله ، الحذر الحذر ، فوالله لقد ستر ، حتى كأنه قد غفر ~~، ولقد أمهل ، حتى كأنه قد أهمل . # وقال آخر : الأيام صحائف أعمالكم ، فخلدوها أجمل أفعالكم . # وقيل في منثور الحكم : اقبل نصح المشيب وإن عجل . # وقيل : ما طلعت شمس ، إلا وعظت بأمس . # وقال محمد بن بشير رحمه الله : مضى أمسك الأدنى شهيدا معدلا ويومك هذا ~~بالفعال شهيد فإن تك بالأمس اقترفت إساءة فثن بإحسان وأنت ms095 حميد ولا ترج فعل ~~الخير منك إلى غد لعل غدا يأتي وأنت فقيد وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن ~~النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما رأيت مثل الجنة نام طالبها ، وما ~~رأيت مثل النار نام هاربها } . # وقال عيسى ابن مريم عليهما السلام : ألا إن أولياء الله الذين لا خوف ~~عليهم ولا هم يحزنون الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها ~~، وإلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها ، فأماتوا منها ما خشوا أن ~~يميت قلوبهم ، وتركوا منها ما علموا أنه سيتركهم . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الناس طالبان يطلبان : فطالب يطلب ~~الدنيا فارفضوها في نحره فإنه ربما أدرك الذي يطلبه منها فهلك بما أصاب ~~منها ، وطالب يطلب الآخرة فإذا رأيتم طالبا يطلب الآخرة فنافسوه فيها . # ودخل أبو الدرداء رضي الله PageV01P150 عنه الشام فقال : يا أهل الشام ~~اسمعوا قول أخ ناصح ، فاجتمعوا عليه فقال : ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون ~~، وتجمعون ما لا تأكلون . # إن الذين كانوا قبلكم بنوا مشيدا ، وأملوا بعيدا ، وجمعوا كثيرا فأصبح ~~أملهم غرورا ، وجمعهم ثبورا ، ومساكنهم قبورا . # وقال أبو حازم : إن الدنيا غرت أقواما فعملوا فيها بغير الحق فعاجلهم ~~الموت فخلفوا مالهم لمن لا يحمدهم وصاروا لمن لا يعذرهم ، وقد خلقنا بعدهم ~~فينبغي أن ننظر للذي كرهناه منهم فنجتنبه ، والذي غبطناهم به فنستعمله . # ومر بعض الزهاد بباب ملك فقال : باب جديد ، وموت عتيد ، وسفر بعيد . # ومر بعض الزهاد برجل قد اجتمع عليه الناس فقال : ما هذا ؟ قالوا : مسكين ~~سرق منه رجل جبة . # ومر به آخر فأعطاه جبة ، فقال : صدق الله { إن سعيكم لشتى } . # وقال بعض الحكماء : ما أنصف من نفسه من أيقن بالحشر والحساب ، وزهد في ~~الأجر والثواب . # وقال آخر : بطول الأمل تقسو القلوب ، وبإخلاص النية تقل الذنوب . # وقال آخر : إياك والمنى فإنها من بضائع النوكى ، وتثبط عن الآخرة والأولى ~~. # وقال آخر : قصر أملك فإن العمر قصير ، وأحسن سيرتك فالبر يسير . # وقال عبد الله بن المعتز رحمه الله ms096 : نسير إلى الآجال في كل ساعة وأيامنا ~~تطوى وهن رواحل ولم نر مثل الموت حقا كأنه إذا ما تخطته الأماني باطل وما ~~أقبح التفريط في زمن الصبا فكيف به والشيب في الرأس نازل ترحل عن الدنيا ~~بزاد من التقى فعمرك أيام تعد قلائل وكان عبد الملك بن مروان يتمثل بهذين ~~PageV01P151 البيتين : فاعمل على مهل فإنك ميت واكدح لنفسك أيها الإنسان ~~فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى وكأن ما هو كائن قد كان ونظر سليمان بن عبد ~~الملك في المرآة فقال : أنا الملك الشاب . # فقالت له جارية له : أنت نعم المتاع لو كنت تبقى غير أن لا بقاء للإنسان ~~ليس فيما بدا لنا منك عيب كان في الناس غير أنك فان وروى عبد العزيز بن عبد ~~الصمد عن أنس قال : { خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته ~~الجدعاء فقال : أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا كتب ، وكأن الحق فيها ~~على غيرنا وجب . # وكأن الذين نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون ، نبوئهم أجداثهم ~~ونأكل تراثهم كأنا مخلدون بعدهم قد نسينا كل واعظة ، وأمنا كل جائحة . # طوبى لمن شغله عيبه عن عيب غيره ، وأنفق من مال كسبه من غير معصية ، ورحم ~~أهل الدين والمسكنة ، وخالط أهل الفقه والحكمة . # طوبى لمن أدب نفسه وحسنت خليقته ، وصلحت سريرته . # طوبى لمن عمل بعلم ، وأنفق من فضل ، وأمسك من قوله ووسعته السنة ، ولم ~~يعدها إلى بدعة } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { زوروا القبور تذكروا بها ~~الآخرة وغسلوا الموتى فإنها معالجة الأجساد الخاوية وموعظة بليغة } . # وحفر الربيع بن خيثم في داره قبرا فكان إذا وجد في قلبه قسوة جاء فاضطجع ~~في القبر فمكث ما شاء الله ثم يقول : { رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما ~~تركت } . # ثم يرد على نفسه فيقول : قد أرجعتك فجدي . # فمكث كذلك ما شاء الله . # وقال أبو PageV01P152 محرز الطفاوي كفتك القبور مواعظ الأمم السالفة . # وقيل لبعض الزهاد : ما أبلغ العظات ؟ قال : النظر إلى محلة ms097 الأموات ، ~~فأخذه أبو العتاهية فقال : وعظتك أجداث صمت ونعتك أزمنة خفت وتكلمت عن أوجه ~~تبلى وعن صور سبت وأرتك قبرك في الحياة وأنت حي لم تمت يا شامتا بمنيتي إن ~~المنية لم تفت فلربما انقلب الشمات فحل بالقوم الشمت ووجد على قبر مكتوب : ~~قهرنا من قهرنا فصرنا للناظرين عبرة . # وعلى آخر : من أمل البقاء وقد رأى مصارعنا فهو مغرور . # وقيل في منثور الحكم : ما أكثر من يعرف الحق ولا يطيعه . # وقال بعض الحكماء : من لم يمت لم يفت . # وقال بعض الصلحاء : لنا من كل ميت عظة بحاله ، وعبرة بماله . # وقال بعض العلماء : من لم يتعظ بموت ولد ، لم يتعظ بقول أحد . # وقال بعض البلغاء : ما نقصت ساعة من أمسك ، إلا ببضعة من نفسك . # فأخذه أبو العتاهية فقال : إن مع الدهر فاعلمن غدا فانظر بما ينقضي مجيء ~~غده ما ارتد طرف امرئ بلذته إلا وشيء يموت من جسده ولما مات الإسكندر قال ~~بعض الحكماء : كان الملك أمس أنطق منه اليوم ، وهو اليوم أوعظ منه أمس . # فأخذ أبو العتاهية هذا المعنى فقال : كفى حزنا بدفنك ثم إني نفضت تراب ~~قبرك عن يديا وكانت في حياتك لي عظات وأنت اليوم أوعظ منك حيا وقال بعض ~~الحكماء : لو كان للخطايا ريح لافتضح الناس ولم يتجالسوا . # فأخذ هذا المعنى أبو العتاهية فقال : أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح ~~فإذا المستور منا بين ثوبيه فضوح وهذا جميعه مأخوذ PageV01P153 من قول ~~النبي صلى الله عليه وسلم : { لو تكاشفتم ما تدافنتم } . # وكتب رجل إلى أبي العتاهية رحمه الله : يا أبا إسحاق إني واثق منك بودك ~~فأعني بأبي أنت على عيبي برشدك فأجابه بقوله : أطع الله بجهدك راغبا أو دون ~~جهدك أعط مولاك الذي تطلب من طاعة عبدك وقال بعض الحكماء : من سره بنوه ~~ساءته نفسه . # فأخذ هذا المعنى أبو العتاهية فقال : ابن ذي الابن كلما زاد منه مشرع زاد ~~في فناء أبيه ما بقاء الأب الملح عليه بدبيب البلى شباب بنيه وفي معناه ما ~~حكي عن زر ms098 بن حبيش أنه عاش مائة وعشرين سنة ، فلما حضرته الوفاة أنشد يقول ~~: إذا الرجال ولدت أولادها وارتعشت من كبر أجسادها وجعلت أسقامها تعتادها ~~تلك زروع قد دنا حصادها وكتب رجل إلى صالح بن عبد القدوس : الموت باب وكل ~~الناس داخله فليت شعري بعد الباب ما الدار فأجابه بقوله : الدار جنات عدن ~~إن عملت بما يرضي الإله وإن خالفت فالنار هما محلان ما للناس غيرهما فانظر ~~لنفسك ماذا أنت مختار PageV01P154 الباب الرابع أدب الدنيا اعلم أن الله ~~تعالى لنافذ قدرته وبالغ حكمته ، خلق الخلق بتدبيره وفطرهم بتقديره ، فكان ~~من لطيف ما دبره وبديع ما قدره ، أنه خلقهم محتاجين وفطرهم عاجزين ، ليكون ~~بالغنى منفردا وبالقدرة مختصا حتى يشعرنا بقدرته أنه خالق ، ويعلمنا بغناه ~~أنه رازق ، فنذعن بطاعته رغبة ورهبة ونقر بنقائصنا عجزا وحاجة . # ثم جعل الإنسان أكثر حاجة من جميع الحيوان ؛ لأن من الحيوان ما يستقل ~~بنفسه عن جنسه ، والإنسان مطبوع على الافتقار إلى جنسه . # واستعانته صفة لازمة لطبعه ، وخلقة قائمة في جوهره . # ولذلك قال الله سبحانه وتعالى : { وخلق الإنسان ضعيفا } . # يعني عن الصبر عما هو إليه مفتقر واحتمال ما هو عنه عاجز . # ولما كان الإنسان أكثر حاجة من جميع الحيوان كان أظهر عجزا ؛ لأن الحاجة ~~إلى الشيء افتقار إليه ، والمفتقر إلى الشيء عاجز به . # وقال بعض الحكماء المتقدمين : استغناؤك عن الشيء خير من استغنائك به . # وإنما خص الله تعالى الإنسان بكثرة الحاجة وظهور العجز نعمة عليه ولطفا ~~به ؛ ليكون ذل الحاجة ومهانة العجز يمنعانه من طغيان الغنى وبغي القدرة ؛ ~~لأن الطغيان مركوز في طبعه إذا استغنى ، والبغي مستول عليه إذا قدر . # وقد أنبأ الله تعالى بذلك عنه فقال : { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه ~~استغنى } . # ثم ليكون أقوى الأمور شاهدا على نقصه ، وأوضحها دليلا على عجزه . # وأنشدني بعض أهل الأدب لابن الرومي رحمه الله : أعيرتني بالنقص والنقص ~~شامل PageV01P155 ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل وأشهد أني ناقص غير أنني ~~إذا قيس بي قوم كثير تقللوا تفاضل هذا الخلق بالفضل والحجا ففي ms099 أيما هذين ~~أنت مفضل ولو منح الله الكمال ابن آدم لخلده والله ما شاء يفعل ولما خلق ~~الله الإنسان ماس الحاجة ظاهر العجز جعل لنيل حاجته أسبابا ، ولدفع عجزه ~~حيلا دله عليها بالعقل ، وأرشده إليها بالفطنة . # قال الله تعالى : { والذي قدر فهدى } . # قال مجاهد : قدر أحوال خلقه فهدى إلى سبيل الخير والشر وقال ابن مسعود في ~~قوله تعالى : { وهديناه النجدين } . # يعني الطريقين : طريق الخير وطريق الشر . # ثم لما كان العقل دالا على أسباب ما تدعو إليه الحاجة ، جعل الله تعالى ~~الإدراك والظفر موقوفا على ما قسم وقدر كي لا يعتمدوا في الأرزاق على ~~عقولهم ، وفي العجز على فطنهم ، لتدوم له الرغبة والرهبة ، ويظهر منه الغنى ~~والقدرة . # وربما عزب هذا المعنى على من ساء ظنه بخالقه حتى صار سببا لضلاله . # كما قال الشاعر : سبحان من أنزل الأيام منزلها وصير الناس مرفوضا ومرموقا ~~فعاقل فطن أعيت مذاهبه وجاهل خرق تلقاه مرزوقا هذا الذي ترك الألباب حائرة ~~وصير العاقل النحرير زنديقا ولو حسن ظن العاقل في صحة نظره لعلم من علل ~~المصالح ما صار به صديقا لا زنديقا ؛ لأن من علل المصالح ما هو ظاهر ، ~~ومنها ما هو غامض ، ومنها ما هو مغيب حكمة استأثر بها . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ؛ { حسن الظن بالله من عبادة الله } ~~. # ثم إن الله تعالى جعل أسباب حاجاته وحيل PageV01P156 عجزه في الدنيا التي ~~جعلها دار تكليف وعمل ، كما جعل الآخرة دار قرار وجزاء ، فلزم لذلك أن يصرف ~~الإنسان إلى دنياه حظا من عنايته ؛ لأنه لا غنى به عن التزود منها لآخرته ، ~~ولا له بد من سد الخلة فيها عند حاجته . # وليس في هذا القول نقض لما ذكرنا قبل من ترك فضولها ، وزجر النفس عن ~~الرغبة فيها . # بل الراغب فيها ملوم ، وطالب فضولها مذموم . # والرغبة إنما تختص بما جاوز قدر الحاجة ، والفضول إنما ينطلق على ما زاد ~~على قدر الكفاية . # وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك ~~فارغب } . # قال ms100 أهل التأويل : فإذا فرغت من أمور دنياك فانصب في عبادة ربك . # وليس هذا القول منه ترغيبا لنبيه صلى الله عليه وسلم فيها ، ولكن ندبه ~~إلى أخذ البلغة منها . # وعلى هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم : { ليس خيركم من ترك الدنيا ~~للآخرة ولا الآخرة للدنيا ، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { نعم المطية الدنيا ~~فارتحلوها تبلغكم الآخرة } . # وذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - فقال رضي الله عنه ~~: الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار نجاة لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود ~~منها . # وحكى مقاتل أن إبراهيم الخليل - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - قال : ~~يا رب حتى متى أتردد في طلب الدنيا ؟ فقيل له : أمسك عن هذا فليس طلب ~~المعاش من طلب الدنيا . # وقال سفيان الثوري - رحمة الله عليه - : مكتوب في PageV01P157 التوراة : ~~إذا كان في البيت بر فتعبد وإذا لم يكن فاطلب ، يا ابن آدم حرك يدك يسبب لك ~~رزقك . # وقال بعض الحكماء : ليس من الرغبة في الدنيا اكتساب ما يصون العرض فيها . # وقال بعض الأدباء : ليس من الحرص اجتلاب ما يقوت البدن . # وقال محمود الوراق : لا تتبع الدنيا وأيامها ذما وإن دارت بك الدائره من ~~شرف الدنيا ومن فضلها أن بها تستدرك الآخره فإذا قد لزم بما بيناه النظر في ~~أمور الدنيا فوجب ستر أحوالها ، والكشف عن جهة انتظامها واختلالها ، لنعلم ~~أسباب صلاحها وفسادها ، ومواد عمرانها وخرابها ، لتنتفي عن أهلها شبه ~~الحيرة ، وتنجلي لهم أسباب الخيرة ، فيقصدوا الأمور من أبوابها ، ويعتمدوا ~~صلاح قواعدها وأسبابها . # واعلم أن صلاح الدنيا معتبر من وجهين : أولهما ما ينتظم به أمور جملتها . # والثاني : ما يصلح به حال كل واحد من أهلها . # فهما شيئان لا صلاح لأحدهما إلا بصاحبه ؛ لأن من صلحت حاله مع فساد ~~الدنيا واختلال أمورها لن يعدم أن يتعدى إليه فسادها ، ويقدح فيه اختلالها ~~؛ لأن منها ما يستمد ، ولها يستعد . # ومن فسدت حاله مع صلاح الدنيا وانتظام أمورها ms101 لم يجد لصلاحها لذة ، ولا ~~لاستقامتها أثرا ؛ لأن الإنسان دنيا نفسه ، فليس يرى الصلاح إلا إذا صلحت ~~له ولا يجد الفساد إلا إذا فسدت عليه ؛ لأن نفسه أخص وحاله أمس . # فصار نظره إلى ما يخصه مصروفا ، وفكره على ما يمسه موقوفا . # واعلم أن الدنيا لم تكن قط لجميع أهلها مسعدة ، ولا عن كافة ذويها معرضة ~~؛ لأن إعراضها PageV01P158 عن جميعهم عطب وإسعادها لكافتهم فساد لائتلافهم ~~بالاختلاف والتباين ، واتفاقهم بالمساعدة والتعاون . # فإذا تساوى جميعهم لم يجد أحدهم إلى الاستعانة بغيره سبيلا ، وبهم من ~~الحاجة والعجز ما وصفنا ، فيذهبوا ضيعة ويهلكوا عجزا . # وإذا تباينوا واختلفوا صاروا مؤتلفين بالمعونة متواصلين بالحاجة ؛ لأن ذا ~~الحاجة وصول ، والمحتاج إليه موصول . # وقد قال الله تعالى : { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } ~~. # قال الحسن : مختلفين في الرزق فهذا غني وهذا فقير ، ولذلك خلقهم يعني ~~للاختلاف بالغنى والفقر . # وقال الله تعالى : { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } . # غير أن الدنيا إذا صلحت كان إسعادها موفورا ، وإعراضها ميسورا . # إلا أنها إذا منحت هنت وأودعت وإذا استردت رفقت وأبقت . # وإذا فسدت الدنيا كان إسعادها مكرا ، وإعراضها غدرا ؛ لأنها إذا منحت كدت ~~وأتعبت ، وإذا استردت استأصلت وأجحفت . # ومع هذا فصلاح الدنيا مصلح لسائر أهلها لوفور أماناتهم ، وظهور دياناتهم ~~. # وفسادها مفسد لسائر أهلها لقلة أماناتهم ، وضعف دياناتهم . # وقد وجد ذلك في مشاهد الحال تجربة وعرفا ، كما يقتضيه دليل الحال تعليلا ~~وكشفا ، فلا شيء أنفع من صلاحها ، كما لا شيء أضر من فسادها ؛ لأن ما تقوى ~~به ديانات الناس وتتوفر أماناتهم فلا شيء أحق به نفعا ، كما أن ما به تضعف ~~دياناتهم وتذهب أماناتهم فلا شيء أجدر به ضررا . # وأنشدت لأبي بكر بن دريد : الناس مثل زمانهم قد الحذاء على مثاله ~~PageV01P159 ورجال دهرك مثل دهرك في تقلبه وحاله وكذا إذا فسد الزمان جرى ~~الفساد على رجاله PageV01P160 وإذ قد بلغ بنا القول إلى ذلك ، فسنبدأ بذكر ~~ما يصلح الدنيا ، ثم نتلوه بوصف ما يصلح به حال الإنسان فيها . # اعلم أن ما ms102 به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة ، وأمورها ملتئمة ، ~~ستة أشياء هي قواعدها ، وإن تفرعت ، وهي : دين متبع وسلطان قاهر وعدل شامل ~~وأمن عام وخصب دائم وأمل فسيح . # فأما القاعدة الأولى : فهي الدين المتبع فلأنه يصرف النفوس عن شهواتها ، ~~ويعطف القلوب عن إرادتها ، حتى يصير قاهرا للسرائر ، زاجرا للضمائر ، رقيبا ~~على النفوس في خلواتها ، نصوحا لها في ملماتها . # وهذه الأمور لا يوصل بغير الدين إليها ، ولا يصلح الناس إلا عليها . # فكأن الدين أقوى قاعدة في صلاح الدنيا واستقامتها ، وأجدى الأمور نفعا في ~~انتظامها وسلامتها . # ولذلك لم يخل الله تعالى خلقه ، مذ فطرهم عقلاء ، من تكليف شرعي ، ~~واعتقاد ديني ينقادون لحكمه فلا تختلف بهم الآراء ، ويستسلمون لأمره فلا ~~تتصرف بهم الأهواء . # وإنما اختلف العلماء رضي الله عنهم ، في العقل والشرع هل جاءا مجيئا ~~واحدا ، أم سبق العقل ثم تبعه الشرع ؟ . # فقالت طائفة : جاء العقل والشرع معا مجيئا واحدا لم يسبق أحدهما صاحبه . # وقالت طائفة أخرى : سبق العقل ثم تبعه الشرع ؛ لأن بكمال العقل يستدل على ~~صحة الشرع . # وقد قال الله تعالى : { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } . # وذلك لا يوجد منه إلا عند كمال عقله ، فثبت أن الدين من أقوى القواعد في ~~صلاح الدنيا ، وهو الفرد الأوحد في صلاح الآخرة . # وما كان به صلاح الدنيا PageV01P161 والآخرة فحقيق بالعقل أن يكون به ~~متمسكا وعليه محافظا ، وقال بعض الحكماء : الأدب أدبان : أدب شريعة وأدب ~~سياسة . # فأدب الشريعة ما أدى الفرض ، وأدب السياسة ما عمر الأرض . # وكلاهما يرجع إلى العدل الذي به سلامة السلطان ، وعمارة البلدان ؛ لأن من ~~ترك الفرض فقد ظلم نفسه ، ومن خرب الأرض فقد ظلم غيره . # وقال سعيد بن حميد : ما صحة أبدا بنافعة حتى يصح الدين والخلق ~~PageV01P162 وأما القاعدة الثانية : فهي سلطان قاهر تتألف من رهبته الأهواء ~~المختلفة ، وتجتمع لهيبته القلوب المتفرقة ، وتكف بسطوته الأيدي المتغالبة ~~، وتمتنع من خوفه النفوس العادية ؛ لأن في طباع الناس من حب المغالبة على ~~ما آثروه والقهر لمن عاندوه ، ما لا ينكفون عنه إلا بمانع قوي ms103 ، ورادع ملي ~~. # وقد أفصح المتنبي بذلك في قوله : لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق ~~على جوانبه الدم والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم وهذه ~~العلة المانعة من الظلم لا تخلو من أحد أربعة أشياء : إما عقل زاجر ، أو ~~دين حاجر ، أو سلطان رادع ، أو عجز صاد . # فإذا تأملتها لم تجد خامسا يقترن بها ورهبة السلطان أبلغها ؛ لأن العقل ~~والدين ربما كانا مضعوفين ، أو بدواعي الهوى مغلوبين . # فتكون رهبة السلطان أشد زجرا وأقوى ردعا . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : { السلطان ظل الله في ~~الأرض يأوي إليه كل مظلوم } . # وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله ليزع بالسلطان أكثر مما ~~يزع بالقرآن } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن لله حراسا في السماء ~~وحراسا في الأرض ، فحراسه في السماء الملائكة ، وحراسه في الأرض الذين ~~يقبضون أرزاقهم يذبون عن الناس . # } وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الإمام الجائر خير من ~~الفتنة ، وكل لا خير فيه ، وفي بعض الشر خير } . # وقال أبو هريرة رضي الله عنه : { سبت العجم بين يدي PageV01P163 رسول ~~الله صلى الله عليه وسلم فنهى عن ذلك وقال : لا تسبوها فإنها عمرت بلاد ~~الله تعالى فعاش فيها عباد الله تعالى } . # وقال بعض البلغاء : السلطان في نفسه إمام متبوع ، وفي سيرته دين مشروع ، ~~فإن ظلم لم يعدل أحد في حكم ، وإن عدل لم يجسر أحد على ظلم . # وقال بعض الأدباء : إن أقرب الدعوات من الإجابة دعوة السلطان الصالح ، ~~وأولى الحسنات بالأجر والثواب أمره ونهيه في وجوه المصالح . # فهذه آثار السلطان في أحوال الدنيا وما ينتظم به أمورها . # ثم لما في السلطان من حراسة الدين والدنيا والذب عنهما ودفع الأهواء منه ~~، وحراسة التبديل فيه ، وزجر من شذ عنه بارتداد ، أو بغى فيه بعناد ، أو ~~سعى فيه بفساد . # وهذه أمور إن لم تنحسم عن الدين بسلطان قوي ورعاية وافية أسرع فيه تبديل ~~ذوي الأهواء ms104 ، وتحريف ذوي الآراء ، فليس دين زال سلطانه إلا بدلت أحكامه ، ~~وطمست أعلامه . # وكان لكل زعيم فيه بدعة ، ولكل عصر فيه وهاية أثر . # كما أن السلطان إن لم يكن على دين تجتمع به القلوب حتى يرى أهله الطاعة ~~فيه فرضا ، والتناصر عليه حتما ، لم يكن للسلطان لبث ولا لأيامه صفو ، وكان ~~سلطان قهر ، ومفسدة دهر . # ومن هذين الوجهين وجب إقامة إمام يكون سلطان الوقت وزعيم الأمة ليكون ~~الدين محروسا بسلطانه ، والسلطان جاريا على سنن الدين وأحكامه . # قال عبد الله بن المعتز : الملك بالدين يبقى ، والدين بالملك يقوى . # واختلف الناس هل وجب ذلك بالعقل أو بالشرع . # فقالت طائفة : وجب بالعقل ؛ لأنه PageV01P164 معلوم من حال العقلاء على ~~اختلافهم ، الفزع إلى زعيم مندوب للنظر في مصالحهم . # وذهب آخرون إلى وجوبه بالشرع ؛ لأن المقصود بالإمام القيام بأمور شرعية ، ~~كإقامة الحدود واستيفاء الحقوق ، وقد كان يجوز الاستغناء عنها بأن لا يراد ~~التعبد بها فبأن يجوز الاستغناء عما يراد إلا لها أولى . # وعلى هذا اختلفوا في وجوب بعثة الأنبياء . # فمن قال بوجوب ذلك بالعقل ، قال بوجوب بعثة الأنبياء . # ومن قال بوجوب ذلك بالشرع ، منع من وجوب بعثة الأنبياء ؛ لأنه لما كان ~~المقصود ببعثتهم تعريف المصالح الشرعية ، وكان يجوز من المكلفين أن لا تكون ~~هذه الأمور مصلحة لهم ، لم يجب بعثة الأنبياء إليهم . PageV01P165 فأما ~~إقامة إمامين أو ثلاثة في عصر واحد ، وبلد واحد فلا يجوز إجماعا . # فأما في بلدان شتى وأمصار متباعدة فقد ذهبت طائفة شاذة إلى جواز ذلك ؛ ~~لأن الإمام مندوب للمصالح . # وإذا كان اثنين في بلدين أو ناحيتين كان كل واحد منهما أقوم بما في يديه ~~، وأضبط لما يليه . # ولأنه لما جاز بعثة نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة ، ~~كانت الإمامة أولى ولا يؤدي ذلك إلى إبطال الإمامة . # وذهب الجمهور إلى أن إقامة إمامين في عصر واحد لا يجوز شرعا لما روي عن ~~النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا بويع أميران فاقتلوا أحدهما } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ms105 أنه قال : { إذا وليتم أبا بكر تجدوه ~~قويا في دين الله عز وجل ضعيفا في بدنه . # وإذا وليتم عمر تجدوه قويا في دين الله عز وجل قويا في بدنه ، وإن وليتم ~~عليا تجدوه هاديا مهديا } . # فبين بظاهر هذا الكلام أن إقامة جميعهم في عصر واحد لا يصح ، ولو صح ~~لأشار إليه ، ولنبه عليه . PageV01P166 والذي يلزم سلطان الأمة من أمورها ~~سبعة أشياء : أحدها : حفظ الدين من تبديل فيه ، والحث على العمل به من غير ~~إهمال له . # والثاني : حراسة البيضة والذب عن الأمة من عدو في الدين أو باغي نفس أو ~~مال . # والثالث : عمارة البلدان باعتماد مصالحها ، وتهذيب سبلها ومسالكها . # والرابع : تقدير ما يتولاه من الأموال بسنن الدين من غير تحريف في أخذها ~~وإعطائها . # والخامس : معاناة المظالم والأحكام بالتسوية بين أهلها واعتماد النصفة في ~~فصلها . # والسادس : إقامة الحدود على مستحقها من غير تجاوز فيها ، ولا تقصير عنها ~~. # والسابع : اختيار خلفائه في الأمور أن يكونوا من أهل الكفاية فيها ، ~~والأمانة عليها . # فإذا فعل من أفضى إليه سلطان الأمة ما ذكرنا من هذه الأشياء السبعة كان ~~مؤديا لحق الله تعالى فيهم ، مستوجبا لطاعتهم ومناصحتهم ، مستحقا لصدق ~~ميلهم ومحبتهم . # وإن قصر عنها ، ولم يقم بحقها وواجبها ، كان بها مؤاخذا ثم هو من الرعية ~~على استبطان معصية ومقت يتربصون الفرص لإظهارهما ويتوقعون الدوائر ~~لإعلانهما . # وقد قال الله تعالى : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ~~أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا } . # وفي قوله تعالى { عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم } تأويلان : أحدهما أن ~~العذاب الذي هو من فوقهم أمراء السوء ، والذي من تحت أرجلهم عبيد السوء ، ~~وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما . # والثاني : أن العذاب الذي هو من فوقهم الرجم ، والذي من تحت أرجلهم الخسف ~~، PageV01P167 وهذا قول مجاهد وسعيد بن جبير . # وفي قوله تعالى { أو يلبسكم شيعا } تأويلان : أحدهما : أنه الأهواء ~~المختلفة ، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما . # والثاني : أنه الفتن والاختلاط ، وهذا قول مجاهد . # وروي عن النبي صلى ms106 الله عليه وسلم أنه قال : { ما من أمير على عشرة إلا ~~وهو يجيء يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه حتى يكون عمله هو الذي يطلقه أو ~~يوبقه } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { خير أئمتكم الذين تحبونهم ~~ويحبونكم ، وشر أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم } . # وهذا صحيح ؛ لأنه إذا كان ذا خير أحبهم وأحبوه ، وإذا كان ذا شر أبغضهم ~~وأبغضوه . # وقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إن ~~الله تعالى إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه ، فاعرف منزلتك من الله تعالى ~~بمنزلتك من الناس ، واعلم أن ما لك عند الله مثل ما لله عندك . # فكان هذا موضحا لمعنى ما ذكرنا . # وأصل هذا أن خشية الله تبعث على طاعته في خلقه ، وطاعته في خلقه تبعث على ~~محبته ، فلذلك كانت محبتهم دليلا على خيره وخشيته ، وبغضهم دليلا على شره ~~وقلة مراقبته . # وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبعض خلفائه : أوصيك أن تخشى الله في ~~الناس ، ولا تخشى الناس في الله . # وقال عمر بن عبد العزيز لبعض جلسائه : إني أخاف الله فيما تقلدت . # فقال له : لست أخاف عليك أن تخاف الله وإنما أخاف عليك أن لا تخاف الله . # وهذا واضح ؛ لأن الخائف من PageV01P168 الله تعالى مأمون كالذي روي عن ~~عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لأبي مريم السلولي ، وكان هو الذي قتل ~~أخاه زيدا : والله إني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم . # قال : أفيمنعني ذلك حقا ؟ قال : لا . # قال : فلا ضير ، إنما يأسى على الحب النساء . # وروى عبد الرحمن بن محمد قال : أصدق طلحة بن عبد الله أم كلثوم بنت أبي ~~بكر مائة ألف درهم ، وهو أول من أصدق هذا القدر ، فمر بالمال على عمر بن ~~الخطاب رضي الله عنه فقال : ما هذا ؟ قالوا : صداق أم كلثوم ابنة أبي بكر ~~فقال : أدخلوه بيت المال . # فأخبر بذلك طلحة وقيل له : كلمه في ذلك . # فقال : ما أنا بفاعل ، لئن ms107 كان عمر يرى له فيه حقا لا يرده لكلامي ، وإن ~~كان لا يرى فيه حقا ليردنه . # قال : فلما أصبح عمر أمر بالمال فدفع إلى أم كلثوم . # وحكي أن الرشيد حبس أبي العتاهية فكتب على حائط الحبس : أما والله إن ~~الظلم شؤم وما زال المسيء هو الظلوم إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله ~~تجتمع الخصوم ستعلم في المعاد إن التقينا غدا عند المليك من الظلوم فأخبر ~~الرشيد بذلك فبكى بكاء شديدا ، ودعا بأبي العتاهية فاستحله ووهب له ألف ~~دينار وأطلقه . PageV01P169 وأما القاعدة الثالثة : فهي عدل شامل يدعو إلى ~~الألفة ، ويبعث على الطاعة ، وتتعمر به البلاد ، وتنمو به الأموال ، ويكثر ~~معه النسل ، ويأمن به السلطان . # فقد قال المرزبان لعمر ، حين رآه وقد نام متبذلا : عدلت فأمنت فنمت . # وليس شيء أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور ؛ لأنه ليس ~~يقف على حد ولا ينتهي إلى غاية ، ولكل جزء منه قسط من الفساد حتى يستكمل . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { بئس الزاد إلى المعاد ، ~~العدوان على العباد } . # وقال صلى الله عليه وسلم : { ثلاث منجيات ، وثلاث مهلكات . # فأما المنجيات : فالعدل في الغضب والرضا ، وخشية الله في السر والعلانية ~~، والقصد في الغنى والفقر . # وأما المهلكات : فشح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه } . # وحكي أن الإسكندر قال لحكماء الهند ، وقد رأى قلة الشرائع بها : لم صارت ~~سنن بلادكم قليلة ؟ قالوا : لإعطائنا الحق من أنفسنا ، ولعدل ملوكنا فينا . # فقال لهم : أيما أفضل ، العدل أو الشجاعة ؟ قالوا : إذا استعمل العدل ~~أغنى عن الشجاعة . # وقال بعض الحكماء : بالعدل والإنصاف تكون مدة الائتلاف . # وقال بعض البلغاء : إن العدل ميزان الله الذي وضعه للخلق ، ونصبه للحق ، ~~فلا تخالفه في ميزانه ، ولا تعارضه في سلطانه ، واستعن على العدل بخلتين : ~~قلة الطمع ، وكثرة الورع . # فإذا كان العدل من إحدى قواعد الدنيا التي لا انتظام لها إلا به ، ولا ~~صلاح فيها إلا معه ، وجب أن نبدأ بعدل الإنسان في نفسه ، PageV01P170 ثم ~~بعدله في غيره . # فأما عدله ms108 في نفسه فيكون بحملها على المصالح ، وكفها عن القبائح ، ثم ~~بالوقوف في أحوالها على أعدل الأمرين من تجاوز أو تقصير . # فإن التجاوز فيها جور ، والتقصير فيها ظلم . # ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم ، ومن جار عليها فهو على غيره أجور . # وقد قال بعض الحكماء : من توانى في نفسه ضاع . # وأما عدله في غيره فقد ينقسم حال الإنسان مع غيره على ثلاثة أقسام : ~~فالقسم الأول : عدل الإنسان فيمن دونه كالسلطان في رعيته ، والرئيس مع ~~صحابته ، فعدله فيهم يكون بأربعة أشياء : باتباع الميسور ، وحذف المعسور ، ~~وترك التسلط بالقوة ، وابتغاء الحق في الميسور . # فإن اتباع الميسور أدوم ، وحذف المعسور أسلم ، وترك التسلط أعطف على ~~المحبة ، وابتغاء الحق أبعث على النصرة . # وهذه أمور إن لم تسلم للزعيم المدبر كان الفساد بنظره أكثر ، والاختلاف ~~بتدبيره أظهر . # روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أشد الناس عذابا يوم ~~القيامة من أشركه الله في سلطانه فجار في حكمه } . # وقال بعض الحكماء الملك يبقى على الكفر ولا يبقى على الظلم . # وقال بعض الأدباء : ليس للجائر جار ، ولا تعمر له دار . # وقال بعض البلغاء : أقرب الأشياء صرعة الظلوم ، وأنفذ السهام دعوة ~~المظلوم . # وقال بعض حكماء الملوك : العجب من ملك استفسد رعيته وهو يعلم أن عزه ~~بطاعتهم . # وقال أزدشير بن بابك : إذا رغب الملك عن العدل رغبت الرعية عن طاعته . # وعوتب أنوشروان على ترك عقاب PageV01P171 المذنبين فقال : هم المرضى ونحن ~~الأطباء فإذا لم نداوهم بالعفو فمن لهم . # والقسم الثاني : عدل الإنسان مع من فوقه ، كالرعية مع سلطانها ، والصحابة ~~مع رئيسها . # فقد يكون بثلاثة أشياء : بإخلاص الطاعة ، وبذل النصرة ، وصدق الولاء . # فإن إخلاص الطاعة أجمع للشمل ، وبذل النصرة أدفع للوهن ، وصدق الولاء ~~أنفى لسوء الظن . # وهذه أمور إن لم تجتمع في المرء تسلط عليه من كان يدفع عنه واضطر إلى ~~اتقاء من يتقي به كما قال البحتري : متى أحوجت ذا كرم تخطى إليك ببعض أخلاق ~~اللئام وفي استمرار هذا حل نظام جامع ، وفساد صلاح شامل . # وقال إبرويس : أطع من ms109 فوقك ، يطعك من دونك . # وقال بعض الحكماء : إن الله تعالى لا يرضى عن خلقه إلا بتأدية حقه ، وحقه ~~شكر النعمة ، ونصح الأمة ، وحسن الصنيعة ، ولزوم الشريعة . # والقسم الثالث عدل الإنسان مع أكفائه ويكون بثلاثة أشياء : بترك ~~الاستطالة ، ومجانبة الإدلال ، وكف الأذى ؛ لأن ترك الاستطالة آلف ، ~~ومجانبة الإدلال أعطف ، وكف الأذى أنصف . # وهذه أمور إن لم تخلص في الأكفاء أسرع فيهم تقاطع الأعداء ففسدوا وأفسدوا ~~. # وقد روى عمر بن عبد العزيز عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول ~~الله صلى الله عليه وسلم : { ألا أنبئكم بشرار الناس ؟ قالوا : بلى يا رسول ~~الله قال : من أكل وحده ومنع رفده وجلد عبده ثم قال : ألا أنبئكم بشر من ~~ذلك ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : من يبغض الناس ويبغضونه } . # وروي أن عيسى ابن مريم عليهما السلام قام خطيبا PageV01P172 في بني ~~إسرائيل فقال : يا بني إسرائيل لا تتكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها ، ~~ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ، ولا تكافئوا ظالما فيبطل فضلكم . # يا بني إسرائيل الأمور ثلاثة : أمر تبين رشده فاتبعوه ، وأمر تبين غيه ~~فاجتنبوه ، وأمر اختلفتم فيه فردوه إلى الله تعالى . # وهذا الحديث جامع لآداب العدل في الأحوال كلها . # وقال بعض الحكماء : كل عقل لا يدارى به الكل فليس بعقل تام . # وقال بعض الشعراء : ما دمت حيا فدار الناس كلهم فإنما أنت في دار ~~المدارات من يدر دارى ومن لم يدر سوف يرى عما قليل نديما للندامات وقد ~~يتعلق بهذه الطبقات أمور خاصة يكون عدلهم فيها بالتوسط في حالتي التقصير ~~والسرف ؛ لأن العدل مأخوذ من الاعتدال ، فما جاوز الاعتدال فهو خروج عن ~~العدل . # وقد قالت الحكماء : الفضائل هيئات متوسطة بين خلتين ناقصتين ، وأفعال ~~الخير تتوسط بين رذيلتين . # فالحكمة واسطة بين الشر والجهالة . # والشجاعة واسطة بين التقحم والجبن . # والعفة واسطة بين الشره وضعف الشهوة . # والسكينة واسطة بين السخط وضعف الغضب . # والغيرة واسطة بين الحسد وسوء العادة . # والظرف واسطة بين الخلاعة والعرامة . # والتواضع واسطة بين الكبر ودناءة النفس . # والسخاء واسطة بين التبذير والتقتير . # والحلم ms110 واسطة بين إفراط الغضب وعدمه . # والمودة واسطة بين الخلابة وحسن الخلق . # والحياء واسطة بين القحة والحقد . # والوقار واسطة بين الهزء والسخافة . # وإذا كان ما خرج عن الاعتدال إلى ما ليس PageV01P173 باعتدال خروجا عن ~~العدل إلى ما ليس بعدل ، فالأولى اجتنابه والوقوف مع الأوسط اقتداء بالحديث ~~. # وقال بعض البلغاء : البلد السوء يجمع السفل ويورث العلل ، والولد السوء ~~يشين السلف ويهدم الشرف ، والجار السوء يفشي السر ويهتك الستر . # فجعل هذه الأشياء ، بخروجها عن الأولى إلى ما ليس بأولى ، خروجا عن العدل ~~إلى ما ليس بعدل . # ولست تجد فسادا إلا وسبب نتيجته الخروج فيه من حال العدل إلى ما ليس بعدل ~~من حالتي الزيادة والنقصان فإذن لا شيء أنفع من العدل كما لا شيء أضر مما ~~ليس بعدل . PageV01P174 وأما القاعدة الرابعة : فهي أمن عام تطمئن إليه ~~النفوس وتنتشر فيه الهمم ، ويسكن إليه البريء ، ويأنس به الضعيف . # فليس لخائف راحة ، ولا لحاذر طمأنينة . # وقد قال بعض الحكماء ، الأمن أهنأ عيش ، والعدل أقوى جيش ؛ لأن الخوف ~~يقبض الناس عن مصالحهم ، ويحجزهم عن تصرفهم ، ويكفهم عن أسباب المواد التي ~~بها قوام أودهم وانتظام جملتهم ؛ لأن الأمن من نتائج العدل ، والجور من ~~نتائج ما ليس بعدل . # وقد يكون الجور تارة بمقاصد الآدميين الخارجة عن العدل ، وتارة يكون ~~بأسباب حادثة من غير مقاصد الآدميين فلا تكون خارجة عن حال العدل . # فمن أجل ذلك لم يكن ما سبق من حال العدل مقنعا عن أن يكون الأمن في ~~انتظام الدنيا قاعدة كالعدل . # فإذا كان ذلك كذلك فالأمن المطلق ما عم والخوف قد يتنوع تارة ويعم . # فتنوعه بأن يكون تارة على النفس ، وتارة على الأهل ، وتارة على المال . # وعمومه أن يستوجب جميع الأحوال ، ولكل واحد من أنواعه حظ من الوهن ، ~~ونصيب من الحزن . # وقد يختلف باختلاف أسبابه ويتفاضل بتباين جهاته ، ويكون بحسب اختلاف ~~الرغبة فيما خيف عليه . # فمن أجل ذلك لم يجز أن يتصف حال كل واحد من أنواعه بمقدار من الوهن ونصيب ~~من الحزن ، لا سيما والخائف على الشيء مختص ms111 الهم به منصرف الفكر عن غيره . # فهو يظن أن لا خوف له إلا إياه ، فيغفل عن قدر النعمة بالأمن فيما سواه ، ~~فصار كالمريض الذي هو بمرضه متشاغل ، وعما سواه غافل . # ولعل ما صرف عنه أعظم مما ابتلي PageV01P175 به ، وإنما يوكل بالأدنى وإن ~~جل ما يمضي . # وحكي أن رجلا قال - وأعرابي حاضر - : ما أشد وجع الضرس ، فقال الأعرابي : ~~كل داء أشد داء . # وكذلك من عمه الأمن كمن استولت عليه العافية ، فهو لا يعرف قدر النعمة ~~بأمنه حتى يخاف ، كما لا يعرف المعافى قدر النعمة حتى يصاب . # وقال بعض الحكماء : إنما يعرف قدر النعمة بمقاساة ضدها . # فأخذ ذلك أبو تمام الطائي فقال : والحادثات وإن أصابك بؤسها فهو الذي ~~أنباك كيف نعيمها فالأولى بالعاقل أن يتذكر عند مرضه وخوفه قدر النعمة فيما ~~سوى ذلك من عافيته وأمنه ، وما انصرف عنه مما هو أشد من مرضه وخوفه ، ~~فيستبدل بالشكوى شكرا ، وبالجزع صبرا ، فيكون فرحا مسرورا . # حكي أن يعقوب قال ليوسف عليهما السلام ، حين لقيه : أي شيء كان خبرك بعدي ~~؟ قال : لا تسأل عما فعله بي إخوتي سلني عما صنعه بي ربي . # وقال الشاعر : لا تنس في الصحة أيام السقم فإن عقبى تارك الحزم ندم ~~PageV01P176 وأما القاعدة الخامسة : فهي خصب دار تتسع النفوس به في الأحوال ~~وتشترك فيه ذو الإكثار والإقلال . # فيقل في الناس الحسد ، وينتفي عنهم تباغض العدم ، وتتسع النفوس في التوسع ~~، وتكثر المواساة والتواصل . # وذلك من أقوى الدواعي لصلاح الدنيا وانتظام أحوالها ، ولأن الخصب يئول ~~إلى الغنى والغنى يورث الأمانة والسخاء . # وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري : لا تستقضين إلا ~~ذا حسب ومال ، فإن ذا الحسب يخاف العواقب وذا المال لا يرغب في مال غيره . # وقال بعض السلف : إني وجدت خير الدنيا والآخرة في التقى والغنى ، وشر ~~الدنيا والآخرة في الفجور والفقر . # وقال بعض الشعراء : ولم أر بعد الدين خيرا من الغنى ولم أر بعد الكفر شرا ~~من الفقر وبحسب الغنى يكون إقلال البخيل وإعطاؤه ، وإكثار الجواد وسخاؤه ms112 ، ~~كما قال دعبل : لئن كنت لا تولي ندى دون إمرة فلست بمول نائلا آخر الدهر ~~وأي إناء لم يفض عند ملئه وأي بخيل لم ينل ساعة الوفر وإذا كان الخصب يحدث ~~من أسباب الصلاح ما وصفت ، كان الجدب يحدث من أسباب الفساد ما ضادها . # وكما أن صلاح الخصب عام ، فكذلك فساد الجدب عام ، وما عم به الصلاح إن ~~وجد ، وما عم به الفساد إن فقد ، فأحرى أن يكون من قواعد الصلاح ودواعي ~~الاستقامة . # والخصب يكون من وجهين : خصب في المكاسب ، وخصب في المواد . # فأما خصب المكاسب فقد يتفرع من خصب المواد وهو من نتائج الأمن المقترن ~~بها . # وأما خصب المواد فقد يتفرع عن أسباب إلهية وهو من نتائج PageV01P177 ~~العدل المقترن بها . PageV01P178 وأما القاعدة السادسة : فهي أمل فسيح يبعث ~~على اقتناء ما يقصر العمر عن استيعابه ويبعث على اقتناء ما ليس يؤمل في ~~دركه بحياة أربابه . # ولولا أن الثاني يرتفق بما أنشأه الأول حتى يصير به مستغنيا ، لافتقر أهل ~~كل عصر إلى إنشاء ما يحتاجون إليه من منازل السكنى وأراضي الحرث ، وفي ذلك ~~من الإعواز وتعذر الإمكان ما لا خفاء به . # فلذلك ما أرفق الله تعالى خلقه باتساع الآمال إلا حتى عمر به الدنيا فعم ~~صلاحها وصارت تنتقل بعمرانها إلى قرن بعد قرن ، فيتم الثاني ما أبقاه الأول ~~من عمارتها ، ويرمم الثالث ما أحدثه الثاني من شعثها لتكون أحوالها على ~~الأعصار ملتئمة ، وأمورها على ممر الدهور منتظمة . # ولو قصرت الآمال ما تجاوز الواحد حاجة يومه ، ولا تعدى ضرورة وقته ، ~~ولكانت تنتقل إلى من بعده خرابا لا يجد فيها بلغة ، ولا يدرك منها حاجة . # ثم تنتقل إلى من بعد بأسوأ من ذلك حالا حتى لا ينمى بها نبت ، ولا يمكن ~~فيها لبث . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الأمل رحمة من الله لأمتي ~~، ولولاه لما غرس غارس شجرا ولا أرضعت أم ولدا . # وقال الشاعر : وللنفوس وإن كانت على وجل من المنية آمال تقويها فالمرء ~~يبسطها والدهر يقبضها والنفس ms113 تنشرها والموت يطويها وأما حال الأمل في أمر ~~الآخرة فهو من أقوى الأسباب في الغفلة عنها ، وقلة الاستعداد لها . # وقد أفصح لبيد مع أعرابية بما تبين به حال الأمل في الأمرين ، فقال : ~~وأكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس PageV01P179 يزري بالأمل غير أن لا ~~تكذبنها بالتقى واجزها بالبر لله الأجل وفرق ما بين الآمال والأماني . # أن الآمال ما تقيدت بأسباب ، والأماني ما تجردت عنها . # فهذه القواعد الست التي تصلح بها أحوال الدنيا ، وتنتظم أمور جملتها ، ~~فإن كملت فيها كمل صلاحها . # وبعيد أن يكون أمر الدنيا تاما كاملا ، وأن يكون صلاحها عاما شاملا ؛ ~~لأنها موضوعة على التغيير والفناء ، منشأة على التصرم والانقضاء . # وسمع بعض الحكماء رجلا يقول : قلب الله الدنيا ، قال : فإذن تستوي ؛ ~~لأنها مقلوبة . # وقال بعض الشعراء : ومن عادة الأيام أن خطوبها إذا سر منها جانب ساء جانب ~~وما أعرف الأيام إلا ذميمة ولا الدهر إلا وهو للثأر طالب وبحسب ما اختل من ~~قواعدها يكون اختلالها . PageV01P180 فصل : وأما ما يصلح به حال الإنسان ~~فيها فثلاثة أشياء ، هي قواعد أمره ونظام حاله ، وهي : نفس مطيعة إلى رشدها ~~منتهية عن غيها ، وألفة جامعة تنعطف القلوب عليها ويندفع المكروه بها ، ~~ومادة كافية تسكن نفس الإنسان إليها ويستقيم أوده بها . # فأما القاعدة الأولى التي هي نفس مطيعة : فلأنها إذا أطاعته ملكها ، وإذا ~~عصته ملكته ولم يملكها . # ومن لم يملك نفسه فهو بأن لا يملك غيرها أحرى ، ومن عصته نفسه كان بمعصية ~~غيرها أولى . # وقال بعض الحكماء : لا ينبغي للعاقل أن يطلب طاعة غيره ونفسه ممتنعة عليه ~~. # وقد قال الشاعر : أتطمع أن يطيعك قلب سعدى وتزعم أن قلبك قد عصاك وطاعة ~~نفسه تكون من وجهين : أحدهما نصح ، والثاني انقياد . # فأما النصح فهو أن ينظر إلى الأمور بحقائقها فيرى الرشد رشدا ويستحسنه ، ~~ويرى الغي غيا ويستقبحه . # وهذا يكون من صدق النفس إذا سلمت من دواعي الهوى . # ولذلك قيل : من تفكر أبصر . # فأما الانقياد فهو أن تسرع إلى الرشد إذا أمرها ، وتنتهي عن الغي إذا ~~زجرها . # وهذا ms114 يكون من قبول النفس إذا كفيت منازعة الشهوات . # قال الله تعالى : { ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما } . # وللنفس آداب هي تمام طاعتها ، وكمال مصلحتها . # وقد أفردنا لها من هذا الكتاب بابا واقتصرنا في هذا الموضع على ما قد ~~اقتضاه الترتيب ، واستدعاه التقريب . PageV01P181 وأما القاعدة الثانية وهي ~~الألفة الجامعة : فلأن الإنسان مقصود بالأذية ، محسود بالنعمة . # فإذا لم يكن آلفا مألوفا تخطفته أيدي حاسديه ، وتحكمت فيه أهواء أعاديه ، ~~فلم تسلم له نعمة ، ولم تصف له مدة . # فإذا كان آلفا مألوفا انتصر بالألفة على أعاديه ، وامتنع من حاسديه ، ~~فسلمت نعمته منهم ، وصفت مدته عنهم ، وإن كان صفو الزمان عسرا ، وسلمه خطرا ~~. # وقد روى ابن جريج عن عطاء رحمهما الله عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى ~~الله عليه وسلم أنه قال : { المؤمن آلف مألوف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا ~~يؤلف ، وخير الناس أنفعهم للناس } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله تعالى يرضى لكم ~~ثلاثا ويكره لكم ثلاثا . # يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبله جميعا ولا ~~تتفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال ~~وإضاعة المال } . # وكل ذلك حث منه صلى الله عليه وسلم على الألفة . # والعرب تقول : من قل ذل وقال قيس بن عاصم : إن القداح إذا اجتمعن فرامها ~~بالكسر ذو حنق وبطش أيد عزت فلم تكسر وإن هي بددت فالوهن والتكسير للمتبدد ~~PageV01P182 وإذا كانت الألفة بما أثبت تجمع الشمل وتمنع الذل ، اقتضت ~~الحال ذكر أسبابها . # وأسباب الألفة خمسة وهي : الدين والنسب والمصاهرة والمودة والبر . # فأما الدين : وهو الأول من أسباب الألفة فلأنه يبعث على التناصر ، ويمنع ~~من التقاطع والتدابر . # وبمثل ذلك وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ، فروى سفيان عن ~~الزهري عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا ~~تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا لا يحل لمسلم أن ~~يهجر أخاه فوق ms115 ثلاث } . # وهذا وإن كان اجتماعهم في الدين يقتضيه فهو على وجه التحذير من تذكر تراث ~~الجاهلية وإحن الضلالة . # فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والعرب أشد تقاطعا وتعاديا ، وأكثر ~~اختلافا وتماديا ، حتى إن بني الأب الواحد يتفرقون أحزابا فتثير بينهم ~~بالتحزب والافتراق أحقاد الأعداء ، وإحن البعداء . # وكانت الأنصار أشدهم تقاطعا وتعاديا ، وكان بين الأوس والخزرج من ~~الاختلاف والتباين أكثر من غيرهم إلى أن أسلموا فذهبت إحنهم وانقطعت ~~عداواتهم وصاروا بالإسلام إخوانا متواصلين ، وبألفة الدين أعوانا متناصرين ~~. # قال الله تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين ~~قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } . # يعني أعداء في الجاهلية فألف بين قلوبكم بالإسلام . # وقال تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا } . # يعني حبا . # وعلى حسب التآلف على الدين تكون العداوة PageV01P183 فيه إذا اختلف أهله ~~فإن الإنسان قد يقطع في الدين من كان به برا وعليه مشفقا . # هذا أبو عبيدة بن الجراح ، وقد كانت له المنزلة العالية في الفضل والأثر ~~المشهور في الإسلام ، قتل أباه يوم بدر وأتى برأسه إلى رسول الله صلى الله ~~عليه وسلم طاعة لله عز وجل ولرسوله ، حين بقي على ضلاله وانهمك في طغيانه . # فلم يعطفه عليه رحمة ولا كفه عنه شفقة ، وهو من أبر الأبناء ، تغليبا ~~للدين على النسب وطاعة الله تعالى على طاعة الأب . # وفيه أنزل الله : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد ~~الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } . # وقد يختلف أهل الدين على مذاهب شتى وآراء مختلفة فيحدث بين المختلفين فيه ~~من العداوة والتباين مثل ما يحدث بين المختلفين في الأديان . # وعلة ذلك أن الدين والاجتماع على العقد الواحد فيه لما كان أقوى أسباب ~~الألفة ، كان الاختلاف فيه أقوى أسباب الفرقة . # وإذا تكافأ أهل الأديان المختلفة والمذاهب المتباينة ، ولم يكن أحد ~~الفريقين أعلى يدا ، وأكثر عددا ، كانت العداوة بينهم أقوى والإحن فيهم ~~أعظم ؛ لأنه ينضم إلى عداوة الاختلاف تحاسد الأكفاء ، وتنافس النظراء . ~~PageV01P184 وأما ms116 النسب : وهو الثاني من أسباب الألفة فلأن تعاطف الأرحام ~~وحمية القرابة يبعثان على التناصر والألفة ، ويمنعان من التخاذل والفرقة ، ~~أنفة من استعلاء الأباعد على الأقارب ، وتوقيا من تسلط الغرباء الأجانب . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الرحم إذا تماست ~~تعاطفت } . # ولذلك حفظت العرب أنسابها لما امتنعت عن سلطان يقهرها ويكف الأذى عنها ~~لتكون به متظافرة على من ناوأها ، متناصرة على من شاقها وعاداها ، حتى بلغت ~~بألفة الأنساب تناصرها على القوي الأيد وتحكمت به تحكم المتسلط المتشطط . # وقد أعذر نبي الله لوط عليه السلام نفسه حين عدم عشيرة تنصره ، فقال لمن ~~بعث إليهم : { لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد } . # يعني عشيرة مانعة . # وروى أبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { رحم ~~الله لوطا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد } . # يعني الله عز وجل . # وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما بعث الله تعالى من بعده نبيا ~~إلا في ثروة من قومه } . # وقال وهب : لقد وردت الرسل على لوط وقالوا : إن ركنك لشديد . # وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { أنه كان لا يترك المرء مفرجا ~~حتى يضمه إلى قبيلة يكون فيها } . # قال الرياشي : المفرج الذي لا ينتمي إلى قبيلة يكون منها . # وكل ذلك حث منه صلى الله عليه وسلم على الألفة وكف عن الفرقة . # ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : { من كثر سواد قوم فهو منهم } . # وإذا كان النسب PageV01P185 بهذه المنزلة من الألفة فقد تعرض له عوارض ~~تمنع منها ، وتبعث على الفرقة المنافية لها . # فإذن قد لزم أن نصف حال الأنساب ، وما يعرض لها من الأسباب . # فجملة الأنساب أنها تنقسم ثلاثة أقسام : قسم والدون ، وقسم مولودون ، ~~وقسم مناسبون . # ولكل قسم منهم منزلة من البر والصلة ، وعارض يطرأ فيبعث على العقوق ~~والقطيعة . # فأما الوالدون فهم الآباء والأمهات والأجداد والجدات . # وهم موسومون مع سلامة أحوالهم بخلقين : أحدهما لازم بالطبع ، والثاني ~~حادث باكتساب . # فأما ما كان لازما ms117 بالطبع فهو الحذر والإشفاق . # وذلك لا ينتقل عن الوالد بحال ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ~~قال : { الولد مبخلة مجهلة مجبنة محزنة } . # فأخبر أن الحذر عليه يكسب هذه الأوصاف ، ويحدث هذه الأخلاق . # وقد كره قوم طلب الولد كراهة لهذه الحالة التي لا يقدر على دفعها عن نفسه ~~، للزومها طبعا ، وحدوثها حتما . # وقيل ليحيى بن زكريا عليهما السلام : ما بالك تكره الولد ؟ فقال : ما لي ~~وللولد ، إن عاش كدني ، وإن مات هدني . # وقيل لعيسى ابن مريم عليهما السلام : ألا تتزوج ؟ فقال : إنما يحب ~~التكاثر في دار البقاء . # وأما ما كان حادثا بالاكتساب فهي المحبة التي تنمى مع الأوقات ، وتتغير ~~مع تغير الحالات . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الولد أنوط } . # يعني أن حبه يلتصق بنياط القلب . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لكل شيء ثمرة ، وثمرة ~~القلب الولد } . PageV01P186 فإن انصرف الوالد عن حب الولد فليس ذلك لبعض ~~منه ، ولكن لسلوة حدثت من عقوق أو تقصير ، مع بقاء الحذر والإشفاق الذي لا ~~يزول عنه ، ولا ينتقل منه . # فقد قال محمد بن علي رضي الله عنه إن الله تعالى رضي الآباء للأبناء ~~فحذرهم فتنتهم ولم يوصهم بهم ، ولم يرض الأبناء للآباء فأوصاهم بهم . # وإن شر الأبناء من دعاه التقصير إلى العقوق ، وشر الآباء من دعاه البر ~~إلى الإفراط . # والأمهات أكثر إشفاقا وأوفر حبا لما باشرن من الولادة وعانين من التربية ~~فإنهن أرق قلوبا وألين نفوسا . # وبحسب ذلك وجب أن يكون التعطف عليهن أوفر جزاء لفعلهن ، وكفاء لحقهن ، ~~وإن كان الله تعالى قد أشرك بينهما في البر وجمع بينهما في الوصية ، فقال ~~تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } . # وقد روي أن { رجلا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي أما ~~أنا مطيعها أقعدها على ظهري ، ولا أصرف عنها وجهي ، وأرد إليها كسبي ، فهل ~~جزيتها ؟ قال لا ولا بزفرة واحدة . # قال : ولم ؟ قال : لأنها كانت تخدمك وهي تحب حياتك ، وأنت تخدمها وتحب ~~موتها } . # وقال ms118 الحسن البصري : حق الوالد أعظم ، وبر الوالد ألزم . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أنهاكم عن عقوق الأمهات ، ~~ووأد البنات ، ومنع وهات } . # وروى خالد بن معدان عن المقدام قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ~~يقول : { إن الله يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب } . # وأما المولودون فهم الأولاد وأولاد PageV01P187 الأولاد . # والعرب تسمي ولد الولد الصفوة . # وهم مختصون مع سلامة أحوالهم بخلقين : أحدهما لازم ، والآخر منتقل . # فأما اللازم فهو الأنفة للآباء من تهضم أو خمول . # والأنفة في الأبناء في مقابلة الإشفاق في الآباء . # وقد لحظ أبو تمام الطائي هذا المعنى في شعره فقال : فأصبحت يلقاني الزمان ~~لأجله بإعظام مولود وإشفاق والد فأما المنتقل فهو الإدلال ، وهو أول حال ~~الولد ، والإدلال في الأبناء في مقابلة المحبة في الآباء ؛ لأن المحبة ~~بالآباء أخص ، والإدلال بالأبناء أمس . # وقد روي عن عمر أنه قال : { قلت يا رسول الله ما بالنا نرق على أولادنا ~~ولا يرقون علينا ؟ قال : لأنا ولدناهم ولم يلدونا } . # ثم الإدلال في الأبناء قد ينتقل مع الكبر إلى أحد أمرين : إما البر ~~والإعظام ، وإما إلى الجفاء والعقوق . # فإن كان الولد رشيدا أو كان الأب برا عطوفا صار الإدلال برا وإعظاما . # وقد روى الزهري ، عن عامر بن شراحيل ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ~~لجرير بن عبد الله : { إن حق الوالد على الولد أن يخشع له عند الغضب ، ~~ويؤثره على نفسه عند النصب والسغب . # فإن المكافئ ليس بالواصل ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها } . # وإن كان الولد غاويا أو كان الوالد جافيا صار الإدلال قطيعة وعقوقا . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { رحم الله امرأ أعان ولده على بره ~~} . # وبشر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمولود فقال : ريحانة أشمها ثم هو عن ~~قريب ولد بار أو عدو ضار . # وقد قيل في PageV01P188 منثور الحكم : العقوق ثكل من لم يثكل . # وقال بعض الحكماء : ابنك ريحانك سبعا ، وخادمك سبعا ووزيرك سبعا ، ثم هو ~~صديق أو عدو . # وأما المناسبون فهم ms119 من عدا الآباء والأبناء ممن يرجع بتعصيب أو رحم . # والذي يختصون به الحمية الباعثة على النصرة ، وهي أدنى رتبة الأنفة ؛ لأن ~~الأنفة تمنع من التهضم والخمول معا ، والحمية تمنع من التهضم وليس لها في ~~كراهة الخمول نصيب إلا أن يقترن بها ما يبعث على الألفة . # وحمية المناسبين إنما تدعو إلى النصرة على البعداء والأجانب ، وهي معرضة ~~لحسد الأداني والأقارب ، موكولة إلى منافسة الصاحب بالصاحب ، فإن حرست ~~بالتواصل والتلاطف تأكدت أسبابها واقترن بحمية النسب مصافاة المودة ، وذلك ~~أوكد أسباب الألفة . # وقد قيل لبعض قريش : أيما أحب إليك أخوك أو صديقك ؟ قال : أخي إذا كان ~~صديقا . # وقال مسلمة بن عبد الملك : العيش في ثلاث : سعة المنزل ، وكثرة الخدم ، ~~وموافقة الأهل . # وقال بعض الحكماء : البعيد قريب بمودته ، والقريب بعيد بعداوته . # وإن أهملت الحال بين المتناسبين ثقة بلحمة النسب ، واعتمادا على حمية ~~القرابة ، غلب عليها مقت الحسد ومنازعة التنافس ، فصارت المناسبة عداوة ~~والقرابة بعدا . # وقال الكندي في بعض رسائله : الأب رب ، والولد كمد والأخ فخ ، والعم غم ~~والخال وبال ، والأقارب عقارب . # وقال عبد الله بن المعتز : لحومهم لحمي وهم يأكلونه وما داهيات المرء إلا ~~أقاربه ومن أجل ذلك أمر الله تعالى بصلة الأرحام ، وأثنى PageV01P189 على ~~واصلها فقال تعالى : { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ~~ويخافون سوء الحساب } . # قال المفسرون : هي الرحم التي أمر الله بوصلها ، ويخشون ربهم في قطعها ، ~~ويخافون سوء الحساب في المعاقبة عليها . # وروى عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { يقول ~~الله - عز وجل - أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت لها من اسمي اسما فمن وصلها ~~وصلته ، ومن قطعها قطعته } . # وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { صلة الرحم منماة للعدد ، مثراة ~~للمال ، محبة في الأهل ، منسأة في الأجل } . # وقال بعض الحكماء : بلوا أرحامكم بالحقوق ، ولا تجفوها بالعقوق . # وقال بعض البلغاء : صلوا أرحامكم فإنها لا تبلى عليها أصولكم ، ولا تهضم ~~عليها فروعكم . # وقال بعض الأدباء : من لم يصلح لأهله لم يصلح لك ms120 ، ومن لم يذب عنهم لم ~~يذب عنك . # وقال بعض الفصحاء : من وصل رحمه وصله الله ورحمه ، ومن أجار جاره أعانه ~~الله وجاره . # وقال محمد بن عبد الله الأزدي : وحسبك من ذل وسوء صنيعة مناواة ذي القربى ~~وإن قيل قاطع ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه لترجعه يوما إلي الرواجع ولا يستوي ~~في الحكم عبدان : واصل وعبد لأرحام القرابة قاطع PageV01P190 وأما المصاهرة ~~: وهي الثالث من أسباب الألفة فلأنها استحداث مواصلة ، وتمازج مناسبة ، ~~صدرا عن رغبة واختيار ، انعقدا على خير وإيثار ، فاجتمع فيها أسباب الألفة ~~ومواد المظاهرة . # قال الله تعالى : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها ~~وجعل بينكم مودة ورحمة } يعني بالمودة المحبة ، وبالرحمة الحنو والشفقة ، ~~وهما من أوكد أسباب الألفة . # وفيها تأويل آخر قاله الحسن البصري رحمه الله : أن المودة النكاح ، ~~والرحمة الولد . # وقال تعالى : { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين ~~وحفدة } . # اختلف المفسرون في الحفدة ، فقال عبد الله بن مسعود : هم أختان الرجل على ~~بناته . # وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : هم ولد الرجل وولد ولده . # وروي عنه أنهم بنو امرأة الرجل من غيره ، وسموا حفدة لتحفدهم في الخدمة ~~وسرعتهم في العمل ، ومنه قولهم في القنوت ، وإليك نسعى ، ونحفد أي نسرع إلى ~~العمل بطاعتك . # ولم تزل العرب تجتذب البعداء ، وتتألف الأعداء بالمصاهرة حتى يرجع ~~المنافر مؤانسا ، ويصير العدو مواليا ، وقد يصير للصهر بين الاثنين ألفة ~~بين القبيلتين وموالاة بين العشيرتين . # حكي عن خالد بن يزيد بن معاوية أنه قال : كان أبغض خلق الله عز وجل إلي ~~آل الزبير حتى تزوجت منهم أرملة فصاروا أحب خلق الله عز وجل إلي . # وفيها يقول : أحب بني العوام طرا لأجلها ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا ~~فإن تسلمي نسلم وإن تتنصري PageV01P191 يحط رجال بين أعينهم صلبا ولذلك قيل ~~: المرء على دين زوجته ، لما يستنزله الميل إليها من المتابعة ، ويجتذبه ~~الحب لها من الموافقة ، فلا يجد إلى المخالفة سبيلا ، ولا إلى المباينة ~~والمشاقة طريقا . # وإذا كانت المصاهرة ms121 للنكاح بهذه المنزلة من الألفة فقد ينبغي لعقدها أحد ~~خمسة أوجه وهي : المال والجمال والدين والألفة والتعفف . # وقد روى سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ~~قال : { تنكح المرأة لأربع : لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها ، فعليك بذات ~~الدين تربت يداك } . # فإن كان عقد النكاح لأجل المال وكان أقوى الدواعي إليه ، فالمال إذا هو ~~المنكوح فإن اقترن بذلك أحد الأسباب الباعثة على الائتلاف جاز أن يلبث ~~العقد وتدوم الألفة فإن تجرد عن غيره من الأسباب وعري عما سواه من المواد ~~فأخلق بالعقد أن ينحل وبالألفة أن تزول ، لا سيما إذا غلب الطمع وقل الوفاء ~~؛ لأن المال إن وصل إليه فقد ينقضي سبب الألفة به . # فقد قيل : من ودك لشيء تولى مع انقضائه . # وإن أعوز الوصول إليه وتعذرت القدرة عليه أعقب ذلك استهانة الآيس بعد شدة ~~الأمل فحدثت منه عداوة الخائب بعد استحكام الطمع ، فصارت الوصلة فرقة ~~والألفة عداوة . # وقد قيل : من ودك طمعا فيك أبغضك إذا أيس منك . # وقال عبد الحميد : من عظمك لإكثارك استقلك عند إقلالك . # فإن كان العقد رغبة في الجمال ، فذلك أدوم للألفة من المال ؛ لأن الجمال ~~صفة لازمة ، والمال صفة زائلة . # ولذلك قيل : PageV01P192 حسن الصورة أول السعادة . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أعظم النساء بركة ~~أحسنهن وجها وأقلهن مهرا } . # فإن سلمت الحال من الإدلال المفضي إلى الملال استدامت الألفة واستحكمت ~~الوصلة . # وقد كانوا يكرهون الجمال البارع إما لما يحدث عنه من شدة الإدلال وقد قيل ~~: من بسطه الإدلال قبضه الإذلال وإما لما يخاف من محنة الرغبة ، وبلوى ~~المنازعة . # وقد حكي أن رجلا شاور حكيما في التزوج فقال له : افعل وإياك والجمال ~~البارع ، فإنه مرعى أنيق . # فقال الرجل : وكيف ذلك ؟ قال : كما قال الأول : ولن تصادف مرعى ممرعا ~~أبدا إلا وجدت به آثار منتجع وإما لما يخافه اللبيب من شدة الصبوة ، ~~ويتوقاه الحازم من سوء عواقب الفتنة . # وقد قال بعض الحكماء : إياك ومخالطة النساء فإن لحظ المرأة ms122 سهم ، ولفظها ~~سم . # ورأى بعض الحكماء صيادا يكلم امرأة فقال : يا صياد ، احذر أن تصاد . # وقال سليمان بن داود عليهما السلام ، لابنه : امش وراء الأسد ولا تمش ~~وراء المرأة . # وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة تقول هذا البيت : إن النساء ~~رياحين خلقن لكم وكلكم يشتهي شم الرياحين فقال رضي الله عنه : إن النساء ~~شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شر الشياطين وإن كان العقد رغبة في الدين ~~فهو أوثق العقود حالا وأدومها ألفة وأحمدها بدءا وعاقبة ؛ لأن طالب الدين ~~متبع له ومن اتبع الدين انقاد له ، فاستقامت له حاله ، وأمن زلله . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { فاظفر PageV01P193 بذات الدين ~~تربت يداك } وفيه تأويلان : أحدهما : تربت يداك إن لم تظفر بذات الدين . # والثاني : أنها كلمة تذكر للمبالغة ولا يراد بها سوء ، كقولهم : ما أشجعه ~~قاتله الله . # وإن كان العقد رغبة في الألفة فهذا يكون على أحد وجهين . # إما أن يقصد به المكاثرة باجتماع الفريقين ، والمظافرة بتناصر الفئتين ، ~~وإما أن يقصد به تألف أعداء متسلطين استكفاء لعاديتهم ، وتسكينا لصولتهم . # وهذان الوجهان قد يكونان في الأماثل وأهل المنازل . # وداعي الوجه الأول هو الرغبة ، وداعي الوجه الثاني هو الرهبة ، وهما ~~سببان في غير المتناكحين ، فإن استدام السبب دامت الألفة ، وإن زال السبب ~~بزوال الرغبة والرهبة ، خيف زوال الألفة . # إلا أن ينضم إليها أحد الأسباب الباعثة عليها ، والمقربة لها . # وإن كان العقد رغبة في التعفف فهو الوجه الحقيقي المبتغى بعقد النكاح ، ~~وما سوى ذلك فأسباب معلقة عليه ومضافة إليه وروي أنه لما نزل قوله تعالى : ~~{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } قال ~~النبي صلى الله عليه وسلم : { خلق الرجل من التراب فهمه في التراب ، وخلقت ~~المرأة من الرجل فهمها في الرجل } . # وروى عطية بن بشر عن عكاف بن رفاعة الهلالي أن النبي صلى الله عليه وسلم ~~قال له : { يا عكاف ألك زوجة ؟ قال : لا . # قال : فأنت إذا من إخوان الشياطين ، إن كنت من رهبان ms123 النصارى فالحق بهم ، ~~وإن كنت منا فمن سنتنا النكاح } . # فكان هذا القول منه حثا على ترك الفساد PageV01P194 وباعثا على التكاثر ~~بالأولاد . # ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول للقفال من غزوهم : { إذا ~~أفضيتم إلى نسائكم فالكيس الكيس } . # يعني في طلب الولد . # فلزم حينئذ في عقد التعفف تحكم الاختيار فيه والتماس الأدوم من دواعيه . # وهي نوعان : نوع يمكن حصر شروطه ، ونوع لا يمكن لاختلاف أسبابه وتغاير ~~شروطه . # فأما الشروط المحصورة فيه فثلاثة شروط : أحدها : الدين المفضي إلى الستر ~~والعفاف ، والمؤدي إلى القناعة والكفاف . # قال أبو هريرة ، رضي الله عنه : لا يعذل مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلقا ~~رضي منها خلقا . # وخطب رجل من عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يتيمة كانت عنده فقال : لا ~~أرضاها لك . # قال : ولم وفي دارك نشأت ؟ قال : إنها تتشرف . # قال : لا أبالي . # فقال : الآن لا أرضاك لها . # وفي معنى هذا قول بعض العلماء : من رضي بصحبة من لا خير فيه لم يرض ~~بصحبته من فيه خير . # والشرط الثاني : العقل الباعث على حسن التقدير ، الآمر بصواب التدبير . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { العقل حيث كان ألوف ~~ومألوف } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { عليكم بالودود الولود ولا ~~تنكحوا الحمقاء فإن صحبتها بلاء وولدها ضياع } . # والشرط الثالث : الأكفاء الذين ينتفي بهم العار ويحصل بهم الاستكثار . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { تخيروا لنطفكم ولا ~~تضعوها إلا في الأكفاء } . # وروي أن أكثم بن صيفي قال لولده : يا بني لا يحملنكم جمال PageV01P195 ~~النساء عن صراحة النسب ، فإن المناكح الكريمة مدرجة للشرف . # وقال أبو الأسود الدؤلي لبنيه : قد أحسنت إليكم صغارا وكبارا وقبل أن ~~تولدوا . # قالوا : وكيف أحسنت إلينا قبل أن نولد ؟ قال : اخترت لكم من الأمهات من ~~لا تسبون بها . # وأنشد الرياشي : فأول إحساني إليكم تخيري لماجدة الأعراق باد عفافها وقد ~~تنضم إلى هذه الشروط من صفات الذات وأحوال النفس ما يلزم التحرز منه لبعد ms124 ~~الخير عنه ، وقلة الرشد فيه ، فإن كوامن الأخلاق بادية في الصور والأشكال ، ~~كالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { قال لزيد بن حارثة : أتزوجت ~~يا زيد ؟ قال : لا . # قال : تزوج تستعفف مع عفتك ، ولا تتزوج من النساء خمسا . # قال : وما هن يا رسول الله . # قال : لا تتزوج شهبرة ولا لهبرة ولا نهبرة ولا هبذرة ولا لفوتا . # فقال : يا رسول الله إني لا أعرف مما قلت شيئا . # قال : أما الشهبرة فالزرقاء البذية ، وأما اللهبرة فالطويلة المهزولة ، ~~وأما النهبرة فالعجوز المدبرة ، وأما الهبذرة فالقصيرة الدميمة ، وأما ~~اللفوت فذات الولد من غيرك } . # وقال شيخ من بني سليم لابنه : يا بني إياك والرقوب الغضوب القطوب . # الرقوب التي تراقبه أن يموت فتأخذ ماله . # وأوصى بعض الأعراب ابنه في التزوج فقال : إياك والحنانة والمنانة ~~والأنانة . # فالحنانة التي تحن لزوج كان لها ، والمنانة التي تمن على زوجها بمالها ، ~~والأنانة التي تئن كسلا وتمارضا . # وقال أوفى بن دلهم : النساء أربع : فمنهن مقمع لها سنها PageV01P196 أجمع ~~، ومنهن ممنع تضر ولا تنفع ، ومنهن مصدع تفرق ولا تجمع ، ومنهن غيث وقع ~~ببلد فأمرع . # وقال الشاعر : أرى صاحب النسوان يحسب أنها سوء وبون بينهن بعيد فمنهن ~~جنات يفيء ظلالها ومنهن نيران لهن وقود وأنشد أبو العيناء عن أبي زيد : إن ~~النساء كأشجار نبتن معا منهن مر وبعض المر مأكول إن النساء ولو صورن من ذهب ~~فيهن من هفوات الجهل تخييل إن النساء متى ينهين عن خلق فإنه واجب لا بد ~~مفعول وما وعدنك من شر وفين به وما وعدنك من خير فممطول فأما النوع الآخر ~~فإنه لا يمكن حصر شروطه ؛ لأنه قد يختلف باختلاف الأحوال ، وينتقل بتنقل ~~الإنسان والأزمان ، فإنه لا يستغنى به عن موافقة النفس ومتابعة الشهوة ؛ ~~ليكون أدوم لحال الألفة وأمد لأسباب الوصلة . # فإن الرأي المعلول لا يبقى على حاله ، والميل المدخول لا يدوم على دخله . # فلا بد أن ينتقل إلى إحدى حالتين : إما إلى الزيادة والكمال ، وإما إلى ~~النقصان والزوال . # حكي أن رجلا قال لعلي كرم الله ms125 وجهه : إني أحبك وأحب معاوية . # فقال رضي الله عنه : أما الآن فأنت أعور ، فإما أن تبرأ وإما أن تعمى . # فإذا كان كذلك ، فلا بد من كشف السبب الباعث على هذا النوع ، فإنه لا ~~يخلو من ثلاثة أحوال : أحدها : أن يكون لطلب الولد . # والأحمد فيه التماس الحداثة والبكارة ؛ لأنها أخص بالولادة . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { عليكم بالأبكار فإنهن ~~أعذب أفواها وأنتق أرحاما وأرضى باليسير . PageV01P197 } ومعنى قوله أنتق ~~أرحاما أي أكثر أولادا . # وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه : عليكم بالأبكار فإنهن أكثر حبا وأقل خنا ~~. # وهذا الحال هي أولى الأحوال الثلاث ؛ لأن النكاح موضوع لها ، والشرع وارد ~~بها . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { سوداء ولود خير من ~~حسناء عاقر } . # والعرب تقول : من لا يلد لا ولد . # وقد كانوا يختارون لمثل هذه الحال إنكاح البعداء الأجانب ، ويرون أن ذلك ~~أنجب للولد وأبهى للخلقة ، ويجتنبون إنكاح الأهل والأقارب ، ويرونه مضرا ~~بخلق الولد بعيدا من نجابته . # روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { اغتربوا ولا تضووا } . # وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : يا بني السائب قد ضويتم ~~فانكحوا في الغرائب . # وقال الشاعر : تجاوزت بنت العم وهي حبيبة مخافة أن يضوى علي سليلي وكانت ~~حكماء المتقدمين يرون أن أنجب الأولاد خلقا وخلقا من كانت سن أمه بين ~~العشرين والثلاثين وسن أبيه ما بين الثلاثين والخمسين والعرب تقول : إن ولد ~~الغيرى لا ينجب ، وإن أنجب النساء الفروك ؛ لأن الرجل يغلبها على الشبق ~~لزهدها في الرجال . # وقالوا : إن الرجل إذا أكره المرأة وهي مذعورة ثم أذكرت أنجبت . # والحالة الثانية : أن يكون المقصود به القيام بما يتولاه النساء من تدبير ~~المنازل . # فهذا وإن كان مختصا بمعاناة النساء فليس بألزم حالتي الزوجات ؛ لأنه قد ~~يجوز أن يعانيه غيرهن من النساء . # ولذلك ، قيل : المرأة ريحانة وليست بقهرمانة . PageV01P198 وليس في هذا ~~القصد تأثير في دين ولا قدح في مروءة . # والأحمد في مثل هذا التماس ms126 ذوات الأسنان والحنكة ممن قد خبرن تدبير ~~المنازل وعرفن عادات الرجال ، فإنهن أقوم بهذا الحال . # والحالة الثالثة : أن يكون المقصود به الاستمتاع وهي أذم الأحوال الثلاث ~~وأوهنها للمروءة ؛ لأنه ينقاد فيه لأخلاقه البهيمية ، ويتابع شهوته الذميمة ~~. # وقد قال الحارث بن النضر الأزدي : شر النكاح نكاح الغلمة إلا أن يفعل ذلك ~~لكسر الشهوة وقهرها بالإضعاف لها عند الغلبة ، أو تسكين النفس عند المنازعة ~~، حتى لا تطمح له عين لريبة ولا تنازعه نفس إلى فجور ، ولا يلحقه في ذلك ذم ~~، ولا يناله وصم ، وهو بالحمد أجدر وبالثناء أحق . # ولو تنزه في مثل هذه الحال عن استبذال الحرائر إلى الإماء كان أكمل ~~لمروءته ، وأبلغ في صيانته . # وهذه الحال تقف على شهوات النفوس لا يمكن أن يرجح فيها أولى الأمور وهي ~~أخطر الأحوال بالمنكوحة ؛ لأن للشهوات غايات متناهية يزول بزوالها ما كان ~~متعلقا بها ، فتصير الشهوة في الابتداء ، كراهية في الانتهاء . # ولذلك كرهت العرب البنات ووأدتهن إشفاقا عليهن وحمية لهن من أن يتبذلهن ~~اللئام بهذه الحال . # وكان من تحوب من قتل البنات لرقة ومحبة كان موتهن أحب إليه وآثر عنده . # ولما خطب إلى عقيل بن علقمة ابنته الحرباء قال : إني وإن سبق إلي المهر ، ~~ألف وعبدان وذود عشر ، أحب أصهاري إلي القبر . # وقال عبد الله بن طاهر : لكل أبي بنت يراعي شئونها ثلاثة أصهار إذا ~~PageV01P199 حمد الصهر فبعل يراعيها وخدر يكنها وقبر يواريها وأفضلها القبر ~~PageV01P200 فصل وأما المؤاخاة بالمودة ، وهي الرابع من أسباب الألفة ؛ ~~لأنها تكسب بصادق الميل إخلاصا ومصافاة ، ويحدث بخلوص المصافاة وفاء ~~ومحاماة . # وهذا أعلى مراتب الألفة ، ولذلك آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ~~أصحابه ؛ لتزيد ألفتهم ، ويقوى تظافرهم . # وتناصرهم . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { عليكم بإخوان الصفاء فإنهم ~~زينة في الرخاء وعصمة في البلاء } ، وروى أبو الزبير ، عن سهل بن سعد ، أن ~~النبي صلى الله عليه وسلم قال : { المرء كثير بأخيه ولا خير في صحبة من لا ~~يرى لك من الحق مثل ما ترى له ms127 } . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لقاء الإخوان جلاء الأحزان . # وقال خالد بن صفوان : إن أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان ، وأعجز منه ~~من ضيع من ظفر به منهم . # وقال علي كرم الله وجهه لابنه الحسن : يا بني الغريب من ليس له حبيب . # وقال ابن المعتز : من اتخذ إخوانا كانوا له أعوانا . # وقال بعض الأدباء : أفضل الذخائر أخ وفي . # وقال بعض البلغاء : صديق مساعد عضد وساعد . # وقال بعض الشعراء : هموم رجال في أمور كثيرة وهمي من الدنيا صديق مساعد ~~نكون كروح بين جسمين قسمت فجسماهما جسمان والروح واحد وقيل : إنما سمي ~~الصديق صديقا لصدقه ، والعدو عدوا لعدوه عليك . # وقال ثعلب : إنما سمي الخليل خليلا ؛ لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه ~~خللا إلا ملأته . # وأنشد الرياشي قول بشار : قد تخللت مسلك الروح مني وبه سمي الخليل خليلا ~~. PageV01P201 والمؤاخاة في الناس قد تكون على وجهين : أحدهما أخوة مكتسبة ~~بالاتفاق الجاري مجرى الاضطرار . # والثانية : مكتسبة بالقصد والاختيار . # فأما المكتسبة بالاتفاق فهي أوكد حالا ؛ لأنها تنعقد عن أسباب تعود إليها ~~. # والمكتسبة بالقصد تعقد لها أسباب تنقاد إليها . # وما كان جاريا بالطبع فهو ألزم مما هو حادث بالقصد . # ونحن نبدأ بالوجه الأول المكتسب بالاتفاق ثم نعقبه بالوجه الثاني المكتسب ~~بالقصد . # أما المكتسب بالاتفاق فله أسباب نبتدئ بها ثم ننتقل في غاية أحواله ~~المحدودة إلى سبع مراتب ربما استكملتهن وربما وقفت على بعضهن ولكل مرتبة من ~~ذلك حكم خاص وسبب موجب . # قال الشاعر : ما هوى إلا له سبب يبتدي منه وينشعب فأول أسباب الإخاء : ~~التجانس في حال يجتمعان فيها ويأتلفان بها ، فإن قوي التجانس قوي الائتلاف ~~به وإن ضعف كان ضعيفا ما لم تحدث علة أخرى يقوى بها الائتلاف . # وإنما كان ذلك كذلك ؛ لأن الائتلاف بالتشاكل ، والتشاكل بالتجانس ، فإذا ~~عدم التجانس من وجه انتفى التشاكل من وجه ، ومع انتفاء التشاكل يعدم ~~الائتلاف . # فثبت أن التجانس ، وإن تنوع ، أصل الإخاء وقاعدة الائتلاف . # وقد روى يحيى بن سعيد ، عن عمر ، عن عائشة رضي الله عنها ms128 عن النبي صلى ~~الله عليه وسلم أنه قال : { الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما ~~تناكر منها اختلف } . # وهذا واضح وهي بالتجانس متعارفة ، وبفقده متناكرة . # وقيل في منثور الحكم : الأضداد لا تتفق ، والأشكال لا تفترق . ~~PageV01P202 وقال بعض الحكماء : بحسن تشاكل الأخوان يلبث التواصل . # ولبعضهم : فلا تحتقر نفسي وأنت خليلها فكل امرئ يصبو إلى من يشاكل وقال ~~آخر : فقلت : أخي قالوا : أخ من قرابة فقلت لهم : إن الشكول أقارب نسيبي في ~~رأيي وعزمي وهمتي وإن فرقتنا في الأصول المناسب ثم يحدث بالتجانس المواصلة ~~بين المتجانسين ، وهي المرتبة الثانية من مراتب الإخاء . # وسبب المواصلة بينهما وجود الاتفاق منهما فصارت المواصلة نتيجة التجانس ، ~~والسبب فيه وجود الاتفاق ؛ لأن عدم الاتفاق منفر . # وقد قال الشاعر : الناس إن وافقتهم عذبوا أو لا فإن جناهم مر كم من رياض ~~لا أنيس بها تركت لأن طريقها وعر ثم يحدث عن المواصلة رتبة ثالثة ، وسببها ~~الانبساط . # ثم يحدث عن المؤانسة رتبة رابعة وهي المصافاة ، وسببها خلوص النية . # ورتبة خامسة وهي المودة ، وسببها الثقة . # وهذه الرتبة هي أدنى الكمال في أحوال الإخاء وما قبلها أسباب تعود إليها ~~فإن اقترن بها المعاضدة فهي الصداقة . # ثم يحدث عن المودة رتبة سادسة ، وهي المحبة ، وسببها الاستحسان . # فإن كان الاستحسان لفضائل النفس حدثت رتبة سابعة ، وهي الإعظام . # وإن كان الاستحسان للصورة والحركات حدثت رتبة ثامنة ، وهي العشق وسببه ~~الطمع . # وقد قال المأمون رحمه الله تعالى : أول العشق مزاح وولع ثم يزداد إذا زاد ~~الطمع كل من يهوى وإن غالت به رتبة الملك لمن يهوى تبع وهذه الرتبة آخر ~~الرتب المحدودة ، وليس لما جاوزها رتبة مقدرة ، ولا حالة محدودة ؛ ~~PageV01P203 لأنها قد تؤدي إلى ممازجة النفوس وإن تميزت ذواتها ، وتفضي إلى ~~مخالطة الأرواح وإن تفارقت أجسادها . # وهذه حالة لا يمكن حصر غايتها ، ولا الوقوف عند نهايتها . # وقد قال الكندي : الصديق إنسان هو أنت إلا أنه غيرك . # ومثل هذا القول المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين أقطع طلحة بن ~~عبيد الله أرضا ms129 وكتب له بها كتابا ، وأشهد فيه ناسا منهم عمر بن الخطاب ، ~~رضي الله عنه فأتى طلحة بكتابه إلى عمر ليختمه ، فامتنع عليه ، فرجع طلحة ~~مغضبا إلى أبي بكر ، رضي الله عنه وقال : والله ما أدري أنت الخليفة أم عمر ~~؟ فقال : بل عمر ، لكنه أنا . # وأما المكتسبة بالقصد فلا بد لها من داع يدعو إليها ، وباعث يبعث عليها ، ~~وذلك من وجهين : رغبة وفاقة . # فأما الرغبة فهي أن يظهر من الإنسان فضائل تبعث على إخائه ، ويتوسم بجميل ~~يدعو إلى اصطفائه . # وهذه الحالة أقوى من التي بعدها لظهور الصفات المطلوبة من غير تكلف ~~لطلبها ، وإنما يخاف عليها من الاغترار بالتصنع لها . # فليس كل من أظهر الخير كان من أهله ، ولا كل من تخلق بالحسنى كانت من ~~طبعه . # والمتكلف للشيء مناف له إلا أن يدوم عليه مستحسنا له في العقل ، أو ~~متدينا به في الشرع ، فيصير متطبعا به لا مطبوعا عليه ؛ لأنه قد تقدم من ~~كلام الحكماء : ليس في الطبع أن يكون ما ليس في التطبع . # ثم نقول من المتعذر أن تكون أخلاق الفاضل كاملة بالطبع ، وإنما الأغلب أن ~~يكون بعض فضائله بالطبع ، وبعضها بالتطبع الجاري PageV01P204 بالعادة مجرى ~~الطبع ، حتى يصير ما تطبع به في العادة أغلب عليه مما كان مطبوعا عليه إذ ~~خالف العادة . # ولذلك قيل : العادة طبع ثان . # وقال ابن الرومي رحمه الله : واعلم بأن الناس من طينة يصدق في الثلب لها ~~الثالب لولا علاج الناس أخلاقهم إذن لفاح الحمأ اللازب وأما الفاقة فهي أن ~~يفتقر الإنسان ؛ لوحشة انفراده ومهانة وحدته ، إلى اصطفاء من يأنس بمواخاته ~~ويثق بنصرته وموالاته . # وقد قالت الحكماء : من لم يرغب بثلاث بلي بست : من لم يرغب في الإخوان ~~بلي بالعداوة والخذلان ، ومن لم يرغب في السلامة بلي بالشدائد والامتهان ، ~~ومن لم يرغب في المعروف بلي بالندامة والخسران . # ولعمري إن إخوان الصدق من أنفس الذخائر وأفضل العدد ؛ لأنهم سهماء النفوس ~~وأولياء النوائب . # وقد قالت الحكماء رب صديق أود من شقيق . # وقيل لمعاوية : أيما أحب إليك ؟ قال : صديق يحببني ms130 إلى الناس . # وقال ابن المعتز : القريب بعداوته بعيد ، والبعيد بمودته قريب . # وقال الشاعر : لمودة ممن يحبك مخلصا خير من الرحم القريب الكاشح وقال آخر ~~: يخونك ذو القربى مرارا وربما وفى لك عند العهد من لا تناسبه فإذا عزم على ~~اصطفاء الإخوان سبر أحوالهم قبل إخائهم ، وكشف عن أخلاقهم قبل اصطفائهم ؛ ~~لما تقدم من قول الحكماء : أسبر تخبر . # ولا تبعثه الوحدة على الإقدام قبل الخبرة ، ولا حسن الظن على الاغترار ~~بالتصنع . # فإن الملق مصائد العقول ، والنفاق تدليس الفطن ، وهما سجية المتصنع . # وليس فيمن يكون النفاق PageV01P205 والملق بعض سجاياه خير يرجى ، ولا ~~صلاح يؤمل . # ولأجل ذلك قالت الحكماء : اعرف الرجل من فعله لا من كلامه ، واعرف محبته ~~من عينه لا من لسانه . # وقال خالد بن صفوان : إنما أنفقت على إخواني ؛ لأني لم أستعمل معهم ~~النفاق ولا قصرت بهم عن الاستحقاق . # وقال حماد عجرد : كم من أخ لك ليس تنكره ما دمت في دنياك في يسر متصنع لك ~~في مودته يلقاك بالترحيب والبشر فإذا عدا والدهر ذو غير دهر عليك عدا مع ~~الدهر فارفض بإجمال مودة من يقلي المقل ويعشق المثري وعليك من حالاه واحدة ~~في العسر إما كنت واليسر على أن الإنسان موسوم بسيماء من قارب ، ومنسوب ~~إليه أفاعيل من صاحب . # قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { المرء مع من أحب } . # وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الصاحب مناسب . # وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما من شيء أدل على شيء ولا الدخان ~~على النار من الصاحب على الصاحب . # وقال بعض الحكماء : اعرف أخاك بأخيه قبلك . # وقال بعض الأدباء : يظن بالمرء ما يظن بقرينه . # وقال عدي بن زيد : عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن ~~يقتدي إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي فلزم من ~~هذا الوجه أيضا أن يتحرز من دخلاء السوء ، ويجانب أهل الريب ، ليكون موفور ~~العرض سليم العيب ، فلا يلام بملامة غيره . # ولهذا قيل : التثبت والارتياء ms131 ، ومداومة الاختيار والابتلاء ، متعذر بل ~~مفقود . # وقد ضرب ذو الرمة مثلا بالماء فيمن حسن ظاهره ، وخبث باطنه ، PageV01P206 ~~فقال : ألم تر أن الماء يخبث طعمه وإن كان لون الماء أبيض صافيا ونظر بعض ~~الحكماء إلى رجل سوء حسن الوجه فقال : أما البيت فحسن ، وأما الساكن فرديء ~~. # فأخذ جحظة هذا المعنى فقال : رب ما أبين التباين فيه منزل عامر وعقل خراب ~~وأنشد في بعض أهل العلم : لا تركنن إلى ذي منظر حسن فرب رائقة قد ساء ~~مخبرها ما كل أصفر دينار لصفرته صفر العقارب أرداها وأنكرها ثم قد تقدم من ~~قول الحكماء : من لم يقدم الامتحان قبل الثقة ، والثقة قبل أنس ، أثمرت ~~مودته ندما . # وقال بعض البلغاء : مصارمة قبل اختبار ، أفضل من مؤاخاة على اغترار . # وقال بعض الأدباء : لا تثق بالصديق قبل الخبرة ، ولا نفع بالعدو قبل ~~القدرة ، وقال بعض الشعراء : لا تحمدن امرأ حتى تجربه ولا تذمنه من غير ~~تجريب فحمدك المرء ما لم تبله خطأ وذمه بعد حمد شر تكذيب PageV01P207 وإذا ~~قد لزم من هذين الوجهين سبر الإخوان قبل إخائهم ، وخبرة أخلاقهم قبل ~~اصطفائهم . # فالخصال المعتبرة في إخائهم بعد المجانسة التي هي أصل الاتفاق أربع خصال ~~: فالخصلة الأولى : عقل موفور يهدي إلى مراشد الأمور . # فإن الحمق لا تثبت معه مودة ، ولا تدوم لصاحبه استقامة . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { البذاء لؤم ، وصحبة ~~الأحمق شؤم } . # وقال بعض الحكماء : عداوة العاقل أقل ضررا من مودة الأحمق ؛ لأن الأحمق ~~ربما ضر وهو يقدر أن ينفع ، والعاقل لا يتجاوز الحد في مضرته ، فمضرته لها ~~حد يقف عليه العقل ، ومضرة الجاهل ليست بذات حد . # والمحدود أقل ضررا مما هو غير محدود . # وقال المنصور للمسيب بن زهير : ما مادة العقل ؟ فقال : مجالسة العقلاء . # وقال بعض البلغاء : من الجهل صحبة ذوي الجهل ، ومن المحال مجادلة ذوي ~~المحال . # وقال بعض الأدباء : من أشار عليك باصطناع جاهل أو عاجز ، لم يخل أن يكون ~~صديقا جاهلا أو عدوا عاقلا ؛ لأنه يشير بما يضرك ويحتال فيما ms132 يضع منك . # وقال بعض الشعراء : إذا ما كنت متخذا خليلا فلا تثقن بكل أخي إخاء فإن ~~خيرت بينهم فألصق بأهل العقل منهم والحياء فإن العقل ليس له إذا ما تفاضلت ~~الفضائل من كفاء والخصلة الثانية : الدين الواقف بصاحبه على الخيرات ، فإن ~~تارك الدين عدو لنفسه ، فكيف يرجى منه مودة غيره . # وقال بعض الحكماء : اصطف من الإخوان ذا الدين والحسب والرأي والأدب ، ~~فإنه ردء لك عند حاجتك ، ويد عند PageV01P208 نائبتك ، وأنس عند وحشتك ، ~~وزين عند عافيتك . # وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه : أخلاء الرخاء هم كثير ولكن في البلاء ~~هم قليل فلا يغررك خلة من تؤاخي فما لك عند نائبة خليل وكل أخ يقول أنا وفي ~~ولكن ليس يفعل ما يقول سوى خل له حسب ودين فذاك لما يقول هو الفعول وقال ~~آخر : من لم يكن في الله خلته فخليله منه على خطر . # والخصلة الثالثة : أن يكون محمود الأخلاق مرضي الأفعال ، مؤثرا للخير ~~آمرا به ، كارها للشر ناهيا عنه ، فإن مودة الشرير تكسب الأعداء وتفسد ~~الأخلاق . # ولا خير في مودة تجلب عداوة وتورث مذمة ، فإن المتبوع تابع صاحبه . # وقال عبد الله بن المعتز : إخوان الشر كشجر النارنج يحرق بعضها بعضا . # وقال بعض الحكماء : مخالطة الأشرار على خطر ، والصبر على صحبتهم كركوب ~~البحر ، الذي من سلم منه ببدنه من التلف فيه ، لم يسلم بقلبه من الحذر منه ~~. # وقال بعض البلغاء : صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار . # وقال بعض البلغاء : من خير الاختيار صحبة الأخيار ، ومن شر الاختيار صحبة ~~الأشرار . # وقال بعض الشعراء : مجالسة السفيه سفاه رأي ومن عقل مجالسة الحكيم فإنك ~~والقرين معا سواء كما قد الأديم من الأديم والخصلة الرابعة : أن يكون من كل ~~واحد منهما ميل إلى صاحبه ، ورغبة في مؤاخاته . # فإن ذلك أوكد لحال المؤاخاة وأمد لأسباب المصافاة ، إذ ليس كل مطلوب إليه ~~طالبا ولا كل مرغوب إليه راغبا . # ومن طلب مودة ممتنع عليه ، ورغب إلى زاهد فيه ، كان معنى خائبا ، كما ~~PageV01P209 قال البحتري : وطلبت منك مودة لم ms133 أعطها إن المعنى طالب لا يظفر ~~وقال العباس بن الأحنف : فإن كان لا يدنيك إلا شفاعة فلا خير في ود يكون ~~بشافع وأقسم ما تركي عتابك عن قلى ولكن لعلمي أنه غير نافع وإني إذا لم ~~ألزم الصبر طائعا فلا بد منه مكرها غير طائع فإذا استكملت هذه الخصال في ~~إنسان وجب إخاؤه ، وتعين اصطفاؤه . # وبحسب وفورها فيه يجب أن يكون الميل إليه والثقة به . # وبحسب ما يرى من غلبة إحداها عليه يجعل مستعملا في الخلق الغالب عليه . # فإن الإخوان على طبقات مختلفة وأنحاء متشعبة ، ولكل واحد منهم حال يختص ~~بها في المشاركة ، وثلمة يسدها في المؤازرة والمظافرة ، وليس تتفق أحوال ~~جميعهم على حد واحد ؛ لأن التباين في الناس غالب ، واختلافهم في الشيم ظاهر ~~. # وقال بعض الحكماء : الرجال كالشجر شرابه واحد وثمره مختلف . # فأخذ هذا المعنى منصور بن إسماعيل فقال : بنو آدم كالنبت ونبت الأرض ~~ألوان فمنهم شجر الصندل والكافور والبان ومنهم شجر أفضل ما يحمل قطران ومن ~~رام إخوانا تتفق أحوال جميعهم رام متعذرا ، بل لو اتفقوا لكان ربما وقع به ~~خلل في نظامه ، إذ ليس الواحد من الإخوان يمكن الاستعانة به في كل حال ، ~~ولا المجبولون على الخلق الواحد يمكن أن يتصرفوا في جميع الأعمال وإنما ~~بالاختلاف يكون الائتلاف . # وقد قال بعض الحكماء : ليس بلبيب من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من ~~معاشرته بدا . # وقال المأمون : الإخوان ثلاث طبقات : طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه ، ~~PageV01P210 وطبقة كالدواء يحتاج إليه أحيانا ، وطبقة كالداء لا يحتاج إليه ~~أبدا . # ولعمري إن الناس على ما وصفهم ، لا الإخوان منهم . # وليس من كان منهم كالداء ، من الإخوان المعدودين ، بل هم من الأعداء ~~المحذورين . # وإنما يداجون المودة استكفافا لشرهم ، وتحرزا من مكاشفتهم ، فدخلوا في ~~عداد الإخوان بالمظاهرة والمساترة ، وفي الأعداء عند المكاشفة والمجاهرة . # قال بعض الحكماء : مثل العدو الضاحك إليك كالحنظلة الخضراء أوراقها ، ~~القاتل مذاقها . # وقد قيل في منثور الحكم : لا تغترن بمقاربة العدو فإنه كالماء وإن أطيل ~~إسخانه بالنار لم يمنع من إطفائها ms134 . # وقال يزيد بن الحكم الثقفي : تكاشرني ضحكا كأنك ناصح وعينك تبدي أن صدرك ~~لي دوي لسانك معسول ونفسك علقم وشرك مبسوط وخيرك ملتوي فليت كفافا كان خيرك ~~كله وشرك عني ما ارتوى الماء مرتوي فإذا خرج من كان كالداء من عداد الإخوان ~~، فالإخوان هم الصنفان الآخران اللذان من كان منهم كالغذاء وكالدواء ؛ لأن ~~الغذاء أقوم للنفس وحياتها ، والدواء علاجها وصلاحها . # وأفضلهما من كان كالغذاء ؛ لأن الحاجة إليه أعم . # وإذا تميز الإخوان وجب أن ينزل كل منهم حيث نزلت به أحواله إليه واستقرت ~~خصاله وخلاله عليه . # فمن قويت أسبابه قويت الثقة به ، وبحسب الثقة به يكون الركون إليه ، ~~والتعويل عليه . # وقال الشاعر : ما أنت بالسبب الضعيف وإنما نجح الأمور بقوة الأسباب ~~فاليوم حاجتنا إليك وإنما يدعى الطبيب لشدة الأوصاب PageV01P211 وقد اختلفت ~~مذاهب الناس في اتخاذ الإخوان . # فمنهم من يرى أن الاستكثار منهم أولى ؛ ليكونوا أقوى منعة ويدا ، وأوفر ~~تحببا وتوددا ، وأكثر تعاونا وتفقدا . # وقيل لبعض الحكماء : ما العيش ؟ قال : إقبال الزمان ، وعز السلطان ، ~~وكثرة الإخوان . # وقيل : حلية المرء كثرة إخوانه . # ومنهم من يرى أن الإقلال منهم أولى ؛ لأنه أخف إثقالا وكلفا ، وأقل ~~تنازعا وخلفا . # وقال الإسكندر : المستكثر من الإخوان من غير اختيار كالمستوفر من الحجارة ~~، والمقل من الإخوان المتخير لهم كالذي يتخير الجوهر . # وقال عمرو بن العاص : من كثر أخوانه كثر غرماؤه . # وقال إبراهيم بن العباس : مثل الإخوان كالنار قليلها متاع وكثيرها بوار . # ولقد أحسن ابن الرومي في هذا المعنى ، ونبه على العلة ، حيث يقول : عدوك ~~من صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه يكون من ~~الطعام أو الشراب ودع عنك الكثير فكم كثير يعاف وكم قليل مستطاب فما اللجج ~~الملاح بمرويات وتلقى الري في النطف العذاب وقال بعض البلغاء : ليكن غرضك ~~في اتخاذ الإخوان واصطناع النصحاء تكثير العدة لا تكثير العدة ، وتحصيل ~~النفع لا تحصيل الجمع ، فواحد يحصل به المراد خير من ألف تكثر الأعداد . # وإذا كان التجانس والتشاكل من قواعد الأخوة وأسباب المودة ، كان وفور ms135 ~~العقل وظهور الفضل يقتضي من حال صاحبه قلة إخوانه ؛ لأنه يروم مثله ، ويطلب ~~شكله وأمثاله من ذوي العقل والفضل أقل من أضداده من ذوي الحمق والنقص ؛ ~~PageV01P212 لأن الخيار في كل شيء هو الأقل ، فلذلك قل وفور العقل والفضل . # وقد قال الله تعالى : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا ~~يعقلون } . # فقل بهذا التعليل إخوان أهل الفضل لقلتهم ، وكثر إخوان ذوي النقص والجهل ~~؛ لكثرتهم . # وقد قال في ذلك الشاعر : لكل امرئ شكل من الناس مثله فأكثرهم شكلا أقلهم ~~عقلا وكل أناس آلفون لشكلهم فأكثرهم عقلا أقلهم شكلا لأن كثير العقل لست ~~بواجد له في طريق حين يسلكه مثلا وكل سفيه طائش إن فقدته وجدت له في كل ~~ناحية عدلا وإذا كان الأمر على ما وصفنا ، فقد تنقسم أحوال من دخل في عدد ~~الإخوان أربعة أقسام : منهم من يعين ويستعين ، ومنهم من لا يعين ولا يستعين ~~، ومنهم من يستعين ولا يعين ، ومنهم من يعين ولا يستعين . # فأما المعين والمستعين فهو معاوض منصف يؤدي ما عليه ، ويستوفي ما له . # فهو القروض يسعف عند الحاجة ويسترد عند الاستغناء ، وهو مشكور في معونته ~~، ومعذور في استعانته . # فهذا أعدل الإخوان . # وأما من لا يعين ولا يستعين فهو منازل قد منع خيره ، وقمع شره . # فهو لا صديق يرجى ، ولا عدو يخشى . # وقد قال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه : التارك للإخوان متروك . # وإذا كان ذلك فهو كالصورة الممثلة يروقك حسنها ، ويخونك نفعها ، فلا هو ~~مذموم لقمع شره ، ولا هو مشكور لمنع خيره ، وإن كان باللوم أجدر . # وقد قال الشاعر : وأسوأ أيام الفتى يوم لا يرى له أحد يزري عليه وينكر ~~غير أن فساد الوقت وتغير أهله يوجب شكر من كان PageV01P213 شره مقطوعا ، ~~وإن كان خيره ممنوعا ، كما قال المتنبي : إنا لفي زمن ترك القبيح به من ~~أكثر الناس إحسان وإجمال وأما من يستعين ولا يعين فهو لئيم كل ، ومهين ~~مستذل ، قد قطع عنه الرغبة ، وبسط فيه الرهبة ، فلا خيره يرجى ، ولا شره ~~يؤمن . # وحسبك مهانة من ms136 رجل مستثقل عند إقلاله ، ويستقل عند استقلاله ، فليس ~~لمثله في الإخاء حظ ولا في الوداد نصيب . # وهو ممن جعله المأمون من داء الإخوان لا من دوائهم ، ومن سمهم لا من ~~غذائهم . # وقال بعض الحكماء : شر ما في الكريم أن يمنعك خيره ، وخير ما في اللئيم ~~أن يكف عنك شره . # وقال ابن الرومي : عذرنا النخل في إبداء شوك يرد به الأنامل عن جناه فما ~~للعوسج الملعون أبدى لنا شوكا بلا ثمر نراه وأما من يعين ولا يستعين فهو ~~كريم الطبع ، مشكور الصنع . # وقد حاز فضيلتي الابتداء والاكتفاء ، فلا يرى ثقيلا في نائبة ، ولا يقعد ~~عن نهضة في معونة . # فهذا أشرف الإخوان نفسا وأكرمهم طبعا . # فينبغي لمن أوجده الزمان مثله - وقل أن يكون له مثل ؛ لأنه البر الكريم ~~والدر اليتيم - أن يثني عليه خنصره ، ويعض عليه ناجذه ، ويكون به أشد ضنا ~~منه بنفائس أمواله ، وسني ذخائره ؛ لأن نفع الإخوان عام ونفع المال خاص ، ~~ومن كان أعم نفعا فهو بالإدخار أحق . # وقال الفرزدق : يمضي أخوك فلا تلقى له خلفا والمال بعد ذهاب المال مكتسب ~~وقال آخر : لكل شيء عدمته عوض وما لفقد الصديق من عوض ثم لا ينبغي أن يزهد ~~فيه لخلق أو خلقين ينكرهما منه إذا رضي PageV01P214 سائر أخلاقه ، وحمد ~~أكثر شيمه ؛ لأن اليسير مغفور والكمال معوز . # وقد قال الكندي : كيف تريد من صديقك خلقا واحدا وهو ذو طبائع أربع ؟ مع ~~أن نفس الإنسان التي هي أخص النفوس به ومدبرة باختياره وإرادته ، لا تعطيه ~~قيادها في كل ما يريد ، ولا تجيبه إلى طاعته في كل ما يحب ، فكيف بنفس غيره ~~، وحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره . # وقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه : معاتبة الأخ خير من فقده ، ومن لك ~~بأخيك كله ؟ فأخذ الشعراء هذا المعنى ، فقال أبو العتاهية : أأخي من لك من ~~بني الدنيا بكل أخيك من لك فاستبق بعضك لا يملك كل من أعطيت كلك وقال أبو ~~تمام الطائي : ما غبن المغبون مثل عقله من لك يوما بأخيك كله ms137 ؟ وقال بعض ~~الحكماء : طلب الإنصاف من قلة الإنصاف . # وقال بعض البلغاء : لا يزهدنك في رجل حمدت سيرته ، وارتضيت وتيرته ، ~~وعرفت فضله ، وبطنت عقله عيب تحيط به كثرة فضائله ، أو ذنب صغير تستغفر له ~~قوة وسائله . # فإنك لن تجد ، ما بقيت ، مهذبا لا يكون فيه عيب ، ولا يقع منه ذنب . # فاعتبر نفسك ، بعد ، أن لا تراها بعين الرضى ، ولا تجري فيها على حكم ~~الهوى ، فإن في اعتبارك واختيارك لها ما يؤيسك مما تطلب ، ويعطفك على من ~~يذنب . # وقد قال الشاعر : ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد ~~معايبه وقال النابغة الذبياني : ولست بمستبق أخا لا تلمه على شعث أي الرجال ~~المهذب وليس ينقض هذا القول ما وصفنا من اختياره واختيار الخصال الأربع فيه ~~؛ لأن ما أعوز فيه PageV01P215 معفو عنه . # وهذا لا ينبغي أن توحشك فترة تجدها منه ، ولا أن تسيء الظن في كبوة تكون ~~منه ، ما لم تتحقق تغيره وتتيقن تنكره . # وليصرف ذلك إلى فترات النفوس واستراحات الخواطر ، فإن الإنسان قد يتغير ~~عن مراعاة نفسه التي هي أخص النفوس به ، ولا يكون ذلك من عداوة لها ولا ملل ~~منها . # وقد قيل في منثور الحكم : لا يفسدنك الظن على صديق قد أصلحك اليقين له . # وقال جعفر بن محمد لابنه : يا بني من غضب من إخوانك ثلاث مرات فلم يقل ~~فيك سوءا فاتخذه لنفسك خلا . # وقال الحسن بن وهب : من حقوق المودة أخذ عفو الإخوان ، والإغضاء عن تقصير ~~إن كان . # وقد روي عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى : { فاصفح الصفح الجميل } قال ~~: الرضى بغير عتاب . # وقال ابن الرومي : هم الناس والدنيا ولا بد من قذى يلم بعين أو يكدر ~~مشربا ومن قلة الإنصاف أنك تبتغي المهذب في الدنيا ولست المهذبا وقال بعض ~~الشعراء : تواصلنا على الأيام باق ولكن هجرنا مطر الربيع يروعك صوبه لكن ~~تراه على علاته داني النزوع معاذ الله أن نلقى غضابا سوى ذل المطاع على ~~المطيع وأنشدني الأزدي : لا يؤيسنك من صديق نبوة ينبو ms138 الفتى وهو الجواد ~~الخضرم فإذا نبا فاستبقه وتأنه حتى تفيء به وطبعك أكرم وأما الملول وهو ~~السريع التغير ، الوشيك التنكر ، فوداده خطر وإخاؤه غرر ؛ لأنه لا يبقى على ~~حالة ، ولا يخلو من استحالة . # وقد قال ابن الرومي : إذا أنت عاتبت الملول فإنما تخط على صحف من الماء ~~أحرفا وهبه ارعوى بعد العتاب PageV01P216 ألم تكن مودته طبعا فصارت تكلفا ~~وهم نوعان : منهم من يكون ملله استراحة ، ثم يعود إلى المعهود من إخائه ، ~~فهذا أسلم المللين وأقرب الرجلين يسامح في وقت استراحته وحين فترته ، ليرجع ~~إلى الحسنى ويئوب إلى الإخاء ، وإن تقدم المثل بما نظمه الشاعر حيث قال : ~~وقالوا يعود الماء في النهر بعد ما عفت منه آثار وجفت مشارعه فقلت إلى أن ~~يرجع الماء عائدا ويعشب شطاه تموت ضفادعه لكن لا يطرح حقه بالتوهم ، ولا ~~يسقط حرمته بالظنون . # وقال الشاعر : إذا ما حال عهد أخيك يوما وحاد عن الطريق المستقيم فلا ~~تعجل بلومك واستدمه فإن أخا الحفاظ المستديم فإن تك زلة منه وإلا فلا تبعد ~~عن الخلق الكريم ومنهم من يكون ملله تركا وإطراحا ، ولا يراجع أخا ولا ودا ~~، ولا يتذكر حفاظا ولا عهدا ، كما قال أشجع بن عمر السلمي : إني رأيت لها ~~مواصلة كالسم تفرغه على الشهد فإذا أخذت بعهد ذمتها لعب الصدود بذلك العهد ~~وهذا أذم الرجلين حالا ؛ لأن مودته من وساوس الخطرات ، وعوارض الشهوات . # وليس إلا استدراك الحال معه بالإقلاع قبل المخالطة ، وحسن المتاركة بعد ~~الورطة ، كما قال العباس بن الأحنف : تداركت نفسي فعريتها وبغضتها فيك ~~آمالها وما طابت النفس عن سلوة ولكن حملت عليها لها وما مثل من هذه حاله ~~إلا كما قد قال إبراهيم بن هرمة : فإنك واطراحك وصل سلمى لأحرى في مودتها ~~نكوب كثاقبة لحلي مستعار لأذنيها فشانهما الثقوب فأدت حلي جارتها إليها وقد ~~بقيت بأذنيها ندوب وإذا صفت له PageV01P217 أخلاق من سبره ، وتمهدت لديه ~~أحوال من خبره ، وأقدم على اصطفائه أخا ، وعلى اتخاذه خدنا ، لزمته حينئذ ~~حقوقه ، ووجبت عليه حرماته . # وقال عمر بن مسعدة ms139 : العبودية عبودية الإخاء لا عبودية الرق . # وقال بعض الحكماء : من جاد لك بمودته ، فقد جعلك عديل نفسه . # فأول حقوقه اعتقاد مودته ثم إيناسه بالانبساط إليه في غير محرم ، ثم نصحه ~~في السر والعلانية ، ثم تخفيف الأثقال عنه ، ثم معاونته فيما ينوبه من ~~حادثة ، أو يناله من نكبة . # فإن مراقبته في الظاهر نفاق ، وتركه في الشدة لؤم . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { خير أصحابك المعين لك ~~على دهرك ، وشرهم من سعى لك بسوق يوم } . # وقيل : { يا رسول الله أي الأصحاب خير ؟ قال : الذي إذا ذكرت أعانك ~~وواساك ، وخير منه من إذا نسيت ذكرك } . # وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول : اللهم إني أعوذ بك ممن لا ~~يلتمس خالص مودتي إلا بموافقة شهوتي ، وممن ساعدني على سرور ساعتي ، ولا ~~يفكر في حوادث غدي . # وقال بعض البلغاء : عقود الغادر محلولة ، وعهوده مدخولة . # وقال بعض البلغاء : ما ودك من أهمل ودك ، ولا أحبك من أبغض حبك . # وقال بعض الشعراء : وكل أخ عند الهوينا ملاطف ولكنما الإخوان عند الشدائد ~~وقال صالح بن عبد القدوس : شر الإخوان من كانت مودته مع الزمان إذا أقبل ، ~~فإذا أدبر الزمان أدبر عنك . # فأخذ هذا المعنى الشاعر فقال : شر الأخلاء من كانت مودته مع الزمان إذا ~~ما خاف أو رغبا إذا وترت امرأ فاحذر PageV01P218 عداوته من يزرع الشوك لا ~~يحصد به عنبا إن العدو وإن أبدى مسالمة إذا رأى منك يوما فرصة وثبا وينبغي ~~أن يتوقى الإفراط في محبته ، فإن الإفراط داع إلى التقصير . # ولئن تكون الحال بينهما نامية أولى من أن تكون متناهية . # وقد روى ابن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ~~أحبب حبيبك هونا ما ، عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وأبغض بغيضك هونا ما ، ~~عسى أن يكون حبيبك يوما ما } . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا يكن حبك كلفا ، ولا بغضك تلفا . # وقال أبو الأسود الدؤلي : وكن معدنا للخير واصفح عن الأذى ms140 فإنك راء ما ~~علمت وسامع وأحبب إذا أحببت حبا مقاربا فإنك لا تدري متى أنت نازع وأبغض ~~إذا أبغضت غير مباين فإنك لا تدري متى أنت راجع وقال عدي بن زيد : لا تأمنن ~~من مبغض قرب داره ولا من محب أن يمل فيبعدا وإنما يلزم من حق الإخاء بذل ~~المجهود في النصح ، والتناهي في رعاية ما بينهما من الحق ، فليس في ذلك ~~إفراط وإن تناهى ، ولا مجاوزة حد وإن كثر وأوفى ، فتستوي حالتاهما في ~~المغيب والمشهد ولا يكون مغيبهما أفضل من مشهدهما وأولى ، فإن فضل المشهد ~~على المغيب لؤم ، وفضل المغيب على المشهد كرم ، واستواؤهما حفاظ . # وقال بعض الشعراء : علي لإخواني رقيب من الصفا تبيد الليالي وهو ليس يبيد ~~يذكرنيهم في مغيبي ومشهدي فسيان منهم غائب وشهيد وإني لأستحيي أخي أن أبره ~~قريبا وأن أجفوه وهو بعيد وهكذا يقصد التوسط في زيارته وغشيانه ، غير مقلل ~~ولا PageV01P219 مكثر . # فإن تقليل الزيارة داعية الهجران ، وكثرتها سبب الملال . # وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه : { يا أبا ~~هريرة زر غبا تزدد حبا } . # وقال لبيد : توقف عن زيارة كل يوم إذا أكثرت ملك من تزور وقال آخر : أقلل ~~زيارتك الصديق ولا تطل هجرانه فيلج في هجرانه إن الصديق يلج في غشيانه ~~لصديقه فيمل من غشيانه حتى يراه بعد طول سروره بمكانه متثاقلا بمكانه وإذا ~~توانى عن صيانة نفسه رجل تنقص واستخف بشانه وبحسب ذلك فليكن في عتابه فإن ~~كثرة العتاب سبب للقطيعة وإطراح جميعه دليل على قلة الاكتراث بأمر الصديق . # وقد قيل : علة المعاداة قلة المبالاة . # بل تتوسط حالتا تركه وعتابه فيسامح بالمتاركة ويستصلح بالمعاتبة ، فإن ~~المسامحة والاستصلاح إذا اجتمعا لم يلبث معهما نفور ، ولم يبق معهما وجد . # وقد قال بعض الحكماء : لا تكثرن معاتبة إخوانك ، فيهون عليهم سخطك . # وقال منصور النمري : أقلل عتاب من استربت بوده ليست تنال مودة بعتاب وقال ~~بشار بن برد : إذا كنت في كل الأمور معاتبا صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه ~~وإن أنت ms141 لم تشرب مرارا على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه فعش واحدا أو ~~صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبه ثم إن من حق الإخوان أن تغفر هفوتهم ، ~~وتستر زلتهم ؛ لأن من رام بريئا من الهفوات ، سليما من الزلات ، رام أمرا ~~معوزا ، واقترح وصفا معجزا . # وقد قالت الحكماء : أي عالم لا يهفو ، وأي صارم لا ينبو ، وأي جواد لا ~~PageV01P220 يكبو . # وقالوا : من حاول صديقا يأمن زلته ويدوم اغتباطه به ، كان كضال الطريق ~~الذي لا يزداد لنفسه إتعابا إلا ازداد من غايته بعدا . # وقيل لخالد بن صفوان : أي إخوانك أحب إليك ؟ قال : من غفر زللي ، وقطع ~~عللي ، وبلغني أملي . # وقال بعض الشعراء : ما كدت أفحص عن أخي ثقة إلا ندمت عواقب الفحص وأنشدت ~~عن الربيع للشافعي رضي الله عنه : أحب من الإخوان كل مواتي وكل غضيض الطرف ~~عن عثراتي يوافقني في كل أمر أريده ويحفظني حيا وبعد وفاتي فمن لي بهذا ليت ~~أني أصبته فقاسمته ما لي من الحسنات تصفحت إخواني وكان أقلهم على كثرة ~~الإخوان أهل ثقاتي وأنشد ثعلب : إذا أنت لم تستقلل الأمر لم تجد بكفيك في ~~إدباره متعلقا إذا أنت لم تترك أخاك وزلة إذا زلها أوشكتما أن تفرقا وحكى ~~الأصمعي عن بعض الأعراب أنه قال : تناس مساوئ الإخوان يدم لك ودهم . # ووصى بعض الأدباء أخا له فقال : كن للود حافظا وإن لم تجد محافظا ، وللخل ~~واصلا وإن لم تجد مواصلا . # وقال رجل من إياد ليزيد بن المهلب : إذا لم تجاوز عن أخ عند زلة فلست غدا ~~عن عثرتي متجاوزا وكيف يرجيك البعيد لنفعه إذا كان عن مولاك خيرك عاجزا ~~ظلمت أخا كلفته فوق وسعه وهل كانت الأخلاق إلا غرائزا وقال أبو مسعود ، ~~كاتب الرضي : كنا في مجلس الرضي فشكا رجل من أخيه ، فأنشد الرضي : اعذر ~~أخاك على ذنوبه واستر وغط على عيوبه واصبر على بهت السفيه وللزمان على ~~خطوبه ودع الجواب تفضلا وكل الظلوم إلى حسيبه واعلم بأن الحلم عند الغيظ ~~PageV01P221 أحسن من ركوبه وحكي عن بنت ms142 عبد الله بن مطيع أنها قالت لزوجها ~~طلحة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ، وكان أجود قريش في زمانه : ما رأيت ~~قوما ألأم من إخوانك ، قال مه ولم ذلك ؟ قالت : أراهم إذا أيسرت لزموك ، ~~وإذا أعسرت تركوك . # قال : هذا والله من كرمهم ، يأتوننا في حال القوة بنا عليهم ، ويتركوننا ~~في حال الضعف بنا عنهم . # فانظر كيف تأول بكرمه هذا التأويل حتى جعل قبيح فعلهم حسنا ، وظاهر غدرهم ~~وفاء . # وهذا محض الكرم ولباب الفضل ، وبمثل هذا يلزم ذوي الفضل أن يتأولوا ~~الهفوات من إخوانهم . # وقد قال بعض الشعراء : إذا ما بدت من صاحب لك زلة فكن أنت محتالا لزلته ~~عذرا أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه كأن به عن كل فاحشة وقرا سليم دواعي ~~الصبر لا باسط أذى ولا مانع خيرا ولا قائل هجرا والداعي إلى هذا التأويل ~~شيئان : التغافل الحادث عن الفطنة ، والتألف الصادر عن الوفاء . # وقال بعض الحكماء : وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل . # وقال أكثم بن صيفي : من شدد نفر ، ومن تراخى تألف ، والشرف في التغافل . # وقال شبيب بن شيبة الأديب : العاقل هو الفطن المتغافل . # وقال الطائي : ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي وقال أبو ~~العتاهية : إن في صحة الإخاء من الناس وفي خلة الوفاء لقله فالبس الناس ما ~~استطعت على النقص وإلا لم تستقم لك خله عش وحيدا إن كنت لا تقبل العذر وإن ~~كنت لا تجاوز زله من أب واحد وأم خلقنا غير أنا في المال أولاد عله ومما ~~يتبع هذا PageV01P222 الفصل تألف الأعداء بما ينئيهم عن البغضاء ويعطفهم ~~على المحبة . # وذلك قد يكون بصنوف من البر ويختلف بسبب اختلاف الأحوال . # فإن ذلك من سمات الفضل وشروط السؤدد ، فإنه ما أحد يعدم عدوا ولا يفقد ~~حاسدا . # وبحسب قدر النعمة تكثر الأعداء والحسدة ، كما قال البحتري : ولن تستبين ~~الدهر موقع نعمة إذا أنت لم تدلل عليها بحاسد فإن أغفل تألف الأعداء مع ~~وفور النعمة وظهور الحسدة ، توالى عليه من مكر حليمهم ، وبادرة سفيههم ms143 ، ما ~~تصير به النعمة غراما والزعامة ملاما . # وروى ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله ~~عليه وسلم : { رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى التودد إلى الناس } . # وقال سليمان بن داود عليهما السلام ، لابنه : لا تستكثر أن يكون لك ألف ~~صديق ، فالألف قليل . # ولا تستقل أن يكون لك عدو واحد ، فالواحد كثير . # فنظم ابن الرومي هذا المعنى فقال : فكثر من الإخوان ما استطعت إنهم بطون ~~إذا استنجدتهم وظهور وليس كثيرا ألف خل وصاحب وإن عدوا واحدا لكثير وقيل ~~لعبد الملك بن مروان : ما أفدت في ملكك هذا ؟ قال : مودة الرجال . # وقال بعض الحكماء : من علامة الإقبال اصطناع الرجال . # وقال بعض البلغاء : من استصلح عدوه زاد في عدده ، ومن استفسد صديقه نقص ~~من عدده . # وقال بعض الأدباء : العجب ممن يطرح عاقلا كافيا لما يضمره من عداوته ، ~~ويصطنع عاجزا جاهلا لما يظهره من محبته ، وهو قادر على استصلاح من يعاديه ~~بحسن صنائعه وأياديه . PageV01P223 وأنشد عبد الله بن الزبير ثلاثة أبيات ~~جامعة لكل ما قالته العرب ، وهي للأفوه واسمه صلاءة بن عمرو حيث يقول : ~~بلوت الناس قرنا بعد قرن فلم أر غير ختال وقالي وذقت مرارة الأشياء جمعا ~~فما طعم أمر من السؤال ولم أر في الخطوب أشد هولا وأصعب من معاداة الرجال ~~وقال القاضي التنوخي : إلق العدو بوجه لا قطوب به يكاد يقطر من ماء ~~البشاشات فأحزم الناس من يلقى أعاديه في جسم حقد وثوب من مودات الرفق يمن ~~وخير القول أصدقه وكثرة المزح مفتاح العداوات وأنشدت عن الربيع ، للشافعي ~~رضي الله عنه : لما عفوت ولم أحقد على أحد أرحت نفسي من هم العداوات إني ~~أحيي عدوي عند رؤيته لأدفع الشر عني بالتحيات وأظهر البشر للإنسان أبغضه ~~كأنما قد حشى قلبي محبات الناس داء دواء الناس قربهم وفي اعتزالهم قطع ~~المودات وليس - وإن كان بتألف الأعداء مأمورا ، وإلى مقاربتهم مندوبا - ~~ينبغي أن يكون لهم راكنا ، وبهم واثقا ، بل يكون منهم على حذر ، ومن مكرهم ~~على تحرز ms144 ، فإن العداوة إذا استحكمت في الطباع صارت طبعا لا يستحيل ، وجبلة ~~لا تزول . # وإنما يستكفى بالتألف إظهارها ، ويستدفع به أضرارها ، كالنار يستدفع ~~بالماء إحراقها ، ويستفاد به إنضاجها ، وإن كانت محرقة بطبع لا يزول وجوهر ~~لا يتغير . # وقال الشاعر : وإذا عجزت عن العدو فداره وامزح له إن المزاح وفاق فالنار ~~بالماء الذي هو ضدها تعطي النضاج وطبعها الإحراق PageV01P224 البر فصل : ~~وأما البر ، وهو الخامس من أسباب الألفة فلأنه يوصل إلى القلوب ألطافا ، ~~ويثنيها محبة وانعطافا . # ولذلك ندب الله تعالى إلى التعاون به وقرنه بالتقوى له فقال : { وتعاونوا ~~على البر والتقوى } لأن في التقوى رضى الله تعالى ، وفي البر رضى الناس . # ومن جمع بين رضى الله تعالى ورضى الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته . # وروى الأعمش عن خيثمة عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه ~~وسلم يقول : { جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها } . # وحكي أن الله تعالى أوحى إلى داود - على نبينا وعليه السلام - : ذكر ~~عبادي إحساني إليهم ليحبوني فإنهم لا يحبون إلا من أحسن إليهم . # وأنشدني أبو الحسن الهاشمي : الناس كلهم عيال الله تحت ظلاله فأحبهم طرا ~~إليه أبرهم لعياله والبر نوعان : صلة ومعروف . # فأما الصلة : فهي التبرع ببذل المال في الجهات المحمودة لغير عوض مطلوب . # وهذا يبعث عليه سماحة النفس وسخاؤها ، ويمنع منه شحها وإباؤها . # قال الله تعالى : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } وروى محمد بن ~~إبراهيم التيمي ، عن عروة بن الزبير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ~~: { السخي قريب من الله عز وجل ، قريب من الجنة ، قريب من الناس ، بعيد من ~~النار ، والبخيل بعيد من الله عز وجل ، بعيد من الجنة ، بعيد من الناس ، ~~قريب من النار } . # { وقال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : رفع الله عن أبيك العذاب ~~الشديد لسخائه } . # { وبلغه صلى PageV01P225 الله عليه وسلم عن الزبير إمساك فجذب عمامته ~~إليه وقال : يا زبير أنا رسول الله إليك وإلى غيرك يقول أنفق أنفق عليك ولا ms145 ~~توك فأوك عليك } . # وروى أبو الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما من يوم ~~غربت فيه شمسه إلا وملكان يناديان : اللهم أعط منفقا خلفا وممسكا تلفا } . # وأنزل في ذلك القرآن : { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ~~وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } . # قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني من أعطى فيما أمر واتقى فيما حظر وصدق ~~بالحسنى يعني بالخلف من عطائه . # فعند هذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : لسادات الناس : في الدنيا ~~الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء . # وقيل في منثور الحكم : الجود عن موجود . # وقيل في المثل : سؤدد بلا جود ، كملك بلا جنود . # وقال بعض الحكماء : الجود حارس الأعراض . # وقال بعض الأدباء : من جاد ساد ، ومن أضعف ازداد . # وقال بعض الفصحاء : جود الرجل يحببه إلى أضداده ، وبخله يبغضه إلى أولاده ~~. # وقال بعض الفصحاء : خير الأموال ما استرق حرا ، وخير الأعمال ما استحق ~~شكرا . # وقال صالح بن عبد القدوس : ويظهر عيب المرء في الناس بخله ويستره عنهم ~~جميعا سخاؤه تغط بأثواب السخاء فإنني أرى كل عيب فالسخاء غطاؤه وحد السخاء ~~بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة ، وأن يوصل إلى مستحقه بقدر الطاقة وتدبير ~~ذلك مستصعب ، ولعل بعض من يحب أن ينسب إلى الكرم ينكر حد السخاء ، ويجعل ~~تقدير العطية فيه نوعا من البخل PageV01P226 ، وأن الجود بذل الموجود ، ~~وهذا تكلف يفضي إلى الجهل بحدود الفضائل . # ولو كان الجود بذل الموجود لما كان للسرف موضع ولا للتبذير موقع . # وقد ورد الكتاب بذمهما وجاءت السنة بالنهي عنهما . # وإذا كان السخاء محدودا فمن وقف على حده سمي كريما وكان للحمد مستحقا ، ~~ومن قصر عنه بخيلا وكان للذم مستوجبا . # وقد قال الله تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله ~~هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } وروي عن النبي ~~صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أقسم الله بعزته لا يجاوره بخيل } . # وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ms146 : { طعام الجواد دواء ، وطعام ~~البخيل داء } . # { وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يقول : الشحيح أعذر من الظالم ~~، فقال : لعن الله الشحيح ولعن الظالم } . # وقال بعض الحكماء : البخل جلباب المسكنة . # وقال بعض الأدباء : البخيل ليس له خليل . # وقال بعض البلغاء : البخيل حارس نعمته ، وخازن ورثته . # وقال بعض الشعراء : إذا كنت جماعا لمالك ممسكا فأنت عليه خازن وأمين ~~تؤديه مذموما إلى غير حامد فيأكله عفوا وأنت دفين وتظاهر بعض ذوي النباهة ~~بحب الثناء مع إمساك فيه ، فقال بعض الشعراء : أراك تؤمل حسن الثنا ولم ~~يرزق الله ذاك البخيلا وكيف يسود أخو بطنة يمن كثيرا ويعطي قليلا وقد بينا ~~حب الثناء وحب المال ، لأن الثناء يبعث على البذل وحب المال يمنع منه ، فإن ~~ظهرا كان حب الثناء كاذبا . # وقد قال بعض الشعراء : جمعت PageV01P227 أمرين ضاع الحزم بينهما تيه ~~الملوك وأخلاق المماليك أردت شكرا بلا بر ولا صلة لقد سلكت طريقا غير مسلوك ~~ظننت عرضك لم يقرع بقارعة وما أراك على حال بمتروك لئن سبقت إلى مال حظيت ~~به فما سبقت إلى شيء سوى النوك وقد يحدث عن البخل من الأخلاق المذمومة ، ~~وإن كان ذريعة إلى كل مذمة ، أربعة أخلاق ناهيك بها ذما وهي : الحرص والشره ~~وسوء الظن ومنع الحقوق . # فأما الحرص فهو شدة الكدح والإسراف في الطلب . # وأما الشره فهو استقلال الكفاية ، والاستكثار لغير حاجة ، وهذا فرق ما ~~بين الحرص والشره . # وقد روى العلاء بن جرير عن أبيه عن سالم بن مسروق قال : قال رسول الله ~~صلى الله عليه وسلم : { من لا يجزيه من العيش ما يكفيه لم يجد ما عاش ما ~~يغنيه } . # وقال بعض الحكماء : الشره من غرائز اللؤم . # وأما سوء الظن فهو عدم الثقة بمن هو لها أهل ، فإن كان بالخالق كان شكا ~~يئول إلى ضلال ، وإن كان بالمخلوق كان استخانة يصير بها مختانا وخوانا ، ~~لأن ظن الإنسان بغيره بحسب ما يراه من نفسه ، فإن وجد فيها خيرا ظنه في ~~غيره ، وإن رأى فيها سوءا اعتقده في الناس . # وقد ms147 قيل في المثل كل إناء ينضح بما فيه . # فإن قيل قد تقدم من قول الحكماء أن الحزم سوء الظن قيل تأويله قلة ~~الاسترسال إليهم لا اعتقاد السوء فيهم . # وأما منع الحقوق فإن نفس البخيل لا تسمح بفراق محبوبها . # ولا تنقاد إلى ترك مطلوبها ، فلا تذعن لحق ولا تجيب إلى إنصاف . # وإذا آل البخيل إلى ما وصفنا من هذه الأخلاق المذمومة ، والشيم ~~PageV01P228 اللئيمة ، لم يبق معه خير مرجو ولا صلاح مأمول . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { قال للأنصار : من سيدكم ؟ ~~قالوا : الحر بن قيس على بخل فيه . # فقال صلى الله عليه وسلم : وأي داء أدوأ من البخل ؟ قالوا : وكيف ذاك يا ~~رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إن قوما نزلوا بساحل البحر فكرهوا ~~لبخلهم نزول الأضياف بهم ، فقالوا : ليبعد الرجال منا عن النساء حتى يعتذر ~~الرجال إلى الأضياف ببعد النساء ، وتعتذر النساء ببعد الرجال ، ففعلوا وطال ~~ذلك بهم فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء } . # وأما السرف والتبذير فإن من زاد على حد السخاء فهو مسرف ومبذر ، وهو ~~بالذم جدير . # وقد قال الله تعالى : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } وروي عن النبي ~~صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما عال من اقتصد } . # وقد قال المأمون رحمه الله : لا خير في السرف ولا سرف في الخير . # وقال بعض الحكماء : صديق الرجل قصده ، وسرفه عدوه . # وقال بعض البلغاء : لا كثير مع إسراف ولا قليل مع احتراف . # واعلم أن السرف والتبذير قد يفترق معناهما . # فالسرف : هو الجهل بمقادير الحقوق ، والتبذير : هو الجهل بمواقع الحقوق . # وكلاهما مذموم ، وذم التبذير أعظم ؛ لأن المسرف يخطئ في الزيادة ، ~~والمبذر يخطئ في الجهل . # ومن جهل مواقع الحقوق ومقاديرها بماله وأخطأها ، فهو كمن جهلها بفعاله ~~فتعداها وكما أنه بتبذيره قد يضع الشيء في غير موضعه ، فهكذا قد يعدل به عن ~~موضعه ؛ لأن المال أقل من أن PageV01P229 يوضع في كل موضع من حق وغير حق . # وقد قال معاوية رضي الله عنه : كل سرف فبإزائه حق مضيع . # وقال ms148 بعض الحكماء : الخطأ في إعطاء ما لا ينبغي ومنع ما ينبغي واحد . # وقال سفيان الثوري رضي الله عنه : الحلال لا يحتمل السرف ، وليس يتم ~~السخاء ببذل ما في يده حتى تسخو نفسه عما بيد غيره فلا يميل إلى طلب ولا ~~يكف عن بذل . # وقد حكي أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم الخليل - على نبينا وعليه السلام ~~- : أتدري لم اتخذتك خليلا ؟ قال : لا يا رب . # قال : لأني رأيتك تحب أن تعطي ولا تحب أن تأخذ . # وروى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : { أتى رجل إلى النبي صلى ~~الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله مرني بعمل يحبني الله عليه ويحبني ~~الناس . # فقال : ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس } ~~. # وقال أيوب السختياني : لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان : العفة عن ~~أموال الناس ، والتجاوز عنهم . # وقيل لسفيان : ما الزهد في الدنيا ؟ قال : الزهد في الناس . # وكتب كسرى إلى ابنه هرمز : يا بني استقل الكثير مما تعطي ، واستكثر ~~القليل مما تأخذ ، فإن قرة عيون الكرام في الإعطاء وسرور اللئام في الأخذ ، ~~ولا تعد الشحيح أمينا ولا الكذاب حرا فإنه لا عفة مع الشح ولا مروءة مع ~~الكذب . # وقال بعض الحكماء : السخاء سخاءان : أشرفهما سخاؤك عما بيد غيرك . # وقال بعض البلغاء : السخاء أن تكون بمالك متبرعا وعن مال غيرك متورعا . # وقال بعض الصلحاء : الجود غاية الزهد ، والزهد غاية الجود PageV01P230 . # وقال بعض الشعراء : إذا لم تكن نفس الشريف شريفة وإن كان ذا قدر فليس له ~~شرف PageV01P231 والبذل على وجهين : أحدهما ما ابتدأ به الإنسان من غير ~~سؤال ، والثاني ما كان عن طلب وسؤال . # فأما المبتدئ به فهو أطبعهما سخاء ، وأشرفهما عطاء . # وسئل علي - كرم الله وجهه - عن السخاء فقال : ما كان منه ابتداء فأما ما ~~كان عن مسألة فحياء . # وقال بعض الحكماء : أجل النوال ما وصل قبل السؤال . # وقال بعض الشعراء : وفتى خلا من ماله ومن المروءة غير خالي أعطاك قبل ~~سؤاله وكفاك مكروه السؤال وهذا النوع ms149 من البذل قد يكون لتسعة أسباب . # فالسبب الأول : أن يرى خلة يقدر على سدها ، وفاقة يتمكن من إزالتها ، فلا ~~يدعه الكرم والتدين إلا أن يكون زعيم صلاحها ، وكفيل نجاحها ، رغبة في ~~الأجر إن تدين وفي الشكر إن تكرم . # وقال أبو العتاهية : ما الناس إلا آلة معتمله للخير والشر جميعا فعله ~~والسبب الثاني : أن يرى في ماله فضلا عن حاجته ، وفي يده زيادة عن كفايته ، ~~فيرى انتهاز الفرصة بها فيضعها حيث تكون له ذخرا معدا وغنما مستجدا . # وقد قال الحسن البصري رحمه الله : ما أنصفك من كلفك إجلاله ومنعك ماله . # وقيل لهند بنت الحسن : من أعظم الناس في عينك ؟ قالت : من كان لي إليه ~~حاجة . # وقال الشاعر : وما ضاع مال ورث الحمد أهله ولكن أموال البخيل تضيع والسبب ~~الثالث : أن يكون لتعريض يتنبه عليه لفطنته ، وإشارة يستدل عليها بكرمه ، ~~فلا يدعه الكرم أن يغفل ولا الحياء أن يكف . # وقد حكي أن رجلا ساير بعض الولاة فقال : ما أهزل برذونك ؟ فقال : يده مع ~~أيدينا فوصله اكتفاء بهذا التعريض PageV01P232 الذي بلغ ما لا يبلغه صريح ~~السؤال . # ولذلك قال أكثم بن صيفي : السخاء حسن الفطنة واللؤم سوء التغافل . # وحكي أن عبيد الله بن سليمان لما تقلد وزارة المعتضد كتب إليه عبيد الله ~~بن عبد الله بن طاهر : أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا وأسعفنا فيمن نحب ونكرم ~~فقلت له : نعماك فيهم أتمها ودع أمرنا إن المهم مقدم فقال عبيد الله : ما ~~أحسن ما شكا أمره بين أضعاف مدحه ، وقضى حاجته . # وقال بعض الشعراء : ومن لا يرى من نفسه مذكرا لها رأى طلب المستنجدين ~~ثقيلا والسبب الرابع : أن يكون ذلك رعاية ليد أو جزاء على صنيعة ، فيرى ~~تأدية الحق عليه طوعا إما أنفة وإما شكرا ليكون من أسر الامتنان طليقا ، ~~ومن رق الإحسان وعبوديته عتيقا . # قال بعض الحكماء : الإحسان رق ، والمكافأة عتق . # وقال أبو العتاهية رحمه الله تعالى : وليست أيادي الناس عندي غنيمة ورب ~~يد عندي أشد من الأسر والسبب الخامس : أن يؤثر الإذعان بتقديمه ، والإقرار ms150 ~~بتعظيمه ، توطيدا لرئاسة هو لها محب ، وعلى طلبها مكب . # وقد قال الشاعر : حب الرئاسة داء لا دواء له وقلما تجد الراضين بالقسم ~~فتستصعب عليه إجابة النفوس له طوعا إلا بالاستعطاف ، وإذعانها له إلا ~~بالرغبة والإسعاف . # وقد قال بعض الأدباء : بالإحسان يرتبط الإنسان . # وقال بعض البلغاء : من بذل ماله أدرك آماله . # وقال بعض الشعراء : أترجو أن تسود بلا عناء وكيف يسود ذو الدعة البخيل ~~والسبب السادس : أن يدفع به سطوة أعدائه ، ويستكفي به نفار خصمائه ، ~~PageV01P233 ليصيروا له بعد الخصومة أعوانا ، وبعد العداوة إخوانا ، إما ~~لصيانة عرض ، وإما لحراسة مجد . # وقد قال أبو تمام الطائي : ولم يجتمع شرق وغرب لقاصد ولا المجد في كف ~~امرئ والدراهم ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه مغارم في الأقوام وهي مغانم وقال ~~بعض الأدباء : من عظمت مرافقه أعظمه مرافقه . # والسبب السابع : أن يربي به سالف صنيعة أولاها ، ويراعي به قديم نعمة ~~أسداها ، كي لا ينسى ما أولاه أو يضاع ما أسداه ، فإن مقطوع البر ضائع ~~ومهمل الإحسان ضال . # وقد قال الشاعر : وسمت امرأ بالبر ثم اطرحته ومن أفضل الأشياء رب الصنائع ~~وقال محمد بن داود الأصبهاني : بدأت بنعمى أوجبت لي حرمة عليك فعد بالفضل ~~فالعود أحمد والسبب الثامن : المحبة يؤثر بها المحبوب على ماله فلا يضن ~~عليه بمرغوب ، ولا يتنفس عليه بمطلوب ، للذة التي هي عنده أحظى ، وإلى نفسه ~~أشهى ؛ لأن النفس إلى محبوبها أشوق وإلى ما يليه أسبق . # وقد قال الشاعر : فما زرتكم عمدا ولكن ذا الهوى إلى حيث يهوى القلب تهوي ~~به الرجل وهذا وإن دخل في أقسام العطاء فخارج عن حد السخاء ، وهكذا الخامس ~~والسادس من هذه الأسباب . # وإنما ذكرناها لدخولها تحت أقسام العطاء . # والسبب التاسع : وليس بسبب أن يفعل ذلك لغير ما سبب وإنما هي سجية قد فطر ~~عليها ، وشيمة قد طبع بها ، فلا يميز بين مستحق ومحروم ، ولا يفرق بين ~~محمود ومذموم ، كما قال بشار : ليس يعطيك للرجاء ولا للخوف لكن يلذ طعم ~~العطاء وقد اختلف الناس في مثل PageV01P234 هذا هل يكون ms151 منسوبا إلى السخاء ~~فيحمد ، أو خارجا عنه فيذم . # وقال قوم : هذا هو السخي طبعا والجواد كرما وهو أحق من كان به ممدوحا ~~وإليه منسوبا ، وقال أبو تمام : من غير ما سبب يدني كفى سببا للحر أن يجتدي ~~حرا بلا سبب وقال الحسن بن سهل : إذا لم أعط إلا مستحقا فكأن أعطيت غريما . # وقال : الشرف في السرف ، فقيل له : لا خير في السرف . # فقال : ولا سرف في الخير . # وقال الفضل بن سهل : العجب لمن يرجو من فوقه كيف يحرم من دونه . # وقال بشار : وما الناس إلا صاحباك فمنهم سخي ومغلول اليدين من البخل ~~فسامح يدا ما أمكنتك فإنها تقل وتثري والعواذل في شغل وقال آخرون : هذا ~~خارج من السخاء المحمود إلى السرف والتبذير المذموم ؛ لأن العطاء إذا كان ~~لغير سبب كان المنع لغير سبب ؛ لأن المال يقل عن الحقوق ويقصر عن الواجبات ~~فإذا أعطى غير المستحق فقد يمنع مستحقا وما يناله من الذم بمنع المستحق ~~أكثر مما يناله من الحمد لإعطاء غير المستحق . # وحسبك ذما بمن كانت أفعاله تصدر عن غير تمييز ، وتوجد لغير علة . # وقد قال الله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل ~~البسط فتقعد ملوما محسورا } . # فنهى عن بسطها سرفا ، كما نهى عن قبضها بخلا ، فدل على استواء الأمرين ~~ذما وعلى اتفاقهما لوما . # وقال الشاعر : وكان المال يأتينا فكنا نبذره وليس لنا عقول فلما أن تولى ~~المال عنا عقلنا حين ليس لنا فضول قالوا : ولأن العطاء والمنع إذا كانا ~~لغير علة أفضيا إلى ذم الممنوع PageV01P235 وقلة شكر المعطي . # أما الممنوع فلأنه قد فضل عليه من سواه ، وأما المعطي فإنه وجد ذلك ~~اتفاقا وربما أمل بالاتفاق أضعافا ، فصار ذلك مفضيا إلى اجتلاب الذم وإحباط ~~الشكر . # وليس فيما أفضى إلى واحد منهما خير يرجى وهو جدير أن يكون شرا يتقى . # ولمثل هذا كان منع الجميع إرضاء للجميع وعطاء يكون المنع أرضى منه خسران ~~مبين . # فأما إذا كان البذل والعطاء عن سؤال فشروطه معتبرة من وجهين : أحدهما في ms152 ~~السائل ، والثاني في المسئول . # فأما ما كان معتبرا في السائل فثلاثة شروط : فالشرط الأول : أن يكون ~~السؤال لسبب ، والطلب لموجب . # فإن كان لضرورة ارتفع عنه الحرج وسقط عنه اللوم . # وقد قال بعض الحكماء : الضرورة توقح الصورة . # وقال بعض الشعراء : ألا قبح الله الضرورة إنها تكلف أعلى الخلق أدنى ~~الخلائق ولله در الاتساع فإنه يبين فضل السبق من غير سابق وقال الكميت : ~~إذا لم تكن إلا الأسنة مركبا فلا رأي للمضطر إلا ركوبها فإن ارتفعت الضرورة ~~ودعت الحاجة فيما هو أولى الأمرين أن يكون وإن جاز أن لا يكون فالنفس ~~المسامحة تغلب الحاجة ، وتسمح في الطلب ، وتراعي ما استقام به الأمر ، وإن ~~ناله ذل ولحقه وهن فيتأول صاحبها قول البحتري : وربما كان مكروه الأمور إلى ~~محبوبها سببا ما مثله سبب والنفس الشريفة تطلب الصيانة ، وتراعي النزاهة ، ~~وتحتمل من الضر ما احتملت ، ومن الشدة ما طاقت ، فيبقى تحملها ويدوم تصونها ~~، فتكون كما قال الشاعر : وقد يكتسي المرء خز الثياب ومن PageV01P236 دونها ~~حاله مضنيه كما يكتسي خده حمرة وعلته ورم في الريه فلا يرى أن يتدنس بمطالب ~~الشؤم ، ومطامع اللؤم ، فإن البهائم الوحشية تأبى ذلك وتأنف منه ، قال ~~الشاعر : وليس الليث من جوع بغاد على جيف تطيف بها الكلاب فكيف بالإنسان ~~الفاضل الذي هو أكرم الحيوان جنسا ، وأشرفه نفسا ، هل يحسن به أن يرى لوحش ~~البهائم عليه فضلا ، وقد قال الشاعر : على كل حال يأكل المرء زاده على ~~البؤس والضراء والحدثان والفضل في مثل ما قيل لبعض الزهاد : لو سألت جارك ~~أعطاك ؟ فقال : والله ما أسأل الدنيا ممن يملكها فكيف ممن لا يملكها . # ووصف بعض الشعراء قوما فقال : إذا افترقوا أغضوا على الضر خشية وإن ~~أيسروا عادوا سراعا إلى الفقر فأما من يسأل من غير ضرورة مست ، ولا حاجة ~~دعت ، فذلك صريح اللؤم ومحض الدناءة . # وقلما تجد مثله ملحوظا أو ممولا محظوظا ؛ لأن الحرمان قاده إلى أضيق ~~الأرزاق ، واللؤم ساقه إلى أخبث المطاعم ، فلم يبق لوجهه ماء إلا أراقه ، ~~ولا ذل إلا ذاقه ms153 ، كما قال عبد الصمد بن المعدل لأبي تمام الطائي : أنت بين ~~اثنتين تبرز للناس وكلتاهما بوجه مذال لست تنفك طالبا لوصال من حبيب أو ~~طالبا لنوال أي ماء لحر وجهك يبقى بين ذل الهوى وذل السؤال ولو استقبح ~~العار وأنف من الذل لوجد غير السؤال مكتسبا يمونه ، ولقدر على ما يصونه ، ~~وقد قال الشاعر : لا تطلبن معيشة بتذلل فليأتينك رزقك المقدور واعلم بأنك ~~آخذ كل الذي لك في الكتاب مقدر مسطور والشرط الثاني : من PageV01P237 شروط ~~السؤال أن يضيق الزمان عن إرجائه ، ويقصر الوقت عن إبطائه ، فلا يجد لنفسه ~~في التأخير فسحة ، ولا في التمادي مهلة ، فيصير من المعذورين وداخلا في ~~عداد المضطرين . # فأما إذا كان الوقت متسعا والزمان ممتدا فتعجيل السؤال لؤم وقنوط . # وقال الشاعر : أبى لي إغضاء الجفون على القذى يقيني أن لا عسر إلا مفرج ~~ألا ربما ضاق الفضاء بأهله وأمكن من بين الأسنة مخرج والشرط الثالث : ~~اختيار المسئول أن يكون مرجو الإجابة مأمول النجح إما لحرمة السائل أو كرم ~~المسئول فإن سأل لئيما لا يرعى حرمة ، ولا يولي مكرمة ، فهو في اختياره ~~ملوم ، وفي سؤاله محروم . # وقد قال بعض البلغاء : المخذول من كانت له إلى اللئام حاجة . # وقد قال بعض البلغاء : أذل من اللئيم سائله ، وأقل من البخيل نائله . # وقال بعض الشعراء : من كان يؤمل أن يرى من ساقط نيلا سنيا فلقد رجا أن ~~يجتني من عوسج رطبا جنيا وأما الشروط المعتبرة في المسئول فثلاثة . # الشرط الأول : أن يكتفي بالتعريض ولا يلجأ إلى السؤال الصريح ؛ ليصون ~~السائل عن ذل الطلب فإن الحال ناطقة والتعريض كاف . # وقد قال الشاعر : أقول وستر الدجى مسبل كما قال حين شكا الضفدع كلامي إن ~~قلته ضائع وفي الصمت حتفي فما أصنع وربما فهم المسئول الإشارة فألجأ إلى ~~التصريح بالعبارة تهجينا للسائل فيخجل ويستحي فيكف كما قال أبو تمام : من ~~كان مفقود الحياء فوجهه من غير بواب له بواب والشرط الثاني : أن يلقى ~~بالبشر والترحيب ، ويقابل بالطلاقة والتقريب ، ليكون PageV01P238 مشكورا إن ~~أعطى ومعذورا ms154 إن منع . # وقد قال بعض الحكماء : إلق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم ~~عذره . # وقال ابن لنكك : إن أبا بكر بن دريد قصد بعض الوزراء في حاجة فلم يقضها ~~له وظهر له منه ضجر ، فقال : لا تدخلنك ضجرة من سائل فلخير دهرك أن ترى ~~مسئولا لا تجبهن بالرد وجه مؤمل فبقاء عزك أن ترى مأمولا تلقى الكريم ~~فتستدل ببشره وترى العبوس على اللئيم دليلا واعلم بأنك عن قليل صائر خبرا ~~فكن خبرا يروق جميلا والشرط الثالث : تصديق الأمل وتحقيق الظن به ثم اعتبار ~~حاله وحال سائله فإنها لا تخلو من أربع أحوال : فالحال الأولى : أن يكون ~~السائل مستوجبا والمسئول متمكنا . # فالإجابة ههنا تستحق كرما وتستلزم مروءة وليس للرد سبيل إلا لمن استولى ~~عليه البخل ، وهان عليه الذم ، فيكون كما قال عبد الرحمن بن حسان : إني ~~رأيت من المكارم حسبكم أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا فإذا تذكرت المكارم مرة ~~في مجلس أنتم به فتقنعوا فنعوذ بالله ممن حرم ثروة ماله ، ومنع حسن حاله ، ~~أن يكون مستودعا في صنيع مشكور ، وبر مذخور . # وقد قيل لبخيل : لم حبست مالك ؟ قال : للنوائب . # فقيل له : قد نزلت بك . # وقال بعض الشعراء : ما لك من مالك إلا الذي قدمت فابذل طائعا مالكا تقول ~~أعمالي ولو فتشوا رأيت أعمالك أعمى لكا وقد أسقط حق نفسه ، ورفع أسباب شكره ~~، فصار بأن لا حق له ، مذموما كمشكور ، ومأثوما كمأجور . # وقال أبو العتاهية : خزن البخيل علي صالحه إذ لم يثقل بره ظهري ما ~~PageV01P239 فاتني خير امرئ وضعت عني يداه مؤنة الشكر فإذا لم يكن للرد في ~~مثل هذه الحال سبيل نظر فإن كان التأخير مضرا عجل بذله ، وقطع مطله . # وكانت إجابته فعلا ، وقوله عملا . # وقد قالت الحكماء : من مروءة المطلوب منه أن لا يلجأ إلى إلحاح عليه . # وقال محمد بن حازم : ومنتظر سؤالك بالعطايا وأشرف من عطاياه السؤال إذا ~~لم يأتك المعروف طوعا فدعه فالتنزه عنه مال وإن كان في الوقت مهلة ، وفي ~~التأخير فسحة ، فقد اختلفت مذاهب ms155 الفضلاء فيه . # فذهب بعضهم إلى أن الأولى تعجيل الوعد قولا ، ثم يعقبه الإنجاز فعلا ، ~~ليكون السائل مسرورا بتعجيل الوعد ثم بآجل الإنجاز ، ويكون المسئول موصوفا ~~بالكرم ملحوظا بالوفاء . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { العدة عطية } . # وقال الفضل بن سهل لرجل سأله حاجة : أعدك اليوم وأحبوك غدا بالإنجاز ~~لتذوق حلاوة الأمل وأتزين بثبوت الوفاء . # ووعد يحيى بن خالد رجلا بحاجة سأله إياها فقيل له : تعد وأنت قادر ؟ فقال ~~: إن الحاجة إذا لم يتقدمها وعد ينتظر صاحبه نجحه لم يجد سرورها ؛ لأن ~~الوعد طعم والإنجاز طعام ، وليس من فاجأه الطعام كمن يجد ريحه ويطعمه فدع ~~الحاجة تختمر بالوعد ؛ ليكون لها طعم عند المصطنع إليه . # وقال بعض البلغاء : إذا أحسنت القول فأحسن الفعل ؛ ليجتمع لك ثمرة اللسان ~~وثمرة الإحسان ، ولا تقل ما لا تفعل فإنك لا تخلو في ذلك من ذنب تكسبه ، أو ~~عجز تلتزمه . # ومنهم من ذهب إلى أن تعجيل البذل فعلا من غير وعد PageV01P240 أولى ، ~~وتقديمه من غير توقيت ولا انتظار أحرى ، وإنما يقدم الوعد أحد رجلين : إما ~~معوز ينتظر وجده ، وإما شحيح يروض نفسه توطئة . # وليس للوعد في غير هاتين الحالتين وجه يصح ولا رأي يتضح ، مع ما يغيره ~~الليل والنهار وتتقلب به الحال من يسار وإعسار . # وقال بعض الشعراء : يا أيها الملك المقدم أمره شرقا وغربا امنن بختم ~~صحيفتي ما دام هذا الطين رطبا واعلم بأن جفافه مما يعيد السهل صعبا قالوا : ~~ولأن في الرجوع عنه من الانكسار ، وفي توقع الوعد من مرارة الانتظار ، وفي ~~العود إليه من ذلة الاقتضاء ، وذلة الاجتداء ، ما يكدر بره ، ويوهن شكره . # وقال الشاعر : إن الحوائج ربما أزرى بها عند الذي تقضي له تطويلها فإذا ~~ضمنت لصاحب لك حاجة فاعلم بأن تمامها تعجيلها والحال الثانية : أن يكون ~~السائل غير مستوجب والمسئول غير متمكن . # ففي الرد فسحة وفي المنع عذر . # غير أنه يلين عند الرد لينا يقيه الذم ، ويظهر عذرا يدفع عنه اللوم . # فليس كل مقل يعرف ولا معذور ينصف ms156 . # وقد قال أبو العتاهية يصف الناس : يا رب إن الناس لا ينصفونني فكيف وإن ~~أنصفتهم ظلموني فإن كان لي شيء تصدوا لأخذه وإن جئت أبغي شيئهم منعوني وإن ~~نالهم بذلي فلا شكر عندهم وإن أنا لم أبذل لهم شتموني وإن طرقتني نكبة ~~فكهوا بها وإن صحبتني نعمة حسدوني سأمنع قلبي أن يحن إليهم وأغمض عنهم ~~ناظري وجفوني وأقطع أيامي بيوم سهولة أقضي بها عمري ويوم حزون ألا إن أصفى ~~العيش ما طاب غبه وما PageV01P241 نلته في لذة وسكون والحال الثالثة : أن ~~يكون السائل مستوجبا ، والمسئول غير متمكن ، فيأتي بالحمل على النفس ما ~~أمكن من يسير يسد به خلة ، أو يدفع به مذمة أو يوضح من أعذار المعوزين ~~وتوجع المتألمين ما يجعله في المنع معذورا وبالتوجع مشكورا . # وقد قال أبو النصر العتبي رحمه الله تعالى : الله يعلم أني لست ذا بخل ~~ولست ملتمسا في البخل لي عللا لكن طاقة مثلي غير خافية والنمل يعذر في ~~القدر الذي حملا وربما تحسر بحدوث العجز بعد تقدم القدرة على فوت الصنيعة ~~وزوال العادة حتى صار أضنى جسدا وأزيد كمدا ، كما قال الشاعر : وكنت كباز ~~السوء قص جناحه يرى حسرات كلما طار طائر يرى طائرات الجو تخفق حوله فيذكر ~~إذ ريش الجناحين وافر والحال الرابعة : أن يكون السائل غير مستوجب والمسئول ~~متمكنا ، وعلى البذل قادرا ، فينظر فإن خاف بالرد قدح عرض ، أو قبح هجاء ~~ممض ، كان البذل مندوبا صيانة لا جودا . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما وقى به المرء عرضه ~~فهو له صدقة } . # وإن أمن من ذلك وسلم منه فمن الناس من غلب المسألة وأمر بالبذل لئلا ~~يقابل الرجاء بالخيبة والأمل بالإياس . # ثم لما فيه من اعتياد الرد واستسهال المنع المفضي إلى الشح . # وأنشد الأصمعي ، عن الكسائي : كأنك في الكتاب وجدت لاء محرمة عليك فلا ~~تحل فما تدري إذا أعطيت مالا أيكثر من سماحك أم يقل إذا حضر الشتاء فأنت ~~شمس وإن حضر المصيف فأنت ظل ومن الناس من ms157 اعتبر الأسباب PageV01P242 وغلب ~~حال السائل وندب إلى المنع إذا كان العطاء في غير حق ليقوى على الحقوق إذا ~~عرضت ، ولا يعجز عنها إذا لزمت وتعينت . # وقد قال بعض الشعراء : لا تجد بالعطاء في غير حق ليس في منع غير ذي الحق ~~بخل إنما الجود أن تجود على من هو للجود والندى منك أهل فأما من أجاب ~~السؤال ، ووعد بالبذل والنوال ، فقد صار بوعده مرهونا وصار وفاؤه بالوعد ~~مقرونا . # فالاعتبار بحق السائل بعد الوعد ولا سبيل إلى مراجعة نفسه في الرد ، ~~فيستوجب مع ذم المنع لؤم البخل ومقت القادر وهجنة الكذوب . # ثم لا سبيل لمطله بعد الوعد ؛ لما في المطل من تكدير الصنيع وتمحيق الشكر ~~. # والعرب تقول في أمثالها : المطل أحد المنعين ، واليأس أحد النجحين . # وقال بشار بن برد : أظلت علينا منك يوما غمامة أضاءت لنا برقا وأبطا ~~رشاشها فلا غيمها يجلي فييأس طامع ولا غيثها يأتي فيروي عطاشها ثم إذا أنجز ~~وعده ، وأوفى عهده ، لم يتبع نفسه ما أعطى ويسر إن كانت يده العليا . # فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { اليد العليا خير من اليد ~~السفلى } . # وقال الشاعر : فإنك لا تدري إذا جاء سائل أأنت بما تعطيه أم هو أسعد عسى ~~سائل ذو حاجة إن منعته من اليوم سؤلا أن يكون له غد وليكن من سروره إذ كانت ~~الأرزاق مقدرة أن تكون على يده جارية ، ومن جهته واصلة ، لا تنتقل عنه بمنع ~~ولا تتحول عنه بإياس . # وحكي أن رجلا شكا كثرة عياله إلى بعض الزهاد فقال : انظر من كان منهم ليس ~~رزقه على الله عز وجل فحوله إلى منزلي . PageV01P243 وقال ابن سيرين لرجل ~~كان يأتيه على دابة ففقد الدابة : ما فعل برذونك ؟ قال : اشتدت علي مؤنته ~~فبعته . # قال : أفتراه خلف رزقه عندك ؟ وقال ابن الرومي رحمه الله : إن لله غير ~~مرعاك مرعى يرتعيه وغير مائك ماء إن لله بالبرية لطفا سبق الأمهات والآباء ~~PageV01P244 ثم ليكن غالب عطائه لله تعالى وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله ~~عز وجل كالذي ms158 حكاه أبو بكرة ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أعرابيا ~~أتاه فقال : يا عمر الخير جزيت الجنه اكس بنياتي وأمهنه وكن لنا من الزمان ~~جنه أقسم بالله لتفعلنه فقال عمر رضي الله عنه : فإن لم أفعل يكون ماذا ؟ ~~فقال : إذا أبا حفص لأذهبنه فقال : فإذا ذهبت يكون ماذا ؟ فقال : يكون عن ~~حالي لتسألنه يوم تكون الأعطيات هنه وموقف المسئول بينهنه إما إلى نار وإما ~~جنه فبكى عمر رضي الله عنه حتى اخضلت لحيته ثم قال : يا غلام أعطه قميصي ~~هذا لذلك اليوم لا لشعره أما والله لا أملك غيره . # وإذا كان العطاء على هذا الوجه خلا من طلب جزاء وشكر ، وعرى عن امتنان ~~ونشر ، فكان ذلك أشرف للباذل ، وأهنأ للقابل . # وأما المعطي إذا التمس بعطائه الجزاء ، وطلب به الشكر والثناء فهو خارج ~~بعطائه عن حكم السخاء ؛ لأنه إن طلب به الشكر والثناء ، كان صاحب سمعة ~~ورياء ، وفي هذين من الذم ما ينافي السخاء . # وإن طلب به الجزاء كان تاجرا متربحا لا يستحق حمدا ولا مدحا . # وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل قوله تعالى : { ولا تمنن ~~تستكثر } إنه لا يعطي عطية يلتمس بها أفضل منها . # وكان الحسن البصري رضي الله عنه يقول في تأويل ذلك : لا تمنن بعملك ~~تستكثر على ربك . # وقال أبو العتاهية : وليست يد أوليتها بغنيمة إذا كنت ترجو أن تعد لها ~~شكرا غنى المرء ما يكفيه من سد حاجة فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى ~~PageV01P245 فقرا واعلم أن الكريم يجتدى بالكرامة واللطف ، واللئيم يجتدي ~~بالمهانة والعنف ، فلا يجود إلا خوفا ، ولا يجيب إلا عنفا ، كما قد قال ~~الشاعر : رأيتك مثل الجوز يمنع لبه صحيحا ويعطي خيره حين يكسر فاحذر أن ~~تكون المهانة طريقا إلى اجتدائك ، والخوف سبيلا إلى إعطائك ، فيجري عليك ~~سفه الطعام ، وامتهان اللئام ، وليكن جودك كرما ورغبة ، لا لؤما ورهبة ، كي ~~لا يكون مع الوصمة ، كما قال العباس بن الأحنف : صرت كأني ذبالة نصبت تضيء ~~للناس وهي تحترق PageV01P246 وأما النوع الثاني ms159 من البر فهو المعروف ويتنوع ~~أيضا نوعين : قولا وعملا . # فأما القول فهو طيب الكلام وحسن البشر والتودد بجميل القول . # وهذا يبعث عليه حسن الخلق ورقة الطبع . # ويجب أن يكون محدودا كالسخاء فإنه إن أسرف فيه كان ملقا مذموما ، وإن ~~توسط واقتصد فيه كان معروفا وبرا محمودا . # وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما ، في تأويل قوله تعالى : { والباقيات ~~الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا } إنها الكلام الطيب وكان سعيد بن ~~جبير يتأول أنها الصلوات الخمس . # وروى سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إنكم لن ~~تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجوه وحسن الخلق } . # وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشد عنده قول الأعرابي هذا : وحي ذوي ~~الأضغان تسب قلوبهم تحيتك الحسنى فقد يرقع النعل فإن دحسوا بالمكر فاعف ~~تكرما وإن حبسوا عنك الحديث فلا تسل فإن الذي يؤذيك منه سماعه وإن الذي ~~قالوا وراءك لم يقل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { إن من الشعر لحكمة ، ~~وإن من البيان لسحرا } . # وقيل للعتابي : إنك تلقى العامة ببشر وتقريب ، قال : دفع صنيعة بأيسر ~~مؤنة واكتساب إخوان بأيسر مبذول . # وقيل في منثور الحكم : من قل حياؤه قل أحباؤه . # وقال بعض الشعراء : أبني إن البشر شيء هين وجه طليق وكلام لين وقال بعضهم ~~: المرء لا يعرف مقداره ما لم تبن للناس أفعاله وكل من يمنعني بشره فقلما ~~ينفعني ماله وأما العمل فهو بذل PageV01P247 الجاه والإسعاد بالنفس ~~والمعونة في النائبة . # وهذا يبعث عليه حب الخير للناس وإيثار الصلاح لهم ، وليس في هذه الأمور ~~سرف ، ولا لغايتها حد ، بخلاف النوع الأول ؛ لأنها وإن كثرت فهي أفعال خير ~~تعود بنفعين : نفع على فاعلها في اكتساب الأجر وجميل الذكر ، ونفع على ~~المعان بها في التخفيف عنه والمساعدة له . # وقد روى محمد بن المنكدر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كل ~~معروف صدقة } ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { صنائع المعروف تقي مصارع ~~السوء } . # وعنه عليه الصلاة والسلام ms160 أنه قال : { المعروف كاسمه وأول من يدخل الجنة ~~يوم القيامة المعروف وأهله } . # وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره ~~فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الكافر . # وقال الحطيئة : من يفعل الخير لا يعدم جوائزه لا يذهب العرف بين الله ~~والناس وأنشد الرياشي : يد المعروف غنم حيث كانت تحملها كفور أم شكور ففي ~~شكر الشكور لها جزاء وعند الله ما كفر الكفور فينبغي لمن يقدر على ابتداء ~~المعروف أن يعجله حذر فواته ، ويبادر به خيفة عجزه . # وليعلم أنه من فرص زمانه ، وغنائم إمكانه ، ولا يهمله ثقة بقدرته عليه ، ~~فكم واثق بقدرة فاتت فأعقبت ندما ، ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلا . # وقد قال الشاعر : مازلت أسمع كم من واثق خجل حتى ابتليت فكنت الواثق ~~الخجلا ولو فطن لنوائب دهره ، وتحفظ من عواقب مكره ، لكانت مغانمه مذخورة ، ~~ومغارمه مخبورة . PageV01P248 فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ~~: { لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف تعجيل السراح } . # وقيل لأنوشروان : ما أعظم المصائب عندكم ؟ فقال : أن تقدر على المعروف ~~ولا تصطنعه حتى يفوت . # وقال عبد الحميد : من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها . # وقال بعض الشعراء : إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون ولا تغفل ~~عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون وإن درت نياقك فاحتلبها فما تدري ~~الفصيل لمن يكون وروي أن بعض وزراء بني العباس مطل راغبا إليه في عمل ~~يستكفيه إياه ، فكتب إليه بعد طول المطل به : أما يدعوك طول الصبر مني على ~~استئناف منفعتي وشغلي وعلمك أن ذا السلطان غاد على خطرين من موت وعزل وأنك ~~إن تركت قضاء حقي إلى وقت التفرغ والتخلي ستصبح نادما أسفا معزى على فوت ~~الصنيعة عند مثلي وكتب بعض ذي الحرمات إلى وال قد قصر في رعاية حرمته يقول ~~: أعلى الصراط تريد رعية حرمتي أم في الحساب تمن بالإنعام للنفع في الدنيا ~~أردتك فانتبه لحوائجي من رقدة النوام وكتب أبو علي البصير إلى ms161 بعض الوزراء ~~وقد اعتذر إليه بكثرة الأشغال يقول : لنا كل يوم نوبة قد ننوبها وليس لنا ~~رزق ولا عندنا فضل فإن تعتذر بالشغل عنا فإنما تناط بك الآمال ما اتصل ~~الشغل واعلم أن للمعروف شروطا لا يتم إلا بها ، ولا يكمل إلا معها . # فمن ذلك ستره عن إذاعة يستطيل لها ، وإخفاؤه عن إشاعة يستدل بها . # قال بعض الحكماء : إذا اصطنعت المعروف فاستره ، وإذا صنع إليك ~~PageV01P249 فانشره . # ولقد قال دعبل الخزاعي : إذا انتقموا أعلنوا أمرهم وإن أنعموا أنعموا ~~باكتتام يقوم القعود إذا أقبلوا وتقعد هيبتهم بالقيام على أن ستر المعروف ~~من أقوى أسباب ظهوره ، وأبلغ دواعي نشره ؛ لما جبلت عليه النفوس من إظهار ~~ما خفي وإعلان ما كتم . # وقال سهل بن هارون : خل إذا جئته يوما لتسأله أعطاك ما ملكت كفاه واعتذرا ~~يخفي ضائعه والله يظهرها إن الجميل إذا أخفيته ظهرا ومن شروط المعروف ~~تصغيره عن أن يراه مستكبرا ، وتقليله عن أن يكون مستكثرا ، لئلا يصير به ~~مدلا بطرا ومستطيلا أشرا . # وقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه : لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال ~~: تعجيله وتصغيره وستره ، فإذا عجلته هنأته ، وإذا صغرته عظمته ، وإذا ~~سترته أتممته . # وقال بعض الشعراء : زادك المعروف عندي عظما إنه عندك ميسور حقير وتناسيت ~~كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور خطير ومن شروط المعروف : مجانبة الامتنان ~~به وترك الإعجاب بفعله ؛ لما فيهما من إسقاط الشكر ، وإحباط الأجر . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إياكم والامتنان ~~بالمعروف فإنه يبطل الشكر ، ويمحق الأجر . # ثم تلا : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } } وسمع ابن سيرين رجلا يقول ~~لرجل : فعلت إليك وفعلت . # فقال ابن سيرين : اسكت فلا خير في المعروف إذا أحصي . # وقال بعض الحكماء : المن مفسدة الصنيعة . # وقال بعض الأدباء : كدر معروفا امتنان وضيع حسبا امتهان . # وقال بعض البلغاء : من من بمعروفه PageV01P250 أسقط شكره ، ومن أعجب ~~بعمله أحبط أجره . # وقال بعض الفصحاء : قوة المنن من ضعف المنن . # وقال بعض الشعراء : أفسدت بالمن ما أسديت من ms162 حسن ليس الكريم إذا أسدى ~~بمنان وقال أبو نواس : فامض لا تمنن علي يدا منك المعروف من كدره وأنشدت عن ~~الربيع للشافعي رضي الله عنه : لا تحملن لمن يمن من الأنام عليك منه واختر ~~لنفسك حظها واصبر فإن الصبر جنه منن الرجال على القلوب أشد من وقع الأسنه ~~ومن شروط المعروف أن لا يحتقر منه شيئا ، وإن كان قليلا نزرا إذا كان ~~الكثير معوزا وكنت عنه عاجزا ، فإن من حقر يسيره فمنع منه أعجزه كثيره ~~فامتنع عنه ، وفعل قليل الخير أفضل من تركه . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يمنعكم من المعروف ~~صغيره } . # وقال عبد الله بن جعفر : لا تستح من القليل فإن المنع أقل منه ، ولا تجبن ~~عن الكثير فإنك أكثر منه . # وقال الشاعر : اعمل الخير ما استطعت وإن كان قليلا فلن تحيط بكله ومتى ~~تفعل الكثير من الخير إذا كنت تاركا لأقله على أن من المعروف ما لا كلفة ~~على موليه ، ولا مشقة على مسديه ، وإنما هو جاه يستظل به الأدنى ويرتفق به ~~التابع . # وقال الشاعر : ظل الفتى ينفع من دونه وما له في ظله حظ واعلم أنك لن ~~تستطيع أن تسع جميع الناس معروفك ولا أن توليهم إحسانك ، فاعتمد بذلك أهل ~~الفضل منهم والحفاظ واقصد به ذوي الرعاية والوداد ؛ ليكون معروفك فيهم ~~ناميا ، وصنيعك عندهم زاكيا . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه PageV01P251 وسلم أنه قال { لا تنفع ~~الصنيعة إلا عند ذي حسب ودين } . # وقال النبي صلى الله عليه وسلم { إذا أراد الله بعبد خيرا جعل صنائعه في ~~أهل الحفاظ } . # وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه : إن الصنيعة لا تكون صنيعة حتى يصاب بها ~~طريق المصنع فإذا صنعت صنيعة فاعمل بها لله أو لذوي القرابة أو دع وقيل في ~~منثور الحكم : لا خير في معروف إلى غير عروف . # وقد ضرب الشاعر به مثلا قال : كحمار السوء إن أشبعته رمح الناس وإن جاع ~~نهق وقال بعض الحكماء : على قدر المغارس يكون اجتناء ms163 الغارس ، فأخذه بعض ~~الشعراء فقال : لعمرك ما المعروف في غير أهله وفي أهله إلا كبعض الودائع ~~فمستودع ضاع الذي كان عنده ومستودع ما عنده غير ضائع وما الناس في شكر ~~الصنيعة عندهم وفي كفرها إلا كبعض المزارع فمزرعة طابت وأضعف نبتها ومزرعة ~~أكدت على كل زارع وأما من أسدي إليه المعروف واصطنع إليه الإحسان فقد صار ~~بأسر المعروف موثوقا ، وفي ملك الإحسان مرقوقا ، ولزمه ، إن كان من أهل ~~المكافأة ، أن يكافئ عليها . # وإن لم يكن من أهلها أن يقابل المعروف بنشره ، ويقابل الفاعل بشكره . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من أودع معروفا فلينشره ~~فإن نشره فقد شكره ، وإن كتمه فقد كفره } . # وروى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : { دخل علي رسول الله ~~صلى الله عليه وسلم وأنا أتمثل بهذين البيتين : ارفع ضعيفك لا يخونك ضعفه ~~يوما فتدركه العواقب قد نما يجزيك أو يثني عليك وإن PageV01P252 من أثنى ~~عليك بما فعلت فقد جزى فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ردي علي قول ~~اليهودي - قاتله الله - لقد أتاني جبرائيل برسالة من ربي تعالى : أيما رجل ~~صنع إلى أخيه صنيعة فلم يجد لها جزاء إلا الدعاء والثناء فقد كافأه } . # وقيل في منثور الحكم : الشكر قيد النعم . # وقال عبد الحميد : من لم يشكر الإنعام فاعدده من الأنعام . # وقيل في منثور الحكم قيمة كل نعمة شكرها . # وقال بعض الحكماء : كفر النعم من أمارات البطر وأسباب الغير . # وقال بعض الفصحاء : الكريم شكور أو مشكور ، واللئيم كفور أو مكفور . # وقال بعض البلغاء : لا زوال للنعمة مع الشكر ، ولا بقاء لها مع الكفر . # وقال بعض الأدباء : شكر الإله بطول الثناء وشكر الولاة بصدق الولاء وشكر ~~النظير بحسن الجزاء وشكرك الدون بحسن العطاء وقال بعض الشعراء : فلو كان ~~يستغني عن الشكر ماجد لعزة ملك أو علو مكان لما أمر الله العباد بشكره فقال ~~: اشكروا لي أيها الثقلان فإن من شكر معروف من أحسن إليه ، ونشر أفضال من ~~أنعم عليه ، فقد أدى ms164 حق النعمة ، وقضى موجب الصنيعة ، ولم يبق عليه إلا ~~استدامة ذلك إتماما لشكره ليكون للمزيد مستحقا ولمتابعة الإحسان مستوجبا . # حكي أن الحجاج أتي إليه بقوم من الخوارج ، وكان فيهم صديق له فأمر بقتلهم ~~إلا ذلك الصديق فإنه عفا عنه وأطلقه ووصله . # فرجع الرجل إلى قطري بن الفجاءة فقال له : عد إلى قتال عدو الله . # فقال هيهات ، غل يدا مطلقها واسترق رقبة معتقها . # وأنشأ يقول : أأقاتل PageV01P253 الحجاج في سلطانه بيد تقر بأنها مولاته ~~إني إذا لأخو الدناءة والذي شهدت بأقبح فعله غدراته ماذا أقول إذا وقفت ~~إزاءه في الصف واحتجت له فعلاته أأقول جار علي لا إني إذا لأحق من جارت ~~عليه ولاته وتحدث الأقوام أن صنائعا غرست لدي فحنظلت نخلاته وقيل في منثور ~~الحكم : المعروف رق ، والمكافأة عتق . # ومن أشكر الناس الذي يقول : لأشكرنك معروفا هممت به إن اهتمامك بالمعروف ~~معروف ولا ألومك إن لم يمضه قدر فالشيء بالقدر المحتوم مصروف وهذا النوع من ~~الشكر الذي يتعجل المعروف ويتقدم البر قد يكون على وجوه : فيكون تارة من ~~حسن الثقة بالمشكور في وصول بره وإسداء عرفه ولا رأي لمن يحسن به ظن شاكر ~~أن يخلف حسن ظنه فيه ، فيكون كما قال العتابي : قد أورقت فيك آمالي بوعدك ~~لي وليس في ورق الآمال لي ثمر وقد يكون تارة من فرط شكر الراجي وحسن مكافأة ~~الآمل ، فلا يرضى لنفسه إلا بتعجيل الحق وإسلاف الشكر . # وليس لمن صادف لمعروفه معدنا زاكيا ، ومغرسا ناميا ، أن يفوت نفسه غنما ، ~~ولا يحرمها ربحا فهذا وجه ثان . # وقد يكون تارة ارتهانا للمأمول ، وحبا للمسئول . # وبحسب ما أسلف من الشكر يكون الذم عند الإياس . # وقال بعض الأدباء من حكماء المتقدمين : من شكرك على معروف لم تسده إليه ~~فعاجله بالبر وإلا انعكس فصار ذما . # وقال ابن الرومي : وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى وبعض السجايا ينسبن ~~إلى بعض فحيث ترى حقدا على ذي إساءة فثم ترى شكرا على حسن القرض إذا الأرض ~~أدت PageV01P254 ريع ما أنت زارع من البذر ms165 فيها فهي ناهيك من أرض وأما من ~~ستر معروف المنعم ولم يشكره على ما أولاه من نعمه ، فقد كفر النعمة وجحد ~~الصنيعة . # وإن من أذم الخلائق ، وأسوأ الطرائق ، ما يستوجب به قبح الرد وسوء المنع ~~. # فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ~~لا يشكر الله من لا يشكر الناس } . # وقال بعض الأدباء : من لم يشكر لمنعمه استحق قطع النعمة . # وقال بعض الفصحاء : من كفر نعمة المفيد استوجب حرمان المزيد . # وقال بعض البلغاء : من أنكر الصنيعة استوجب قبح القطيعة . # وأنشدني بعض الأدباء ما ذكر أنه لعلي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - : من ~~جاوز النعمة بالشكر لم يخش على النعمة مغتالها لو شكروا النعمة زادتهم ~~مقالة الله التي قالها لئن شكرتم لأزيدنكم لكنما كفرهم غالها والكفر ~~بالنعمة يدعو إلى زوالها والشكر أبقى لها وهذا آخر ما يتعلق بالقاعدة ~~الثانية من أسباب الألفة الجامعة . PageV01P255 فأما القاعدة الثالثة : فهي ~~المادة الكافية ؛ لأن حاجة الإنسان لازمة لا يعرى منها بشر . # قال الله تعالى : { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ~~} فإذا عدم المادة التي هي قوام نفسه لم تدم له حياة ، ولم تستقم له دنيا ، ~~وإذا تعذر شيء منها عليه لحقه من الوهن في نفسه والاختلال في دنياه بقدر ما ~~تعذر من المادة عليه ؛ لأن الشيء القائم بغيره يكمل بكماله ويختل باختلاله ~~. # ثم لما كانت المواد مطلوبة لحاجة الكافة إليها أعوزت بغير طلب ، وعدمت ~~لغير سبب . # وأسباب المودة مختلفة ، وجهات المكاسب متشعبة ؛ ليكون اختلاف أسبابها علة ~~الائتلاف بها ، وتشعب جهاتها توسعة لطلابها ، كي لا يجتمعوا على سبب واحد ~~فلا يلتئمون ، أو يشتركوا في جهة واحدة فلا يكتفون . # ثم هداهم إليها بعقولهم وأرشدهم إليها بطباعهم حتى لا يتكلفوا ائتلافهم ~~في المعايش المختلفة فيعجزوا ولا يعاونوا بتقدير موادهم بالمكاسب المتشعبة ~~، فيختلوا حكمة منه سبحانه وتعالى اطلع بها على عواقب الأمور . # وقد أنبأ الله تعالى في كتابه العزيز أخبارا وإذكارا فقال - سبحانه ~~وتعالى - : { قال ربنا الذي أعطى ms166 كل شيء خلقه ثم هدى } . # اختلف المفسرون في تأويل ذلك فقال قتادة : أعطى كل شيء ما يصلح ثم هداه . # وقال مجاهد : أعطى كل شيء زوجة ثم هداه لنكاحها . # وقال تعالى : { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا } . # يعني معايشهم متى يزرعون ومتى يغرسون : { وهم عن الآخرة هم غافلون } . # وقال تعالى : { PageV01P256 وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء ~~للسائلين } قال عكرمة : قدر في كل بلدة منها ما لم يجعله في الأخرى ليعيش ~~بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد . # وقال الحسن البصري وعبد الرحمن بن زيد : قدر أرزاق أهلها سواء للسائلين ~~الزيادة في أرزاقهم . # ثم إن الله تعالى جعل لهم مع ما هداهم إليه من مكاسبهم وأرشدهم إليه من ~~معايشهم دينا يكون حكما وشرعا يكون قيما ؛ ليصلوا إلى موادهم بتقديره ، ~~ويطلبوا أسباب مكاسبهم بتدبيره ، حتى لا ينفردوا بإرادتهم فيتغالبوا ، ~~وتستولي عليهم أهواؤهم فيتقاطعوا . # قال الله تعالى : { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض } قال ~~المفسرون : الحق في هذا الموضع هو الله - جل جلاله - فلأجل ذلك لم يجعل ~~المواد مطلوبة بالإلهام حتى جعل العقل هاديا إليها ، والدين قاضيا عليها ؛ ~~لتتم السعادة وتعم المصلحة . # ثم إنه - جلت قدرته - جعل سد حاجتهم وتوصلهم إلى منافعهم من وجهين : ~~بمادة وكسب . # فأما المادة فهي حادثة عن اقتناء أصول نامية بذواتها . # وهي شيئان : نبت نام وحيوان متناسل . # قال الله تعالى : { وأنه هو أغنى وأقنى } . # قال أبو صالح : أغنى خلقه بالمال ، وأقنى جعل لهم قنية وهي أصول الأموال ~~. # وأما المكسب فيكون بالأفعال الموصلة إلى المادة والتصرف المؤدي إلى ~~الحاجة . # وذلك من وجهين : أحدهما : تقلب في تجارة . # والثاني : تصرف في صناعة . # وهذان هما فرع لوجهي المادة ، فصارت أسباب المواد المألوفة ، وجهات ~~المكاسب PageV01P257 المعروفة ، من أربعة أوجه : نماء زراعة ، ونتاج حيوان ~~، وربح تجارة ، وكسب صناعة . # وحكى الحسن بن رجاء مثل ذلك عن المأمون قال : سمعته يقول : معايش الناس ~~على أربعة أقسام : زراعة وصناعة وتجارة وإمارة . # فمن خرج عنها كان كلا عليها . # وإذ قد تقررت أسباب المواد بما ذكرناه فسنصف حال كل ms167 واحد منها بقول موجز ~~. PageV01P258 أما الأول من أسبابها وهي الزراعة : فهي مادة أهل الحضر ~~وسكان الأمصار والمدن ، والاستمداد بها أعم نفعا ، وأوفى فرعا . # ولذلك ضرب الله تعالى به المثل فقال : { مثل الذين ينفقون أموالهم في ~~سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن ~~يشاء } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { خير المال عين ساهرة لعين ~~نائمة } . # وقال صلى الله عليه وسلم : { نعمت لكم النخلة تشرب من عين خرارة وتغرس في ~~أرض خوارة } . # وقال صلى الله عليه وسلم { النخل : هي الراسخات في الوحل المطعمات في ~~المحل } . # وقال بعض السلف : خير المال عين خرارة في أرض خوارة تسهر إذا نمت ، وتشهد ~~إذا غبت ، وتكون عقبا إذا مت . # وروى هشام بن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى ~~الله عليه وسلم : { التمسوا الرزق في خبايا الأرض } . # يعني الزرع . # وحكي عن المعتضد أنه قال : رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام ~~يناولني المسحاة وقال : خذها فإنها مفاتيح خزائن الأرض . # وقال كسرى للموبد : ما قيمة تاجي هذا ؟ فأطرق ساعة ثم قال : ما أعرف له ~~قيمة إلا أن تكون مطرة في نيسان فإنها تصلح من معايش الرعية ما تكون قيمته ~~مثل تاج الملك . # ولقي عبد الله بن عبد الملك ابن شهاب الزهري فقال له : ادللني على ما ~~أعالجه . # فأنشأ ابن شهاب يقول : تتبع خبايا الأرض وادع مليكها لعلك يوما أن تجاب ~~فترزقا فيؤتيك مالا واسعا ذا متانة إذا ما مياه الأرض غارت PageV01P259 ~~تدفقا وقد اختلف الناس في تفضيل الزرع والشجر بما ليس يتسع كتابنا هذا لبسط ~~القول فيه ، غير أن من فضل الزرع فلقرب مداه ، ووفور جداه ومن فضل الشجر ~~فلثبوت أصله وتوالي ثمره . PageV01P260 وأما الثاني من أسبابها وهو نتاج ~~الحيوان : فهو مادة أهل الفلوات وسكان الخيام ؛ لأنهم لما لم تستقر بهم دار ~~، ولم تضمهم أمصار افتقروا إلى الأموال المنتقلة معهم ، وما لا ينقطع نماؤه ~~بالظعن والرحلة ، فاقتنوا الحيوان ms168 ؛ لأنه يستقل في النقلة بنفسه ، ويستغني ~~عن العلوفة برعيه . # ثم هو مركوب ومحلوب ، فكان اقتناؤه على أهل الخيام أيسر لقلة مؤنته ~~وتسهيل الكلفة به ، وكانت جدواه عليهم أكثر لوفور نسله واقتيات رسله إلهاما ~~من الله لخلقه في تعديل المصالح فيهم ، وإرشاد العباد في قسم المنافع بينهم ~~. # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { خير المال مهرة مأمورة ~~وسكة مأبورة } . # ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم مهرة مأمورة أي كثيرة النسل . # ومنه تأول الحسن وقتادة قوله تعالى : { أمرنا مترفيها } . # أي كثرنا عددهم . # وأما السكة المأبورة فهي النخل المؤبرة الحمل . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { في الغنم سمنها معاش ، ~~وصوفها رياش } . # وروي عن أبي ظبيان أنه قال : قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما ~~مالك يا أبا ظبيان ؟ قال قلت : عطائي ألفان . # قال : اتخذ من هذا الحرث والسائبات قبل أن تليك غلمة من قريش لا تعد ~~العطاء معهم مالا ، والسائبات النتاج . # وحكي أن { امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إني ~~اتخذت غنما أبتغي نسلها ورسلها وأنها لا تنمي . # فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ما ألوانها ؟ قالت : PageV01P261 ~~سود . # فقال : عفري } . # وهذا مثل { قوله صلى الله عليه وسلم في مناكح الآدميين : اغتربوا ولا ~~تضووا } . PageV01P262 وأما الثالث من أسبابها وهي التجارة : فهي فرع ~~لمادتي الزرع والنتاج . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { تسعة أعشار الرزق في ~~التجارة والحرث والباقي في السائبات } . # وهي نوعان : تقلب في الحضر من غير قلة ولا سفر ، وهذا تربص واختصار وقد ~~رغب عنه ذوو الاقتدار وزهد فيه ذوو الأخطار . # والثاني : تقلب بالمال بالأسفار ونقله إلى الأمصار ، فهذا أليق بأهل ~~المروءة وأعم جدوى ومنفعة ، غير أنه أكثر خطرا ، وأعظم غررا . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن المسافر وماله لعلى ~~قلت إلا ما وقى الله } . # يعني على خطر ، وفي التوراة : يا ابن آدم أحدث سفرا أحدث لك رزقا ms169 . ~~PageV01P263 وأما الرابع من أسبابها وهو الصناعة : فقد يتعلق بما مضى من ~~الأسباب الثلاثة وتنقسم أقساما ثلاثة : صناعة فكر ، وصناعة عمل ، وصناعة ~~مشتركة بين فكر وعمل ؛ لأن الناس آلات للصناعات ، وأشرفهم نفسا متهيئ ~~لأشرفها جنسا ، كما أن أرذلهم نفسا متهيئ لأرذلها جنسا ؛ لأن الطبع يبعث ~~على ما يلائمه ، ويدعو إلى ما يجانسه . # وحكي أن الإسكندر لما أراد الخروج إلى أقاصي الأرض قال لأرسطاطاليس : ~~اخرج معي . # قال : قد نحل جسمي وضعفت عن الحركة فلا تزعجني . # قال فما أصنع في عمالي خاصة ؟ قال انظر إلى من كان له عبيد فأحسن سياستهم ~~فوله الجنود ، ومن كانت له ضيعة فأحسن تدبيرها فوله الخراج . # فنبه باعتبار الطباع على ما أغناه عن كلفة التجربة . # وأشرف الصناعات صناعة الفكر وهي مدبرة ، وأرذلها صناعة العمل ؛ لأن العمل ~~نتيجة الفكر وتدبيره . # فأما صناعة الفكر فقد تنقسم قسمين : أحدهما : ما وقف على التدبيرات ~~الصادرة عن نتائج الآراء الصحيحة كسياسة الناس وتدبير البلاد . # وقد أفردنا للسياسة كتابا لخصنا فيه من جملها ما ليس يحتمل هذا الكتاب ~~زيادة عليها . # والثاني : ما أدت إلى المعلومات الحادثة عن الأفكار النظرية . # وقد مضى في فضل العلم من كتابنا هذا باب أغنى ما فيه عن زيادة قول فيه . # وأما صناعة العمل فقد تنقسم قسمين : عمل صناعي ، وعمل بهيمي . # فالعمل الصناعي أعلاها رتبة ؛ لأنه يحتاج إلى معاطاة في تعلمه ، ومعاناة ~~في تصوره ، فصار بهذه النسبة من المعلومات الفكرية . PageV01P264 والآخر ~~إنما هو صناعة كد وآلة مهنة . # وهي الصناعة التي تقتصر عليها النفوس الرذلة ، وتقف عليها الطباع الخاسئة ~~. # كما قال أكثم بن صيفي : لكل ساقطة لاقطة ، وكما قال المتلمس : ولا يقيم ~~على ضيم يسام به إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته ~~وذا يشج فلا يرثي له أحد وأما الصناعة المشتركة بين الفكر والعمل فقد تنقسم ~~قسمين : أحدهما : أن تكون صناعة الفكر أغلب والعمل تبعا كالكتابة . # والثاني : أن تكون صناعة العمل أغلب والفكر تبعا كالبناء . # أعلاهما رتبة ما كانت صناعة الفكر أغلب عليها والعمل تبعا لها . # فهذه ms170 أحوال الخلق التي ركبهم الله عز وجل عليها في ارتياد موادهم ، ~~ووكلهم إلى نظرهم في طلب مكاسبهم ، وفرق بين هممهم في التماسهم ؛ ليكون ذلك ~~سببا لألفتهم ، فسبحان من تفرد فينا بلطف حكمته ، وأظهر فطننا بعزائم قدرته ~~. PageV01P265 وإذ قد وضح القول في أسباب المواد وجهات الكسب ، فليس يخلو ~~حال الإنسان فيها من ثلاثة أمور : أحدها : أن يطلب منها قدر كفايته ، ~~ويلتمس وفق حاجته ، من غير أن يتعدى إلى زيادة عليها ، أو يقتصر على نقصان ~~منها . # فهذه أحد أحوال الطالبين ، وأعدل مراتب المقتصدين . # وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أوحى الله تعالى ~~إلي كلمات فدخلن في أذني ووقرن في قلبي : من أعطى فضل ماله فهو خير له ، ~~ومن أمسك فهو شر له ، ولا يلم الله على كفاف } . # وروى حميد عن معاوية بن جنيدة قال : قلت : { يا رسول الله ما يكفيني من ~~الدنيا ؟ قال : ما يسد جوعتك ، ويستر عورتك . # فإن كان ذلك فذاك وإن كان حمادا فبخ بخ فلق من خبز وجزء من ماء وأنت ~~مسئول عما فوق الإزار } . # وقد روي عن ابن عباس ومجاهد في قوله تعالى : { إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ~~ملوكا } . # أن كل من ملك بيتا وزوجة وخادما فهو ملك . # وروى زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من كان له ~~بيت وخادم فهو ملك } . # وهو في المعنى صحيح ؛ لأنه بالزوجة والخادم مطاع في أمره ، وفي الدار ~~محجوب إلا عن إذنه . # وليس على من طلب الكفاية ولم يجاوز تبعات الزيادة إلا توخي الحلال منه ، ~~وإجمال الطلب فيه ، ومجانبة الشبهة الممازجة له . # وقد روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله ~~عليه وسلم : { الحلال بين ، والحرام بين ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، ~~فلن تجد فقد شيء تركته لله } . # { وسئل رسول PageV01P266 الله صلى الله عليه وسلم عن الزهد فقال : أما ~~إنه ليس بإضاعة المال ، ولا تحريم الحلال ، ولكن أن تكون بما بيد الله أوثق ~~منك ms171 بما في يديك ، وأن يكون ثواب المصيبة أرجح عندك من بقائها } . # وحكى عبد الله بن المبارك قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى الجراح بن عبد ~~الله الحكمي : إن استطعت أن تدع مما أحل الله لك ما يكون حاجزا بينك وبين ~~الحرام فافعل ، فإنه من استوعب الحلال تاقت نفسه إلى الحرام . # وقد اختلف أهل التأويل في قوله تعالى : { فإن له معيشة ضنكا } . # فقال عكرمة : يعني كسبا حراما . # وقال ابن عباس هو إنفاق من لا يوقن بالخلف . # وقال يحيى بن معاذ : الدرهم عقرب فإن أحسنت رقيتها وإلا فلا تأخذها . # وقيل : من قل توقيه كثرت مساوئه . # وقال بعض البلغاء : خير الأموال ما أخذته من الحلال وصرفته في النوال ، ~~وشر الأموال ما أخذته من الحرام ، وصرفته في الآثام . # وكان الأوزاعي الفقيه كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات : المال ينقد حله ~~وحرامه يوما ويبقى بعد ذاك آثامه ليس التقي بمتق لإلهه حتى يطيب شرابه ~~وطعامه ويطيب ما يجني ويكسب أهله ويطيب من لفظ الحديث كلامه نطق النبي لنا ~~به عن ربه فعلى النبي صلاته وسلامه وحكي عن ابن المعتمر السلمي قال : الناس ~~ثلاثة أصناف : أغنياء وفقراء وأوساط . # فالفقراء موتى إلا من أغناه الله بعز القناعة ، والأغنياء سكارى إلا من ~~عصمه الله تعالى بتوقع الغير . # وأكثر الخير مع أكثر الأوساط ، وأكثر الشر مع أكثر الفقراء والأغنياء ؛ ~~لسخف PageV01P267 الفقر وبطر الغني . PageV01P268 والأمر الثاني : أن يقصر ~~عن طلب كفايته ، ويزهد في التماس مادته . # وهذا التقصير قد يكون على ثلاثة أوجه : فيكون تارة كسلا ، وتارة توكلا ، ~~وتارة زهدا وتقنعا . # فإن كان تقصيره لكسل فقد حرم ثروة النشاط ، ومرح الاغتباط ، فلن يعدم أن ~~يكون كلا قصيا ، أو ضائعا شقيا . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { كاد الحسد أن يغلب ~~القدر ، وكاد الفقر أن يكون كفرا } . # وقال بزرجمهر : إن كان شيء فوق الحياة فالصحة . # وإن كان شيء مثلها فالغنى ، وإن كان شيء فوق الموت فالمرض ، وإن كان شيء ~~مثله فالفقر . # وقيل في منثور الحكم : القبر خير من ms172 الفقر . # ووجد في نيل مصر مكتوب على حجر : عقب الصبر نجاح وغنى ورداء الفقر من نسج ~~الكسل وقال بعض الشعراء : أعوذ بك اللهم من بطر الغنى ومن نكهة البلوى ومن ~~ذلة الفقر ومن أمل يمتد في كل شارف يرجعني منه بحظ يد صفر إذا لم تدنسني ~~الذنوب بعارها فلست أبالي ما تشعث من أمري وإذا كان تقصيره لتوكل فذلك عجز ~~قد أعذر به نفسه ، وترك حزم قد غير اسمه ؛ لأن الله تعالى أمرنا بالتوكل ~~عند انقطاع الحيل والتسليم إلى القضاء بعد الإعواز . # وقد روى معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : { ذكر عند النبي صلى الله ~~عليه وسلم رجل فذكر فيه خيرا ، فقالوا : يا رسول الله خرج معنا حاجا فإذا ~~نزلنا منزلا لم يزل يصلي حتى نرحل ، فإذا ارتحلنا لم يزل يذكر الله عز وجل ~~حتى ننزل . # فقال صلى الله عليه وسلم : فمن كان يكفيه علف ناقته PageV01P269 وصنع ~~طعامه ؟ قالوا كلنا يا رسول الله . # قال : كلكم خير منه } . # وقال بعض الحكماء : ليس من توكل المرء إضاعته للحزم ، ولا من الحزم إضاعة ~~نصيبه من التوكل . # وإن كان تقصيره لزهد وتقنع فهذه حال من علم بمحاسبة نفسه بتبعات الغنى ~~والثروة ، وخاف عليها بوائق الهوى والقدرة ، فآثر الفقر على الغنى ، وزجر ~~النفس عن ركوب الهوى . # فقد روى أبو الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما من ~~يوم طلعت فيه شمسه إلا وعلى جنبتيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم ~~إلا الثقلين : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم إن ما قل وكفى خير مما كثر ~~وألهى } . # وروى زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم أجمعين - أنه ~~قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { انتظار الفرج من الله بالصبر ~~عبادة ، ومن رضي من الله عز وجل بالقليل من الرزق رضي الله عز وجل منه ~~بالقليل من العمل } . # وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : من نبل الفقر أنك لا تجد ~~أحدا يعصي الله ms173 ليفتقر . # فأخذه محمود الوراق فقال : يا عائب الفقر ألا تزدجر عيب الغني أكثر لو ~~تعتبر من شرف الفقر ومن فضله على الغنى إن صح منك النظر أنك تعصي لتنال ~~الغنى ولست تعصي الله كي تفتقر وقال ابن المقفع : دليلك أن الفقر خير من ~~الغنى وأن قليل المال خير من المثري لقاؤك مخلوقا عصى الله بالغنى ولم تر ~~مخلوقا عصى الله بالفقر وهذه الحال إنما تصح لمن نصح نفسه فأطاعته ، وصدقها ~~فأجابته ، PageV01P270 حتى لان قيادها ، وهان عنادها . # وعلمت أن من لم يقنع بالقليل لم يقنع بالكثير ، كما كتب الحسن البصري إلى ~~عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما : يا أخي ، من استغنى بالله اكتفى ، ومن ~~انقطع إلى غيره تعنى ، ومن كان من قليل الدنيا لا يشبع ، لم يغنه منها كثرة ~~ما يجمع ، فعليك منها بالكفاف ، وألزم نفسك العفاف ، وإياك وجمع الفضول ، ~~فإن حسابه يطول . # وقال بعض الحكماء : هيهات منك الغنى إن لم يقنعك ما حويت . # فأما من أعرضت نفسه عن قبول نصحه ، وجمحت به عن قناعة زهده ، فليس إلى ~~إكراهها سبيل ولا للحمل عليها وجه إلا بالرياضة والمروءة . # وأن يستنزلها إلى اليسير الذي لا تنفر منه فإذا استقرت عليه أنزلها إلى ~~ما هو أقل منه ؛ لتنتهي بالتدريج إلى الغاية المطلوبة وتستقر بالرياضة ~~والتمرين على الحال المحبوبة . # وقد تقدم قول الحكماء : إن المكروه يسهل بالتمرين . # فهذا حكم ما في الأمر الثاني من التقصير عن طلب الكفاية . PageV01P271 ~~وأما الأمر الثالث : فهو أن لا يقنع بالكفاية ويطلب الزيادة والكثرة ، فقد ~~يدعو إلى ذلك أربعة أسباب : أحدها : منازعة الشهوات التي لا تنال إلا ~~بزيادة المال وكثرة المادة ، فإذا نازعته الشهوة طلب من المال ما يوصله . # وليس للشهوات حد متناه فيصير ذلك ذريعة إلى أن ما يطلبه من الزيادة غير ~~متناه . # ومن لم يتناه طلبه استدام كده وتعبه ، ومن استدام الكد والتعب لم يف ~~التذاذه بنيل شهواته بما يعانيه من استدامة كده وإتعابه ، مع ما قد لزمه من ~~ذم الانقياد لمغالبة الشهوات ، والتعرض لاكتساب التبعات ، حتى ms174 يصير ~~كالبهيمة التي قد انصرف طلبها إلى ما تدعو إليه شهوتها ، فلا تنزجر عنه ~~بعقل ولا تنكف عنه بقناعة . # وقد روي عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من أراد الله ~~به خيرا حال بينه وبين شهوته ، وحال بينه وبين قلبه ، وإذا أراد به شرا ~~وكله إلى نفسه } . # وقد قال الشاعر : وإنك إن أعطيت بطنك همه وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا ~~والسبب الثاني : أن يطلب الزيادة ويلتمس الكثرة ليصرفها في وجوه الخير ، ~~ويتقرب بها في جهات البر ، ويصطنع بها المعروف ، ويغيث بها الملهوف . # فهذا أعذر وبالحمد أحرى وأجدر ، إذا انصرفت عنه تبعات المطالب ، وتوقى ~~شبهات المكاسب ، وأحسن التقدير في حالتي فائدته وإفادته على قدر الزمان ، ~~وبقدر الإمكان ؛ لأن المال آلة للمكارم وعون على الدين ومتألف للإخوان ، ~~ومن فقده من أهل الدنيا قلت الرغبة فيه والرهبة منه ، PageV01P272 ومن لم ~~يكن منهم بموضع رهبة ولا رغبة استهانوا به . # وقد روى عبد الله بن بريدة عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه ~~وسلم : { إن حساب أهل الدنيا هذا المال } . # وقال مجاهد : الخير في القرآن كله المال : { وإنه لحب الخير لشديد } يعني ~~المال و : { أحببت حب الخير عن ذكر ربي } يعني المال : { فكاتبوهم إن علمتم ~~فيهم خيرا } يعني مالا . # وقال شعيب النبي عليه السلام : إني أراكم بخير يعني المال . # وإنما سمى الله تعالى المال خيرا إذا كان في الخير مصروفا ؛ لأن ما أدى ~~إلى الخير فهو في نفسه . # وقد اختلف أهل التأويل في قوله قوله تعالى : { ومنهم من يقول ربنا آتنا ~~في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } فقال السدي وعبد الرحمن ~~بن زيد : الحسنة في الدنيا وفي الآخرة الجنة . # وقال الحسن البصري وسفيان الثوري : في الدنيا العلم والعبادة وفي الآخرة ~~الجنة . # وقال ابن عباس : الدراهم والدنانير خواتم الله في الأرض لا تؤكل ولا تشرب ~~حيث قصدت بها قضيت حاجتك . # وقال قيس بن سعد : اللهم ارزقني حمدا ومجدا فإنه لا حمد إلا بفعال ولا ~~مجد إلا بمال ms175 . # وقد قيل لأبي الزناد : لم تحب الدراهم وهي تدينك من الدنيا ؟ فقال : هي ~~وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها . # وقال بعض الحكماء : من أصلح ماله فقد صان الأكرمين : الدين والعرض . # وقيل في منثور الحكم : من استغنى كرم على أهله . # ومر رجل من أرباب الأموال ببعض العلماء فتحرك له وأكرمه فقيل له : بعد ~~ذلك أكانت لك إلى هذا حاجة ؟ قال لا . PageV01P273 ولكني رأيت ذا المال ~~مهيبا . # وسأل رجل محمد بن عمير بن عطارد وعتاب بن ورقاء في عشر ديات فقال محمد : ~~علي دية . # وقال عتاب : الباقي علي . # فقال محمد : نعم العون اليسار على المجد . # وقال الأحنف بن قيس : فلو كنت مثرى بمال كثير لجدت وكنت له باذلا فإن ~~المروءة لا تستطاع إذا لم يكن مالها فاضلا وكان يقال : الدراهم مراهم ؛ ~~لأنها تداوي كل جرح ، ويطيب بها كل صلح . # وقال ابن الجلال : رزقت مالا ولم أرزق مروءته وما المروءة إلا كثرة المال ~~إذا أردت رقى العلياء يقعدني عما ينوه باسمي رقة الحال وقيل في منثور الحكم ~~الفقر مخذلة ، والغنى مجدلة ، والبؤس مرذلة ، والسؤال مبذلة . # وقال أوس بن حجر : أقيم بدار الحزم ما دام حزمها وأحرى إذا حالت بأن ~~أتحولا فإني وجدت الناس إلا أقلهم خفاف عهود يكثرون التثقلا بني أم ذي ~~المال الكثير يرونه وإن كان عبدا سيد الأمر جحفلا وهم لمقل المال أولاد علة ~~وإن كان محضا في العشيرة مخولا وقال بشر الضرير : كفى حزنا أني أروح وأغتدي ~~وما لي من مال أصون به عرضي وأكثر ما ألقى الصديق بمرحبا وذلك لا يكفي ~~الصديق ولا يرضي وقال آخر : أجلك قوم حين صرت إلى الغنى وكل غني في العيون ~~جليل وليس الغنى إلا غنى زين الفتى عشية يقري أو غداة ينيل وقد اختلف الناس ~~في تفضيل الغنى والفقر مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه ، وما أبطر من ~~الغنى مذموم ، فذهب قوم إلى تفضيل الغنى على الفقر ؛ لأن الغني مقتدر ~~والفقير عاجز ، والقدرة أفضل من العجز PageV01P274 . # وهذا مذهب من غلب عليه ms176 حب النباهة . # وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر على الغنى ؛ لأن الفقير تارك والغني ملابس ، ~~وترك الدنيا أفضل من ملابستها . # وهذا مذهب من غلب عليه حب السلامة . # وذهب آخرون إلى تفضيل التوسط بين الأمرين بأن يخرج عن حد الفقر إلى أدنى ~~مراتب الغنى ؛ ليصل إلى فضيلة الأمرين ، ويسلم من مذمة الحالين ، وهذا مذهب ~~من يرى تفضيل الاعتدال ، وأن خيار الأمور أوساطها . # وقد مضى شواهد كل فريق في موضعه بما أغنى عن إعادته . # والسبب الثالث : أن يطلب الزيادة ويقتني الأموال ؛ ليدخرها لولده ، ~~ويخلفها على ورثته ، مع شدة ضنه على نفسه ، وكفه عن صرف ذلك في حقه ، ~~إشفاقا عليهم من كدح الطلب ، وسوء المنقلب ، وهذا شقي بجمعها ، مأخوذ ~~بوزرها ، قد استحق اللوم من وجوه لا تخفى على ذي لب . # منها : سوء ظنه بخالقه أنه لا يرزقهم إلا من جهته . # وقد قيل : قتل القنوط صاحبه ، وفي حسن الظن بالله راحة القلوب . # وقال عبد الحميد : كيف تبقى على حالتك والدهر في إحالتك . # ومنها : الثقة ببقاء ذلك على ولده مع نوائب الزمان ومصائبه . # وقد قيل : الدهر حسود لا يأتي على شيء إلا غيره . # وقيل في منثور الحكم : المال ملول . # وقال بعض الحكماء : الدنيا إن بقيت لك لا تبقى لها . # ومنها : ما حرم من منافع ماله ، وسلب من وفور حاله . # وقد قيل : إنما مالك لك أو للوارث أو للجائحة فلا تكن أشقى الثلاثة . # وقال عبد الحميد اطرح كواذب آمالك : وكن وارث مالك . # ومنها : ما لحقه من شقاء جمعه ، وناله من PageV01P275 عناء كده ، حتى صار ~~ساعيا محروما ، وجاهدا مذموما . # وقد قيل : رب مغبوط بمسرة هي داؤه ، ومرحوم من سقم هو شفاؤه . # وقال الشاعر : ومن كلفته النفس فوق كفافها فما ينقضي حتى الممات عناؤه ~~ومنها : ما يؤاخذ به من وزره وآثامه ، ويحاسب عليه من تبعاته وأجرامه . # وقد حكي أن هشام بن عبد الملك لما ثقل بكاء ولده عليه قال لهم : جاد لكم ~~هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء ، وترك لكم ما كسب وتركتم عليه ما اكتسب ، ~~ما أسوأ حال هشام ms177 إن لم يغفر الله له . # فأخذ هذا المعنى محمود الوراق فقال : تمتع بمالك قبل الممات وإلا فلا مال ~~إن أنت متا شقيت به ثم خلفته لغيرك بعدا وسحقا ومقتا فجادوا عليك بزور ~~البكاء وجدت عليهم بما قد جمعتا وأرهنتهم كل ما في يديك وخلوك رهنا بما قد ~~كسبتا وروي أن { العباس بن عبد المطلب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ~~فقال يا رسول الله ولني . # فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا عباس يا عم النبي صلى الله عليه وسلم ~~قليل يكفيك خير من كثير يرديك ، يا عباس يا عم النبي نفس تنجيها خير من ~~إمارة لا تحصيها ، يا عباس يا عم النبي صلى الله عليه وسلم إن الإمارة ~~أولها ندامة ، وأوسطها ملامة ، وآخرها خزي يوم القيامة . # فقال : يا رسول الله إلا من عدل . # فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تعدلون مع الأقارب } . # وقال رجل للحسن البصري رحمه الله : إني أخاف الموت وأكرهه . # فقال : إنك خلفت مالك ولو قدمته لسرك اللحوق به . # وقيل في منثور PageV01P276 الحكم كثرة مال الميت تعزي ورثته عنه . # فأخذ هذا المعنى ابن الرومي فقال وزاد : أبقيت مالك ميراثا لوارثه فليت ~~شعري ما أبقى لك المال القوم بعدك في حال تسرهم فكيف بعدهم حالت بك الحال ~~ملوا البكاء فما يبكيك من أحد واستحكم القول في الميراث والقال ولتهم عنك ~~دنيا أقبلت لهم وأدبرت عنك والأيام أحوال والسبب الرابع : أن يجمع المال ~~ويطلبه استحلالا لجمعه ، وشغفا باحترامه . # فهذا أسوأ الناس حالا فيه ، وأشدهم حزنا له ، قد توجهت إليه سائر الملاوم ~~حتى صار وبالا عليه ومذام . # { وفي مثله قال الله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها ~~في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تبا ~~للذهب تبا للفضة . # فشق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : أي مال نتخذ ؟ فقال ~~عمر رضي الله عنه : أنا أعلم لكم ذلك ، فقال : يا رسول الله إن أصحابك قد ~~شق عليهم فقالوا : أي ms178 مال نتخذ ؟ فقال : لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وزوجة ~~مؤمنة تعين أحدكم على دينه } . # وروى شهر بن حوشب عن أبي أمامة قال : { مات رجل من أهل الصفة فوجد في ~~مئزره دينار فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كية . # ثم مات آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال صلى الله عليه وسلم كيتان } . # وإنما ذكر ذلك فيهما ، وإن كان قد مات على عهده من ترك أموالا جمة ، ~~وأحوالا ضخمة ، فلم يكن فيه ما كان في هذين ؛ لأنهما تظاهرا بالقناعة ~~واحتجنا ما ليس بهما إليه حاجة فصار ما PageV01P277 احتجناه وزرا عليهما ، ~~وعقابا لهما . # وقد قال الشاعر : إذا كنت ذا مال ولم تكن ذا ندى فأنت إذا والمقترون سواء ~~على أن في الأموال يوما تباعة على أهلها والمقترون براء وأنشدت عن الربيع ~~للشافعي رضي الله عنه : إن الذي رزق اليسار ولم يصب حمدا ولا أجرا لغير ~~موفق والجد يدني كل شيء شاسع والجد يفتح كل باب مغلق وأحق خلق الله بالهم ~~امرؤ ذو همة عليا وعيش ضيق ومن الدليل على القضاء وكونه بؤس اللبيب وطيب ~~عيش الأحمق فإذا سمعت بأن مجدودا حوى عودا فأورق في يديه فحقق وإذا سمعت ~~بأن مخذولا أتى ماء ليشربه فجف فصدق اللب العقل . # تقول : لبيب ذو لب . # والجد في اللغة الحظ ، وهو البخت ، والجد أيضا العظمة . # ومنه قوله تعالى : { وأنه تعالى جد ربنا } . # والجد مصدر جد الشيء إذا قطع والجد بالكسر الانكماش في الأمور أي ~~الاجتهاد فيها ، وهو أيضا الحق ضد الهزل . # وبالحاء إذا منع الرزق ومجد مجدود لا يقال فيهما إلا بما لم يسم فاعله . # وآفة من بلي بالجمع والاستكثار ، ومني بالإمساك والادخار ، حتى انصرف عن ~~رشده فغوى ، وانحرف عن سنن قصده فهوى ، أن يستولي عليه حب المال وبعد الأمل ~~فيبعثه حب المال على الحرص في طلبه ، ويدعوه بعد الأمل على الشح به . # والحرص والشح أصل لكل ذم ، وسبب لكل لؤم ؛ لأن الشح يمنع من أداء الحقوق ~~، ويبعث على القطيعة والعقوق . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { شر ms179 ما أعطى العبد شح هالع وجبن ~~خالع } . # وقال بعض الحكماء : الغني PageV01P278 البخيل كالقوي الجبان . # وأما الحرص فيسلب فضائل النفس ؛ لاستيلائه عليها ، ويمنع من التوفر على ~~العبادة ؛ لتشاغله عنها ، ويبعث على التورط في الشبهات ؛ لقلة تحرزه منها . # وهذه الثلاث خصال هن جامعات الرذائل ، سالبات الفضائل ، مع أن الحريص لا ~~يستزيد بحرصه زيادة على رزقه سوى إذلال نفسه ، وإسخاط خالقه . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الحريص الجاهد والقنوع ~~الزائد يستوفيان أكلهما غير منتقص منه شيء ، فعلام التهافت في النار } . # وقال بعض الحكماء : الحرص مفسدة للدين والمروءة ، والله ما عرفت من وجه ~~رجل حرصا فرأيت أن فيه مصطنعا . # وقال آخر : الحريص أسير مهانة لا يفك أسره . # وقال بعض البلغاء : المقادير الغالبة لا تنال بالمغالبة ، والأرزاق ~~المكتوبة لا تنال بالشدة والمطالبة ، فذلل للمقادير نفسك واعلم بأنك غير ~~نائل بالحرص إلا حظك . # وقال بعض الأدباء : رب حظ أدركه غير طالبه ، ودر أحرزه غير جالبه . # وأنشدني بعض أهل الأدب لمحمد بن حازم : يا أسير الطمع الكاذب في غل ~~الهوان إن عز اليأس خير لك من ذل الأماني سامح الدهر إذا عز وخذ صفو الزمان ~~إنما أعدم ذو الحرص وأثري ذو التواني وليس للحريص غاية مقصودة يقف عندها ، ~~ولا نهاية محدودة يقنع بها ؛ لأنه إذا وصل بالحرص إلى ما أمل أغراه ذلك ~~بزيادة الحرص والأمل ، وإن لم يصل رأى إضاعة الغنى لؤما ، والصبر عليه حزما ~~، وصار بما سلف من رجائه أقوى رجاء وأبسط أملا . # وقد روي عن النبي صلى PageV01P279 الله عليه وسلم أنه قال { يشيب ابن آدم ~~ويبقى معه خصلتان الحرص والأمل } . # وقيل للمسيح عليه السلام : ما بال المشايخ أحرص على الدنيا من الشباب ؟ ~~قال : ؛ لأنهم ذاقوا من طعم الدنيا ما لم يذقه الشباب . # ولو صدق الحريص نفسه واستنصح عقله لعلم أن من تمام السعادة وحسن التوفيق ~~الرضاء بالقضاء والقناعة بالقسم . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { اقتصدوا في الطلب فإن ما ~~رزقتموه أشد طلبا لكم منكم له وما حرمتموه ms180 فلن تنالوه ولو حرصتم } . # وروي { أن جبريل - على نبينا وعليه السلام - هبط على النبي صلى الله عليه ~~وسلم فقال : إن الله - تبارك وتعالى - يقرأ عليك السلام ويقول لك : اقرأ ~~بسم الله الرحمن الرحيم : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ~~زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى } . # فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي : من لم يتأدب بأدب الله ~~تعالى تقطعت نفسه على الدنيا حسرات } . # وقيل : مكتوب في بعض الكتب : ردوا أبصاركم عليكم فإن لكم فيها شغلا . # وقال مجاهد في تأويل قوله تعالى : { فلنحيينه حياة طيبة } قال : بالقناعة ~~. # وقال أكثم بن صيفي : من باع الحرص بالقناعة ظفر بالغنى والثروة . # وقال بعض السلف : قد يخيب الجاهد الساعي ، ويظفر الوادع الهادي . # فأخذه البحتري فقال : لم ألق مقدورا على استحقاقه في الحظ إما ناقصا أو ~~زائدا وعجبت للمحدود يحرم ناصبا كلفا وللمجدود يغنم قاعدا ما خطب من حرم ~~الإرادة قاعدا PageV01P280 خطب الذي حرم الإرادة جاهدا وقال بعض الحكماء : ~~إن من قنع كان غنيا وإن كان مقترا ، ومن لم يقنع كان فقيرا وإن كان مكثرا . # وقال بعض البلغاء إذا طلبت العز فاطلبه بالطاعة ، وإذا طلبت الغنى فاطلبه ~~بالقناعة ، فمن أطاع الله - عز وجل - عن نصره ، ومن لزم القناعة زال فقره . # وقال بعض الأدباء : القناعة عز المعسر ، والصدقة حرز الموسر . # وقال بعض الأدباء : إني أرى من له قنوع يدرك ما نال أو تمنى والرزق يأتي ~~بلا عناء وربما فات من تعنى والقناعة قد تكون على ثلاثة أوجه . # فالوجه الأول : أن يقنع بالبلغة من دنياه ، ويصرف نفسه عن التعرض لما ~~سواه . # وهذا أعلى منازل القناعة . # وقال الشاعر : إذا شئت أن تحيا غنيا فلا تكن على حالة إلا رضيت بدونها ~~وقال مالك بن دينار : أزهد الناس من لا تتجاوز رغبته من الدنيا بلغته . # وقال بعض الحكماء : الرضى بالكفاف يؤدي إلى العفاف . # وقال بعض الأدباء : يا رب ضيق أفضل من سعة ، وعناء خير من دعة . # وأنشدني بعض أهل الأدب ، وذكر أنه لعلي بن ms181 أبي طالب - كرم الله وجهه - : ~~أفادتني القناعة كل عز وأي غنى أعز من القناعه فصيرها لنفسك رأس مال وصير ~~بعدها التقوى بضاعه تحرز حين تغنى عن بخيل وتنعم في الجنان بصبر ساعه ~~والوجه الثاني : أن تنتهي به القناعة إلى الكفاية ، ويحذف الفضول والزيادة ~~. # وهذه أوسط حال المقتنع . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما من عبد إلا بينه ~~وبين رزقه حجاب ، فإن قنع واقتصد أتاه رزقه ، PageV01P281 وإن هتك الحجاب ~~لم يزد في رزقه } . # وقال بعض الحكماء : ما فوق الكفاف إسراف . # وقال بعض البلغاء : من رضي بالمقدور قنع بالميسور . # وقال البحتري : تطلب الأكثر في الدنيا وقد تبلغ الحاجة منها بالأقل ~~وأنشدت لإبراهيم بن المدبر : إن القناعة والعفاف ليغنيان عن الغنى فإذا ~~صبرت عن المنى فاشكر فقد نلت المنى والوجه الثالث : أن تنتهي به القناعة ~~إلى الوقوف على ما سنح فلا يكره ما أتاه وإن كان كثيرا ، ولا يطلب ما تعذر ~~وإن كان يسيرا . # وهذه الحال أدنى منازل أهل القناعة ؛ لأنها مشتركة بين رغبة ورهبة . # أما الرغبة ؛ فلأنه لا يكره الزيادة على الكفاية إذا سنحت . # وأما الرهبة ؛ فلأنه لا يطلب المتعذر عن نقصان المادة إذا تعذرت . # وفي مثله قال ذو النون - رحمة الله عليه - : من كانت قناعته سمينة طابت ~~له كل مرقة . # وقد روى الحسن بن علي عن أبيه ، عن جده رضي الله عنهم قال : قال رسول ~~الله صلى الله عليه وسلم : { الدنيا دول فما كان منها لك أتاك على ضعفك ، ~~وما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك ، ومن انقطع رجاؤه مما فات استراح بدنه ، ~~ومن رضي بما رزقه الله تعالى قرت عينه } . # وقال أبو حازم الأعرج وجدت شيئين : شيئا هو لي لن أعجله قبل أجله ولو ~~طلبته بقوة السموات والأرض ، وشيئا هو لغيري وذلك مما لم أنله فيما مضى ولا ~~أناله فيما بقي يمنع الذي لي من غيري كما يمنع الذي لغيري مني ، ففي أي ~~هذين أفني عمري وأهلك نفسي . # وقال أبو تمام الطائي : لا تأخذوني بالزمان ms182 وليس لي PageV01P282 تبعا ~~ولست على الزمان كفيلا من كان مرعى عزمه وهمومه روض الأماني لم يزل مهزولا ~~لو جار سلطان القنوع وحكمه في الخلق ما كان القليل قليلا الرزق لا تكمد ~~عليه فإنه يأتي ولم تبعث عليه رسولا وأنشدني بعض أهل الأدب لابن الرومي : ~~جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق ~~في غشاوته الجنين ونحن نسأل الله تعالى أكرم مسئول ، وأفضل مأمول ، أن يحسن ~~إلينا التوفيق فيما منح ، ويصرف عنا الرغبة فيما منع ؛ استكفافا لتبعات ~~الثروة ، وموبقات الشهوة . # روى شريك بن أبي نمر ، عن أبي الجذع ، عن أعمامه وأجداده ، عن النبي صلى ~~الله عليه وسلم أنه قال : { خير أمتي الذين لم يعطوا حتى يبطروا ، ولم ~~يقتروا حتى يسألوا } وقال أبو تمام الطائي : عندي من الأيام ما لو أنه أضحى ~~بشارب مرقد ما غمضا لا تطلبن الرزق بعد شماسه فترومه شبعا إذا ما غيضا ما ~~عوض الصبر امرؤ إلا رأى ما فاته دون الذي قد عوضا PageV01P283 الباب الخامس ~~أدب النفس اعلم أن النفس مجبولة على شيم مهملة ، وأخلاق مرسلة ، لا يستغني ~~محمودها عن التأديب ، ولا يكتفي بالمرضي منها عن التهذيب ؛ لأن لمحمودها ~~أضدادا مقابلة يسعدها هوى مطاع وشهوة غالبة ، فإن أغفل تأديبها تفويضا إلى ~~العقل أو توكلا على أن تنقاد إلى الأحسن بالطبع أعدمه التفويض درك ~~المجتهدين ، وأعقبه التوكل ندم الخائبين ، فصار من الأدب عاطلا ، وفي صورة ~~الجهل داخلا ؛ لأن الأدب مكتسب بالتجربة ، أو مستحسن بالعادة ، ولكل قوم ~~مواضعة . # وذلك لا ينال بتوقيف العقل ولا بالانقياد للطبع حتى يكتسب بالتجربة ~~والمعاناة ، ويستفاد بالدربة والمعاطاة . # ثم يكون العقل عليه قيما وزكي الطبع إليه مسلما . # ولو كان العقل مغنيا عن الأدب لكان أنبياء الله تعالى عن أدبه مستغنين ، ~~وبعقولهم مكتفين . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { بعثت لأتمم مكارم ~~الأخلاق } . # وقيل لعيسى ابن مريم - على نبينا وعليه السلام - : من أدبك ؟ قال : ما ~~أدبني أحد ولكني رأيت جهل الجاهل فجانبته . # وقال علي بن ms183 أبي طالب رضي الله عنه : إن الله تعالى جعل مكارم الأخلاق ~~ومحاسنها وصلا بينه وبينكم ، فحسب الرجل أن يتصل من الله تعالى بخلق منها . # وقال أزدشير بن بابك : من فضيلة الأدب أنه ممدوح بكل لسان ، ومتزين به في ~~كل مكان ، وباق ذكره على أيام الزمان . # وقال مهبود : شبه العالم الشريف القديم الأدب بالبنيان الخراب الذي كلما ~~علا سمكه كان أشد PageV01P284 لوحشته وبالنهر اليابس الذي كلما كان أعرض ~~وأعمق كان أشد لوعورته ، وبالأرض الجيدة المعطلة التي كلما طال خرابها ~~ازداد نباتها غير المنتفع به التفافا وصار للهوام مسكنا . # وقال ابن المقفع : ما نحن إلى ما نتقوى به على حواسنا من المطعم والمشرب ~~بأحوج منا إلى الأدب الذي هو لقاح عقولنا ، فإن الحبة المدفونة في الثرى لا ~~تقدر أن تطلع زهرتها ونضارتها إلا بالماء الذي يعود إليها من مستودعها . # وحكى الأصمعي رحمه الله تعالى أن أعرابيا قال لابنه : يا بني العقل بلا ~~أدب كالشجر العاقر ، ومع الأدب دعامة أيد الله بها الألباب ، وحلية زين ~~الله بها عواطل الأحساب ، فالعاقل لا يستغني وإن صحت غريزته ، عن الأدب ~~المخرج زهرته ، كما لا تستغني الأرض وإن عذبت تربتها عن الماء المخرج ~~ثمرتها . # وقال بعض الحكماء : الأدب صورة العقل فصور عقلك كيف شئت . # وقال آخر : العقل بلا أدب كالشجر العاقر ، ومع الأدب كالشجر المثمر . # وقيل الأدب أحد المنصبين . # وقال بعض البلغاء : الفضل بالعقل والأدب ، لا بالأصل والحسب ؛ لأن من ساء ~~أدبه ضاع نسبه ، ومن قل عقله ضل أصله . # وقال بعض الأدباء : ذك قلبك بالأدب كما تذكى النار بالحطب ، واتخذ الأدب ~~غنما ، والحرص عليه حظا ، يرتجيك راغب ، ويخاف صولتك راهب ، ويؤمل نفعك ، ~~ويرجى عدلك . # وقال بعض العلماء : الأدب وسيلة إلى كل فضيلة ، وذريعة إلى كل شريعة . # وقال بعض الفصحاء : الأدب يستر قبيح النسب . # وقال بعض الشعراء فيه : فما خلق الله PageV01P285 مثل العقول ولا اكتسب ~~الناس مثل الأدب وما كرم المرء إلا التقى ولا حسب المرء إلا النسب وفي ~~العلم زين لأهل الحجا وآفة ذي الحلم طيش الغضب ms184 وأنشد الأصمعي رحمه الله : ~~وإن يك العقل مولودا فلست أرى ذا العقل مستغنيا عن حادث الأدب إني رأيتهما ~~كالماء مختلطا بالترب تظهر منه زهرة العشب وكل من أخطأته في موالده غريزة ~~العقل حاكى البهم في الحسب والتأديب يلزم من وجهين : أحدهما ما لزم الوالد ~~لولده في صغره . # والثاني ما لزم الإنسان في نفسه عند نشوئه وكبره . # فأما التأديب اللازم للأب فهو أن يأخذ ولده بمبادئ الآداب ليأنس بها ، ~~وينشأ عليها ، فيسهل عليه قبولها عند الكبر لاستئناسه بمبادئها في الصغر ؛ ~~لأن نشوء الصغر على الشيء يجعله متطبعا به . # ومن أغفل تأديبه في الصغر كان تأديبه في الكبر عسيرا . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { ما نحل والد ولده نحلة ~~أفضل من أدب حسن يفيده إياه ، أو جهل قبيح يكفه عنه ويمنعه منه } . # وقال بعض الحكماء : بادروا بتأديب الأطفال قبل تراكم الأشغال وتفرق البال ~~. # وقال بعض الشعراء : إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته ~~الخشب قد ينفع الأدب الأحداث في صغر وليس ينفع عند الشيبة الأدب وقال آخر : ~~ينشو الصغير على ما كان والده إن الأصول عليها تنبت الشجر وأما الأدب ~~اللازم للإنسان عند نشوئه وكبره فأدبان : أدب مواضعة واصطلاح ، وأدب رياضة ~~واستصلاح . # فأما أدب المواضعة والاصطلاح فيؤخذ PageV01P286 تقليدا على ما استقر عليه ~~اصطلاح العقلاء ، واتفق عليه استحسان الأدباء . # وليس لاصطلاحهم على وضعه تعليل مستنبط ، ولا لاتفاقهم على استحسانه دليل ~~موجب ، كاصطلاحهم على مواضعات الخطاب ، واتفاقهم على هيئات اللباس ، حتى إن ~~الإنسان الآن إذا تجاوز ما اتفقوا عليه منها صار مجانبا للأدب ، مستوجبا ~~للذم . # لأن فراق المألوف في العادة ، ومجانبة ما صار متفقا عليه بالمواضعة ، مفض ~~إلى استحقاق الذم بالعقل ما لم يكن لمخالفته علة ظاهرة ومعنى حادث . # وقد كان جائزا في العقل أن يوضع ذلك على غير ما اتفقوا عليه فيرونه حسنا ~~، ويرون ما سواه قبيحا ، فصار هذا مشاركا لما وجب بالعقل من حيث توجه الذم ~~على تاركه ومخالفا له من حيث أنه كان جائزا ms185 في العقل أن يوضع على خلافه . # وأما أدب الرياضة والاستصلاح فهو ما كان محمولا على حال لا يجوز في العقل ~~أن يكون بخلافها ، ولا أن تختلف العقلاء في صلاحها وفسادها . # وما كان كذلك فتعليله بالعقل مستنبط ، ووضوح صحته بالدليل مرتبط . # وللنفس على ما يأتي من ذلك شاهد ألهمها الله تعالى إرشادا لها . # قال الله تعالى : { فألهمها فجورها وتقواها } قال ابن عباس رضي الله عنه ~~: بين لها ما تأتي من الخير وتذر من الشر . # وسنذكر تعليل كل شيء في موضعه ، فإنه أولى به وأحق . # فأول مقدمات أدب الرياضة والاستصلاح أن لا يسبق إلى حسن الظن بنفسه ، ~~فيخفى عنه مذموم شيمه ومساوئ أخلاقه ؛ لأن النفوس بالشهوات آمرة ، وعن ~~الرشد زاجرة . # وقد قال الله تعالى : PageV01P287 { إن النفس لأمارة بالسوء } . # وقال صلى الله عليه وسلم : { أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك ، ثم أهلك ~~، ثم عيالك } . # ودعت أعرابية لرجل فقالت : كبت الله كل عدو لك إلا نفسك . # فأخذه بعض الشعراء فقال : قلبي إلى ما ضرني داعي يكثر أسقامي وأوجاعي كيف ~~احتراسي من عدوي إذا كان عدوي بين أضلاعي فإذا كانت النفس كذلك فحسن الظن ~~بها ذريعة إلى تحكيمها ، وتحكيمها داع إلى سلاطتها وفساد الأخلاق بها . # فإذا صرف حسن الظن عنها وتوسمها بما هي عليه من التسويف والمكر فاز ~~بطاعتها ، وانحاز عن معصيتها . # وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : العاجز من عجز عن سياسة نفسه . # وقال بعض الحكماء : من ساس نفسه ساد ناسه . # فأما سوء الظن بها فقد اختلف الناس فيه ، فمنهم من كرهه لما فيه من اتهام ~~طاعتها ، ورد مناصحتها . # فإن النفس وإن كان لها مكر يردي فلها نصح يهدي . # فلما كان حسن الظن بها يعمي عن مساوئها ، كان سوء الظن بها يعمي عن ~~محاسنها . # ومن عمي عن محاسن نفسه كان كمن عمي عن مساوئها ، فلم ينف عنها قبيحا ولم ~~يهد إليها حسنا . # وقد قال الجاحظ في كتاب البيان : يجب أن يكون في التهمة لنفسه معتدلا ، ~~وفي حسن الظن بها مقتصدا ، فإنه إن ms186 تجاوز مقدار الحق في التهمة ظلمها ~~فأودعها ذلة المظلومين ، وإن تجاوز بها الحق في مقدار حسن الظن أودعها ~~تهاون الآمنين ، ولكل ذلك مقدار من الشغل ، ولكل شغل مقدار من الوهن ، ولكل ~~وهن مقدار من الجهل . # وقال الأحنف بن قيس : من ظلم نفسه كان PageV01P288 لغيره أظلم ، ومن هدم ~~دينه كان لمجده أهدم . # وذهب قوم إلى أن سوء الظن بها أبلغ في صلاحها ، وأوفر في اجتهادها ؛ لأن ~~للنفس جورا لا ينفك إلا بالسخط عليها ، وغرورا لا ينكشف إلا بالتهمة لها ؛ ~~لأنها محبوبة تجور إدلالا وتغر مكرا ، فإن لم يسئ الظن بها غلب عليه جورها ~~، وتموه عليه غرورها فصار بميسورها قانعا ، وبالشبهة من أفعالها راضيا . # وقد قالت الحكماء : من رضي عن نفسه أسخط عليه الناس . # وقال كشاجم : لم أرض عن نفسي مخافة سخطها ورضا الفتى عن نفسه إغضابها ولو ~~أنني عنها رضيت لقصرت عما تزيد بمثله آدابها وتبينت آثار ذاك فأكثرت عذلي ~~عليه فطال فيه عتابها وقد استحسن قول أبي تمام الطائي : ويسيء بالإحسان ظنا ~~لا كمن هو بابنه وبشعره مفتون فلم يروا إساءة ظنه بالإحسان ذما ولا استقلال ~~علمه لوما ، بل رأوا ذلك أبلغ في الفضل وأبعث على الازدياد فإذا عرف من ~~نفسه ما تجن ، وتصور منها ما تكن ، ولم يطاوعها فيما تحب إذا كان غيا ، ولا ~~صرف عنها ما تكره إذا كان رشدا ، فقد ملكها بعد أن كان في ملكها ، وغلبها ~~بعد أن كان في غلبها . # وقد روى أبو حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى ~~الله عليه وسلم : { الشديد من غلب نفسه } . # وقال عون بن عبد الله : إذا عصتك نفسك فيما كرهت فلا تطعها فيما أحبت ، ~~ولا يغرنك ثناء من جهل أمرك . # وقال بعض البلغاء : من قوي على نفسه تناهى في القوة ، ومن صبر عن شهوته ~~بالغ في المروة . # فحينئذ يأخذ نفسه عند معرفة PageV01P289 ما أكنت ، وخبرة ما أجنت بتقويم ~~عوجها وإصلاح فسادها . # وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت { يا رسول الله ms187 متى يعرف ~~الإنسان ربه ؟ قال إذا عرف نفسه } . # ثم يراعي منها ما صلح واستقام من زيع يحدث عن إغفال ، أو ميل يكون عن ~~إهمال ؛ ليتم له الصلاح وتستديم له السعادة ، فإن المغفل بعد المعاناة ضائع ~~، والمهمل بعد المراعاة زائغ . # وسنذكر من أحوال أدب الرياضة والاستصلاح فصولا تحتوي على ما يلزم مراعاته ~~من الأخلاق ، ويجب معاناته من الأدب ، وهي ستة فصول متفرعة . PageV01P290 ~~مجانبة الكبر والإعجاب الفصل الأول في مجانبة الكبر والإعجاب : لأنهما ~~يسلبان الفضائل ، ويكسبان الرذائل . # وليس لمن استوليا عليه إصغاء لنصح ، ولا قبول لتأديب ؛ لأن الكبر يكون ~~بالمنزلة ، والعجب يكون بالفضيلة . # فالمتكبر يجل نفسه عن رتبة المتعلمين ، والمعجب يستكثر فضله عن استزادة ~~المتأدبين . # فلذلك وجب تقديم القول فيهما بإبانة ما يكسبانه من ذم ، ويوجبانه من لوم ~~. # فنقول : أما الكبر فيكسب المقت ويلهي عن التألف ويوغر صدور الإخوان ، ~~وحسبك بذلك سوءا عن استقصاء ذمه . # ولذلك { قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه العباس أنهاك عن الشرك بالله ~~والكبر ، فإن الله يحتجب منهما } . # وقال أزدشير بن بابك : ما الكبر إلا فضل حمق لم يدر صاحبه أين يذهب به ~~فيصرفه إلى الكبر . # وما أشبه ما قال بالحق . # وحكي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير نظر إلى المهلب بن أبي صفرة وعليه ~~حلة يسحبها ويمشي الخيلاء فقال : يا أبا عبد الله ، ما هذه المشية التي ~~يبغضها الله ورسوله ؟ فقال المهلب : أما تعرفني ؟ فقال : بل أعرفك ، أولك ~~نطفة مذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، وحشوك فيما بين ذلك بول وعذرة . # فأخذ ابن عوف هذا الكلام فنظمه شعرا فقال : عجبت من معجب بصورته وكان ~~بالأمس نطفة مذره وفي غد بعد حسن صورته يصير في اللحد جيفة قذره وهو على ~~تيهه ونخوته ما بين ثوبيه يحمل العذره وقد كان المهلب أفضل من أن يخدع نفسه ~~بهذا الجواب غير الصواب ، ولكنها زلة من زلات PageV01P291 الاسترسال ، ~~وخطيئة من خطايا الإدلال . # فأما الحمق الصريح ، والجهل القبيح ، فهو ما حكي عن نافع بن جبير بن مطعم ~~أنه جلس في حلقة العلاء بن ms188 عبد الرحمن الخرقي وهو يقرئ الناس ، فلما فرغ ~~قال : أتدرون لم جلست إليكم ؟ قالوا : جلست لتسمع . # قال : لا ولكني أردت أن أتواضع لله بالجلوس إليكم . # فهل يرجى من هذا فضل أو ينفع فيه عذل ، وقد قال ابن المعتز : لما عرف أهل ~~النقص حالهم عند ذوي الكمال استعانوا بالكبر ليعظم صغيرا ، ويرفع حقيرا ، ~~وليس بفاعل . # وأما الإعجاب فيخفي المحاسن ويظهر المساوئ ويكسب المذام ويصد عن الفضائل ~~. # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن العجب ليأكل الحسنات ~~كما تأكل النار الحطب } . # وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب . # وقال بزرجمهر : النعمة التي لا يحسد صاحبها عليها التواضع ، والبلاء الذي ~~لا يرحم صاحبه منه العجب . # وقال بعض الحكماء : عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله . # وليس إلى ما يكسبه الكبر من المقت حد ، ولا إلى ما ينتهي إليه العجب من ~~الجهل غاية ، حتى إنه ليطفئ من المحاسن ما انتشر ، ويسلب من الفضائل ما ~~اشتهر . # وناهيك بسيئة تحبط كل حسنة وبمذمة تهدم كل فضيلة ، مع ما يثيره من حنق ~~ويكسبه من حقد . # حكى عمر بن حفص قال : قيل للحجاج كيف وجدت منزلك بالعراق ؟ قال : خير ~~منزل لو كان الله بلغني قتل أربعة فتقربت إليه بدمائهم : مقاتل بن مسمع ولي ~~سجستان فأتاه الناس PageV01P292 فأعطاهم الأموال ، فلما عزل دخل مسجد ~~البصرة فبسط الناس له أرديتهم فمشى عليها ، وقال لرجل يماشيه : لمثل هذا ~~فليعمل العاملون . # وعبد الله بن زياد بن ظبيان التيمي خوف أهل البصرة أمر فخطب خطبة أوجز ~~فيها ، فنادى الناس من أعراض المسجد : أكثر الله فينا مثلك . # فقال : لقد كلفتم الله شططا . # ومعبد بن زرارة كان ذات يوم جالسا في طريق فمرت به امرأة فقالت له : يا ~~عبد الله كيف الطريق إلى موضع كذا ؟ فقال : يا هناه مثلي يكون من عبيد الله ~~. # وأبو شمال الأسدي أضل راحلته فالتمسها الناس فلم يجدوها ، فقال : والله ~~إن لم يرد إلي راحلتي لا صليت له صلاة أبدا . # فالتمسها الناس فوجدوها ms189 ، فقالوا له : قد رد الله راحلتك فصل . # فقال : إن يميني يمين مصر . # فانظر إلى هؤلاء كيف أفضي بهم العجب إلى حمق صاروا به نكالا في الأولين ، ~~ومثلا في الآخرين . # ولو تصور المعجب المتكبر ما فطر عليه من جبلة ، وبلي به من مهنة ، لخفض ~~جناح نفسه واستبدل لينا من عتوه ، وسكوتا من نفوره . # وقال الأحنف بن قيس : عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين كيف يتكبر ، وقد ~~وصف بعض الشعراء الإنسان فقال : يا مظهر الكبر إعجابا بصورته انظر خلاك فإن ~~النتن تثريب لو فكر الناس فيما في بطونهم ما استشعر الكبر شبان ولا شيب هل ~~في ابن آدم مثل الرأس مكرمة وهو بخمس من الأقذار مضروب أنف يسيل وأذن ريحها ~~سهك والعين مرفضة والثغر ملعوب يا ابن التراب ومأكول التراب غدا أقصر فإنك ~~مأكول ومشروب وأحق من كان PageV01P293 للكبر مجانبا ، وللإعجاب مباينا ، من ~~جل في الدنيا قدره ، وعظم فيها خطره ؛ لأنه قد يستقل بعالي همته كل كثير ، ~~ويستصغر معها كل كبير . # وقال محمد بن علي : لا ينبغي للشريف أن يرى شيئا من الدنيا لنفسه خطيرا ~~فيكون بها نابها . # وقال ابن السماك لعيسى بن موسى : تواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك . # وكان يقال : اسمان متضادان بمعنى واحد : التواضع والشرف . # وللكبر أسباب : فمن أقوى أسبابه علو اليد ، ونفوذ الأمر ، وقلة مخالطة ~~الأكفاء . # وحكي أن قوما مشوا خلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : أبعدوا عني ~~خفق نعالكم فإنها مفسدة لقلوب نوكى الرجال . # ومشوا خلف ابن مسعود فقال ارجعوا فإنها زلة للتابع وفتنة للمتبوع . # وروى قيس بن حازم { أن رجلا أتي به للنبي صلى الله عليه وسلم فأصابته ~~رعدة ، فقال له صلى الله عليه وسلم : هون عليك فإنما أنا ابن امرأة كانت ~~تأكل القديد } . # وإنما قال ذلك صلى الله عليه وسلم حسما لمواد الكبر ، وقطعا لذرائع ~~الإعجاب ، وكسرا لأشر النفس ، وتذليلا لسطوة الاستعلاء . # ومثل ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نادى الصلاة جامعة ~~فلما اجتمع الناس ms190 صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله ~~عليه وسلم ثم قال : أيها الناس لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم ~~فيقبض لي القبضة من التمر والزبيب فأظل اليوم وأي يوم . # فقال له عبد الرحمن بن عوف والله يا أمير المؤمنين ما زدت على أن قصرت ~~بنفسك PageV01P294 . # فقال عمر رضي الله عنه : ويحك يا ابن عوف إني خلوت فحدثتني نفسي ، فقالت ~~أنت أمير المؤمنين فمن ذا أفضل منك فأردت أن أعرفها نفسها . # وللإعجاب أسباب : فمن أقوى أسبابه كثرة مديح المتقربين وإطراء المتملقين ~~الذين جعلوا النفاق عادة ومكسبا ، والتملق خديعة وملعبا ، فإذا وجدوه ~~مقبولا في العقول الضعيفة أغروا أربابها باعتقاد كذبهم ، وجعلوا ذلك ذريعة ~~إلى الاستهزاء بهم . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه سمع رجلا يزكي رجلا فقال له : ~~قطعت مطاه لو سمعها ما أفلح بعدها } . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه المدح ذبح . # وقال ابن المقفع : قابل المدح كمادح نفسه . # وقال بعض الحكماء : من رضي أن يمدح بما ليس فيه فقد أمكن الساخر منه . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إياكم والتمادح فإنه الذبح ~~إن كان أحدكم مادحا أخاه لا محالة فليقل أحسب ولا أزكي على الله أحدا } . # وقيل فيما أنزل الله عز وجل من الكتب السالفة : عجبت لمن قيل فيه الخير ~~وليس فيه كيف يفرح ، وعجبت لمن قيل فيه الشر وهو فيه كيف يغضب . # وقال بعض الشعراء : يا جاهلا غره إفراط مادحه لا يغلبن جهل من أطراك علمك ~~بك أثنى وقال بلا علم أحاط به وأنت أعلم بالمحصول من ريبك وهذا أمر ينبغي ~~للعاقل أن يضبط نفسه عن أن يستفزها ، ويمنعها من تصديق المدح لها ، فإن ~~للنفس ميلا لحب الثناء وسماع المدح . # وقال الشاعر : يهوى الثناء مبرز ومقصر حب الثناء طبيعة الإنسان فإذا سامح ~~PageV01P295 نفسه في مدح الصبوة ، وتابعها على هذه الشهوة ، تشاغل بها عن ~~الفضائل الممدوحة ، ولها بها عن المحاسن الممنوحة ، فصار الظاهر من مدحه ~~كذبا ms191 ، والباطن من ذمه صدقا ، وعند تقابلهما يكون الصدق ألزم الأمرين . # وهذه خدعة لا يرتضيها عاقل ولا ينخدع بها مميز . # وليعلم أن المتقرب بالمدح يسرف مع القبول ويكف مع الإباء ، فلا يغلبه حسن ~~الظن على تصديق مدح هو أعرف بحقيقته ولتكن تهمة المادح أغلب عليه . # فقل مدح كان جميعه صدقا ، وقل ثناء كان له حقا . # ولذلك كره أهل الفضل أن يطلقوا ألسنتهم بالثناء والمدح تحرزا من التجاوز ~~فيه ، وتنزيها عن التملق به . # وقد روى مكحول قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تكونوا ~~عيابين ولا تكونوا لعانين ولا متمادحين ولا متماوتين } . # وحكى الأصمعي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان إذا مدح قال : اللهم ~~أنت أعلم بي من نفسي ، وأنا أعلم بنفسي منهم ، اللهم اجعلني خيرا مما ~~يحسبون واغفر لي ما لا يعلمون ، ولا تؤاخذني بما يقولون . # وقال بعض الشعراء : إذا المرء لم يمدحه حسن فعاله فمادحه يهذي وإن كان ~~مفصحا وربما آل حب المدح بصاحبه إلى أن يصير مادح نفسه ، إما لتوهمه أن ~~الناس قد غفلوا عن فضله ، وأخلوا بحقه . # وإما ليخدعهم بتدليس نفسه بالمدح والإطراء ، فيعتقدون أن قوله حق متبع ، ~~وصدق مستمع . # وإما لتلذذه بسماع الثناء وسرور نفسه بالمدح والإطراء ، ما يتغنى بنفسه ~~طربا إذا لم يسمع صوتا مطربا ولا غناء ممتعا . PageV01P296 ولأي ذلك كان ~~فهو الجهل الصريح ، والنقص الفضيح . # وقد قال بعض الشعراء : وما شرف أن يمدح المرء نفسه ولكن أعمالا تذم وتمدح ~~وما كل حين يصدق المرء ظنه ولا كل أصحاب التجارة يربح ولا كل من ترجو لغيبك ~~حافظا ولا كل من ضم الوديعة يصلح وينبغي للعاقل أن يسترشد إخوان الصدق ~~الذين هم أصفياء القلوب ، ومرائي المحاسن والعيوب ، على ما ينبهونه عليه من ~~مساوئه التي صرفه حسن الظن عنها . # فإنهم أمكن نظرا ، وأسلم فكرا ، ويجعلون ما ينبهونه عليه من مساوئه عوضا ~~عن تصديق المدح فيه . # وقد روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { المؤمن ~~مرآة المؤمن إذا رأى فيه ms192 عيبا أصلحه } . # وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : رحم الله امرأ أهدى إلينا ~~مساوئنا . # وقيل لبعض الحكماء : أتحب أن تهدى إليك عيوبك ؟ قال : نعم ، من ناصح . # ومما يقارب معنى هذا القول ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لابن عباس ~~رضي الله عنهما : من ترى أن نوليه حمص ؟ فقال : رجلا صحيحا منك ، صحيحا لك ~~. # قال : تكون أنت ذلك الرجل . # قال : لا تنتفع بي مع سوء ظني بك وسوء ظنك بي . # وقيل في منثور الحكم : من أظهر عيب نفسه فقد زكاها . # فإذا قطع أسباب الكبر وحسم مواد العجب اعتاض بالكبر تواضعا وبالعجب توددا ~~. # وذلك من أوكد أسباب الكرامة وأقوى مواد النعم وأبلغ شافع إلى القلوب ~~يعطفها إلى المحبة ويثنيها عن البغض . # وقال بعض الحكماء : من برئ من ثلاث نال ثلاثا : من برئ من السرف نال العز ~~. PageV01P297 ومن برئ من البخل نال الشرف . # ومن برئ من الكبر نال الكرامة . # وقال مصعب بن الزبير : التواضع مصائد الشرف . # وقيل في منثور الحكم : من دام تواضعه كثر صديقه . # وقد تحدث المنازل والولايات لقوم أخلاقا مذمومة يظهرها سوء طباعهم ، ~~ولآخرين فضائل محمودة يبعث عليها زكاء شيمهم ؛ لأن تقلب الأحوال سكرة تظهر ~~من الأخلاق مكنونها ، ومن السرائر مخزونها ، لا سيما إذا هجمت من غير تدريج ~~وطرقت من غير تأهب . # وقد قال بعض الحكماء : في تقلب الأحوال تعرف جواهر الرجال . # وقال الفضل بن سهل : من كانت ولايته فوق قدرة تكبر لها ، ومن كانت ولايته ~~دون قدرة تواضع لها . # وقال بعض البلغاء : الناس في الولاية رجلان : رجل يجل العمل بفضله ~~ومروءته ، ورجل يجل بالعمل لنقصه ودناءته . # فمن جل عن عمله ازداد به تواضعا وبشرا ، ومن جل عنه عمله ازداد به تجبرا ~~وتكبرا . PageV01P298 حسن الخلق الفصل الثاني في حسن الخلق روي عن النبي ~~صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله تعالى اختار لكم الإسلام دينا ~~فأكرموه بحسن الخلق والسخاء فإنه لا يكمل إلا بهما } . # وقال الأحنف بن قيس : ألا أخبركم بأدوأ الداء ؟ قالوا بلى . # قال ms193 الخلق الدني واللسان البذي . # وقال بعض الحكماء : من ساء خلقه ضاق رزقه . # وعلة هذا القول ظاهرة . # وقال بعض البلغاء : الحسن الخلق من نفسه في راحة ، والناس منه في سلامة . # والسيئ الخلق الناس منه في بلاء ، وهو من نفسه في عناء ، وقال بعض ~~الحكماء : عاشر أهلك بأحسن أخلاقك فإن الثواء فيهم قليل . # وقال بعض الشعراء : إذا لم تتسع أخلاق قوم تضيق بهم فسيحات البلاد إذا ما ~~المرء لم يخلق لبيبا فليس اللب عن قدم الولاد فإذا حسنت أخلاق الإنسان كثر ~~مصافوه ، وقل معادوه ، فتسهلت عليه الأمور الصعاب ، ولانت له القلوب الغضاب ~~. # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { حسن الخلق وحسن الجوار ~~يعمران الديار ويزيدان في الأعمار } . # وقال بعض الحكماء : من سعة الأخلاق كنوز الأرزاق . # وسبب ذلك ما ذكرنا من كثرة الأصفياء المسعدين ، وقلة الأعداء المجحفين . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { أحبكم إلي أحسنكم أخلاقا ، ~~الموطئون أكنافا ، الذين يألفون ويؤلفون } . # وحسن الخلق أن يكون سهل العريكة ، لين الجانب ، طليق الوجه ، قليل النفور ~~، طيب الكلمة . # وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأوصاف فقال : { أهل الجنة كل ~~PageV01P299 هين لين سهل طلق } . # ولما ذكرنا من هذه الأوصاف حدودا مقدرة ومواضع مستحقة ، ما قال الشاعر : ~~أصفو وأكدر أحيانا لمختبري وليس مستحسنا صفو بلا كدر وليس يريد بالكدر الذي ~~هو البذاء وشراسة الخلق ، فإن ذلك ذم لا يستحسن وعيب لا يرتضي . # وإنما يريد الكف والانقباض في موضع يلام فيه المساعد ويذم فيه الموافق ، ~~فإذا كانت لمحاسن الأخلاق حدود مقدرة ومواضع مستحقة فإن تجاوز بها الحد ~~صارت ملقا وإن عدل بها عن مواضعها صارت نفاقا . # والملق ذل ، والنفاق لؤم ، وليس لمن وسم بهما ود مبرور ولا أثر مشكور . # وقد روى حكيم عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه ~~وسلم : { شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه } . # وروى مكحول عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا ~~ينبغي ms194 لذي الوجهين أن يكون وجيها عند الله تعالى } . # وقال سعيد بن عروة : لأن يكون لي نصف وجه ونصف لسان على ما فيهما من قبح ~~المنظر وعجز المخبر أحب إلي من أن أكون ذا وجهين وذا لسانين وذا قولين ~~مختلفين . # وقال الشاعر : خل النفاق لأهله وعليك فالتمس الطريقا وارغب بنفسك أن ترى ~~إلا عدوا أو صديقا وقال إبراهيم بن محمد : وكم من صديق وده بلسانه خئون ~~بظهر الغيب لا يتذمم يضاحكني عجبا إذا ما لقيته ويصدفني منه إذا غبت أسهم ~~كذلك ذو الوجهين يرضيك شاهدا وفي غيبه إن غاب صاب وعلقم وربما تغير حسن ~~الخلق والوطاء إلى الشراسة والبذاء لأسباب عارضة ، وأمور PageV01P300 طارئة ~~، تجعل اللين خشونة والوطاء غلظة والطلاقة عبوسا . # فمن أسباب ذلك الولاية التي تحدث في الأخلاق تغيرا ، وعلى الخلطاء تنكرا ~~، إما من لؤم طبع ، وإما من ضيق صدر . # وقد قيل : من تاه في ولايته ذل في عزله . # وقيل : ذل العزل يضحك من تيه الولاية . # ومنها : العزل فقد يسوء به الخلق ويضيق به الصدر إما لشدة أسف أو لقلة ~~صبر . # حكى حميد الطويل أن عمار بن ياسر عزل عن ولاية فاشتد ذلك عليه ، وقال : ~~إني وجدتها حلوة الرضاع مرة الفطام . # ومنها : الغنى فقد تتغير به أخلاق اللئيم بطرا ، وتسوء طرائقه أشرا . # وقد قيل : من نال استطال . # وأنشد الرياشي : غضبان يعلم أن المال ساق له ما لم يسقه له دين ولا خلق ~~فمن يكن عن كرام الناس يسألني فأكرم الناس من كانت له ورق وقال بعض الشعراء ~~: فإن تكن الدنيا أنالتك ثروة فأصبحت ذا يسر وقد كنت ذا عسر لقد كشف ~~الإثراء منك خلائقا من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر وبحسب ما أفسده الغنى ~~كذلك يصلحه الفقر . # وكتب قتيبة بن مسلم إلى الحجاج أن أهل الشام قد التاثوا عليه فكتب إليه ~~أن اقطع عنهم الأرزاق ، ففعل فساءت حالهم فاجتمعوا إليه فقالوا : أقلنا . # فكتب إلى الحجاج فيهم فكتب إليه : إن كنت آنست منهم رشدا فأجر عليهم ما ~~كنت تجري . # واعلم أن ms195 الفقر جند الله الأكبر يذل به كل جبار عنيد يتكبر . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { لولا أن الله تعالى أذل ~~ابن آدم بثلاث ما طأطأ رأسه لشيء : الفقر ، والمرض ، والموت } . ~~PageV01P301 ومنها : الفقر فقد يتغير به الخلق إما أنفة من ذل الاستكانة أو ~~أسفا على فائت الغنى . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { كاد الفقر أن يكون كفرا ، وكاد ~~الحسد أن يغلب القدر } . # وقال أبو تمام الطائي : وأعجب حالات ابن آدم خلقه يضل إذا فكرت في كنهه ~~الفكر فيفرح بالشيء القليل بقاؤه ويجزع مما صار وهو له ذخر وربما تسلى من ~~هذه الحالة بالأماني ، وإن قل صدقها . # فقد قيل : قلما تصدق الأمنية ولكن قد يعتاض بها سلوة من هم أو مسرة برجاء ~~. # وقد قال أبو العتاهية : حرك مناك إذا اغتممت فإنهن مراوح وقال آخر : إذا ~~تمنيت بت الليل مغتبطا إن المنى رأس أموال المفاليس ومنها الهموم التي تذهل ~~اللب ، وتشغل القلب ، فلا تتبع الاحتمال ولا تقوى على صبر . # وقد قيل : الهم كالسم . # وقال بعض الأدباء : الحزن كالداء المخزون في فؤاد المحزون . # وقال بعض الشعراء : همومك بالعيش مقرونة فما تقطع العيش إلا بهم إذا تم ~~أمر بدا نقصه ترقب زوالا إذا قيل تم إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي ~~تزيل النعم وحام عليها بشكر الإله فإن الإله سريع النقم حلاوة دنياك مسمومة ~~فما تأكل الشهد إلا بسم فكم قدر دب في مهلة فلم يعلم الناس حتى هجم ومنها ~~الأمراض التي يتغير بها الطبع ما يتغير بها الجسم ، فلا تبقى الأخلاق على ~~اعتدال ولا يقدر معها على احتمال . # وقد قال المتنبي : آلة العيش صحة وشباب فإذا وليا عن المرء ولى وإذا ~~الشيخ قال أف فما مل حياة وإنما الضعف ملا وإذا لم تجد PageV01P302 من ~~الناس كفئا ذات خدر أرادت الموت بعلا أبدا تسترد ما تهب الدنيا فيا ليت ~~جودها كان بخلا ومنها علو السن وحدوث الهرم لتأثيره في آلة الجسد كذلك يكون ~~تأثيره في أخلاق النفس ms196 ، فكما يضعف الجسد عن احتمال ما كان يطيقه من أثقال ~~فكذلك تعجز النفس عن أثقال ما كانت تصبر عليه من مخالفة الوفاق ، ومضيق ~~الشقاق . # وكذلك ما ضاهاه . # وقال منصور النمري : ما كنت أوفي شبابي كنه عزته حتى مضى فإذا الدنيا له ~~تبع أصبحت لم تطعمي ثكل الشباب ولم تشجي لغصته فالعذر لا يقع ما كان أقصر ~~أيام الشباب وما أبقى حلاوة ذكراه التي تدع ما واجه الشيب من عين وإن رمقت ~~إلا لها نبوة عنه ومرتدع قد كدت تقضي على فوت الشباب أسى لولا يعزيك أن ~~العمر منقطع فهذه سبعة أسباب أحدثت سوء خلق كان عاما . # وها هنا سبب خاص يحدث سوء خلق خاص وهو البغض الذي تنفر منه النفس فتحدث ~~نفورا على المبغض ، فيؤول إلى سوء خلق يخصه دون غيره . # فإذا كان سوء الخلق حادثا بسبب كان زواله مقرونا بزوال ذلك السبب ، ثم ~~بالضد . PageV01P303 الحياء الفصل الثالث في الحياء : اعلم أن الخير والشر ~~معان كامنة تعرف بسمات دالة كما قالت العرب في أمثالها : تخبر عن مجهوله ~~مرآته وكما قال سلم بن عمرو الشاعر ، لا تسأل المرء عن خلائقه في وجهه شاهد ~~من الخبر فسمة الخير الدعة والحياء ، وسمة الشر القحة والبذاء . # وكفى بالحياء خيرا أن يكون على الخير دليلا ، وكفى بالقحة والبذاء شرا أن ~~يكونا إلى الشر سبيلا . # وقد روى حسان بن عطية عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه ~~وسلم : { الحياء والعي شعبتان من الإيمان ، والبذاء والبيان شعبتان من ~~النفاق } . # ويشبه أن يكون العي في معنى الصمت ، والبيان في معنى التشادق ، كما جاء ~~في الحديث الآخر : { إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون المتشدقون } . # وروى أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه ~~وسلم قال : { الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة ، والبذاء من الجفاء ~~والجفاء في النار } . # وقال بعض الحكماء : من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه . # وقال بعض البلغاء : حياة الوجه بحيائه ، كما أن حياة الغرس بمائه . # وقال بعض ms197 البلغاء العلماء : يا عجبا كيف لا تستحيي من كثرة ما لا تستحيي ~~وتبقى من طول ما لا تبقى . # وقال بعض الشعراء ، وهو صالح بن عبد القدوس : إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ~~ولا خير في وجه إذا قل ماؤه حياؤك فاحفظه عليك وإنما يدل على فعل الكريم ~~حياؤه وليس لمن سلب الحياء صاد عن قبيح ولا زاجر عن محظور ، فهو يقدم على ~~ما يشاء ويأتي ما PageV01P304 يهوى ، وبذلك جاء الخبر . # روى شعبة عن منصور بن ربعي عن أبي منصور البدري قال : قال رسول الله صلى ~~الله عليه وسلم : { إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : يا ابن آدم ~~إذا لم تستح فاصنع ما شئت } . # وليس هذا القول إغراء بفعل المعاصي عند قلة الحياء كما توهمه بعض من جهل ~~معاني الكلام ومواضعات الخطاب ، وفي مثل هذا الخبر قول الشاعر : إذا لم تخش ~~عاقبة الليالي ولم تستح فاصنع ما تشاء فلا والله ما في العيش خير ولا ~~الدنيا إذا ذهب الحياء يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي ~~اللحاء واختلف أهل العلم في معنى هذا الخبر ، فقال أبو بكر بن محمد الشاشي ~~في أصول الفقه : معنى هذا الحديث أن من لم يستح دعاه ترك الحياء إلى أن ~~يعمل ما يشاء لا يردعه عنه رادع . # فليستحي المرء فإن الحياء يردعه . # وسمعت من يحكي عن أبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة أن المعنى فيه إذا ~~عرضت عليك أفعالك التي هممت بفعلها فلم تستح منها لحسنها وجمالها فاصنع ما ~~شئت منها . # فجعل الحياء حكما على أفعاله وكلا القولين حسن . # والأول أشبه ؛ لأن الكلام خرج من النبي صلى الله عليه وسلم مخرج الذم لا ~~مخرج المدح . # لكن قد جاء الحديث بما يضاهي القول الثاني وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ~~{ ما أحببت أن تسمعه أذناك فأته ، وما كرهت أن تسمعه أذناك فاجتنبه } . # ويجوز أن يحمل هذا الحديث على المعنى الصريح فيه ويكون التأويل الأول في ~~الحديث المتقدم أصح إذ ليس يلزم أن ms198 تكون أحاديث رسول الله PageV01P305 صلى ~~الله عليه وسلم كلها متفقة المعاني بل اختلاف معانيها أدخل في الحكمة وأبلغ ~~في الفصاحة إذا لم يضاد بعضها بعضا . # واعلم أن الحياء في الإنسان قد يكون من ثلاثة أوجه : أحدها : حياؤه من ~~الله تعالى . # والثاني : حياؤه من الناس . # والثالث : حياؤه من نفسه . # فأما حياؤه من الله تعالى فيكون بامتثال أوامره والكف عن زواجره . # وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { استحيوا من الله عز ~~وجل حق الحياء . # فقيل : يا رسول الله فكيف نستحي من الله عز وجل حق الحياء ؟ قال : من حفظ ~~الرأس وما حوى ، والبطن وما وعى ، وترك زينة الدنيا ، وذكر الموت والبلى ، ~~فقد استحى من الله عز وجل حق الحياء } . # وهذا الحديث من أبلغ الوصايا . # وقال أبو الحسن الماوردي ، مصنف الكتاب : رأيت رسول الله صلى الله عليه ~~وسلم في المنام ذات ليلة فقلت : يا رسول الله أوصني : فقال : استح من الله ~~عز وجل حق الحياء . # ثم قال : تغير الناس . # قلت : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : كنت أنظر إلى الصبي فأرى من وجهه ~~البشر والحياء ، وأنا أنظر إليه اليوم فلا أرى ذلك في وجهه . # ثم تكلم بعد ذلك بوصايا وعظات تصورتها ، وأذهلني السرور عن حفظها ووددت ~~أني لو حفظتها . # فلم يبدأ بشيء صلى الله عليه وسلم قبل الوصية بالحياء من الله عز وجل ، ~~وجعل ما سلبه الصبي من البشر والحياء سببا لتغير الناس ، وخص الصبي ؛ لأن ~~ما يأتيه بالطبع من غير تكلف . # فصلى الله وسلم على من هدى أمته ، وتابع إنذارها ، PageV01P306 وقطع ~~أعذارها ، وأوصل تأديبها ، وحفظ تهذيبها ، وجعل لكل عصر حظا من زواجره ، ~~ونصيبا من أوامره . # أعاننا الله على قبولها بالعمل ، وعلى استدامتها بالتوفيق . # وقد روي أن علقمة بن علاثة قال : يا رسول الله عظني . # فقال النبي صلى الله عليه وسلم { استح من الله تعالى استحياءك من ذوي ~~الهيبة من قومك } . # وهذا الحياء يكون من قوة الدين وصحة اليقين . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { قلة الحياء كفر ms199 } . # يعني من الله ؛ لما فيه من مخالفة أوامره . # وقال صلى الله عليه وسلم : { الحياء نظام الإيمان فإذا انحل نظام الشيء ~~تبدد ما فيه وتفرق } . # وأما حياؤه من الناس فيكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من اتقى الله اتقى ~~الناس } . # وروي أن حذيفة بن اليمان أتى الجمعة فوجد الناس قد انصرفوا فتنكب الطريق ~~عن الناس ، وقال : لا خير فيمن لا يستحي من الناس . # وقال بشار بن برد : ولقد أصرف الفؤاد عن الشيء حياء وحبه في السواد أمسك ~~النفس بالعفاف وأمسي ذاكرا في غد حديث الأعادي وهذا النوع من الحياء قد ~~يكون من كمال المروءة وحب الثناء . # ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : { من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له } . # يعني - والله أعلم - لقلة مروءته ، وظهور شهوته . # وروى الحسن عن أبي هريرة قال : قال صلى الله عليه وسلم : { إن مروءة ~~الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه ومجلسه وإلفه وجليسه } . # وقال بعض الشعراء : ورب قبيحة ما حال بيني PageV01P307 وبين ركوبها إلا ~~الحياء إذا رزق الفتى وجها وقاحا تقلب في الأمور كما يشاء وقال آخر : إذا ~~لم تصن عرضا ولم تخش خالقا وتستحي مخلوقا فما شئت فاصنع وأما حياؤه من نفسه ~~فيكون بالعفة وصيانة الخلوات . # وقال بعض الحكماء : ليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من غيرك . # وقال بعض الأدباء : من عمل في السر عملا يستحي منه في العلانية فليس ~~لنفسه عنده قدر . # ودعا قوم رجلا كان يألف عشرتهم ، فلم يجبهم ، وقال : إني دخلت البارحة في ~~الأربعين وأنا أستحي من سني . # وقال بعض الشعراء : فسري كإعلاني وتلك خليقتي وظلمة ليلي مثل ضوء نهاري ~~وهذا النوع من الحياء قد يكون من فضيلة النفس وحسن السريرة . # فمتى كمل حياء الإنسان من وجوهه الثلاثة ، فقد كملت فيه أسباب الخير ، ~~وانتفت عنه أسباب الشر ، وصار بالفضل مشهورا ، وبالجميل مذكورا . # وقال بعض الشعراء : وإني ليثنيني عن الجهل والخنى وعن شتم ذي القربى ~~خلائق أربع حياء وإسلام وتقوى وطاعة لربي ومثلي من ms200 يضر وينفع وإن أخل بأحد ~~وجوه الحياء لحقه من النقص بإخلاله بقدر ما كان يلحقه من الفضل بكماله . # وقد قال الرياشي : يقال أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يتمثل بهذا ~~الشعر : وحاجة دون أخرى قد سخت لها جعلتها للتي أخفيت عنوانا إني كأني أرى ~~من لا حياء له ولا أمانة وسط القوم عريانا PageV01P308 الحلم والغضب الفصل ~~الرابع في الحلم والغضب : روى محمد بن حارث الهلالي { أن جبريل نزل على ~~النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إني أتيتك بمكارم الأخلاق في ~~الدنيا والآخرة : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } . # وروى سفيان بن عيينة أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية قال ~~: يا جبريل ما هذا قال : لا أدري حتى أسأل العالم . # ثم عاد جبريل ، وقال : يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من ~~حرمك ، وتعفو عمن ظلمك } . # وروى هشام عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أيعجز أحدكم أن ~~يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من منزله قال : اللهم إني تصدقت بعرضي على ~~عبادك } . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله يحب الحليم الحيي ~~، ويبغض الفاحش البذيء } . # وقال عليه الصلاة والسلام : { من حلم ساد ، ومن تفهم ازداد } . # وقال بعض الأدباء : من غرس شجرة الحلم اجتنى ثمرة السلم . # وقال بعض البلغاء : ما ذب عن الأعراض كالصفح والإعراض . # وقال بعض الشعراء : أحب مكارم الأخلاق جهدي وأكره أن أعيب وأن أعابا ~~وأصفح عن سباب الناس حلما وشر الناس من يهوى السبابا ومن هاب الرجال تهيبوه ~~ومن حقر الرجال فلن يهابا فالحلم من أشرف الأخلاق وأحقها بذوي الألباب ؛ ~~لما فيه من سلامة العرض وراحة الجسد واجتلاب الحمد . # وقد قال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - : أول عوض الحليم عن حلمه أن ~~الناس أنصاره . # وحد الحلم ضبط النفس عن PageV01P309 هيجان الغضب . # وهذا يكون عن باعث وسبب . # وأسباب الحلم الباعثة على ضبط النفس عشرة : أحدها : الرحمة للجهال وذلك ~~من ms201 خير يوافق رقة . # وقد قيل في منثور الحكم : من أوكد الحلم رحمة الجهال . # وقال أبو الدرداء رضي الله عنه لرجل أسمعه كلاما : يا هذا لا تغرقن في ~~سبنا ، ودع للصلح موضعا ، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع ~~الله عز وجل فيه . # وشتم رجل الشعبي فقال : إن كنت ما قلت فغفر الله لي ، وإن لم أكن كما قلت ~~فغفر الله لك . # واغتاظت عائشة رضي الله عنها على خادم لها ثم رجعت إلى نفسها فقالت : لله ~~در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء . # وقسم معاوية رضي الله عنه قطافا فأعطى شيخا من أهل دمشق قطيفة فلم تعجبه ~~، فحلف أن يضرب بها رأس معاوية . # فأتاه فأخبره فقال له معاوية : أوف بنذرك وليرفق الشيخ بالشيخ . # والثاني : من أسبابه القدرة على الانتصار وذلك من سعة الصدر وحسن الثقة . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا قدرت على عدوك ~~فاجعل العفو شكرا للقدرة عليه } . # وقال بعض الحكماء : ليس من الكرم عقوبة من لا يجد امتناعا من السطوة . # وقال بعض البلغاء : أحسن المكارم عفو المقتدر ، وجود المفتقر . # والثالث : من أسبابه : الترفع عن السباب وذلك من شرف النفس وعلو الهمة . # كما قالت الحكماء : شرف النفس أن تحمل المكاره كما تحمل المكارم . # وقد قيل : إن الله تعالى سمى يحيى عليه السلام سيدا لحلمه . # وقد قال الشاعر : لا يبلغ المجد أقوام PageV01P310 وإن كرموا حتى يذلوا ~~وإن عزوا لأقوام ويشتموا فتى الألوان مسفرة لا صفح ذل ولكن صفح أحلام ~~والرابع من أسبابه : الاستهانة بالمسيء وذلك عن ضرب من الكبر والإعجاب ، ما ~~حكي عن مصعب بن الزبير أنه لما ولي العراق جلس يوما لعطاء الجند وأمر ~~مناديه فنادى أين عمرو بن جرموز ، وهو الذي قتل أباه الزبير ، فقيل له : ~~أيها الأمير إنه قد تباعد في الأرض . # فقال : أويظن الجاهل أني أقيده بأبي عبد الله ؟ فليظهر آمنا ليأخذ عطاءه ~~موفرا . # فعد الناس ذلك من مستحسن الكبر . # ومثل ذلك قول بعض الزعماء في شعره : أوكلما ms202 طن الذباب طردته إن الذباب ~~إذا علي كريم وأكثر رجل من سب الأحنف وهو لا يجيبه فقال : والله ما منعه من ~~جوابي إلا هواني عليه . # وفي مثله يقول الشاعر : نجا بك لؤمك منجى الذباب حمته مقاذيره أن ينالا ~~وأسمع رجل ابن هبيرة فأعرض عنه فقال له الرجل : إياك أعنى . # فقال له : وعنك أعرض . # وفي مثله يقول الشاعر : فاذهب فأنت طليق عرضك إنه عرض عززت به وأنت ذليل ~~وقال عمرو بن علي : إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت سكت عن ~~السفيه فظن أني عييت عن الجواب وما عييت والخامس من أسبابه : الاستحياء من ~~جزاء الجواب . # وهذا يكون من صيانة النفس وكمال المروءة . # وقد قال بعض الحكماء : احتمال السفيه خير من التحلي بصورته ، والإغضاء عن ~~الجاهل خير من مشاكلته . # وقال بعض الأدباء : ما أفحش حليم ولا أوحش كريم . # وقال لقيط بن زرارة : وقل لبني سعد فما لي وما لكم PageV01P311 ترقون مني ~~ما استطعتم وأعتق أغركم أني بأحسن شيمة بصير وأني بالفواحش أخرق وإن تك قد ~~فاحشتني فقهرتني هنيئا مريئا أنت بالفحش أحذق . # والسادس من أسبابه : التفضل على السباب . # فهذا يكون من الكرم وحب التألف ، كما قيل للإسكندر : إن فلانا وفلانا ~~ينقصانك ويثلبانك فلو عاقبتهما . # فقال : هما بعد العقوبة أعذر في تنقصي وثلبي . # فكان هذا تفضلا منه وتألفا . # وقد حكي عن الأحنف بن قيس أنه قال : ما عاداني أحد قط إلا أخذت في أمره ~~بإحدى ثلاث خصال : إن كان أعلى مني عرفت له قدره ، وإن كان دوني رفعت قدري ~~عنه ، وإن كان نظيري تفضلت عليه . # فأخذه الخليل ، فنظمه شعرا فقال : سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب وإن كثرت ~~منه إلي الجرائم فما الناس إلا واحد من ثلاثة شريف ومشروف ومثل مقاوم فأما ~~الذي فوقي فأعرف قدره وأتبع فيه الحق والحق لازم وأما الذي دوني فأحلم ~~دائبا أصون به عرضي وإن لام لائم وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا تفضلت إن ~~الفضل بالفخر حاكم . # والسابع من أسبابه : استنكاف السباب وقطع ms203 السباب . # وهذا يكون من الحزم ، كما حكي أن رجلا قال لضرار بن القعقاع : والله لو ~~قلت واحدة لسمعت عشرا . # فقال له ضرار : والله لو قلت عشرا لم تسمع واحدة . # وحكي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال لعامر بن مرة الزهري : من ~~أحمق الناس ؟ قال : من ظن أنه أعقل الناس . # قال : صدقت ، فمن أعقل الناس ؟ قال من لم يتجاوز الصمت في عقوبة الجهال . # وقال الشعبي : ما أدركت أمي PageV01P312 فأبرها ، ولكن لا أسب أحدا ~~فيسبها . # وقال بعض الحكماء : في إعراضك صون أعراضك . # وقال بعض الشعراء : وفي الحلم ردع للسفيه عن الأذى وفي الخرق إغراء فلا ~~تك أخرقا فتندم إذ لا تنفعنك ندامة كما ندم المغبون لما تفرقا وقال آخر : ~~قل ما بدا لك من زور ومن كذب حلمي أصم وأذني غير صماء . # والثامن من أسبابه : الخوف من العقوبة على الجواب . # وهذا يكون من ضعف النفس وربما أوجبه الرأي واقتضاه الحزم . # وقد قيل في منثور الحكم : الحلم حجاب الآفات . # وقال الشاعر : ارفق إذا خفت من ذي هفوة خرقا ليس الحليم كمن في أمره خرق ~~. # والتاسع من أسبابه : الرعاية ليد سالفة ، وحرمة لازمة . # وهذا يكون من الوفاء وحسن العهد ، وقد قيل في منثور الحكم : أكرم الشيم ~~أرعاها للذمم . # وقال الشاعر : إن الوفاء على الكريم فريضة واللؤم مقرون بذي الإخلاف وترى ~~الكريم لمن يعاشر منصفا وترى اللئيم مجانب الإنصاف . # والعاشر من أسبابه : المكر وتوقع الفرص الخلفية . # وهذا يكون من الدهاء . # وقد قيل في منثور الحكم : من ظهر غضبه قل كيده . # وقال بعض الأدباء : غضب الجاهل في قوله ، وغضب العاقل في فعله . # وقال بعض الحكماء : إذا سكت عن الجاهل فقد أوسعته جوابا وأوجعته عقابا . # وقال إياس بن قتادة : تعاقب أيدينا ويحلم رأينا ونشتم بالأفعال لا ~~بالتكلم وقال بعض الشعراء : وللكف عن شتم اللئيم تكرما أضر له من شتمه حين ~~يشتم . # فهذه عشرة أسباب تدعو إلى الحلم . # وبعض الأسباب أفضل من بعض . # وليس إذا كان بعض أسبابه PageV01P313 مفضولا ما يقتضي أن تكون نتيجته من ms204 ~~الحلم مذمومة . # وأما الأولى بالإنسان أن يدعوه للحلم أفضل أسبابه ، وإن كان الحلم كله ~~فضلا . # وإن عري عن أحد هذه الأسباب كان ذلا ولم يكن حلما ، لأننا قد ذكرنا في حد ~~الحلم أنه ضبط النفس عن هيجان الغضب ، فإذا فقد الغضب لسماع ما يغضب كان ~~ذلك من ذل النفس وقلة الحمية . # وقد قال الحكماء : ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن : لا يعرف الجواد ~~إلا في العسرة ، والشجاع إلا في الحرب ، والحليم إلا في الغضب . # وقال الشاعر : ليست الأحلام في حال الرضى إنما الأحلام في حال الغضب وقال ~~آخر : من يدعي الحلم أغضبه لتعرفه لا يعرف الحلم إلا ساعة الغضب وأنشد ~~النابغة الجعدي بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولا خير في حلم إذا ~~لم يكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له حليم إذا ~~ما أورد الأمر أصدرا فلم ينكر صلى الله عليه وسلم قوله عليه . # ومن فقد الغضب في الأشياء المغضبة حتى استوت حالتاه قبل الإغضاب وبعده ، ~~فقد عدم من فضائل النفس الشجاعة ، والأنفة ، والحمية ، والغيرة ، والدفاع ، ~~والأخذ بالثأر ؛ لأنها خصال مركبة من الغضب . # فإذا عدمها الإنسان هان بها ولم يكن لباقي فضائله في النفوس موضع ، ولا ~~لوفور حلمه في القلوب موقع . # وقد قال المنصور : إذا كان الحلم مفسدة كان العفو معجزة . # وقال بعض الحكماء : العفو يفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم . # وقال عمرو بن العاص : أكرموا سفهاءكم فإنهم يقونكم PageV01P314 العار ~~والشنار . # وقال مصعب بن الزبير : ما قل سفهاء قوم إلا ذلوا . # وقال أبو تمام الطائي : والحرب تركب رأسها في مشهد عدل السفيه به بألف ~~حليم وليس هذا القول إغراء بتحكم الغضب والانقياد إليه عند حدوث ما يغضب ، ~~فيكسب بالانقياد للغضب من الرذائل أكثر مما يسلبه عدم الغضب من الفضائل . # ولكن إذا ثار به الغضب عند هجوم ما يغضبه كف سورته بحزمه ، وأطفأ ثائرته ~~بحلمه ، ووكل من استحق المقابلة إلى غيره . # ولم يعدم مسيئا مكافيا كما لم يعدم محسنا ms205 مجازيا . # والعرب تقول : دخل بيتا ما أخرج منه . # أي إن أخرج منه خير دخله خير ، وإن أخرج منه شر دخله شر . # وأنشد ابن دريد عن أبي حاتم : إذا أمن الجهال جهلك مرة فعرضك للجهال غنم ~~من الغنم فعم عليه الحلم والجهل والقه بمنزلة بين العداوة والسلم إذا أنت ~~جازيت السفيه كما جزى فأنت سفيه مثله غير ذي حلم ولا تغضبن عرض السفيه ~~وداره بحلم فإن أعيا عليكم فبالصرم فيرجوك تارات ويخشاك تارة ويأخذ فيما ~~بين ذلك بالحزم فإن لم تجد بدا من الجهل فاستعن عليه بجهال فذاك من العزم ~~وهذه من أحكم أبيات وجدتها في تدبير الحلم والغضب . # وهذا التدبير إنما يستعمل فيما لا يجد الإنسان بدا من مقارنته ، ولا سبيل ~~إلى إطراحه ومتاركته ، إما لخوف شره أو للزوم أمره . # فأما من أمكن إطراحه ولم يضر إبعاده ، فالهوان به أولى والإعراض عنه أصوب ~~. # فإذا كان على ما وصفت استفاد بتحريك الغضب فضائله وأمن بكف نفسه عن ~~الانقياد له PageV01P315 رذائله ، وصار الحلم مدبرا للأمور المغضبة بقدر لا ~~يعتريه نقص بعدم الغضب ، ولا يلحقه زيادة بفقد الحلم . # ولو عزب عنه الحلم حتى انقاد لغضبه ضل عنه وجه الصواب فيه ، وضعف رأيه عن ~~خيرة أسبابه ودواعيه ، حتى يصير بليد الرأي ، مغمور الروية ، مقطوع الحجة ، ~~مسلوب العزاء ، قليل الحيلة ، مع ما يناله من أثر ذلك في نفسه وجسده حتى ~~يصير أضر عليه مما غضب له . # وقد قال بعض الحكماء : من كثر شططه كثر غلطه . # وروي أن سلمان قال لعلي رضي الله عنه : ما الذي يباعدني عن غضب الله عز ~~وجل ؟ قال : لا تغضب . # وقال بعض السلف : أقرب ما يكون العبد من غضب الله عز وجل ، إذا غضب . # وقال بعض البلغاء : من رد غضبه هد من أغضبه . # وقال بعض الأدباء : ما هيج جأشك كغيظ أجاشك . # وقال رجل لبعض الحكماء عظني . # قال : لا تغضب . # فينبغي لذي اللب السوي والحزم القوي أن يتلقى قوة الغضب بحلمه فيصدها ، ~~ويقابل دواعي شرته بحزمه فيردها ، ليحظى بأجل الخبرة ويسعد بحميد ms206 العاقبة . # وقال بعض الأدباء : في إغضابك راحة أعصابك . # وسبب الغضب هجوم ما تكرهه النفس ممن دونها ، وسبب الحزن هجوم ما تكرهه ~~النفس ممن فوقها . # والغضب يتحرك من داخل الجسد إلى خارجه ، والحزن يتحرك من خارج الجسد إلى ~~داخله . # فلذلك قتل الحزن ولم يقتل الغضب لبروز الغضب وكمون الحزن . # وصار الحادث عن الغضب السطوة والانتقام لبروزه ، والحادث عن الحزن المرض ~~والأسقام لكمونه . # ولذلك أفضى الحزن إلى الموت ولم يفض PageV01P316 إليه الغضب . # فهذا فرق ما بين الحزن والغضب . PageV01P317 واعلم أن لتسكين الغضب إذا ~~هجم أسبابا يستعان بها على الحلم منها : أن يذكر الله عز وجل فيدعوه ذلك ~~إلى الخوف منه ، ويبعثه الخوف منه على الطاعة له ، فيرجع إلى أدبه ويأخذ ~~بندبه . # فعند ذلك يزول الغضب . # قال الله تعالى : { واذكر ربك إذا نسيت } قال عكرمة : يعني إذا غضبت . # وقال الله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله } ومعنى ~~قوله ينزغنك أي يغضبنك ، فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم يعني أنه سميع ~~بجهل من جهل ، عليم بما يذهب عنك الغضب . # وذكر أن في التوراة مكتوبا يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب ، ~~فلا أمحقك فيمن أمحق . # وحكي أن بعض ملوك الفرس كتب كتابا ودفعه إلى وزير له وقال : إذا غضبت ~~فناولنيه . # وكان فيه : ما لك والغضب إنما أنت بشر ، ارحم من في الأرض يرحمك من في ~~السماء . # وقال بعض الحكماء : من ذكر قدرة الله لم يستعمل قدرته في ظلم عباد الله . # وقال عبد الله بن مسلم بن محارب لهارون الرشيد : يا أمير المؤمنين أسألك ~~بالذي أنت بين يديه أذل مني بين يديك ، وبالذي هو أقدر على عقابك منك على ~~عقابي لما عفوت عني . # فعفا عنه لما ذكره قدرة الله تعالى . # وروي أن { رجلا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القسوة فقال : اطلع ~~في القبور واعتبر بالنشور } . # وكان بعض ملوك الطوائف إذا غضب ألقي عنده مفاتيح ترب الملوك فيزول غضبه ، ~~ولذلك قال عمر رضي الله عنه : من أكثر من ذكر ms207 الموت رضي من الدنيا باليسير ~~. # ومنها : أن ينتقل عن PageV01P318 الحالة التي هو فيها إلى حالة غيرها ، ~~فيزول عنه الغضب بتغير الأحوال والتنقل من حال إلى حال . # وكان هذا مذهب المأمون إذا غضب أو شتم . # وكانت الفرس تقول : إذا غضب القائم فليجلس وإذا غضب الجالس فليقم . # ومنها : أن يتذكر ما يئول إليه الغضب من الندم ومذمة الانتقام . # وكتب إبرويز إلى ابنه شيرويه : إن كلمة منك تسفك دما وأخرى منك تحقن دما ~~، وإن نفاذ أمرك مع كلامك ، فاحترس ، في غضبك ، من قولك أن تخطئ ، ومن لونك ~~أن يتغير ، ومن جسدك أن يخف ، فإن الملوك تعاقب قدرة ، وتعفو حلما . # وقال بعض الحكماء : الغضب على من لا تملك عجز ، وعلى من تملك لؤم . # وقال بعض الأدباء : إياك وعزة الغضب فإنها تفضي إلى ذل العذر . # وقال بعض الشعراء : وإذا ما اعترتك في الغضب العزة فاذكر تذلل الاعتذار ~~ومنها : أن يذكر ثواب العفو ، وجزاء الصفح ، فيقهر نفسه على الغضب رغبة في ~~الجزاء والثواب ، وحذرا من استحقاق الذم والعقاب . # روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { ينادي مناد يوم القيامة : من ~~له أجر على الله عز وجل فليقم . # فيقوم العافون عن الناس . # ثم تلا : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } } . # وقال رجاء بن حيوة لعبد الملك بن مروان ، في أسارى ابن الأشعث : إن الله ~~قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعط الله ما يحب من العفو . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الخير ثلاث خصال فمن كن ~~فيه فقد استكمل الإيمان : من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل ، وإذا غضب لم ~~يخرجه غضبه PageV01P319 من حق ، وإذا قدر عفا } . # وأسمع رجل عمر بن عبد العزيز كلاما فقال عمر : أردت أن يستفزني الشيطان ~~لعزة السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا انصرف رحمك الله . # ومنها : أن يذكر انعطاف القلوب عليه ، وميل النفوس إليه ، فلا يرى إضاعة ~~ذلك بتغير الناس عنه فيرغب في التألف وجميل الثناء . # وروى ابن أبي ليلى ، عن عطية ms208 ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى ~~الله عليه وسلم : { ما ازداد أحد بعفو إلا عزا ، فاعفوا يعزكم الله } . # وقال بعض البلغاء : ليس من عادة الكرام سرعة الانتقام ، ولا من شروط ~~الكرم إزالة النعم . # وقال المأمون لإبراهيم بن المهدي : إني شاورت في أمرك فأشاروا علي بقتلك ~~إلا أني وجدت قدرك فوق ذنبك فكرهت القتل للازم حرمتك . # فقال : يا أمير المؤمنين إن المشير أشار بما جرت به العادة في السياسة ، ~~إلا أنك أبيت أن تطلب النصر إلا من حيث عودته من العفو فإن عاقبت فلك نظير ~~، وإن عفوت فلا نظير لك . # وأنشأ يقول : البر بي منك وطا العذر عندك لي فيما فعلت فلم تعذل ولم تلم ~~وقام علمك بي فاحتج عندك لي مقام شاهد عدل غير متهم لئن جحدتك معروفا مننت ~~به إني لفي اللؤم أحظى منك بالكرم تعفو بعدل وتسطو إن سطوت به فلا عدمناك ~~من عاف ومنتقم PageV01P320 الصدق والكذب . # الفصل الخامس في الصدق والكذب : قال الله تعالى وهو أصدق القائلين : { ثم ~~نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } . # وقال تعالى : { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله } وروي عن ~~النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للحسن بن علي رضي الله عنهما : { دع ما ~~يريبك إلى ما لا يريبك فإن الكذب ريبة والصدق طمأنينة } . # وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { رحم الله امرأ أصلح من لسانه ، ~~وأقصر من عنانه ، وألزم طريق الحق مقوله ، ولم يعود الخطل مفصله } . # وروى صفوان بن سليم قال : { قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : أيكون المؤمن ~~جبانا ؟ قال : نعم . # قيل : أفيكون بخيلا ؟ قال : نعم . # قيل : أفيكون كذابا ؟ قال : لا } . # وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { ولا تلبسوا الحق بالباطل ~~} أي لا تخلطوا الصدق بالكذب . # وقيل في منثور الحكم : الكذاب لص ؛ لأن اللص يسرق مالك ، والكذاب يسرق ~~عقلك . # وقال بعض الحكماء : الخرس خير من الكذب وصدق اللسان أول السعادة . # وقال بعض البلغاء : الصادق مصان خليل ، والكاذب مهان ذليل . # وقال بعض ms209 الأدباء : لا سيف كالحق ، ولا عون كالصدق . # وقال بعض الشعراء : وما شيء إذا فكرت فيه بأذهب للمروءة والجمال من الكذب ~~الذي لا خير فيه وأبعد بالبهاء من الرجال والكذب جماع كل شر ، وأصل كل ذم ~~لسوء عواقبه ، وخبث نتائجه ؛ لأنه ينتج النميمة ، والنميمة تنتج البغضاء ، ~~والبغضاء تؤول إلى العداوة ، وليس مع العداوة أمن ولا راحة . PageV01P321 ~~ولذلك قيل : من قل صدقه قل صديقه . # والصدق والكذب يدخلان الأخبار الماضية ، كما أن الوفاء والخلف يدخلان ~~المواعيد المستقبلة . # فالصدق هو الإخبار عن الشيء على ما هو عليه ، والكذب هو الإخبار عن الشيء ~~بخلاف ما هو عليه . # ولكل واحد منها دواع . # فدواعي الصدق لازمة ، ودواعي الكذب عارضة ؛ لأن الصدق يدعو إليه عقل موجب ~~وشرع مؤكد ، فالكذب يمنع منه العقل ويصد عنه الشرع . # ولذلك جاز أن تستفيض الأخبار الصادقة حتى تصير متواترة ، ولم يجز أن ~~تستفيض الأخبار الكاذبة ؛ لأن اتفاق الناس في الصدق والكذب إنما هو لاتفاق ~~الدواعي ، فدواعي الصدق يجوز أن يتفق الجمع الكثير عليها ، حتى إذا تلقوا ~~خبرا ، وكانوا عددا ينتفي عن مثلهم المواطأة ، وقع في النفس صدقه ؛ لأن ~~الدواعي إليه نافعة ، واتفاق الناس في الدواعي النافعة ممكن . # ولا يجوز أن يتفق العدد الكثير ، الذي لا يمكن مواطأة مثلهم ، على نقل ~~خبر يكون كذبا ؛ لأن الدواعي إليه غير نافعة ، وربما كانت ضارة . # وليس في جاري العادة أن يتفق الجمع الكثير على دواع غير نافعة . # ولذلك جاز اتفاق الناس على الصدق ؛ لجواز اتفاق دواعيهم ، ولم يجز أن ~~يتفقوا على الكذب لامتناع اتفاق دواعيهم . # وإذا كان للصدق والكذب دواع فلا بد من ذكر ما سنح به الخاطر من دواعيهما ~~. # أما دواعي الصدق فمنها : العقل ؛ لأنه موجب لقبح الكذب ، لا سيما إذا لم ~~يجلب نفعا ولم يدفع ضررا . # والعقل يدعو إلى فعل ما كان مستحسنا ، ويمنع من إتيان ما كان PageV01P322 ~~مستقبحا . # وليس ما استحسن من مبالغات الشعراء ، حتى صار كذبا صراحا ، استحسانا ~~للكذب في العقل كالذي أنشدنيه الأزدي لبعض الشعراء : توهمه فكري فأصبح خده ~~وفيه مكان الوهم ms210 من فكرتي أثر وصافحه كفي فآلم كفه فمن لمس كفي في أنامله ~~عقر ومر بقلبي خاطرا فجرحته ولم أر شيئا قط يجرحه الفكر وكقول العباس بن ~~الأحنف وإن كان دون هذه المبالغة : تقول وقد كتبت دقيق خطي إليها : لم ~~تجنبت الجليلا فقلت لها : نحلت فصار خطي مساعدة لكاتبه نحيلا لأنه خرج مخرج ~~المبالغة في التشبيه والاقتدار على صنعة الشعر ، وأن شواهد الحال تخرجه عن ~~تلبيس الكذب ، وكذلك ما استحسن في الصنعة ولم يستقبح في العقل وإن كان ~~الكذب مستقبحا فيه . # ومنها : الدين الوارد باتباع الصدق وحظر الكذب ؛ لأن الشرع لا يجوز أن ~~يرد بإرخاص ما حظره العقل ، بل قد جاء الشرع زائدا على ما اقتضاه العقل من ~~حظر الكذب ؛ لأن الشرع ورد بحظر الكذب وإن جر نفعا أو دفع ضررا . # والعقل إنما حظر ما لا يجلب نفعا ولا يدفع ضررا . # ومنها : المروءة فإنها مانعة من الكذب باعثة على الصدق ؛ لأنها قد تمنع ~~من فعل ما كان مستكرها ، فأولى من فعل ما كان مستقبحا . # ومنها : حب الثناء والاشتهار بالصدق حتى لا يرد عليه قول ولا يلحقه ندم . # وقد قال بعض البلغاء : ليكن مرجعك إلى الحق ومنزعك إلى الصدق ، فالحق ~~أقوى معين ، والصدق أفضل قرين . # وقال بعض الشعراء : عود لسانك قول الصدق تحظ به إن اللسان لما عودت معتاد ~~موكل PageV01P323 بتقاضي ما سننت له في الخير والشر فانظر كيف ترتاد . ~~PageV01P324 وأما دواعي الكذب فمنها : اجتلاب النفع واستدفاع الضر ، فيرى ~~أن الكذب أسلم وأغنم فيرخص لنفسه فيه اغترارا بالخدع ، واستشفافا للطمع . # وربما كان الكذب أبعد لما يؤمل وأقرب لما يخاف ؛ لأن القبيح لا يكون حسنا ~~والشر لا يصير خيرا . # وليس يجنى من الشوك العنب ولا من الكرم الحنظل . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { تحروا الصدق وإن رأيتم ~~أن فيه الهلكة فإن فيه النجاة ، وتجنبوا الكذب وإن رأيتم أن فيه النجاة فإن ~~فيه الهلكة } . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لأن يضعني الصدق وقلما يفعل ، أحب إلي ~~من ms211 أن يرفعني الكذب وقلما يفعل . # وقال بعض الحكماء : الصدق منجيك وإن خفته ، والكذب مرديك وإن أمنته . # وقال الجاحظ : الصدق والوفاء توأمان ، والصبر والحلم توأمان فيهن تمام كل ~~دين ، وصلاح كل دنيا ، وأضدادهن سبب كل فرقة وأصل كل فساد . # ومنها : أن يؤثر أن يكون حديثه مستعذبا وكلامه مستظرفا ، فلا يجد صدقا ~~يعذب ولا حديثا يستظرف ، فيستحلي الكذب الذي ليست غرائبه معوزة ، ولا ~~ظرائفه معجزة . # وهذا النوع أسوأ حالا مما قبل ؛ لأنه يصدر عن مهانة النفس ودناءة الهمة . # وقد قال الجاحظ : لم يكذب أحد قط إلا لصغر قدر نفسه عنده . # وقال ابن المقفع : لا تتهاون بإرسال الكذبة من الهزل فإنها تسرع إلى ~~إبطال الحق . # ومنها : أن يقصد بالكذب التشفي من عدوه فيسمه بقبائح يخترعها عليه ، ~~ويصفه بفضائح ينسبها إليه . # ويرى أن معرة الكذب غنم PageV01P325 وأن إرسالها في العدو سهم وسم . # وهذا أسوأ حالا من النوعين الأولين ؛ لأنه قد جمع بين الكذب المعر والشر ~~المضر . # ولذلك ورد الشرع برد شهادة العدو على عدوه . # ومنها : أن تكون دواعي الكذب قد ترادفت عليه حتى ألفها ، فصار الكذب له ~~عادة ، ونفسه إليه منقادة ، حتى لو رام مجانبة الكذب عسر عليه ؛ لأن العادة ~~طبع ثان . # وقد قالت الحكماء : من استحلى رضاع الكذب عسر فطامه . # وقيل في منثور الحكم : لا يلزم الكذاب شيء إلا غلب عليه . # واعلم أن للكذاب قبل خبرته أمارات دالة عليه . # فمنها : أنك إذا لقنته الحديث تلقنه ولم يكن بين ما لقنته وبين ما أورده ~~فرق عنده . # ومنها : أنك إذا شككته فيه تشكك حتى يكاد يرجع فيه ، ولولاك ما تخالجه ~~الشك فيه . # ومنها : أنك إذا رددت عليه قوله حصر وارتبك ولم يكن عنده نصرة المحتجين ، ~~ولا برهان الصادقين . # ولذلك قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : الكذاب كالسراب . # ومنها : ما يظهر عليه من ريبة الكذابين وينم عليه من ذلة المتوهمين ؛ لأن ~~هذه أمور لا يمكن الإنسان دفعها عن نفسه ؛ لما في الطبع من آثارها . # ولذلك قالت الحكماء : العينان أنم من اللسان . # وقال بعض البلغاء ms212 : الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا . # وقال بعض الشعراء : تريك أعينهم ما في صدورهم إن العيون يؤدي سرها النظر ~~وإذا اتسم بالكذب نسبت إليه شوارد الكذب المجهولة ، وأضيفت إلى أكاذيبه ~~زيادات مفتعلة حتى يصير الكاذب مكذوبا عليه ، فيجمع بين معرة الكذب منه ~~PageV01P326 ومضرة الكذب عليه . # وقد قال الشاعر : حسب الكذوب من البلية بعض ما يحكى عليه فإذا سمعت بكذبة ~~من غيره نسبت إليه ثم إنه إن تحرى الصدق اتهم ، وإن جانب الكذب كذب ، حتى ~~لا يعتقد له حديث يصدق ، ولا كذب مستنكر . # وقد قال الشاعر : إذا عرف الكذاب بالكذب لم يكد يصدق في شيء وإن كان ~~صادقا ومن آفة الكذاب نسيان كذبه وتلقاه ذا حفظ إذا كان صادقا وقد وردت ~~السنة بإرخاص الكذب في الحرب وإصلاح ذات البين على وجه التورية ، والتأويل ~~دون التصريح به . # فإن السنة لا يجوز أن ترد بإباحة الكذب ؛ لما فيه من التنفير ، وإنما ذلك ~~على طريق التورية والتعريض ، كما { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ~~تطرف برداء وانفرد عن أصحابه ، فقال له رجل : ممن أنت ؟ قال : من ماء } ، ~~فورى عن الإخبار بنسبه بأمر يحتمل . # فظن السائل أنه عنى القبيلة المنسوبة إلى ذلك ، وإنما أراد رسول الله صلى ~~الله عليه وسلم أنه من الماء الذي يخلق منه الإنسان ، فبلغ ما أحب من إخفاء ~~نفسه وصدق في خبره . # وكالذي حكي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يسير خلف رسول الله ~~صلى الله عليه وسلم حين هاجر معه فتلقاه العرب وهم يعرفون أبا بكر ولا ~~يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : يا أبا بكر من هذا ؟ فيقول ~~: هاد يهديني السبيل فيظنون أنه يعني هداية الطريق ، وهو إنما يريد هداية ~~سبيل الخير ، فيصدق في قوله ويوري عن مراده . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال PageV01P327 : { إن في ~~المعاريض لمندوحة عن الكذب } . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن في المعاريض ما يكفي أن يعف الرجل ~~عن الكذب . # وقال بعض ms213 أهل التأويل في قوله تعالى { لا تؤاخذني بما نسيت } . # أنه لم ينس ولكنه معاريض الكلام . # وقال ابن سيرين : الكلام أوسع من أن يصرح فيه بالكذب . PageV01P328 واعلم ~~أن من الصدق ما يقوم مقام الكذب في القبح والمعرة ويزيد عليه في الأذى ~~والمضرة ، وهي الغيبة والنميمة والسعاية . # فأما الغيبة فإنها خيانة وهتك ستر يحدثان عن حسد وغدر . # قال الله تعالى : { ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ~~ميتا } . # يعني أنه كما لا يحل لحمه ميتا لا تحل غيبته حيا . # وروي { أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلتا ~~تغتابان الناس فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : صامتا عما أحل ~~لهما ، وأفطرتا على ما حرم عليهما } . # وروت أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من ذب ~~عن لحم أخيه بظهر الغيب كان حقا على الله عز وجل أن يحرم لحمه على النار } ~~. # وقال عدي بن حاتم : الغيبة رعي اللئام . # وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى ، يقول : الغيبة فاكهة النساء . # وقال رجل لابن سيرين رحمه الله : إني اغتبتك فاجعلني في حل . # فقال ما أحب أن أحل لك ما حرم الله عليك . # وقال ابن السماك : لا تعن الناس على عيبك بسوء غيبك . # وقال الشاعر : لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله سترا من ~~مساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحدا منهم بما فيكا وربما ~~عذر المغتاب نفسه بأنه يقول حقا ويعلن فسقا . # ويستشهد بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ثلاثة ليست ~~غيبتهم بغيبة الإمام الجائر وشارب الخمر والمعلن بفسقه } . # فيبعد من الصواب ويجانب الأدب ؛ لأنه وإن كان PageV01P329 بالغيبة صادقا ~~فقد هتك سترا كان بصونه أولى وجاهر من أسر وأخفى . # وربما دعا المغتاب ذلك إلى إظهار ما كان يستره ، والمجاهرة بما كان يضمره ~~، فلم يفد ذلك إلا فساد أخلاقه من غير أن يكون فيه صلاح لغيره . # وقد قيل لأنوشروان : ما الذي لا خير فيه ms214 ؟ قال : ما ضرني ولم ينفع غيري ، ~~أو ضر غيري ولم ينفعني ، فلا أعلم فيه خيرا . # وقيل في منثور الحكم : لا تبد من العيوب ما ستره علام الغيوب . # وقد روى العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : { سئل رسول ~~الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال : هي أن تقول لأخيك ما فيه فإن كنت ~~صادقا فقد اغتبته ، وإن كنت كاذبا فقد بهته } . # وقال عبد الرحمن بن زيد في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر ~~قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم } إنه استهزاء المسلم بمن أعلن بفسقه . # { ودخلت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم مستفتية فلما خرجت قالت ~~عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله ما أقصرها . # فقال : مهلا إياك والغيبة . # فقالت : يا رسول الله إنما قلت ما فيها . # قال : أجل ولولا ذلك لكان بهتانا } . # وسئل بعض الأدباء عن صفة اللئيم ، فقال : اللئيم إذا غاب عاب ، وإذا حضر ~~اغتاب . # فأما الخبر فمحمول على الإنكار لأفعال هؤلاء ولا يكون الإنكار غيبة ؛ ~~لأنه نهي عن منكر ، وفرق بين إنكار المجاهر وغيبة المساتر . # وأما النميمة : فهي أن تجمع إلى مذمة الغيبة رداءة وشرا ، وتضم إلى لؤمها ~~دناءة وغدرا . # ثم تؤول إلى تقاطع المتواصلين ، وتباغض PageV01P330 المتحابين . # وروى شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ~~: { ألا أخبركم بشراركم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . # قال : من شراركم المشاءون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبة الباغون العيوب ~~} . # وروى محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى ~~الله عليه وسلم : { ملعون ذو الوجهين ، ملعون ذو اللسانين ملعون كل شفار ، ~~ملعون كل قتات ، ملعون كل منان } . # الشفار المحرش بين الناس يلقي بينهم العداوة ، والقتات النمام وقيل ~~النمام الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم حديثهم ، والقتات هو الذي يستمع ~~عليهم وهم لا يعلمون فينم حديثهم ، والمنان هو الذي يصنع الخير ويمن به . # وقيل في منثور الحكم : النميمة سيف قاتل . # وقال بعض ms215 الأدباء : لم يمش ماش شر من واش . # فأما السعاية فهي شر الثلاثة ؛ لأنها تجمع إلى مذمة الغيبة ولؤم النميمة ~~، التغرير بالنفوس والأموال ، والقدح في المنازل والأحوال . # وروى ابن قتيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الجنة لا يدخلها ~~ديوث ولا قلاع } . # الديوث هو الذي يجمع بين الرجال والنساء ، سمي بذلك ؛ لأنه يدث بينهم . # والقلاع هو الساعي الذي يقع في الناس عند الأمراء ، سمي بذلك ؛ لأنه يأتي ~~الرجل المتمكن عند الأمير فلا يزال يقع فيه حتى يقلعه . # وقال بعض الحكماء : الساعي بين منزلتين قبيحتين : إما أن يكون صدق فقد ~~خان الأمانة ، وإما أن يكون قد كذب فخالف المروءة . # وقال بعض الحكماء PageV01P331 : الصدق يزين كل أحد إلا السعاة ، فإن ~~الساعي أذم وآثم ما يكون إذا صدق . # وقال بعض البلغاء : النميمة دناءة والسعاية رداءة ، وهما رأس الغدر وأساس ~~الشر فتجنب سبلهما ، واجتنب أهلهما . # ووقع الفضل بن سهل على قصة ساع سعى إليه : نحن نرى قبول السعاية شرا منها ~~؛ لأن السعاية دلالة ، والقبول إجازة ، فاتقوا الساعي فإنه إن كان في ~~سعايته صادقا كان في صدقه آثما ، إذ لم يحفظ الحرمة ويستر العورة . # وقال الإسكندر لرجل سعى إليه برجل : أتحب أن نقبل منك ما تقول فيه على أن ~~نقبل منه ما يقول فيك ؟ قال : لا . # قال : فكف عن الشر يكف عنك الشر . # وروي أن الله أوحى إلى موسى - على نبينا وعليه السلام - أن في بلدك ساعيا ~~ولست أخبرك وهو في أرضك . # قال يا رب دلني عليه حتى أخرجه فقال : يا موسى أكره النميمة وأنم . ~~PageV01P332 الحسد والمنافسة . # الفصل السادس في الحسد والمنافسة : اعلم أن الحسد خلق ذميم مع إضراره ~~بالبدن وفساده للدين ، حتى لقد أمر الله بالاستعاذة من شره ، فقال تعالى : ~~{ ومن شر حاسد إذا حسد } وناهيك بحال ذلك شرا . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { دب إليكم داء الأمم قبلكم ~~البغضاء والحسد هي الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر والذي نفس محمد بيده ~~لا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بأمر إذا ms216 فعلتموه تحاببتم افشوا السلام ~~بينكم } . # فأخبر صلى الله عليه وسلم بحال الحسد وأن التحابب ينفيه وأن السلام يبعث ~~على التحابب ، فصار السلام إذا نافيا للحسد . # وقد جاء كتاب الله تعالى بما يوافق هذا القول وقال الله تعالى : { ادفع ~~بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } قال مجاهد : ~~معناه ادفع بالسلام إساءة المسيء . # وقال الشاعر : قد يلبث الناس حينا ليس بينهم ود فيزرعه التسليم واللطف ~~وقال بعض السلف : الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء ، يعني حسد إبليس ~~لآدم عليه السلام وأول ذنب عصي الله به في الأرض ، يعني حسد ابن آدم لأخيه ~~حتى قتله . # وقال بعض الحكماء : من رضي بقضاء الله تعالى لم يسخطه أحد ، ومن قنع ~~بعطائه لم يدخله حسد . # وقال بعض البلغاء : الناس حاسد ومحسود ، ولكل نعمة حسود . # وقال بعض الأدباء : ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحسود نفس دائم ، وهم ~~لازم ، وقلب هائم . # فأخذه بعض الشعراء فقال : إن الحسود الظلوم في كرب يخاله PageV01P333 من ~~يراه مظلوما ذا نفس دائم على نفس يظهر منها ما كان مكتوما ولو لم يكن من ذم ~~الحسد إلا أنه خلق دنيء يتوجه نحو الأكفاء والأقارب ، ويختص بالمخالط ~~والمصاحب ، لكانت النزاهة عنه كرما ، والسلامة منه مغنما . # فكيف وهو بالنفس مضر ، وعلى الهم مصر ، حتى ربما أفضى بصاحبه إلى التلف ~~من غير نكاية في عدو ولا إضرار بمحسود . # وقد قال معاوية رضي الله عنه : ليس في خصال الشر أعدل من الحسد ، يقتل ~~الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود . # وقال بعض الحكماء : يكفيك من الحاسد أنه يغتم في وقت سرورك . # وقيل في منثور الحكم : عقوبة الحاسد من نفسه . # وقال الأصمعي : قلت لأعرابي : ما أطول عمرك ، قال : تركت الحسد فبقيت . # وقال رجل لشريح القاضي : إني لأحسدك على ما أرى من صبرك على الخصوم ، ~~ووقوفك على غامض الحكم . # فقال : ما نفعك الله بذلك ولا ضرني . # وقال عبد الله بن المعتز رحمه الله تعالى : اصبر على كيد الحسو د فإن ~~صبرك قاتله فالنار ms217 تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله وحقيقة الحسد شدة الأسى ~~على الخيرات تكون للناس الأفاضل وهو غير المنافسة ، وربما غلط قوم فظنوا أن ~~المنافسة في الخير هي الحسد ، وليس الأمر على ما ظنوا ؛ لأن المنافسة طلب ~~التشبه بالأفاضل من غير إدخال ضرر عليهم . # والحسد مصروف إلى الضرر ؛ لأن غايته أن يعدم الأفاضل فضلهم ، من غير أن ~~يصير الفضل له ، فهذا الفرق بين المنافسة والحسد . # فالمنافسة إذا فضيلة ؛ لأنها داعية إلى اكتساب الفضائل والاقتداء بأخيار ~~الأفاضل PageV01P334 . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { المؤمن يغبط والمنافق ~~يحسد } . # وقال الشاعر : نافس على الخيرات أهل العلا فإنما الدنيا أحاديث كل امرئ ~~في شأنه كادح فوارث منهم وموروث واعلم أن دواعي الحسد ثلاثة : أحدهما : بغض ~~المحسود فيأسى عليه بفضيلة تظهر ، أو منقبة تشكر ، فيثير حسدا قد خامر بغضا ~~. # وهذا النوع لا يكون عاما وإن كان أضرها ؛ لأنه ليس يبغض كل الناس . # والثاني : أن يظهر من المحسود فضل يعجز عنه فيكره تقدمه فيه واختصاصه به ~~، فيثير ذلك حسدا لولاه لكف عنه . # وهذا أوسطها ؛ لأنه لا يحسد الأكفاء من دنا ، وإنما يختص بحسد من علا . # وقد يمتزج بهذا النوع ضرب من المنافسة ولكنها مع عجز فلذلك صارت حسدا . # والثالث : أن يكون في الحاسد شح بالفضائل ، وبخل بالنعم وليست إليه فيمنع ~~منها ، ولا بيده فيدفع عنها ؛ لأنها مواهب قد منحها الله من شاء فيسخط على ~~الله عز وجل في قضائه ، ويحسد على ما منح من عطائه ، وإن كانت نعم الله عز ~~وجل عنده أكثر ، ومنحه عليه أظهر . # وهذا النوع من الحسد أعمها وأخبثها إذ ليس لصاحبه راحة ، ولا لرضاه غاية ~~، فإن اقترن بشر وقدرة كان بورا وانتقاما ، وإن صادف عجزا ومهانة كان كمدا ~~وسقاما . # وقد قال عبد الحميد : الحسود من الهم كساقي السم ، فإن سرى سمه زال عنه ~~غمه . # واعلم أن بحسب فضل الإنسان وظهور النعمة عليه يكون حسد الناس له . # فإن كثر فضله كثر حساده ، وإن قل قلوا ؛ لأن ظهور الفضل يثير ms218 الحسد ، ~~PageV01P335 وحدوث النعمة يضاعف الكمد . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { استعينوا على قضاء الحوائج ~~بسترها فإن كل ذي نعمة محسود } . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما كانت نعمة الله على أحد إلا وجد ~~لها حاسدا ، فلو كان الرجل أقوم من القدح لما عدم غامزا . # وقد قال الشاعر : إن يحسدوني فإني غير لائمهم قبلي من الناس أهل الفضل قد ~~حسدوا فدام لي ولهم ما بي وما بهم ومات أكثرنا غيظا بما يجد وربما كان ~~الحسد منبها على فضل المحسود ونقص الحسود ، كما قال أبو تمام الطائي : وإذا ~~أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ~~ما كان يعرف طيب عرف العود لولا التخوف للعواقب لم يزل للحاسد النعمى على ~~المحسود فأما ما يستعمله من كان غالبا عليه الحسد ، وكان طبعه إليه مائلا ~~لينفي عنه ويكفاه ويسلم من ضرره وعداوته ، فأمور هي له حسم إن صادفها عزم . # فمنها : اتباع الدين في اجتنابه ، والرجوع إلى الله عز وجل في آدابه ، ~~فيقهر نفسه على مذموم خلقها ، وينقلها عن لئيم طبعها . # وإن كان نقل الطباع عسرا لك بالرياضة والتدريج يسهل منها ما استصعب ، ~~ويحبب منها ما أتعب وإن تقدم قول القائل : من ربه خلقه كيف يخلي خلقه ، غير ~~أنه إذا عانى تهذيب نفسه تظاهر بالتخلق دون الخلق ، ثم بالعادة يصير كالخلق ~~. # قال أبو تمام الطائي : فلم أجد الأخلاق إلا تخلقا ولم أجد الأفضال إلا ~~تفضلا ومنها : العقل الذي يستقبح به من نتائج الحسد ما لا يرضيه ، ويستنكف ~~PageV01P336 من هجنة مساويه ، فيذلل نفسه أنفة ، ويقهرها حمية ، فتذعن ~~لرشدها ، وتجيب إلى صلاحها . # وهذا إنما يصح لذي النفس الأبية ، والهمة العلية ، وإن كان ذو الهمة يجل ~~عن دناءة الحسد . # وقد قال الشاعر : أبي له نفسان نفس زكية ونفس إذا ما خافت الظلم تشمس ~~ومنها : أن يستدفع ضرره ، ويتوقى أثره ، ويعلم أن مكانته في نفسه أبلغ ومن ~~الحسد أبعد ، فيستعمل الحزم في دفع ما كده وأكمده ليكون أطيب نفسا ms219 وأهنأ ~~عيشا . # وقد قيل : العجب لغفلة الحساد عن سلامة الأجساد . # وقد قال الشاعر : بصير بأعقاب الأمور كأنما يرى بصواب الرأي ما هو واقع ~~ومنها : ما يرى من نفور الناس عنه وبعدهم منه فيخافهم إما على نفسه من ~~عداوة ، أو على عرضه من ملامة ، فيتألفهم بمعالجة نفسه ويراهم إن صلحوا ~~أجدى نفعا وأخلص ودا . # وقال ابن العميد رحمه الله تعالى : داوي جوى بجوى وليس بحازم من يستكف ~~النار بالحلفاء وقال المؤمل بن أميل : لا تحسبوني غنيا عن مودتكم إني إليكم ~~وإن أيسرت مفتقر ومنها : أن يساعد القضاء ويستسلم للمقدور ، ولا يرى أن ~~يغالب قضاء الله فيرجع مغلوبا ، ولا أن يعارضه في أمره فيرد محروما مسلوبا ~~. # وقد قال أزدشير بن بابك : إذا لم يساعدنا القضاء ساعدناه . # وقال محمود الوراق : قدر الله كائن حين يقضي وروده قد مضى فيك علمه ~~وانتهى ما يريده فأرد ما يكون إن لم يكن ما تريده فإن أظفرته السعادة بأحد ~~هذه الأسباب ، وهدته المراشد إلى استعمال الصواب ، سلم من سقامه ، وخلص من ~~PageV01P337 غرامه ، واستبدل بالنقص فضلا واعتاض من الذم حمدا . # ولمن استنزل نفسه عن مذمة فصرفها عن لائمة هو أظهر حزما وأقوى عزما ممن ~~كفته النفس جهادها ، وأعطته قيادها . # ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : خياركم كل مفتن تواب . # وإن صدته الشهوة عن مراشده ، وأضله الحرمان عن مقاصده ، فانقاد للطبع ~~اللئيم ، وغلب عليه الخلق الذميم ، حتى ظهر حسده واشتد كمده ، فقد باء ~~بأربع مذام : إحداهن : حسرات الحسد وسقام الجسد ، ثم لا يجد لحسرته انتهاء ~~، ولا يؤمل لسقامه شفاء . # وقال ابن المعتز : الحسد داء الجسد . # والثانية : انخفاض المنزلة وانحطاط المرتبة لانحراف الناس عنه ، ونفورهم ~~منه وقد قيل في منثور الحكم : الحسود لا يسود . # والثالثة : مقت الناس له حتى لا يجد فيهم محبا ، وعداوتهم له حتى لا يرى ~~فيهم وليا ، فيصير بالعداوة مأثورا ، وبالمقت مزجورا . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { شر الناس من يبغض الناس ويبغضوه ~~} . # والرابعة : إسخاط الله تعالى في معارضته ، واجتناء الأوزار في ms220 مخالفته ، ~~إذ ليس يرى قضاء الله عدلا ، ولا لنعمه من الناس أهلا . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { الحسد يأكل الحسنات كما تأكل ~~النار الحطب } . # وقال عبد الله بن المعتز : الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له ، بخيل بما لا ~~يملكه ، طالب ما لا يجده . # وإذا بلي الإنسان بمن هذه حاله من حساد النعم وأعداء الفضل استعاذ بالله ~~من شره ، وتوقى مصارع كيده ، وتحرز من غوائل حسده ، PageV01P338 وأبعد عن ~~ملابسته . # وإدنائه لعضل دائه ، وإعواز دوائه . # فقد قيل : حاسد النعمة لا يرضيه إلا زوالها . # وقال بعض الحكماء : من ضر بطبعه فلا تأنس بقربه ، فإن قلب الأعيان صعب ~~المرام . # وقال عبد الحميد : أسد تقاربه خير من حسود تراقبه . # وقال محمود الوراق : أعطيت كل الناس من نفسي الرضى إلا الحسود فإنه ~~أعياني ما إن لي ذنبا إليه علمته إلا تظاهر نعمة الرحمن وأبى فما يرضيه إلا ~~ذلتي وذهاب أموالي وقطع لساني وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ~~: { ثلاثة لا يسلم أحد منهن : الطيرة وسوء الظن ، والحسد . # فإذا تطيرت فلا ترجع ، وإذا ظننت فلا تتحقق ، وإذا حسدت فلا تبغ } . ~~PageV01P339 المواضعة والإصلاح . # فصل : وأما آداب المواضعة والاصطلاح فضربان : أحدهما ما تكون المواضعة في ~~فروعه ، والعقل موجب لأصوله . # والثاني ما تكون المواضعة في فروعه وأصوله . # وذلك متضح في الفصول التي نذكرها إذا سبرت وهي ثمانية . # الفصل الأول في الكلام والصمت : اعلم أن الكلام ترجمان يعبر عن مستودعات ~~الضمائر ، ويخبر بمكنونات السرائر ، لا يمكن استرجاع بوادره ، ولا يقدر على ~~رد شوارده . # فحق على العاقل أن يحترز من زلله بالإمساك عنه أو بالإقلال منه . # روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { رحم الله من قال خيرا فغنم ~~، أو سكت فسلم } . # وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ : { يا معاذ أنت سالم ما سكت ، فإذا تكلمت ~~فعليك أو لك } . # وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : اللسان معيار أطاشه الجهل وأرجحه ~~العقل . # وقال بعض الحكماء : الزم الصمت تعد حكيما ، جاهلا كنت أو ms221 عالما . # وقال بعض الأدباء : سعد من لسانه صموت ، وكلامه قوت . # وقال بعض العلماء : من أعوذ ما يتكلم به العاقل أن لا يتكلم إلا لحاجته ~~أو محجته ، ولا يفكر إلا في عاقبته أو في آخرته . # وقال بعض البلغاء : الزم الصمت فإنه يكسبك صفو المحبة ، ويؤمنك سوء ~~المغبة ، ويلبسك ثوب الوقار ، ويكفيك مئونة الاعتذار . # وقال بعض الفصحاء : اعقل لسانك إلا عن حق توضحه ، أو باطل تدحضه ، أو ~~حكمة تنشرها ، أو نعمة تذكرها . # وقال الشاعر : رأيت العز في أدب وعقل وفي الجهل المذلة والهوان وما حسن ~~الرجال لهم بحسن إذا لم PageV01P340 يسعد الحسن البيان كفى بالمرء عيبا أن ~~تراه له وجه وليس له لسان واعلم أن للكلام شروطا لا يسلم المتكلم من الزلل ~~إلا بها ، ولا يعرى من النقص إلا بعد أن يستوفيها وهي أربعة : فالشرط الأول ~~: أن يكون الكلام لداع يدعو إليه إما في اجتلاب نفع أو دفع ضرر . # والشرط الثاني : أن يأتي به في موضعه ، ويتوخى به إصابة فرصته . # والشرط الثالث : أن يقتصر منه على قدر حاجته . # والشرط الرابع : أن يتخير اللفظ الذي يتكلم به . # فهذه أربعة شروط متى أخل المتكلم بشرط منها فقد أوهن فضيلة باقيها . # وسنذكر تعليل كل شرط منها بما ينبئ عن لزومه . # فأما الشرط الأول : وهو الداعي إلى الكلام ؛ فلأن ما لا داعي له هذيان ، ~~وما لا سبب له هجر . # ومن سامح نفسه في الكلام ، إذا عن ولم يراع صحة دواعيه ، وإصابة معانيه ، ~~كان قوله مرذولا ، ورأيه معلولا ، كالذي حكي عن ابن عائشة أن شابا كان ~~يجالس الأحنف ويطيل الصمت ، فأعجب ذلك الأحنف فخلت الحلقة يوما فقال له ~~الأحنف : تكلم يا ابن أخي . # فقال : يا عم لو أن رجلا سقط من شرف هذا المسجد هل كان يضره شيء ؟ قال : ~~يا ابن أخي ليتنا تركناك مستورا . # ثم تمثل الأحنف بقول الأعور الشني : وكائن ترى من صاحب لك معجب زيادته أو ~~نقصه في التكلم لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم ~~وكالذي حكي عن أبي ms222 يوسف الفقيه أن رجلا كان يجلس إليه فيطيل الصمت ، فقال ~~له أبو يوسف : ألا تسأل ؟ قال : بلى . # متى يفطر الصائم ؟ قال : إذا غربت PageV01P341 الشمس . # قال : فإن لم تغرب إلى نصف الليل ؟ قال : فتبسم أبو يوسف رحمه الله وتمثل ~~ببيتي الخطفي جد جرير : عجبت لإزراء العيي بنفسه وصمت الذي قد كان بالعلم ~~أعلما وفي الصمت ستر للغبي وإنما صحيفة لب المرء أن يتكلما ومما أطرفك به ~~عني أني كنت يوما في مجلسي بالبصرة وأنا مقبل على تدريس أصحابي إذ دخل علي ~~رجل مسن قد ناهز الثمانين أو جاوزها . # فقال لي : قد قصدتك بمسألة اخترتك لها . # فقلت : اسأل - عافاك الله - وظننته يسأل عن حادث نزل به ، فقال : أخبرني ~~عن نجم إبليس ، ونجم آدم ، ما هو ؟ فإن هذين لعظم شأنهما لا يسأل عنهما إلا ~~علماء الدين . # فعجبت وعجب من في مجلسي من سؤاله وبدر إليه قوم منهم بالإنكار والاستخفاف ~~فكففتهم وقلت : هذا لا يقنع مع ما ظهر من حاله إلا بجواب مثله . # فأقبلت عليه ، وقلت : يا هذا إن المنجمين يزعمون أن نجوم الناس لا تعرف ~~إلا بمعرفة مواليدهم فإن ظفرت بمن يعرف ذلك فاسأله . # فحينئذ أقبل علي وقال : جزاك الله خيرا . # ثم انصرف مسرورا . # فلما كان بعد أيام عاد وقال : ما وجدت إلى وقتي هذا من يعرف مولد هذين . # فانظر إلى هؤلاء كيف أبانوا بالكلام عن جهلهم ، وأعربوا بالسؤال عن نقصهم ~~، إذ لم يكن لهم داع إليه ، ولا روية فيما تكلموا به . # ولو صدر عن روية ودعا إليه داع لسلموا من شينه ، وبرئوا من عيبه . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { لسان العاقل من وراء قلبه فإذا ~~أراد الكلام رجع إلى قلبه ، فإن كان له تكلم وإن كان PageV01P342 عليه أمسك ~~. # وقلب الجاهل من وراء لسانه يتكلم بكل ما عرض له } . # وقال عمر بن عبد العزيز : من لم يعد كلامه من عمله كثرت خطاياه . # وقال بعض الحكماء : عقل المرء مخبوء تحت لسانه . # وقال بعض البلغاء : احبس لسانك قبل أن يطيل حبسك أو يتلف ms223 نفسك ، فلا شيء ~~أولى بطول حبس من لسان يقصر عن الصواب ، ويسرع إلى الجواب . # وقال أبو تمام الطائي : ومما كانت الحكماء قالت لسان المرء من تبع الفؤاد ~~وكان بعض الحكماء يحسم الرخصة في الكلام ويقول : إذا جالست الجهال فأنصت ~~لهم ، وإذا جالست العلماء فأنصت لهم ، فإن في إنصاتك للجهال زيادة في الحلم ~~، وفي إنصاتك للعلماء زيادة في العلم . # وأما الشرط الثاني : فهو أن يأتي بالكلام في موضعه ؛ لأن الكلام في غير ~~حينه لا يقع موقع الانتفاع به ، وما لا ينفع من الكلام فقد تقدم القول بأنه ~~هذيان وهجر ، فإن قدم ما يقتضي التأخير كان عجلة وخرقا وإن أخر ما يقتضي ~~التقديم كان توانيا وعجزا ؛ لأن لكل مقام قولا ، وفي كل زمان عملا . # وقد قال الشاعر : تضع الحديث على مواضعه وكلامها من بعدها نزر وأما الشرط ~~الثالث : وهو أن يقتصر منه على قدر حاجته . # فإن الكلام إن لم ينحصر بالحاجة ، ولم يقدر بالكفاية ، لم يكن لحده غاية ~~، ولا لقدره نهاية . # وما لم يكن من الكلام محصورا كان حصرا إن قصر ، وهذرا إن كثر . # وروي { أن أعرابيا تكلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وطول فقال ~~النبي صلى الله عليه وسلم : كم دون لسانك من حجاب ؟ قال : شفتاي ~~PageV01P343 وأسناني . # قال : فإن الله عز وجل يكره الانبعاق في الكلام } . # فنضر الله وجه امرئ أوجز في كلامه ، فاقتصر على حاجته . # وحكي أن بعض الحكماء رأى رجلا يكثر الكلام ويقل السكوت فقال : إن الله ~~تعالى إنما خلق لك أذنين ولسانا واحدا ليكون ما تسمعه ضعف ما تتكلم به . # وقال بعض الحكماء : من كثر كلامه كثرت آثامه . # وقال ابن مسعود : أنذركم فضول المنطق . # وقال بعض البلغاء : كلام المرء بيان فضله ، وترجمان عقله ، فاقصره على ~~الجميل واقتصر منه على القليل ، وإياك ما يسخط سلطانك ، ويوحش إخوانك ، فمن ~~أسخط سلطانه تعرض للمنية ومن أوحش إخوانه تبرأ من الحرية . # وقال بعض الشعراء : وزن الكلام إذا نطقت فإنما يبدي عيوب ذوي العيوب ~~المنطق ولمخالفة قدر الحاجة من الكلام حالتان ms224 : تقصير يكون حصرا ، وتكثير ~~يكون هذرا ، وكلاهما شين . # وشين الهذر أشنع ، وربما كان في الغالب أخوف . # قال النبي صلى الله عليه وسلم : { وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم ~~إلا حصائد ألسنتهم } . # وقال بعض الحكماء : مقتل الرجل بين فكيه ، وقال بعض البلغاء : الحصر خير ~~من الهذر ؛ لأن الحصر يضعف الحجة ، والهذر يتلف المحجة . # وقد قال الشاعر : رأيت اللسان على أهله إذا ساسه الجهل ليثا مغيرا وقال ~~بعض الأدباء : يا رب ألسنة كالسيوف تقطع أعناق أصحابها . # وما ينقص من هيئات الرجال يزيد في بهائها وألبابها . # وقد ذهب بعضهم إلى أن الكلام إذا كثر عن قدر الحاجة ، وزاد على حد ~~الكفاية ، وكان صوابا لا يشوبه PageV01P344 خطل ، وسليما لا يتعوده زلل ، ~~فهو البيان والسحر الحلال . # وقال سليمان بن عبد الملك ، وقد ذم الكلام في مجلسه : كلا إن من تكلم ~~فأحسن قدر على أن يسكت فيحسن ، وليس من سكت فأحسن قدر على أن يتكلم فيحسن . # ووصف بعضهم الكاتب فقال : الكاتب من إذا أخذ شبرا كفاه ، وإذا وجد طومارا ~~أملاه . # وأنشد بعضهم في خطباء إياد : يرمون بالخطب الطوال وتارة وحي الملاحظ خيفة ~~الرقباء وقال الهيثم بن صالح لابنه : يا بني إذا أقللت من الكلام أكثرت من ~~الصواب . # فقال : يا أبت فإن أنا أكثرت وأكثرت يعني كلاما وصوابا . # فقال : يا بني ما رأيت موعوظا أحق بأن يكون واعظا منك . # وأنشدت لأبي الفتح البستي : تكلم وسدد ما استطعت فإنما كلامك حي والسكوت ~~جماد فإن لم تجد قولا سديدا تقوله فصمتك عن غير السداد سداد وقيل لإياس بن ~~معاوية : ما فيك عيب إلا كثرة الكلام ، فقال : أفتسمعون صوابا أو خطأ ؟ ~~قالوا : لا بل صوابا . # قال : فالزيادة من الخير خير . # وقال أبو عثمان الجاحظ : للكلام غاية ، ولنشاط السامعين نهاية . # وما فضل عن مقدار الاحتمال ، ودعا إلى الاستثقال والملال ، فذلك الفاضل ~~هو الهذر . # وصدق أبو عثمان ؛ لأن الإكثار منه وإن كان صوابا يمل السامع ويكل الخاطر ~~وهو صادر عن إعجاب به لولاه قصر عنه . # ومن أعجب بكلامه استرسل فيه ms225 ، والمسترسل في الكلام كثير الزلل دائم ~~العثار . # وقال بعض الحكماء : من أعجب بقوله أصيب بعقله . # وليس لكثرة الهذر رجاء يقابل خوفه ، ولا نفع يوازي ضره ؛ لأنه يخاف ~~PageV01P345 من نفسه الزلل ، ومن سامعيه الملل . # وليس في مقابلة هذين حاجة داعية ولا نفع مرجو . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أبغضكم إلي المتفيهق ~~المكثار والملح المهذار } . # وسأل رجل حكيما فقال : متى أتكلم ؟ قال : إذا اشتهيت الصمت . # فقال : متى أصمت ؟ قال : إذا اشتهيت الكلام . # وقال جعفر بن يحيى : إذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عيا ، وإن كان ~~الإكثار واجبا كان التقصير عجزا . # وقيل في منثور الحكم : إذا تم العقل نقص الكلام . # وقال بعض الأدباء : من أطال صمته اجتلب من الهيبة ما ينفعه ، ومن الوحشة ~~ما لا يضره . # وقال بعض البلغاء : عي تسلم منه خير من منطق تندم عليه فاقتصر من الكلام ~~على ما يقيم حجتك ، ويبلغ حاجتك ، وإياك وفضوله فإنه يزل القدم ، ويورث ~~الندم . # وقال بعض الفصحاء : فم العاقل ملجم إذا هم بالكلام أحجم ، وفم الجاهل ~~مطلق كلما شاء أطلق . # وقال بعض الشعراء : إن الكلام يغر القوم جلوته حتى يلج به عي وإكثار وأما ~~الشرط الرابع : وهو اختيار اللفظ الذي يتكلم به ؛ فلأن اللسان عنوان ~~الإنسان يترجم عن مجهوله ، ويبرهن عن محصوله ، فيلزم أن يكون بتهذيب ألفاظه ~~حريا وبتقويم لسانه مليا . # روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { قال لعمه العباس : يعجبني جمالك . # قال : وما جمال الرجل يا رسول الله ؟ قال : لسانه } . # وقال خالد بن صفوان : ما الإنسان لولا اللسان هل إلا بهيمة مهملة أو صورة ~~ممثلة ؟ وقال بعض الحكماء : اللسان وزير الإنسان . PageV01P346 وقال بعض ~~الأدباء : كلام المريد وافد أدبه . # وقال بعض البلغاء : يستدل على عقل الرجل بقوله ، وعلى أصله بفعله . # وقال بعض الشعراء : وإن لسان المرء ما لم تكن له حصاة على عوراته لدليل ~~وليس يصح اختيار الكلام لا لمن أخذ نفسه بالبلاغة ، وكلفها لزوم الفصاحة ، ~~حتى يصير متدربا بها معتادا لها ، فلا يأتي بكلام مستكره اللفظ ms226 ولا مختل ~~المعنى ؛ لأن البلاغة ليست على معان مفردة ولا لألفاظها غاية ، وإنما ~~البلاغة أن تكون بالمعاني الصحيحة مستودعة في ألفاظ فصيحة . # فتكون فصاحة الألفاظ مع صحة المعاني هي البلاغة . # وقد قيل لليوناني ؛ ما البلاغة ؟ قال : اختيار الكلام وتصحيح الأقسام . # وقيل ذلك للرومي ، فقال : حسن الاختصار عند البديهة والغزارة يوم الإطالة ~~. # وقيل للهندي فقال : معرفة الفصل من الوصل . # وقيل للعربي فقال : ما حسن إيجازه وقل مجازه . # وقيل للبدوي فقال : ما دون السحر وفوق الشعر ، يفت الخردل ويحط الجندل . # وقيل للحضري فقال : ما كثر إعجازه وتناسبت صدوره وأعجازه . # وقال ابن المقفع : البلاغة قلة الحصر والجراءة على البشر . # وسأل الحجاج ابن القرية عن الإيجاز قال : أن تقول فلا تبطئ وأن تصيب فلا ~~تخطئ . # وقال الشاعر : خير الكلام قليل على كثير دليل والعي معنى قصير يحوبه لفظ ~~طويل وفي الكلام فضول وفيه قال وقيل وأما صحة المعاني فتكون من ثلاثة أوجه ~~: أحدها : إيضاح تفسيرها حتى لا تكون مشكلة ولا مجملة . # والثاني : استيفاء تقسيمها حتى لا يدخل فيها ما ليس PageV01P347 منها ولا ~~يخرج عنها ما هو فيها . # والثالث : صحة مقابلاتها . # والمقابلة تكون من وجهين : أحدهما مقابلة المعنى بما يوافقه وحقيقة هذه ~~المقاربة ؛ لأن المعاني تصير متشاكلة . # والثاني مقابلته بما يضاده وهو حقيقة المقابلة . # وليس للمقابلة إلا أحد هذين الوجهين : الموافقة في الائتلاف والمضادة مع ~~الاختلاف . # فأما فصاحة الألفاظ فتكون بثلاثة أوجه : أحدها : مجانبة الغريب الوحشي ~~حتى لا يمجه سمع ولا ينفر منه طبع . # والثاني : تنكب اللفظ المستبذل ، والعدول عن الكلام المسترذل ، حتى لا ~~يستسقطه خاصي ولا ينبو عن فهمه عامي . # كما قال الجاحظ في كتاب البيان : أما أنا فلم أر قوما أمثل طريقة في ~~البلاغة من الكتاب وذلك أنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرا وحشيا ~~ولا ساقطا عاميا . # والثالث : أن يكون بين الألفاظ كالقوالب لمعانيها فلا تزيد عليها ولا ~~تنقص عنها . # وقال بشر بن المعتمر ، في وصيته في البلاغة : إذا لم تجد اللفظة واقعة ~~موقعها ، ولا صائرة إلى مستقرها ، ولا حالة ms227 في مركزها ، بل وجدتها قلقة في ~~مكانها ، نافرة عن موضعها ، فلا تكرهها على القرار في غير موضعها ، فإنك إن ~~لم تتعاط قريض الشعر الموزون ، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور ، لم يعبك ~~بترك ذلك أحد . # وإذا أنت تكلفتهما ولم تكن حاذقا فيهما عابك من أنت أقل عيبا منه ، وأزرى ~~عليك من أنت فوقه . # وأما المناسبة فهي أن يكون المعنى يليق ببعض الألفاظ إما لعرف مستعمل ، ~~أو لاتفاق مستحسن ، حتى إذا PageV01P348 ذكرت تلك المعاني بعد تلك الألفاظ ~~كانت نافرة عنها ، وإن كانت أفصح وأوضح لاعتياد ما سواها . # وقال بعض البلغاء : لا يكون البليغ بليغا حتى يكون معنى كلامه أسبق إلى ~~فهمك من لفظه إلى سمعك . # وأما معاطاة الإعراب وتجنب اللحن فإنما هو من صفات الصواب والبلاغة أعلى ~~منه رتبة ، وأشرف منزلة . # وليس لمن لحن في كلامه مدخل في الأدباء فضلا عن أن يكون في عداد البلغاء ~~. PageV01P349 واعلم أن للكلام آدابا إن أغفلها المتكلم أذهب رونق كلامه ، ~~وطمس بهجة بيانه ، ولها الناس عن محاسن فضله بمساوي أدبه ، فعدلوا عن ~~مناقبه بذكر مثالبه . # فمن آدابه : أن لا يتجاوز في مدح ولا يسرف في ذم وإن كانت النزاهة عن ~~الذم كرما والتجاوز في المدح ملقا يصدر عن مهانة . # والسرف في الذم انتقام يصدر عن شر ، وكلاهما شين وإن سلم من الكذب . # يروى أنه { لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد تميم سأل رسول ~~الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الأهتم عن قيس بن عاصم فمدحه ، فقال قيس : ~~والله يا رسول الله لقد علم أني خير مما وصف ولكن حسدني ، فذمه عمرو وقال : ~~والله يا رسول الله لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الأخرى ؛ لأني رضيت في ~~الأولى فقلت أحسن ما علمت وسخطت في الأخرى فقلت أقبح ما علمت . # فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من البيان لسحرا } . # على أن السلامة من الكذب في المدح والذم متعذرة لا سيما إذا مدح تقربا ~~وذم تحنقا . # وحكي عن الأحنف بن قيس ms228 أنه قال : سهرت ليلتي أفكر في كلمة أرضي بها ~~سلطاني ولا أسخط بها ربي فما وجدتها . # وقال عبد الله بن مسعود : إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه فيخرج ~~وما معه دينه . # قيل : وكيف ذلك ؟ قال يرضيه بما يسخط الله عز وجل . # وسمع ابن الرومي رجلا يصف رجلا ويبالغ في مدحه فأنشأ يقول : إذا ما وصفت ~~امرأ لامرئ فلا تغل في وصفه واقصد فإنك إن تغل تغل الظنون فيه إلى الأمد ~~الأبعد فيضأل من حيث عظمته PageV01P350 لفضل المغيب على المشهد PageV01P351 ~~ومن آدابه : أن لا تبعثه الرغبة والرهبة على الاسترسال في وعد أو وعيد يعجز ~~عنهما ولا يقدر على الوفاء بهما . # فإن من أطلق بهما لسانه وأرسل فيهما عنانه ، ولم يستثقل من القول ما ~~يستثقله من العمل ، صار وعده نكثا ووعيده عجزا . # وحكي أن سليمان بن داود عليهما السلام ، مر بعصفور يدور حول عصفورة فقال ~~لأصحابه : هل تدرون ما يقول لها ؟ قالوا : لا يا نبي الله . # قال : إنه يخطبها لنفسه ويقول لها زوجيني نفسك أسكنك أي غرف دمشق شئت . # وقال سليمان : كذب العصفور فإن غرف دمشق مبنية بالصخور لا يقدر أن يسكنها ~~هناك ، ولكن كل خاطب كاذب . # ومن آدابه : إن قال قولا حققه بفعله ، وإذا تكلم بكلام صدقه فعمله ، فإن ~~إرسال القول اختيار ، والعمل به اضطرار . # ولئن يفعل ما لم يقل أجمل من أن يقول ما لم يفعل . # وقال بعض الحكماء : أحسن الكلام ما لا يحتاج فيه إلى الكلام أي يكتفي ~~بالفعل من القول . # وقال محمود الوراق : القول ما صدقه الفعل والفعل ما وكده العقل لا يثبت ~~القول إذا لم يكن يقله من تحته الأصل PageV01P352 ومن آدابه : أن يراعي ~~مخارج كلامه بحسب مقاصده وأغراضه فإن كان ترغيبا قرنه باللين واللطف ، وإن ~~كان ترهيبا خلطه بالخشونة والعنف ، فإن لين اللفظ في الترهيب وخشونته في ~~الترغيب خروج عن موضعهما وتعطيل للمقصود بهما ، فيصير الكلام لغوا والغرض ~~المقصود لهوا . # وقد قال أبو الأسود الدؤلي لابنه : يا بني إن كنت في قوم فلا تتكلم بكلام ms229 ~~من هو فوقك فيمقتوك ، ولا بكلام من هو دونك فيزدروك . PageV01P353 ومن ~~آدابه : أن لا يرفع بكلامه صوتا مستنكرا ولا ينزعج له انزعاجا مستهجنا ، ~~وليكف عن حركة تكون طيشا وعن حركة تكون عيا ، فإن نقص الطيش أكثر من فضل ~~البلاغة . # وقد حكي أن الحجاج قال لأعرابي : أخطيب أنا ؟ قال : نعم لولا أنك تكثر ~~الرد ، وتشير باليد ، وتقول أما بعد . PageV01P354 ومن آدابه : أن يتجافى ~~هجر القول ومستقبح الكلام ، وليعدل إلى الكناية عما يستقبح صريحه ويستهجن ~~فصيحه ؛ ليبلغ الغرض ولسانه نزه وأدبه مصون . # وقد قال محمد بن علي في قوله تعالى : { وإذا مروا باللغو مروا كراما } . # قال : كانوا إذا ذكروا الفروج كنوا عنها . # وكما أنه يصون لسانه عن ذلك فهكذا يصون عنه سمعه ، فلا يسمع خناء ولا ~~يصغي إلى فحش فإن سماع الفحش داع إلى إظهاره ، وذريعة إلى إنكاره . # وإذا وجد عن الفحش معرضا كف قائله وكان إعراضه أحد النكيرين ، كما أن ~~سماعه أحد الباعثين . # وأنشدني أبو الحسن بن الحارث الهاشمي : تحر من الطرق أوساطها وعد عن ~~الموضع المشتبه وسمعك صن عن قبيح الكلا م كصون اللسان عن النطق به فإنك عند ~~استماع القبيح شريك لقائله فانتبه ومما يجري مجرى فحش القول وهجره في وجوب ~~اجتنابه ، ولزوم تنكبه ، ما كان شنيع البديهة مستنكر الظاهر ، وإن كان عقب ~~التأمل سليما ، وبعد الكشف والروية مستقيما ، كالذي رواه الأزدي عن الصولي ~~لبعض المتكلفين من الشعراء إنني شيخ كبير كافر بالله سيري أنت ربي وإلهي ~~رازق الطفل الصغير يريد بقوله كافر أي لابس ؛ لأن الكفر التغطية . # ولذلك سمي الكافر بالله كافرا ؛ لأنه قد غطى نعمة الله بمعصيته . # وقوله بالله سيري يقسم عليها أن تسير . # وقوله أنت ربي يعني ربي ولدك من التربية . # وإلهي رازق الطفل الصغير كما أنه رازق الولد الكبير . # فانظر إلى هذا التكلف الشنيع ، والتعمق البشيع ، ما اعتاض من حيث ~~PageV01P355 البديهة إذا سلم بعد الفكر والروية إلا لؤما إن حسن فيه الظن ، ~~أو ذما إن قوي فيه الارتياب . # وقلما يكون ذلك إلا من خليع بطر ms230 أو مرتاب أشر . # فأما الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تصلوا ~~على النبي } فخارج من هذا النوع من التلبيس . # وفي تأويله وجهان : أحدهما أنه أراد النهي عن الصلاة في المكان المرتفع ~~المحدودب ، مأخوذ من النبوة . # والثاني أنه أراد الطريق ، ومنه سمي رسل الله أنبياء ؛ لأنهم الطرق إليه ~~. # إنما زال عنه التلبيس إذا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم . # وإن كان من قول غيره تلبيسا شنيعا ؛ لأن موضوع خطابه وشواهد أحواله ~~يصرفان كلامه عن التجوز والاسترسال في أمر أو نهي إلى ما يجوز أن يرد به ~~شرع وينهى عنه نبي . # وليس يمتنع ذلك في غيره ولذلك افترق وجوده منه ومن غيره . PageV01P356 ~~ومن آدابه أن يجتنب أمثال العامة الغوغاء ويتخصص بأمثال العلماء الأدباء ~~فإن لكل صنف من الناس أمثالا تشاكلهم ، فلا تجد لساقط إلا مثلا ساقطا ~~وتشبيها مستقبحا . # وللسقاط أمثال فمنها تمثلهم للشيء المريب ، كما قال الصنوبري : إذا ما ~~كنت ذا بول صحيح ألا فاضرب به وجه الطبيب ولذلك علتان . # إحداهما : أن الأمثال من هواجس الهمم وخطرات النفوس ، ولم يكن لذي الهمة ~~الساقطة إلا مثل مرذول ، وتشبيه معلول . # والثانية : أن الأمثال مستخرجة من أحوال المتمثلين بها ، فبحسب ما هم ~~عليه تكون أمثالهم . # فلهاتين العلتين وقع الفرق بين أمثال الخاصة وأمثال العامة . # وربما ألف المتخصص مثلا عاميا أو تشبيها ركيكا ؛ لكثرة ما يطرق سمعه من ~~مخالطة الأراذل فيسترسل في ضربه مثلا فيصير به مثلا ، كالذي حكي عن الأصمعي ~~أن الرشيد سأله يوما عن أنساب بعض العرب فقال : على الخبير سقطت يا أمير ~~المؤمنين . # فقال له الفضل بن الربيع : أسقط الله جنبيك أتخاطب أمير المؤمنين بمثل ~~هذا الخطاب ؟ فكان الفضل بن الربيع ، مع قلة علمه أعلم بما يستعمل من ~~الكلام في محاورة الخلفاء من الأصمعي الذي هو واحد عصره وقريع دهره . # وللأمثال من الكلام موقع في الأسماع وتأثير في القلوب لا يكاد الكلام ~~المرسل يبلغ مبلغها ، ولا يؤثر تأثيرها ؛ لأن المعاني بها لائحة ، والشواهد ~~بها واضحة ، والنفوس بها ms231 وامقة ، والقلوب بها واثقة ، والعقول لها موافقة . # فلذلك ضرب الله الأمثال في كتابه العزيز PageV01P357 وجعلها من دلائل ~~رسله وأوضح بها الحجة على خلقه ؛ لأنها في العقول معقولة ، وفي القلوب ~~مقبولة . # ولها أربعة شروط : أحدها : صحة التشبيه . # والثاني : أن يكون العلم بها سابقا والكل عليها موافقا . # والثالث : أن يسرع وصولها للفهم ، ويعجل تصورها في الوهم ، من غير ارتياء ~~في استخراجها ولا كد في استنباطها . # والرابع : أن تناسب حال السامع لتكون أبلغ تأثيرا وأحسن موقعا . # فإذا اجتمعت في الأمثال المضروبة هذه الشروط الأربعة كانت زينة للكلام ~~وجلاء للمعاني وتدبرا للأفهام . PageV01P358 الصبر والجزع الفصل الثاني في ~~الصبر والجزع : اعلم أن من حسن التوفيق وإمارات السعادة الصبر على الملمات ~~والرفق عند النوازل ، وبه نزل الكتاب وجاءت السنة . # قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا ~~الله لعلكم تفلحون } . # يعني اصبروا على ما افترض الله عليكم ، وصابروا عدوكم ، ورابطوا فيه ~~تأويلان : أحدهما : على الجهاد . # والثاني : على انتظار الصلوات . # وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ألا أدلكم على ~~ما يحبط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . # قال : إسباغ الوضوء عند المكاره وكثرة الخطى إلى المسجد وانتظار الصلاة ~~بعد الصلاة فذلكم الرباط } . # فنزل الكتاب بتأكيد الصبر فيما أمر به وندب إليه ، وجعله من عزائم التقوى ~~فيما افترضه وحث عليه . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الصبر ستر من الكروب وعون ~~على الخطوب } . # وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : الصبر مطية لا تكبو ، والقناعة سيف ~~لا ينبو . # وقال عبد الحميد : لم أسمع أعجب من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لو ~~أن الصبر والشكر يعيران ما باليت أيهما ركبت . # وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أفضل العدة الصبر على الشدة . # وقال بعض البلغاء : من خير خلالك الصبر على اختلالك . # وقيل في منثور الحكم : من أحب البقاء فليعد للمصائب قلبا صبورا . # وقال بعض الحكماء : بالصبر على مواقع الكره ms232 تدرك الحظوظ . # وقال بعض الشعراء ، PageV01P359 وهو عبيد بن الأبرص : صبر النفس عند كل ~~ملم إن في الصبر حيلة المحتال لا تضيقن في الأمور فقد تكشف غماؤها بغير ~~احتيال ربما تجزع النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال وقال ابن المقفع في ~~كتاب اليتيمة : الصبر صبران : فاللئام أصبر أجساما ، والكرام أصبر نفوسا . # وليس الصبر الممدوح صاحبه أن يكون الرجل قوي الجسد على الكد والعمل ؛ لأن ~~هذا من صفات الحمير ، ولكن أن يكون للنفس غلوبا ، وللأمور متحملا ، ولجأشه ~~عند الحفاظ مرتبطا . # واعلم أن الصبر على ستة أقسام ، وهو في كل قسم منها محمود . # فأول أقسامه وأولاها : الصبر على امتثال ما أمر الله - تعالى - به ، ~~والانتهاء عما نهى الله عنه ؛ لأن به تخلص الطاعة وبها يصح الدين وتؤدى ~~الفروض ويستحق الثواب ، كما قال في محكم الكتاب : { إنما يوفى الصابرون ~~أجرهم بغير حساب } ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { الصبر من ~~الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد } . # وليس لمن قل صبره على طاعة حظ من بر ولا نصيب من صلاح ، ومن لم ير لنفسه ~~صبرا يكسبها ثوابا . # ويدفع عنها عقابا ، كان من سوء الاختيار بعيدا من الرشاد حقيقا بالضلال . # وقد قال الحسن البصري رحمه الله تعالى : يا من يطلب من الدنيا ما لا ~~يلحقه أترجو أن تلحق من الآخرة ما لا تطلبه . # وقال أبو العتاهية رحمه الله تعالى : أراك امرأ ترجو من الله عفوه وأنت ~~على ما لا يحب مقيم تدل على التقوى وأنت مقصر فيا من يداوي الناس وهو سقيم ~~وهذا النوع من الصبر إنما يكون لفرط PageV01P360 الجزع وشدة الخوف فإن من ~~خاف الله - عز وجل - وصبر على طاعته ، ومن جزع من عقابه وقف عند أوامره . ~~PageV01P361 والقسم الثاني : الصبر على ما تقتضيه أوقاته من رزية قد أجهده ~~الحزن عليها ، أو حادثة قد كده الهم بها فإن الصبر عليها يعقبه الراحة منها ~~، ويكسبه المثوبة عنها . # فإن صبر طائعا وإلا احتمل هما لازما وصبر كارها آثما . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ms233 : يقول الله تعالى : { من لم ~~يرض بقضائي ويصبر على بلائي فليختر ربا سواي } . # وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه للأشعث بن قيس : إنك إن صبرت جرى ~~عليك القلم وأنت مأجور ، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور . # وقد ذكر ذلك أبو تمام في شعره فقال : وقال علي في التعازي لأشعث وخاف ~~عليه بعض تلك المآثم : أتصبر للبلوى عزاء وخشية فتؤجر أو تسلو سلو البهائم ~~وقال شبيب بن شيبة للمهدي : إن أحق ما تصبر عليه ما لم تجد إلى دفعه سبيلا ~~. # وأنشد : ولئن تصبك مصيبة فاصبر لها عظمت مصيبة مبتل لا يصبر وقال آخر : ~~تصبرت مغلوبا وإني لموجع كما صبر الظمآن في البلد القفر وليس اصطباري عنك ~~صبر استطاعة ولكنه صبر أمر من الصبر PageV01P362 والقسم الثالث : الصبر على ~~ما فات إدراكه من رغبة مرجوة ، وأعوز نيله من مسرة مأمولة فإن الصبر عنها ~~يعقب السلو منها ، والأسف بعد اليأس خرق . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من أعطي فشكر ، ومنع فصبر ~~، وظلم فغفر ، وظلم فاستغفر ، فأولئك لهم الأمن وهم مهتدون } . # وقال بعض الحكماء : اجعل ما طلبته من الدنيا فلم تنله مثل ما لا يخطر ~~ببالك فلم تقله . # وقال بعض الشعراء : إذا ملك القضاء عليك أمرا فليس يحله غير القضاء فما ~~لك والمقام بدار ذل ودار العز واسعة الفضاء وقال بعض الحكماء : إن كنت تجزع ~~على ما فات من يدك فاجزع على ما لا يصل إليك . # فأخذه بعض الشعراء فقال : لا تطل الحزن على فائت فقلما يجدي عليك الحزن ~~سيان محزون على فائت ومضمر حزنا لما لم يكن PageV01P363 والقسم الرابع : ~~الصبر فيما يخشى حدوثه من رهبة يخافها ، أو يحذر حلوله من نكبة يخشاها فلا ~~يتعجل هم ما لم يأت ، فإن أكثر الهموم كاذبة وإن الأغلب من الخوف مدفوع . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { بالصبر يتوقع الفرج ومن ~~يدمن قرع باب يلج } . # وقال الحسن البصري رحمه الله : لا تحملن على يومك هم غدك ، فحسب ms234 كل يوم ~~همه . # وأنشد الجاحظ لحارثة بن زيد : إذا الهم أمسى وهو داء فأمضه ولست بممضيه ~~وأنت تعاذله ولا تنزلن أمر الشديدة بامرئ إذا هم أمرا عوقته عواذله وقل ~~للفؤاد إن تجد بك ثورة من الروع فافرح أكثر الهم باطله PageV01P364 والقسم ~~الخامس : الصبر فيما يتوقعه من رغبة يرجوها ، وينتظر من نعمة يأملها فإنه ~~إن أدهشه التوقع لها ، وأذهله التطلع إليها انسدت عليه سبل المطالب واستفزه ~~تسويل المطامع فكان أبعد لرجائه وأعظم لبلائه . # وإذا كان مع الرغبة وقورا وعند الطلب صبورا انجلت عنه عماية الدهش ~~وانجابت عنه حيرة الوله ، فأبصر رشده وعرف قصده . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الصبر ضياء } . # يعني - والله أعلم - أنه يكشف ظلم الحيرة ، ويوضح حقائق الأمور . # وقال أكثم بن صيفي : من صبر ظفر . # وقال ابن المقفع : كان مكتوبا في قصر أزدشير : الصبر مفتاح الدرك . # وقال بعض الحكماء : بحسن التأني تسهل المطالب . # وقال بعض البلغاء : من صبر نال المنى ، ومن شكر حصن النعمى . # وقال محمد بن بشير : إن الأمور إذا سدت مطالبها فالصبر يفتق منها كل ما ~~ارتتجا لا تيأسن وإن طالت مطالبة إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا أخلق بذي ~~الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا PageV01P365 والقسم ~~السادس : الصبر على ما نزل من مكروه أو حل من أمر مخوف . # فبالصبر في هذا تنفتح وجوه الآراء ، وتستدفع مكائد الأعداء ، فإن من قل ~~صبره عزب رأيه ، واشتد جزعه ، فصار صريع همومه ، وفريسة غمومه . # وقد قال الله تعالى : { واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } . # وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ~~{ إن استطعت أن تعمل لله بالرضى في اليقين فافعل ، وإن لم تستطع فاصبر فإن ~~في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا } . # واعلم أن النصر مع الصبر ، والفرج مع الكرب ، واليسر مع العسر . # وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الصبر مستأصل الحدثان ، والجزع من ~~أعوان الزمان . # وقال بعض الحكماء ms235 : بمفتاح عزيمة الصبر تعالج مغاليق الأمور . # وقال بعض البلغاء : عند انسداد الفرج تبدو مطالع الفرج . # وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن سليمان بن داود عليهما السلام لما استكد ~~شياطينه في البناء شكوا ذلك إلى إبليس ، لعنه الله ، فقال : ألستم تذهبون ~~فرغا وترجعون مشاغيل ؟ قالوا : بلى . # قال : ففي ذلك راحة . # فبلغ ذلك سليمان - على نبينا وعليه السلام - فشغلهم ذاهبين وراجعين فشكوا ~~ذلك إلى إبليس ، لعنه الله ، فقال : ألستم تستريحون بالليل ؟ قالوا : بلى . # قال ففي هذا راحة لكم نصف دهركم . # فبلغ ذلك سليمان رضي الله عنه فشغلهم بالليل والنهار ، فشكوا ذلك إلى ~~إبليس ، لعنه الله ، فقال : الآن جاءكم الفرج ، فما لبث أن أصيب سليمان ~~عليه السلام ميتا على عصاه . # فإذا PageV01P366 كان هذا في نبي من أنبياء الله يعمل بأمره ويقف على حده ~~فكيف بما جرت به الأقدار من أيد عادية ، وساقه القضاء من حوادث نازلة ، هل ~~تكون مع التناهي إلا منقرضة وعند بلوغ الغاية إلا منحسرة ؟ وأنشد بعض ~~الأدباء لعثمان بن عفان رضي الله عنه : خليلي لا والله ما من ملمة تدوم على ~~حي وإن هي جلت فإن نزلت يوما فلا تخضعن لها ولا تكثر الشكوى إذا النعل زلت ~~فكم من كريم قد بلي بنوائب فصابرها حتى مضت واضمحلت وكم غمرة هاجت بأمواج ~~غمرة تلقيتها بالصبر حتى تجلت وكانت على الأيام نفسي عزيزة فلما رأت صبري ~~على الذل ذلت فقلت لها : يا نفس موتي كريمة فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت ~~PageV01P367 ولتسهيل المصائب وتخفيف الشدائد أسباب إذا قارنت حزما ، وصادفت ~~عزما . # هان وقعها ، وقل تأثيرها وضررها . # فمنها : إشعار النفس بما تعلمه من نزول الفناء وتقضي المسر وأن لها آجالا ~~منصرمة ومددا منقضية ، إذ ليس للدنيا حال تدوم ولا لمخلوق فيها بقاء . # وروى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما ~~مثلي ومثل الدنيا إلا كمثل راكب مال إلى ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها ~~} . # وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ms236 الدنيا فقال : تغر وتضر وتمر . # وسأل بعض خلفاء بني العباس جليسا له عن الدنيا فقال : إذا أقبلت أدبرت . # وقال عمرو بن عبيد : الدنيا أمد والآخرة أبد . # وقال أنوشروان : إن أحببت أن لا تغتم فلا تقتن ما به تهتم . # فأخذه بعض الشعراء فقال : ألم تر أن الدهر من سوء فعله يكدر ما أعطى ~~ويسلب ما أسدى فمن سره أن لا يرى ما يسوءه فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا ~~وأنشد بعض الحكماء : لحكيمنا بقراط خير قضية ووصية تنفي الهموم الركدا قال ~~الهموم تكون من طبع الورى في لبث ما في طبعه أن ينفدا فإذا اقتنيت من ~~الزجاجة قابلا للكسر فانكسرت فلا تك مكمدا وأنشدني بعض أهل العلم لسعيد بن ~~مسلم : إنما الدنيا هبات وعوار مسترده شدة بعد رخاء ورخاء بعد شده ولما قتل ~~بزرجمهر وجد في جيب قميصه رقعة فيها مكتوب : إذا لم يكن جد ففيم الكد ، وإن ~~لم يكن للأمر دوام ففيم السرور ، وإذا لم يرد الله دوام ملك ففيم الحيلة . # وقال ابن الرومي : رأيت PageV01P368 حياة المرء رهنا بموته وصحته رهنا ~~كذلك بالسقم إذا طاب لي عيش تنغص طيبه بصدق يقيني أن سيذهب كالحلم ومن كان ~~في عيش يراعي زواله فذلك في بؤس وإن كان في نعم ومنها : أن يتصور انجلاء ~~الشدائد وانكشاف الهموم ، وأنها تقدر بأوقات لا تنصرم قبلها ، ولا تستديم ~~بعدها ، فلا تقصر بجزع ولا تطول بصبر ، وأن كل يوم يمر بها يذهب منها بشطر ~~ويأخذ منها بنصيب ، حتى تنجلي وهو عنها غافل . # وحكي أن الرشيد حبس رجلا ثم سأل عنه بعد زمان ، فقال للمتوكل به : قل له ~~كل يوم يمضي من نعمه يمضي من بؤسي مثله ، والأمر قريب والحكم لله تعالى . # فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال : لو أن ما أنتمو فيه يدوم لكم ظننت ما ~~أنا فيه دائما أبدا لكنني عالم أني وأنكم سنستجدي خلاف الحالتين غدا وأنشد ~~عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين حضرته الوفاة : ألم تر أن ربك ليس تحصى ~~أياديه الحديثة والقديمه ms237 تسل عن الهموم فليس شيء يقوم ولا همومك بالمقيمه ~~لعل الله ينظر بعد هذا إليك بنظرة منه رحيمه ومنها : أن يعلم أن في ما وقي ~~من الرزايا ، وكفي من الحوادث ، ما هو أعظم من رزيته وأشد من حادثته ؛ ~~ليعلم أنه ممنوح بحسن الدفاع . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إن لله تعالى في أثناء كل محنة ~~منحة } . # وقيل للشعبي في نائبة كيف أصبحت ؟ قال : بين نعمتين : خير منشور وشر ~~مستور . # وقال بعض الشعراء : لا تكره المكروه عند حوله إن العواقب لم تزل متباينه ~~كم نعمة لا تستقل PageV01P369 بشكرها لله في طي المكاره كامنه ومنها : أن ~~يتأسى بذوي الغير ، ويتسلى بأولي العبر . # ويعلم أنهم الأكثرون عددا والأسرعون مددا ، فيستجد من سلوة الأسى وحسن ~~العزا ما يخفف شجوه ، ويقل هلعه . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ألصقوا بذوي الغير تتسع قلوبكم . # وعلى مثل ذلك كانت مراثي الشعراء . # قال البحتري : فلا عجب للأسد إن ظفرت بها كلاب الأعادي من فصيح وأعجمي ~~فحربة وحشي سقت حمزة الردى وموت علي من حسام ابن ملجم وقال أبو نواس : ~~المرء بين مصائب لا تنقضي حتى يوارى جسمه في رمسه فمؤجل يلقى الردى في أهله ~~ومعجل يلقى الردى في نفسه ومنها : أن يعلم أن النعم زائرة ، وأنها لا محالة ~~زائلة ، وأن السرور بها إذا أقبلت مشوب بالحذر من فراقها إذا أدبرت ، وأنها ~~لا تفرح بإقبالها فرحا حتى تعقب بفراقها ترحا ، فعلى قدر السرور يكون الحزن ~~. # وقد قيل في منثور الحكم : المفروح به هو المحزون عليه . # وقيل : من بلغ غاية ما يحب فليتوقع غاية ما يكره . # وقال بعض الحكماء : من علم أن كل نائبة إلى انقضاء حسن عزاؤه عند نزول ~~البلاء . # وقيل للحسن البصري رحمه الله : كيف ترى الدنيا ؟ قال : شغلني توقع بلائها ~~عن الفرح برخائها . # فأخذه أبو العتاهية فقال : تزيده الأيام إن أقبلت شدة خوف لتصاريفها ~~كأنها في حال إسعافها تسمعه وقع تخويفها ومنها : أن يعلم أن سروره مقرون ~~بمساءة غيره ، وكذلك حزنه مقرون بسرور غيره ms238 . # إذ كانت الدنيا تنقل من صاحب إلى صاحب ، وتصل صاحبا PageV01P370 بفراق ~~صاحب . # فتكون سرورا لمن وصلته وحزنا لمن فارقته . # وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ما قرعت عصا على عصا إلا فرح لها ~~قوم وحزن آخرون } . # وقال البحتري : متى أرت الدنيا نباهة خامل فلا ترتقب إلا خمول نبيه وقال ~~المتنبي : بذا قضت الأيام ما بين أهلها مصائب قوم عند قوم فوائد وأنشد بعض ~~أهل الأدب : ألا إنما الدنيا غضارة أيكة إذا اخضر منها جانب جف جانب فلا ~~تفرحن منها لشيء تفيده سيذهب يوما مثل ما أنت ذاهب وما هذه الأيام إلا ~~فجائع وما العيش واللذات إلا مصائب ومنها : أن يعلم أن طوارق الإنسان من ~~دلائل فضله ، ومحنه من شواهد نبله . # ولذلك إحدى علتين : إما ؛ لأن الكمال معوز والنقص لازم ، فإذا تواتر ~~الفضل عليه صار النقص فيما سواه . # وقد قيل : من زاد في عقله نقص من رزقه . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما انتقصت جارحة من إنسان ~~إلا كانت ذكاء في عقله } . # وقال أبو العتاهية : ما جاوز المرء من أطرافه طرفا إلا تخونه النقصان من ~~طرف وأنشدني بعض أهل الأدب ، لإبراهيم بن هلال الكاتب : إذا جمعت بين ~~امرأين صناعة فأحببت أن تدري الذي هو أحذق فلا تتفقد منهما غير ما جرت به ~~لهما الأرزاق حين تفرق فحيث يكون النقص فالرزق واسع وحيث يكون الفضل فالرزق ~~ضيق وإما ؛ لأن ذا الفضل محسود ، وبالأذى مقصود ، فلا يسلم في بره من معاد ~~واشتطاط مناو . # وقال الصنوبري : محن الفتى يخبرن عن فضل الفتى كالنار مخبرة بفضل العنبر ~~وقلما تكون محنة PageV01P371 فاضل إلا من جهة ناقص ، وبلوى عالم إلا على يد ~~جاهل . # وذلك لاستحكام العداوة بينهما بالمباينة ، وحدوث الانتقام ؛ لأجل التقدم ~~. # وقد قال الشاعر : فلا غرو أن يمنى عليم بجاهل فمن ذنب التنين تنكسف الشمس ~~ومنها : ما يعتاضه من الارتياض بنوائب عصره ، ويستفيده من الحنكة ببلاء ~~دهره ، فيصلب عوده ويستقيم عموده ، ويكمل بأدنى شدته ورخائه ، ويتعظ بحالتي ~~عفوه وبلائه . # حكي عن ms239 ثعلب قال : دخلت على عبيد الله بن سليمان بن وهب وعليه خلع الرضا ~~بعد النكبة فلما مثلت بين يديه قال لي : يا أبا العباس اسمع ما أقول : ~~نوائب الدهر أدبتني وإنما يوعظ الأديب قد ذقت حلوا وذقت مرا كذاك عيش الفتى ~~ضروب لم يمض بؤس ولا نعيم إلا ولي فيهما نصيب كذاك من صاحب الليالي تغدوه ~~من درها الخطوب فقلت : لمن هذه الأبيات ؟ قال : لي . # ومنها : أن يختبر أمور زمانه ، ويتنبه على صلاح شأنه ، فلا يغتر برخاء ، ~~ولا يطمع في استواء ، ولا يؤمل أن تبقى الدنيا على حالة ، أو تخلو من تقلب ~~واستحالة ، فإن من عرف الدنيا وخبر أحوالها هان عليه بؤسها ونعيمها . # وأنشد بعض الأدباء : إني رأيت عواقب الدنيا فتركت ما أهوى لما أخشى فكرت ~~في الدنيا وعالمها فإذا جميع أمورها تفنى وبلوت أكثر أهلها فإذا كل امرئ في ~~شأنه يسعى أسنى منازلها وأرفعها في العز أقربها من المهوى تعفو مساويها ~~محاسنها لا فرق بين النعي والبشرى ولقد مررت على القبور فما ميزت بين العبد ~~والمولى أتراك تدري كم رأيت من الأحياء ثم PageV01P372 رأيتهم موتى فإذا ~~ظفر المصاب بأحد هذه الأسباب تخففت عنه أحزانه ، وتسهلت عليه أشجانه ، فصار ~~وشيك السلوة قليل الجزع حسن العزاء . # وقال بعض الحكماء : من حاذر لم يهلع ، ومن راقب لم يجزع ، ومن كان متوقعا ~~لم يكن متوجعا . # وقال بعض الشعراء : ما يكون الأمر سهلا كله إنما الدنيا سرور وحزون هون ~~الأمر تعش في راحة قل ما هونت إلا سيهون تطلب الراحة في دار الفنا ضل من ~~يطلب شيئا لا يكون فإن أغفل نفسه عن دواعي السلوة ومنعها من أسباب الصبر ، ~~تضاعف عليه من شدة الأسى وهم الجزع ما لا يطيق عليه صبرا ولا يجد عنه سلوا ~~. # وقال ابن الرومي : إن البلاء يطاق غير مضاعف فإذا تضاعف صار غير مطاق ~~فإذا ساعده جزعه بالأسباب الباعثة عليه ، وأمده هلعه بالذرائع الداعية إليه ~~، فقد سعى في حتفه وأعان على تلفه . # فمن أسباب ذلك : تذكر المصاب حتى لا يتناساه ms240 ، وتصوره حتى لا يعزب عنه ، ~~ولا يجد من التذكار سلوة ، ولا يخلط مع التصور تعزية . # وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا تستفزوا الدموع بالتذكر . # وقال الشاعر : ولا يبعث الأحزان مثل التذكر ومنها : الأسف وشدة الحسرة ~~فلا يرى من مصابه خلفا ، ولا يجد لمفقوده بدلا ، فيزداد بالأسف ولها ، ~~وبالحسرة هلعا . # ولذلك قال الله تعالى : { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ~~} . # وقال بعض الشعراء : إذا بليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو ~~الله إذا قضى الله فاستسلم لقدرته ما لامرئ حيلة فيما قضى الله PageV01P373 ~~اليأس يقطع أحيانا بصاحبه لا تيأسن فإن الصانع الله ومنها : كثرة الشكوى ~~وبث الجزع . # فقد قيل في قوله تعالى : { فاصبر صبرا جميلا } . # إنه الصبر الذي لا شكوى فيه ولا بث . # روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ما صبر من بث } . # وحكى كعب الأحبار أنه مكتوب في التوراة : من أصابته مصيبة فشكا إلى الناس ~~فإنما يشكو ربه . # وحكي أن أعرابية دخلت من البادية فسمعت صراخا في دار فقالت : ما هذا ؟ ~~فقيل لها : مات لهم إنسان . # فقالت : ما أراهم إلا من ربهم يستغيثون ، وبقضائه يتبرمون ، وعن ثوابه ~~يرغبون . # وقد قيل في منثور الحكم : من ضاق قلبه اتسع لسانه . # وأنشد بعض أهل العلم : لا تكثر الشكوى إلى الصديق وارجع إلى الخالق لا ~~المخلوق لا يخرج الغريق بالغريق وقال بعض الشعراء : لا تشك دهرك ما صححت به ~~إن الغنى هو صحة الجسم هبك الخليفة كنت منتفعا بغضارة الدنيا مع السقم ~~ومنها : اليأس من خير مصابه ، ودرك طلابه ، فيقترن بحزن الحادثة قنوط ~~الإياس فلا يبقى معها صبر ، ولا يتسع لها صدر . # وقد قيل : المصيبة بالصبر أعظم المصيبتين . # وقال ابن الرومي : اصبري أيتها النفس فإن الصبر أحجى ربما خاب رجاء وأتى ~~ما ليس يرجى وأنشدني بعض أهل العلم : أتحسب أن البؤس للحر دائم ولو دام شيء ~~عده الناس في العجب لقد عرفتك الحادثات ببؤسها وقد أدبت إن كان ينفعك الأدب ms241 ~~ولو طلب الإنسان من صرف دهره دوام الذي يخشى لأعياه ما طلب ومنها : أن يعرى ~~بملاحظة من حيطت سلامته وحرست PageV01P374 نعمته حتى التحف بالأمن والدعة ، ~~واستمتع بالثروة والسعة . # ويرى أنه قد خص من بينهم بالرزية بعد أن كان مساويا ، وأفرد بالحادثة بعد ~~أن كان مكافيا ، فلا يستطيع صبرا على بلوى ، ولا يلزم شكرا على نعمى . # ولو قابل بهذه النظرة ملاحظة من شاركه في الرزية وساواه في الحادثة ~~لتكافأ الأمران فهان عليه الصبر وحان منه الفرج . # وأنشدت لامرأة من العرب : أيها الإنسان صبرا إن بعد العسر يسرا كم رأينا ~~اليوم حرا لم يك بالأمس حرا ملك الصبر فأضحى مالكا خيرا وشرا اشرب الصبر ~~وإن كان من الصبر أمرا وأنشدت لبعض أهل الأدب : يراع الفتى للخطب تبدو ~~صدوره فيأسى وفي عقباه يأتي سروره ألم تر أن الليل لما تراكمت دجاه بدا وجه ~~الصباح ونوره فلا تصحبن اليأس إن كنت عالما لبيبا فإن الدهر شتى أموره ~~واعلم أنه قل من صبر على حادثة وتماسك في نكبة إلا أن انكشافها وشيكا ، ~~وكان الفرج منه قريبا . # أخبرني بعض أهل الأدب أن أبا أيوب الكاتب حبس في السجن خمس عشرة سنة حتى ~~ضاقت حيلته وقل صبره فكتب إلى بعض إخوانه يشكو له طول حبسه ، فرد عليه جواب ~~رقعته بهذا : صبرا أبا أيوب صبر مبرح فإذا عجزت عن الخطوب فمن لها إن الذي ~~عقد الذي انعقدت له عقد المكاره فيك يملك حلها صبرا فإن الصبر يعقب راحة ~~ولعلها أن تنجلي ولعلها فأجابه أبو أيوب يقول : صبرتني ووعظتني وأنا لها ~~وستنجلي بل لا أقول لعلها ويحلها من كان صاحب عقدها كرما به إذ كان يملك ~~حلها فلم يلبث بعد ذلك PageV01P375 في السجن إلا أياما حتى أطلق مكرما . # وأنشد ابن دريد عن أبي حاتم : إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق لما به ~~الصدر الرحيب وأوطنت المكاره واطمأنت وأرست في مكانتها الخطوب ولم تر ~~لانكشاف الضر وجها ولا أغنى بحيلته الأريب أتاك على قنوط منك غوث يمن به ~~اللطيف المستجيب ms242 وكل الحادثات إذا تناهت فموصول بها الفرج القريب . ~~PageV01P376 الفصل الثالث في المشورة اعلم أن من الحزم لكل ذي لب أن لا ~~يبرم أمرا ولا يمضي عزما إلا بمشورة ذي الرأي الناصح ، ومطالعة ذي العقل ~~الراجح . # فإن الله تعالى أمر بالمشورة نبيه صلى الله عليه وسلم مع ما تكفل به من ~~إرشاده ، ووعد به من تأييده ، فقال تعالى : { وشاورهم في الأمر } . # قال قتادة : أمره بمشاورتهم تألفا لهم وتطييبا لأنفسهم . # وقال الضحاك : أمره بمشاورتهم لما علم فيها من الفضل . # وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى : أمره بمشاورتهم ليستن به المسلمون ~~ويتبعه فيها المؤمنون وإن كان عن مشورتهم غنيا . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { المشورة حصن من الندامة ، ~~وأمان من الملامة } . # وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : نعم المؤازرة المشاورة وبئس ~~الاستعداد الاستبداد . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الرجال ثلاثة : رجل ترد عليه الأمور ~~فيسددها برأيه ، ورجل يشاور فيما أشكل عليه وينزل حيث يأمره أهل الرأي ، ~~ورجل حائر بأمره لا يأتمر رشدا ولا يطيع مرشدا . # وقال عمر بن عبد العزيز : إن المشورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا بركة ~~لا يضل معهما رأي ولا يفقد معهما حزم . # وقال سيف بن ذي يزن : من أعجب برأيه لم يشاور ، ومن استبد برأيه كان من ~~الصواب بعيدا . # وقال عبد الحميد : المشاور في رأيه ناظر من ورائه . # وقيل في منثور الحكم : المشاورة راحة لك وتعب على غيرك . # وقال بعض الحكماء : الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه . ~~PageV01P377 وقال بعض الأدباء : ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار . # وقال بعض البلغاء : من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء ، ويجمع ~~إلى عقله عقول الحكماء ، فالرأي الفذ ربما زل والعقل الفرد ربما ضل . # وقال بشار بن برد : إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن برأي نصيح أو نصيحة ~~حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة فإن الخوافي قوة للقوادم PageV01P378 فإذا ~~عزم على المشاورة ارتاد لها من أهلها من قد استكملت فيه خمس خصال ms243 : إحداهن ~~: عقل كامل مع تجربة سالفة فإن بكثرة التجارب تصح الروية . # وقد روى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ~~أنه قال : { استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا } . # وقال عبد الله بن الحسن لابنه محمد : احذر مشورة الجاهل وإن كان ناصحا ~~كما تحذر عداوة العاقل إذا كان عدوا فإنه يوشك أن يورطك بمشورته فيسبق إليك ~~مكر العاقل وتوريط الجاهل . # وقيل لرجل من عبس : ما أكثر صوابكم ؟ قال : نحن ألف رجل وفينا حازم ونحن ~~نطيعه فكأنا ألف حازم . # وكان يقال : إياك ومشاورة رجلين : شاب معجب بنفسه قليل التجارب في غيره ، ~~أو كبير قد أخذ الدهر من عقله كما أخذ من جسمه . # وقيل في منثور الحكم : كل شيء يحتاج إلى العقل ، والعقل يحتاج إلى ~~التجارب . # ولذلك قيل : الأيام تهتك لك عن الأستار الكامنة . # وقال بعض الحكماء : التجارب ليس لها غاية ، والعاقل منها في زيادة . # وقال بعض الحكماء : من استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول . # وقال أبو الأسود الدؤلي : وما كل ذي نصح بمؤتيك نصحه ولا كل مؤت نصحه ~~بلبيب ولكن إذا ما استجمعا عند صاحب فحق له من طاعة بنصيب والخصلة الثانية ~~: أن يكون ذا دين وتقى ، فإن ذلك عماد كل صلاح وباب كل نجاح . # ومن غلب عليه الدين فهو مأمون السريرة موفق العزيمة . # روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه ~~وسلم : { من أراد PageV01P379 أمرا فشاور فيه امرأ مسلما وفقه الله لأرشد ~~أموره } . # والخصلة الثالثة : أن يكون ناصحا ودودا ، فإن النصح والمودة يصدقان ~~الفكرة ويمحضان الرأي . # وقال بعض الحكماء : لا تشاور إلا الحازم غير الحسود ، واللبيب غير الحقود ~~، وإياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى الأفن ، وعزمهن إلى الوهن . # وقال بعض الأدباء : مشورة المشفق الحازم ظفر ، ومشورة غير الحازم خطر . # وقال بعض الشعراء : أصف ضميرا لمن تعاشره واسكن إلى ناصح تشاوره وارض من ~~المرء في مودته بما يؤدي إليك ظاهره من يكشف الناس لا يجد أحدا تصح منهم له ms244 ~~سرائره أوشك أن لا يدوم وصل أخ في كل زلاته تنافره والخصلة الرابعة : أن ~~يكون سليم الفكر من هم قاطع ، وغم شاغل ، فإن من عارضت فكره شوائب الهموم ~~لا يسلم له رأي ولا يستقيم له خاطر . # وقد قيل في منثور الحكم : كل شيء يحتاج إلى العقل والعقل يحتاج إلى ~~التجارب . # وكان كسرى إذا دهمه أمر بعث إلى مرازبته فاستشارهم فإن قصروا في الرأي ~~ضرب قهارمته وقال : أبطأتم بأرزاقهم فأخطئوا في آرائهم . # وقال صالح بن عبد القدوس : ولا مشير كذي نصح ومقدرة في مشكل الأمر فاختر ~~ذاك منتصحا والخصلة الخامسة : أن لا يكون له في الأمر المستشار غرض يتابعه ~~، ولا هوى يساعده ، فإن الأغراض جاذبة والهوى صاد ، والرأي إذا عارضه الهوى ~~وجاذبته الأغراض فسد . # وقد قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب : وقد يحكم الأيام من كان ~~جاهلا ويردي الهوى ذا الرأي وهو لبيب ويحمد في الأمر الفتى PageV01P380 وهو ~~مخطئ ويعذل في الإحسان وهو مصيب فإذا استكملت هذه الخصال الخمس في رجل كان ~~أهلا للمشورة ومعدنا للرأي ، فلا تعدل عن استشارته اعتمادا على ما تتوهمه ~~من فضل رأيك ، وثقة بما تستشعره من صحة رويتك ، فإن رأي غير ذي الحاجة أسلم ~~، وهو من الصواب أقرب ، لخلوص الفكر وخلو الخاطر مع عدم الهوى وارتفاع ~~الشهوة . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { رأس العقل بعد الإيمان ~~بالله التودد إلى الناس ، وما استغنى مستبد برأيه ، وما هلك أحد عن مشورة ، ~~فإذا أراد الله بعبد هلكة كان أول ما يهلكه رأيه } . # وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من ~~استغنى برأيه . # وقال لقمان الحكيم لابنه : شاور من جرب الأمور فإنه يعطيك من رأيه ما قام ~~عليه بالغلاء وأنت تأخذه مجانا . # وقال بعض الحكماء : نصف رأيك مع أخيك فشاوره ليكمل لك الرأي . # وقال بعض الأدباء : من استغنى برأيه ضل ، ومن اكتفى بعقله زل . # وقال بعض البلغاء : الخطأ مع الاسترشاد أحمد من الصواب مع الاستبداد . # وقال ms245 الشاعر : خليلي ليس الرأي في صدر واحد أشيرا علي بالذي تريان ولا ~~ينبغي أن يتصور في نفسه أنه إن شاور في أمره ظهر للناس ضعف رأيه ، وفساد ~~رويته ، حتى افتقر إلى رأي غيره . # فإن هذه معاذير النوكى وليس يراد الرأي للمباهاة به وإنما يراد للانتفاع ~~بنتيجته والتحرز من الخطأ عند زلله . # وكيف يكون عارا ما أدى إلى صواب وصد عن خطأ . # وقد روي عن النبي صلى PageV01P381 الله عليه وسلم أنه قال : { لقحوا ~~عقولكم بالمذاكرة ، واستعينوا على أموركم بالمشاورة } . # وقال بعض الحكماء : من كمال عقلك استظهارك على عقلك . # وقال بعض البلغاء : إذا أشكلت عليك الأمور وتغير لك الجمهور فارجع إلى ~~رأي العقلاء ، وافزع إلى استشارة العلماء ، ولا تأنف من الاسترشاد ، ولا ~~تستنكف من الاستمداد . # فلأن تسأل وتسلم خير لك من أن تستبد وتندم . # وينبغي أن تكثر من استشارة ذوي الألباب لا سيما في الأمر الجليل فقلما ~~يضل عن الجماعة رأي ، أو يذهب عنهم صواب ، لإرسال الخواطر الثاقبة وإجالة ~~الأفكار الصادقة فلا يعزب عنها ممكن ولا يخفى عليها جائز . # وقد قيل في منثور الحكم : من أكثر المشورة لم يعدم عند الصواب مادحا ، ~~وعند الخطأ عاذرا ، وإن كان الخطأ من الجماعة بعيدا . # فإذا استشار الجماعة فقد اختلف أهل الرأي في اجتماعهم عليه وانفراد كل ~~واحد منهم به . # فمذهب الفرس أن الأولى اجتماعهم على الارتياء وإجالة الفكر ليذكر كل واحد ~~منهم ما قدحه خاطره ، وأنتجه فكره حتى إذا كان فيه قدح عورض ، أو توجه عليه ~~رد نوقض ، كالجدل الذي تكون فيه المناظرة ، وتقع فيه المنازعة والمشاجرة ، ~~فإنه لا يبقى فيه مع اجتماع القرائح عليه خلل إلا ظهر ، ولا زلل إلا بان . # وذهب غيرهم من أصناف الأمم إلى أن الأولى استسرار كل واحد بالمشورة ليجيل ~~كل واحد منهم فكره في الرأي طمعا في الحظوة بالصواب ، فإن القرائح إذا ~~انفردت استكدها الفكر واستفرغها الاجتهاد ، وإذا اجتمعت PageV01P382 فوضت ~~وكان الأول من بدائها متبوعا . # ولكل واحد من المذهبين وجه ، ووجه الثاني أظهر . # والذي أراه في الأولى غير هذين ms246 المذهبين على الإطلاق ، ولكن ينظر في ~~الشورى فإن كانت في حال واحدة هل هي صواب أم خطأ كان اجتماعهم عليها أولى ؛ ~~لأن ما تردد بين أمرين فالمراد منه الاعتراض على فساده ، أو ظهور الحجة في ~~صلاحه . # وهذا مع الاجتماع أبلغ ، وعند المناظرة أوضح ، وإن كانت الشورى في خطب قد ~~استبهم صوابه ، واستعجم جوابه ، من أمور خافية وأحوال غامضة لم يحصرها عدد ~~ولم يجمعها تقسيم ولا عرف لها جواب يكشف عن خطئه وصوابه . # فالأولى في مثله انفراد كل واحد بفكره ، وخلوه بخاطره ، ليجتهد في الجواب ~~ثم يقع الكشف عنه أخطأ هو أم صواب ، فيكون الاجتهاد في الجواب منفردا ~~والكشف عن الصواب مجتمعا ؛ لأن الانفراد في الاجتهاد أصح ، والاجتماع على ~~المناظرة أبلغ ، فهكذا . # هذا وينبغي أن يسلم أهل الشورى من حسد أو تنافس ، فيمنعهم من تسليم ~~الصواب لصاحبه . # ثم يعرض المستشير ذلك على نفسه مع مشاركتهم في الارتياء والاجتهاد فإذا ~~تصفح أقاويل جميعهم كشف عن أصولها وأسبابها ، وبحث عن نتائجها وعواقبها ، ~~حتى لا يكون في الأمر مقلدا ولا في الرأي مفوضا ، فإنه يستفيد بذلك مع ~~ارتياضه بالاجتهاد ثلاث خصال : إحداهن : معرفة عقله وصحة رويته . # والثانية : معرفة عقل صاحبه وصواب رأيه . # والثالثة : وضوح ما استعجم من الرأي وافتتاح ما أغلق من الصواب . # فإذا تقرر له الرأي أمضاه فلم PageV01P383 يؤاخذهم بعواقب الإكداء فيه ، ~~فإن ما على الناصح الاجتهاد ، وليس عليه ضمان النجح لا سيما والمقادير ~~غالبة . # ومتى عرف منه تعقب المشير وكل إلى رأيه ، وأسلم إلى نفسه ، فصار فردا لا ~~يعان برأي ولا يمد بمشورة . # وقد قالت الفرس في حكمها : أضعف الحيلة خير من أقوى الشدة . # وأقل التأني خير من أكثر العجلة ، والدولة رسول القضاء المبرم . # وإذا استبد الملك برأيه عميت عليه المراشد . # وإذا ظفر برأي من خامل لا يراه للرأي أهلا ولا للمشورة مستوجبا اغتنمه ~~عفوا فإن الرأي كالضالة تؤخذ أين وجدت ، ولا يهون لمهانة صاحبه فيطرح ، فإن ~~الدرة لا يضعها مهانة غائصها ، والضالة لا تترك لذلة واجدها . # وليس يراد الرأي لمكان المشير ms247 به فيراعى قدره وإنما يراد لانتفاع ~~المستشير . # وأنشد أبو العيناء عن الأصمعي : النصح أرخص ما باع الرجال فلا تردد على ~~ناصح نصحا ولا تلم إن النصائح لا تخفى مناهجها على الرجال ذوي الألباب ~~والفهم ثم لا وجه لمن تقرر له رأي أن يني في إمضائه ، فإن الزمان غادر ~~والفرص منتهزة والثقة عجز . # وقيل لملك زال عنه ملكه : ما الذي سلبك ملكك ؟ قال : تأخيري عمل اليوم ~~لغد . # وقال الشاعر : إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ولا تك بالترداد للرأي مفسدا ~~فإني رأيت الريب في العزم هجنة وإنفاذ ذي الرأي العزيمة أرشدا PageV01P384 ~~وينبغي لمن أنزل منزلة المستشار وأحل محل الناصح المواد حتى صار مأمول ~~النجح ، مرجو الصواب ، أن يؤدي حق هذه النعمة بإخلاص السريرة ، ويكافئ على ~~الاستسلام ببذل النصح . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن من حق المسلم على ~~المسلم إذا استنصحه أن ينصحه } . # وربما أبطرته المشاورة فأعجب برأيه فاحذره في المشاورة فليس للمعجب رأي ~~صحيح ولا روية سليمة ، وربما شح في الرأي لعداوة أو حسد فورى أو مكر فاحذر ~~العدو ولا تثق بحسود . # ولا عذر لمن استشاره عدو أو صديق أن يكتم رأيا وقد استرشد ولا أن يخون ~~وقد اؤتمن . # روى محمد بن المنكدر عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ~~قال : { المستشير والمستشار مؤتمن } . # وقال سليمان بن دريد : وأجب أخاك إذا استشارك ناصحا وعلى أخيك نصيحة لا ~~تردد ولا ينبغي أن يشير قبل أن يستشار إلا فيما مس ، ولا أن يتبرع بالرأي ~~إلا فيما لزم ، فإنه لا ينفك من أن يكون رأيه متهما أو مطرحا ، وفي أي هذين ~~كان وصمة . # وإنما يكون الرأي مقبولا إذا كان عن رغبة وطلب ، أو كان لباعث وسبب . # روى أبو بلال العجلي ، عن حذيفة بن اليمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ~~أنه قال : { قال لقمان لابنه : يا بني إذا استشهدت فاشهد ، وإذا استعنت ~~فأعن ، وإذا استشرت فلا تعجل حتى تنظر } . # وقال بيهس الكلابي : من ms248 الناس من إن يستشرك فتجتهد له الرأي يستغششك ما ~~لا تبايعه فلا تمنحن الرأي من ليس أهله فلا PageV01P385 أنت محمود ولا ~~الرأي نافعه PageV01P386 كتمان السر الفصل الرابع في كتمان السر : اعلم أن ~~كتمان الأسرار من أقوى أسباب النجاح ، وأدوم لأحوال الصلاح . # روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { استعينوا على الحاجات ~~بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود } . # وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : سرك أسيرك فإن تكلمت به صرت أسيره ~~. # وقال بعض الحكماء لابنه : يا بني كن جوادا بالمال في موضع الحق ، ضنينا ~~بالأسرار عن جميع الخلق . # فإن أحمد جود المرء الإنفاق في وجه البر ، والبخل بمكتوم السر . # وقال بعض الأدباء : من كتم سره كان الخيار إليه ، ومن أفشاه كان الخيار ~~عليه . # وقال بعض البلغاء : ما أسرك ما كتمت سرك . # وقال بعض الفصحاء : ما لم تغيبه الأضالع فهو مكشوف ضائع . # وقال بعض الشعراء ، وهو أنس بن أسيد : ولا تفش سرك إلا إليك فإن لكل نصيح ~~نصيحا فإني رأيت وشاة الرجال لا يتركون أديما صحيحا وكم من إظهار سر أراق ~~دم صاحبه ، ومنع من نيل مطالبه ، ولو كتمه كان من سطوته آمنا ، وفي عواقبه ~~سالما ، ولنجاح حوائجه راجيا . # وقال أنوشروان : من حصن سره فله بتحصينه خصلتان : الظفر بحاجته ، ~~والسلامة من السطوات . # وإظهار الرجل سر غيره أقبح من إظهاره سر نفسه ؛ لأنه يبوء بإحدى وصمتين : ~~الخيانة إن كان مؤتمنا ، أو النميمة إن كان مستودعا . # فأما الضرر فربما استويا فيه وتفاضلا . # وكلاهما مذموم ، وهو فيهما ملوم . # وفي الاسترسال بإبداء السر دلائل على ثلاثة أحوال مذمومة : إحداها : ضيق ~~الصدر ، وقلة الصبر ، حتى أنه PageV01P387 لم يتسع لسر ، ولم يقدر على صبر ~~. # وقال الشاعر : إذا المرء أفشى سره بلسانه ولام عليه غيره فهو أحمق إذا ~~ضاق صدر المرء عن سر نفسه فصدر الذي يستودع السر أضيق والثانية : الغفلة عن ~~تحذر العقلاء ، والسهو عن يقظة الأذكياء . # وقد قال بعض الحكماء : انفرد بسرك ولا تودعه حازما فيزل ، ولا جاهلا ~~فيخون . # والثالثة : ما ارتكبه من ms249 الغدر ، واستعمله من الخطر . # وقال بعض الحكماء : سرك من دمك فإذا تكلمت به فقد أرقته . # واعلم أن من الأسرار ما لا يستغنى فيه عن مطالعة صديق مساهم ، واستشارة ~~ناصح مسالم . # فليختر العاقل لسره أمينا إن لم يجد إلى كتمه سبيلا ، وليتحر في اختيار ~~من يأتمنه عليه ويستودعه إياه . # فليس كل من كان على الأموال أمينا كان على الأسرار مؤتمنا . # والعفة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار ؛ لأن الإنسان قد يذيع ~~سر نفسه ببادرة لسانه ، وسقط كلامه ، ويشح باليسير من ماله ، حفظا له وضنا ~~به ، ولا يرى ما أذاع من سره كبيرا في جنب ما حفظه من يسير ماله مع عظم ~~الضرر الداخل عليه . # فمن أجل ذلك كان أمناء الأسرار أشد تعذرا وأقل وجودا من أمناء الأموال . # وكان حفظ المال أيسر من كتم الأسرار ؛ لأن إحراز الأموال منيعة وإحراز ~~الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق ، ويشيعها كلام سابق . # وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : القلوب أوعية الأسرار ، والشفاء ~~أقفالها والألسن مفاتيحها ، فليحفظ كل امرئ مفتاح سره . # ومن صفات أمين السر أن يكون ذا عقل PageV01P388 صاد ، ودين حاجز ، ونصح ~~مبذول ، وود موفور ، وكتوما بالطبع . # فإن هذه الأمور تمنع من الإذاعة ، وتوجب حفظ الأمانة ، فمن كملت فيه فهو ~~عنقاء مغرب . # وقيل في منثور الحكم : قلوب العقلاء حصون الأسرار . # وليحذر صاحب السر أن يودع سره من يتطلع إليه ، ويؤثر الوقوف عليه ، فإن ~~طالب الوديعة خائن . # وقيل في منثور الحكم : لا تنكح خاطب سرك . # وقال صالح بن عبد القدوس : لا تدع سرا إلى طالبه منك فالطالب للسر مذيع ~~وليحذر كثرة المستودعين لسره فإن كثرتهم سبب الإذاعة ، وطريق إلى الإشاعة ؛ ~~لأمرين : أحدهما أن اجتماع هذه الشروط في العدد الكثير معوز ، ولا بد إذا ~~كثروا من أن يكون فيهم من أخل ببعضها . # والثاني : أن كل واحد منهم يجد سبيلا إلى نفي الإذاعة عن نفسه ، وإحالة ~~ذلك على غيره ، فلا يضاف إليه ذنب ، ولا يتوجه عليه عتب . # وقد قال بعض الحكماء : كلما كثرت خزان الأسرار ms250 ازدادت ضياعا . # وقال بعض الشعراء : وسرك ما كان عند امرئ وسر الثلاثة غير الخفي وقال آخر ~~: فلا تنطق بسرك كل سر إذا ما جاوز الاثنين فاشي ثم لو سلم من إذاعتهم لم ~~يسلم من إدلالهم واستطالتهم ، فإن لمن ظفر بسر من فرط الإدلال وكثرة ~~الاستطالة ، ما إن لم يحجزه عنه عقل ولم يكفه عنه فضل ، كان أشد من ذل الرق ~~وخضوع العبد . # وقد قال بعض الحكماء : من أفشى سره كثر عليه المتأمرون . # فإذا اختار وأرجو أن يوفق للاختيار ، واضطر إلى استيداع سره وليته كفي ~~الاضطرار ، وجب على المستودع له أداء PageV01P389 الأمانة فيه بالتحفظ ~~والتناسي له حتى لا يخطر له ببال ولا يدور له في خلد . # ثم يرى ذلك حرمة يرعاها ولا يدل إدلال اللئام . # وحكي أن رجلا أسر إلى صديق له حديثا ثم قال : أفهمت ؟ قال : بل جهلت . # قال : أحفظت ؟ قال : بل نسيت . # وقيل لرجل : كيف كتمانك للسر ؟ قال : أجحد الخبر وأحلف للمستخبر . # وقال بعض الشعراء : ولو قدرت على نسيان ما اشتملت مني الضلوع على الأسرار ~~والخبر لكنت أول من ينسى سرائره إذا كنت من نشرها يوما على خطر وحكي أن عبد ~~الله بن طاهر تذاكر الناس في مجلسه حفظ السر فقال ابنه : ومستودعي سرا ~~تضمنت سره فأودعته من مستقر الحشى قبرا ولكنني أخفيه عني كأنني من الدهر ~~يوما ما أحطت به خبرا وما السر في قلبي كميت بحفرة لأني أرى المدفون ينتظر ~~النشرا PageV01P390 المزاح والضحك الفصل الخامس في المزاح والضحك : اعلم أن ~~للمزاح إزاحة عن الحقوق ، ومخرجا إلى القطيعة والعقوق ، يصم المازح ويؤذي ~~الممازح . # فوصمة المازح أن يذهب عنه الهيبة والبهاء ، ويجري عليه الغوغاء والسفهاء ~~. # وأما أذية الممازح فلأنه معقوق بقول كريه وفعل ممض إن أمسك عنه أحزن قلبه ~~، وإن قابل عليه جانب أدبه . # فحق على العاقل أن يتقيه وينزه نفسه عن وصمة مساوئه . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { المزاح استدراج من ~~الشيطان واختداع من الهوى } . # وقال عمر بن عبد العزيز : اتقوا المزاح فإنها ms251 حمقة تورث ضغينة . # وقال بعض الحكماء : إنما المزاح سباب إلا أن صاحبه يضحك . # وقيل : إنما سمي المزاح مزاحا لأنه يزيح عن الحق . # وقال إبراهيم النخعي : المزاح من سخف أو بطر . # وقيل في منثور الحكم : المزاح يأكل الهيبة كما تأكل النار الحطب . # وقال بعض الحكماء : من كثر مزاحه زالت هيبته ، ومن ذكر خلافه طابت غيبته ~~. # وقال بعض البلغاء : من قل عقله كثر هزله . # وذكر خالد بن صفوان المزاح فقال : يصك أحدكم صاحبه بأشد من الجندل ، ~~وينشقه أحرق من الخردل ، ويفرغ عليه أحر من المرجل ، ثم يقول : إنما كنت ~~أمازحك . # وقال بعض الحكماء : خير المزاح لا ينال ، وشره لا يقال . # فنظمه النيسابوري في قصيدته الجامعة للآداب فقال وزاد : شر مزاح المرء لا ~~يقال وخيره يا صاح لا ينال وقد يقال كثرة المزاح من الفتى تدعو إلى التلاح ~~إن المزاح بدؤه حلاوه لكنما آخره PageV01P391 عداوه يحتد منه الرجل الشريف ~~ويجتري بسخفه السخيف وقال أبو نواس : خل جنبيك لرام وامض عنه بسلام مت بداء ~~الصمت خير لك من داء الكلام إنما السالم من ألجم فاه بلجام ربما استفتح ~~بالمزح مغاليق الحمام والمنايا آكلات شاربات للأنام واعلم أنه قلما يعرى من ~~المزاح من كان سهلا فالعاقل يتوخى بمزاحه إحدى حالتين لا ثالث لهما : ~~إحداهما : إيناس المصاحبين والتودد إلى المخالطين . # وهذا يكون بما أنس من جميل القول ، وبسط من مستحسن الفعل . # وقد قال سعيد بن العاص لابنه : اقتصد في مزاحك فإن الإفراط فيه يذهب ~~البهاء ، ويجرئ عليك السفهاء ، وإن التقصير فيه يفض عنك المؤانسين ، ويوحش ~~منك المصاحبين . # والحالة الثانية : أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه من سأم ، وأحدث به من هم ~~. # فقد قيل : لا بد للمصدور أن ينفث . # وأنشدت لأبي الفتح البستي : أفد طبعك المكدود بالجد راحة يجم وعلله بشيء ~~من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن بمقدار ما تعطي الطعام من الملح وقد ~~كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح على هذا الوجه . # روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إني لأمزح ولا أقول ms252 إلا حقا } . # فمن مزاحه صلى الله عليه وسلم ما روي { أن عجوزا من الأنصار أتته فقالت : ~~يا رسول الله أدع لي بالمغفرة . # فقال : أما علمت أن الجنة لا يدخلها العجائز ، فصرخت . # فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أما قرأت قول الله عز وجل : { ~~إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا } } . # { PageV01P392 وأتته أخرى في حاجة لزوجها فقال لها : ومن زوجك ؟ فقالت : ~~فلان . # فقال لها : الذي في عينه بياض ؟ فقالت : لا . # فقال : بلى . # فانصرفت عجلى إلى زوجها وجعلت تتأمل عينيه فقال لها : ما شأنك ؟ فقالت : ~~أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في عينيك بياضا . # فقال : أما ترين بياض عيني أكثر من سوادها ، } . # وأتى رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : إني احتلمت على أمي . # فقال : أقيموه في الشمس واضربوا ظله الحد . # وسئل الشعبي عن أكل لحم الشيطان فقال : نحن نرضى منه بالكفاف . # وقيل له : ما اسم امرأة إبليس - لعنه الله - ؟ فقال : ذاك نكاح ما شهدناه ~~. # وقال رجل لغلام : بكم تعمل معي ؟ قال : بطعامي . # فقال له : أحسن قليلا . # قال : فأصوم الاثنين والخميس . # وحكي عن أبي صالح بن حسان ، وكان محدثا ، أنه قال يوما لأصحابه : أفقه ~~الناس وضاح اليمن في قوله : إذا قلت هاتي نوليني تبرمت وقالت معاذ الله من ~~فعل ما حرم فما نولت حتى تضرعت عندها وأنبأتها ما رخص الله في اللمم فأما ~~الخروج إلى حد الخلاعة فهجنة ومذمة ، كالذي حكي عن أبي معاوية الضرير ، ~~وكان محدثا ، أنه خرج يوما إلى أصحابه وهو يقول : وإذا المعدة جاشت فارمها ~~بالمنجنيق بثلاث من نبيذ ليس بالحلو الرقيق أما ترى كيف طرق بخلاعته التهمة ~~على نفسه بهذا المزح فيما لعله بريء منه ، وبعيد عنه . # وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه مسترسلا في مزاحه . # روى ابن قتيبة في المعارف أن مروان ربما كان يستخلفه على المدينة فيركب ~~حمارا قد PageV01P393 شد عليه برذعة فيسير فيلقى الرجل فيقول : الطريق قد ~~جاء الأمير . # وربما أتى الصبيان وهم يلعبون لعبة الأعراب فلا يشعرون ms253 حتى يلقي نفسه ~~بينهم ويضرب برجله فيفزع الصبيان فينفرون ، وهذا خروج عن القدر المستسمح به ~~ويوشك أن يكون لهذا الفعل منه تأويل سائغ . # وقد { كان صهيب بن سنان مزاحا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أتأكل ~~تمرا وبك رمد ؟ فقال يا رسول الله إنما أمضغ على الناحية الأخرى } . # وإنما استجاز صهيب أن يعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزح في ~~جوابه ؛ لأن استخباره صلى الله عليه وسلم قد كان يتضمن المزح ، فأجابه عن ~~استخباره بما يوافقه مساعدة لغرضه ، وتقربا من قلبه ، وإلا فليس لأحد أن ~~يجعل جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم مزحا ؛ لأن المزح هزل ، ومن جعل ~~جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين عن الله عز وجل أحكامه ، المؤدي ~~إلى خلقه أوامره ، هزلا ومزحا فقد عصى الله ورسوله ، وصهيب كان أطوع لله ~~سبحانه وتعالى من أن يكون بهذه المنزلة . # فقد قال صلى الله عليه وسلم : { أنا سابق العرب ، وصهيب سابق الروم ، ~~وسلمان سابق الفرس ، وبلال سابق الحبش } . # ومن مستحسن المزح ومستسمح الدعابة ما حكى الزبير بن بكار عن الكندي أن ~~القشيري وقف على شيخ من الأعراب فقال : يا أعرابي ممن أنت ؟ فقال : من عقيل ~~. # قال : من أي عقيل ؟ قال : من بني خفاجة . # فقال القشيري : رأيت شيخا من بني خفاجة . # فقال الأعرابي : ما شأنه ؟ قال : له PageV01P394 إذا جن الظلام حاجة . # فقال الأعرابي : ما هي ؟ قال : كحاجة الديك إلى الدجاجة . # فاستعبر الأعرابي ضاحكا ، وقال : - قاتلك الله - ما أعرفك بسرائر القوم . # فانظر كيف بلغ بهذا المزح غايته ، ولسانه نزه ، وعرضه مصون . # وهذا غاية ما يتسامح به الفضلاء من الخلاعة وإن كان مستكره الفحوى ~~والنزاهة عن مثله أولى . # وليحذر أن يسترسل في ممازحة عدو فيجعل له طريقا إلى إعلان المساوئ وهو ~~مجد ، ويفسح له في التشفي مزحا وهو محق . # وقد قال بعض الحكماء : إذا مازحت عدوك ظهرت له عيوبك . # وأما الضحك فإن اعتياده شاغل عن النظر في الأمور المهمة ، مذهل عن الفكر ~~في النوائب الملمة . # وليس لمن أكثر ms254 منه هيبة ولا وقار ، ولا لمن وصم به خطر ولا مقدار . # روى أبو إدريس الخولاني ، عن أبي ذر الغفاري قال : قال رسول الله صلى ~~الله عليه وسلم : { إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه } . # وروي عن ابن عباس في قوله تعالى : { ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا ~~كبيرة إلا أحصاها } إن الصغيرة الضحك . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من كثر ضحكه قلت هيبته . # وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : إذا ضحك العالم ضحكة مج من العلم ~~مجة . # وقيل في منثور الحكم : ضحكة المؤمن غفلة من قلبه . # والقول في الضحك كالقول في المزاح إن تجافاه الإنسان نفر عنه وأوحش منه ، ~~وإن ألفه كانت حاله ما وصفنا . # فليكن بدل الضحك عند الإيناس تبسما . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : التبسم دعابة . # وهذا PageV01P395 أبلغ في الإيناس من الضحك الذي هو قد يكون استهزاء ~~وتعجبا . # وليس ينكر منه المرة النادرة لطارئ استغفل النفس عن دفعه . # هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملك الخلق لنفسه ، قد تبسم حتى ~~بدت نواجذه . # وإنما كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي ذكرناه . ~~PageV01P396 الفصل السادس في الطيرة والفأل : اعلم أنه ليس شيء أضر بالرأي ~~ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة ، ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيب غراب يرد ~~قضاء أو يدفع مقدورا فقد جهل . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا عدوى ولا طيرة ولا ~~هامة ولا صفر } . # فالعدوى ما يظنه الناس من تعدي العلل والأمراض فأخبر أنها لا تعدي ، فقيل ~~: { يا رسول الله إنا نرى النقطة من الجرب في مشفر البعير فتتعدى إلى جميعه ~~. # فقال صلى الله عليه وسلم : فما أعدى الأول ؟ } وأما الهامة فهو ما كانت ~~العرب في الجاهلية تعتقده من أن القتيل إذا طل دمه فلم يدرك بثأره صاحت ~~هامته في القبر : اسقوني . # قال الزبرقان بن بدر يعنيها : يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي أضربك حتى ~~تقول الهامة ms255 اسقوني وقال إبراهيم بن هرمة : وكيف وقد صاروا عظاما وأقبرا ~~يصيح صداها بالعشي وهامها تفانوا ولم يبقوا وكل قبيلة سريع إلى ورد الفناء ~~كرامها وأما الصفر فهو كالحية يكون في الجوف يصيب الماشية والناس ، وهو ~~أعدى عندهم من الجرب . # وفيه يقول الشاعر : لا يمسك الساق من أين ولا وصب ولا يعض على شرسوفه ~~الصفر وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ~~{ إذا ظننتم فلا تحققوا ، وإذا حسدتم فلا تبغوا ، وإذا تطيرتم فامضوا وعلى ~~الله فتوكلوا } . # وقال الشاعر : طيرة الناس لا ترد قضاء فاعذر الدهر لا تشبه بلوم أي يوم ~~تخصه بسعود والمنايا ينزلن في كل يوم ليس يوم إلا وفيه سعود ونحوس ~~PageV01P397 تجري لقوم وقوم وقد كانت الفرس أكثر الناس طيرة . # وكانت العرب إذا أرادت سفرا نفرت أول طائر تلقاه فإن طار يمنة سارت ~~وتيمنت ، وإذا طار يسرة رجعت وتشاءمت ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ~~ذلك وقال : { أقروا الطير على وكناتها } . # وحكى عكرمة قال : كنا جلوسا عند ابن عباس رضي الله عنهما ، فمر طائر يصيح ~~فقال رجل من القوم : خير . # فقال ابن عباس : لا خير ولا شر . # وقال لبيد : لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع ~~واعلم أنه قلما يخلو من الطيرة أحد لا سيما من عارضته المقادير في إرادته ، ~~وصده القضاء عن طلبته ، فهو يرجو واليأس عليه أغلب ، ويأمل والخوف إليه ~~أقرب . # فإذا عاقه القضاء ، وخانه الرجاء ، جعل الطيرة عذر خيبته ، وغفل عن قضاء ~~الله عز وجل ومشيئته ، فإذا تطير أحجم عن الإقدام ويئس من الظفر وظن أن ~~القياس فيه مطرد وأن العبرة فيه مستمرة . # ثم يصير ذلك له عادة فلا ينجح له سعي ، ولا يتم له قصد . # فأما من ساعدته المقادير ووافقه القضاء فهو قليل الطيرة لإقدامه ثقة ~~بإقباله وتعويلا على سعادته ، فلا يصده خوف ولا يكفه حزن ولا يئوب ، إلا ~~ظافرا ، ولا يعود إلا منجحا ؛ لأن الغنم بالإقدام ، والخيبة مع الإحجام ، ~~فصارت الطيرة من ms256 سمات الإدبار واطراحها من إمارات الإقبال . # فينبغي لمن مني بها وبلي أن يصرف عن نفسه وساوس النوكى ودواعي الخيبة ~~وذرائع الحرمان ، ولا يجعل للشيطان سلطانا في نقض عزائمه ومعارضة خالقه . ~~PageV01P398 ويعلم أن قضاء الله تعالى عليه غالب ، وأن رزقه له طالب ، إلا ~~أن الحركة سبب فلا يثنيه عنها ما لا يضر مخلوقا ولا يدفع مقدورا . # وليمض في عزائمه واثقا بالله تعالى إن أعطي وراضيا به إن منع . # فقد روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن في ~~الإنسان ثلاثة : الطيرة والظن والحسد فمخرجه من الطيرة أن لا يرجع ومخرجه ~~من الظن أن لا يتحقق ومخرجه من الحسد أن لا يبغي } . # وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { كفارة الطيرة التوكل على الله ~~تعالى } . # وقيل في منثور الحكم : الخير في ترك الطيرة . # وليقل إن عارضه في الطيرة ريب ، أو خامره فيها وهم ، ما روي عن النبي صلى ~~الله عليه وسلم أنه قال : { من تطير فليقل : اللهم لا يأتي بالخيرات إلا ~~أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بالله } . # وقد روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : { يا رسول الله ~~إنا نزلنا دارا فكثر فيها عددنا ، وكثرت فيها أموالنا ، ثم تحولنا عنها إلى ~~أخرى فقلت فيها أموالنا ، وقل فيها عددنا . # فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ذروها فهي ذميمة } . # وليس هذا القول منه صلى الله عليه وسلم على وجه الطيرة ولكن على طريق ~~التبرك بما فارق وترك ما استوحش منه إلى ما أنس به . # وأما الفأل ففيه تقوية للعزم وباعث على الجد ومعونة على الظفر . # فقد تفاءل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته وحروبه . # وروى أبو هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه PageV01P399 وسلم سمع كلمة ~~فأعجبته فقال : أخذنا فألك من فيك } . # فينبغي لمن تفاءل أن يتأول الفأل بأحسن تأويلاته ولا يجعل لسوء الظن على ~~نفسه سبيلا . # فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إن البلاء موكل ms257 بالمنطق } . # روي أن يوسف عليه السلام شكا إلى الله تعالى طول الحبس فأوحى الله تعالى ~~إليه يا يوسف أنت حبست نفسك حيث قلت رب السجن أحب إلي ولو قلت العافية أحب ~~إلي لعوفيت . # وحكي أن المؤمل بن أميل الشاعر لما قال يوم الحيرة : شف المؤمل يوم ~~الحيرة النظر ليت المؤمل لم يخلق له بصر عمي فأتاه آت في منامه فقال له : ~~هذا ما طلبت . # وحكي أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك تفاءل يوما في المصحف فخرج له قوله ~~تعالى : { واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد } فمزق المصحف وأنشأ يقول : أتوعد ~~كل جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب ~~مزقني الوليد فلم يلبث إلا أياما حتى قتل شر قتلة ، وصلب رأسه على قصره ، ~~ثم على سور بلده . # فنعوذ بالله من البغي ومصارعه ، والشيطان ومكائده ، وهو حسبنا وعليه ~~توكلنا . PageV01P400 الفصل السابع في المروءة اعلم أن من شواهد الفضل ~~ودلائل الكرم المروءة التي هي حلية النفوس وزينة الهمم . # فالمروءة مراعاة الأحوال التي تكون على أفضلها حتى لا يظهر منها قبيح عن ~~قصد ولا يتوجه إليها ذم باستحقاق . # روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من عامل الناس فلم يظلمهم ، ~~وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ~~ووجبت أخوته } . # وقال بعض البلغاء : من شرائط المروءة أن يتعفف عن الحرام ، ويتصلف عن ~~الآثام ، وينصف في الحكم ، ويكف عن الظلم ، ولا يطمع فيما لا يستحق ، ولا ~~يستطيل على من لا يسترق ، ولا يعين قويا على ضعيف ، ولا يؤثر دنيا على شريف ~~، ولا يسر ما يعقبه الوزر والإثم ، ولا يفعل ما يقبح الذكر والاسم . # وسئل بعض الحكماء عن الفرق بين العقل والمروءة فقال : العقل يأمرك ~~بالأنفع ، والمروءة تأمرك بالأجمل . # ولن تجد الأخلاق على ما وصفنا من حد المروءة منطبعة ، ولا عن المراعاة ~~مستغنية ، وإنما المراعاة هي المروءة لا ما انطبعت عليه من فضائل الأخلاق ؛ ~~لأن غرور الهوى ونازع الشهوة يصرفان النفس ms258 أن تركب الأفضل من خلائقها ، ~~والأجمل من طرائقها ، وإن سلمت منها ، وبعيد أن تسلم إلا لمن استكمل شرف ~~الأخلاق طبعا ، واستغنى عن تهذيبها تكلفا وتطبعا . # وقال الشاعر : من لك بالمحض وليس محض يخبث بعض ويطيب بعض ثم لو استكمل ~~الفضل طبعا ، وفي المعوز أن يكون مستكملا ، لكان في المستحسن من عادات دهره ~~PageV01P401 ، والموضوع من اصطلاح عصره ، من حقوق المروءة وشروطها ما لا ~~يتوصل إليه إلا بالمعاناة ولا يوقف عليه إلا بالتفقد والمراعاة . # فثبت أن مراعاة النفس على أفضل أحوالها هي المروءة . # وإذا كانت كذلك فليس ينقاد لها مع ثقل كلفها إلا من تسهلت عليه المشاق ~~رغبة في الحمد ، وهانت عليه الملاذ حذرا من الذم . # ولذلك قيل : سيد القوم أشقاهم . # وقال أبو تمام الطائي : والحمد شهد لا يرى مشتاره يجنيه إلا من نقيع ~~الحنظل غل لحامله ويحسبه الذي لم يوه عاتقه خفيف المحمل وقد لحظ المتنبي ~~ذلك في قوله : لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال وله ~~أيضا : وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام والداعي إلى استسهال ~~ذلك شيئان : أحدهما : علو الهمة . # والثاني شرف النفس . # أما علو الهمة فلأنه باعث على التقدم وداع إلى التخصيص أنفة من خمول ~~الضعة ، واستنكارا لمهانة النقص . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله يحب معالي الأمور ~~وأشرافها ، ويكره دنيها وسفسافها } . # وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : لا تصغرن همتكم فإني لم أر ~~أقعد عن المكرمات من صغر الهمم . # وقال بعض الحكماء : الهمة راية الجد . # وقال بعض البلغاء : علو الهمم بذر النعم . # وقال بعض العلماء : إذا طلب رجلان أمرا ظفر به أعظمهما مروءة . # وقال بعض الأدباء : من ترك التماس المعالي بسوء الرجاء لم ينل جسيما . # وأما شرف النفس : فإن به يكون قبول التأديب ، واستقرار PageV01P402 ~~التقويم والتهذيب ، لأن النفس ربما جمحت عن الأفضل وهي به عارفة ، ونفرت عن ~~التأديب وهي له مستحسنة ؛ لأنها عليه غير مطبوعة ، وله غير ملائمة ، فتصير ~~منه أنفر ، ولضده الملائم آثر . # وقد قيل ms259 : ما أكثر من يعرف الحق ولا يطيعه . # وإذا شرفت النفس كانت للآداب طالبة ، وفي الفضائل راغبة ، فإذا مازحها ~~صارت طبعا ملائما فنما واستقر . # فأما من مني بعلو الهمة وسلب شرف النفس فقد صار عرضة لأمر أعوزته آلته ، ~~وأفسدته جهالته ، فصار كضرير يروم تعلم الكتابة ، وأخرس يريد الخطبة ، فلا ~~يزيده الاجتهاد إلا عجزا والطلب إلا عوزا . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ما هلك امرؤ عرف قدره } . # وقيل لبعض الحكماء : من أسوأ الناس حالا ؟ قال : من بعدت همته ، واتسعت ~~أمنيته ، وقصرت آلته ، وقلت مقدرته . # وقال أفنون التغلبي : ولا خير فيما يكذب المرء نفسه وتقواله للشيء يا ليت ~~ذا ليا لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي إذا هو لم يجعل له الله واقيا وقال بعض ~~الحكماء : تجنبوا المنى فإنها تذهب ببهجة ما خولتم ، وتستصغرون بها نعمة ~~الله عليكم . # وقيل في منثور الحكم : المنى من بضائع النوكى . # فإن صادف بهمته حظا نال به أملا كان فيما ناله كالمغتصب ، وفيما وصل إليه ~~كالمتغلب ، إذ ليس في الحظوظ تقدير لحق ، ولا تمييز لمستحق ، وإنما هي ~~كالسحاب الذي يمسك عن منابت الأشجار إلى مغايص البحار ويترك حيث صادف من ~~خبيث وطيب ، فإن صادف أرضا طيبة نفع وإن صادف أرضا خبيثة ضر . PageV01P403 ~~كذلك الحظ إن صادف نفسا شريفة نفع ، وكان نعمة عامة ، وإن صادف نفسا دنية ~~ضر وكان نقمة طامة . # وحكي أن موسى بن عمران عليه السلام دعا على قوم بالعذاب فأوحي إليه قد ~~ملكت سفلها على أعلاها فقال : يا رب كنت أحب لهم عذابا عاجلا ، فأوحى الله ~~تعالى إليه أوليس هذا كل العذاب العاجل الأليم ؟ فأما شرف النفس إذا تجرد ~~عن علو الهمة فإن الفضل به عاطل ، والقدر به خامل ، وهو كالقوة في الجلد ~~الكسل ، والجبان الفشل ، تضيع قوته بكسله ، وجلده بفشله . # وقد قيل في منثور الحكم : من دام كسله خاب أمله . # وقال بعض الحكماء : نكح العجز التواني فخرج منهما الندامة ، ونكح الشؤم ~~الكسل فخرج منهما الحرمان . # وقال بعض الشعراء : إذا أنت لم تعرف لنفسك ms260 حقها هوانا بها كانت على الناس ~~أهونا فنفسك أكرمها وإن ضاق مسكن عليك لها فاطلب لنفسك مسكنا وإياك والسكنى ~~بمنزل ذلة يعد مسيئا فيه من كان محسنا وشرف النفس مع صغر الهمة أولى من علو ~~الهمة مع دناءة النفس ؛ لأن من علت همته مع دناءة نفسه كان متعديا إلى طلب ~~ما لا يستحقه ، ومتخطيا إلى التماس ما لا يستوجبه . # ومن شرفت نفسه مع صغر همته فهو تارك لما يستحق ومقصر عما يجب له . # وفضل ما بين الأمرين ظاهر وإن كان لكل واحد منهما من الذم نصيب . # وقد قيل لبعض الحكماء : ما أصعب شيء على الإنسان ؟ قال : أن يعرف نفسه ~~ويكتم الأسرار . # فإذا اجتمع الأمران واقترن بشرف النفس علو الهمة كان الفضل بهما ظاهرا ، ~~والأدب بهما PageV01P404 وافرا ، ومشاق الحمد بينهما مسهلة ، وشروط المروءة ~~بينهما متبينة . # وقد قال الحصين بن المنذر الرقاشي : إن المروءة ليس يدركها امرؤ ورث ~~المكارم عن أب فأضاعها أمرته نفس بالدناءة والخنا ونهته عن سبل العلا ~~فأطاعها فإذا أصاب من المكارم خلة يبني الكريم بها المكارم باعها واعلم أن ~~حقوق المروءة أكثر من أن تحصى ، وأخفى من أن تظهر ؛ لأن منها ما يقوم في ~~الوهم حسا ، ومنها ما يقتضيه شاهد الحال حدسا ، ومنها ما يظهر بالفعل ويخفى ~~بالتغافل . # فلذلك أعوز استيفاء شروطها إلى جمل يتنبه الفاضل عليها بيقظته ، ويستدل ~~العاقل عليها بفطرته ، وإن كان جميع ما تضمنه كتابنا هذا من حقوق المروءة ~~وشروطها . PageV01P405 وإنما نذكر في هذا الفصل الأشهر من قواعدها وأصولها ~~، والأظهر من شروطها وحقوقها ، محصورا في تقسيم جامع وهو ينقسم قسمين : ~~أحدهما : شروط المروءة في نفسه . # والثاني : شروطها في غيره . # فأما شروطها في نفسه بعد التزام ما أوجبه الشرع من أحكامه فيكون بثلاثة ~~أمور وهي : العفة والنزاهة والصيانة . # فأما العفة فنوعان : أحدهما العفة عن المحارم والثاني العفة عن المآثم . # فأما العفة عن المحارم فنوعان : أحدهما ضبط الفرج عن الحرام ، والثاني كف ~~اللسان عن الأعراض . # فأما ضبط الفرج عن الحرام فلأنه مع وعيد الشرع وزاجر العقل معرة ms261 فاضحة ، ~~وهتكة واضحة . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { من وقي شر ذبذبه ولقلقه وقبقبه ~~فقد وقي } . # يريد بذبذبه الفرج ، وبلقلقه اللسان ، وبقبقبه البطن . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أحب العفاف إلى الله تعالى ~~عفاف الفرج والبطن . # } وحكي أن معاوية رضي الله عنه سأل عمر عن المروءة فقال : تقوى الله ~~تعالى وصلة الرحم . # وسأل المغيرة فقال : هي العفة عما حرم الله تعالى والحرفة فيما أحل الله ~~تعالى . # وسأل يزيد : فقال هي الصبر على البلوى ، والشكر على النعمى ، والعفو عند ~~القدرة ، فقال معاوية : أنت مني حقا . # وقال أنوشروان لابنه هرمز : من الكامل المروءة ؟ فقال : من حصن دينه ووصل ~~رحمه وأكرم إخوانه . # وقال بعض الحكماء : من أحب المكارم اجتنب المحارم . # وقيل : عار الفضيحة يكدر لذتها . # وقد أنشدني بعض أهل PageV01P406 الأدب للحسن بن علي رضي الله عنهما : ~~الموت خير من ركوب العار والعار خير من دخول النار والله من هذا وهذا جاري ~~والداعي إلى ذلك شيئان : أحدهما : إرسال الطرف . # والثاني : اتباع الشهوة . # وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه : ~~{ يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك والثانية عليك } . # وفي قوله لا تتبع النظرة النظرة تأويلان : أحدهما لا تتبع نظر عينيك نظر ~~قلبك ، والثاني لا تتبع الأولى التي وقعت سهوا بالنظرة الثانية التي توقعها ~~عمدا . # وقال عيسى ابن مريم عليه السلام : إياكم والنظرة بعد النظرة فإنها تزرع ~~في القلب الشهوة ، وكفى بها لصاحبها فتنة . # وقال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - : العيون مصائد الشيطان . # وقال بعض الحكماء : من أرسل طرفه استدعى حتفه . # وقال بعض الشعراء : وكنت متى أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر ~~رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر وأما الشهوة فهي ~~خادعة العقول وغادرة الألباب ، ومحسنة القبائح ، ومسولة الفضائح . # وليس عطب إلا وهي له سبب ، وعليه ألب . # ولذلك قال النبي عليه السلام : { أربع من كن فيه وجبت له الجنة وحفظ ms262 من ~~الشيطان : من ملك نفسه حين يرغب ، وحين يرهب ، وحين يشتهي ، وحين يغضب } . # وقهرها عن هذه الأحوال يكون بثلاثة أمور : أحدها غض الطرف عن إثارتها ، ~~وكفه عن مساعدتها . # فإنه الرائد المحرك ، والقائد المهلك . # روى سعيد بن سنان ، عن أنس بن PageV01P407 مالك ، عن النبي صلى الله عليه ~~وسلم أنه قال : { تقبلوا إلي بست أتقبل إليكم بالجنة . # قالوا وما هي يا رسول الله ؟ قال : إذا حدث أحدكم فلا يكذب ، وإذا وعد ~~فلا يخلف ، وإذا اؤتمن فلا يخون ، غضوا أبصاركم ، واحفظوا فروجكم ، وكفوا ~~أيديكم } . # والثاني : ترغيبها في الحلال عوضا ، وإقناعها بالمباح بدلا ، فإن الله ما ~~حرم شيئا إلا وأغنى عنه بمباح من جنسه لما علمه من نوازع الشهوة ، وتركيب ~~الفطرة ، ليكون ذلك عونا على طاعته ، وحاجزا عن مخالفته . # وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما أمر الله تعالى بشيء إلا وأعان ~~عليه ، ولا نهى عن شيء إلا وأغنى عنه . # والثالث : إشعار النفس تقوى الله تعالى في أوامره ، واتقاءه في زواجره ، ~~وإلزامها ما ألزم من طاعته ، وتحذيرها ما حذر من معصيته ، وإعلامها أنه لا ~~يخفى عليه ضمير ، ولا يعزب عنه قطمير . # وأنه يجازي المحسن ويكافئ المسيء ، وبذلك نزلت كتبه وبلغت رسله . # روى ابن مسعود أن آخر ما نزل من القرآن : { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى ~~الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } . # وآخر ما نزل من التوراة : إذا لم تستح فاصنع ما شئت . # وآخر ما نزل من الإنجيل : شر الناس من لا يبالي أن يراه الناس مسيئا . # وآخر ما نزل من الزبور : من يزرع خيرا حصد زرعه غبطة . # فإذا أشعرها ما وصفت انقادت إلى الكف وأذعنت بالاتقاء فسلم دينه وظهرت ~~مروءته . # فهذا شرط وأما كف اللسان عن الأعراض فلأنه ملاذ السفهاء ، وانتقام أهل ~~الغوغاء ، وهو مستسهل الكلف PageV01P408 إذا لم يقهر نفسه عنه برادع كاف ~~وزاجر صاد تلبط بمعاره ، وتخبط بمضاره ، وظن أنه لتجافي الناس عنه حمى يتقى ~~، ورتبة ترتقى ، فهلك وأهلك . # فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ألا إن ms263 دماءكم وأموالكم وأعراضكم ~~حرام عليكم حرام عليكم } . # فجمع بين الدم والعرض لما فيه من إيغار الصدور ، وإبداء الشرور ، وإظهار ~~البذاء ، واكتساب الأعداء ، ولا يبقى مع هذه الأمور وزن لموموق ولا مروءة ~~لملحوظ ثم هو بها موتور موزور ؛ ولأجلها مهجور مزجور . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { شر الناس من أكرمه ~~الناس اتقاء لسانه } . # وقال بعض الحكماء : إنما هلك الناس بفضول الكلام وفضول المال . # وما قدح في الأعراض من الكلام نوعان : أحدهما : ما قدح في عرض صاحبه ولم ~~يتجاوزه إلى غيره ، وذلك شيئان : الكذب وفحش القول . # والثاني : ما تجاوزه إلى غيره ، وذلك أربعة أشياء : الغيبة والنميمة ~~والسعاية والسب بقذف أو شتم . # وربما كان السب أنكاها للقلوب وأبلغها أثرا في النفوس . # ولذلك زجر الله عنه بالحد تغليظا وبالتفسيق تشديدا وتصعيبا . # وقد يكون ذلك لأحد شيئين : إما انتقام يصدر عن سفه أو بذاء يحدث عن لؤم . # وقد روى أبو سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ~~المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم } . # وقال ابن المقفع : الاستطالة لسان الجهال . # وكف النفس عن هذه الحال بما يصدها من الزواجر أسلم وهو بذوي المروءة أجمل ~~. # فهذا شرط وأما العفة عن المآثم PageV01P409 فنوعان : أحدهما : الكف عن ~~المجاهرة بالظلم ، والثاني : زجر النفس عن الإسرار بخيانة . # فأما المجاهرة بالظلم فعتو مهلك وطغيان متلف ، وهو يئول إن استمر إلى ~~فتنة أو جلاء . # فأما الفتنة في الأغلب فتحيط بصاحبها ، وتنعكس عن البادئ بها ، فلا تنكشف ~~إلا وهو بها مصروع كما قال الله تعالى : { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ~~} . # وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الفتنة نائمة فمن أيقظها ~~صار طعاما لها } . # وقال جعفر بن محمد : الفتنة حصاد للظالمين . # وقال بعض الحكماء : صاحب الفتنة أقرب شيء أجلا وأسوأ شيء عملا . # وقال بعض الشعراء : وكنت كعنز السوء قامت لحتفها إلى مدية تحت الثرى ~~تستثيرها وأما الجلاء فقد يكون من قوة الظالم وتطاول مدته فيصير ظلمه مع ~~المكنة جلاء وفناء ، كالنار إذا ms264 وقعت في يابس الشجر فلا تبقي معها مع ~~تمكنها شيئا حتى إذا أفنت ما وجدت اضمحلت وخمدت . # فكذا حال الظالم مهلك ثم هالك . # والباعث على ذلك شيئان : الجراءة والقسوة . # ولذلك قال النبي عليه السلام : { اطلبوا الفضل والمعروف عند الرحماء من ~~أمتي تعيشوا في أكنافهم } . # والصاد عن ذلك أن يرى آثار الله تعالى في الظالمين فإن له فيهم عبرا ، ~~ويتصور عواقب ظلمهم فإن فيها مزدجرا . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من أصبح ولم ينو ظلم ~~أحد غفر الله له ما اجترم } . # وروى جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله ~~عليه وسلم : { يا علي اتق PageV01P410 دعوة المظلوم فإنه إنما يسأل الله ~~حقه وإن الله لا يمنع ذا حق حقه } . # وقيل في منثور الحكم : ويل للظالم من يوم المظالم . # وقال بعض البلغاء : من جار حكمه أهلكه ظلمه . # وقال بعض الشعراء : وما من يد إلا يد الله فوقها ولا ظالم إلا سيبلى ~~بظالم وأما الاستسرار بالخيانة فضعة لأنه بذل الخيانة مهين ، ولقلة الثقة ~~به مستكين . # وقد قيل في منثور الحكم : من يخن يهن . # وقال خالد الربعي : قرأت في بعض الكتب السالفة أن مما تعجل عقوبة ولا ~~تؤخر الأمانة تخان والإحسان يكفر والرحم تقطع والبغي على الناس . # ولو لم يكن من ذم الخيانة إلا ما يجده الخائن في نفسه من المذلة لكفاه ~~زاجرا ، ولو تصور عقبى أمانته وجدوى ثقته لعلم أن ذلك من أربح بضائع جاهه ~~وأقوى شفعاء تقدمه مع ما يجده في نفسه من العز ويقابل عليه من الإعظام . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أد الأمانة إلى من ~~ائتمنك ولا تخن من خانك } . # وروى سعيد بن جبير قال : لما نزلت هذه الآية : { ومن أهل الكتاب من إن ~~تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت ~~عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل } . # يعنون أن أموال العرب حلال لهم ms265 ؛ لأنهم من غير أهل الكتاب . # قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كذب أعداء الله ما من شيء كان في ~~الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ولا ~~يجعل ما يتظاهر به من الأمانة زورا PageV01P411 ولا ما يبديه من العفة ~~غرورا فينهتك الزور وينكشف الغرور فيكون مع هتكه للتدليس أقبح ولمعرة ~~الرياء أفضح } . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تزال أمتي بخير ما ~~لم تر الأمانة مغنما والصدقة مغرما } . # وقال بعض الحكماء : من التمس أربعا بأربع التمس ما لا يكون ، ومن التمس ~~الجزاء بالرياء التمس ما لا يكون ، ومن التمس مودة الناس بالغلظة التمس ما ~~لا يكون ، ومن التمس وفاء الإخوان بغير وفاء التمس ما لا يكون ، ومن التمس ~~العلم براحة الجسد التمس ما لا يكون . # والداعي إلى الخيانة شيئان : المهانة وقلة الأمانة ، فإذا حسمهما عن نفسه ~~بما وصفت ظهرت مروءته ، فهذا شرط قد استوفينا فيه أقسام العفة . ~~PageV01P412 وأما النزاهة فنوعان : أحدهما : النزاهة عن المطامع الدنية . # والثاني النزاهة عن مواقف الريبة . # فأما المطامع الدنية ؛ فلأن الطمع ذل والدناءة لؤم ، وهما أدفع شيء ~~للمروءة . # وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : { اللهم إني أعوذ بك ~~من طمع يهدي إلى طبع } . # وقال بعض الشعراء : لا تخضعن لمخلوق على طمع فإن ذلك نقص منك في الدين ~~واسترزق الله مما في خزائنه فإنما هو بين الكاف والنون والباعث على ذلك ~~شيئان : الشره وقلة الأنفة فلا يقنع بما أوتي ، وإن كان كثيرا ؛ لأجل شرهه ~~، ولا يستنكف مما منع ، وإن كان حقيرا لقلة أنفته . # وهذه حال من لا يرى لنفسه قدرا ، ويرى المال أعظم خطرا ، فيرى بذل أهون ~~الأمرين لأجلهما مغنما ، وليس لمن كان المال عنده أجل ونفسه عليه أقل إصغاء ~~لتأنيب ، ولا قبول لتأديب . # وروي أن رجلا قال : يا رسول الله أوصني . # قال : عليك باليأس مما في أيدي الناس ، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر ، ~~وإذا صليت صلاة فصل صلاة مودع ، وإياك وما ms266 يعتذر منه . # وقال بعض الشعراء : ومن كانت الدنيا مناه وهمه سبته المنى واستعبدته ~~المطامع وحسم هذه المطامع شيئان : اليأس والقناعة . # وقد روى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن ~~روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها ، فاتقوا الله ~~وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم إبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله ~~تعالى فإن الله عز وجل لا يدرك ما عنده إلا PageV01P413 بطاعته } . # فهذا شرط . # وأما مواقف الريبة فهي التردد بين منزلتي حمد وذم ، والوقوف بين حالتي ~~سلامة وسقم ، فتتوجه إليه لائمة المتوهمين ، ويناله ذلة المريبين ، وكفى ~~بصاحبها موقفا إن صح افتضح ، وإن لم يصح امتهن . # وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { دع ما يريبك إلى ما لا يريبك } . # وسئل محمد بن علي عن المروءة فقال : أن لا تعمل في السر عملا تستحي منه ~~في العلانية . # وقال حسان بن أبي سنان : ما وجدت شيئا هو أهون من الورع . # قيل له : وكيف ؟ قال : إذا ارتبت بشيء تركته . # والداعي إلى هذه الحال شيئان : الاسترسال ، وحسن الظن . # والمانع منهما شيئان : الحياء ، والحذر . # وربما انتفت الريبة بحسن الثقة وارتفعت التهمة بطول الخبرة . # وقد حكي عن عيسى ابن مريم عليه السلام أنه رآه بعض الحواريين وقد خرج من ~~منزل امرأة ذات فجور فقال : يا روح الله ما تصنع هنا ؟ فقال : الطبيب إنما ~~يداوي المرضى . # ولكن لا ينبغي أن يجعل ذلك طريقا إلى الاسترسال وليكن الحذر عليه أغلب ، ~~وإلى الخوف من تصديق التهم أقرب ، فما كل ريبة ينفيها حسن الثقة . # هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبعد خلق الله من الريب وأصونهم من ~~التهم ، { وقف مع زوجته صفية ذات ليلة على باب مسجد يحادثها وكان معتكفا ~~فمر به رجلان من الأنصار فلما رأياه أسرعا فقال لهما : على رسلكما إنها ~~صفية بنت حيي . # فقالا : سبحان الله أوفيك شك يا رسول الله ؟ فقال : مه إن الشيطان يجري ~~من أحدكم مجرى لحمه ودمه فخشيت PageV01P414 أن يقذف في ms267 قلبيكما سوءا } . # فكيف من تخالجت فيه الشكوك وتقابلت فيه الظنون فهل يعرى من في مواقف ~~الريب من قادح محقق ، ولائم مصدق . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا لم يشق المرء إلا ~~بما عمل فقد سعد } . # وإذا استعمل الحزم وغلب الحذر وترك مواقف الريب ومظان التهم ، ولم يقف ~~موقف الاعتذار ولا عذر لمختار لم يختلج في نزاهته شك ولم يقدح في عرضه إفك ~~. # وقد قال الشاعر : أصونك أن أدل عليك ظنا لأن الظن مفتاح اليقين وقال سهل ~~بن هارون : مؤنة المتوقف أيسر من تكلف المعسف . # وقال بعض الحكماء : من حسن ظنه بمن لا يخاف الله تعالى فهو مخدوع . # وأنشدني بعض أهل الأدب ، لأبي بكر الصولي رحمه الله قوله : أحسنت ظني ~~بأهل دهري فحسن ظني بهم دهاني لا آمن الناس بعد هذا ما الخوف إلا من الأمان ~~فهذا شرط استوفينا فيه نوعي النزاهة . PageV01P415 وأما الصيانة وهي الثالث ~~من شروط المروءة فنوعان : أحدهما : صيانة النفس بالتماس كفايتها وتقدير ~~مادتها . # والثاني : صيانتها عن تحمل المنن من الناس والاسترسال في الاستعانة . # وأما التماس الكفاية وتقدير المادة ؛ فلأن المحتاج إلى الناس كل مهتضم ~~وذليل مستثقل . # وهو لما فطر عليه ، محتاج إلى ما يستمده ليقيم أود نفسه ، ويدفع ضرورة ~~وقته . # وقد قالت العرب في أمثالها : كلب جوال خير من أسد رابض . # وما يستمده نوعان : لازم وندب . # فأما اللازم فما أقام بالكفاية وأفضى إلى سد الخلة . # وعليه في طلبه ثلاثة شروط : واحدها : استطابته من الوجوه المباحة وتوقي ~~المحظورة فإن المواد المحرمة مستخبثة الأصول ، ممحوقة المحصول ، إن صرفها ~~في بر لم يؤجر ، وإن صرفها في مدح لم يشكر ، ثم هو لأوزارها محتقب ، وعليها ~~معاقب . # وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يعجبك رجل كسب مالا من غير ~~حله فإن أنفقه لم يقبل منه ، وإن أمسكه فهو زاده إلى النار } . # وقال بعض الحكماء : شر المال ما لزمك إثم مكسبه وحرمت أجر إنفاقه . # ونظر بعض الخوارج إلى رجل من أصحاب السلطان يتصدق على مسكين ms268 ، فقال : ~~انظر إليهم حسناتهم من سيئاتهم . # وقال علي بن الجهم : سر من عاش ماله فإذا حاسبه الله سره الإعدام والثاني ~~: طلبه من أحسن جهاته التي لا يلحقه فيها غض ، ولا يتدنس له بها عرض ، فإن ~~المال يراد لصيانة الأعراض لا لابتذالها ، ولعز النفوس لا لإذلالها . # وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله PageV01P416 عنه : يا حبذا المال أصون ~~به عرضي وأرضي به ربي . # وقال أبو بشر الضرير : كفى حزنا أني أروح وأغتدي وما لي من مال أصون به ~~عرضي وأكثر ما ألقى الصديق بمرحبا وذلك لا يكفي الصديق ولا يرضي وسئل ابن ~~عائشة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : { اطلبوا الحوائج من حسان الوجوه ~~} . # فقال : معناه من أحسن الوجوه التي تحل . # والثالث : أن يتأنى في تقدير مادته وتدبير كفايته بما لا يلحقه خلل ولا ~~يناله زلل ، فإن يسير المال مع حسن التقدير ، وإصابة التدبير ، أجدى نفعا ~~وأحسن موقعا من كثيره مع سوء التدبير ، وفساد التقدير ، كالبذر في الأرض ~~إذا روعي يسيره زكا ، وإن أهمل كثيره اضمحل . # وقال محمد بن علي رضي الله عنه : الكمال في ثلاثة : العفة في الدين ، ~~والصبر على النوائب ، وحسن التدبير في المعيشة . # وقيل لبعض الحكماء : فلان غني . # فقال : لا أعرف ذلك ما لم أعرف تدبيره في ماله . # فإذا استكمل هذه الشروط فيما يستمده من قدر الكفاية فقد أدى حق المروءة ~~في نفسه . # وسئل الأحنف بن قيس عن المروءة فقال : العفة والحرفة . # وقال بعض الحكماء لابنه : يا بني لا تكن على أحد كلا فإنك تزداد ذلا ، ~~واضرب في الأرض عودا وبدءا ، ولا تأسف لمال كان فذهب ، ولا تعجز عن الطلب ~~لوصب ولا نصب . # فهذا حال اللازم وقد كان ذوو الهمم العلية والنفوس الأبية يرون ما وصل ~~إلى الإنسان كسبا أفضل مما وصل إليه إرثا ؛ لأنه في الإرث في جدوى غيره ~~وبالكسب مجد إلى غيره ، وفرق ما بينهما في الفضل ظاهر . # وقال PageV01P417 كشاجم : لا أستلذ العيش لم أدأب له طلبا وسعيا في ~~الهواجر والغلس وأرى حراما أن يؤاتيني ms269 الغنى حتى يحاول بالعناء ويلتمس ~~فاصرف نوالك عن أخيك موفرا فالليث ليس يسيغ إلا ما افترس وأما الندب فهو ما ~~فضل عن الكفاية ، وزاد على قدر الحاجة ، فإن الأمر فيه معتبر بحال طالبه ~~فإن كان ممن تقاعد على مراتب الرؤساء ، وتقاصر عن مطاولة النظراء ، وانقبض ~~عن منافسة الأكفاء ، فحسبه ما كفاه فليس في الزيادة إلا شره ولا في الفضول ~~إلا نهم ، وكلاهما مذموم . # وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { خير الرزق ما يكفي وخير الذكر ~~الخفي } . # وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : الدنيا كل على العاقل . # وقال عبد الله بن مسعود : المستغني عن الدنيا بالدنيا كمطفئ النار بالتبن ~~. # وقال بعض الحكماء : اشتر ماء وجهك بالقناعة وتسل عن الدنيا لتجافيها عن ~~الكرام . # فإن كان ممن مني بعلو الهمم وتحركت فيه أريحية الكرم وآثر أن يكون رأسا ~~ومقدما ، وأن يرى في النفوس معظما ومفخما فالكفاية لا تقله حتى يكون ماله ~~فاضلا ، ونائله فائضا . # فقد قيل لبعض العرب : ما المروءة فيكم ؟ قال : طعام مأكول ، ونائل مبذول ~~، وبشر مقبول . # وقد قال الأحنف بن قيس : فلو مد سروي بمال كثير لجدت وكنت له باذلا فإن ~~المروءة لا تستطاع إذا لم يكن مالها فاضلا وأما صيانتها عن تحمل المنن ~~والاسترسال في الاستعانة ؛ فلأن المنة استرقاق الأحرار تحدث ذلة في الممنون ~~عليه وسطوة في المان به . # والاسترسال في الاستعانة PageV01P418 تثقيل ومن ثقل على الناس هان ، ولا ~~قدر عندهم لمهان . # وقال رجل لعمر رضي الله عنه : خدمك بنوك . # فقال : أغناني الله عنهم . # وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لابنه الحسن في وصيته له : يا بني إن ~~استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل ، ولا تكن عبد غيرك وقد ~~جعلك الله حرا ، فإن اليسير من الله تعالى أكرم وأعظم من الكثير من غيره ، ~~وإن كان كل منه كثيرا . # وقال زياد لبعض الدهاقين : ما المروءة فيكم ؟ قال : اجتناب الريب فإنه لا ~~ينبل مريب ، وإصلاح الرجل ماله فإنه من مروءته وقيامه بحوائجه وحوائج ms270 أهله ~~فإنه لا ينبل من احتاج إلى أهله ولا من احتاج أهله إلى غيره . # وأنشد ثعلب : من عف خف على الصديق لقاؤه وأخو الحوائج وجهه مملول وأخوك ~~من وفرت ما في كيسه فإذا عبثت به فأنت ثقيل وإن كان الناس لحمة لا يستغنون ~~عن التعاون ولا يستقلون عن المساعد والمظافر ، فإنما ذلك تعاون ائتلاف ~~يتكافئون فيه ولا يتفاضلون وربما كان المستعين فيه مفضلا ، والمعين مستفضلا ~~كاستعانة السلطان بجنده والمزارع بأكرته فليس من هذا بد ولا لأحد عنه غنى ، ~~وإنما الذي يتصون عنه الكرام تعاون التفضيل فينقبضون عن أن يستعينوا لئلا ~~يكون عليهم يد ، ويسارعون أن يعينوا لأن يكون لهم يد . # ومن أقدم من غير اضطرار على الاستعانة بجاه أو بمال فقد أوهى مروءته ، ~~واستبذل صيانته ، ومن دعاه الاضطرار لنائب ألم أو حادث هجم إلى الاستعانة ~~بمن يتنفس به من خناق كربه ، ويتخلص به من PageV01P419 وثاق نوائبه ، فلا ~~لوم على مضطر . # فإن أغنته الاستعانة بالجاه عن الاستعانة بالمال ، فلا عذر له في التعرض ~~للمال ، ويعدل إلى ولاة الأمور فإن الحوائج عندهم أنجح وهي عليهم أسهل ، ~~وهم لذلك مندوبون ، فهم لا يجدون لهم مساويا وليصبرن على إبطائهم فإن تراكم ~~الأمور عليهم يشغلهم إلا عن الملح الصبور . # ولذلك قيل : قدم لحاجتك بعض لجاجتك . # وقال أبو سارة سحيم بن الأعرف : تعد قرابة وتعد صهرا ويسعد بالقرابة من ~~رعاها وما زرناك من عدم ولكن يهش إلى الإمارة من رجاها وأيا ما فعلت فإن ~~نفسي تعد صلاح نفسك من غناها فإن تعذر عليه صلاح حاله إلا بمال يستعين به ~~على نوائبه كان له مع الضرورة فسحة . # لكن إن وجده قرضا مردودا لم يأخذه صلة وجودا ، فإن القرض مستسمح به في ~~المروآت . # هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما أعلى الله من قدره وفضله على ~~خلقه ، قد اقترض ثم قضى فأحسن ، وقال صلى الله عليه وسلم : { من أعياه رزق ~~الله تعالى حلالا فليستدن على الله وعلى رسوله } . # وقال صلى الله عليه وسلم : { المستدين تاجر الله ms271 في أرضه } . # وقال البحتري : إن لم يكن كثر فقل عطية يبلغ بها باغي الرضا بعض الرضا أو ~~لم يكن هبة فقرض يسرت أسبابه وكواهب من أقرضا ولئن كان الدين رقا فهو أسهل ~~من رق الإفضال . # وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : من أراد البقاء ولا ~~بقاء فليباكر الغداء وليخفف الرداء . # قيل : وما في خفة الرداء من البقاء ؟ قال : قلة الدين . PageV01P420 فإن ~~أعوزه ذلك إلا استسماحا فهو الرق المذل . # ولذلك قيل : لا مروءة لمقل . # وقال بعض الحكماء : من قبل صلتك فقد باعك مروءته وأذل لقدرك عزه وجلالته ~~. # والذي يتماسك به الباقي من مروءة الراغبين ، واليسير التافه من صيانة ~~السائلين ، وإن لم يبق لذي رغبة مروءة ولا لسائل تصون أربعة أمور هي جهد ~~المضطر : أحدها : أن يتجافى ضرع السائلين ، وأبهة المستقلين . # فيذل بالضرع ويحرم بالأبهة ، وليكن من التجمل على ما يقتضيه حال مثله من ~~ذوي الحاجات . # وقد قيل لبعض الحكماء : من يفحش زوال النعم ؟ قال : إذا زال معها التجمل ~~. # وأنشد بعض أهل الأدب لعلي بن الجهم : هي النفس ما حملتها تتحمل وللدهر ~~أيام تجور وتعدل وعاقبة الصبر الجميل جميلة وأحسن أخلاق الرجال التفضل ولا ~~عار إن زالت عن الحر نعمة ولكن عارا أن يزول التجمل والثاني : أن يقتصر في ~~السؤال على ما دعته إليه الضرورة ، وقادته إليه الحاجة ، ولا يجعل ذلك ~~ذريعة إلى الاغتنام فيحرم باغتنامه ، ولا يعذر في ضرورته . # وقد قال بعض الحكماء : من ألف المسألة ألفه المنع . # والثالث : أن يعذر في المنع ويشكر على الإجابة فإنه إن منع فعما لا يملك ~~، وإن أجيب فإلى ما لا يستحق . # فقد قال النمر بن تولب : لا تغضبن على امرئ في ماله وعلى كرائم صلب مالك ~~فاغضب والرابع : أن يعتمد على سؤال من كان للمسألة أهلا ، وكان النجح عنده ~~مأمولا ، فإن ذوي المكنة كثير والمعين منهم قليل . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { PageV01P421 الخير كثير وقليل ~~فاعله } . # والمرجو للإجابة من تكاملت فيه خصالها وهي ثلاث : إحداهن : كرم ms272 الطبع فإن ~~الكريم مساعد ، واللئيم معاند . # وقد قيل : المخذول من كانت له إلى اللئام حاجة . # والثانية : سلامة الصدر فإن العدو إلب على نكبتك ، وحرب في نائبتك . # وقد قيل : من أوغرت صدره استدعيت شره ، فإن رق لك بكرم طبعه ، ورحمك بحسن ~~ظفره ، فأعظم بها منحة أن يصير عدوك لك راحما . # وقد قال الشاعر : وحسبك من حادث بامرئ ترى حاسديه له راحمينا والخامس : ~~ظهور المكنة فإن من سأل ما لا يمكن فقد أحال ، وكان كمستنهض المسجون ، ~~ومستسعف المديون ، وكان بالرد خليقا ، وبالحرمان حقيقا . # وقد قال علي كرم الله وجهه : من لا يعرف لا حتى يقال له لا فهو أحمق . # ووصى عبد الله بن الأهتم ابنه فقال : يا بني لا تطلب الحوائج من غير ~~أهلها ، ولا تطلبها في غير حينها ، ولا تطلب ما لست له مستحقا فإنك إن فعلت ~~ذلك كنت حقيقا بالحرمان . # وقال الشاعر : ولا تسألن امرأ حاجة يحاول من ربه مثلها فيترك ما كنت ~~حملته ويبدأ بحاجته قبلها فهذا ما يختص بشروط المروءة في نفسه . ~~PageV01P422 وأما شروط المروءة في غيره فثلاثة : المؤازرة والمياسرة ~~والإفضال . # أما المؤازرة فنوعان : أحدهما : الإسعاف بالجاه ، والثاني الإسعاف في ~~النوائب . # فأما الإسعاف بالجاه فقد يكون من الأعلى قدرا ، والأنفذ أمرا ، وهو أرخص ~~المكارم ثمنا وألطف الصنائع موقعا ، وربما كان أعظم من المال نفعا . # وهو الظل الذي يلجأ إليه المضطرون ، والحمى الذي يأوي إليه الخائفون . # فإن أوطأه اتسع بكثرة الأنصار والشيع ، وإن قبضه انقطع بنفور الغاشية ~~والتبع ، فهو بالبذل ينمى ويزيد ، وبالكف ينقص ويبيد ، فلا عذر لمن منح ~~جاها أن يبخل به فيكون أسوأ حالا من البخيل بماله الذي قد يعده لنوائبه ، ~~ويستبقيه للذته ، ويكنزه لذريته . # وبضد ذلك من بخل بجاهه ؛ لأنه قد أضاعه بالشح وبدده بالبخل وحرم نفسه ~~غنيمة مكنته ، وفرصة قدرته ، فلم يعقبه إلا ندما على فائت وأسفا على ضائع ~~ومقتا يستحكم في النفوس وذما قد ينتشر في الناس . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الخلق كلهم عيال الله ~~وأحب خلق الله ms273 تعالى إليه أحسنهم صنيعا إلى عياله } . # وقال بعض الحكماء : اصنع الخير عند إمكانه يبقى لك حمده عند زواله ، ~~وأحسن والدولة لك يحسن لك ، والدولة عليك ، واجعل زمان رخائك عدة لزمان ~~بلائك . # وقال بعض البلغاء : من علامة الإقبال اصطناع الرجال . # وقال بعض الأدباء : بذل الجاه أحد الحباءين . # وقال ابن الأعرابي : العرب تقول : من أمل شيئا هابه ومن جهل شيئا عابه . # وبذل الجاه قد PageV01P423 يكون من كرم النفس وشكر النعمة وضده من ضده ~~وليس بذل الجاه لالتماس الجزاء بذلا مشكورا ، وإنما هو بائع جاهه ومعاوض ~~على نعم الله تعالى وآلائه فكان بالذم أحق . # وأنشد بعض الأدباء لعلي بن عباس الرومي رحمه الله : لا يبذل العرف حين ~~يبذله كمشتري الحمد أو كمعتاضه بل يفعل العرف حين يفعله لجوهر العرف لا ~~لأعراضه وعلى من أسعد بجاهه ثلاثة حقوق يستكثر بها الشكر ويستمد بها المزيد ~~من الأجر : أحدها : أن يستسهل المعونة مسرورا ، ولا يستثقلها كارها ، فيكون ~~بنعم الله تعالى متبرما ولإحسانه مسخطا . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من عظمت نعمة الله ~~تعالى عليه عظمت مئونة الناس عليه } . # فمن لم يحتمل تلك المئونة عرض تلك النعمة للزوال . # والثاني : مجانبة الاستطالة وترك الامتنان فإنهما من لؤم الطبع وضيق ~~الصدر وفيهما هدم الصنيع ، وإحباط الشكر . # وقد قيل للحكيم اليوناني : من أضيق الناس طريقا وأقلهم صديقا ؟ قال : من ~~عاشر الناس بعبوس وجهه واستطال عليهم بنفسه . # والثالث : أن لا يقرن بمشكور سعيه تقريعا بذنب ولا توبيخا على هفوة فلا ~~يفي مضض التوبيخ بإدراك النجح ويصير الشكر وجدا والحمد عيبا . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم } . # وقال النابغة الجعدي : ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل إذا ما الشيء ولى ~~فأدبرا وأما الإسعاف في النوائب فلأن الأيام غادرة ، والنوازل غائرة ، ~~والحوادث عارضة ، PageV01P424 والنوائب راكضة ، فلا يعذر فيها إلا عليم ، ~~ولا يستنقذه منها إلا سليم . # وقد قال عدي بن حاتم : كفى زاجرا للمرء أيام دهره تروح له بالواعظات ~~وتغتدي فإذا وجد الكريم مصابا ms274 بحوادث دهره حثه الكرم وشكر النعم على ~~الإسعاف فيها بما استطاع سبيلا إليه ووجد قدرة عليه . # روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : خير من الخير معطيه وشر من ~~الشر فاعله . # وقيل لبعض الحكماء : هل شيء خير من الذهب والفضة ؟ قال : معطيهما . # والإسعاف في النوائب نوعان : واجب وتبرع . # فأما الواجب فما اختص بثلاثة أصناف وهم : الأهل والإخوان والجيران . # أما الأهل فلمماسة الرحم وتعاطف النسب . # وقد قيل : لم يسد من احتاج أهله إلى غيره . # وقال حسان بن ثابت : وإن امرأ نال المنى ثم لم ينل قريبا ولا ذا حاجة ~~لزهيد وإن امرأ عادى الرجال على الغنى ولم يسأل الله الغنى لحسود وأما ~~الإخوان فلمستحكم الود ومتأكد العهد . # سئل الأحنف بن قيس عن المروءة فقال : صدق اللسان ومؤاساة الإخوان وذكر ~~الله تعالى في كل مكان . # وقال بعض حكماء الفرس : صفة الصديق أن يبذل لك ماله عند الحاجة ، ونفسه ~~عند النكبة ، ويحفظك عند المغيب . # ورأى بعض الحكماء رجلين يصطحبان لا يفترقان فسأل عنهما فقيل : هما صديقان ~~. # فقال : ما بال أحدهما فقير والآخر غني . # وأما الجار فلدنو داره واتصال مزاره . # قال علي كرم الله وجهه : ليس حسن الجوار كف الأذى بل الصبر على الأذى . # وقال بعض الحكماء : من أجار جاره أعانه الله وأجاره . PageV01P425 وقال ~~بعض البلغاء : من أحسن إلى جاره فقد دل على حسن نجاره . # وقال بعض الشعراء : وللجار حق فاحترز من إذائه وما خير جار لا يزال ~~مؤاذيا فيجب في حقوق المروءة وشروط الكرم في هؤلاء الثلاثة تحمل أثقالهم ، ~~وإسعافهم في نوائبهم ولا فسحة لذي مروءة مع ظهور المكنة أن يكلهم إلى غيره ~~، أو يلجئهم إلى سؤاله ، وليكن سائل كرم نفسه عنهم فإنهم عيال كرمه وأضياف ~~مروءته ، فكما أنه لا يحسن أن يلجئ عياله وأضيافه إلى الطلب والرغبة فهكذا ~~من عاله كرمه وأضافته مروءته . # وقال بعض الشعراء : حق على السيد المرجو نائله والمستجار به في العرب ~~والعجم أن لا ينيل الأقاصي صوب راحته حتى يخص به الأدنى من الخدم إن الفرات ms275 ~~إذا جاشت غواربه روى السواحل ثم امتد في الأمم وأما التبرع فيمن عدا هؤلاء ~~الثلاثة من البعداء الذين لا يدلون بنسب ، ولا يتعلقون بسبب ، فإن تبرع ~~بفضل الكرم وفائض المروءة فنهض في حوادثهم ، وتكفل بنوائبهم ، فقد زاد على ~~شروط المروءة وتجاوزها إلى شروط الرئاسة . # وقيل لبعض الحكماء : أي شيء من أفعال الناس يشبه أفعال الإله ؟ قال : ~~الإحسان إلى الناس ، وإن كف تشاغلا بما لزم فلا لوم ما لم يلجأ إليه مضطر ؛ ~~لأن القيام بالكل معوز والتكفل بالجميع متعذر . # فهذا حكم المؤازرة . PageV01P426 وأما المياسرة فنوعان : أحدهما : العفو ~~عن الهفوات ، والثاني المسامحة في الحقوق . # فأما العفو عن الهفوات : فلأنه لا مبرأ من سهو وزلل ، ولا سليم من نقص أو ~~خلل ، ومن رام سليما من هفوة ، والتمس بريئا من نبوة ، فقد تعدى على الدهر ~~بشططه ، وخادع نفسه بغلطه ، وكان من وجود بغيته بعيدا وصار باقتراحه فردا ~~وحيدا . # وقد قالت الحكماء : لا صديق لمن أراد صديقا لا عيب فيه . # وقيل لأنوشروان : هل من أحد لا عيب فيه ؟ قال : من لا موت له ، وإذا كان ~~الدهر لا يوجده ما طلب ، ولا ينيله ما أحب ، وكان الوحيد في الناس مرفوضا ~~قصيا ، والمنقطع عنهم وحشيا ، لزمه مساعدة زمانه في القضاء ، ومياسرة ~~إخوانه في الصفح والإغضاء . # روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله تعالى أمرني ~~بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض } . # وقال بعض الأدباء : ثلاث خصال لا تجتمع إلا في كريم : حسن المحضر واحتمال ~~الزلة وقلة الملال . # وقال ابن الرومي : فعذرك مبسوط لذنب مقدم وودك مقبول بأهل ومرحب ولو ~~بلغتني عنك أذني أقمتها لدي مقام الكاشح المتكذب فلست بتقليب اللسان مصارما ~~خليلا إذا ما القلب لم يتقلب وإذا كان الإغضاء حتما والصفح كرما ترتب بحسب ~~الهفوة وتنزل بقدر الذنب . # والهفوات نوعان : صغائر وكبائر . # فالصغائر مغفورة ، والنفوس بها معذورة ؛ لأن الناس مع أطوارهم المختلفة ، ~~وأخلاقهم المتفاضلة ، لا يسلمون منها . # فكان الوجد فيها مطرحا ، والعتب مستقبحا . # وقد قال بعض العلماء : PageV01P427 من هجر أخاه من غير ms276 ذنب كان كمن زرع ~~زرعا ثم حصده في غير أوانه . # وقال أبو العتاهية : وشر الأخلاء من لم يزل يعاتب طورا وطورا يذم يريك ~~النصيحة عند اللقاء ويبريك في السر بري القلم وأما الكبائر فنوعان : أن ~~يهفو بها خاطئا ، ويزل بها ساهيا ، فالحرج فيها مرفوع ، والعتب عنها موضوع ~~؛ لأن هفوة الخاطر هدر ولومه هذر . # وقال بعض الحكماء : لا تقطع أخاك إلا بعد عجز الحيلة عن استصلاحه . # وقال الأحنف بن قيس : حق الصديق أن تحتمل له ثلاثا : ظلم الغضب ، وظلم ~~الدالة ، وظلم الهفوة . # وحكى ابن عون أن غلاما هاشميا عربد على قوم فأراد عمه أن يسيء به فقال : ~~يا عم إني قد أسأت وليس معي عقلي فلا تسئ بي ومعك عقلك . # وقال أبو نواس : لم أؤاخذك إذ جنيت لأني واثق منك بالإخاء الصحيح فجميل ~~العدو غير جميل وقبيح الصديق غير قبيح فإن تشبه خطؤه بالعمد ، وسهوه بالقصد ~~، تثبت ولم يلم بالتوهم فيكون ملوما ، ولذلك قيل : التثبت نصف العفو . # وقال بعض الحكماء : لا يفسدك الظن على صديق أصلحك اليقين له . # وقال بعض شعراء هذيل : فبعض الأمر تصلحه ببعض فإن الغث يحمله السمين ولا ~~تعجل بظنك قبل خبر فعند الخبر تنقطع الظنون ترى بين الرجال العين فضلا ~~وفيما أضمروا الفضل المبين كلون الماء مشتبها وليست تخبر عن مذاقته العيون ~~والثاني : أن يعتمد ما اجترم من كبائره ، ويقصد ما اجترح من سيئاته . # ولا يخلو فيما أتاه من أربع أحوال : فالحال الأولى : أن يكون موتورا قد ~~قابل على وترته PageV01P428 وكافأ على مساءته فاللائمة على من وتره عائدة ، ~~وإلى البادئ بها راجعة ؛ لأن المكافئ أعذر ، وإن كان الصفح أجمل . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إياكم والمشارة فإنها تميت ~~الغيرة وتحيي الغرة } . # وقال بعض الحكماء : من فعل ما شاء لقي ما لم يشأ . # وقال بعض الأدباء : من نالته إساءتك همه مساءتك . # وقال بعض البلغاء : من أولع بقبح المعاملة أوجع بقبح المقابلة . # وقال صالح بن عبد القدوس : إذا وترت امرأ فاحذر عداوته من يزرع الشوك لا ~~يحصد ms277 به عنبا إن العدو وإن أبدى مسالمة إذا رأى منك يوما فرصة وثبا ~~والإغضاء عن هذا أوجب ، وإن لم تكن المكافأة ذنبا لأنه قد رأى عقبى إساءته ~~، فإن واصل الشر واصلته المكافأة . # وقد قيل : باعتزالك الشر يعتزلك وبحسن النصفة يكون المواصلون . # وقال بعض الحكماء : من كنت سببا لبلائه وجب عليك التلطف له في علاجه من ~~دائه . # وقد قال أوس بن حجر : إذا كنت لم تعرض عن الجهل والخنا أصبت حليما أو ~~أصابك جاهل والحال الثانية : أن يكون عدوا قد استحكمت شحناؤه ، واستوعرت ~~سراؤه ، واستخشنت ضراؤه ، فهو يتربص بدوائر السوء انتهاز فرصه ، ويتجرع ~~بمهانة العجز مرارة غصصه ، فإذا ظفر بنائبة ساعدها ، وإذا شاهد نعمة عاندها ~~، فالبعد منه حذرا أسلم ، والكف عنه متاركة أغنم ، فإنه لا يسلم من عواقب ~~شره ، ولا يفلت من غوائل مكره . # وقد قالت الحكماء : لا تعرضن لعدوك في دولته فإذا زالت كفيت شره . # وقال لقمان لابنه : يا بني كذب من قال إن PageV01P429 الشر بالشر يطفأ ، ~~فإن كان صادقا فليوقد نارين ولينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى ، وإنما يطفئ ~~الخير الشر كما يطفئ الماء النار . # وقال جعفر بن محمد : كفاك من الله نصرا أن ترى عدوك يعصي الله فيك . # وقال بعض الحكماء : بالسيرة العادلة يقهر المعادي . # وقال البحتري : وأقسم لا أجزيك بالشر مثله كفى بالذي جازيتني لك جازيا ~~والحال الثالثة : أن يكون لئيم الطبع خبيث الأصل قد أغراه لؤم الطبع على ~~سوء الاعتقاد ، وبعثه خبث الأصل على إتيان الفساد ، فهو لا يستقبح الشر ولا ~~يكف عن المكروه . # فهذه الحالة أطم ؛ لأن الأضرار بها أعم ، ولا سلامة من مثله إلا بالبعد ~~والانقباض ، ولا خلاص منه إلا بالصفح والإعراض ، فإنه كالسبع الضاري في ~~سوارح الغنم وكالنار المتأججة في يابس الحطب لا يقربها إلا تالف ولا يدنو ~~منها إلا هالك . # روى مكحول عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ~~قال : { الناس كشجرة ذات جنى ويوشك أن يعودوا كشجرة ذات شوك إن ناقدتهم ~~ناقدوك ، وإن هربت منهم طلبوك ms278 ، وإن تركتهم لم يتركوك قيل : يا رسول الله ~~وكيف المخرج ؟ قال : أقرضهم من عرضك ليوم فاقتك } . # وقال عبد الله بن العباس : العاقل الكريم صديق كل أحد إلا من ضره ، ~~والجاهل اللئيم عدو كل أحد إلا من نفعه . # وقال : شر ما في الكريم أن يمنعك خيره ، وخير ما في اللئيم أن يكف عنك ~~شره . # وقال بعض البلغاء : أعداؤك داؤك وفي البعد عنهم شفاؤك . # وقال بعض البلغاء : شرف الكريم تغافله عن اللئيم . PageV01P430 ووصى بعض ~~الحكماء ابنه فقال : يا بني إذا سلم الناس منك فلا عليك أن لا تسلم منهم ~~فإنه قل ما اجتمعت هاتان النعمتان . # وقال عبد المسيح بن نفيلة : الخير والشر مقرونان في قرن فالخير مستتبع ~~والشر محذور والحال الرابعة : أن يكون صديقا قد استحدث نبوة وتغيرا ، أو ~~أخا قد استجد جفوة وتنكرا ، فأبدى صفحة عقوقه ، واطرح لازم حقوقه ، وعدل عن ~~بر الإخاء إلى جفوة الأعداء . # فهذا قد يعرض في المودات المستقيمة كما تعرض الأمراض في الأجسام السليمة ~~فإن عولجت أقلعت ، وإن أهملت أسقمت ثم أتلفت . # ولذلك قالت الحكماء : دواء المودة كثرة التعاهد . # وقال كشاجم : أقل ذا الود عثرته وقفه على سنن الطريق المستقيمه ولا تسرع ~~بمعتبة إليه فقد يهفو ونيته سليمه ومن الناس من يرى أن متاركة الإخوان إذا ~~نفروا أصلح ، واطراحهم إذا فسدوا أولى ، كأعضاء الجسد إذا فسدت كان قطعها ~~أسلم فإن شح بها سرت إلى نفسه ، وكالثوب إذا خلق كان اطراحه بالجديد له ~~أجمل . # وقد قال بعض الحكماء : رغبتك فيمن يزهد فيك ذل نفس ، وزهدك فيمن يرغب فيك ~~صغر همة . # وقد قال بزرجمهر : من تغير عليك في مودته فدعه حيث كان قبل معرفته . # وقال نصر بن أحمد الخبز أرزي : صل من دنا وتناس من بعدا لا تكرهن على ~~الهوى أحدا قد أكثرت حواء إذ ولدت فإذا جفا ولد فخذ ولدا فهذا مذهب من قل ~~وفاؤه ، وضعف إخاؤه ، وساءت طرائقه ، وضاقت خلائقه ، ولم يكن فيه فضل ~~الاحتمال ، ولا صبر على الإدلال ، فقابل على الجفوة ، PageV01P431 وعاقب ~~على الهفوة ، واطرح سالف ms279 الحقوق ، وقابل العقوق بالعقوق ، فلا بالفضل أخذ ~~ولا إلى العفو أخلد . # وقد علم أن نفسه قد تطغى عليه فترديه ، وأن جسمه قد يسقم عليه فيؤلمه ~~ويؤذيه ، وهما أخص به وأحنى عليه من صديق قد تميز بذاته ، وانفصل بأدواته ~~فيريد من غيره لنفسه ما لا يجده من نفسه لنفسه . # هذا عين المحال ومحض الجهل مع أن من لم يحتمل بقي فردا وانقلب الصديق ~~فصار عدوا . # وعداوة من كان صديقا أعظم من عداوة من لم يزل عدوا . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { أوصاني ربي بسبع : الإخلاص في ~~السر والعلانية وأن أعفو عمن ظلمني وأعطي من حرمني وأصل من قطعني وأن يكون ~~صمتي فكرا ، ونطقي ذكرا ونظري عبرة } . # وقال لقمان لابنه : يا بني لا تترك صديقك الأول فلا يطمئن إليك الثاني ، ~~يا بني اتخذ ألف صديق والألف قليل ولا تتخذ عدوا واحدا والواحد كثير . # وقيل للمهلب بن أبي صفرة : ما تقول في العفو والعقوبة ؟ قال : هما بمنزلة ~~الجود والبخل فتمسك بأيهما شئت . # وأنشد ثعلب : إذا أنت لم تستقبل الأمر لم تجد بكفيك في إدباره متعلقا إذا ~~أنت لم تترك أخاك وزلة إذا زلها أوشكتما أن تفرقا فإذا كان الأمر على ما ~~وصفت فمن حقوق الصفح الكشف عن سبب الهفوة ليعرف الداء فيعالجه فإن لم يعرف ~~الداء لم يقف على الدواء كما قد قال المتنبي : فإن الجرح ينفر بعد حين إذا ~~كان البناء على فساد وإذا كان ذلك كذلك فلا يخلو حال السبب من أن يكون لملل ~~أو زلل . # فإن كان PageV01P432 لملل فمودات الملول ظل الغمام وحلم النيام . # وقد قيل في منثور الحكم : لا تأمنن لملول ، وإن تحلى بالصلة وعلاجه أن ~~يترك على ملله فيمل الجفاء كما مل الإخاء . # وإن كان لزلل لوحظت أسبابه فإن كان لها مدخل في التأويل وشبهة تئول إلى ~~جميل حمله على أجمل تأويله وصرفه إلى أحسن جهة ، كالذي حكي عن خالد بن ~~صفوان أنه مر به صديقان له فعرج عليه أحدهما وطواه الآخر ، فقيل له في ذلك ms280 ~~فقال : نعم عرج علينا هذا بفضله ، وطوانا ذاك بثقته بنا . # وأنشد بعض أهل الأدب لمحمد بن داود الأصفهاني : وتزعم للواشين أني فاسد ~~عليك وأني لست فيما عهدتني وما فسدت لي يعلم الله نية عليك ولكن خنتني ~~فاتهمتني غدرت بعهدي عامدا وأخفتني فخفت ولو آمنتني لأمنتني . # وإن لم يكن لزلله في التأويل مدخل نظر بعد زلله فإن ظهر ندمه وبان خجله ~~فالندم توبة والخجل إنابة ، ولا ذنب لتائب ولا لوم على منيب ، ولا يكلف ~~عذرا عما سلف ، فيلجأ إلى ذل التحريف ، أو خجل التعنيف . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إياكم والمعاذر فإن أكثرها مفاجر ~~} . # وقال علي رضي الله عنه : كفى بما يعتذر منه تهمة . # وقال مسلم بن قتيبة لرجل اعتذر إليه : لا يدعونك أمر قد تخلصت منه إلى ~~الدخول في أمر لعلك لا تخلص منه . # وقال بعض الحكماء : شفيع المذنب إقراره ، وتوبته اعتذاره . # وقال بعض البلغاء : من لم يقبل التوبة عظمت خطيئته ، ومن لم يحسن إلى ~~التائب قبحت إساءته . # وقال بعض الحكماء : الكريم من PageV01P433 أوسع المغفرة إذا ضاقت بالمذنب ~~المعذرة . # وقال بعض الشعراء : العذر يلحقه التحريف والكذب وليس في غير ما يرضيك لي ~~أرب وقد أسأت فبالنعمى التي سلفت إلا مننت بعفو ما له سبب وإن عجل العذر ~~قبل توبته وقدم التنصل قبل إنابته فالعذر توبة والتنصل إنابة فلا يكشف عن ~~باطن عذره ، ولا يعنف بظاهر غدره ، فيكون لئيم الظفر سيء المكافأة . # وقد قيل : من غلبته الحدة فلا تغتر بمودته . # وقال بعض الحكماء : شافع المذنب خضوعه إلى عذره . # وقال بعض الشعراء : اقبل معاذير من يأتيك معتذرا إن بر عندك فيما قال أو ~~فجرا فقد أطاعك من يرضيك ظاهره وقد أجلك من يعصيك مستترا وإن ترك نفسه في ~~زلله ، ولم يتدارك بعذره وتنصله ، ولا محاه بتوبته ، وإنابته ، راعيت في ~~المتاركة فستجده لا ينفك فيها من أمور ثلاثة : أحدها : أن يكون قد كف عن ~~سيئ عمله ، وأقلع عن سالف زلله ، فالكف إحدى التوبتين ، والإقلاع أحد ~~العذرين . # فكن أنت المعتذر عنه بصفحك ms281 والمتنصل له بفضلك . # فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : المحسن على المسيء أمير . # والثاني : أن يكون قد وقف على ما أسلف من زلله غير تارك ولا متجاوز فوقوف ~~المرض أحد البرأين ، وكفه عن الزيادة إحدى الحسنيين ، وقد استبقى بالوقوف ~~عن المتجاوز أحد شطريه فعول به على صلاح شطره الآخر . # وإياك وإرجاءه فإن الإرجاء يفسد شطر صلاحه ، والتلافي يصلح شطر فساده ، ~~فإن من سقم من جسمه ما لم يعالجه سرى السقم إلى صحته ، وإن عالجه سرت ~~PageV01P434 الصحة إلى سقمه . # والثالث : أن يتجاوز مع الأوقات فيزيد فيه على مرور الأيام ، فهذا هو ~~الداء العضال فإن أمكن استدراكه وتأتى استصلاحه ، وذلك باستنزاله عنه إن ~~علا ، وبإرغابه إن دنا ، وبعتابه إن ساوى ، وإلا فآخر الداء العياء الكي . # ومن بلغت به الأعذار إلى غايتها فلا لائمة عليه والمقيم على شقاقه باغ ~~مصروع . # وقد قيل : من سل سيف البغي أغمده في رأسه فهذا شرط . # وأما المسامحة في الحقوق ؛ فلأن الاستيفاء موحش والاستقصاء منفر ومن أراد ~~كل حقه من النفوس المستصعبة بشح أو طمع لم يصل إليه إلا بالمنافرة والمشاقة ~~، ولم يقدر عليه إلا بالمخاشنة والمشاحة ؛ لما استقر في الطباع من مقت من ~~شاقها ونافرها ، وبغض من شاحها ونازعها ، كما استقر حب من ياسرها وسامحها ~~فكان أليق لأمور المروءة استلطاف النفوس بالمياسرة والمسامحة ، وتألفها ~~بالمقاربة والمساهلة . # وقال بعض الحكماء : من عاشر إخوانه بالمسامحة دامت له موداتهم . # وقال بعض الأدباء : إذا أخذت عفو القلوب زكا ريعك ، وإن استقصيت أكديت . # والمسامحة نوعان في عقود وحقوق . # فأما العقود فهو أن يكون فيها سهل المناجزة ، قليل المحاجزة مأمون الغيبة ~~بعيدا من المكر والخديعة . # روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أجملوا في طلب الدنيا فإن ~~كلا ميسر لما كتب له منها } . # وقال صلى الله عليه وسلم : { ألا أدلكم على شيء يحبه الله تعالى ورسوله ؟ ~~قالوا : بلى يا رسول الله . # قال : التغابن للضعيف } . # وحكى ابن عون أن PageV01P435 عمر بن عبيد الله اشترى للحسن البصري إزارا ~~بستة دراهم ونصف ms282 فأعطى التاجر سبعة دراهم ، فقال : ثمنه ستة دراهم ونصف . # فقال : إني اشتريته لرجل لا يقاسم أخاه درهما . # ومن الناس من يرى أن المساهلة في العقود عجز ، وأن الاستقصاء فيها حزم ، ~~حتى أنه لينافس في الحقير ، وإن جاد بالجليل الكثير كالذي حكي عن عبد الله ~~بن جعفر وقد ماكس في درهم ، وهو يجود بما يجود به ، فقيل له في ذلك فقال : ~~ذلك مالي أجود به وهذا عقلي بخلت به . # وهذا إنما ينساع من أهل المروءة في دفع ما يخادعهم به الأدنياء ، ~~ويغابنهم به الأشحاء ، وهكذا كانت حال عبد الله بن جعفر . # فأما مماكسة الاستنزال والاستسماح فكلا ؛ لأنه مناف للكرم ومباين للمروءة ~~. # وأما الحقوق فتتنوع المسامحة فيها نوعين : أحدهما في الأحوال ، والثاني ~~في الأموال . # فأما المسامحة في الأحوال فهو إطراح المنازعة في الرتب وترك المنافسة في ~~التقدم . # فإن مشاحة النفوس فيها أعظم والعناد عليها أكثر ، فإن سامح فيها ولم ~~ينافس كان مع أخذه بأفضل الأخلاق واستعماله لأحسن الآداب أوقع في النفوس من ~~إفضاله برغائب الأموال ، ثم هو أزيد في رتبته وأبلغ في تقدمه . # وإن شاح فيها ونازع كان مع ارتكابه لأخشن الأخلاق واستعماله لأهجن الآداب ~~أنكى في النفوس من حد السيف وطعن السنان ، ثم هو أخفض للمرتبة وأمنع من ~~التقدم . # حكي أن فتى من بني هاشم تخطى رقاب الناس عند ابن أبي دؤاد فقال : يا بني ~~إن الآداب ميراث الأشراف ولست أرى عندك PageV01P436 من سلفك إرثا . # وأما المسامحة في الأموال فتتنوع ثلاثة أنواع : مسامحة إسقاط لعدم ، ~~ومسامحة تخفيف لعجز ، ومسامحة إنكار لعسرة . # وهي مع اختلاف أسبابها تفضل مأثور وتآلف مشكور . # وإذا كان الكريم قد يجود بما تحويه يده ، وينفذ فيه تصرفه ، كان أولى أن ~~يجود بما خرج عن يده فطاب نفسا بفراقه . # وقد تصل المسامحة في الحقوق إلى من لا يقبل البر ويأبى الصلة فيكون أحسن ~~موقعا وأزكى محلا . # وربما كانت المسامحة فيها آمن من رد السائل ومنع المجتدي ؛ لأن السائل ~~كما اجترأ على سؤالك فسيجترئ على سؤال غيرك إن رددته . # وليس ms283 كل من صار أسير حقك ، ورهين دينك يجد بدا من مسامحتك ومياسرتك ، ثم ~~لك مع ذلك حسن الثناء وجزيل الأجر . # وقال محمود الوراق رحمه الله : المرء بعد الموت أحدوثة يفنى وتبقى منه ~~آثاره فأحسن الحالات حال امرئ تطيب بعد الموت أخباره فهذه حال المياسرة . ~~PageV01P437 وأما الإفضال فنوعان : إفضال اصطناع ، وإفضال استكفاف ودفاع . # فأما إفضال الاصطناع فنوعان : أحدهما : ما أسداه جودا في شكور . # والثاني : ما تألف به نبوة نفور . # وكلاهما من شروط المروءة لما فيهما من ظهور الاصطناع ، وتكاثر الأشياع ~~والأتباع . # ومن قلت صنائعه في الشاكرين ، وأعرض عن تألف النافرين ، كان فردا مهجورا ~~، وتابعا محقورا . # ولا مروءة لمتروك مطرح ، ولا قدر لمحقور مهتضم . # وقال عمر بن عبد العزيز : ما طاوعني الناس على شيء أردته من الحق حتى ~~بسطت لهم طرفا من الدنيا . # وقال بعض الحكماء : أقل ما يجب للمنعم بحق نعمته أن لا يتوصل بها إلى ~~معصيته . # وأنشدت لبعض الأعراب : من جمع المال ولم يجد به وترك المال لعام جدبه هان ~~على الناس هوان كلبه يبقى الثناء وتذهب الأموال ولكل دهر دولة ورجال ما نال ~~محمدة الرجال وشكرهم إلا الجواد بماله المفضال لا ترض من رجل حلاوة قوله ~~حتى يصدق ما يقول فعال فإن ضاقت به الحال عن الاصطناع بماله فقد عدم من آلة ~~المكارم عمادها ، وفقد من شروط المروءة سنادها ، فليواس بنفسه مواساة ~~المساعف وليسعد بها إسعاد المتألف . # قال المتنبي : فليسعد النطق إن لم تسعد الحال وإن كان لا يراها ، وإن ~~أجهدها إلا تبعا للمفضلين قليلة بين المكثرين فإن الناس لا يساوون بين ~~المعطي والمانع ، ولا يقنعهم القول دون الفعل ، ولا يغنيهم الكلام عن المال ~~، ويرونه كالصدى إن رد صوتا لم يجد نفعا ، كما قال الشاعر : يجود بالوعد ~~ولكنه يدهن من قارورة فارغه PageV01P438 فكل ما خرج عندهم عن المال كان ~~فارغا ، وكل ما عدا الإفضال به كان هينا ، وقد قدمنا من القول في شروط ~~الإفضال ما أقنع . # وأما إفضال الاستكفاف ؛ فلأن ذا الفضل لا يعدم حاسد نعمة ومعاند فضيلة ~~يعتريه ms284 الجهل بإظهار عناده ، ويبعثه اللؤم على البذاء بسفهه فإن غفل عن ~~استكفاف السفهاء ، وأعرض عن استدفاع أهل البذاء ، صار عرضه هدفا للمثالب ، ~~وحاله عرضة للنوائب ، وإذا استكفى السفيه واستدفع البذيء صان عرضه وحمى ~~نعمته . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما وقى به المرء عرضه ~~فهو صدقة } . # وقالت عائشة رضي الله عنها : ذبوا بأموالكم عن أحسابكم . # وامتدح رجل الزهري فأعطاه قميصه ، فقال له رجل : أتعطي على كلام الشيطان ~~؟ فقال : من ابتغى الخير اتقى الشر . # ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : { من أراد بر الوالدين فليعط ~~الشعراء } . # وهذا صحيح ؛ لأن الشعر ساتر يستر به ما ضمن من مدح أو هجاء ومن أجل ذلك ~~قيل : لا تؤاخ شاعرا فإنه يمدحك بثمن ويهجوك مجانا ، ولاستكفاف السفهاء ~~بالإفضال شرطان : أحدهما : أن يخفيه حتى لا ينتشر فيه مطامع السفهاء ~~فيتوصلون إلى اجتذابه بسبه ، وإلى ماله بثلبه . # والثاني : أن يتطلب له في المجاملة وجها ويجعله في الإفضال عليه سببا ؛ ~~لأنه لا يرى أنه على السفه واستدامة البذاء . # واعلم أنك ما حييت ملحوظ المحاسن محفوظ المساوئ . # ثم من بعد ذلك حديث منتشر لا يراقبك صديق ، ولا يحامي عنك شقيق ، فكن ~~أحسن حديث ينشر يكن PageV01P439 سعيك في الناس مشكورا ، وأجرك عند الله ~~مذخورا . # فقد روى زياد بن الجراح ، عن عمر بن ميمون ، أنه قال : قال رسول الله صلى ~~الله عليه وسلم : { اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك ~~وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك } . # فهذا ما اقتضاه هذا الفصل من شروط المروءة ، وإن كان كل كتابنا هذا من ~~شروطها وما اتصل بحقوقها ، والله سبحانه وتعالى أعلم . PageV01P440 آداب ~~منثورة الفصل الثامن في آداب منثورة : اعلم أن الآداب مع اختلافها بتنقل ~~الأحوال وتغير العادات لا يمكن استيعابها ، ولا يقدر على حصرها ، وإنما ~~يذكر كل إنسان ما بلغه الوسع من آداب زمانه ، واستحسن بالعرف من عادات دهره ~~، ولو أمكن ذلك لكان الأول قد أغنى الثاني عنها ، والمتقدم قد كفى المتأخر ms285 ~~تكلفها ، وإنما حظ الأخير أن يتعانى حفظ الشارد وجمع المفترق . # ثم يعرض ما تقدم على حكم زمانه ، وعادات وقته ، فيثبت ما كان موافقا ، ~~وينفي ما كان مخالفا ، ثم يستمد خاطره في استنباط زيادة واستخراج فائدة فإن ~~أسعف بشيء فاز بدركه ، وحظي بفضيلته ، ثم يعبر عن ذلك كله بما كان مألوفا ~~من كلام الوقت وعرف أهله فإن لأهل كل وقت في الكلام عادة تؤلف ، وعبارة ~~تعرف ؛ ليكون أوقع في النفوس وأسبق إلى الأفهام . # ثم يرتب ذلك على أوائله ومقدماته ، ويثبته على أصوله وقواعده حسبما ~~يقتضيه الجنس فإن لكل نوع من العلوم طريقة هي أوضح مسلكا وأسهل مأخذا . # فهذه خمسة شروط هي حظ الأخير فيما يعانيه . # وكذلك القول في كل تصنيف مستحدث ولولا ذلك لكان تعاطي ما تقدم به الأول ~~عناء ضائعا وتكلفا مستهجنا . # ونرجو الله أن يمدنا بالتوفيق لتأدية هذه الشروط ، وتنهضنا المعونة ~~بتوفية هذه الحقوق ، حتى نسلم من ذم التكلف ونبرأ من عيوب التقصير ، وإن ~~كان اليسير مغفورا والخاطئ معذورا . # فقد قيل : من صنف كتابا فقد استهدف فإن أحسن فقد استعطف ، وإن أساء فقد ~~استقذف . # وقد PageV01P441 مضت أبواب تضمنت فصولا رأيت إتباعها بما لم أحب الإخلال ~~به . # فمن ذلك حال الإنسان في مأكله ومشربه فإن الداعي إلى ذلك شيئان : حاجة ~~ماسة وشهوة باعثة . # فأما الحاجة فتدعو إلى ما سد الجوع وسكن الظمأ . # وهذا مندوب إليه عقلا وشرعا ؛ لما فيه من حفظ النفس وحراسة الجسد . # ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال بين صوم اليومين ؛ لأنه يضعف الجسد ~~ويميت النفس ويعجز عن العبادة . # وكل ذلك يمنع منه الشرع ويدفع عنه العقل ، وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة ~~حظ من بر ، ولا نصيب من زهد ؛ لأن ما حرمها من فعل الطاعات بالعجز والضعف ~~أكثر ثوابا وأعظم أجرا ، إذ ليس في ترك المباح ثواب يقابل فعل الطاعات ، ~~وإتيان القرب ، ومن أخسر نفسه ربحا موفورا ، أو أحرمها أجرا مذخورا ، كان ~~زهده في الخير أقوى من رغبته ولم يبق عليه من هذا التكليف إلا الشهوة ~~بريائه ms286 وسمعته . # وأما الشهوة فتتنوع نوعين : شهوة في الإكثار والزيادة وشهوة في تناول ~~الألوان الملذة . # فأما النوع الأول وهو شهوة الزيادة على قدر الحاجة ، والإكثار على مقدار ~~الكفاية ، فهو ممنوع منه في العقل والشرع ؛ لأن تناول ما زاد على الكفاية ~~نهم معر وشره مضر . # وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إياكم والبطنة فإنها ~~مفسدة للدين مورثة للسقم مكسلة عن العبادة } . # وقال علي رضي الله عنه : إن كنت بطنا فعد نفسك زمنا . # وقال بعض البلغاء : أقلل طعاما تحمد مناما . # وقال بعض الأدباء : الرعب لؤم PageV01P442 والنهم شؤم . # وقال بعض الحكماء : أكبر الدواء تقدير الغذاء . # وقال بعض الشعراء : فكم من لقمة منعت أخاها بلذة ساعة أكلات دهر وكم من ~~طالب يسعى لأمر وفيه هلاكه لو كان يدري وقال آخر : كم دخلت أكلة حشا شره ~~فأخرجت روحه من الجسد لا بارك الله في الطعام إذا كان هلاك النفوس في المعد ~~ورب أكلة هاضت آكلا وحرمته مآكل . # روى أبو يزيد المدني ، عن عبد الرحمن بن المرقع ، قال : قال رسول الله ~~صلى الله عليه وسلم : { إن الله لم يخلق وعاء مليئا شرا من بطن فإن كان لا ~~بد فاعلا فاجعلوا ثلثا للطعام وثلثا للشراب وثلثا للريح } . PageV01P443 ~~وأما النوع الثاني وهو شهوة الأشياء الملذة ومنازعة النفوس إلى طلب الأنواع ~~الشهية فمذاهب الناس في تمكين النفس فيها مختلفة . # فمنهم من يرى أن صرف النفس عنها أولى ، وقهرها عن اتباع شهواتها أحرى ، ~~ليذل له قيادها . # ويهون عليه عنادها ؛ لأن تمكينها وما تهوى بطر يطغي وأشر يردي ؛ لأن ~~شهواتها غير متناهية فإذا أعطاها المراد من شهوات وقتها تعدتها إلى شهوات ~~قد استحدثتها ، فيصير الإنسان أسير شهوات لا تنقضي ، وعبد هوى لا ينتهي . # ومن كان بهذه الحال لم يرج له صلاح ولم يوجد فيه فضل . # وأنشدت لأبي الفتح البستي : يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته لتطلب الربح ~~مما فيه خسران أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان ~~وللحذر من هذه الحال ما حكي أن أبا ms287 حزم رحمه الله كان يمر على الفاكهة ~~فيشتهيها فيقول : موعدك الجنة . # وقال آخر : تمكين النفس من لذاتها أولى ، وإعطاؤها ما اشتهت من المباحات ~~أحرى ؛ لما فيه من ارتياح النفس بنيل شهواتها ، ونشاطها بإدراك لذاتها ، ~~فتنحسر عنها ذلة المقهور ، وبلادة المجبور ، ولا تقصر عن درك ولا تعصي في ~~نهضة ولا تكل عن استعانة . # وقال آخرون : بل توسط الأمرين أولى ؛ لأن في إعطائها كل شهواتها بلادة ~~والنفس البليدة عاجزة ، وفي منعها عن البعض كف لها عن السلاطة ، وفي ~~تمكينها من البعض حسم لها عن البلادة . # وهذا لعمري أشبه المواهب بالسلام ؛ لأن التوسط في الأمور أحمد . # وإذ قد مضى الكلام في المأكول والمشروب فينبغي PageV01P444 أن يتبع بذكر ~~الملبوس . PageV01P445 اعلم أن الحاجة ، وإن كانت في المأكول والمشروب أدعى ~~فهي إلى الملبوس ماسة وبها إليه فاقة ؛ لما في الملبوس من حفظ الجسد ودفع ~~الأذى وستر العورة وحصول الزينة . # قال الله تعالى : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ~~ولباس التقوى ذلك خير } . # فمعنى قوله : ( أنزلنا عليكم لباسا ) ، أي خلقنا لكم ما تلبسون من الثياب ~~. # يواري سوآتكم أي يستر عوراتكم وسميت العورة سوأة ؛ لأنه يسوء صاحبها ~~انكشافها من جسده . # وقوله : وريشا ، فيه أربعة تأويلات : أحدها أنه المال وهو قول مجاهد ، ~~والثاني أنه اللباس والعيش والنعم وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما والثالث ~~أنه المعاش وهو قول معبد الجهني ، والرابع أنه الجمال وهو قول عبد الرحمن ~~بن زيد . # وقوله : { ولباس التقوى } ، فيه ستة تأويلات : أحدها : أن لباس التقوى هو ~~الإيمان وهو قول قتادة والسدي . # والثاني : أنه العمل الصالح وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما . # والثالث : أنه السمت الحسن وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه . # والرابع : هو خشية الله تعالى وهو قول عروة بن الزبير . # والخامس : أنه الحياء وهذا قول معبد الجهني . # والسادس : هو ستر العورة وهذا قول عبد الرحمن بن زيد . # وقوله : ذلك خير فيه تأويلان : أحدهما : أن ذلك راجع إلى جميع ما تقدم من ~~قوله : قد أنزلنا عليكم لباسا ms288 يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ، ثم قال : ~~ذلك خير ، أي ذلك الذي ذكرته خير كله . # والثاني : أن ذلك راجع إلى لباس التقوى ومعنى PageV01P446 الكلام ، وإن ~~لباس التقوى خير من الرياش واللباس وهذا قول قتادة والسدي . # فلما وصف الله تعالى حال اللباس وأخرجه مخرج الامتنان علم أنه معونة منه ~~لشدة الحاجة إليه . # وإذا كان كذلك ففي اللباس ثلاثة أشياء : أحدها دفع الأذى . # والثاني : ستر العورة . # والثالث : الجمال والزينة . # فأما دفع الأذى به فواجب بالعقل ؛ لأن العقل يوجب دفع المضار واجتلاب ~~المنافع . # وقد قال الله تعالى : { والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال ~~أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم } . # فأخبر بحالها ولم يأمر بها اكتفاء بما يقتضيه العقل ، واستغناء بما يبعث ~~عليه الطبع . # ويعني بالظلال الشجر وبالأكنان جمع كن وهو الموضع الذي يستكن فيه ، ويعني ~~بقوله سرابيل تقيكم الحر ثياب القطن والكتان والصوف ، وبقوله وسرابيل تقيكم ~~بأسكم الدروع التي تقي البأس وهو الحرب . # فإن قيل : كيف قال : تقيهم الحر ولم يذكر البرد ، وقال : جعل لكم من ~~الجبال أكنانا ولم يذكر السهل ، فعن ذلك جوابان : أحدهما : أن القوم كانوا ~~أصحاب جبال وخيام فذكر لهم الجبال وكانوا أصحاب حر دون برد فذكر لهم نعمته ~~عليهم فيما هو مختص بهم وهذا قول عطاء . # والجواب الثاني : أنه اكتفاء بذكر أحدهما عن ذكر الآخر إذ كان معلوما أن ~~السرابيل التي تقي الحر أيضا تقي البرد ومن اتخذ من الجبال أكنانا اتخذ من ~~السهل ، وهذا قول الجمهور . PageV01P447 وأما ستر العورة فقد اختلف الناس ~~فيه هل وجب بالعقل أو بالشرع ؟ فقالت طائفة : وجب سترها بالعقل لما في ~~ظهورها من القبح ، وما كان قبيحا فالعقل مانع منه . # ألا ترى أن آدم وحواء لما أكلا من الشجرة التي نهيا عنها بدت لهما ~~سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة تنبيها لعقولهما في ستر ما رأياه ~~مستقبحا من سوآتهما ؛ لأنهما لم يكونا قد كلفا ستر ما لم يبد لهما . # ولا كلفاه بعد أن بدت لهما وقبل ms289 سترها . # وقالت طائفة أخرى : بل ستر العورة واجب بالشرع ؛ لأنه بعض الجسد الذي لا ~~يوجب العقل ستر باقيه ، وإنما اختصت العورة بحكم شرعي فوجب أن يكون ما يلزم ~~من سترها حكما شرعيا . # وقد كانت قريش وأكثر العرب مع ما كانوا عليه من وفور العقل وصحة الألباب ~~يطوفون بالبيت عراة ويحرمون على نفوسهم اللحم والودك . # ويرون ذلك أبلغ في القربة ، وإنما القرب ما استحسنت في العقل حتى أنزل ~~الله تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا ~~تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } . # يعني بقوله : خذوا زينتكم ، الثياب التي تستر عوراتكم ، وكلوا واشربوا ما ~~حرمتموه على أنفسكم من اللحم والودك . # وفي قوله تعالى : ولا تسرفوا تأويلان : أحدهما : لا تسرفوا في التحريم ~~وهذا قول السدي . # والثاني : لا تأكلوا حراما فإنه إسراف وهذا قول ابن زيد . # فأوجب بهذه الآية ستر العورة بعد أن لم يكن العقل موجبا له فدل ذلك على ~~أن سترها وجب بالشرع دون العقل . PageV01P448 وأما الجمال والزينة فهو ~~مستحسن بالعرف والعادة من غير أن يوجبه عقل أو شرع . # وفي هذا النوع قد يقع التجاوز والتقصير والتوسط المطلوب فيه معتبر من ~~وجهين : أحدهما : في صفة الملبوس وكيفيته . # والثاني : في جنسه وقيمته . # فأما صفته فمعتبرة بالعرف من وجهين : أحدهما عرف البلاد فإن لأهل المشرق ~~زيا مألوفا ، ولأهل المغرب زيا مألوفا ، وكذلك لما بينهما من البلاد ~~المختلفة عادات في اللباس مختلفة . # والثاني : عرف الأجناس فإن للأجناد زيا مألوفا ، وللتجار زيا مألوفا ، ~~وكذلك لمن سواهما من الأجناس المختلفة عادات في اللباس . # وإنما اختلفت عادات الناس في اللباس من هذين الوجهين ؛ ليكون اختلافهم ~~سمة يتميزون بها ، وعلامة لا يخفون معها ، فإن عدل أحد عن عرف بلده وجنسه ~~كان ذلك منه خرقا وحمقا . # ولذلك قيل : العري الفادح خير من الزي الفاضح . # وأما جنس الملبوس وقيمته فمعتبر من وجهين : أحدهما : بالمكنة من اليسار ~~والإعسار فإن للموسر في الزي قدرا ، وللمعسر دونه . # والثاني : بالمنزلة والحال فإن لذي المنزلة الرفيعة في الزي قدرا ، ~~وللمنخفض عنه دونه ms290 ليتفاضل فيه على حسب تفاضل أحوالهم فيصيروا به متميزين . # فإن عدل الموسر إلى زي المعسر كان شحا وبخلا ، وإن عدل الرفيع إلى زي ~~الدنيء كان مهانة وذلا ، وإن عدل المعسر إلى زي الموسر كان تبذيرا وسرفا ، ~~وإن عدل الدنيء إلى زي الرفيع كان جهلا وتخلفا . # ولزوم العرف المعهود ، واعتبار الحد المقصود ، أدل على العقل PageV01P449 ~~وأمنع من الذم . # ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إياكم لبستين : لبسة مشهورة ~~ولبسة محقورة . # وقال بعض الحكماء : البس من الثياب ما لا يزدريك فيه العظماء ، ولا يعيبه ~~عليك الحكماء . # وقال بعض الشعراء : إن العيون رمتك إذ فاجأتها وعليك من شهر الثياب لباس ~~أما الطعام فكل لنفسك ما تشا واجعل لباسك ما اشتهاه الناس واعلم أن المروءة ~~أن يكون الإنسان معتدل الحال في مراعاة لباسه من غير إكثار ولا اطراح ، فإن ~~اطراح مراعاتها وترك تفقدها مهانة وذل ، وكثرة مراعاتها وصرف الهمة إلى ~~العناية لها دناءة ونقص . # وربما توهم بعض من خلا من فضل ، وعري عن تمييز أن ذلك هو المروءة الكاملة ~~، والسيرة الفاضلة ؛ لما يرى من تميزه بذلك عن الأكثرين ، وخروجه عن جملة ~~العوام المسترذلين . # وخفي عليه أنه إذا تعدى طوره ، وتجاوز قدره ، كان أقبح لذكره ، وأبعث على ~~ذمه . # فكان كما قال المتنبي : لا يعجبن مضيما حسن بزته وهل يروق دفينا جودة ~~الكفن وحكى المبرد أن رجلا من قريش كان إذا اتسع لبس أرث ثيابه ، وإذا ضاق ~~لبس أحسنها ، فقيل له في ذلك ، فقال : إذا اتسعت تزينت بالجود ، وإذا ضقت ~~فبالهيئة . # وقد أتى ابن الرومي بأبلغ من هذا المعنى في شعره فقال : وما الحلي إلا ~~زينة لنقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا فأما إذا كان الجمال موفرا لحسنك ~~لم يحتج إلى أن يزورا ولذلك قالت الحكماء : ليست العزة حسن البزة . # وقال بعض الشعراء : وترى سفيه القوم يدنس عرضه سفها ويمسح PageV01P450 ~~نعله وشراكها وإذا اشتد كلفه بمراعاة لباسه قطعه ذلك عن مراعاة نفسه وصار ~~الملبوس عنده أنفس ، وهو على مراعاته أحرص . # وقد قيل في ms291 منثور الحكم : البس من الثياب ما يخدمك ولا يستخدمك . # وقال خالد بن صفوان لإياس بن معاوية : أراك لا تبالي ما لبست ؟ فقال : ~~ألبس ثوبا أقي به نفسي أحب إلي من ثوب أقيه بنفسي . # فكما أنه لا يكون شديد الكلف بها فكذلك لا يكون شديد الاطراح لها . # فقد حكي عن ابن عائشة { أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر ~~إليه رث الهيئة فقال : ما مالك ؟ قال : من كل المال قد آتاني الله . # فقال : إن الله تعالى يحب إذا أنعم على امرئ نعمة أن ينظر إلى أثرها عليه ~~} . # وقد قيل : المروءة الظاهرة في الثياب الطاهرة . # وهكذا القول في غلمانه وحشمه إن اشتد كلفه بهم صار عليهم قيما ولهم خادما ~~، وإن اطرحهم قل رشادهم وظهر فسادهم فصاروا سببا لمقته ، وطريقا إلى ذمه ، ~~لكن يكفهم عن سيئ الأخلاق ويأخذهم بأحسن الآداب ليكونوا كما قال فيهم ~~الشاعر : سهل الفناء إذا مررت ببابه طلق اليدين مؤدب الخدام وليكن في تفقد ~~أحوالهم على ما يحفظ تجمله ويصون مبتذله . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ادهنوا يذهب البؤس عنكم ~~، والبسوا تظهر نعمة الله عليكم ، وأحسنوا إلى مماليككم فإنه أكبت لعدوكم } ~~. # وليتوسط فيهم ما بين حالتي اللين والخشونة فإنه إن لان هان عليهم ، وإن ~~خشن مقتوه وكان على خطر منهم . # حكي أن المؤبذ سمع ضحك الخدام في PageV01P451 مجلس أنوشروان فقال : أما ~~تمنع هؤلاء الغلمان ؟ فقال أنوشروان : إنما بهم يهابنا أعداؤنا . # وقال أبو تمام الطائي : حشم الصديق عيونهم بحاثة لصديقه عن صدقه ونفاقه ~~فلينظرن المرء من غلمانه فهم خلائفه على أخلاقه PageV01P452 واعلم أن للنفس ~~حالتين : حالة استراحة إن حرمتها إياها كلت ، وحالة تصرف إن أرحتها فيها ~~تخلت . # فالأولى بالإنسان تقدير حاليه : حال نومه ودعته ، وحال تصرفه ويقظته ، ~~فإن لهما قدرا محدودا وزمانا مخصوصا يضر بالنفس مجاوزة أحدهما ، وتغير ~~زمانهما . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { نومة الصبحة معجزة ~~منفخة مكسلة مورمة مفشلة منسأة للحاجة } . # وقال عبد الله بن عباس ms292 رضي الله عنهما : النوم ثلاثة : نوم خرق وهي ~~الصبحة ، ونوم خلق وهي القائلة ، ونوم حمق وهو العشي . # وقد روى محمد بن يزدان ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس ، قال قال رسول ~~الله صلى الله عليه وسلم : { نوم الضحى خرق ، والقيلولة خلق ، ونوم العشي ~~حمق } . # وقيل في منثور الحكم : من لزم الرقاد عدم المراد . # فإذا أعطى النفس حقها من النوم والدعة ، واستوفى حقه بالتصرف واليقظة ، ~~خلص بالاستراحة من عجزها وكلالها ، وسلم بالرياضة من بلادتها وفسادها . # وحكي أن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه فوجده نائما فقال : ~~يا أبت أتنام والناس بالباب ؟ فقال : يا بني نفسي مطيتي وأكره أن أتعبها ~~فلا تقوم بي . # وينبغي أن يقسم حالة تصرفه ويقظته على المهم من حاجاته فإن حاجة الإنسان ~~لازمة والزمان يقصر عن استيعاب المهم ، فكيف به إن تجاوز إلى ما ليس بمهم ~~هل يكون إلا : كتاركة بيضها بالعراء وملبسة بيض أخرى جناحا ثم عليه أن ~~يتصفح في ليله ما صدر من أفعال نهاره ، فإن PageV01P453 الليل أخطر للخاطر ~~وأجمع للفكر . # فإن كان محمودا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه ، وإن كان مذموما استدركه ~~إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل . # فإنه إذا فعل ذلك وجد أفعاله لا تنفك من أربعة أحوال : إما أن يكون قد ~~أصاب فيها الغرض المقصود بها ، أو يكون قد أخطأ فيها فوضعها في غير موضعها ~~، أو يكون قصر فيها فنقصت عن حدودها ، أو يكون قد زاد فيها حتى تجاوزت ~~محدودها . # وهذا التصفح إنما هو استظهار بعد تقديم الفكر قبل الفعل ليعلم به مواقع ~~الإصابة وينتهز به استدراك الخطأ . # وقد قيل : من كثر اعتباره قل عثاره . # وكما يتصفح أحوال نفسه فكذا يجب أن يتصفح أحوال غيره ، فربما كان ~~استدراكه الصواب منها أسهل بسلامة النفس من شبهة الهوى ، وخلو الخاطر من ~~حسن الظن ، فإن ظفر بصواب وجده من غيره ، أو أعجبه جميل من فعله زين نفسه ~~بالعمل به . # فإن السعيد من تصفح أفعال غيره فاقتدى بأحسنها وانتهى عن سيئها ms293 . # وقد روى زيد بن خالد الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ~~السعيد من وعظ بغيره } . # وقال ` الشاعر : إن السعيد له من غيره عظة وفي التجارب تحكيم ومعتبر ~~وأنشدني بعض أهل العلم لطاهر بن الحسين : إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن ~~منك ما يعجبك فليس على المجد والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك فأما ما يرومه ~~من أعماله ، ويؤثر الإقدام عليه من مطالبه ، فيجب أن يقدم الفكر فيه قبل ~~دخوله فإن كان الرجاء فيه أغلب من الإياس منه وحمدت العافية PageV01P454 ~~فيه سلكه من أسهل مطالبه وألطف جهاته . # وبقدر شرفه يكون الإقدام ، وإن كان الإياس أغلب عليه من الرجاء مع شدة ~~التغرير ودناءة الأمر المطلوب فليحذر أن يكون له متعرضا . # فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا هممت بأمر ففكر في ~~عاقبته فإن كان رشدا فأمضه ، وإن كان غيا فانته عنه } . # وقالت الحكماء : طلب ما لا يدرك عجز . # وقال بعض الشعراء : فإياك والأمر الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك المصادر ~~فما حسن أن يعذر المرء نفسه وليس له من سائر الناس عاذر PageV01P455 وليعلم ~~أن لكل حين من أيام عمره خلقا ، وفي كل وقت من أوقات دهره عملا فإن تخلق في ~~كبره بأخلاق الصغر ، وتعاطى أفعال الفكاهة والبطر ، استصغره من هو أصغر ~~وحقره من هو أقل وأحقر ، وكان كالمثل المضروب بقول الشاعر : وكل باز يمسه ~~هرم تخرا على رأسه العصافير فكن أيها العاقل مقبلا على شانك ، راضيا عن ~~زمانك ، سلما لأهل دهرك ، جاريا على عادة عصرك ، منقادا لمن قدمه الناس ~~عليك ، متحننا على من قدمك الناس عليه ، ولا تباينهم بالعزلة عنهم فيمقتوك ~~، ولا تجاهرهم بالمخالفة لهم فيعادوك ، فإنه لا عيش لممقوت ولا راحة لمعادي ~~. # وأنشد بعض أهل الأدب لبعضهم : إذا اجتمع الناس في واحد وخالفهم في الرضا ~~واحد فقد دل إجماعهم دونه على عقله أنه فاسد PageV01P456 واجعل نصح نفسك ~~غنيمة عقلك ، ولا تداهنها بإخفاء عيبك وإظهار عذرك ، فيصر عدوك أحظى منك في ~~زجر نفسه بإنكارك ومجاهرتك ms294 من نفسك التي هي أخص بك لإغرائك لها بأعذارك ~~ومساءتك . # فحسبك سوءا رجل ينفع عدوه ويضر نفسه . # وقال بعض الحكماء : أصلح نفسك لنفسك يكن الناس تبعا لك . # وقال بعض البلغاء : من أصلح نفسه أرغم أنف أعاديه ، ومن أعمل جده بلغ كنه ~~أمانيه . # وقال بعض الأدباء : من عرف معابه فلا يلم من عابه . # وأنشدني أبو ثابت النحوي لبعض الشعراء : ومصروفة عيناه عن عيب نفسه ولو ~~بان عيب من أخيه لأبصرا ولو كان ذا الإنسان ينصف نفسه لأمسك عن عيب الصديق ~~وقصرا فهذب أيها الإنسان نفسك بأفكار عيوبك وانفعها كنفعك لعدوك فإن من لم ~~يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ . # أعاننا الله ، وإياك على القول بالعمل وعلى النصح بالقبول وحسبنا الله ~~وكفى . PageV01P457 ms295