######OpenITI# #META# URI: 1350MuhammadSibaci.AbtalMisr.Hindawi80313908 #META# Tags: history #META# ID: 80313908 #META# Title: أبطال مصر #META# AuthorID: 28537947 #META# Author: محمد السباعي #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # إهداء الكتاب‏ # مقدمة‏ # 1 - مشروع كرزن والمذكرة الإيضاحية‏ # 2 - التصريح لمصر بإلغاء الحماية وإعلان الاستقلال التام‏ # 3 - الحالة الحاضرة‏ # 4 - مناقب ثروت باشا‏ # إهداء الكتاب‏ # مقدمة‏ # 1 - مشروع كرزن والمذكرة الإيضاحية‏ # 2 - التصريح لمصر بإلغاء الحماية وإعلان الاستقلال التام‏ # 3 - الحالة الحاضرة‏ # 4 - مناقب ثروت باشا‏ # | أبطال مصر # | أبطال مصر # تأليف # محمد السباعي # | إهداء الكتاب # إلى مليكنا المفدى صاحب الجلالة أحمد فؤاد الأول، خلد الله ملكه وأدام سلطانه. # في عهدك الميمون استروحت مصر نسمات الحرية، وذاقت حلاوة الاستقلال، وفي ظل رعايتكم ~~الظليل وفق رجال عاملون إلى خدمة قضية البلاد، وإنما بمددك وعونك وفقوا، وبحولك ~~وقوتك اعتزموا وصمموا، وبهمتكم العالية خاضوا الغمار وساوروا الأخطار، وبعزيمتك الماضية ~~ابتدروا في سبيل رفعة الأوطان غاية المجد والفخار. فإن كان لهم في ذلك فضل فمن معين مواهبك ~~الغزيرة مغترفه ومستقاه، ومنك وإليك في كل حال مبتدؤه ومنتهاه. # فإليك يا مليك البلاد أتقدم بإهداء هذا الكتاب المضمن كلمات صدق وإخلاص عن أولئك ~~الرجال أبطال دولتك، حاملي رايتك، ومنفذي مشيئتك، ولابسي مطارف فضلك ونعمتك. # وإني أضرع إلى الله - سبحانه وتعالى - أن يصون دولتك، ويحوط سلطانك، ويبقيك لرعاياك ~~المخلصين ذخرا عتيدا، وظلا مديدا، وروضا مريعا، وكهفا منيعا، وأن يقر عينك ~~وعيون المصريين جميعا بولي عهدك المفدى الأمير فاروق كعبة آمالنا ومطمح أمانينا. # ليحيا جلالة الملك فؤاد الأول وولي عهده الأمير فاروق ورجال دولته المخلصون. # عبدكم الخاضع # محمد السباعي # | مقدمة # بسم الله الرحمن الرحيم # إن عصور النهضات في كل أمة لا تزال مملوءة بعظائم الحوادث، مزدانة بعظماء الرجال، ~~والحقيقة أن كل حركة أو نهضة تعتري الشعوب الساكنة المطمئنة فتحدث فيها تطورا أو ~~انقلابا، إنما هي في الحقيقة نوع من الزلزال، فلا عجب إذا رأيت هيكل الأمة قد تفجر عما ~~يستكن في جوفه من ملكات ومواهب وفضائل ومناقب، وتفتحت كنوزه فباحت بخفايا بدائعها وأبرزت ~~خبايا ودائعها، وهنالك يقذف المنجم ياقوته وعقيانه، ويلفظ اللج لؤلؤه ومرجانه، وهنالك تظهر ~~فحول الرجال وعظماء الأبطال. # أولئك الفحول والعظماء من جلة رجال الأمة، يبرزون على مسرح النهضة فيلعب كل دوره الذي ~~أعدته له ms001 الفطرة والطبيعة، وهيأته لتمثيله الظروف والأحوال. # لكل رواية دورها المصيب المسمى في الاصطلاح التمثيلي أزمة الرواية أو «قمتها»، حيث يبلغ ~~السيل الربى، ويصعد الترمومتر إلى درجة الغليان، ويجلس القدر على منصة الحكم، وينصب ~~الميزان، وإذ ذاك تتشوف أبصار وتشرئب أعناق، وتخفق أفئدة، وتبهر أنفاس، ويلوي القلق ~~والإشفاق أوتار القلوب، ويقوم الشعب بين الخوف والرجاء على سراط الشك المرهف الذليق، الأملس ~~الزليق، المعلق فوق هاوية التلف والخسار، يؤمون لدى نهاية هذا السراط وادي السعادة والنعيم، ~~مسترشدين في مأزق هذه الرحلة الخطرة المخوفة بكوكب الأمل الدائم الخفق واللمعان. # تلك هي حالنا بالدقة في دورنا الحالي الخطير، وإن كنا قد اجتزنا بعد من مناطق هذا السراط ~~أشدها خطرا وأوعرها مسلكا، ودخلنا فيما نستطيع أن نجعله بفضل الحكمة والحزم منطقة سلامة ~~وخطة نجاة. # وبديهي أن مثل هذا الدور العصيب من أدوار رواية الجهاد الوطني جدير أن يحرك بعظيم أحداثه ~~من نفوس الكتاب ما لا تحركه العصور الخاوية الفارغة، وأن يثير من خواطرهم بما يبديه من ~~مآثر الرجال، ومفاخر الأبطال ما ليس تثيره الأوقات الساكنة الوسنى بأشخاصها الصغار ~~العاديين. أجل، إن عصر النهضة خليق بفضل حوادثه وأبطاله أن يهز جدران النفوس من أرسخ ~~أساسها، ويثير لجج الأرواح من أعمق أعماقها حتى تفعم الأذهان من مزدحم الأفكار والعواطف ~~بما يأبى إلا التدفق على أسلات الألسن والأقلام؛ لعجز أربابه عن حبس طوفانه في أوعية ~~صدورهم، ودفن نيرانه في حنايا ضلوعهم. # وكذلك الكلمة الحارة هي كالدمعة الحارة إن نفثت أراحت وفرجت، وإن كتمت أمضت وأرمضت، ~~فهي مدفونة في الجنان أخبث داء، ومنطلقة من اللسان أنجع دواء، ورب كلمة خزنت في الضمير ~~فكانت منية صاحبها وآخرين، وكلمة لفظت فكانت حياة صاحبها ومنجاة ملايين. # فبديهي بعد ما تقدم أن أصبح - كغيري ممن تصدوا للكتابة عن عصور النهضات - يأبى ضميري ~~إلا نفث ما يجول به ويزدحم من سوانح الفكر والخواطر عما يبدو لي من حوادث هذا العصر ومآثر ~~رجاله وأبطاله. # وسأتوخى في كتابتي - إن شاء الله - وصف الواقع لا أقل ولا ms002 أكثر، ونعت الحقيقة جهد طاقتي، ~~محاولا أن أكون في ذلك كالمرآة المنبسطة تعكس صورة الأشياء كما هي دون أدنى تحوير أو تبديل ~~- ليس كالمرآة المحدبة أو المقعرة التي تعكس شبح الشيء مفرغا في قالبها المشوه - وأن أجعل ~~من مخيلتي مجازا ومعبرا للحقائق ليس إلا، تدخل من أحد طرفيه وتخرج من الآخر ثابتة على ~~حالها لم يخالطها مزاج ولم تشبها شائبة، متحاشيا أن أجعل من مفكرتي وعاء طيب وغالية تمر ~~به الحقائق فتخرج مضمخة بذكي نشره وعاطر أريجه. ولكني سأجعل من يراعتي معزفا ترتل عليه ~~الطبيعة ألحان الحقائق خالصة حرة صريحة، لم يتعرض لها ملحن الأنانية فيطبعها بألحان الأغراض ~~ويوقعها على نبرات الحب والبغضاء والسخط والرضى. # والله أسأل أن يجيء هذا السفر غير خال من النفع والفائدة، وأن يجعله وسيلة هداية ~~وإرشاد في ظل صاحب العرش الكريم المحفوف بالعناية والتأييد، جلالة ملك مصر والسودان فؤاد ~~الأول، أدام الله ملكه وسلطانه، وأغدق على رعاياه ~~المخلصين بره وإحسانه، وأرتعهم من جنانه الفسيح في أخصب واد وأطيب منتجع ومستراد، وأحلهم ~~من ركنه الوطيد في أسمى ذروة وقمة، وأمنع ملاذ وعصمة، ما هبت نسمة ولاحت نجمة، والله سميع ~~الدعاء. # محمد السباعي # الفصل الأول # | مشروع كرزن والمذكرة الإيضاحية # ليست حياة الأمة الناهضة الساعية إلى استقلالها بالحياة السهلة الهينة، ولا مسيرها إلى ~~غايتها المجيدة بالنزهة الجميلة بين الحدائق والبساتين في سنا رونق الساعات الذهبية، وعلى شجا ~~ترتيل النغمات الشهية، ولكنها حرب طاحنة ضروس، وجهاد شاق في أوعر المسالك وأضيق المآزق، ولا ~~تزال مثل هذه الأمة تتنقل في تاريخ نهضتها من طور إلى طور، وتتحول عن دور إلى دور، وكل أدوارها ~~وأطوارها صعب شديد وإن تفاوتت في درجة الشدة والصعوبة تبعا لتغير الظروف والأحوال، على أنها ~~لا تلبث أن تصل يوما ما إلى ذلك الدور الذي يصح لنا بحق أن نسميه عقدة العقد، وعقبة ~~العقبات، والباب الموصد، والغل المحكم حيث يخيل للمرء أنه ليس ثمة من منفذ ولا مخلص ولا ~~مستروح ولا متنفس، وأن متن الرجاء قد انبتر ms003 ، وظهر السعي قد انبت وانحسر، وأن ملائكة العون ~~والمدد قد رنقت أجنحتها وطارت، وأن القلم الأعلى قد سجل حكم الشقاء على الأمة في صحيفة ~~الأبد. # مثل هذه الأزمة العصيبة والساعة السوداء لم تكد تخلو منها سير الأمم الناهضة أثناء ~~حركاتها الثورية، وقد أصيبت بها الحركة المصرية الحالية في أول ديسمبر سنة 1921 وذلك حينما ~~رمتنا السياسة الإنكليزية بمشروع كرزن، ومذكرة اللورد النبي الإيضاحية التي شفع بها ذلك ~~المشروع. # لقد كان لتلك المذكرة الإيضاحية أسوأ وقع في نفوس الشعب عامة، وآلم أثر في قلوبه، وأشد ~~صدمة لآماله ومطامحه، وأدمى طعنة لعزته وكبريائه؛ ذلك أن الشعب المصري بعدما أتته دعوة ~~المفاوضة من جانب الحكومة الإنكليزية في أجمل شكل وأحسن صيغة، مال إلى حسن الظن بتلك الحكومة، ~~وقال في نفسه: «لا يبعد أن هذه الدولة الجبارة قد اهتدت أخيرا إلى أن أقصد السبل، وأنجع ~~الوسائل إلى حل مشكلتنا وتسوية مسألتنا هي سياسة الصراحة والوضوح، والأخذ بمبدأ العدالة والحق ~~بعد ما تبين لها فشل سياسة الختل والخديعة.» وبناء على ذلك فاوضت مصر إنكلترا على لسان وفدها ~~الرسمي الذي كان يرأسه دولة الرئيس الخطير عدلي يكن باشا، فكيف كانت نتيجة المفاوضات؟ كيف كانت ~~نتيجة ما ادعاه الإنكليز من سياسة الصداقة والوداد والمحابة والمصافاة والعمل على توطيد دعائم ~~السلام ونشر أعلامه؟ كانت هذه النتيجة هي قطع المفاوضات من جانب وفدنا الرسمي بما شرفه وشرف ~~الأمة جمعاء، وإعلان إنكلترا تلك المذكرة الإيضاحية المصرحة - بما لا يتفق مع ما ادعاه القوم ~~من الميل إلى المسالمة والمصافاة، والنية على توطيد دعائم السلام ونشر أعلامه - من مظاهر ~~الاستعباد الذي ليس دونه استعباد، وآيات الاستبداد الذي ليس وراءه استبداد. كانت نتيجة ذلك هي ~~تلك المذكرة التي صورونا فيها بصورة شنيعة منكرة؛ تبريرا لما أعدوه لنا من أغلال الرق ~~ونير العبودية، حتى قالوا إنهم يرون من واجباتهم حماية عرش سلطاننا، وحماية بعضنا من بعضنا ~~كأنما الشعب المصري قد بلغ من همجيته وانحطاطه أنه صار عدو نفسه، وهي لعمري نقيصة يبرأ منها ~~إلى الله ms004 أشد الأمم همجية وانحطاطا. كانت النتيجة أنهم لم يكتفوا بإعلان ذلك المشروع البغيض ~~حتى كلفونا أن نرضاه ونقره بعدما علموا وعلم العالم أجمع رغباتنا ومطالبنا، واطلعوا على برنامج ~~وفدنا. كانت النتيجة - وذلك أشنع فصولها وأنكر أركانها - أنهم أنذرونا وهددونا بتنفيذ مشروعهم ~~على الكره منا، وعلى الرغم من أنوفنا بالقسر والقوة. # من أجل ذلك كله، نقول إن يوم 3 ديسمبر الذي أعلنت فيه هذه المذكرة الممقوتة كان أعصب يوم ~~في تاريخ الحركة المصرية. # ما كان أكذب آمال الأمة المصرية يوم غرتها من مواعيد الإنكليز في الدعوة إلى المفاوضات ~~لمحات السراب وبارقات الخلب! سحابات أبخرة الأباطيل تنقشها بأجمل الألوان كف الخديعة الخاتلة! ~~ما أجملها في عين ناظر يشيمها بلحظ الغرور! وما أروحها لقلب ساع يهرع نحوها بسرعة الصب ~~المفتون! وما أفرغها في النهاية! وما أخلاها من كل فائدة وطائل! # كيف خبت كواكب الأمل المشرقة، واكفهر وجه السماء، وأنذرتنا من جانب الأفق طوالع النحس؟ فهل ~~كان الرجاء انقطع بتة؟ وهل ضاع الأمل آخر الأبد؟ كلا، إنما أرجئ الأمل وسوف الرجاء. لم ~~يمح الأمل ولم يزل، وإنه وايم الله بطبيعته غير قابل للمحو والزوال، وهو العنصر الأبدي في ~~طبيعة الإنسان، وهو القاعدة التي يقوم عليها كيانه، وهو ميراث الإنسان وذخيرته الوحيدة حين ~~تسلب منه سائر الذخائر. أو لم يسم الفلاسفة والحكماء هذه الدار الفانية التي يسكنها ~~الإنسان «دار الأمل»؟ # ما أقسى تقلبات الصروف السياسية بهذه الأمة المصرية المجيدة! وكيف لا يزال مصباح الأمل ~~يستدرجها على سنا شعاعه البراق في أوعار السياسية العسوف وفي صعابها وأوعاثها! وكيف لا يزل ~~يومئ إليها أن تتتبع شبحه المتلون في تلك المجاهل والمعاسف، مشرقا عليها تارة بابتسامة العطف ~~والتشجيع، وتارة متأججا متوهجا بلهيب النذير والتحذير؟! ولكنه باق أمام عينها في جميع ~~الحالات، وعلى كل التقلبات، لا يخبو مصباحه، ولا يخمد لماحه - حتى في أشد حالات اليأس والقنوط. ~~وما هو اليأس، وما معناه؟ وهل اليأس سوى نوع من الأمل؟ وهل كان فرط اليأس وغلواؤه إلا مقياسا ~~لمبلغ ما فينا من قوة ms005 وحياة ومقياسا أيضا لمقدار حقنا في الأمل والرجاء؟ وهل ترى دخان اليأس ~~مهما اشتد سواده إلا مصيبا يوما ما من روح الله، ومن همة الشعب جذوة صدق، وجمرة حق تشعله ~~ضراما وهاجا يملأ الأرض والسماء بضيائه؟ # لا خوف على الأمة المصرية الكريمة مما أصابها من شديد الحزن لأسوأ ما حل بها أثناء جهادها ~~المجيد - أعني لتلك المذكرة الإيضاحية التي مست صميم كرامتها، وجرحت كبرياءها وعزتها، وسخرت من ~~مقدس أمانيها ومطالبها - لا خوف على الأمة المصرية مما أصابها من حزن وكمد في سبيل جهادها. بل ~~لا خوف على الأمم عامة ولا على الأفراد من الحزن الشريف والكمد المجيد؛ فإن نيران مثل هذا ~~الحزن لهي خير بوتقة لتصفية جوهر النفس وتنقية معدن الروح، وهي أقوى أداة لإشعال الهمم وإلهاب ~~العزائم حتى تندفع في سبيل جهادها الشريف بإضعاف ما بها من قوة وحدة. فلتغتبط الأمة ~~بأحزانها في سبيل قضيتها، أو ليس ذلك الحزن مقياسا لمبلغ ما عندها من شعور وإحساس ومن مقدرة ~~وكفاءة، بل من غلبة وظفر وانتصار؟ ألا إن حزن الأمة المجاهدة ما هو إلا صورة معكوسة لمقدار ما ~~لها من عزة وشرف ونبل؟ فلتغتبط الأمة المصرية الكريمة بأحزانها، ولتبتهج بأشجانها، ~~ولتجعلها مصدر همة وعزم ومضاء. # ولتوقن أن هذا الاستعباد الإنكليزي إنما هو أبطولة وأكذوبة، وكل أكذوبة فإلى الزوال ~~مصيرها مهما امتدت بها العصور وتراخت بها الأزمان. بذلك قضت نواميس الطبيعة، وحكمة هذا النظام ~~المقدس، فإنه لا دوام للباطل؛ بل إن الحق ذاته لا يدوم على صورة واحدة، ولا بد له أن يغير ~~صورته ويبدل شكله وصيغته من آن إلى آن، حيث يخلق خلقا ثانيا ويولد من جديد. أما ~~الأكاذيب - وعلى الأخص أكذوبة استعباد الأمم والأفراد التي خلقها الله حرة طليقة - فلقد ~~سجل عليها حكم الإعدام منذ الأزل في صحيفة الأقدار، فهي تسير بطيئا أو سريعا إلى ساعتها ~~المحدودة - إلى حينها المحتوم، وحتفها المحموم، والسر في ذلك أن هذه الحياة لا يمكن أن ~~تقوم على أساس الباطل، وهذا الإنسان (الذي هو صورة ms006 الله في الأرض، مهما شابت قداسة روحه شوائب ~~الخبائث والدناءات) لا يمكن أن يقوم على أساس من الكذب والضلال، ولكن السياسة - تنفيذ لمآربها ~~الأنانية وأغراضها الاستعمارية - تجهل ذلك أو تتجاهله، وليس بنافعها هذا الجهل أو التجاهل إزاء ~~ناموس الطبيعة العادلة وسنة الله الحكيمة، واستبدادها العقيم مقضي عليه بالفشل، محكوم عليه ~~بالفناء مهما طال أجله وتراخت مدته. # لقد يخيل إلى زمرة الساسة والاستعماريين أن استمرار سياسة الظلم والجور في أرض الله بلا ~~قامع ولا مبيد، وتمادي دولة الاستبداد والاستعباد دون أن يصدر وينفذ عليها ما تستحقه من حكم ~~العدالة الإلهية؛ دليل على خلو هذا العالم الأرضي من قانون العدل والإنصاف، ولكنهم في ذلك ~~مخطئون غافلون، فإن حكم العدالة الإلهية في هذه الحياة الدنيا قد يؤجل اليوم واليومين بل ~~القرن والقرنين، ولكنه حقيقة مؤكدة لا ريب فيها ولا مناص منها، حقيقة محتومة كالحياة نفسها ~~وكالموت ذاته. ولا جرم، فإنك إن أنعمت النظر في زوبعة الحياة الدنيا - تلك الزوبعة المضطربة ~~العاصفة الهوجاء البادية لعينك كأنها كلها هرج ومرج وتشويش واختلاط - وجدت أنه في أعماق ~~أعماقها يستقر، وينطق إله منصف عادل، وألفيت أن روح هذه الدنيا إنما هي الحق والعدالة. فهذه ~~الحقيقة الهائلة التي ما برحت منذ كان الإنسان تبدو لعينه ناصعة باهرة - سواء كان مسلما أو ~~كتابيا أو بوذيا أو وثنيا، وسواء سكن قصور باريز أو غابات أمريكا أو زمهرير القطب أو ~~سعير الاستواء - هذه الحقيقة الهائلة إذا جهلها الساسة فقد جهلوا كل شيء، وقد باعد الله بينهم ~~وبين النجاح كما باعد بين الأرض والسماء، وأنى لهم بالنجاح وقد ظلوا يناوئون ويعادون ناموس ~~الطبيعة وروح الوجود، ويكافحون الكون أجمع في معركة لن يخرجوا منها إلا مثقلين بأفدح أعباء ~~الهزيمة والخسران. # ألا إن في كل شيء خيرا؛ وقد كان للأمة المصرية في تلك المذكرة الإيضاحية خير وإن بدا ~~متلفعا برداء وهاج من لهيب الألم وضرام الحزن المتسعر. لقد كانت الأمة أصيبت من قبل ذلك بشر ~~ما يصيب الأمم الناهضة المجاهدة من العلل والأدواء - أعني ms007 بداء الانقسام والتحزب - وكان ذلك ~~الداء الخبيث قد فشا في جسدها، ونقض من أسباب ائتلافها وتماسكها، وفصم من عرى اتحادها ~~وتضافرها، وهدد كيانها بالتهدم والانحلال، وكاد يمسها في صميم نفسها، ويذهب بما قد ملأ قلبها ~~من روح الوطنية العالية والتضحية الشريفة. فما هو إلا أن لطمتها السياسة الإنكليزية تلك اللطمة ~~القاسية، وطعنتها تلك الطعنة الدامية حتى أفاقت من سكرتها، وهبت من رقدتها، ونفضت عن أعطافها ~~غبار الفتور الذي كان جللها به ريح الشقاق والنزاع، كما ينفض الأسد الهصور غبار الكسل عن لبده ~~- ثم تحركت ونشطت كأنما قد أفعم قلوب ملايينها العديدة روح واحدة لا تقبل الانقسام والتجزئة، ~~وأعلنت بلسان واحد وبصوت واحد يملأ الفضاء الرحب، ويهز هيكل الأرض من أعمق جذورها ودعائمها، ~~ويصدع أديم السماء «أنها حية يقظة متحفزة ناهضة.» # أجابت مصر على المذكرة الإيضاحية بذلك الجواب المفحم الحاسم - أعني بما كانت أعلنته قبل ~~ذلك على لسان جماعة الكونتننتال حين شعرت بما أضمره لها الإنكليز من الشر وسوء النية - أجابت ~~بذلك القرار الذي كان الموحي به في الحقيقة هو روح مصر المنبثة في فضائها، الطائفة في جوها، ~~المرفوفة على مضاجع أهليها وعلى سوامرهم وأنديتهم، الحائمة على مهود أطفالها وأكنان عجائزها ~~وشيوخها - على الأجنة في بطون أمهاتها وعلى الأموات في بطون أجداثها - الحدبة العطوف على ~~أمانيها وآمالها، الحذرة القلقة المشفقة على ماضيها ومستقبلها. # بهذا الجواب المفحم الحاسم أجابت مصر إنكلترا بلسان واحد، وصوت واحد - علت من نبراته صيحة ~~الإنسانية المتألمة، وتأججت في هزاته جمرة الوطنية المحتدمة، وما أعظم صوت الأمم والشعوب وما ~~أقواه وما أقهر سلطانه وما أشد وقعه! ألم تر إلى صرخة الشعب الواجد الغضبان كيف تصم أذن ~~الظالم وتقرع حبة فؤاده، بل كيف تكاد تشل خلجات روحه، وتكاد تحرق زهرة الحياة في مغارس نفسه ~~ووجدانه؟! # قال توماس كارليل في كتابه «الثورة الفرنسية»: «ما أجل صوت الجماعات وما أخطره! صوت ~~غرائزهم التي هي أصدق من خواطرهم وأفكارهم، أما إن هذا الصوت لأجل وأخطر ما يصادفه الإنسان ~~بين تلك الأصوات والأشباح ms008 التي يتكون منها هذا العالم الزمني؟! فكل من يجرأ على منافضة هذا ~~الصوت ومقاومته فقد خرج بنفسه عن دائرة الزمان، وعن حدود نواميسه وشرائعه.» # أعلنت الأمة المقاطعة، وأعلنت وجوب الإضراب عن تأليف الوزارة تأييدا لمبدأ عدم الاشتراك مع ~~الإنكليز في حكم البلاد وإدارة شئونها؛ إذ كان في ذلك الاشتراك دليل على الرضى بما يسومنا ~~الإنكليز من خطة الذل والخسف والهوان. أعلنت ذلك الأمة المصرية، وتمسكت به أشد تمسك، ولم تسمح ~~لنفسها فيه بهوادة ولا لين ولا تساهل، وحصنت نفسها بأمنع دروع الإصرار والتصميم والإباء ~~والمعاندة، وتمسكت إنكلترا من الجهة الأخرى بخطتها أشد تمسك، وأظهرت أن مشروعها الأخير هو ~~القضاء الفصل، والحكم النهائي الذي لا يقبل تغييرا ولا تبديلا ولا نقضا ولا إبراما. وكذلك ~~انفرجت مسافة الخلاف بين الطرفين واستحكمت حلقاته، وبلغت المشادة والمعاندة أقصاها، وأظلم ما ~~بين الأمتين، وجف بينهما الثرى، وعظم الخطب، واستفحل الداء. # وهنا دخلت الأمة المصرية في أصعب أدوار حركتها الجهادية، وأشد أزماتها، وأفظع ساعاتها؛ ذلك ~~الدور الذي سميناه في بدء كلامنا عقدة العقد، وعقبة العقبات، والباب الموصد، والغل المحكم ~~حيث خيل للمرء أنه ليس ثمة من منفذ ولا مخلص، وأن متن الرجاء قد انبتر، وظهر السعي قد ~~انحسر، وأن ملائكة العون والمدد قد رنقت أجنحتها وطارت، وقد سجل على الأمة الكريمة حكم ~~الشقاء في صحيفة الأبد. # هنا جاء على الأمة المصرية أشنع أدوار حركتها الجهادية، واسود الأفق وحجبت نور السماء ~~سحائب النحس، فماذا نصنع؟ وكيف نواجه هذا الكارث؟ وكيف نعد العدد، ونجهز آلات الدفاع، ~~ونشحذ سلاح الهجوم؟ وأي عدد لدينا، وأي آلات، وأي أسلحة؟ دروع الصبر والجلد، وسلاح السكينة، ~~وعدة الأمل والرجاء، ونعم الدروع والآلات والأسلحة، «لا أقول ذلك هازئا ولا ساخرا معاذ ~~الله، وقد أوضحت آنفا أن استبداد الظالم أكذوبة، وأنه كسائر الأكاذيب مقضي عليه بالفشل، ~~محكوم عليه بالإعدام في النهاية، وأن صوت الأمة المظلومة أقوى صوت في العالم، وأن مآل الحق أن ~~يتغلب على الباطل، وأن الأمل ميراث الإنسان وذخيرته، وأن الدنيا اسمها دار ms009 الأمل.» أجل، لا ~~أقول ذلك هازئا ولا ساخرا، ولكني أقول: إن هذه الأسلحة السلبية إن أحرزت النصر والظفر لم يجئ ~~ذلك إلا بطيئا، وليس النصر البطيء بأحسن أنواع النصر، وليس الفرح بالمتاع الآجل البعيد - الذي ~~قد لا تمني نفسك بأن تراه لا أنت ولا أعقابك ولا أعقاب أعقابك - كالفرح بالمتاع الذي يزف ~~إليك عاجلا، تلبس جميل زينته، وترشف عذب ريقته. # أقول: لا مشاحة في أن ذلك الدور كان أشنع أدوار قضيتنا، وتلك الساعة كانت أسود ساعات ~~حركتنا. وحق لنا إذ ذاك أن نحار ونبهت وأن نأسى ونحزن، وحق لنا أن ندور بأعيننا بين أبناء ~~أمتنا المجيدة فنفتش في نخبة رجالها وصفوة أبطالها عن رجل نرمي به هذا الحادث الجسيم، وننقب عن ~~بطل نصدم به هذا الكارث العظيم. # إن الطبيعة التي تخلق أدواء المجتمع الإنساني وعلله تخلق أيضا أدوية هذه العلل والأدواء، ~~والطبيعة التي توجد آفات الحياة الإنسانية توجد أيضا وسائل إبادة هذه الآفات؛ وذلك لأن ~~الطبيعة أساسها العدل، وروحها النظام، وغايتها الصلاح والنمو الحسن والرقي. فإن هي خلقت ~~الأدواء والعلل والآفات فلم تقصد بذلك إلى الفساد والخراب ولا إلى الفشل والفوضى (وإن ظهرت ~~تلك العلل والآفات في دورها الأول بمظهر الفساد والفوضى) ولكنها تقصد إلى الصلاح والنظام ~~والرقي في النهاية، وإنما هذه العلل والآفات - مع ضررها المؤقت وشرها الزائل - عمليات ~~ضرورية لا بد للمجتمع من اجتيازها في طريق نموه ورقيه - هلا نظرت إلى أوراق الشجر وأجزاء ~~النبات حين تعصف بها الرياح الهوج فتسقط وتذبل، ثم تعفن وتبلى وتنحل؛ فيخيل إليك أنها فسدت ~~وماتت - ولا موت ولا فساد في الطبيعة - ولكن هذا الذي يخيل إليك بلى وفسادا إنما هو عملية ~~انتقال من حال إلى أحسن منها، فلا تلبث هذه المواد النباتية أن تستعيد حياتها وتجدد بهجتها، ~~وقد تستحيل بعد عدة من هذه العمليات الأليمة المحزنة في ظاهرها إلى صنف أجود وأحسن، سنة ~~التحسن والتقدم وقانون النشوء والارتقاء الذي هو روح الطبيعة وعملها وغايتها. # نقول: إن الطبيعة التي تخلق أدواء المجتمع تخلق ms010 أيضا أدوية هذه الأدواء، والطبيعة التي ~~توجد آفات الإنسانية توجد أيضا مهلكات هذه الآفات. وإذا اشتد الجدب صاب الغيث، وإذا أربد ~~الغيم بدده شعاع الشمس، وإذا تكاثرت المصائب على أشخاص المأساة الأبرياء فوق المسرح وتكاثفت ~~الأرزاء، وأخذ الموت بالكظم وبلغت الروح التراقي - ظهر على المسرح من حيث لا يرجى ولا ينتظر ~~بطل الرواية؛ فغير مجرى الحوادث وحول منهج الكوارث؛ فجلى دجى الخطب، وأشرق على الأبرياء ~~بنور الصفو والخير والسعادة. # وكذلك لما ادلهمت مأساة السياسة على مسرح الحياة المصرية، وانتهت هذه المأساة بفضل المذكرة ~~الإيضاحية إلى أزمة الأزمات وعقدة العقد - كما أسلفنا - وعظم الكرب واستفحل الداء؛ ظهر ~~على المسرح لإبادة الشقاء وإسداء الخير والصفاء، بطل الرواية المصرية الحالية؛ عبد الخالق ثروت ~~باشا. # إن العناية الأزلية لما بصرت بتناهي البلاء في هذا البلد الأمين، وبلوغ الشقاء والكرب أقصاه ~~نثرت كنانتها بين يديها، ثم فتشت عيدانها فوجدت ثروت أمرها عودا، وأصلبها معجما فرمت به ~~الحادث الجلل والمحنة النكراء. # أي ثروت! أيها الرجل القوي المتين؛ ماذا أمامك من العقد والمشاكل والأزمات والمعضلات؟! ~~أمة مظلومة مهضومة واجدة على الظلمة، غضبى على الجورة، يتأجج صدرها بركانا، ويتقد في ~~ألحاظها لهيب ما انطوت عليه الجوانح من نار الحنق المكتومة، وتقذف السماء بصيحات احتجاجها على ~~الجبابرة، وبصرخات نقمتها. أمة تختمر في أفئدتها عوامل الهياج، وتفرخ في نفوسها جراثيم ~~الفتنة، ويعب عباب غيظها، ويزخر تيار غضبها، وتجيش أعماق روحها بدوافع الثورة. أمامك خضم زاخر ~~ينذر مسامعك من أعماقه نشيش غليان الطغيان، وأزيز فوران الطوفان. أمامك في أفق البلاد المظلم ~~المربد آيات العاصفة، وأمارات الزوبعة ينذر مسامعك من لدنها دوي قصفها مخوفا مرهوبا، وأمامك ~~من الجهة الأخرى الدولة القوية المخيمة على أرجاء المعمورة، الممسكة بأطراف العالم، المالئة ~~الأرض بمدافعها والبحر بأساطيلها والجو بمناطيدها - جبارة متكبرة طاغية، مصرة على تنفيذ ~~إرادتها ضد أوامر العاطفة والإنسانية ونواميس الحق والعدالة وعلى الرغم من الأقضية والأقدار، ~~مصممة أباءة، مطرقة كالأفعوان والحية الرقشاء، لا تؤثر فيها الرقى والتعاويذ، قاسية جامدة ~~صماء كالقدر أو كالموت. # وفوق ms011 هذا وذاك، أمامك من أمتك الفئة ذات الأهواء والأغراض الذين لا يريدونك، ولا يحبون أن ~~يكون على يديك انفراج الأزمة وحل المعضلة وزوال النقمة وحلول النعمة، الباذلون أقصى الجهد في ~~العمل على تنحيتك عن مواطن المجد ومواقف الفخار. # أي ثروت! أيها الرجل الجلد المكين! ما أحرج مركزك وأصعب موقفك! فبحقك ماذا أنت صانع وسط ~~هذه العوامل المتنازعة والقوى المتدافعة والعناصر المتكافحة المتضاربة؟ وأنت قائم بينها ~~منفردا وحيدا كالجبل الباذخ تعصف الزوابع الهوجاء حول هامته الشماء فلا تحرك من سكينتها ~~ولا تستخف من رزانتها، وتثور الزلازل حول أساسه فلا تزعزع من ثباته، وقد سمت قمته العلياء ~~فوق سحب الأهواء والأغراض وضباب الحزازات الشخصية والإحن الأنانية، وواجهت شمس الحقيقة ~~الساطعة والنزاهة الخالصة. # تقدم ثروت باشا إلى أمته فصرح لها أنه لن يقبل الوزارة حتى تجاب له شروط فيها رضى الأمة، ~~ووفاء بأقصى ما يصح أن تطمح إليه في هذا الدور من قضيتها؛ تلك الشروط هي إلغاء الحماية وإعلان ~~الاستقلال التام، وتأسيس برلمان تكون حكومة البلاد مسئولة أمامه، وحصر مشاكل الخلاف بين ~~الأمتين في أربع نقاط يتولى تسويتها البرلمان المصري بعد إنشائه مع الحكومة البريطانية، وإزاء ~~هذه الحقوق المستردة لا تعطي مصر إنكلترا أدنى شيء ولا تتقيد لها بشرط ما. # تقدم ثروت باشا إلى الحكومة الإنكليزية بهذه الشروط العظيمة، وشدد كل التشدد في طلبها، وأكد ~~لها أنه لن يتنازل البتة عن شيء منها، وأنه لن يتولى الوزارة إلا بعد إجابة شروطه هذه ~~بحذافيرها. # كيف تقبل هذه الشروط الجسيمة، وتجيب هذه المطالب العظيمة، وترضخ لهذا الحكم الهائل؛ إنكلترا ~~سيدة البحار وأقوى دول العالم؟ وأين ذهبت جيوشها وأساطيلها وسلطانها الباسط جناحيه على المشرق ~~والمغرب؟ بل أين ذهب كبرياؤها وجبروتها وشرهها الاستعماري؟ # تصعبت إنكلترا في أول الأمر كما هو المنتظر وتمنعت، وفي ذلك المشقة العظمى والصعوبة ~~الكبرى. # وأما مصر فلم تكد تصدق نبأ هذه الشروط والمطالب، وحسبته حلما من الأحلام؛ اعتقادا منها ~~أنه يكاد أن يكون من المستحيلات قبول إنكلترا مثل هذه الشروط الجسيمة. (لقد كان ms012 الوفد المصري ~~من قبل ذلك لا يطمع في أكثر من أن تعطيه الحكومة الإنكليزية قبل دخوله معها في المفاوضات مجرد ~~وعد بإلغاء الحماية أثناء التفاوض)، ولا تنس أولي الأغراض والأهواء والإحن والحزازات الذين ~~مع فرط استعظامهم هذه الشروط واعتبارها كالأحلام أخذوا يرجفون بأن الأمر ليس بالجد، وإنما ~~ألاعيب سياسية، يقصدون بذلك إلى ترويج سوء الظن بدولة الوزير الجليل، ويبثون في الأمة من روح ~~التشاؤم ما يثبط الهمم ويفل العزائم. # بين هذه العوامل المتنازعة والقوى المتدافعة والعناصر المتكافحة المتضاربة انبرى الرجل ~~الكفء الضليع يكد ويعمل، مضاء في تؤدة، منصلتا في أناة، صارما في رفق، جريئا في حزم؛ ~~والأمة المصرية والأمة الإنكليزية وأوروبا والعالم أجمع ينظر إليه نظرة إعجاب وإكبار، ويشرئب ~~لاستطلاع نتيجة عمله العظيم، واستكشاف غاية شوطه الخطير وشأوه الرائع، كأنهم يرمقون عطارد أو ~~المشتري أثناء سيرته المشرقة الزاهرة، ودورته المتألقة الباهرة. # وقف العالم ينظر إلى ثروت باشا أثناء تلك الفترة الحرجة العصيبة، تلك الفترة التي باتت ~~تتمخض السياسة أثناءها عن ميلاد مستقبل أمة، لا يعلم أيجيء موفورا نضجا تاما، أم مبتورا ~~منقوصا مشوها، أم ما هو شر من هذا؛ يولد ميتا؟ # وقف العالم ينظر إلى هذا المخاض السياسي الهائل يرقب نتيجته بقلوب خافقة، حتى كاد يخيل إلى ~~المرء أن الرياح والأعاصير ذاتها قد حبست أنفاسها والأفلاك شأوها، وأن الزمن نفسه وقف مبهوتا ~~يتأمل. # أراك أيها الوزير الخطير في بحر السياسة البعيد الغور، العسوف الموج، العصوف الأعاصير ~~والأنواء تسير سفينة الوطنية تتنكب بها مكامن الصخور والمهالك، وتتنحى بها مسالك الأمن ~~والسلامة، تدير دفتها بيد مباركة ميمونة رائدها التوفيق والنجاح تكمن في أساريرها أسرار ~~الحذق والمهارة، تؤم بالسفينة النفيسة ساحل الفوز والنجاة. # وأراك في بيداء السياسة المخوفة تقود الشعب الكريم خارجا به من نير عبودية الجبابرة، ~~مجتازا به تيه الأضاليل السياسية، تؤم بالقافلة أفق الاستقلال وفضاء الحرية الرحيب. # وأراك من فوق زوبعة السياسة الثائرة، وفوضى العناصر المتنافرة تصفق جناحي نسر ساكن الجأش ~~ثابت الجنان، تصرف أعنة الحوادث، وتدبر أزمة الشئون كأنك الملك ms013 الحارس الأمين كلما ~~ازدادت الحوادث اضطرابا ازداد سكينة وهدوءا. # أرى ساكن الأوصال باسط وجهه # يريك الهوينا والأمور تطير # وأراك حين تفاوض ساسة الإنكليز تعلو عليهم في حومة الخطاب وميدان المحاجة بسليقتك الفائقة ~~وسجيتك الغلابة، وبعقلك الراجح، وبشخصيتك الفتانة الخلابة التي هي خلاصة مجموع ما فيك من ~~غرائز وشيم وطبائع، وكأنك حين تناقشهم قد اتخذ سلطان الإقناع عرشه بين شفتيك، وكمن هاروت تحت ~~لسانك حتى تتركهم من إعجاب وإكبار يقولون فيك ما قاله نابليون الأول حين صادف شاعر الألمان ~~العظيم «جيتا»: «هاكم رجل مستكمل الرجولة.» وما قاله أحد الساسة الإنكليز في المغفور له الشيخ ~~محمد عبده: «لقد حق لمصر أن تفخر بمثل هذا الرجل، فإن أمة تخرج مثله لخليقة أن ~~تفلح.» # في تلك الزوبعة السياسية الثائرة، وفي ذلك الجو المتلبد بالغيوم، وفي مضطرب تلك العوامل ~~المتدافعة والعناصر المتكافحة مضى ثروت في سعيه المجيد كالصارم المصقول، والكوكب المشبوب يعمل ~~ويكد ليل نهار كأنه ينبوع قوة لا ينفد، وشعلة حريق تأبى أن تطفأ وتخمد، تملأ فضاء البلاد ~~رونقا ونورا. أجل، إن مقدرة هذا الرجل الهمام على العمل والكد لا تحد ولا تحصر ولا يكاد ~~يصدق بها الذهن، وليس يدري سوى من عاشره عظم ما قد تستطيعه القوة البشرية من العمل ومقدار ~~ما تستثمره من جليل الفوائد في يوم واحد، إن ساعة هذا الرجل العظيم كعام غيره وشهره ~~كدهره. # وكل هذه الأعمال الجسام ينجزها ثروت باشا في أتم سكينة وصمت، ألا حيا الله دولة الصمت وخلد ~~ملكه وسلطانه! ولا حيا الله الجلبة والضوضاء والصخب! # قال توماس كارليل في كتابه «الماضي والحاضر»: «ما أعظم الرجل الصامت وما أجل مقداره! ~~أرأيت إذا أجلت بصرك في هذا العالم اللجب الصخاب، وفي كلماته الخالية من المعاني، وفي أعماله ~~الخاوية من الفوائد، أفلا يلذ لك أن تتعشق جمال الصمت وجلاله؟ أفلا يلذ لك أن تتغنى بمحامد ~~الرجال الصامتين ذوي الفضل والكرم والمروءة، العاملين في سكوت، الجادين في خشوع وتواضع، ~~البانين صروح الحضارة والمدنية دون أن تجلجل بأسمائهم وألقابهم أبواق ms014 المجلات وطبول الجرائد؟ ~~ألا إن أمة تخلو من أمثال هؤلاء أو يقل منهم نصيبها لخليقة أن تختل حالها، ويسوء مآلها، ويكون ~~مثلها كمثل غابة خلت من الجذور والأصول واستحالت كلها ورقا وفروعا، فهي لا تلبث أن تذبل ~~وتموت؟ لنا الويل والثكل إن كان كل عتادنا وذخيرتنا هو ما لدينا من الكلام والطنطنة والأشياء ~~التي نعرضها على الملأ، ونرفعها لأعين المتفرجين والنظارة. ألا فقدس الله عالم الصمت! إنه ~~لأسمى مقاما من الكواكب وأعمق غورا من عالم الموت! وإنه وحده هو النبيل والعظيم والجليل، وكل ~~ما عداه حقير ضئيل تافه! فلتلزم أمتنا فضيلة الصمت ولتعتصم بها، ولتدع غيرها من الأمم المولعة ~~بالجلبة والضوضاء وحب التظاهر تصيح في كل موقف، وتملأ الدنيا صياحا بكل صغيرة وكبيرة من ~~شئونها، وتجعل بلادها مسرحا ترقص عليه وتلعب على مرأى ومسمع من المتفرجين والنظارة، ~~فأمثال هذه الأمم المتظاهرة الصخابة ستصبح عاجلا أو آجلا غابات بلا جذور ولا أصول، مآلها ~~الذبول والموت. ألا ما أقدس الصمت! إنه مستمد من ملكوت السماء! انظر إلى الدوحة العظيمة في ~~الغابة تجدها قد لبثت ألف عام تنمو في أتم صمت وسكينة، فمتى تسمع صوتها؟ لا تسمع ذلك إلا حينما ~~يجيئها الحطاب في نهاية الألف عام بفأسه ليقطعها، حينئذ تسمعك الدوحة صوتها، حينئذ تعلن ~~الدوحة عن نفسها بتلك الصرخة الشديدة - صرخة الفناء والموت - صوت انصداعها وانقصامها. فهل ~~أسمعتك الدوحة صوتها ساعة البذر والغرس المبارك حين نثرت بذرتها من حجور بعض الرياح الميمونة؟ ~~هل أسمعتك صوتها ساعة اكتست حلل الورق النضر ووشي الزهر المفوف؟ (وما كان أمتعها ساعة وأملأها ~~بالأفراح والمسار) كلا، لم تسمعك الدوحة صوتها في تلك الأوقات الهنيئة، ولم تنبس بحرف واحد ~~إعلانا لهذه الحوادث المفرحة، إنما أسمعتك صوتها ساعة المصاب والفجيعة؛ ساعة الموت ~~والفناء.» # وهكذا رأينا ثروت وسط الزوبعة السياسية يكد ويعمل في أتم سكينة وصمت، لا ثرثرة ولا افتخار ~~ولا دعوى، ولا إضاعة للوقت الثمين في المجادلات العقيمة المجدبة وخوض النظريات الخيالية ~~المستحيلة، ولا في الشقشقة الهدارة والجلجلة الطنانة، ولكنه ms015 وقف مجهوداته العظيمة على الكد ~~الدائب وحصر هممه الجسيمة في العمل المتواصل، وبارك الله في الأعمال إنها أجل وأعظم من ~~الأقوال! ألا إنما الأعمال المملوءة بالروح حافلة بالحياة جياشة بمادتها الغزيرة الزاخرة. ~~الأعمال طافحة بالحياة الصامتة التي هي برغم صمتها حقيقة مقررة واقعة، حاضرة الخير، حاصلة ~~الأرباح والفوائد، والأعمال تزكو وتنمو كالشجر المبارك الثمار، وهي تعمر فراغ الوقت، وتملأ ~~فضاء الزمان، وتكسوه خضرة ونضرة. # ثروت باشا لا يميل بطبعه إلى الجدل والثرثرة، ولا إلى المباهاة والمفاخرة، ولا إلى الإعلان ~~عن كفاءاته ومواهبه. فإذا كان دور الكلام والاسترسال في ميادين النظريات المستحيلة والمشروعات ~~الخيالية، والمباهاة بأساليب المنطق الأجوف الفارغ المؤدي إلى غير نتيجة، وبتفويق سهامه ~~الطائشة التي قصاراها أن تزل من فوق سطوح الحقائق المتينة القاسية دون أن تصيب أكبادها - ~~وتنزلق من فوق أديم الحقائق الخشنة الجافية دون أن تنفذ إلى صميمها - فتسقط تلك السهام متعثرة ~~خائبة عن أجساد الحقائق، وتبقى الحقائق بعد ذلك على حالها لم تذلل ولا تمتلك، ولم يقبض على ~~أزمتها؛ تواجهك - كما كانت من قبل - مرة أليمة قاسية، قد نفدت الجعب والكنائن دون أن تؤثر ~~فيها مثقال ذرة، وكأنما لم نصنع شيئا، وكأنما انتهينا من حيث ابتدأنا. أقول إذ كان هذا الدور ~~- دور الكلام والخيالات والمستحيلات - رأيت ثروت باشا قد اعتزل الميدان، لا عن ملال ويأس، ~~ولكن تحينا للفرصة وتحفزا للوثبة، ثم ربض في مكمنه، وخدر في غيله سمير أفكاره وأنيس ~~وحدته. # ولكن إذا جاء دور العمل وواجهتنا الحقيقة المرة الأليمة، وتبادر الرجال لتذليل هذه ~~الحقيقة، وفك معضلتها، وللأخذ بناصيتها، والقبض على زمامها واستثمارها لمنفعة البلاد وصالح ~~الأوطان، ورأيت رجال النظريات المستحيلة والمنطق الأجوف يرسلون سهامه الطائشة على هيكل تلك ~~الحقيقة فتزل من فوق سطحها، وتنزلق عن أديمها الأملس الذي كأنه جلدة الأفعى، وكذلك تستمر أفعى ~~الحقيقة سائرة في طريقها سليمة مصححة كأهدأ ما كانت وأنعم بالا - إذا كان هذا هو قصارى زمرة ~~الخياليين المتشدقين ذوي المنطق الأجوف - ثم جاء دور ثروت باشا رأيت ذلك الرجل العملي ms016 قد هاجم ~~أفعى الحقيقة وساورها، وقبض على ناصيتها وأخذ بكظمها، وطفق يعالجها أشد علاج، ويصارعها أعنف ~~صراع - ليرى أهو أم هي أشد بأسا وأصعب مراسا - يجالدها ويكافحها بقوة جنانه؛ أعني بقوة ~~جلده ومثابرته، في أمل ورجاء، بل في استيئاس واستماتة وصبر لا ينفد وإيمان عميق وذكاء ~~متوقد. # كل هذه القوى العقلية والخلقية تبرز من مكامنها حينما يصارع ثروت باشا (أو غيره من عظماء ~~رجال العمل) أفعوان الحقيقة، وفي هذه المعركة وحدها - وعند هذا الصراع فقط - يمكننا أن نقيس ~~مقدار همة الرجل، ونزن مبلغ كفاءته وقدرته. # العمل وحده عنوان الفضل وآية القدرة، ومسبار غور الرجل، ومقياس عمقه، وعلى صحائف الأعمال ~~يلوح في سطور من النور بيان ما يكمن في صدور الرجال من كنوز الفضل والحكمة والأدب والنهى، ~~ومن ذخائر الصبر والجلد والجد والمثابرة والحزم والعزم والإخلاص والأمانة وصحة النظر ونفاذ ~~البصيرة والحذق والبراعة. أجل، كل ما ينطوي عليه الرجل من قوة يلوح متلألئا في أحرف من النار ~~والنور على صحيفة عمله. أو ليس العمل الجدي المخلص هو أن يواجه الرجل الطبيعة ونواميسها ~~الأبدية فيعالجها ويمارسها ليسيرها في سبيل مقاصده وأغراضه؟ وعلى قدر فهمه لأسرارها ~~ومطابقته لقوانينها يكون مبلغ فوزه ونجاحه، وهي الطبيعة تصدر على الرجل وعلى كفاءته حكمها حسب ~~ما تراه من أسلوبه في معالجتها ومسايرتها؛ إذ تقول في حكمها على الرجل هذا مبلغ ما وجدت فيه من ~~فضل وكفاءة - هذا القدر لا أكثر ولا أقل - هذا مبلغ ما فيه من قدرة على فهم أسراري والائتلاف ~~معي ومجاراتي والسير على منهاجي ومراعاة شرائعي ونواميسي، وعلى حسب هذا كان نجاحه أو خيبته ~~وسعادته أو شقوته كما ترى وتشاهد. # مصر في أشد أزمات جهادها، وأضيق مآزقه (عقب إعلان المذكرة الإيضاحية) أصبحت بأمس حاجة ~~إلى رجل العمل الدائب والكد الشديد والمجهودات الهائلة. لقد جربت من قبل ذلك اللجب والضوضاء ~~والصياح والصراخ، وجربت الشقاشق الهدارة والجلاجل الطنانة، وجربت طواحين الهواء والألعاب ~~النارية التي تملأ الجو طنينا ودويا، وألاهيب وهاجة، وشعلا براقة تساور السماء وتلامس ~~الجوزاء ms017 ، ثم تسقط رمادا وتتبدد هباء، جربت هذا وذاك فلم يغنها فتيلا ولا قطميرا، وإن كان ~~أفادها تلك الحقيقة الخطيرة، وهي أن الكلام في موضع العمل عبث باطل، وأن النزاع والشقاق في ~~مقام التضامن والاتحاد ضلال مبين، وأن الصياح وحده هواء يذهب في الهواء، وأن السبح في بحار ~~الخيال يؤدي إلى ساحل الخيال الذي إذا أرسيت لديه وجدته ضبابا ينقشع من تحت قدمك، وهباء يفر ~~من بنانك، وليس يؤدي إلى ساحل الحقيقة المادية الصلبة التي تحصل في ملكك، وتقع في ~~حوزتك. # لما جربت مصر هذه الوسائل الكلامية، واستنفدت ما هيأت لها معامل الحناجر، ومصانع الأجهزة ~~التنفسية من بارود الصراخ والهتاف، وقنابل «يسقط ويحيى»، فألفت كل هذا، لم يغن ولم يثمر، ~~ووقفت حائرة مبهوتة إزاء الحقيقة المرة، وإزاء لغز السياسة، بل لغز الحياة المعضل المعقد ~~الذي أبى أن ينحل على الرغم مما صبت على أم رأسه من بارودها الهتافي وقنابلها «الإسقاطية ~~الإحيائية». تحننت عليها الطبيعة، ورق لها فؤادها الكبير، وتقدمت لعونها وإمدادها، وقالت لها: ~~استريحي هنيهة، واختارت لحل اللغز وفك المعضلة رجل العمل والدأب والحزم والعزم والحجى والدهاء: ~~عبد الخالق ثروت. # وكذلك الطبيعة السمحة السخية ما كانت لتضن على الشعب المجاهد بالرجل العظيم عند الحاجة ~~إليه، ولا يزال كلما ارتطمت الأمة المجاهدة في المأزق الضنك والزحلوقة الزل أسرعت الطبيعة إلى ~~إسعافها فساقت إليها رجل الساعة، وبطل الميدان، فلا يلبث أن يقيل عثرتها، ويأخذ بيدها، ويهديها ~~سواء السبيل؛ ذلك دأب الطبيعة وديدنها الذي لن تعدل عنه إلا إذا كانت قد أرادت بهذا العالم ~~الأرضي الخراب السريع والدمار العاجل. # ولما اختارت لحل اللغز وفك المعضل رجل الجد والعمل ثروت باشا، ودفعت به في جوف الزوبعة - ~~كما أوضحنا آنفا - وفي وسط العوامل المتنازعة، والقوى المتدافعة، والعناصر المتكافحة ~~المتلاطمة ارتاح لذلك العقلاء، واستبشروا وقالوا: «أما والله، ما كانت قط زوبعة فوضى فرمى الله ~~في جوفها بروح النظام ممثلة في رجل حازم، إلا بدأت فيها حركة مباركة نحو ائتلاف العناصر ~~المتنافرة، والتوفيق بين القوى المتضاربة، واستبقاء النافع ms018 ، وإسقاط الضار من الأسباب والعوامل ~~- حتى ترى الفوضى سائرة إلى النظام، والثورة إلى الهدوء، والضجيج إلى السكينة، وتبصر مكان ~~الجدب والعقم الإنتاج والإثمار - فتوقن بحسن المآل والعاقبة»، ولا جرم. فما من فوضى تقيم في ~~وسطها روحا عالية نبيلة إلا آلت إلى النظام والخير والفلاح بفضل ذلك. هذا، وإن الطبيعة تحب ~~النظام، وتبغض الفوضى ولا تطيقها ولا تحتملها، ولا تصبر عليها إلا ريثما تهيئ لها روحا سامية ~~تعالج بها شرها، وتزيل خطرها، وهذا الكوكب الأرضي النبيل المقدس الذي نعيش فيه ونتقلب، مهما ~~طال صبره على مروجي الهرج والفوضى، فهو في النهاية لا يطيقهم، ولا يلبث أن يريح نفسه منهم، ~~وهذا من أشد ضرورات العالم إذ كانت سنته الصلاح والرقي، وكانت مادة الخير فيه أكثر من مادة ~~الشر، وكان الحق فيه متغلبا على الباطل. # وأي خير في الفوضى إلا إذا أصبحت تتجه نحو النظام، وأي بركة في الثورات السياسية إلا إذا ~~تولى المصلحون تنظيمها برسم الخطط والبرامج العملية. # أي ثروت، أيها الرجل الحازم البصير! لقد قذفت بك الطبيعة في مضلة السياسة وتيهها، وفي ~~مجاهلها ومهالكها، حيث اشتبهت المسالك، وأشكلت المناهج، وخفيت وجوه الرشاد، وخبت مصابيح ~~الهداية، فانظر ما أنت صانع، وأي السبل تسلك، وأي الوجوه تنتحي. ألا فاعلمن أن راكب الصعاب ~~وولاج المآزق مثلك إذا تشعبت في وجهه السبل، ووقف ينظر أيها يسلك إلى غرضه الأسمى، فلقد يوجد ~~أمامه بلا شك بين هذه السبل منهج واحد هو أقصدها وأهداها، منهج يكون سلوكه في ذلك الظرف وتلك ~~الآونة أحق ما يأتيه وأصوب ما يصنعه، منهج واحد إذا أتيح له سلوكه طوعا أو كرها كان الحازم ~~البصير والأريب الداهية، كان الرجل المكتمل الرجولة الموفق إلى ما يرضي الرجال والآلهة، ~~المساير لأنظمة الطبيعة ونواميسها الغامضة الخفية، فالطبيعة والكون أجمع يرحب بمثل هذا الرجل ~~ويهتف له: «مرحى، بورك فيك وفي عملك»، ثم يكون اليمن رائده والنجاح حليفه. فهل أنت يا أيها ~~الرجل النبيل والوزير الجليل مستبين بين ما يواجهك في تيه السياسة ومضاتها، وفي مجاهلها ~~ومهالكها ms019 من متشعب الطرق والسبل، ذلك المنهج القويم الأوحد فسالكه إلى قصدك الأنبل وغرضك ~~الأسمى - النجح والفلاح - إلى ضالة الوطن المبتغاة وبغيته المرتجاة وأمنيته المشتهاة؛ إلى ~~الحرية والاستقلال؟ سنرى ذلك قريبا. # سنراك وقد قذفت بك الطبيعة وسط زوبعة السياسة الهوجاء وعواملها المتنازعة وعناصرها ~~المتكافحة؛ تؤلف بما أوتيت من عزم وحزم بين هذه القوى المتمردة الطاغية، وبين هذه النزعات ~~المتضادة المتعادية - ترد شواردها وتكبح جوامحها - آونة بسوط بأسك وسطوتك، ولكنه بأس الحازم ~~المتدبر المتلهف على مصلحة بلاده، وسطوة المنصف العادل الحدب على منفعتها، وآونة بكف لينك ~~الغريزي المغروس في طبيعتك ورقتك الفطرية المركبة في سجيتك. دأبك ذلك إلى أن تعنو لك عاصفة ~~السياسة الهوجاء فترتد الفوضى نظاما، والزوبعة نسيما، والحرب سلاما. إنك وإن كان قد كتب ~~لك بحكم الظروف والأحوال أن تعمل وسط الزوابع السياسية والثورات الوطنية - وسط ما يصح لنا أن ~~نسميه نوعا ما من الفوضى - فإنك بطبعك ونحيزتك رجل نظام لا رجل فوضى، وتلك طبيعة العظماء ~~كافة، كلهم مجبول على حب النظام؛ بل كلهم النظام مجسدا، وكذلك الرجل العظيم إنما هو رسول ~~النظام في هذا العالم. (وكذلك مما يجب أن يكون شيمة كل إنسان يحمل الصورة الآدمية). أو ليس كل ~~عمل من أعمال الإنسان في هذه الحياة هو «رد الفوضى إلى النظام»؟ أو ليس كل ذي حرفة وصناعة ~~موكل في هذه الدنيا أن يجمع المواد الطبيعية المبعثرة في أنحاء الكون، المشتتة في أرجاء ~~الوجود، المتباينة جوهرا، المتنافرة صفات وطباعا، فلا يزال يوفق بينها ويؤلف حتى يضم شتاتها، ~~ويجمع بددها، ويفرغ تفاريقها في قالب محكم بديع عجيب الصنع محدود بالقواعد الهندسية ~~والحسابية؟ كلنا مولودون بفطرتنا أعداء للفوضى عشاقا للنظام، هذه مزية البشر عموما، وهي في ~~الرجل العظيم أضعاف أضعافها في الرجل العادي. # النظام يقتضي الشدة ويتطلب الصرامة أحيانا، وهذا بلا شك نوع من الحذر والإشفاق على المصلحة ~~العامة. وفي هذه الظروف الضرورية يصبح اسم «الشدة والصرامة» غير منطبق تمام الانطباق على ~~المعنى الحقيقي لما يتبعه الرجل الحازم من خطته الصارمة الشديدة ms020 التي يكون أحق بها وأولى، ~~وأقرب إلى معناها الحقيقي أن تسمى «رقة معكوسة» و«عطفا مقلوبا»، إذ كان باعثها الحقيقي هو ~~العطف والرقة، والحنان والشفقة، وكما أن الطبيعة تنجز أعمالها وتنتج نتائجها، آنا بالنسيم ~~اللطيف وآونة بالإعصار العنيف، وتارة بالجدول السلسل وأخرى بالسيل الجارف، فكذلك الرجل المصلح ~~- الذي هو شعبة من الطبيعة وفلذة من كبدها - يحدث آثاره النافعة ومآثره الجليلة باللين تارة ~~وبالشدة أخرى، كالطبيب الحاذق يداوي بالعسل وبالصاب، وربما أزال السم بالسم، وشفى الداء ~~بالداء. # نقول: لما أعضل على الأمة المصرية لغز السياسة المعقد واعتاص حله، ولم تفلح فيه سهام ~~المنطق الأجوف وزخارف الآمال وأخاديع الأماني، ولم توفق إلى حله طمحات الأوهام، وسبحات الخيال، ~~والاستناد على النظريات المستحيلة، والاحتجاج بالافتراضات الوهمية معززة بقذائف «الهتاف» ~~والقنابل «الإسقاطية الإحيائية»، تقدم إلى معالجة هذا اللغز المعضل العويص رجل الحقيقة والجد ~~والعمل عبد الخالق ثروت، ووقفت مصر وإنكلترا أو العالم أجمع ينظر إليه نظرة العجب والدهشة؛ ~~ليرى ما هو صانع إزاء ذلك المشكل المعضل. # وقف رجل العمل والذكاء والدهاء أمام ذلك اللغز المخوف، وكأنا بذلك اللغز يخاطب الرجل ~~العظيم قائلا له: «أتفقه معنى هذه الساعة العصيبة؟ أتفهم لغز الحياة في هذه العقبة الكئود ~~والموقف الحرج؟ إن الآلهة تواجهك بسؤال معجز ولغز معضل، فهل عندك جوابه وهل لديك ~~حله؟» # قال توماس كارليل في كتابه «الماضي والحاضر»: «لقد جاء في أساطير الأولين أن جنية كانت ~~تربض على قارعة الطريق للمارة، تواجه كل عابر بأحجيتها الصعبة ولغزها العويص، فإذا استطاع حله ~~مر سالما آمنا في سربه، وإلا أهلكته وأوردته حتفه، ويزعمون أن هذه الجنية كان لها وجه ~~حورية حسناء وصدرها الناهد وأعطافها اللينة، ولكن بدنها الغض الرشيق ينتهي بعجيزة لبؤة ضارية ~~ومخالب سبعة عادية. # وكذلك الحياة هي كتلك الجنية لا فرق ولا خلاف؛ فالحياة تواجهك بجمال حورية وحسنها ~~الفردوسي الذي معناه النظام البديع والحكمة العالية والخضوع لقانون العقل الأزلي السرمدي، ولكن ~~فيها مع ذلك عنفا وطغيانا وظلمة وهلاكا - أحق أن تسمى آفات جهنمية - وهذه الحياة أو ms021 ~~الطبيعة لا تزال - كتلك الجنية - تلقي على كل إنسان يعبر سبيلها بصوت رقيق رخيم هذا السؤال ~~الخطير المرعب: أتفهم معنى هذا اليوم الذي أنت فيه؟ أتفقه مغزى هذه الساعة؟ أتدري أي مشكلة ~~تواجهك وكيف تحلها؟ وأي سبيل تسلك إلى ذلك؟ # أجل، إن الحياة أو الطبيعة أو الوجود أو القدر - كيفما سميت هذه الحقيقة الهائلة التي لا ~~يستطاع تسميتها - والتي نعيش في وسطها ونجاهد - لهي حورية فردوسية وعروس سماوية، وربح وغنيمة ~~للأريب اللبيب، والذكي الألمعي الذي يستطيع أن يتفهم أسرارها، ويحل لغزها، ويتبع قوانينها، ~~ويصدع بأوامرها، وهي جنية فتاكة وشيطانة مهلكة لمن لا يفعل كذلك ولا يستطيعه، فافهم أسرارها ~~وحل لغزها تسلم وتغنم. # أما إذا لم تعن بذلك ولم تأبه له، ومضيت في سبيلك دون أن تحل ذلك اللغز، وتجيب ذلك ~~السؤال، فستحله لك جنية الحياة وشيطانة الطبيعة، ستحله لك بمخالبها وتجيبك ببراثنها ~~وأنيابها الحادة، ثم لن تصادف فيها سوى لبؤة ضارية وسبعة عادية وحية رقشاء، أباءة صماء، لا ~~تسمع دعاك، ولا ترق لشكواك، ولا تلين لرقاك.» # تقدم رجل الحقيقة والجد والعمل إلى العقدة الصعبة والمشكل المعضل بعدما أعجز أهل ~~الخيالات والأوهام وطلاب المعجز والمستحيل، وقف ثروت باشا على قارعة السبيل، وواجهته شيطانة ~~السياسة بلغزها العويص وطالبته بالحل والجواب، فهل هو مخطئ أو مصيب؟ هل هو معرض نفسه وبلاده ~~لمخالبها وأنيابها أو مشيع منها بنظرة الرضى وابتسامة الارتياح إلى منهج التوفيق وسبيل النجاح؟ ~~سنرى ذلك قريبا، سنرى رجلا ليس بأسير خيالات وأوهام، ولا متعلقا بأذيال الخوارق ~~والمستحيلات، ولكن رجل الحقيقة والواقع، رجل الممكن والجائز، رجل الغريزة الصادقة والبديهة ~~الحافلة والبصيرة النافذة، رجلا يسلط شعاع عينه الثاقبة على المشكل والمعضل فيبدد عنه ظلمات ~~الشكوك وغيوم الريب والشبهات - كما تسلط العدسة البلورية طائفة الأشعة على الأشباح فتجلوها في ~~أسطع مظهر من الوضوح والبيان - رجلا ينفذ بنور بصيرته إلى أكناه الأمور وجواهر الأشياء وأكباد ~~الحقائق حتى يقهرها ويمتلكها آخذا بنواصيها قابضا على أعنتها - وذلك بفضل ما فاق به غيره من ~~رجاحة العقل وصدق العزيمة ms022 وقوة الروح؛ ذلك رجل لا ينظر إلى الدنيا ومشكلاتها بمنظار النظريات ~~والقياسات، ولكن بعين مجردة نافذة البصر ساطعة الشعاع كشافة اللمحات، رجل الإخلاص العميق، ~~والغيرة الملتهبة، والقلب الذكي المتأجج، والروح الحي المتوهج. # سنرى رجلا مطويا على غريزة الاهتداء إلى سر الحقيقة وجوهرها أينما كان، رجلا قد ثبت ~~قدمه على أساس الحقيقة الوطيد الراسخ، رجلا يستطيع أن يتبين بصادق نظره ونافذ بصره، من خلال ~~التعاقيد والارتباكات، لباب الشيء وجوهره، فيعمد نحو ذلك، ويسدد إليه خطواته. لقد روي عن ~~نابليون الأول أنه لما كان أمين قصره يعرض عليه يوما ما استجده في القصر من فرش وأثاث - وقد ~~جعل هذا الأمين يطري هذه الأمتعة والأدوات، ويثني على صناعها، ويقول إنها قد جمعت إلى جودة ~~الصنف ونفاسته رخص القيمة وقلة النفقة - لبث نابليون أثناء تلك الأقوال المسهبة والخطب ~~المستفيضة صامتا لا ينبس بحرف واحد، ولكنه بعد نهاية هذا الكلام المطول أمر أمين القصر أن ~~يجيئه بمقص، ثم عمد إلى هدابة ذهبية من هداب إحدى الستائر فقصها وطواها في جيبه وانصرف، وبعد ~~مضي أيام قلائل أبرز الهدابة من جيبه في الفرصة المناسبة فعرضها على منجد القصر الذي كان ~~صنعها، فارتاع ذلك الصانع التعس وأرعدت فرائصه: لقد كانت تلك الهدابة مغشوشة؛ لم تكن ذهبا ~~كما زعم ولكن صفيحا! هذه النادرة على تفاهتها تبين ماهية طبيعة الرجل وعنصر خلقه، تبين أنه ~~رجل عمل لا كلام، وأن غريزة نفسه الصادقة تدفع به إلى كبد الحقيقة مباشرة ضاربا صفحا عما ~~يحيط بها ويحجبها من الأقاويل والأراجيف ومن الشكوك والشبهات، كذلك كان نابليون الأول، وكذلك ~~كان غيره من رجال الحقيقة والجد والعمل، وكذلك نرى عبد الخالق ثروت. # هذا الرجل العظيم - ثروت باشا - يعرف بغريزته الصادقة كنه ما يحيط به من الظروف والأحوال، ~~وماهية الأسباب والوسائل التي يستخدمها، ويتذرع بها إلى بلوغ غرضه، ويعرف كذلك درجة قوته ومبلغ ~~قدرته، وأين تقعان من غايته وبغيته، يعرف النسبة بين كفاءته وبين ما يكتنفه من الظروف وما ~~يستعمله من الوسائل، وهذا لا يتأتى بالنظر ms023 السطحي ولا باللمحات المتقطعة، ولكن بطوفان من نور ~~البصيرة يغمر الأمر المبهم من جميع جوانبه وأركانه - بفضل العين الثاقبة والذهن المتوقد - ~~وكذلك على مقدار فهم الرجل لحقيقة الموقف يكون حسن كفايته وبلاءه. فهل هو يستطيع أن يجمع ~~الشتات ويؤلف الشوارد وينفث في الخليط المشوش روح النظام والتنسيق؟ هل يستطيع الرجل أن يقول في ~~غياهب الشك وظلمات الشبهة: «فليكن نور» فيكون النور؟ هل يستطيع أن يخلق من عالم السديم والفوضى ~~دنيا منظمة منسقة؟ ستكون قدرته على ذلك بحسب ما يحتويه قلبه من النور والضياء، وسنرى قريبا ~~مبلغ نصيب الوزير الجليل من هذه الميزة العظمى، ميزة الملائكة وهبة الآلهة. # ذلك النور والضياء في فؤاد ذلك الرجل الألمعي - عبد الخالق ثروت باشا - هو مصدر ما يمتاز به ~~من خلال النبل والكرم والهمة والمروءة والوطنية الملتهبة وخصال الصبر والجلد والحلم ~~والرفق والتسامح. # ألا فقدس الله نور القلب وضياءه! أليس ذلك هو الذي يجلو لك ما يستكن في ضمائر الأشياء من ~~روح النظام والائتلاف؟ أليس ذلك هو الذي يوضح لك مغازي الطبيعة ومقاصدها وما قد تخفيه تحت ~~قشورها الخشنة ومظاهرها الكريهة من المعاني الموسيقية؟ (فإنه ليس من شيء كائن في هذا الوجود ~~إلا يستكن في أعماق جوفه معنى موسيقي؛ أي روح نظامية تكون قوامه ومساكه وعماده وملاكه وبغيرها ~~لا يتماسك ولا يكون). فنور القلب أو العين الثاقبة في عظماء الرجال عامة وفي ثروت باشا خاصة ~~هي التي تهديه في زوبعة السياسة الثائرة - بآفاتها ومكارهها - إلى مواطن الخير والمنفعة ~~والصالح، فيستخلص من المنكر معروفا، ومن المر حلوا، ومن السم درياقا كما سنرى ~~قريبا. # لقد تقدمت أيها الوزير النبيل لعملك الجليل وسط أطلال صرح الاستقلال المتهدم وأنقاضه ~~المبعثرة، وأمامك الخصم العنيد يحاول مقاومتك ومناهضتك بهدم ما تشيد وتقويض ما تبني، وحولك ~~البناءون من بني وطنك: منهم المسعف المسعد الحاضر المدد والمعونة، ومنهم المتباطئ والمتلكئ ~~والواني والمتهاون. فمصاعبك جمة ومتاعبك شاقة - أحجار وجلامد صلبة صماء تتأبى وتتعسر، ورجال ~~تتأفف وتتضجر، وأمور متناقضة، وشئون متضاربة، وظروف عاتية متمردة - فلتقهرن ms024 هذه جمعاء ~~ولتتغلبن عليها إن قدرت، وإنك على أمثالها لقادر. # إن المصاعب والآفات والمتاعب والعثرات قريبة ظاهرة مجابهة تتلقاك لدى كل خطوة - وإن عون ~~الطبيعة ومددها وإسعافها (وإن كان في النهاية مؤكدا مضمونا) لمستتر مختبئ، فاستثره من ~~مكامنه ونقب على خفاياه بالصبر الجميل وبالجلد والعزم والإخلاص - بقوة رجولتك ومضاء همتك، ~~تغلب على كل عقبة وصعوبة، وحاول بكل ما أوتيت من حول وطول أن تشيد من هذه الأنقاض ~~المبعثرة المشوشة صرح الاستقلال التام لبلادك؛ راسخ القواعد، موطد الأركان، منيع الجوانب، شامخ ~~الذرى. # لبث الوزير الجليل عبد الخالق ثروت باشا ثلاثة أشهر طويلة يدافع عن حمى بلاده، ويذود عن ~~حياضها، ويكافح عن حقوقها، ويناضل إزاء ألد الخصوم وأعتاها وأشدها استبدادا وجبروتا، ويطالب ~~بتحقيق مطالب الوطن العزيز وأمانيه الكبيرة. ثلاثة أشهر جاهد فيها جهاد مشمر معتزم مستبسل في ~~سبيل الحق، مقدما أصدق مثال على روح الوطنية العالية والتضحية الشريفة. فكيف كانت نتيجة ~~مساعيه وثمرة مجهوداته؟ # في نهاية هذه الأشهر الثلاثة أذعنت لشروطه وأجابت مطالبه أقوى دول العالم، فأعلنت في 28 ~~فبراير سنة 1922 إلغاء الحماية عن القطر المصري، وأعلنت استقلاله التام، وأن يكون للبلاد ~~دستور وحكومة مسئولة. # جزاك الله أيها الرجل العظيم عن البلاد وأهلها أكرم الجزاء، وقدرها على القيام بواجب الشكر ~~نحوك. # الفصل الثاني # | التصريح لمصر بإلغاء الحماية وإعلان الاستقلال التام # وكذلك في غرة شهر مارس سنة 1922 خطت مصر أفسح خطوة وأيمنها نحو غايتها المقصودة، وأمنيتها ~~المنشودة، فصدعت عن نفسها أغلال الاستبداد الأجنبي، وتخلصت من ربقة الحكم البريطاني، ووضعت ~~قدمها على قارعة طريق النجاة والسلامة، وبرزت من ظلمة سجن العبودية إلى فضاء الاستقلال الطلق ~~الرحيب، وإلى جوه المشرق المستنير، وتنسمت أولى نسمات الحرية، تلك النسمات الغضة المنعشة ~~التي هي غذاء الأنفس ومادة الأرواح وحياة الحياة؛ إذ كانت هي الشرط الأول لنهضة الأمم من وهدة ~~التقهقر والانحطاط، والحجر الأساسي لبناء صرح المجد والعلاء، وكانت مفتاح باب النعمة والثراء ~~والرغد والرخاء، وسلم الرقي إلى أسمى درجات المدنية والحضارة والحياة السامية ~~النبيلة. # أعلنت إنكلترا في «التصريح لمصر ms025 » إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال التام، وأن يكون لمصر ~~برلمان يمثل الأمة تمثيلا صحيحا، وحكومة مسئولة أمام الأمة ممثلة في برلمانها، وأن تتولى مصر ~~بنفسها - دون أدنى تداخل من الدولة الإنكليزية - أمر تأسيس البرلمان وسائر مهمات الحكم ~~والإدارة في بلادها، وأن يحصر الخلاف بين الأمتين في أربع نقط، وهي: ~~(1) # حماية المواصلات البريطانية داخل حدود القطر المصري. ~~(2) # حماية الأقليات والأجانب. ~~(3) # الدفاع عن مصر ضد كل اعتداء أجنبي. ~~(4) # مسألة السودان. # فهذه المسائل الأربعة ينظر في تسويتها وحلها بواسطة مفاوضات مستقبلة تدور بين الحكومة ~~الإنكليزية، وبين البرلمان المصري الذي يكون هو وحده صاحب الحق في تحديد موعد هذه المفاوضات، ~~والشروع فيها حسب ميله ومشيئته الحرة المطلقة، وفي مقابل هذه الفوائد الجمة والغنائم العظيمة ~~التي استخلصها عبد الخالق ثروت باشا لمصلحة بلاده من يد الخصم الألد المعاند، لم يبذل دولة ~~الرئيس الأجل لذلك الخصم أدنى ثمن في صورة شرط أو تعهد أو قيد، بل احتاز للوطن هذه الثمرات ~~المباركة غنما بلا غرم، وطعمة سائغة هنية، وعربونا لما سوف تستوفيه مصر على يد برلمانها ~~في المفاوضات المقبلة من موفور الحقوق ومستكمل المطالب. # كل ذلك نالته مصر بمعونة الله العلي الأكبر جل شأنه، وبهمة ملكها المعظم وفضل مساعيه ~~الجليلة، ومجهوداته العظيمة محتذيا في ذلك حذو آبائه الأقيال الأماجد، وأجداده الصيد ~~الصناديد، جاريا على سننهم الأغر الأوضح ومنهاجهم الأنبل الأشرف، متبدرا غاية من المجد ~~والسناء تقع من دونها سابحات الآمال وطامحات الأماني، وتنحسر عن شأوها المديد أحث مطايا الحمد ~~وأوحى سوابق الثناء والشكر، أدام الله سلطانه، ودعم بالعز بنيانه، ووطد بالعدل أسسه وأركانه، ~~وأيد بالفتح المبين صولجانه، وأفسح في بحبوحة النعيم أرجاءه، وأخفق في رياح النصر لواءه، ~~وجعل عهده الميمون مراد خصب عميم، ومرتع عز مقيم، وفاتحة خير للبلاد لا تجف على الزمان أخلافه، ~~ولا يجمد على الحقب والأجيال هطاله ووكافه، إنه سميع النداء مجيب الدعاء. # نالت مصر كل هذه الفوائد والغنائم بفضل الله عز وجل، وبفضل ملكها المعظم - أدام الله عزه ~~وخلد ملكه - وبفضل الوزير الأجل عبد ms026 الخالق ثروت باشا الذي رد إلى البلاد - بفضل حكمته وحزمه ~~ومثابرته وجهاده - أوفر قسط من حقوقها المسلوبة - (وأنه على استرداد الباقي لمعتزم دءوب) - ~~والذي محا ما كان أصاب كرامة الأوطان من وصمة «المذكرة الإيضاحية»، وأسى ما كانت أحدثته في ~~أديم تلك الكرامة من ندوب وجراح، دون أن يقيد البلاد بإعطاء أدنى مقابل من شرط أو تعهد. # وبفضل مجهودات الشعب المصري ذاته الذي ما قصر في المطالبة بكامل حقوقه، ولا فرط ولا ونى ~~ولا تبلد، والذي أظهر في الساعة العصيبة والمحنة النكراء (عقب إعلان المذكرة الإيضاحية) من ضم ~~الصفوف، وتوحيد الكلمة ما شد أزر الوزير الجليل ثروت باشا وأيده، وكان من ورائه حصنا حصينا ~~في مناهضة الخصم، وكهفا منيعا، وعروة وثقى. # وكذلك في أول مارس 1922 هب على مصر من نفحات رضوان الله نسيم الاستقلال، وحيا مسامعها من ~~موسيقى النظام الأبدي نغمات الحرية المطربة الشجية، فحيا الله في الأيام ذلك اليوم الأغر ~~المحجل، وقدس الله في الساعات تلك الساعة السعيدة الزهراء: ساعة هبط علينا البشير يحمل إلينا ~~صحيفة السعادة الخالدة ممسكة بأذكى من شذى العطر، مصقولة الطراز بأبهى من سنا الفجر، وأي ~~ساعة أجل وأعظم، وأحق بالتحميد والتمجيد من ساعة تنطلق فيها الروح الإنسانية بعد طول أسر ~~واحتباس من قيود الرق، وأغلال الخسف والعسف فتنهض وتنبعث - ولو غشيها أثناء ذلك شيء من ~~الدهشة والارتباك والحيرة - وتنشط من عقالها حالفة بالذي خلقها وسواها لتكونن حرة ولتبقين ~~طليقة! الحرية وما أدراك ما الحرية؟ هي جوهر الروح، وعنصر النفس وملاكها الذي لا تقوم بغيره، ~~وقوامها الذي لا تصح ولا تسلم إلا به، وهي البغية والطلبة التي لا تزال تنزع إليها الروح ~~من أعماق أعماقها، وتشرئب وتطمح، وتصيح مفصحة أو معجمة، مبينة أو مجمجمة تطالب بها السالب ~~المغتصب، مناوئة منابذة، ولو هددها بما في الأرض والسماء من قوة، وهي التي في سبيلها وحدها ~~يبذل بنو الإنسان، بحكمة أو بلا حكمة، كل كد وعناء ومجهود وجهاد، ويغشون كل ملحمة ومعترك، ~~ويقاسون كل ألم وكربة وبلاء. أجل، ما ms027 أجل تلك الساعة وما أعظمها! ساعة تنسم الأمة أنفاس ~~الحرية المنعشة، ساعة يبدو للقافلة المكدودة الظمأى خضرة الروضة العشيبة وسط القفرة الجرداء، ~~ويقر أعينها رفيف أيكها النضر في وقدة الهاجرة ولفحة الرمضاء. # لما قبلت إنكلترا شروط ثروت باشا وأجابت مطالبه انفكت الأزمة الوزارية، ورأى ذلك الوزير ~~الجليل أنه لا بأس عليه في تلك الظروف الحسنة من قبول الوزارة، وحينذاك رأت جلالة الملك أن ~~تسند إليه الرياسة، فلبى دعوة مليكه المعظم تلبية مسرع إلى طاعته، صادع بأمره، محتملا في سبيل ~~خدمة البلاد أعباء تلك المهمة الشاقة. ثم اختار دولة الرئيس للوزارات المختلفة رجالا هم - ~~صفوة أبناء الأمة ونخبتها، وعتادها في الأزمات والشدائد، وذخرها في الملمات والعظائم - من كل ~~فاضل كفؤ وحازم، بصير مديد الشأو، رحب الذراع، بعيد الهمة، وحسبك أن يكون بينهم رجل كصاحب ~~المعالي إسماعيل صدقي باشا، ذلك الفذ النابغة، الذكي الألمعي الذي كأنما تتوقد بين جبينه كواكب ~~الفلك ومصابيح الحلك، ذلك المشهود له بدقة الذهن وصفاء القريحة، لا يطيش له في حومة النضال ~~سهم، ولا يخبو له في ظلمة الشكوك نجم، وقد طالما عجمته الحوادث، وعركته الكوارث، فألفته صلد ~~الصفاة، جلد الحصاة، لا تحل حبوته، ولا تفل عزمته، وكم دفعت به خطوب السياسة في المآزق ~~والمضايق، فما راعنا إلا خروجه منها ظافرا وادع القلب وضاء الجبين، وكفاه نبلا وشرفا أنه ~~كان موضع اختيار الرئيس الأجل، وأنه ما زال موطن ثقته واعتماده. # وحسبك أيضا أن يكون من بين من اصطفى الرئيس أيضا صاحب المعالي مصطفى ماهر باشا، وهو ذلك ~~الرجل الجلد القدير على العمل الناهض بأعبائه مهما كدت وفدحت، وكم له من موقف في ميادين ~~الأعمال الجسام أظهر فيه الحكمة مقرونة بالصرامة والتؤدة مشفوعة بالعزم والمضاء، وقد أحسن ~~الرئيس كل الإحسان في اختيار مثل هذا الشهم الهمام لوزارة المعارف؛ لأنها أحوج الوزارات إلى ~~عميد ينفحها بروح من عنده، ويبعث في كيانها تيارا ملتهبا من «بطارية» ذهنه المتقد، وجذوة ~~حامية من مرجل حميته المحتدمة، وماذا عسانا بعد أن نقول في رجل ms028 رآه الرئيس أهلا لما ناط به من ~~ذلك العمل الجليل والمنصب العظيم. # كذلك تألفت الوزارة باختيار ثروت باشا من رجال أكفاء سبقت لهم في خدمة البلاد أياد بيضاء، ~~ومآثر غراء، تجلى فيها إخلاصهم وصدق وطنيتهم في حذق وبراعة، وقد تبوأ أولئك الوزراء مناصبهم ~~في وزاراتهم المختلفة حيث أخذوا بالمبدأ السياسي الجديد - مبدأ الانفراد بالعمل والاستئثار ~~بالسلطة - فقبضوا على أزمة الحكم وتسلموا مقاليده، وحققوا معاني ذلك المبدأ الجديد وأغراضه ~~تحقيقا تاما لا يقبل شكا ولا ريبة؛ فأصبح الموظف الإنكليزي مهما علت درجته مرءوسا للوزير ~~مرغما أن يخضع لإرادته ويصدع بأمره، وليس رئيسا مستبدا مطلق السلطة متحكما في جميع من ~~حوله يأمر وينهى لا ناقض لحكمه ولا راد لكلمته، وربما استبد على الوزير نفسه، واغتصب سلطته، ~~وأخضعه لمشيئته ورغبته - كما شوهد كثيرا في العهد السالف - فها نحن أولاء أصبحنا نرى بعين ~~قريرة جذلى كبار رجالات الإنكليز يتقلص ظل سلطانهم عن منصات الحكم داخل بلادنا، ويطوى بساط ~~نفوذهم عن دوائر حكومتنا، وينملس شبح صولتهم المرهوبة ويزول عن أبصارنا، ويحل محل هذا كله سلطة ~~وزرائنا - أهل جلدتنا وأبناء آبائنا، وإخواننا في الله والوطنية، وشركائنا في السراء والضراء - ~~الواردين معنا حياض المناعم والمكاره، والشاربين بالكأس التي بها نشرب إن علقما وإن شهدا، ~~ورفاقنا في قافلة الجهاد وزملائنا في سفينة الأقدار، السائرين معنا إلى الهلاك أو النجاة، إلى ~~الموت أو الحياة، المقرونة أسماؤهم إلى أسمائنا في سجل القضاء الأزلي، المخبوء لهم من القسم ~~والحظوظ مثل ما خبئ لنا في خزانة الغيب ومستودع المجهول، الجاري لنا ولهم بالسعود والنحوس نجم ~~واحد في فلك واحد. فليس من المعقول ولا من الجائز قياسا أو فرضا، ولا مما يسوغ في الضمائر أو ~~يمر على الخواطر أن إخواننا الوزراء - من تجيش عروقهم بدمائنا وتنبض قلوبهم على دقات قلوبنا ~~- ينزلون إلا على إرادتنا، أو يتوخون سوى أغراضنا ومقاصدنا، ولا سيما في هذا العهد المبارك، ~~وفي هذا الدور المتقدم من قضيتنا، وبعدما أعلن الإنكليز رسميا إلغاء الحماية والاعتراف ~~بسيادة مصر في الخارج وفي ms029 الداخل، فكان في ذلك أوضح برهان على ما عدلت إليه وعولت عليه ~~الحكومة الإنكليزية من صحة العزم وصدق النية على عدم التعرض لإدارة مصر الداخلية، والحيلولة ~~بينها وبين التمتع بحقوقها الكاملة في حكومة أهلية. # أجل، إن الوزارة الحالية لا تألو جهدا ولا تدخر وسعا في استرضاء الأمة والنزول عن حكمها، ~~وإن قامت العقبات والعثرات مؤقتا دون قيامها بإبلاغ الأمة كل رغباتها وجميع مشتهياتها، ولكن ~~الوقت كفيل أن يبرهن للشعب على أن ما يؤجل الآن من أمانيه وبغياته - بحكم الظروف القهرية ~~الناشئة عن حالة الانتقال والتطور السياسي - لن تلبث الوزارة أن تعمل على قضائه وتحقيقه في ~~الحين المناسب متى تراخت الأزمة، وانفسح المجال، وتيسرت الظروف المسعدة المؤاتية، وفي سبيل ~~تيسير هذه الظروف، وإرخاء تلك الأزمة، واستعجال ذاك الحين المناسب تبذل الوزارة الآن أقصى ~~الجهد وتخطو أفسح الخطى. # فها هي قد تسلمت - كما أسفلنا - مقاليد العمل، وقبضت على أعنة السلطنة فنحت المستشار ~~المالي عن حضور جلسات مجلس الوزراء - كما هو معروف - وتخلصت من معظم وكلاء الوزارات ومستشاريها ~~الإنكليز، واستبدلت بهم وكلاء وطنيين، وها نحن أولاء لا يكاد يمر بنا برهة من الزمن إلا رأينا ~~بعض كبار الموظفين الإنكليز يعتزل منصبه في الحكومة المصرية فيعين مكانه مصري من أبناء ~~البلاد، وها نحن نرى الوزراء المصريين قد ملكوا نواصي الشئون والأحوال، وأمسكوا بدفة المسائل ~~والأعمال في وزاراتهم المختلفة؛ فأحاطوا علما بكل دقيقة وخطيرة، ولم يغادروا صغيرة ولا كبيرة، ~~ومن ذا الذي لم يطلع في الجرائد السيارة على قرار صاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا بهذا ~~الشأن وفي ذلك الصدد، ذلك القرار الحاسم الجازم الذي أماط كل لثام، وجلى كل شك وشبهة عن هذا ~~الأمر الخطير، فلم يدع مجالا للنقد ولا موضعا للاعتراض. # هذه كلها من فوائد العهد الجديد، ومن ثمرات الفوز السياسي المبين الذي أحرزته البلاد ~~بمعونة الله عز وجل، وبفضل جدها ومجهودها وهمتها وتضحيتها - وعلى الأخص بما أظهرت من الاتحاد ~~والتضامن (عقب إعلان المذكرة الإيضاحية) والقيام في وجه الخصم الألد المعاند متساندة متعاضدة ~~كأنها ms030 روح واحدة في جسد واحد - وبفضل مجهودات وزيرها الأجل ومهارته وحنكته السياسية وكفاءته ~~النادرة؛ فهو الذي استطاع أن يتخذ من صدق موقف الأمة وقوة تضامنها أحسن وسيلة، وأضمن ذريعة إلى ~~إقناع الخصم واستمالته والتأثير في أعصابه حتى أمكنه أن يستخلص للبلاد من قبضته ما استخلصه من ~~تلك الفوائد الجمة والغنائم العظيمة. # ولكن كيف كان موقف الأمة إزاء هذا التغير السياسي العظيم، وبماذا استقبلوا هذا العهد ~~الجديد، وماذا كانت آراؤهم فيما قد تأتى للبلاد من تلك الفوائد والغنائم؟ # انقسمت الأمة - بهذه المناسبة وفي هذا الموقف - من حيث ~~الظنون والآراء شيعا بددا وطرائق قددا، فمنهم المستبشر المتفائل الفرح الجذلان بما ~~نالته البلاد من ذلك الغنم العظيم وإن وقع دون أقصى غاية البغية والمراد، وتقاصر عن أبعد ~~مرامي المقصود والمرغوب، ولم يسم إلى ما تطمح إليه الأمة من الاستقلال التام بأكمل معانيه وفي ~~أسمى مراقيه وأسنى مجاليه. فهذا الفريق من أهل البلاد يعتقد أن هذه المرحلة الأخيرة فوز صريح ~~وربح حاصل، وأنها بلا أدنى جدال خطوة إلى الإمام، وخطوة واسعة قد قربتنا من الغاية المقصودة ~~شوطا بعيدا وشأوا مديدا، وحسنت موقفنا، وحصنت مركزنا، ورفعتنا من وهدة ضعف وحضيض مهانة كنا ~~فيه تحت مدفعية الخصم نصلى نيران سطوته، ولهيب صولته، لا نستطيع له مطاولة ولا مصاولة - ~~فرفعتنا هذه الخطوة إلى ربوة عزة ومنعة، وهضبة حصانة وقوة أصبحنا بها أولي قدرة على مناهضة ~~ذلك الخصم ومناجزته، وأقدر على مواصلة سعينا إلى أمنيتنا المنشودة، أعني الاستقلال التام ~~المطلق من كل قيد، المجرد من كل شائبة - أو لم يصبح هذا الغنم الذي استفدناه أخيرا ~~أقوى سبب، وأمتن وسيلة نستطيع أن نتذرع بها إلى إحراز الفوز الأتم والنجاح الأكمل، أعني تحديد ~~الضمانات التي تطلبها بريطانيا العظمى، ونقصها وتلطيفها بما لا يتعارض مع استقلالنا ولا يضيره ~~إلى أن يحين الوقت للعدول عنها، وإطراحها فتخلص مصر الخلاص التام من كل قيد من هذا القبيل ~~وخلافه. # هذا فريق التفاؤل والتيمن الذي هو في الحقيقة أقرب من غيره إلى الصواب والمعقول؛ لأن ms031 جميع ~~ما يحيط بالمسألة من شواهد الظروف وقرائن الأحوال تصدق رأيهم وتؤيد حجتهم، وثمة فريق آخر يناقض ~~الفريق الأول في رأيه ومذهبه، فهو لا يثق ببريطانيا على الإطلاق، بل يفضل ترك الحالة معلقة - ~~حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا - على قبول ما هو معروض الآن على مصر؛ محتجا لمذهبه هذا بأن ~~الإنكليز ما برحوا منذ بدء احتلالهم هذا القطر يمنون أهله بأباطيل المواعيد وأضاليل الأماني، ~~فإذا استسلمنا إلى وعودهم هذه المرة أيضا فقد تضعف العزائم، وتتخدر الأعصاب، ويتأخر سير ~~القضية إلى غرضها الأسمى، ومرادها الأقصى، وفي هذا البلاء والشر كله. # ونحن نعترض على هذا الفريق ومذهبه بأن إنكلترا اليوم ~~ليست بإنكلترا الأمس؛ لقد علمتها الحوادث والخطوب أن أمم الشرق وشعوبه الواقعة تحت سيطرتها ~~ليست بالرمم البالية المقبورة في مدافن الدثور والعفاء، ولا هي بالخشب المسندة الملقاة في ~~زوايا الإهمال والنسيان رهائن العجز والتبلد والخمود والجمود. لقد كانت إنكلترا تحسب أن الأمة ~~المصرية وسائر أمم الشرق لم تشارك الشعوب الغربية المهضومة فيما أحدثته الحرب الكبرى في صميم ~~كيانها من تلك الثورة الفكرية، والغليان السياسي الذي استحث حركتها العادية وسيرها المألوف في ~~سبيل الرقي الطبيعي التدريجي نحو الغاية المحتوم عليها بلوغها - ولو ببطء وتريث وبعد تعطيلات ~~العقبات والعراقيل - بحكم السنن الكونية والنواميس الطبيعية. فإنكلترا بالرغم من اعترافها ~~للشعوب الغربية الصغرى بما أحدثته فيها الحرب الكبرى من الثورة الفكرية السياسية، وبالرغم من ~~إذعانها لحكم هذه الثورة - أعني لحكم السنن الكونية والنواميس الطبيعية - تغافلت عن مصر في ~~بادئ الأمر وتعامت، ولم تحسب لها حسابا في باب النهوض والتحفز، فلم تلق لمصر بدلو يوم ألقت ~~الشعوب الغربية بدلائها في مناهل المؤتمرات، ولا أجالت لمصر قدحا ولا سهما يوم أجالت الشعوب ~~الغربية سهامها وقداحها في قرعة السياسة على موائد المقامرة الدولية، لم تطرح إنكلترا مسألة ~~مصر - ولا سمحت لمصر أن تطرحها بنفسها - في ميزان التسوية يوم طرحت مسائل الأمم الغربية في ذلك ~~القسطاس الحكيم. # فماذا كانت النتيجة والعاقبة؟ نتيجة الغفلة والتفريط وعاقبة من لا يحسب للأمر ms032 حسابه ولا ~~يتدبر عواقبه - كانت النتيجة مفاجأة الغافل المغتر بما لا يتوقع من الخطب الجسيم والحادث الجلل ~~الذي ما برح يختمر ويتكون - أيام غفلته وغروره - في طي الخفاء حتى ظهر له حين انقشاع عمايته، ~~وانجلاء غمرته بارزا جهيرا شنيعا بشعا جهما متنكرا يحملق إليه بعين الحقيقة المستعرة ~~جمرا وشررا. # كانت النتيجة استيقاظ بريطانيا من رقدتها الطويلة بلطمة قاسية من كف الحقيقة المرة الأليمة ~~حين استوفت هذه الحقيقة نموها واستكملت نضجها، ودرجت من منشئها ومرباها إلى ميدان العالم ~~ومعترك الحياة؛ لتؤثر أثرها، وتؤدي وظيفتها. # كانت النتيجة أن مصر المهضومة المستضعفة - التي لم تحسب بريطانيا حسابها ولم تأخذ منها ~~حذرها - ثارت ثورتها المعروفة في مارس 1919، وهبت في وجه بريطانيا هبة الأسد المسلسل صدع ~~قيوده وأغلاله ووثب يطالب المغتصب بحقوقه المهضومة المسلوبة. # عند ذلك أفاقت بريطانيا لأول مرة من غفلتها بالنسبة للمسألة المصرية، وصحت من سكرتها، ~~وأقبلت على القضية المصرية تتأملها بعين الحذر والاهتمام المشوب بشيء من الخشية والرهبة، ولا ~~جرم، فلقد راعها من عجيب تطور الأمة المصرية، وعظيم نهضتها وطفرتها ما راع «أهل الكهف» إذ ~~هبوا من رقادهم، فهالهم ما هالهم من تغير حال الدنيا وتبدل الشئون والمشاهد، وكان بعد ذلك ما ~~كان من محاولة بريطانيا المرة بعد المرة تسوية القضية المصرية بوسائل شتى؛ إحداها «لجنة ملنر» ~~التي فشلت في مهمتها بفضل إجماع المصريين قاطبة، وتوحيد كلمتهم على مقاطعتها أشد مقاطعة ~~وأقصاها، حتى أوصدوا في وجهها كل باب للمناقشة والمفاوضة، بل قطعوا منها كل أمل في ذلك، وكل ~~هذا تأييدا للوفد المصري الذي كان إذ ذاك وكيل الأمة المفوض ومندوبها الذي لم ترتض سواه ~~مندوبا ووكيلا. # وهنا يجدر بنا أن ننوه بما كان من سلوك ثروت باشا في تلك الآونة الدقيقة، وكيف كان موقفه ~~إزاء لجنة ملنر، وبماذا أشار عليها؟ # قابل ثروت باشا في ذلك الحين اللجنة المذكورة منفردا (كما قابلها عدلي باشا منفردا) لا ~~مقابلة راغب في مفاوضتها - حاشا لوطنيته الشماء أن تفعل ذلك - ولكن مقابلة من أحب أن يبلغها ~~جواب ms033 الشعب الصريح، واعتقاده الصحيح معبرا عن جنانه، ناطقا بلسانه، فأنبأها بالأصالة عن ~~نفسه وبالنيابة عن الشعب المصري - أن المصريين قاطبة قد أصروا على أن لا يكون لهم مع اللجنة ~~شأن ما، وأن لا يدخلوا معها في مناقشة أو مباحثة؛ ذلك لأن لهم وفدا يمثلهم أصدق تمثيل وأصحه، ~~فهم لا يرضون غيره محاميا عن القضية، ولا يثقون بمفاوض سواه كائنا من كان. # هذه المأثرة الجليلة من مآثر ثروت باشا - الدالة على ما ينطوي عليه فؤاد الرجل الكبير من ~~صدق الوطنية وروح التضحية - أقل ما يؤثر من عظيم مآثره ~~وجسيم مفاخره، وأدنى ما يذكر من مساعيه الجليلة في سبيل خير البلاد وصالحها، ولكنا رأينا أن ~~نوردها هنا تذكرة لمن نسي، وتعريفا لمن لم يعرف. فليعلم الناس أن وطنية ثروت باشا ليست وليدة ~~اليوم ولا بنت الأمس، بل هي عريقة فيه متأصلة منذ أدلى به عالم الخفاء إلى عالم الوجود، ~~منذ: # سله الله للخطوب من الغي # ب كسل المهند المغمود # وكذلك كل رجل عظيم لا تكون فيه الوطنية مجرد عادة يعتادها، أو خصلة يتحلى بها، أو أداة ~~يتذرع بها إلى شيء من مقاصده وأغراضه، بل تكون فيه غريزة غلابة، وطبيعة مسيطرة على جميع ~~مشاعره ومداركه ونزعاته وعواطفه وشهواته، تكون مزاج دمه وأساس كيانه، والجوهر الذي صيغت منه ~~نفسه، والعنصر الذي صورت منه روحه. # قلنا: إن بريطانيا لما أفاقت من سكرتها بالنسبة للمسألة المصرية، ولما قشعت يد القدر عن ~~بصرها ما كان ران عليه من غشاوة الغفلة والغرور، وعن قلبها ما كان قد غشيه من حجب القسوة ~~والجبروت فأصاخت إلى صوت مصر المتصاعد إلى عرش الله، وأصغت إلى نداء مصر المالئ ما بين الأرض ~~والسماء، وقد أدركت أن مصر لا تقل عن نظائرها من الشعوب الأوروبية شعورا بعزتها وكرامتها، ~~وعرفانا بقدرها وقيمتها، وإدلالا بسالف مجدها وعظمتها، وأنها لا تنحط في درج المدنية ~~والحضارة عن مقام تلك الأمم، ولا تهبط في سلم الرقي الأدبي والاجتماعي عن منزلة تلك ~~الشعوب. لما أدركت بريطانيا كل هذا، وجبهتها ms034 الحقيقة صلبة خشنة كالصخر الصماء، أرادت استرضاء ~~الأمة المصرية، وحاولت بلوغ ذلك بتسوية قضيتها المرة بعد المرة بوسائل شتى منها «لجنة ملنر» - ~~التي ذكرنا ما كان من فشلها بفضل إجماع المصريين على مقاطعتها بأقصى الشدة، وبتنفيذهم هذه ~~النية بحد بجد وعزيمة وصرامة كانت ولا تزال موضع إعجاب العالم بأسره - وكان من تلك الوسائل ~~أيضا دعوة بريطانيا الأمة المصرية إلى مفاوضتها: أولا: على لسان الوفد المصري (بصفة غير ~~رسمية)، وثانيا: على لسان الوفد الرسمي (بصفة رسمية طبعا). # ليس غرضنا ههنا أن نأتي على تاريخ تينك المفاوضتين، ولا أن ندخل في تفاصيلهما - بل لم ~~نذكرهما هنا بقصد تناولهما بالبحث والنقد - وإنما ألجأنا إلى التنويه بهما محاولتنا إقناع ~~الفريق المتشائم المتطير المبالغ في إساءة الظن ببريطانيا أن إنكلترا اليوم - التي تدعو بنفسها ~~مصر، وتمد يدها إليها للدخول معها في المفاوضة لاسترضائها وتسوية قضيتها - هي خلاف إنكلترا ~~الأمس العاتية المتغطرسة التي كانت لا تسمع النداء ولا تصيخ لدعاء. # فلهذا الفريق المتشائم المتطير، الشديد الارتياب في صحة مواعيد بريطانيا وفي حسن نيتها، ~~لمصر على أن لا يزال مدى الدهر يعتقد فيها مطل الوعود وختل العهود والسخرية من مطالبنا الوطنية ~~وأمانينا القومية. نقول إن بريطانيا اليوم بالنسبة لقضيتنا غيرها بالأمس، وأنها تقف منا الساعة ~~موقفا لم تقفه من قبل، فلقد أيقظناها من رقادها، ونبهناها إلى تلك الحقيقة الكبرى، وهي أن ~~مصر أيضا أمة كغيرها من الأمم الغربية، وأنها تعرف مثلها معاني الحرية والاستقلال، وتصبو إلى ~~أخذ مكانها بين دول العالم المجيدة وممالكه العظيمة، وتتوق إلى الصعود في مراقي المدنية ~~السامية لاعتلاء ذروة العز، وتسنم غارب المجد والسؤدد، وأنها كسائر الأمم الغربية الناهضة لها ~~قلب يجيش بأذكى جمرات الحمية، وأحمى مراجل الوطنية، ولها جانب صعب أبي ينفر بها عن مواطن ~~الخسف والضيم، وأنف حمي يأبى لها النزول على العسف والرغم. أجل، لقد فتحنا عين بريطانيا بعد ~~طول غموض إلى أن مصر كمثيلاتها من أمم الغرب لا تصبر على اغتصاب حقوقها، واستلاب تراث أسلافها، ~~وأنها تقدر قيمة الحرية ms035 حق قدرها، وتعرف أنها الجوهرة الثمينة، والدرة اليتيمة التي من ~~أجلها تخوض غمرات الخطوب، وتغامس حومات المحن والكروب: فإما تهلك وتفنى في خضم الجهاد، وإما ~~تظفر بتلك الدرة اليتيمة فتردها إلى موضعها من إكليل مجد البلاد وتعيدها إلى نصابها من تاج ~~حسبها المجيد وعزها التليد. لقد علمنا بريطانيا أنه ليس للغرب أن يفخر على الشرق زاعما ~~أنه أوفر نصيبا منه في مزايا النهوض والتقدم، وأنه أذكى منه قلبا، وأنبل روحا، وأصفى جوهرا ~~وأكرم عنصرا. لقد علمنا بريطانيا أنه لا شرق ثمة ولا غرب إذا هبت الأمة من سباتها تطالب ~~بحقها المهضوم، وتحاول استرداد الحرية والاستقلال، لا شرق ولا غرب إذا زخر عباب الحياة في فؤاد ~~مثل هذه الأمة وثار موجه، وجاش تياره في أعماق روحها المضطربة، ثم دفعتها رياح الوطنية العاتية ~~إلى الموت أو الحياة. أجل، في مثل هذه الساعة الخطيرة تمحى من بين صفات الإنسان الطبيعية تلك ~~الصفة الاصطلاحية الصناعية - أعني «شرقيا» و«غربيا» - وتسقط عن هيكل الإنسان المقدس تلك ~~«الماركة» المعلقة عليه تعليقا، غير المتأصلة في جوهر الروح النقي الأصلي المستمد هو وسائر ~~أرواح البشر من مادة الروح الكلي وينبوعه الأبدي. # لقد فتحنا عين بريطانيا إلى هذه الحقيقة الكبرى، وهي أن الأمة المصرية لم تكن فيما مضى من ~~الزمن ميتة ولا جامدة ولا خامدة ولا نائمة، بل حية تذكو في ضميرها جمرة الحياة والشعور، وإن ~~حجبت شعاعها حجب الفتور والتبلد منا، وحجب الغفلة والغرور منهم. لقد علمنا بريطانيا هذه ~~الحكمة البليغة، وهي أنه لا شيء في الحياة ميت أو هامد أو راكد. لقد ذكرناهم بما كان أوحى ~~إليهم حكيمهم العظيم توماس كارليل في القرن السالف حيث قال في كتابه «الثورة الفرنسية»: # لا شيء في الكون ميت، وما نخاله ونسميه ميتا إنما هو في الحقيقة في حالة استحالة ~~وتغير، تعتمل قواه الكامنة وتفتعل على نظام معكوس. فالورقة الذابلة رهينة البلى ~~والعفن لا تزال تكمن فيها القوة، وإلا فكيف كان يتأتى لها أن تتعفن؟ ألا إنما الكون ~~بحذافيره ليس سوى ms036 مجموعة غير محدودة من القوى المختلطة الممتزجة - تعد بالآلاف ~~والملايين - من الجاذبية الجمادية إلى الفكر والشعور والإرادة - حرية الذهن المطلقة ~~تكتنفها وتحدق بها ضرورات الطبيعة المحتمة - وفي خليط هذه القوى الهائل العظيم لا شيء ~~يهمد أو ينام لحظة، بل كلها لا تزال أبد الآبدين يقظة فعالة. # فأما ذلك الشيء الجامد الهامد المنعزل عن دوامة هذه الحركة الأبدية فذلك ما لن تجده، ~~ولن تراه في أي أنحاء هذا الوجود البتة، مهما فتشت ونقبت في سلسلة الكائنات من الجبل ~~الصوان المستمر في حركة البلى البطيء منذ بدء الخليقة - إلى السحابة السارية، إلى ~~الإنسان الحي، إلى أقل فعلة من أفعاله وأدنى كلمة من أقواله. أجل، إن الكلمة إذا خرجت من ~~فم القائل مضت كالسهم النافذ، لا ماحي لأثرها، وأشد منها وأقوى الفعلة الواقعة. أو ~~لم يتغن لنا الشاعر «بندار» قديما بحكمته المأثورة: «إن الآلهة أنفسها لتعجز أن ~~تمحو أثر الفعلة المفعولة.» لقد صدق بندار، فإن هذه متى فعلت بقيت على الأبد الآبد ~~مفعولة؛ أي دائمة المفعول والأثر - بقيت مسترسلة في فضاء الزمن اللانهائي - وسواء لبثت ~~ظاهرة لنا بادية، أو مستترة خافية، فستبقى فعالة تزكو أبدا وتنمو عنصرا جديدا لا يفنى ~~ولا ينعدم في غضون مزيج الكائنات اللانهائي. بل ماذا تحسب هذا المزيج اللانهائي ذاته ~~الذي نسميه «الكون»؟ أتراه سوى فعلة أو مجموعة من الأفعال أو القوى؟ أتراه سوى مجموعة ~~حية (يعجز الحساب عن جمعها وحصرها في جداوله وإن بدت لعينك مكتوبة على صفحة الزمن) ~~مجموعة حية لهذه الثلاثة الآتية: كل ما فعل، وكل ما يفعل، وكل ما سوف يفعل. # فاعلم - علمت الخير - أن ذلك الكون الذي تراه إنما هو فعلة، هو النتيجة والمظهر لقوة ~~مبذولة، هو البحر العديم السواحل الذي من ينابيعه تنفجر القوة، والذي في عباب حومته تجيش ~~وتموج القوة زخارة منسقة منتظمة، فسيحة كاللانهاية، عميقة كاللابداية، جميلة مخوفة حسناء ~~روعاء، غير مدركة ولا مفهومة. فهذا اللج الزاخر الذي لم يبرح يجيش ويرغي ويزبد من ~~وراء الأفلاك ومن قبل بداية الزمن، ولم ms037 يزل يموج من حولك - بل أنت نفسك جزء منه في هذه ~~النقطة من الفضاء، وفي هذه الدقيقة من الزمن - هذا هو ما يسميه الإنسان «الكون» ~~و«الوجود». # وكذلك الحياة البشرية وكل ما فيها لا يزال في حركة دائمة، وفي فعل وتفاعل متطورا من ~~حال إلى حال، ومن شكل إلى شكل بتأثير نواميس نافذة محتومة نحو غاية محدودة ونتيجة ~~لازمة، ونحن بني البشر، ألا ترى كيف نظل منغمسين مغمورين في أعماق سريرة الزمن وفي ظلمات ~~لغزه العويص؟ ولا جرم، فنحن أبناء الزمن وسلالته - ومن الزمن حيكت أنسجتنا، ودبغ ~~أديمنا، وصيغت صورنا وأشكالنا - وعلينا وعلى كل ما نملك أو نبصر أو نفعل قد كتب الزمن ~~شعاره وحكمه: لا قرار في موضع ولا دوام على حال، سر إلى غايتك، وامض قدما إلى ~~قسمتك. # أجل، لقد ألقت مصر على بريطانيا واقعيا وعمليا في الثلاثة الأعوام الأخيرة، ما كان ~~ألقاه عليها كلاميا ونظريا حكيمها الأعظم توماس كارليل في الجيل السالف. لقد أعدنا عليها ~~ذلك الدرس العظيم بالأعمال الصارمة ذات الأثر والمفعول والنتائج الخطيرة. لقد أيقظناها إلى ~~الحقيقة المرة بثلاث صدمات شديدة كبحت جماحها، وكفكفت غربها، وألانت عريكتها حتى هيأتها ~~نهائيا إلى التأثر بسياسة ثروت باشا في مناوراته الأخيرة، وإلى الاقتناع بناصع حججه ودامغ ~~براهينه، وإلى الانقياد نوعا ما في زمام مهارته السياسية وبراعته المنطقية. أما هذه الصدمات ~~الثلاث التي مهدت طريق النجاح لثروت باشا فهي كما يعرف الجميع: ~~(1) # قومة مصر في وجه بريطانيا في مارس 1919. ~~(2) # مقاطعة لجنة ملنر. ~~(3) # قطع الوفد الرسمي الذي كان يرأسه دولة الوزير العظيم عدلي يكن باشا للمفاوضات ~~المصرية-الإنكليزية، وما أعقب ذلك من التئام الصدع وائتلاف الشمل بين الأحزاب المصرية ~~بعد طول تنابذ وتنازع، ثم انضمام الصفوف وقيام الأمة قومة سلمية بأساليب الدفاع ~~السلبية، ولا ينس أحد أن صاحب الفضل الأعظم في هذه الوثبة الثالثة والصدمة الأخيرة ~~(أشد الثلاث وقعا وأبلغها أثرا ومفعولا)، وأعظم مسبب لها، بل أساسها ومصدرها هو ~~ذلك الرجل الخطير والبطل الكبير صاحب الدولة عدلي يكن باشا. # وماذا ms038 عسانا نقول في مدح ذلك البطل المجيد عدلي يكن؟ وأين تقع رائحات الحمد وغادياته، ~~وسابحات الثناء وسارياته، من رفيع مقامه في ذروة المجد الشامخ، وذؤابة الحسب الباسق الباذخ؟! ~~ماذا عسانا نقول في رجل حملته الأمة أمانتها فأحسن الحمل والأداء، وزجت به في حومة النضال عن ~~حقوقها فأجاد الذود وصدق البلاء؟! أو لم يدفع عدلي بحر وجهه الكريم ما أرادت بريطانيا أن ~~ترمي به وجه الأمة المصرية من آيات الخسف والهوان ممثلة في ذلك المشروع الذي رفضه هذا الهمام ~~فكفى بذلك أمته غضاضة مناقشة المشروع والنظر فيه؟ أو لم تبعث به مصر في تلك المفاوضة ~~نائبا عنها وممثلا فكان خير عنوان على ما لها من نبل وكرم، وأنفة وشمم، وشرف رفيع، وعز ~~منيع؟ أو لم تكن طلعته الوضاءة البلجاء، وغرته الوضاحة الزهراء، صفحة صدق تتألق بنور ~~الأمانة والإخلاص، ويسطع في جنباتها رونق اليقين والإيمان، ويترقرق ماء الحياة والعفة ~~والنزاهة؟ أو لم يقرأ الإنكليز أنفسهم في أسارير جبينه الأغر سطور الحزم والعزم، والحلم ~~والرفق، والحكمة والحذق، والمضاء والدهاء؟ # ألم ينتشل عدلي باشا الشعب المصري الكريم من وهدة الضعف والفتور التي كان ألقاه فيها دعاة ~~التخاذل والتواكل، وبغاة التفرقة والانقسام؟ ألم يستنقذ عدلي باشا أمته المجيدة من حضيض ~~التواني، والاسترخاء الذي كان أهبطه فيه تجار الفشل والهزيمة ومروجو إشاعات السوء عن الوفد ~~الرسمي، الذي أثبتت مآثره وحسناته أنه كأكرم وأنبل من انتدبت أمة للمطالبة بحقوقها والدفاع عن ~~قضيتها، والذي سجل له التاريخ أشرف صور الفضل وأسنى آيات الوفاء في أمجد فصوله وأنصع صحائفه؟ ~~ألم يبيض عدلي باشا وجه أمته بما أحرز لها من النصر الباهر بموقف الشمم والإباء والعزة ~~والكبرياء الذي وقفه إزاء خصمها الألد وقرنها العنيد؟ ألم يفهم الإنكليز أن الذي يرفض ~~مشروعهم بمنتهى الأنفة والنخوة والإباء هو الأمة المصرية بأسرها ممثلة من شخصه الكريم في ~~مرآتها الحاكية مجموع نزعاتها ورغباتها وأمانيها وعواطفها، وفي لسان حالها الناطق بأخفى ما ~~يجنه ضميرها وأدق ما يكمن في خبايا سريرتها؟ ألم يكن في إفهامه الإنكليز ms039 هذه الحقيقة ~~وتقريرها في أذهانهم ما رفع من مقام الأمة المصرية في عيونهم بعدما أسقط منه ظهورها في أنكر ~~مظاهر التفرقة والانقسام؟ ألم يكن في مجيد عمله هذا ما أعاد إلى قلوب الإنكليز تلك الهيبة ~~والخشية التي كانت أوجدتها ثمة الأمة المصرية بفضل ما أظهرت في بدء حركتها من روح التضامن ~~والاتحاد والتضافر؟ أو لم يشرف عدلي بموقفه العظيم ومأثرته الكبرى أمته العزيزة، ويعلي ~~قدرها، ويرفع رأسها بين سائر شعوب العالم؟ ألم يقر عينها ويشرح صدرها؟ ألم يبعث فيها ~~نشوة العزة وحميا الزهو ويرنح أعطافها بهزة التيه والخيلاء؟ ألم يزودها في تلك الساعة ~~العصيبة والأزمة الكاربة والمحنة النكراء - في أظلم أدوار القضية وأوعر مراحلها حين خبت كواكب ~~الأمل، ودجت غياهب التشاؤم - في تلك الآونة الصعبة التي بدأنا بذكرها هذا الكتاب، وسميناها ~~عقدة العقد، وعقبة العقبات - نقول في تلك الكربة الكاربة والشدة الحازبة - ألم يزود عدلي ~~باشا أمته من أسباب التأييد والتشجيع - مما نفثه فيها من روح الحمية والنخوة والعزة والإباء - ~~بأجمل السلوى وأحسن العزاء عما رمتها به الأقدار من كوارث الظلم والاستبداد، وبأقوى الوسائل ~~لاستنهاض همتها واستثارة عزمتها لاستئناف السعي في سبيل الجهاد ومواصلة السير إلى غاية المأمول ~~والمراد؟ # وكذلك في سبيل الحق والحرية نفر عدلي يكن تلك النفرة الشماء، وصاح تلك الصيحة التي صدم ~~بهولها مسامع بريطانيا صدمة أيقظتها ثالث مرة من غفلتها، وفتحت عينها إلى تلك الحقيقة الكبرى ~~وهي أن مصر - بالرغم مما أصابها مؤقتا من تخاذل أبنائها وتنابذهم - لا تزال مصرة على نيل ~~حقوقها المسلوبة، مصممة جادة، معتزمة غير وانية ولا فاترة، وأنها كغيرها من الشعوب الغربية ~~مندفعة بحكم السنن الكونية والنظم الطبيعية في سبيل النهوض والتقدم لأخذ المكان المقدر ~~لها أزليا في مراقي الحياة؟ # كذلك في سبيل الحق والحرية صاح عدلي يكن صيحته التي استرعى بها مسامع أمته، وأيقظها من غمرة ~~التشاحن والتطاحن إلى تلك الحقيقة الكبرى، وهي أن كل نزاع بين أبناء الأمة هو غرم عليها، مغنم ~~للخصم الذي يراه خير فرصة لإضعافها ونهك قواها ms040 بتوسيع الخرق بينها، وهدم كيان وحدتها، وتمزيق ~~صفوفها، ورد سهامها الموجهة إلى شخصه في نحرها هي، وتحويل مجهوداتها المبذولة ضده في مصلحتها ~~ضد نفسها بالضرر الجسيم عليها. أجل، لقد نبه عدلي بصيحته الشديدة أمته العزيزة إلى كل هذا ~~وأكثر، فجمع بذلك كلمتها وألف شملها، ورأب صدعها، وشد أزرها، وراش لنهضتها جناحا من همته ~~الحثيثة بعدما هاض النزاع الحزبي جناحها، وحفزها بريح عزمته الشديدة بعدما أركد الشقاق الداخلي ~~رياحها، وآنسها بقوة روحه العظيمة في وحشة تلك الترهات السياسية الختالة بسراب الغرور ~~والخديعة، وعزاها عن خيبة آمالها في وفاء بريطانيا وحسن نيتها. # كل هذا صنعه لأمته عدلي يكن، ذلك البطل القوي الذي لن يجد التاريخ بدا من أن يسجل له هذا ~~الفضل على بلاده، ولا من وضعه في مصاف الأبطال منقذي شعوبهم ومحرري أوطانهم أمثال شمشون، إلا ~~أنهم تغلبوا على دليلة «الختل والخديعة» فلم تستطع قهرهم وإذلالهم. # كل هذا صنعه عدلي لأمته، ولا عجب فإنه عظيم، وبقوة الرجل العظيم وحوله تدعم أرض الله ~~وتوطد أركانها، وبهمة الرجل العظيم ونجدته يثل عرش الظلم ويشاد صرح العدالة، وينجاب غيهب ~~الباطل، ويسطع نور الحق، وبمكارم خيمه ومحامد شيمه ترق حاشية الزمان، ويخضر عوده ويورق، ويخضل ~~روضه بندى الخير ويترقرق، ويشرق صحوه بسنا الصفاء ويتألق. حياك الله عدلي يكن! لقد طاب في كنفك ~~العيش واحلولى، وافتر عنك مبسم الدهر وتلالا، وقد حسنت بك الدنيا وملحت وتأرجت بعبير ذكرك ~~ونفحت، وقد شربنا بك ماء الحياة كوثرا، ونشقنا نسيمها عنبرا، وانتجعنا غيثها ثجاجا، ~~وتوسدنا جنابها أنيق الروض مبهاجا. فجزاك الله أحسن الجزاء عن أربعة عشر مليونا من عباده ~~رفعت بالعز هامهم، وثبت في مدحضة المعترك العنيف أقدامهم، وطهرت صحيفة أعراضهم من كل شائبة ~~ووصمة، ونقيت أديم أحسابهم من كل ريبة وتهمة، وبعد، فإن مأثرتك هذه الجلى التي حاولنا عبثا ~~توفيتها حقها من الحمد والشكر ليست لعمرك أخرى مآثرك، ولن تكون بحال ما خاتمة مساعيك ومفاخرك. ~~يأبى لك ذلك فرط حبك لبلادك، وعطفك وحنانك على أبنائها الذين هم أبناؤك ms041 البررة، وصدق وطنيتك ~~العميقة، وحميتك العريقة، وشدة إخلاصك لوطنك وتفانيك في خدمته والتذاذك بتضحية الأعز والأنفس ~~في سبيله، وارتياحك إلى ركوب الصعاب، واقتحام العقاب، واعتساف الأوعار، ومغامسة الأهوال ~~والأخطار من أجل الدفاع عنه، وصيانة حوزته وحماية بيضته. نقول: لم تنته بعد مساعيك في صالح ~~البلاد، ولم تترك المسرح لغير رجعة، معاذ الله أن يكون ذلك، ومعاذ همتك البعيدة وشيمتك ~~المجيدة، وحاشا لعزتك الشماء، وحميتك الذكية الروعاء أن ترى على سكونك هذا إلا خفاق الجوانح ~~على وطنك راجف الأحشاء. فما كانت روحك الكبيرة السامية، ونفسك الجياشة المتوقدة لتسكن في هذه ~~الآونة إلا تأهبا للحركة، وتحفزا للوثوب، وانكماشا للكرة إلى الميدان متى أهابت بك النوب ~~والخطوب. بل أراك في عزلتك الراهنة لا تزال ينبوع أمل وقوة لمواطنيك، تنفث فيهم روح اليقين ~~والثقة والرجاء كأنك زورق النجاة، لا يبرح باعثا يرد الطمأنينة في ركب السفينة مهما طغى الموج ~~من حولهم واصطخبت الأنواء. # هذه كلمة حق، ونفثة صدق أرفعها إليك يا صاحب الدولة في عزلتك السياسية، أعبر بها عما يضمره ~~لك ويعلنه من آيات الحب والولاء أهل وطنك أجمعين الذين لم يبق فيهم - بعد موقفك المشهور ومقام ~~دفاعك المأثور في قضيتهم المقدسة - غامط لحقك العظيم، منكر لفضلك العميم، إلا جاحد عريق في ~~الجحود، يحمل مكان قلبه أصم جلمود، سقيم الطبع، مريض الذوق، ينكر من علة ضوء الصباح، ومن آفة ~~حلاوة العذب القراح، وما أحسب أن مثل هذا المخلوق يوجد بين مجموع الشعب حماه الله من أمثاله، ~~وصان أديمه النقي من وصمة خلاله، وما أراني بعد يا صاحب الدولة قادرا على الوفاء لك بواجب ~~الشكر، وليس يفي لك بهذا إلا صلوات المليك في السور. # نرجع إلى ما كنا فيه من أمر انقسام الأمة في الرأي والمذهب إلى قسمين إزاء تصريح إنكلترا ~~العظيم الشأن بإلغاء الحماية، والاعتراف لمصر باستقلالها التام، وأن تكون ذات سيادة في الداخل ~~وفي الخارج، وذات برلمان ووزارة مسئولة أمام البرلمان، وحصر الخلاف بين المملكتين في النقط ~~الأربع المعروفة، وإعطاء الحق لمصر في ms042 بدئها مفاوضات مستقبلة تدخل فيها مع إنكلترا - مزودة ~~بسلاح الاستقلال، مطلقة من قيد الحماية - لكي تسوي مع بريطانيا في تلك المفاوضات المقبلة قضية ~~بلادها التسوية التامة، وكل هذه المغانم والأرباح والمزايا نالتها مصر دون أن تدفع فيها ثمنا ~~من تقيد أو تعهد أيا كان. # نقول: إزاء هذا الحادث الجليل انقسمت الأمة من حيث الرأي والمذهب إلى فريقين؛ فريق التيمن ~~والتفاؤل، وفريق التطير والتشاؤم، وقد ذكرنا أن هذا الأخير قد بنى تشاؤمه على ما يزعمه من سوء ~~عقيدته في بريطانيا وجرأتها على خفر الذمم ونقض العهود وإخلاف العهود، وقد حاولنا في الصفحات ~~السابقة أن نثبت لهذا الفريق أن إنكلترا اليوم هي غير إنكلترا الأمس، وأن تعدد الثورات ~~والاضطرابات أثناء السنوات الأخيرة في ولاياتها ومستعمراتها قد أثبت لها بأنصع البراهين ~~والأدلة؛ أن الأمم والشعوب ليست أشباحا ولا تماثيل تتصرف فيها كيفما شاءت وشاء لها روح ~~الاستبداد والمطامع الاستعمارية، ولكنها نفوس وأرواح كأخواتها ساكنات البلدان الغربية والممالك ~~الأوروبية مستمدة مثلها من روح الله وينبوع القوة الأزلية، وأنها بذور الله قد غرسها في أرضه ~~منطوية على جوهر الحياة وعناصر النمو والتفرع والسمو في جو الله إلى حيث تنسم في الفضاء الرحب ~~أنفاس الله - أعني نسمات الحرية والاستقلال - وأنها كسائر البذور والأغراس لا بد أن تزكو وتكبر ~~وتبلغ غاية نضجها، وتسمو إلى درجة الارتفاع المقدرة لها أزليا بسنة الطبيعة السارية وحكمها ~~النافذ، وبحكم ما انطوت عليه من عوامل الإنبات والنمو والارتفاع، وعلى حسب نصيبها من تلك ~~العوامل. أجل، لا بد لها - باعتبارها بذورا غرست في أرض الله - أن تنمو وتسمو، أو تذبل وتعفن ~~لتستأصل أو تنشر من أجداثها وتعود إلى حياة ثانية وسيرة جديدة - على حسب ما يكمن فيها من ~~عناصر القوة أو الضعف، ومن عوامل الرقي أو الانحطاط - هذا أو ذاك لا بد أن تفعله تلك البذور ~~والأغراس (أو تلك الأمم والشعوب) بحكم النواميس الزمنية، والقوانين الكونية سواء أرادت ~~بريطانيا أو لم ترد، وسواء سرها ذلك أو ساءها. هذه إرادة الطبيعة التي تأبى إلا ms043 تنفيذ ~~إرادتها أحبت بريطانيا أو كرهت، ورضيت بريطانيا أو رفضت، كأنما بريطانيا - بأساطيلها ومدافعها ~~وورشها ومعاملها وولاياتها ومستعمراتها - شيء تافه حقير في نظر الطبيعة، أو كأنها ليست موجودة، ~~ولم توجد ولم تكن. # حاولنا في الصفحات السابقة أن نثبت لفريق التطير والتشاؤم - المعدوم الثقة في بريطانيا، ~~المملوء رعبا ووجلا من ألاعيبها وخدعها - أن بريطانيا قد آمنت بحقيقة تطور الأمم الشرقية، ~~وصدق نيتها على المضاء في سبيل الجهاد لإحراز حقوقها المسلوبة مهما كلفها ذلك. حاولنا أن نثبت ~~لهذا الفريق أن الحرب الكبرى قد خلقت في العالم جوا اجتماعيا جديدا، مملوءا بعوامل جديدة ~~كان من شأنها أن أبرزت في سطور من النور والنار تلك المبادئ التي حسبها العالم جديدة - وإنها ~~لقديمة قدم الدهر والطبيعة ذاتها - والتي كان قد حجب سطورها - كثيرا أو قليلا - ما كان قد ~~ركبها من غبار الفتور والتواني وحب الدعة والراحة والتراخي، أعني تلك المبادئ التي راجت وسادت ~~بعد الهدنة كالقول بتحرير الشعوب وتفويض الأمم في حكم ذاتها وتقرير مصيرها. # حاولنا أن نثبت لهذا الفريق أن الحرب الكبرى خلقت هذا الجو الجديد المملوء بهذه المبادئ ~~الجديدة القديمة، وأن هذا الجو وهذه المبادئ قد نبهت من همم الأمم والشعوب المظلومة، وشحذت من ~~عزماتها، واستحثت ما يكمن فيها من حركة التطور الطبيعي والنمو الغريزي، فكان ما كان مما شاهده ~~العالم، وأربك بريطانيا وأزعج خاطرها من تلك الثورات والاضطرابات في ولاياتها ومستعمراتها ~~وتوابعها المختلفة. # حاولنا أن نثبت لهذا الفريق أنا - كبعض تلك الشعوب التي هبت في وجه بريطانيا تطالبها ~~برد حقوقها المسلوبة - قد صدمنا بريطانيا ثلاث صدمات عنيفة: «حركة عام 1919»، و«مقاطعة لجنة ~~ملنر»، و«قطع الوفد الرسمي للمفاوضات»، أيقظنا بها بريطانيا من غفلتها أو تغافلها، وزعزعنا بها ~~أساس طمأنينتها وهدوئها، وأرجفنا بها قلبها، وبدلناها بالأمن حذرا، وبالاستهانة استعظاما، ~~وبالوقار خفة، وبالاطمئنان وجلا. # وبذلك استطعنا أن نثبت لهذا الفريق أن إنكلترا اليوم ليست إنكلترا الأمس، وأنه باعتبارها ~~أمة تفهم وتعقل، وتعرف الخير من الشر والتمر من الجمر، وتشارك سائر خلق الله - حتى الأطفال ms044 ~~والحيوانات - في الغريزة المشترك فيها كل الخلائق، والتي عليها مدار الحياة ونظام الكون، والتي ~~لولاها ما حملت قدم جسما ولا احتوى جسم روحا - أعني غريزة النفور من الأذى والهروب منه إلى ~~الخير - نقول إنه باعتبار بريطانيا هكذا، وبالنظر إليها في هذه الصورة الطبيعية الحقيقية - ~~بالعين المجردة عن الأهواء، المتتبعة مهابط الحق ومواقع آثاره أين كان وكيفما كان - لا يسعنا ~~إلا أن نراها قد غيرت من سياستها وبدلت من خطتها، وأنها قد وقفت اليوم لنا موقفا خلاف موقفها ~~بالأمس (لا يمكن أن يكون أسوأ من الموقف السالف، بل أحسن بلا نزاع وأفضل). ولما كنا نحن ~~المصريين الذين استطعنا بقوتنا وحكمتنا أن نغير موقف بريطانيا معنا، ونحوله عن حالة إلى أحسن ~~منها - ولو قليلا - فليس يستحيل علينا ولا يتعذر ولا يبعد - بفضل اتحادنا وتضافرنا على الجهاد ~~المستمر الدائب - أن نزحزحها شيئا فشيئا إلى مواقف أخرى أحسن لنا فأحسن؛ حتى نقفها أخيرا ~~عند حدها، ونقيمها في مشعب الحق، ومقطع السداد والصواب، ومفصل الإنصاف والعدالة، وحينئذ نبلغ ~~المراد وننال الغاية. # على أننا لو سلمنا جدلا بوجوب إساءة النية ببريطانيا، فأي ضرر علينا في قبول «إعلان إلغاء ~~الحماية والاعتراف بالاستقلال التام»؟ في قبول منحة الله لنا، بل منحة كدنا واجتهادنا، وثمرة ~~ما بذرناه في مزرعة الجهاد من بذور هي عرق جباهنا، ودفع دمائنا وأفلاذ أكبادنا. أي ضرر علينا ~~في قبول هذه الهبة الإلهية والانتفاع بها جهد طاقتنا، وبقدر ما فيها من خير وبركة؟ أي ضرر ~~علينا في اتخاذها عمادا لنا ودرعا وسلاحا نضيفه إلى ما لدينا من الأسلحة؛ ليكون ذلك أقوى ~~لنا على مناهضة الخصم ومغالبته؟ # أليس الأجدر بنا والأضمن لخيرنا وفلاحنا أن ننظر إلى هذا الاستقلال في أول أدواره كباكورة ~~أعمالنا المجيدة وبادرة مجهوداتنا الشديدة، وأنه مولود نهضتنا العظيمة الذي ما برح يتكون في ~~أحشائها أزمان الحمل العسيرة، وأنه نتاج وطنيتنا المقدسة التي جعلت تتمخض عنه تمخض البحر عن ~~دره ومرجانه، والكنز عن تبره وعقيانه حتى إذا ألقى به الحظ في حجورنا ذخرا نفيسا ms045 ، ~~وثمرة مباركة كان من أوجب الواجب علينا أن نبتهل لله شكرا، ونرحب به ونهلل تحية لطلعته، ~~واستبشارا بغرته قائلين مع الشاعر: # يمن الله طلعة المولود # وحبا أهله بطول السعود # ما لنا لا نطرب ونفرح بهذا المولود الجديد؟! ما لنا لا نحمد الله عليه ونحوطه بالنفوس ~~والنفائس، ثم نعمل على تربيته وإنمائه، وترقيته وإعلائه حتى يبلغ أشده، ويستكمل قوته ~~وأيده؟! # هذا الاستقلال الوليد إنما هو جذوة مقدسة اقتدحتها يد الشعب بزناد الكد والجهاد، واستثارتها ~~معاول الكفاح والجلاد من صخرة الجبروت والاستبداد. فما لنا لا نحوط هذه الجذوة المقدسة؟ وما ~~لنا لا نشبها ونذكيها بأنفاس هممنا الصادقة، ورياح عزماتنا الثاقبة حتى يتلهب سناها، ويسطع ~~شعاعها فيخرج البلاد وأهلها من ظلمة الرق إلى ضياء الحرية؟! # إن استقلالنا في هذا الدور الأول ليس سوى هلال الحرية في أولى منازله، فما لنا لا ننتظر به ~~النمو والزيادة؟! وما لنا لا نرقب له الكمال والتمام؟! وما لنا لا نقول مع الشاعر: # مثل الهلال بدا فلم يبرح به # صوغ الليالي فيه حتى أقمرا # ومع الآخر: # إن الهلال إذا رأيت نموه # أيقنت أن سيكون بدرا كاملا # وهبونا لم ندرك الغاية، أفلم نضع أقدامنا على فاتحة السبيل المؤدية بالمثابرة والمصابرة ~~إلى الغاية؟ ألم نملك اليوم فوهة المسلك الواضح المستضيء بعد طول تخبط في الأوعار والدياجي؟ ~~ألم يعثر الغريق بين طفوه في غمرة الكرب ورسوبه على لوح النجاة - ولو ضعيفا - وعلى عود ~~السلامة - ولو ضئيلا؟ أو لم تخرج السفينة من منطقة الخوف والخطر وإن لم يزل بينها وبين ~~الساحل عباب وغمار يحتاج خوضها واقتحامها إلى احتمال المشاق والمتاعب؟ # يقول الفريق المتشائم إن بريطانيا تضمر لنا في سريرتها خفايا وتكن لنا دفائن وخبايا. فهب ~~ذلك من الجائز، فلماذا لا ننتفع بالثمرة الواقعة، ثم نحذر المضرة المتوقعة؟ وهل يجوز في عقل أن ~~ترفض الوردة من يد مهديها مخافة أن يهديك الشوكة يوما ما؟ أو ترد الكأس الروية إلى كف مديرها ~~وساقيها خشية أن يدير عليك فيما بعد حنظلا وعلقما؟ أليس قياسا على ms046 هذا يحق لنا أن نرفض ~~سواكب الغيث من السماء لما يحتمل من إرسالها للصواعق علينا يوما ما؟ وأن نغمض أبصارنا في وجه ~~الأفق رافضين أشعة الشمس الضاحكة لما يتوقع يوما ما من عبوسه لنا بظلمة الضباب والغيم؟ فماذا ~~تكون حال أبناء البشر إذا ساد في الأرض هذا المذهب، وتغلبت هذه الشريعة؟ وأي حياة يحيون؟ وكيف ~~تدار دواليب الأعمال؟ وكيف يتقدم ركب الإنسانية في سبل الرقي إلى أمد الكمال؟ # هبونا لم ندرك الغاية، فأي الحالتين أشرف وأمجد؟ وأي الموقفين أقوى وأمنع؟ وأي المركزين ~~أدنى من أمل وأكفل بنجاح؟ دخولنا المفاوضات الآتية أحرارا مستقلين، أم دخولنا إياها تحت نير ~~الحكم الأجنبي وفي قيود الحماية؟ أي الأمرين أفضل؟ ذهابنا للتفاوض مطلقين من هذه الأغلال ~~مزودين بسلاح الاستقلال (ولو مثلوما مفلولا)، أم ذهابنا عزلا من السلاح كشفا من الدروع ~~مكتوفين بأصفاد الحماية؟ ثم ماذا غرمنا بعد وماذا خسرنا؟ وماذا أضعنا بقبولنا ما نزلت عنه ~~إنكلترا وما صرحت به من هذا الإلماء وهذا الاعتراف؟ هل بذلنا في سبيل ذلك شيئا من حقوقنا أو ~~تخلينا عن شيء من مطالبنا؟ هل أعطينا بريطانيا في مقابل هذا العربون الجسيم ثمنا؟ هل سمحنا ~~لها أن تأخذ علينا أدنى تعهد أو تقيد؟ كلنا يعرف الجواب على ذلك؛ كلا. # وبعد؛ فهل نسيتم أو غاب عنكم أن ما تحقرونه اليوم - بل تنقمون عليه من ذلك التصريح المتضمن ~~إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال - قد كان يوما ما أقصى ما تطمح إليه أنظاركم يوم كان ~~الوفد المصري لا يتمنى على بريطانيا - عند بدء دخوله المفاوضات معها - أمنية أجل وأعظم من ~~مجرد إعطائها إياه وعدا بأن يكون إلغاء الحماية ضمن ما تعترف به لمصر أثناء المفاوضة؟ في ذلك ~~اليوم (وليس العهد ببعيد) لم يكن الوفد المصري - ولا أي مصري كائنا من كان - يحلم أن في ~~استطاعة الأقدار أن تستخلص من بريطانيا العظمى غنيمة «إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال» - ~~مبدئيا وقبل التفاوض - كعربون بلا ثمن، وكأداة تمهيد وتوطئة للمفاوضات المقبلة. # أنسيتم يوم كنا نشرئب بأعناقنا التي قطعها الظمأ ms047 ، ونتطاول بأبصارنا التي أرمدها السهاد - ~~إذ نحن في مضال الحيرة وقفار اليأس - إلى ذلك المنهل العذب (منهل الحرية) الذي كان ممنوعا منا ~~بأسوار الحماية المسلحة وأسلاكها الشائكة، وقد أذبل العطش أسلات ألسنتنا يوم كنا نتوق ونتلهف ~~على رشفة من زلال ذاك المنهل الشبم؟ أم نسيتم ونحن في دياجير القنوط كيف كنا نتشوف إلى شعاع من ~~ذلك السراج المنير - سراج الحرية الذي كان يطمس سناه ضباب الحماية وأدجانها المتراكمة الكثيفة ~~- فها نحن أولاء نسير في وضح السراج المنير، وننقع الغليل بماء الحرية النمير. فما معنى هذا ~~التسخط والتذمر؟ وماذا تريدون بهذا التأفف والتضجر؟ وما هذا القال والقيل، والصراخ والعويل، ~~والتغرير بأبناء البلاد والتضليل؟ # فخبرونا - بعيشكم - ماذا كنتم فاعلين لو أن هذا التصريح العظيم «بإلغاء الحماية والاعتراف ~~بالاستقلال» جاءكم في ظروف أخرى، وعلى أيدي آخرين (يوم كنتم لا تحدثون به أنفسكم ولا في ~~الأحلام - يوم كنتم تعدون ما هو دونه بكثير منة عظمى ونعمة جلى - يوم كانت أقصى أمانيكم أن ~~يكون هذا الإلغاء وعدا موعودا لا ثمرة حاصلة) - ماذا كنتم فاعلين إذ ذاك؟ أهناك أدنى شك في ~~أنكم كنتم تملئون الأرض والسماء تكبيرا وتهليلا ونشيدا وترتيلا، وتحرقون البخور في المجامر ~~إقامة لشعائر التقديس للذين ساقوا إليكم المغنم العظيم، وتأدية لمناسك العبادة للآلهة الذين ~~غمروكم بالفيض العميم؟ أما كنتم تقيمون الصلوات في المحراب لأولئك الأرباب؟ أما كنتم تهزون ~~أعواد المنابر إعلانا لمفاخر أولئك الأكابر؟ أما كنتم تنحرون النحائر، وتدقون البشائر، ~~وتوقدون الشموع، وتزينون الربوع؟ أما كنتم تقطعون الحناجر، وتمزقون الرئات بالهتاف حتى تصبحون ~~خرسا، لا تطيقون الكلام إلا همسا ونبسا؟ أما كنتم تمثلون في عرصات القاهرة رواية البعث ~~والنشور؛ إذ تحشرون قبائل وشعوبا في صعيد واحد، متزاحمين متدافعين، متكدسين أكداسا مشتبكة ~~متلاحمة، جبلا هائلا من الإنسانية الهائجة المائجة، وصرحا ممردا من الجماجم ليس فيه أدنى ~~ثلمة ولا فرجة: # فلو حصبتكم بالسماء سحابة # لظل عليكم حصبها يتدحرج # ثم تخلعون كل عذار، وتندفعون في كل تيار مطلقي طوفان الغرائز الحيوانية من محابس التؤدة ~~والرزانة، مرسلي ms048 سيول النزعات الشهوانية من قيود الورع والرصانة، سامحين لعنصر التراب والحمأ ~~المسنون فيكم أن يتغلب على عنصر الروح الإلهي والنور السماوي، كأنكم كتلة جسيمة من الفوضى، ~~يظل من يبصر فرط اضطرابها وتشوشها واختلاطها لا يكاد يصدق أن في استطاعة القدرة التي خلقت نظام ~~العالم العجيب من عالم السديم المشوش أن ترد هذا البركان المتطاير الحمم والشظايا، وهذه ~~الزوبعة المستطيرة الشرر والصواعق، وهذا الزلزال البادي في أشنع صور التخريب الذهني والتدمير ~~الروحاني إلى سيرته الأولى من الحياة الهادئة المنظمة، وصورته المعهودة من مظاهر الإنسانية ~~المهذبة. # وبالاختصار، أما كنتم تجددون عهد ذلك اليوم المعروف 5 أبريل 1921، الذي يسجل على ترمومتر ~~الحياة الاجتماعية أعلى درجة لحيوانية الإنسان وأخفض درجة لروحانيته، ويقدم أصدق مثل تاريخي ~~على تأصل طباع آباء البشر - ساكني الكهوف وقانصي الوحش - في نفوس أبنائهم مهما قدم العهد ~~وتطاول الأمد؟ # أجل، لقد كنتم تفعلون ذلك وفوق ذلك لو أن غنيمة هذا التصريح - بإلغاء الحماية والاعتراف ~~بالاستقلال التام - جاءتكم في ظروف أخرى وعلى أيدي آخرين. فما بالكم اليوم لا تصنعون عشر ~~معشار ما كنتم صانعيه إذ ذاك؟ بل ما بالكم لا تكتفون بمجرد إظهار الارتياح والانشراح، بل بمجرد ~~السكينة والثبات، بل بلزوم سنة الصبر الجميل حتى تروا عواقب هذه البوادر، ونتائج هذه ~~البشائر. فإن لم يكن هذا ولا ذاك فأمامكم مجال المعارضة الشريفة في صفاء جو الهدوء والحلم ~~اللذين تقتضيهما سنن الجدال وقوانين المناقشة، رابئين بنفوسكم عن مواقف التغرير بالشعب ~~والتضليل، وعن خبث مواطن الإرجاف والتهويل، وعن سفال مساف التشنيع بالوزارة الدستورية الساعية ~~إلى خير الأمة، الممثلة لأمانيها، الباذلة أقصى الجهد في تنفيذ رغباتها، وعن خسة مهابط ~~الانتقاص منها والنيل من كرامتها، وتوجيه كاذب التهم نحوها، وترويج سوء الظن بها مما يفسد ~~أذهان الشعب - الذي تدعون أنكم قادته وأبطاله الذائدون عن حياضه - ويسمم عقيدته، ويضل رأيه، ~~ويطمس على نور بصيرته. ما بالكم تحاولون - بإخماد جذوات الأمل في النفوس وإبدالها ظلمة اليأس - ~~تثبيط الهمم وفل العزائم، وإقعاد الأمة عن مواصلة السعي في سبيل الجهاد، أو ms049 تحويل ذلك السعي في ~~شر السبل وأشدها وبالا - أعني سبيل المشاحنات الحزبية، والمطاحنات الفرقية، وتقاطع الأرحام ~~والصلات، وتدابر الخلان والثقات - ذلك السبيل الذي طالما أغريتم الناس بسلوكه فلم تجدوه يؤدي ~~بقضية البلاد إلا إلى شر غايات الفشل، وأحرج مضايق الكرب، وأوخم مراتع الخيبة كما قد شاهدتم أن ~~نذير الخطر كلما كان يصيح بالشعب محذرا الاسترسال في ذلك السبيل - سبيل التنابذ الممقوت - ~~والإمعان في شعابه، داعيا إلى الرجعة لسبيل التضامن والاتحاد فيطيعه الشعب جامعا كلمته، ~~حاشدا صفوفه، أدبر الشر والطلاح، وأقبل الخير والفلاح، وأبرمت روح الاتحاد من أسباب القضية ما ~~كانت آفة التفرقة قد نكثت ونقضت، ووثقت عزة التضافر من أركانها ما كانت ذلة التخاذل قد هدمت ~~وقوضت، فأشرق نجمها بعد أفول، وأورق عودها بعد ذبول. نقول: لقد جربتم هذا وذاك، ولقيتم من ~~الخطتين النعمة والمصاب، وذقتم من الكأسين الشهد والصاب، فهل انتفعتم بتجارب الزمن، وحنكتكم ~~تقلبات الدهر بين نعم ومحن؟ وهل فقهتكم الصروف، وفطنتكم تلونات الظروف؟ وهل سبكتكم نيران ~~الكوارث في بوتقة التمحيص والتهذيب، وقومتكم أيدي الحوادث بثقاف الإصلاح والتأديب؟ أم وجدتكم ~~هذه القوى والعوامل بمنعزل عن ندائها وبمنقطع عن صوت دعائها، فكانت إنما تحاول في هدايتكم ~~تحريك الجبال، وتسكين الزلزال، وضبط هوجاء الرياح، وإسكات العارض السحاح، وكأن موقع وحيها ~~وتعاليمها من قلوبكم موقع الرقم على صفحة الماء، والنقش في أديم الهواء، وكذلك لم تجد هذه ~~المؤدبات الإلهية والمهذبات الطبيعية من بينكم إلا كل نافر شرود؟ # جامع في العنان لا يسمع الزج # ر ولا يرعوي إلى الرواض # فلأي قوة في الكون يرضخ من أبى الرضوخ لأستاذ التجربة؟ ولأي إرشاد ينصت من لم يصغ إلى وحي ~~العواقب؟ وأي درس يحفظ من أهمل درس الأسباب والنتائج؟ ولأي صوت يأذن من أغلق سمعه دون صوت ~~الطبيعة؟ وبأي مصباح يسترشد من أغمض طرفه عن سراج الحق؟ وبأي شيء في هذا الوجود يصدق ويؤمن من ~~خادع نفسه وغالط ذهنه في الواقع المحسوس والحقائق الملموسة؟ # وأي إنكار للحاصل والواقع أشد من إنكاركم لتلك الحقيقة الكبرى التي ms050 أصبح يبصرها الضرير، ~~ويسمع وقع آثارها الأصم، ويكاد يتحرك لها رفات الأموات في قبورها، تلك الحقيقة التي بتنا ~~نتقلب في مضاجع راحتها وبين أعطاف نعمائها، ونجني باكورة ثمارها يانعة جنية؛ من تحكم في ~~أمورنا، وتصرف في إدارة شئوننا، وقبض على أزمة السلطة في حكومة بلادنا، وتأسيس برلمان كأرقى ~~برلمانات العالم دستورية وأحسنها نظاما، ووزارة مسئولة أمام ذلك البرلمان قد قام رئيسها ~~الجليل ثروت باشا يبرهن للناس على حسن نيتها، ويقدم لهم أمثلة صادقة من مبدأ مسئوليتها بما قد ~~جعل يلقيه على الملأ مرة بعد أخرى من خطبه الرائعة المملوءة بروح الديموقراطية، مما لم تعهده ~~البلاد قبل اليوم من أي وزارة قامت بين ربوعها أو رئيس تقلد زمام الحكم فيها، ثم بتنفيذ نصوص ~~هذه الخطب بالأعمال الجليلة والنتائج العملية. # أي إنكار للواقع الملموس أشد من إنكاركم إلغاء الحماية بعدما أعلنت ذلك بريطانيا، وصادق ~~عليه برلمانها، وكساه الصورة الشرعية والصيغة الرسمية، وبعدما أمنت عليه دول العالم، وهللت له ~~وصاحت، وتواردت به التهاني تطير بأجنحة البريد وتهفو على ساريات البرق - بل كادت تشترك في ~~إعلانه الطبيعة ذاتها، فتتهامس بنجواه الرياح، ويفضي ببشراه المساء للصباح - فتقولون بعد كل ~~هذا إنه ما حدث حادث ولا تغيرت حال، وإنه: # تخرص وأحاديث ملفقة # ليست بنبع إذ عدت ولا غرب # تقولون إن هي إلا أسماء سميتموها، ورنين ألفاظ زينتموها كلام في كلام، وأضغاث أحلام، ورماد ~~يذر في الأجفان، وتخدير أعصاب وأبدان. فبحقكم هل كنتم قائلين ذلك لو سيق إليكم هذا الربح ~~العظيم على أيدي آخرين؟ أم أنتم لا تعترفون بالفضل ومقداره إلا إذا انحدر إليكم من طريق مخصوص ~~محبب إليكم، ولا تتحدثون بالنعمة إلا إذا جاءتكم في غلاف معين مبصومة بماركة معينة لفابريقة ~~معينة؛ لا تعرفون غيرها، ولا تعترفون بسواها، ولا تؤمنون إلا بها، ولا تأخذون إلا مصنوعاتها. ~~ثم المقاطعة التامة والويل والعفاء على البضاعة بعينها إذا صدرت عن فابريقة أخرى تحمل ماركة ~~أخرى؟ فأنتم إنما تعنون بالواسطة لا بالنتيجة، وكل ما يهمكم هو الزي لا الكائن الحي ms051 المشتمل ~~به، والوعاء لا المتاع المنطوي تحته، ومن كان هذا شأنه - متعلقا بالأعراض دون الجواهر، ~~منصرفا عن مادة الحقائق إلى هباء المظاهر - كان يعيش في عالم من الخيالات والأحلام، وينقلب في ~~جو من الأكاذيب والأوهام، وإن تشأ فقل عنه - ولا حرج - إنه لا يحيى ولا يعيش، ولا يكون ولم ~~يكن. # ليت شعري، ماذا نقول للذين يستقبلون نعمة الله بالسخط والنقمة ويتلقون فضله العظيم ~~بالاستياء والأسف؟ ليت شعري، ماذا نقول للذين يلقون وجوه اليمن الضاحكة بوجوه مربدة عابسة، ~~وينفرون من عرائس النعم المزفوفة عليهم بأعطاف شامسة؟ أفلا نقول إن الطبائع البشرية قد انعكست ~~فيهم فدواعي السرور تشجوهم، وبشائر الصفو تشجيهم، وانبساط الأمل يورثهم انقباض اليأس، وأسباب ~~الطمأنينة تثير فيهم هواجس الوسواس. فأي فائدة ترجى من أمثال هؤلاء لصالح العالم عامة ~~ولمنفعة أوطانهم خاصة؟ أي فائدة ترجى منكم يا من هذا دأبهم وديدنهم سوى أنكم تعملون على ~~إماتة الأمل ونقض العزائم ونكث الهمم؟ تكدرون الصفو، وتعكرون الصحو، وتجعدون السلس، ~~وتخشنون الأملس، وتوعرون السهل، وتعقدون المنحل، وتثيرون على رونق الأماني المشرقة غبار ~~الضجر والتبرم، وتعقدون دون كواكب الرجاء غيوم التطير والتشاؤم، لا تنفكون تقيمون مناحة جدية ~~على مصائب وهمية، ثم تجعلون تشاؤمكم هذا دليلا قاطعا على صدق وطنيتكم، وتسمون إنكاركم ~~للواقع المحسوس، وإقامتكم العقبات في سبيل تقدم البلاد إلى غايتها المنشودة عنوانا على فرط ~~إخلاصكم، وشدة تفانيكم في خدمة القضية. # فخبروني بربكم أهو الإخلاص والتفاني الباعث الحقيقي الذي يدفعكم إلى إتيان ما تأتون من ~~المعارضة في الواضح المستنير والمكابرة في إنكار ما يراه الأكمه والبصير؟ وهل حقا تعتقدون في ~~صميم أفئدتكم أنكم أنتم وحدكم المخلصون، وأن فريق التيمن والاستبشار هم المنافقون؟ وهل حقا ~~في صدوركم وحدها يتأجج لهيب الوطنية، وعلى قلوبكم دون غيرها يتنزل وحي الوطنية؟ وهل الوطنية لم ~~تضرب في غير ضمائركم قبابها، ولم تتخذ في سوى جوانحكم منسكها ومحرابها، ولم تقم خلافكم مداره ~~يدافعون عن قضيتها، ولم تجند غيركم عسكرا يذودون عن جوزتها؟ وهل هي لم تتعشق سواكم ولم يهم ~~قلبها ms052 إلا بكم؟ وهل كان من عداكم خونة غدرة وفجرة كفرة؟ # وهل أنساكم حب الوطنية أغراضكم الذاتية ومآربكم الشخصية، وأذهلكم عن طلب الجاه والمنصب ~~والرياسة، وألهاكم عن الولوع بمظاهر الأبهة والفخامة والزعامة؟ وهل صرفكم الشغف بالوطنية عن ~~الشغف بهتاف الناس لكم في كل شبر من الأرض والمناداة بإحيائكم وبتخليد ذواتكم السامية العلية ~~في هذه الدنيا الفانية الدنية، وبإسقاط أضدادكم وبموتهم وتكفينهم ودفنهم؟ # وإذا كان ذلك كذلك؛ فهل من حق الوطنية عليكم أن تخذلوها في أدق ساعاتها، وأشد أزماتها ~~بمحاولتكم صدع الشمل وهدم البناء، وتمزيق الوحدة، وتفريق الكلمة بطمس معالم الحق الأبلج، ~~وترويج الباطل اللجلج، وإقعاد الهمم والعزائم عن مواصلة السعي إلى الغاية المقصودة، وصرف الأمة ~~عن الأخذ بالعروة الوثقى، وانتهاج الخطة المثلى، والانتفاع بما ساقه إليها الحظ من الأرباح ~~والمغانم، واستثمار ما تنازل عنه الخصم لمصلحتها من الفوائد والمزايا، وعن مضاعفة حولها وقوتها ~~باستخدام ذلك السلاح القوي الذي استفادته أخيرا بفضل مساعي الوزير الكبير ثروت باشا - سلاح ~~الاستقلال الشرعي التام - الذي أصبحنا اليوم نجتني باكورة ثماره؟ أمن حق الوطنية عليكم أن ~~تصنعوا هذه الهنات، وما هي إلا سهام تصمون بها كبد القضية المقدسة، ومدى تمزقون بها أديمها، ~~ومعاول تهدمون بها كيانها؟ أم هل نسيتم - وليس العهد ببعيد - يوم خذلتموها وهي ملقاة في قسطاس ~~المفاوضات الرسمية؛ إذ كانت تبتهل إليكم أن تلتفوا حولها، وتشدوا أزرها؛ ليكون من جماعتكم ~~محتشدة، ومن كتلتكم مندمجة خير قوة ترجح بكفتها في الميزان فتشيل كفة الخصوم، وتنال هي الظفر ~~والنصر بهممكم وعلى أيديكم، فهل أعنتموها ونصرتموها، وأجبتم دعاءها، ولبيتم نداءها؟ # أفبعد هذا كله تدعون أنكم أنتم وحدكم الوطنيون، ومن سواكم غدرة منافقون، وأن الوطنية ~~قد خصت بكم، وحبست عليكم، ووقفت حيث أنتم فما لها عنكم متقدم ولا متأخر؟ # هذا صنف جديد من الوطنية، ونوع غريب - لا عهد للناس به قبل ظهوره منكم - قد سبقتم إليه ~~العالم المتمدين، وامتزتم به على أهل البدو والحضر، فلكم وحدكم فخر ابتداعه وامتياز اختراعه، ~~ولكم أن تتخذوا له «ماركة مسجلة» تحتكرون بها ms053 مزية الانتفاع بأرباحه واستثمار فوائده، وتمنعونه ~~بها من أن يكون لغيركم من مخلوقات الله حلا مباحا يستمتعون به كما يشاءون، ولبئس ما ~~يستمتعون! وبئس ما يستثمرون! فاحتكروه وحدكم واستأثروا به، وامنعوا منه خلق الله فلن تستطيعوا ~~أن تحسنوا إلى الناس أكثر من إحسانكم عليهم بمنع مثل هذه «الوطنية السامة» من السريان في ~~كيانهم الصحيح المعافى، ولا أرى كفارة لجريمة اختراع مثل هذا الصنف من الوطنية أفضل من قيام ~~مخترعه بتسجيله واحتكار امتيازه لنفسه دون غيره، وما يستدعيه ذلك الاحتكار من صيانة خلق الله ~~الآمنين وعباده الصالحين من شروره وآفاته. # الوطنية المحضة الصريحة المخلصة الصادقة لا توحي بأمثال هذه الفعال، ولا تغري بانتهاج تلك ~~المسالك، إنها أنبل مقصدا، وأكرم نزعة من أن تأمر بغرس بذور الأحقاد والضغائن، وتأريث نار ~~الشر والعداوة بين أبناء الوطن الواحد، وتفريق الكلمة، وتبديد الصفوف، وفرط العقد وفصم العرى. ~~هي قد تأمر بالمعارضة ولكن بالمعارضة الشريفة النزيهة، الواقعة في حدود الرفق واللين والأدب ~~والحكمة والعقل والمنطق، المبنية على أفضل أساس من حسن النية وشرف المبدأ، ونصرة العدل، ~~والتنقيب عن مواطن الصدق ومكامن الحق، ولزوم محجة الحجة الناهضة، والتمسك بأسباب البراهين ~~الدامغة، والتجرد عن شوائب الأغراض، والتنزه عن عوامل الأهواء، والتحلي بمناقب الكرم والعفة ~~والحياء، ودماثة الطبع، ورقة الجانب، ولين العريكة، وسجاحة الخلق - أعني كل ما ينحصر في ~~مدلول تلك اللفظة المفردة الإنكليزية التي اصطلح على تعريبها بلفظة «الرجل المهذب». ~~فالمعارضة؛ تلك القوة الهائلة التي تعد بحق من أقوى عوامل تنظيم الهيئات الاجتماعية ~~والسياسية، وأفعل الوسائل المؤدية إلى حسن التوازن في كيان الأمم والشعوب، يجب أن يكون ~~القائمون بها من أفاضل القوم؛ أعني المهذبين الذين حاولنا وصف محامدهم ومناقبهم، لا أن تكون ~~سلاحا في أيدي الطائشين الخرق المتهورين، ولا المتفاخرين بما آتاهم الله من قوة السواعد ~~وجهارة الأصوات وصواعق الصيحات، المنتشين من خمرة الزهو والتيه والإدلال بشدة البأس وقوة الفتك ~~ونخوة الفروسية والحماسة، الذين يهزون أقلامهم كما يهز بعض الرجال النبابيت والشوم - أو ~~بالاختصار - لا يصح أن يسلم ms054 سلاح المعارضة الشريف إلى «فتوات» السياسة. # لا يصح أن تستخدم المعارضة في تضليل السذج البسطاء من الجماهير، والتغرير بهم بترويج ~~الأباطيل والأكاذيب، ونشر إشاعات السوء والأراجيف، وتسميم الأذهان بأكاذيب التهم والظنون مما ~~لا يساعد مثقال ذرة على خدمة القضية، ولا يتقدم بها شبرا واحدا نحو النجاح، بل يعمل - بالعكس ~~- على تعريضنا للخطر الجسيم. لا يصح أن يتولى المعارضة من لا يهمهم منها إلا اتخاذها ذريعة ~~لخدمة الأغراض والأهواء، وهم يعرفون الحقائق، ولكنهم يتعامون عنها تعامي البصير في الليلة ~~القمراء، ولا أن يتولاها القصار النظر الذين لا يبصرون الحقيقة لما يحول دونها من سحب ~~الأكاذيب والأضاليل، ولا أن يتولاها القوم البطاشون بأسنة الأقلام، وحراب المطاعن وهجر الكلام، ~~الذين لا يلذهم ولا يقر عينهم إلا أن يروا ميدان المعارضة حومة وغى، وساحة قتال يضرجونها بدماء ~~المناظرين والمناقشين، تسيل على ظبات أقلامهم وأسلات يراعاتهم من جراح الكرامات الدامية ومن ~~كلوم الأعراض المثلومة. فهذا وحده الذي يسرهم ويشفيهم، وبدونه لا يرضون ولا يقنعون. أما ~~طريق المنطق والقياس والمعقول فليس مما يألفونه أو يميلون كثيرا إلى سلوكه، وليس للحجة عندهم ~~راجح وزن أو كبير قيمة، وبدل ما هو أساسي ضروري للمناقشة الحرة والمعارضة النزيهة - من صفاء جو ~~الهدوء والحلم والرزانة الضروري لوضوح نور الصدق وسطوع نجم الحقيقة - تراهم يكدرون الجو بما لا ~~يزالون يثيرون فيه من غبار الشغب والشر، ويعقدون في أرجائه من دخان الإساءات والاعتداءات بأليم ~~المقال ومضاضه، وهذه الخلال - لعمر الحق - ليست مما يحبب المناقشة إلى أربابها وذوي البراعة ~~فيها والافتنان في أساليبها، ولا مما يجعل ميدان المناظرة ذلك الندي المأنوس الذي يشتاقه ويهرع ~~إليه أولو الفطن والألباب، بل هذه الخلال السيئة أجدر أن تبغض المناظرة والمناقشة إلى من ~~يرجون لحل مشكلاتها وإثارة شبهاتها من ذوي الفضل والحجى؛ إذ يرونها إلى الصراع والملاكمة أقرب ~~منها إلى المحاجة، وبالجلاد والطعان أشكل منها بالمباحثة، ويرون مجالها أحق أن يسمى مأسدة ~~ومسبعة تجول فيه الضاريات بالبراثن، وتصول بالأنياب والمخالب فليس يجرأ على ولوج بابها، ودخول ~~غابها ms055 إلا من تحصن في الجنن الواقية، وتسربل الدروع الضافية، وليس يخفى ما يكون لإبعاد أهل ~~الفضل والنهى عن مجال المناقشة من الخطر الجسيم على سلامة الحقائق والمبادئ بمنع أشعة ~~القرائح الوقادة من النفاذ إليها، والإشراق عليها، وإبرازها للعيان في ضياء الحجج المنيرة ~~والبراهين الساطعة؛ وذلك من شر ما يبتلى به أمة ناهضة تقتحم أوعر سبيل إلى غايتها المأمولة من ~~الحرية والاستقلال في ظروف عصيبة وأزمات شديدة، وجو مغيم مظلم تظل فيه أحوج ما تكون إلى ~~الاستنارة بشهب الأفكار ومصابيح الفطن من عقول الصفوة المختارة من نخبة أبنائها المخلصين ~~النوابغ. # نحن لا نقصد بهذا الكلام إلى الطعن في وطنية مصري كائنا من كان؛ لأنا ننظر إلى الوطنية ~~نظرة أوسع وأعمق مما اعتاد أن يلحظها بها أولئك الذين يعدونها ضربا من الحرف وصنفا من ~~الصناعات والمهن يحترفونها، فيقال فلان وطني كما يقال فلان مهندس أو طبيب، أو أولئك الذين ~~يعدونها حلية وزينة يتملح بها المتبرج المتأنق فيقال فلان قد برع في الوطنية وحذقها كما يقال ~~قد تفوق فلان في البلياردو أو الرقص أو الناي، ولكنا نرى الوطنية شيئا أعرق من كل ذلك في كيان ~~الإنسان وتركيبه، وأشد امتزاجا بنفسه، وأرسخ جذورا في طينته، وأرسب أصولا، بل لا نعدو ~~الحقيقة إذا قلنا إنها هي بالفعل مادة حياته وعنصر كيانه، فهي ليست حرفة إلا إذا كان التنفس ~~ذاته حرفة، وليست حلية إلا إذا كان الشعور والوجدان ذاته حلية، ولا هي مما يفتخر به ويباهي ~~ويتيه به صاحبه عجبا وإدلالا إلا إذا صح أن يفتخر إنسان على آخر ويتيه ويزهى لغير ما سبب سوى ~~أنه حي يرزق، وموجود تحت الشمس يستطيع أن يتحرك ويهضم، والواقع أن الإنسان وطني بالطبع مثلما ~~هو مدني بالطبع وأناني بالطبع وخرافي بالطبع ... إلى غير ذلك من الغرائز والفطر المكون من ~~مجموعها ذلك المخلوق المدهش المسمى إنسانا. بل إني لأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إن الوطنية - ~~أعني فرط تشبث الإنسان وتعلقه بالأرض التي منها نشأ ونجم - ليست مقصورة على النوع ms056 البشري، بل ~~مشتركة مشاعة بينه وبين كافة ضروب الحيوان من النملة إلى الفيل، ومن الإسفنجة إلى النسر، كل ~~لا يقر ولا يطمئن إلا في وطنه وبيئته، بل إن النبات ذاته وطني إذا نقلته إلى غير وطنه وغرسته ~~في غير مألفه ذوى فذبل فمات. # أكثر من ذلك أن الوطنية لكونها غريزة وجبلة هي كسائر الغرائز تفعل فعلها وتجري شوطها ~~مستقلة عن العقل، لا نقول إن استقلالها عن العقل فرض لازم وشيء دائم فإنها قد تتفق معه أحيانا ~~وتسترشد بوحيه، ولكن ذلك شيء عرضي، وهو من محاسن الصدف، وحينذاك تكون وطنية راشدة مبصرة، ~~ولكن ذلك ليس من وظيفتها ولا من طبعها بصفتها غريزة كسائر الغرائز التي لا بد أن تنهج منهاجها ~~وتحدث حدثها بقانون نافذ أزلي غير خاضع لسلطان العقل ولكن لسلطانه هو. فلا عجب أن ترى الوطنية ~~مندفعة في مجراها في غير صحبة العقل، بل لقد تسلك الوطنية مسلكها في غير صحبة الشعور فيأتي ~~الرجل الفعلة الوطنية من حيث لا يشعر أنه صنع شيئا البتة، ولكن من حسن عناية الله وتوفيقه أن ~~يلهم الوطنية الانضمام إلى العقل والانضواء تحت لوائه؛ لأن العقل وحده هو المبصر الثاقب النظر ~~وسط ظلمات الكون، والدليل المهتدى بين مضاله ومجاهله، وكل شيء سار في صحبه العقل فقد ضمنت له ~~السلامة وقدر له النجاح، وكل ما لم يكن كذلك فقد تعرض للمتالف واستهدف للمهالك. # على أن العقل حينما يصحب الغريزة المسماة الوطنية لا مشاحة في أنه يكسر من حدتها، ويفل من ~~سورتها لما يتحتم عليه من مراقبتها وتدبيرها بالكبح من جماحها، وصدها في الأحايين الكثيرة ~~وقدعها وقمع طغيانها، وتوقيفها عند حد الأمان وفي دائرة السلامة فتصبح بلا شك - من حيث مبلغ ~~قوتها وشدتها - أضعف بكثير من الوطنية المستقلة عن العقل الراكبة رأسها الهائمة على وجهها، ~~وهنا يتهمها الناس بالفتور والتراخي؛ بل ربما غالوا فاتهموها بالمروق والخيانة، ومن ثم كانت ~~الوطنية المستبدة العمياء في نظر الجماهير أغلى قيمة وأعظم قدرا وأوجب للإجلال والتقديس من ~~الوطنية المتبصرة السارية في ms057 ضياء العقل، ومن ثم نشأت نظرية القائلين بأن الوطنية أعظم ما تكون ~~وأقوى وأشد إخلاصا وحرارة في الجماهير والمجاميع، وأنها تتناقص قوة وحمية ولهيبا كلما ازداد ~~نصيب صاحبها من العلم والفلسفة حتى أصبح الكثير من نوابغ العلماء والفلاسفة - وفي مقدمتهم ~~«جيتا» أعظم فحول الألمان - يتهمون في وطنيتهم، والحقيقة خلاف ذلك فإن الوطنية في كلا ~~الفريقين جوهر لا يقبل التجزئة والتقسيم، ولا النقص والزيادة، وإنما يختلف مظهرا في الفئتين ~~تبعا لشدة اندفاعه وطغيانه بلا رقيب ولا مدبر في الواحدة، أو انطلاقه في زمام العقل وعنان ~~الحكمة، ومسراه في ضياء الرأي والبصيرة في الثانية. # وبعد كل هذا الكلام أرجو أن أكون أقنعت من عساه يكون قد أساء فهم مرامي؛ فظن أني طعنت في ~~وطنية فرد ما من أفراد شعبنا الكريم بأني ما قصدت البتة إلى أدنى شيء من ذلك، بل الذي أقوله هو ~~عكس ذلك - كما حاولت إثباته بالبراهين الآنفة - من أن الوطنية تظهر في فئة المعارضين على أشد ~~ما بدت فيه الوطنية منذ خلق العالم من أسطع الصور وأعنف المظاهر، فإن كان فيها علة فإنما هي ~~الإفراط والطغيان لا الفتور والضعف، وإن كان بها آفة فهاتيك هي العنف والبطش لا اللين ~~والهوادة، فإن كنت آخذ عليها شيئا فذلك هو الزيادة لا النقصان. # وهنا أقول: إن الذين يذهبون إلى فصل الوطنية عن مظاهر التعقل من الأناة والتؤدة والرفق ~~والهوادة؛ بحجة أن هذه العوامل من شأنها أن تضعف من قوة الوطنية وتكسر من حدتها، فتعوق كثيرا ~~أو قليلا من فرط اندفاعها وشدة انصبابها إلى ما ترمي إليه من شريف غايتها قد فطنوا إلى شيء، ~~وغابت عنهم أشياء؛ لأنهم نظروا إلى الأمر من وجهة واحدة ولم يستوعبوا سائر جهاته، وكذلك النظر ~~الجزئي إلى عظام المسائل جدير أن يضل صاحبه، ويعمي عليه الشيء الكثير من الصواب. # لقد فات هذا الفريق أن الغرائز والعواطف مهما شرفت ونبلت، ومهما كرم غرضها وحسن ~~مقصدها، فإنها إذا لم تجعل تحت رقابة العقل (الذي هو وحده منبع النظام وأساس سلامة ms058 الكون) تصبح ~~عرضة للوقوع تحت تأثير آفة الآفات، ومصيبة المصائب، وأدوى أدواء المجتمع، وألد أعداء ~~الإنسانية، أعني داء «الأنانية»، وليس هذا محل الخوض في هذه المسألة الكبرى، وما أظن المجال ~~ينفسح أو يسمح باستقصاء البحث والدخول في الجزئيات والتفاصيل وضرب الأمثال، على أن القارئ إذا ~~ألقى هذا الكتاب برهة، وراض الذهن على فحص هذه النظرية جهد طاقته لم يبخل عليه بالجم العديد من ~~الشواهد والأمثلة المؤيدة لهذه القاعدة العامة - خذ مثلا بسيطا: عاطفة الحب التي هي أنزه ~~العواطف في أصلها وطبيعتها وأشدها تضحية وأبعدها من الأنانية بل أقتلها للأنانية إذا تسربت ~~إليها آفة الأنانية فقدت تلك المزايا الكريمة والمناقب الحميدة، فقدت روح التضحية والنزاهة ~~وروح التفاني في شخص المحبوب فأصبح صاحبها أكثر اهتماما بنفسه منه بمحبوبه، وأشد عشقا لذاته ~~السخيفة السمجة منه لذات معشوقه، وأشغف وأهيم بملاحات جماله ومحاسن دلاله منه بمفاتن الحبيب ~~فكل عنايته واكتراثه لنفسه، وكل عواطفه وشهواته تدور حول محور نفسه، ومن ثم تصبح نفسه «السخيفة ~~السمجة الممقوتة» هي الصنم الذي ينصبه، ويخر له ساجدا، ويريد معشوقته المسكينة على أن تسجد له ~~أيضا. ثم بدلا مما يكون في حالة عاطفة الحب النزيه الطاهر من تلك الفضيلة الأخلاقية ~~الاجتماعية الكبرى؛ أعني روح التضحية السامية القاضية بنسيان العاشق ذاته الضئيلة، واتجاه كل ~~ملكاته وقواه وجهوده نحو خدمة النوع البشري ممثلا في شخص حبيبه وتقديس المجتمع الإنساني ~~مصورا في هيكل معشوقه؛ ترى جميع قواه وملكاته قد انعكست نحو ذاته الممقوتة فيظل يحسب أن ~~نفسه هي الجوهر الوحيد في الوجود، وأن سائر الكائنات أعراض خسيسة، وأن كل ما في الكون من خلائق ~~لم توجد ولم تكن إلا لتسره وتلذه وتسعى في خدمته وتسبح بحمده. لا يحسبن القارئ أن في ~~كلامي هذا شيئا من المبالغة، فلقد رأيت بعيني رأسي كثيرا من هذا الصنف من العشاق، ولا أراني ~~مغاليا إذا قلت إن مثل هذا العاشق لا يعير محبوبته من الاهتمام عشر معشار ما يبذله في سبيل ~~انتقاء «دبوس» أو «بمباغ» أو «حمالة»، أو ms059 في سبيل المقارنة والمفاضلة عند اختياره لون ثيابه ~~بين «الكحلي» و«الكريم» و«الكاكي»، ورأيت أن مثل هذا العاشق ينتهي به الأمر إلى خسران محبوبه ~~وخسران الصحب والصديق والخلان، وكلما ازداد جمالا في عين نفسه ازداد قبحا في عيون الغير ~~وكبر مقتا عند الخلق والخالق. # نقول: لقد فات ذلك الفريق أن العواطف والغرائز مهما شرفت ونبلت فإنها عرضة للإصابة ~~بداء الأنانية ما لم تحصن برادع للعقل والرأي، ولما كانت الوطنية - كما بينا آنفا - عاطفة ~~وغريزة فهي بهذا الاعتبار والحكم عرضة لداء الأنانية - لا يقيها من شره سوى العقل الذي هو ~~الدواء القتال للأنانية ولغيرها من العواطف الخبيثة والشهوات الشريرة؛ لأن العقل هو القوة ~~المدبرة المسيطرة على الكون، هو أس النظام ووسيلة الصلاح وعامل الرقي، وهو الدواء المستأصل ~~لجراثيم الفساد والشر والفوضى، وهو سلاح الحق الذي لا يزال ينتصر به في كل مظهر من مظاهر ~~الحياة وفي كل ذرة من ذرات الوجود على جيوش الباطل، ولما كان الباطل والغي والشر والفساد ~~والفوضى لا تزال تتخذ من العواطف والشهوات أثوابا تلبسها وتظهر فيها، وأدوات تستعملها في ~~أغراضها، ومطايا تركبها إلى غاياتها المرذولة. فلسنا نخطئ إذا قلنا إن وظيفة العقل في هذا ~~الوجود هي محاربة الشهوات والعواطف. # لذلك نقول: إن الوطنية باعتبارها غريزة وعاطفة إذا نحيت عن مسقط أشعة العقل قام حولها من ~~ظلمات الأهواء شر بيئة تتكون فيها جراثيم الأنانية المنكرة، وتظهر بمظاهر شتى من التعصب ~~والتشيع والتحزب، وما يستدعيه ذلك من التباغض والتشاحن والتحاقد والتضاغن وحب الانتقام والثأر ~~ولذة التشفي والشماتة. # هذه الحال بالدقة هي التي تسود اليوم في فريق المعارضين المتشائمين، وطنية قوية شديدة لا شك ~~فيها، ولكنها وطنية مرتدية ثياب التعصب والتشيع، مدفوعة بعوامل التحاقد والتضاغن، ساطية بسيف ~~الانتقام والثأر - أعني وطنية مسلحة بكامل عدة الأنانية وأسلحتها، أو بعبارة أبين وأقرب إلى ~~الحقيقة: أنانية مسلحة بسلاح الوطنية. # الآن أحسب القارئ قد أدرك مغزى كلمتي (المتناقضة في ظاهرها المتناسقة في حقيقتها)، حيث أقول ~~للمعارضين إن الوطنية فيكم بالغة أقصى حدها ms060 عقب قولي لهم إن أعمالكم لا تتفق مع ~~الوطنية. # الوطنية - كغيرها من الغرائز والعواطف - لا تنهج المنهج القويم المؤدي إلى الغاية المقصودة ~~إلا إذا تسيطر عليها العقل؛ لأنه يعصمها بذلك من أن تنقاد في عنان الأنانية أو تجري وراء ~~الأغراض الشخصية؛ لأن العقل لا يولع إلا بالصدق، ولا يهيم إلا وراء الحقيقة، فهو يهيم أثر الحق ~~متعطشا إليه متلهفا عليه: # كالعين منهومة بالحسن تتبعه # والأنف يطلب أقصى منتهى الطيب # صبا به مستهاما. أقول كذلك يهيم صاحب العقل في طلب الحق معرضا نفسه لشفار ألسن ~~المعارضين تنهش عرضه، وتفري أديمه، ولكنه يمضي رغم ذلك كالسهم المرسل، والسيل الجارف: # أو كما انقض كوكب أو كما طا # رت من البرق شقة في غمام # والناس يعجبون له كيف لم تستثر هذه العوامل المهيجة عواطفه التي تخال كأنها الصخور الصم ~~أو الهضاب الشم، بل يكاد يخيل إليهم أن مثل هذا الإنسان ربما كان بلا عواطف، والواقع أنه ما ~~دام يهيم في أثر الحق فهو عديم العواطف إلا عاطفة الهيام بشخص الحقيقة، فأما عواطف الاستياء ~~والغيظ والتألم من المطاعن والمقاذف ومضيض الهجاء والقذع، وعواطف الأحقاد والأضغان والتعصب ~~والتشيع، فهذا ما ليس له محل في صدر ذلك الرجل الذي أفعم قلبه حب الحقيقة إفعاما لم يدع ~~مجالا لأية عاطفة أخرى. فإذا كانت العواطف والشهوات الأنانية هي مقياس إنسانية الرجل ومسبار ~~بشريته فإنه يصح لنا أن نخرج مثل هذا الرجل من عداد البشر، ونجرده من الإنسانية فنسميه ~~أي شيء إلا إنسانا، والواقع أنه أشبه ببعض الآلات والمكينات (كآلة الإحصاء مثلا التي تمر ~~خلال جملة عمليات حسابية بغاية الضبط والدقة - وبلا أدنى شعور أو تأثر بما يحيط بها من ~~المؤثرات الجوية والعوامل الكونية - إلى نتيجة مضبوطة لا تقبل تغييرا ولا تبديلا) منه بأبناء ~~البشر. # نقول: إن الوطنية في مثل هذا الرجل لا يخشى عليها من بوادر الأهواء والشهوات وآفات التحيز ~~والتعصب - أعني من مظاهر الأنانية - فوطنية هذا الإنسان خليقة أن تعد وطنية محضة صريحة ~~نزيهة نقية، منطوية على عناصر ms061 الخير وعوامل النجاح، مضمونا لها إدراك البغية وبلوغ ~~الغاية. # فهل وطنية إخواننا المعارضين هي من صنف تلك الوطنية المحايدة المجردة من المادة البشرية ~~والعناصر الإنسانية، أعني من العواطف والشهوات؟ هل وطنية المعارضين هي من قبيل تلك الآلة ~~الحسابية المركبة على مكينة العقل المجرد ودينامو الفكر المحض؟ هل وطنية المعارضين هي تلك ~~الآلة العقلية المتحركة الفعالة في صفاء الفكر البحت وأثير الرأي الخالص في جو صاف نقي ~~الأديم من كل شائبة للشخصيات والميول الذاتية؟ هل وطنية المعارضين كذلك أم هي أشبه الأشياء ~~«بالفانوس السحري» يجلو على ناظرك وسط الظلام معرضا مستمرا من الصور والأشباح يحاول مديره ~~أن يدهشك بصورة هذا البطل، وشكل هذا الهمام؟ أم هي (أعني وطنية المعارضين) أشبه شيء بداخل ~~المعبد أو الكنيسة كل جدرانها مزدان بالتصاوير والتهاويل والدمى والتماثيل، وأنت بين هذه ~~الأنصاب والأصنام لا يسمح لك أن تبدي رأيا أو تجهر بفكرة، وما كان لك أن تحاول قط ذلك، ولا ~~أن تظن أن لك فكرا أو عقلا، بل كل ما يجب عليك اعتقاده أنك لم تقم ولم توجد بين هذا الجمع ~~المحتشد من القديسين والشهداء والملائكة والعذارى إلا لتسبح وتحمد وتبتهل وتتضرع وتخر ~~ساجدا لهاتيك الآلهة على عروشها. # لو كانت وطنية المعارضين هي من صنف وطنية العقل الهادئة المحايدة المحضة المجردة من نزعات ~~العواطف، ونزعات الشهوات الذاتية، والميل إلى الشخصيات، والتشيع للأشخاص لما كانت - كما شاهدنا ~~مرارا وتكرارا - عرضة في كل آن ولحظة لأن تغتاظ وتغضب بتأثير الأهواء والغايات، وتثور ~~وتتهيج بعوامل الحب والبغض والحقد والضغينة مما صير اهتمامها بالهنات الشخصية أشد منه بالمسائل ~~السياسية، واكتراثها للذاتيات الخصوصية أعظم منه لأمهات المسائل العمومية، ولقد أثبت العلم ~~والفلسفة أنه إذا ضعف سلطان العقل على العواطف أصبح تأثر الإنسان بالمسائل الشخصية - مما ~~يمس شعوره الذاتي، وما يتصل مباشرة بشهواته وأغراضه - أشد ألف مرة من تأثره بالمسائل القومية ~~والشئون السياسية، ومن ثم ترى الرجل الذي لا بأس في وطنيته وإخلاصه لبلاده ربما أغضى عن الكلمة ~~يكون فيها مساس عظيم بحقوق ms062 وطنه، ولكنه لا يغضي على اللفظة يكون فيها أدنى مساس بشعوره الذاتي ~~وإحساسه الشخصي، وترى عين هذا الرجل ربما سمع الطعن في مذهب حزبه وشيعته فيحتمله هادئا ~~وادعا مبتسما، فإذا ما وجه إلى شخصه أقل مسبة ثار ثائره فأرغى وأزبد، ثم أبرق وأرعد، ~~وانطلق لسانه بالسب واللعن يصب على رأس شاتمه صواعق غضبه وحنقه، وربما سبقت يده إلى ذلك ~~المعتدي باللطمة أو اللكمة؛ بل بالخنجر أو المسدس. # اشتد اختلاف الناس في أي الأشياء أندر وأعز وجودا في هذا الكون العظيم؟ وأنا أقول وأؤكد أن ~~أعز الأشياء وأندرها في هذا الوجود هو العقل القوي المتغلب على سلطة العواطف، واعتقادي ويقيني ~~أن مقابل كل ألف فرد ممن تتغلب فيهم العاطفة على العقل في هذا العالم يوجد فرد واحد يغلب ~~العقل على العاطفة ويحكم الملكة المنطقية في نزعات الشعور ونزواته، وليس هذا مجال ~~الإطالة والإفاضة في ذلك المبحث العميق الذي عقدت له الفصول المسهبة في كتب الفلسفة وعلم ~~النفس، ولكنا نورد النظرية عارية عن الشروح والحواشي احتجاجا لقولنا ليس إلا. نقول: لا عجب ~~فيما نراه من ندرة العقل القوي إزاء تفشي العواطف في العالم، واستفاضة الإحساسات والشهوات في ~~كل ذرة منه فتلك حكمة الخالق، وسنة الطبيعة، والقاعدة المشيد عليها نظام هذه الحياة ~~الأرضية التي لا أظنها في جوهرها وعنصرها غاية في الرقي والسمو، ولا آية في التهذيب والنقاء ~~والطهر، والتي أنا أميل إلى موافقة «شوبنهور» في وصفها بأنها شر ما يمكن أن يكون من أصناف ~~الحياة، مني إلى مطابقة «ليبنز» في نعتها بأنها أحسن ما يمكن وجوده من العوالم والدنا، وسواء ~~كان الحق في جانب «شوبنهور» أو في جانب «ليبزيك» فلا مقال الأول ولا تصريح الثاني بمغير ~~مثقال ذرة من نظام الدنيا، ولا بمبدل من شيمة هذه الحياة الأرضية وخلقها، ولا بناف هذه ~~الحقيقة المرة الأليمة، وهي أن العقل ما زال ولن يزال - بحكم ناموس الحياة وتركيبها وفطرتها - ~~أندر الأشياء فيها، كما أن العواطف والشهوات ما زالت ولن تزال أكثر الأشياء كمية وأشدها ms063 تفشيا ~~وانتشارا، وأن هذا الناموس الأزلي (وليس لنا معشر البشر العجزة الضعاف أن نعارض فيه ونطاعن - ~~وماذا تجدي المطاعنة والمعارضة - بل كل ما علينا هو أن نتقبله على علاته ونستثمره جهد طاقتنا) ~~هو مصدر ما تنطوي عليه الدنيا من الظلم والطغيان والشرور والمصائب والشقاء والبؤس؛ بالدليل ~~الواضح البين وهو أن العواطف والشهوات هي بطبيعتها سفلية جهنمية، ومنها يتكون الجزء الدنس ~~القذر الخبيث من هيكل الحياة (وهو الجزء الأعظم)، كما أن العقل هو بطبيعته سماوي إلهي، ومنه ~~يتكون الجزء الطاهر النقي من هيكل الحياة (وهو الجزء الأصغر)، وهو توزيع قد رأته القدرة ~~الإلهية مناسبا لنظام هذه الحياة الأرضية التي لم يرد الله - سبحانه وتعالى - أن تكون ~~فردوسا أو ملكوتا أعلى أو مقام قديسين وأبرار، بل أرادها أن تكون (كما أنبأتنا الكتب ~~السماوية) دار توبة وندامة وتكفير عن جناية أبوينا الخاطئين في دار الخلد - أو بالاختصار ~~أرادها الله أن تكون سجنا أو بعبارة أخف وألطف، إصلاحية أو مستشفى، فأما الجنة دار المكافأة ~~والجزاء ومقام الأبرار والشهداء والقديسين - فما أظن أن الخالق سيبني نظامها على قاعدة هذا ~~التوزيع المحزن - ندرة العقل وغلبة العواطف المتسلطة بجيوش الأحقاد والضغائن - بدليل قوله - ~~سبحانه وتعالى - في وصف أهل الجنة: # ونزعنا ما في صدورهم من ~~غل ~~. # نقول كذلك مذهب القدرة الإلهية في خلقة هذا الوجود، بينما تراها كأبخل البخلاء في هبة العقل ~~كأنها تجود به من خرت إبرة إذا بها كأسخى الأسخياء في هبة الشهوات والعواطف تسح بها سحا ~~وتهطل هطلا؛ فهي كلما جادت على هذا الكوكب الأرضي بمثقال ذرة من العقل جادت مقابل ذلك بمليون ~~قنطار من العواطف - عطية مشتركة بين الإنسان وسائر ضروب الوحش والبهيم والحيوان من أعلى درجات ~~سلم الحياة إلى أدناها - على حين أن العقل القوي المسيطر على العواطف لا تهبه الطبيعة إلا ~~لأسمى طبقات الإنسان - أعني الإنسان المفكر - هذا المخلوق البديع السامي نادر جدا بالنسبة ~~إلى ما يملأ فضاء الله ويتشاحن فيه ويتطاحن ويتنافر ويتناحر ويتصايح ويتعاوى من مختلف ضروب ~~الوحش والحيوان، وفي ms064 مقدمتها (أو في مؤخرتها وهو الأصدق) ذلك ~~الوحش الساعي على قدمين المسمى إنسانا، أعني الإنسان الاعتيادي الخاضع لسلطان الشهوات ~~والعواطف الذي منه تتكون المجاميع والجماهير والعامة والسواد الأعظم من بني البشر. # وليس يخفى على ذي لب أن المسائل السياسية والاجتماعية حتى أبينها وأبسطها - هي وإن خيل ~~للبسطاء السذج أنها سهلة الفهم والإدراك قريبة المأخذ والاستيعاب لا يحتاج بحثها وفحصها ~~لكبير عقل أو ثاقب فطنة - لهي في الحقيقة والواقع صعبة عويصة وعرة المسلك لا يستطيع أن يحيط ~~بها ويستجلي غوامضها إلا أولو الفطن والألباب، وإنما هو الغرور والتبجح والدعوى التي توهم ~~السذج البسطاء من الجماهير والعامة أنهم قادرون على فحص وتمحيص هذه المسائل الصعبة، وأنهم ~~هم أيضا لهم الحق في مشاركة أولي الألباب في تناول تلك المسائل وإبداء الرأي عنها والبت ~~فيها، وإذا كان هذا هو موقف الإنسان العادي من المسائل السياسية والاجتماعية، وهذا هو مبلغ ضعف ~~عقله وقصور ذهنه عن فهم ماهيتها وإدراك دقائقها وغوامضها في حالته الطبيعية - أي في حالة هدوء ~~عواطفه وعدم اهتياج إحساساته وشهواته - فما بالك بمقدار عجز ذلك الذهن وقصوره إذا زدته ضعفا ~~باستثارتك عواطف الرجل وشهواته وتسليطها على ذلك الذهن الضعيف من أصله. # ومن ثم ترى أن العامة والصبيان والنساء في كل أمة يكونون - لتغلب العواطف فيهم على العقل ~~وامتلائهم بالشهوات النارية - أشبه شيء بمخازن البارود ومعامل الذخيرة، وهذه المزية العظيمة لا ~~تخفى - بالطبع - على عشاق المعارضة في كل أمة، فهم كالصياد يعرف مسارح الظباء ومسانح المها، ~~وكالمنتجع يهتدي إلى مساقط الغيث ومنابت الكلأ. أقول: إن زعماء المعارضة يعرفون مواضع تلك ~~العناصر الملتهبة والمواد المفرقعة من قلوب العامة والصبيان والنساء، فما هو إلا أن يرسلون ~~عليها شرارات مما تجيش به صدورهم حتى تشتعل فتتأجج. # فإلى زعماء المعارضين اللاعبين بألباب الصبية والنساء والعامة نقول: اتقوا الله في عقول ~~أضعفتها الطبيعة لا تزيدوها ضعفا، واتقوا الله في أحلام خففتها الطبيعة لا تزيدوها خفة ~~وطيشا، وراقبوا الله في عواطف وإحساسات قابلة للإلهاب بفطرتها لا تضرموها على أربابها وعلى ms065 ~~البلاد نارا حامية، واخشوا الله أن يراكم تسلون من قلوب أولئك البسطاء سيوف عواطفهم ~~وشهواتهم فتجهزوا بها على ذرة العقل الضئيلة التي تفضلت عليهم بها الطبيعة مما بقي لديها من ~~مادة العقل بعد أن كالت منها كيلا للفضلاء النوابغ، اتقوا الله أن يراكم تطلقون سيول تلك ~~العواطف الجارفة تسلطون طوفانها على تلك الشرارة الكليلة التي منت بها الطبيعة على أدمغة ~~أولئك البسطاء بعدما أشعلت مصابيح الفطنة الوقادة في سماء أذهان الأذكياء الألباء، رفقا ~~بأولئك الضعاف لا تعينوا عليهم الطبيعة القاسية الظالمة بإفسادكم ما جادت به عليهم من النزر ~~الطفيف من مادة الفهم يوم قسمة العقول والبصائر. # وهنا يجدر بنا القول بأن ما يقوم اليوم بين ظهرانينا من تغلب العواطف الثائرة في مجال ~~تبادل الآراء الهادئة، وسيطرة الشهوات الثائرة في مقام إعمال الفكرة الثاقبة والعقل المجرد عن ~~شوائب الأهواء، إنما هو مظهر من مظاهر آبائنا الأول في العصور الغابرة، ونزعة رجعية إلى ~~عصبية ذوي الثارات والعداوات من أجدادنا أهل البيد والفلوات. # إن أهم ميزات الطبقات العليا على السفلى، والخاصة على العامة هي أن الفئة الأولى - لحدة ~~ذهنها وقوة الملكة المنطقية فيها - تستطيع التفكير والكلام في المعنويات كالنظريات والكليات ~~والقواعد والقوانين. بينما الفئة الثانية - لضعف ذهنها وقصور الملكة المنطقية فيها إزاء قوة ~~الحواس والإحساسات - لا تفهم المعنويات، ولا تقوى على ولوج أبوابها وخوض غمارها، فهي لا تلتذ ~~ولا تعنى إلا بما قد كاد يقصر عليه إدراكها من المرئيات والمحسوسات كالأشباح والذوات ~~والأشخاص؛ ولذلك إذا غشيت مجامع العامة ومجالس الصبيان والنساء ألفيت حديثهم قد كاد يقتصر على ~~الأشياء المحسوسة - كوصف المراقص والملاهي، وأماكن الفرجة كالمعارض وحدائق الحيوانات والمطاعم ~~وحوانيت الفواكه والحلوى، إلى الفصول المسهبة الشرح والتفصيل في مسائل اللبس والتفصيل وأصناف ~~الأقمشة والمنسوجات وآلات الزخرف والزينة، إلى ما يماثل ذلك ويجري مجراه من المباحث ~~الاقتصادية في تاريخ المطبخ والكيلار والتاريخ الطبيعي لشتى أصناف الطيور والدواجن، إلى ~~المحاضرات الفلسفية في فنون «الغيات» المختلفة الحمام والخيل وورق البريد والعملة القديمة ~~والسجاجيد والجعارين، وما لا يحصى ms066 ولا يعد من أمثال ذلك وأشباهه. ولكن هناك شيئا آخر هو ~~أعلق بأذهان هذه الطبقات، وأروح على قلوبهم، وذلك هو التعرض للأشخاص أنفسهم (لا في متعلقاتهم ~~من مأكل وملبس) والخوض في شخصياتهم وتناول سيرهم قدحا أو مدحا. # أما الكلام في المعنويات وإرسال الذهن الصافي البلوري يسبح في عالم الأفكار والروحانيات، ~~ويغمس أجنحته في ضياء الحقائق، ويقلب المعاني محضة بحتة عارية عن ثياب الأشخاص والمادة والزمان ~~والمكان، فذلك ما لا تستطيعه ولا تعرفه هذه الطبقات من العامة والنساء والصبيان، وإنما هو شأن ~~العلية الفضلاء أولي الفطن والألباب. # ولا يخفى أن هذه الخصلة - أعني تعلق النفس وجولان الذهن في عالم الحس وضعفهما عن خوض عالم ~~المعاني والنظريات - هو من مظاهر الأمم والشعوب غير المتمدينة التي تكاد تنحصر أعمالها ~~ومساعيها في التكافح والتقاتل وشن الغارات بعضهم على بعض؛ لا تزال هذه القبيلة تغزو أختها، ~~وهذه الفصيلة تكتسح جارتها، ثم ترى أفراد كل قبيلة لا هم لهم إذا ضمتهم محافلهم وأنديتهم ~~إلا وصف مواقف أبطالهم في ساحة الوغى، ونعت ما أتوه من آيات النجدة والبطولة، ثم تمجيد الزعيم ~~الأكبر وتقديس ذاته، فأحاديثهم وأفكارهم مقصورة على الأشخاص ومظاهر المادة لا تتعداها إلى عالم ~~المعنويات والمبادئ والقوانين العامة. # ولا تنس ما لا بد أن يصحب هذه الحالة (اقتصار الأفكار والحديث على عالم الحس) من تعرض ~~العواطف والإحساسات؛ بسبب سرعة الانفعال والثورة والهياج - لما هو مفروض في تلك الحالة من ضعف ~~سلطان العقل وضئولته أمام جيش العواطف. # ونحن لا نزال في غدواتنا وروحاتنا نبصر أثر هذه الخصلة العتيقة - أعني الولوع بالأشخاص ~~لمجرد أسباب مادية لا عقلية ولا روحانية، وتقديس أولئك الأشخاص لمجرد تأثيرهم على عواطف ~~مفتونيهم من العامة لا على ملكاتهم العقلية والروحانية، باديا في كل شبر من أراضي بلادنا، ~~وفي كل آن ولحظة من خضوع العامة لرجل قوي البطش فيهم، مرهوب السطوة يسمونه «فتوة». فمن شاء أن ~~يرى أصدق صورة تمثل تاريخ العصور الوسطى - عهد الإقطاعيات أو عهد الفروسية في أوروبا المظلمة، ~~ووقائع «قلب الأسد» و ms067 «أورلندو» و«أماديس دي جول» - فليطلع على ما يجري من مظاهر العواطف ~~العمياء، والأنانية الخبيثة في طبقات العامة، مما يدعوهم إلى تمجيد زعمائهم من «الصبوات» ~~و«الفتوات». # وإن تشأ مثالا آخر على هذه المظاهر الممقوتة؛ فتفقد ليلا محافل العامة في قهواتهم حيث ~~تتلى عليهم قصة عنترة وأبي زيد، وانظر في وجوه القوم وحركاتهم مظاهر تلك النزعة الرجعية - ~~نزعة تقديس الزعيم؛ لمجرد قوته العضلية، ومزاياه العدوانية، وفرط تأثيره على عواطف شيعته ~~وأنصاره - بل انظر إليهم كيف ينقسمون شيعا وأحزابا حسب ميولهم الغريزية للأشخاص الخرافية ~~المسرودة عليهم أقاصيصها - كل فريق يتعصب لزعيم دون الآخرين - وكيف في سبيل انتصار كل ~~لزعيمه الخرافي وتشيعه له يتهيج ويثور، وربما وثب على مناظريه من أنصار الزعماء الآخرين، ~~واستطال عليهم بالسب وأحيانا بالضرب. فهكذا يبلغ من حدة العواطف البشرية، وغلواء سورتها ~~حتى في حين تأثرها بالعوامل الخيالية الوهمية المستمدة من عالم القصص والخرافة، فما بالك بفرط ~~سطوة هذه العواطف وطغيانها إذ تسلطت عليها عوامل فعلية واقعية من عالم الحس والحقيقة؟ # هذا هو الحاصل بيننا اليوم، وذلك هو شأن المعارضين ومن شايعهم وتابعهم، وإلا فكيف كان يمكن ~~ويتأتى أن ينكروا المحسوس والملموس، ويماروا في الحق الصراح، ويلوموا غير ملوم، ويذموا غير ~~مذموم، ويرتعوا سائمة الهجاء في غير مرتع، ويشرعوا صادية القدح في غير مشرع؟ وكيف - لولا ~~هذه الحال التي شرحناها - كان يهون عليهم ما يحاولون إتيانه من تفريق ذات البين، وتبديد ~~الصفوف، وتمزيق الوحدة، وفك الأواصر؟ # حقا، إن المعارضة إذا خلت من عوامل العواطف الشخصية والشهوات الحزبية، وصحت من سكرة ~~الأثرة والأنانية؛ عز عليها أن تأتي كل ما من شأنه عرقلة المساعي وإضعاف المجهودات وإيذاء ~~القضية، ولكن ماذا تصنع المعارضة وماذا تفعل الوطنية إذا أصابتها الأنانية؟ أليست الأنانية ~~جديرة أن تصم أذن العقل، وتخرس صوت الضمير، وتغشي ناظر الرأي والبصيرة، وتطرح في زوايا ~~الإهمال كل مسألة وقضية إلا مسألة شكايتها الوهمية وظلامتها الخيالية. # وفي هذه الحالة تتوق وتصبو إلى فكرة الانتقام. وقدما قيل إن الانتقام حلو لذيذ عند ms068 ~~الإنسان الاعتيادي الحاد العواطف، وكم رأينا وسمعنا عن التضحيات العظيمة تبذل في سبيل ~~الانتقام، ومن أجل تذوق حلاوته واستمراء لذاذته، ولا جرم، فالانتقام هو كما وصفه الروائي ~~الأشهر «السير والتر سكوت»: «أشهى لقمة طبخت في نار جهنم.» # ولا عجب إذا رأينا المعارضة - رغبة في الانتقام - تشن الغارة أثر الغارة، وتصول بجيوش ~~المظاهرات، وتقيم مسرحا عظيما للشغب واللجب والصياح تلعب عليه - أو تتفرج - جماهير العامة ~~والنساء والصبيان مدفوعة بما جبلت عليه تلك الطبقات من حب الهياج والصخب والضوضاء، وبما فطرت ~~عليه من الشغف بمشاهدة ملاعب الصراع والملاكمة مما يثير الشعور، ويولد تلك اللذة الحاصلة من ~~التهاب العواطف واشتعال الشهوات، فضلا عن اللذة المتولدة في المظاهرات من احتكاك الإنسان ~~بالآلاف المؤلفة من الأجسام البشرية، ومن تفرج الإنسان على مثل ذلك العدد من الوجوه الآدمية ~~المختلفة السحن والملامح. # كذلك تحاول المعارضة الأنانية قلب الحقائق ومسخها وتشويهها، وإنكار الواقع الملموس ~~والمشاهد، وطمس مآثر الذين ساقوا لبلادهم الخير والغنيمة، وجحودا لما طوقوا به جيد الوطن ~~من بيض الأيادي، تحاول بذلك شفاء غلة جهنمية، وانتقاما لإساءات وهمية. وقد تفلح وقتا ما في ~~ترويج مذهبها بخلقها جوا من الهياج الوجداني، والانفعال النفساني تلتهب فيه العواطف وتحتدم ~~الشهوات، تبذر في أرجائه بذور أراجيفها، وتذرو في أنحائه لقاح أباطيلها وأضاليلها. ولكن هذه ~~الحال لن تدوم وما هي إلا مؤقتة شأن غيرها من الأكاذيب التي مهما يمتد أجلها فمآلها حتما إلى ~~الزوال والفناء. # وكذلك تلك الأراجيف والأباطيل، وتلك الظنون السيئة بالحكومة الحاضرة، والتهم الكاذبة مما لا ~~تفتأ المعارضة تصوغه وتخترعه - مهما صادفت من الرواج في هذا الدور الأول من العهد الجديد بسبب ~~ما يسود في أذهان بعض الطبقات من عوامل الحيرة والارتباك المثيرة للريب والشكوك من تأثير صدمة ~~هذا الانقلاب السياسي الخطير؛ فهي لا بد أن تأخذ في التناقص والهبوط والكساد، ثم يئول أمرها ~~إلى الاضمحلال والزوال على مر الأيام متى تتابع على أبصار تلك الطبقات من مزيد الشواهد ~~والآيات، وتوالى على بصائرها من جديد الحجج والبينات ما يمحو من ms069 أذهانهم ذلك الخلط والارتباك ~~والحيرة، ويبرز لأبصارهم الموقف الجديد ومعالمه، وحدوده وخصائصه ومزاياه في أجلى مظهر من الحق ~~الصراح. # ولكن حركة القضية نحو النجاح، وسير البلاد إلى الغاية المنشودة من الرقي والفلاح دائبة ~~مستمرة، لا تنتظر ذلك اليوم الذي يسطع فيه نور الحقيقة على أبصار المضللين من مفتوني المعارضة. ~~لقد نهضت الطبيعة بنفسها فقبضت على زمام القضية بيدها القوية تدفعها في سبيل التقدم، فمن ذا ~~الذي يقوم في وجه الطبيعة يردها عن قصدها وغايتها؟ وأي قوة بشرية تستطيع للطبيعة دفعا أو ~~مقاومة؟ أو ليس إذا هبت على شيء ما ريح المدد والمعونة من جانب عرش الله أصبحت أقوال ~~المعارضين في هذه الريح الشديدة هباء، وذهبت أراجيف المعاكسين في نفحاتها جفاء؟ # هذا بحر السياسة العجاج قد لان جانبه، وسكنت غواربه، وسلس قياده، واطمأن مهاده، وقد سربت ~~فيه الفلك، وانسابت تمخر إلى الأمام عبابه، وتشق إلى مرادها جلبابه، تزجيها ريح السلام ويهديها ~~كوكب اليمن والتوفيق. فلترعد المعارضة ولتبرق، فما شيء من ذلك الصخب والضجيج بضائر الفلك ~~في مجراها، أو صارفها عن قصدها ومبتغاها. # لقد ولجت البلاد باب الحرية سواء اعترفت بذلك المعارضة أم لم تعترف، وقد ملكت البلاد فوهة ~~سبيل الاستقلال سواء شاءت المعارضة أن تصدق ذلك أم لم تشأ، وقد انبرت البلاد تجتاز تلك السبيل ~~آمنت بذلك المعارضة أم لم تؤمن. # لقد اعترف بإلغاء الحماية، وباستقلال البلاد في الداخل والخارج، وأمنت على ذلك دول ~~العالم، وتواردت به التهاني من ملوك الأرض، وقد زال العهد القديم واندثر، وطواه الدهر فيما لا ~~يزل يطويه كل لحظة من هالكات هذا العالم وفانياته، فلن يرجع هذا العهد حتى يرجع أمس ~~الدابر: # وحتى يئوب القارظان كلاهما # وينشر في الموتى كليب بن وائل # وقد أطلق مدفع الاستقلال ناموس جنازة العهد القديم المندثر، وبوق البشارة بميلاد العهد ~~الجديد المبارك، وكأن دويه المستفيض يحمل صوت البشير ممعنا في ظلمات الغيب إلى ذرية المصريين ~~من أهل المستقبل البعيد في عالم الذرات، متغلغلا إلى أعماق الأبد. # الفصل الثالث # | الحالة الحاضرة # واجب ms070 الأمة في موقفها الحالي # من كان يسره التشبث بأهداب الأماني البعيدة، والهيام وراء أشباح الخيالات، فالعاقل من ~~اغتبط بالشيء الواقع وإن قصر عن مدى أمله، ووقع دون غاية مبتغاه وحسبه أن يكون ذلك الواقع ~~منطويا على عنصر الخير وجرثومة الفلاح. # ألا ما أعظم الواقع المدرك الحاصل في حوزة الأمة، وما أجل خطره وقيمته! أليس هو الدرة ~~المستخلصة من أعماق بحر الخيال، والجوهرة المستصفاة من غمار لج النظريات والاحتمالات؟ أليس هو ~~ذلك الشيء الماثل أمامك حقيقة ثابتة مؤكدة لا ريب فيها ولا شك، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ~~ولا من خلفها؟ أليس هو الأساس الوطيد الذي تبني عليه الأمة نظام الحياة والعمل، والسلم ~~المتين الذي عليه تسمو في معارج الرقي والرفعة إلى حيث يبلغ بها ما تبذله من المجهودات ~~والمساعي؟ لذلك كان من الحزم والحكمة أن تتشبث الأمة بما يسوقه إليها الحظ من الخير الواقع أشد ~~تشبث، وتنتفع به جهدها وتستثمره، وتتخذه وسيلة وسببا إلى غيره من الثمرات والفوائد بفضل ~~الجد والعزم والمثابرة. # نحن لا ندعي أننا قد نلنا أقصى أمانينا القومية أو بلغنا غاية مطالبنا الوطنية، ولكننا نقول ~~ونصرح أننا أدركنا شيئا كثيرا؛ أدركنا الأساس المتين الذي نستطيع أن نشيد عليه صرح ~~الاستقلال التام بفضل الجد والمواظبة، وملكنا فوهة السبيل الذي إذا تضافرنا على اجتياز أوعاره ~~واقتحام عقباته أدانا بلا شك إلى أقصى غايتنا المنشودة. # لذلك ترانا نعجب كل العجب، وتمتلئ قلوبنا دهشة من الذين لا ينفكون - إزاء هذه المغانم ~~العظيمة والفوائد الجمة - يصيحون أن حالتنا السياسية باقية على ما كانت عليه من قبل لم يطرأ ~~عليها أدنى تغير، فهل يقول مثل هذا إلا غافل عن الحقائق الناصعة والشواهد الملموسة أو ~~متغافل؟ # هل يشك مخلوق كائنا من كان أن بريطانيا بتصريحها الخطير (الذي اعترفت فيه بإلغاء الحماية ~~وباستقلال البلاد) قد محت من سجلات السياسة والتاريخ تلك الصحيفة السوداء التي كانت سجلت بها ~~على مصر الحماية المشئومة، فأصبحت مصر بفضل ذلك بلادا مستقلة ذات سيادة في نظر القانون ~~الدولي، وفي ms071 اعتبار الدول جمعاء، وأصبح من المفروض على الدول قانونا أن تعامل مصر على هذه ~~الصفة كما تعامل سائر البلدان المتمتعة بالاستقلال التام، ولمصر الآن كامل الحق في طلب ~~الانضمام إلى عصبة الأمم متى شاءت، وفي صيرورتها ضمن أعضاء هذه العصبة، وأصبح غير محظور على ~~الدول أن تعاملنا معاملة النظير للنظير، وأن تراعي معنا كل ما هو مقرر بين بعض الدول والبعض ~~الآخر من الحقوق والحرمات والواجبات، فليس في استطاعة الدول الآن أن تنكر وجودنا مثلما فعلت ~~حينما أوصدت في وجهنا أبواب مؤتمر فرساي، واعتبرتنا أمة عديمة الشخصية قاصرة لم تخرج بعد من ~~طوق الحماية والوصاية، بل لا تملك حق الكلام والتعبير عن ذات صدرها. # كل هذه المزايا العظيمة كانت الحماية تحول بيننا وبين التمتع بها، فقد زال هذا الحائل بزوال ~~الحماية، وأصبحنا في حل من التمتع بها، واجتناء عظيم ثمراتها. # هذه خطوة كبرى خطوناها في سبيل الاستقلال التام، وبلغنا بها الشيء الكثير الذي لا يستطيع ~~نكرانه إلا غافل عن الحقيقة الناصعة أو متغافل. أما بقية أمانينا وتكملة مطالبنا، والشيء الذي ~~ينقص استقلالنا فهذا منطو في المسائل التي احتفظت بها بريطانيا، معلق على تسويتها تسوية ~~نهائية في المفاوضات المقبلة التي سيكون لبرلماننا الحق في تحديد موعد افتتاحها، وانتخاب ~~المفاوضين فيها والإشراف عليهم. # هذه المسائل التي احتفظت بها بريطانيا لم يقل قائل، ولا خطر على بال إنسان أنها قضاء ~~محتوم لا دافع له أو ضربة لازب باقية على الأبد، أو أن بريطانيا قد احتفظت بها بصفة نهائية لا ~~تقبل تحويلا ولا تغييرا، وإنما هي شيء عارض لمدة مؤقتة اقتضته ظروف ذلك التطور السياسي ~~العظيم، كما ورد ذلك صراحة في تصريحها الخطير. # فاستقلالنا في الحالة الراهنة، وحتى تتم التسوية النهائية بشأن هذه التحفظات في المفاوضات ~~المقبلة التي سيشرف عليها البرلمان؛ إنما هو استقلال حكمي أكثر منه استقلالا فعليا، وإن كان ~~قد أنتج بعد نتائج فعلية عظيمة الشأن كالتي ألمعنا إليها آنفا من ارتفاع الرقابة الإنكليزية ~~عن أعمال الحكومة في كافة أركان الحكم والإدارة ms072 ، وكالذي يسري الآن في البلاد من مبدأ مسئولية ~~الوزارة أمام الشعب ممثلا في برلمانه المشروع في إنشائه. # لذلك لا ندعي أننا قد نلنا أقصى أمانينا وأنا قد بلغنا الغاية، ولم يدع ذلك رجالنا ~~العاملون المخلصون، ولا ادعاه بطل النهضة الحالية وفارس حلبتها دولة الرئيس العظيم ثروت باشا، ~~فقد أورد دولته في غضون رده على تهنئة الحكومة البريطانية بمناسبة إعلان استقلال مصر هذه ~~العبارة الآتية التي جمعت بين أدب الكاتب النحرير ودهاء السياسي القدير، والتي يتألق في ~~ديباجتها المصقولة - مع طلاوة رقة الخطاب ولينه - شعاع الوطنية الحارة، ووهج الغيرة الملتهبة ~~على مصلحة البلاد ومستقبل الأوطان، فذكر دولته المركيز كرزون - صاحب التلغراف الآنف الذكر (مع ~~حسن رده على التهنئة بأرق منها عبارة وألطف إشارة) بذلك الأمر الجليل وهو أن مصر لم تقنع ~~بالحالة الراهنة، وأنها أشد ما كانت يقظة وانتباها ومطالبة بباقي حقوقها، فذلك حيث يقول ~~دولة الرئيس في ذلك الرد: # وإنا لنعرب لفخامتكم عن تقديرنا لجميل ما أظهرته حكومة صاحب الجلالة البريطانية، ~~وأظهره البرلمان البريطاني من الميول الحسنة، ونعتمد على هذه الميول في الحصول على تسوية ~~تامة للمسألة المصرية تقع على أحسن وجه وأدعاه للمحافظة على صلات الود والثقة بين ~~البلدين، ولتنمية هذه الصلات. # نحن لا نقول لأمتنا الكريمة قد أدركنا الغاية ونلنا المدى، وبلغنا أقصى منتهى المنى ~~والآمال فاحبسوا أعنة السعي، وأريحوا مطايا الجهاد، وأرخوا قسي النضال، وأغمدوا سيوف الجلاد، ~~وافترشوا مهاد الراحة، وتوسدوا وثار الدعة، وتمرغوا في حجور الصفو، وتقلبوا بين أعطاف ~~النعيم، ولو قلنا لهم ذلك لكنا لهم خادعين وبهم مغررين، ولحق لهم إذ ذاك أن يتهمونا بما به ~~يصموننا الآن زورا وبهتانا من التعمية والتضليل، ولكنا من وجهة أخرى لا نقول مع جماعة ~~المعارضين إننا على حالنا الأولى لم نتقدم قيد فتر ولم نتأخر، ولا نجاري المغالين منهم في ~~زعمهم ما هو أكثر من ذلك؛ إذ يقولون ما نلنا خيرا بل شرا ولم نتقدم خطوة نحو البغية بل ~~تأخرنا خطوات، وأن الوزارة - معاذ الله - لا تناصر الأمة ms073 بل هي إلى خذلانها أميل، وأن ~~القادة الأمجاد (الذين سخرهم الله لخدمة الشعب وإظهار حجته ~~وتأييد قضيته) لا ينهضون بالوطن إلى ذروة المجد والعلاء بل يهبطون به - لا قدر الله - إلى ~~الوهدة. نحن لا نقول ذلك لأنا لا نعتقده، ولأنه غير الحق، ولأن شفاهنا لا تطاوعنا على قوله، ~~وتنقطع من دون النطق به ألسنتنا، ولو فعلت لكذبتها الدلائل الساطعة، والشواهد الناصعة التي قد ~~أبانت للملأ بأوضح الأدلة، وأثبتت للعالم بأظهر الآيات البينات أن حكومة اليوم هي غير حكومة ~~الأمس، وأن دولة رئيس الوزارة وأصحاب المعالي زملاءه لم يتربعوا في كراسي الحكم إلا على شروط ~~استمدوها من الرأي العام وإرادة الأمة، وأنه لو لم تعترف إنكلترا بإلغاء الحماية وباستقلال مصر ~~لما قبلوا الوزارة، ولما تسنى لجلالة الملك أن يكل إليهم العناية بأمر النظام الأساسي، فهم - ~~من هذه الوجهة ومن وجهة مشاركة الأمة في كفاحها وجهادها، لا يمكن فصلهم عن مجموع الأمة ~~واعتبارهم حكاما بالمعنى العتيق المنقرض؛ يتحكمون في الشعب تحكم العاسف المستبد الذي لا ~~يحترم إرادة الأمة ولا يعترف بسلطتها المقدسة - كما كانت الحال في العهد السالف. # ذلك عهد قد انقرض وباد، وقد أصبحنا اليوم في عهد جديد ميمون تتضافر فيه الأمة والحكومة معا ~~على تقويض صرح الاستبداد ونسف دعائمه، واستئصال جرثومته لتغرسا شجرة الحرية المباركة - أعني ~~شجرة سلطة الأمة التي تزرعانها في تربة الوطن العزيز بين رفات الآباء والأجداد وتسقيانها دماء ~~الشهداء من أبناء الأمة - لتزكو على ضفاف النيل المبارك، وتنفح ببرد ظلالها عظام العرب ~~والفراعنة في أجداثهم، وتغدق على الأبناء والذرية ثمارها اليانعة الجنية. # فالوزارة اليوم من الأمة، والأمة من الوزارة، وهما في الحقيقة كتلة لا تنقسم، ووحدة لا تقبل ~~التجزئة، وحلقة مفرغة لا يعرف أين طرفاها. هذا من حيث الإخلاص في الوطنية وصدق الحمية وفرط ~~الغيرة والتضحية والتفاني في خدمة القضية، وإن اختلفت منهما الوسائل والذرائع، كل يؤدي في ~~خدمة الوطن وظيفته، فالحكومة ترسم الخطط والبرامج، وتمهد السبل والمناهج - كفرقة الكشافة في ~~الجيش العرمرم - والأمة من ورائها كالجند ms074 تتقدم وتزحف محتلة من المواقع الحصينة والأماكن ~~الخطيرة ما يذلله لها فرسان الطليعة. # بيد أنه لا يفوت الأمة أن هذه الطليعة أو الكشافة (أعني الحكومة) قد لا تستطيع - ولا سيما ~~في مثل ظروفنا الاستثنائية المترتبة على تطورنا الفجائي - أن تنجز كل هذه الأعمال التمهيدية في ~~بضعة أيام أو أشهر (مهما تاقت القلوب وأولعت النفوس بسرعة هذا الإنجاز) وأنه لا بد للجيش (أي ~~الأمة) أن يمهل طليعته الكشافة، ويعطيها الكفاية من الوقت ملتمسا لها وجه العذر، مقدرا حرج ~~مركزها وصعوبة موقفها، معاونا لها بما قدره عليه الله من حسن المؤاتاة والمسامحة والملاينة ~~والصبر الجميل والتأييد والتشجيع، ذاكرا تلك الكلمة المأثورة لرجل الدهر نابليون بونابرت: ~~«الدنيا بحذافيرها تنساق في النهاية لمن يعرف كيف يصبر.» # وجدير بالناس أن يذكروا هذه القاعدة الخطيرة، وهي أن الانقلابات السياسية لا تستلزم إلغاء ~~النواميس الجارية والدساتير السائدة، ولا تستدعي هدم الكائن من نظم وتقاليد، وإيقاف سير ما هو ~~نافذ من أحكام ولوائح فتصبح البلاد فوضى، لا نظام ولا قانون إلى أن يتم إنشاء البرلمان الجديد، ~~ويبنى عليه أساس الحكم في البلاد. فهذا مناقض لسنة العمران في العالم، ناقض لأسباب النظام ~~والأمن والسلام، وهو ما لا يكون ولا يمكن أن يكون أو يتأتى بحال من الأحوال، وها هي الشواهد ~~التاريخية تدلنا على أن الأمم التي هبت من قبلنا تطالب بحريتها قد أصدرت يوم استقلالها أوامر ~~بإبقاء أحكامها العسكرية نافذة توثيقا لأسباب الأمن، وتوطيدا لدعائم السلام، وتوخيا لتنسيق ~~أركان الحكم الجديد تحت لواء النظام. # جدير بكل فرد من أفراد الشعب أن يفطن تمام الفطنة إلى حقيقة موقف الأمة، ودقة مركز الحكومة، ~~وضيق مأزقها، ووعورة مسلكها، وما يعترضها في كل خطوة من المصاعب والمشاكل، فيعطف عليها بكل ما ~~أوتي من عواطف البر والكرم والمروءة، ويسلك معها سبيل المصابرة والتمهل لينظر ما سوف تصنع، ~~وما عساها أن تأتي وتذر وتحل وتعقد، حتى لا يرمى بالتعجل في الحكم، وإبراز الرأي فجا غير ~~ناضج. # نحن اليوم إزاء مشكلة من أعوص المشاكل لا يتأتى ms075 حلها بسوى التعقل والروية والتبصر، وذلك ما ~~لا يتسنى إلا في جو صاف من الهدوء والسكينة تسود فيه الأناة والتؤدة، ويشرق في أفقه سراج ~~العقل المتبصر المتدبر؛ وأساس كل ذلك هو كما ألمعنا في موضع سالف هدوء الخواطر وسكون الجوانح، ~~وثبات الجأش، والجنوح إلى الرفق واللين والهوادة والحسنى، وتوخي أسباب الحلم والمجاملة والرقة ~~في الخطاب، وأساليب الأدب والملاطفة والدماثة في مجال المناقشة والمناظرة شأن أفراد الأمم ~~المهذبة الراقية التي يحق لها أن تفخر بسمو مكانها في درج المدنية والحضارة. # إن المشاغبات والمشاحنات، واستثارة العداوات، وبذر الشقاق ما كانت قط لتؤدي إلى خير، ولا ~~لتتقدم بأمة خطوة نحو غايتها المنشودة، ولا سيما إذا كانت أمة في مثل مركزنا السياسي قد وضعت ~~قدمها على فاتحة سبيل الأعمال، والمجهودات العظيمة للوصول إلى ما تبتغيه من أقصى غايات ~~الاستقلال التام. # نحن الآن أحوج ما نكون إلى العمل - إلى العمل المنتج المثمر - إلى عمل البناء والتعمير أو ~~التشييد والتجديد. نحن الآن أحوج ما نكون إلى تنظيم حركتنا، وتنسيق نهضتنا، بضم شواردها وجمع ~~شتاتها ولم شعثها، وتسييرها في منهج قاصد قويم يسود في جوه العقل والنظام والحكمة ~~والتدبير. # لقد انتهت حركتنا من دورها العاصف العنيف، وجرت شأوها المحتدم المضطرم، وأدت ما عليها من ~~مهمة الهدم والنسف والتقويض؛ هدم الحماية، ونسف دعائم الحكم المطلق، وتقويض أركان التدخل ~~الأجنبي. أجل، لقد انتهت حركتنا من دور الهدم والتدمير، وآن لها أن تدخل في دور البناء ~~والتعمير، لقد هدمت برج الحكم الأجنبي ووضعت على أنقاضه أساس الاستقلال، وقد آن لها أن تبذل ~~أقصى الجهد في أن تشيد على هذا الأساس صرح الاستقلال التام. # فكأن حركتنا كانت في دورها الأول العنيف التأثر أشبه شيء بالسيل الجارف المنهمر، المصطدم ~~بالصخور والجلاميد، المتوثب بين العقبات والأوعار، وهي في دورها الحالي الهادئ المطمئن يجب أن ~~تكون مثل هذا السيل حيث ينتهي من الصخور والأوعار، ويفضي إلى أرض سهلة مستوية لكنها قفرة ~~جرداء، فعلى هذا السيل أن ينسكب في فضائها متسلسلا منسجما هينا لينا، ولكنه ms076 يكون مع ذلك ~~قويا شديدا، جائشا زخارا يؤدي ما عليه من واجب الري والسقيا، ووظيفة الإخصاب والإنتاج، ~~فيحول الجدب خصبا، والصخر عشبا، ويترك الفلاة الجرداء جنة غناء. # وهذا ما لا يكون ويتم إلا بالألفة والاتحاد، وهما لا يتوافران إلا بحصول الثقة المتبادلة ~~بين عناصر الشعب وأحزابه، ثم بين فئات الشعب كافة وحكومته، والثقة المتبادلة لا تتأتى ما دام ~~سوء الظن متسربا إلى النفوس، ومعلوم أن سوء الظن هو آفة الشعوب، ولا سيما في أدوار انقلاباتها ~~السياسية، وتطوراتها النظامية؛ إذ في مثل هذه الظروف العصيبة تكون النفوس هائجة ثائرة والخواطر ~~مضطربة قلقة، ومتى كانت النفوس والخواطر كذلك أصبحت بيئة صالحة لجراثيم الريبة والتهمة تعشش ~~فيها، وتبيض وتفرخ منتجة الضغائن والأحقاد المؤدية إلى أعظم الشرور والمضار. # لا جدال في أن ما أدركناه من الفوز السياسي الأخير، وما اكتسبته القضية من النجاح والتأييد ~~- بما صارت إليه من المركز الحصين الجديد - لجدير أن يعد من أعظم دواعي الابتهاج والاستبشار، ~~ولا جدال أيضا في أن هذا الابتهاج والاستبشار الذي نراه متفشيا في جانب عظيم من الأمة - ممن ~~عصمهم الله من تأثير ما يروجه المتشائمون من باطل الإشاعات والأراجيف - إذا ازداد تفشيا في ~~مجموع الأمة، وسريانا في أفئدتها وجوانحها كان من أكبر أسباب النجاح، وأعظم وسائل اليسر ~~والتوفيق، وأغزر مصادر الخير والبركة والفلاح. فإنه لا خلاف في أن روح الابتهاج والاستبشار من ~~أقوى بواعث الهمم، ومرهفات العزائم مما نحن بأمس حاجة إليه في موقفنا الحالي لاقتحام ما لا ~~يزال يواجهنا من المصاعب والعقبات، كما أنه ليس أضر بنا في الحالة الراهنة، ولا أفسد لقضيتنا ~~من بث روح التشاؤم المثبطة للهمم، والعزائم الموهنة للمجهودات والمساعي. # وأي شيء - هداك الله - أجلب للخسارة والبوار، وأدعى إلى الفشل والخيبة من هبوط العزيمة ~~وثبوط الهمة؟ وأي شيء أشد إضاعة للحقوق وإفسادا للأمور، وإذهابا للدولة والسلطان، وإبادة ~~للمجد والحسب مما تحدثه روح التشاؤم والسخط والضجر في الأمم والشعوب من خور القوى، ووهن ~~الإرادة الداعيان إلى داء التخاذل والتواكل والفتور والتواني؟ # وعلى العكس ms077 من ذلك أي شيء أجلب للغنم والفائدة، وأدعى إلى النجح والفلاح، وأجمع لشمل ~~الأمور، وأحوط للسلطان والدولة، وأكسب للمجد والحسب مما يورثه روح التفاؤل والاستبشار من تنبه ~~الهمم، ونهضة العزائم الداعيان إلى التناصر والتضافر؟ # بل أي شيء لا تستطيعه قوة العزيمة وبعد الهمة؟ إن قوة العزيمة لتوجد لكل باب موصد ~~مفتاحا، ولكل شبهة مظلمة مصباحا، وتبرز كل شيء في صورة جديدة وشكل مستحدث، وقد رأينا الرجل ~~القوي العزم المصمم المضاء يستطيع - بشكل وقفته إزاء الحادث الجلل وبنبرة صوته وسط ملتطم ~~الخطوب ومصطدم الكروب - أن يأمر الداهية الدهياء المنهمر سيلها المتدفق تيارها فتجمد وتقف، ~~ويزجر الكارثة النكراء المنتشر شرها المتسيطر شررها فتخمد وتكف، وقد جاء في المثل القديم: ~~«ينال الظفر من يرى نفسه قادرا على نيله.» # أو لم نر مثل هذا الرجل الماضي العزيمة في شخص بطل النهضة الحالية عبد الخالق ثروت ~~باشا؟ ألم يقف هذا الرجل العظيم في وجه الحادث الجلل وقفة من يشعر أنه يحمل بين جنبيه من ~~روح الله ومدده ما هو أجل من الحادث الجلل ومن ردعه وكفه وقمعه. # وحينما رفع ثروت باشا صوته المهيب يؤيد قضية وطنه، ويطالب برد حقوقه المغتصبة، ألم يسمع ~~الملأ في نبرات ذلك الصوت العميق تلك الرنة العاصفة القوية، النافذة إلى أعماق قلب الاستبداد، ~~القارعة حبة فؤاد السطوة والجبروت؟ ألم يسمع العالم في نبرات ذلك الصوت المرهوب ذلك الدوي ~~القاصف القاهر الغلاب الذي ترتعد من هوله فرائص الظلم، وينزوي من هيبته شبح الباطل المتسلط ~~على الأمم بسلاح الطغيان والعدوان؟ ألم يسمع العالم في نبرات ذلك الصوت الجهير تلك الرنة ~~المؤثرة العميقة، التي اعتاد أن يسمعها في صوت الطبيعة القاهر، المتغلب على كل قوة إنسانية في ~~صوت الرياح العاصفة، والرعود القاصفة، والموج الطامح، والسيل الجائح؟ ألم يلق هذا الصوت ~~الهول في نفوس الإنكليز حتى ثار له ثائرهم، وقامت من أجله قيامتهم يوم نفرت أحزابهم، ووثبت ~~طوائفهم تفرق من عظم ما نادى به ذلك الصوت، وتستكثر ما طلبه وما اشترطه يوم ضج برلمانهم من ms078 ~~هول تلك الشروط والمطالب، وصاحت جرائدهم، وضجت تحذر القوم من الرضوخ لتلك المطالب، وتعلن أن في ~~قبولها ما يؤذن بتهديد عظمة الإمبراطورية وسلطانها، وإضعاف شأنها وكيانها؟ # ألم يملأ هذا الصوت قلوب المصريين فرحة وطربا؟ ألم يستثر هممهم ويحفز عزائمهم ويفعم ~~صدورهم بروح القوة والتأييد والتشجيع؟ ألم يبن لنا هذا الصوت مبلغ تأثير روح الرجل العظيم ~~في أرواح الملايين من البشر وقوة سلطان شخصيته على شعورهم ووجدانهم؟ ألم يثبت لنا هذا الصوت ~~أن الرجل الفرد الذي يستطيع ببصره الثاقب أن يلمح نتائج الشئون وعواقب الأمور من وراء حجب ~~الغيب، ويستطيع أن يتبين أقصد الطرق وأسد المسالك إلى تلك النتائج والعواقب خلاف العقبات ~~والقحم والمآزق، لهو في الحقيقة خير من ألف رجل، بل هو المسيطر والمسير للأمم والشعوب ممن لا ~~يستطيعون استبانة النتائج والعواقب، ولا الاهتداء إلى ما يؤدي إليها من الأسباب ~~والوسائل؟ # وماذا ترى يكون الأساس الذي يقوم عليه صدق النظر ونفاذ البصيرة في عظماء الرجال أمثال ثروت ~~باشا؟ هو بلا شك رباطة الجأش وهدوء النفس في الزعازع والزلازل، وذلك ما يؤثر عن وزيرنا ~~الجليل ثروت. لقد روي عن أكابر قواد العالم أن أحدهم كان يزداد سكينة وهدوءا كلما ازدادت ~~زوبعة القتال من حوله ثورة وهياجا، وأن القائد العظيم «مالبرا» كان يظل أصفى ما يكون وأدق ~~حسابا في أشد أدوار الموقعة اضطرابا وارتباكا، وأن بعضهم كان إذا انهزم جيشه وولى ~~الأدبار، ووقع فيه من الهرج والمرج، والتخبط والفوضى ما يعتري الجيوش المدبرة ساعة الهزيمة ~~بلغ من صفاء ذهنه في تلك الساعة العصوف الهوجاء، ودقة تفكيره وهدوء باله أنه كان يستطيع رد ~~تلك الفلول المنهزمة، وضم شواردها، وجمع شتاتها، وتنظيم صفوفها، والكر بها في ساحة الوغى على ~~جيش العدو في أتم نظام وأدقه، فربما تمكن بعد ذلك من القبض على ناصية الحال، ثم من هزيمة ~~الأعداء. ويروى عن نابليون الأول أنه كان آية معجزة في رباطة الجأش وفرط الجلد والرزانة؛ ~~وذلك أنه خسر الدنيا بحذافيرها فلم يأبه لذلك ولم يبال وكأنه لم ms079 يخسر إلا دورا في لعبة النرد ~~أو الشطرنج. # كل هذه الأمثال ضربناها للقراء لنظهر بها فضل تلك الخلة العظيمة - أعني رباطة الجأش وهدوء ~~الدماغ في الزوابع والزعازع - وأنها أساس كل نجاح وسبب كل فلاح، وأن عليها مدار نهضة الأمم ~~والشعوب وتشييد مجدها ورفعتها، ولنقارن بها (أعني بهذه الأمثال المضروبة) وافر نصيب ثروت باشا ~~من هذه الخلة المجيدة وجسيم حظه منها، ولنبين بها أن شر ما تبتلى به الأمم والأفراد في ~~أوقاتها العصيبة هو فقدان رباطة الجأش وهدوء الدماغ الناشئ من خور القوى ووهن العزائم المتسبب ~~عن بث روح التشاؤم والسخط والقنوط في أفراد الشعب، وما أصدق ما قاله أحد قواد الفرنس في هذا ~~الصدد: «إذا فقد الرجل رباطة الجأش، وتملكه الذعر فغرب عنه عقله - كما هو شأن المروع ~~المذعور - أصبح لا يدري ما يأتي وما يذر، فإذا ما سألت الله شيئا فسله أن يفر عليك عقلك ~~كاملا، فإنه ما دام لك ذلك فما من خطر يهددك أو كرب يحزبك إلا كنت بفضل ذهنك جديرا أن تصيب ~~منه مخرجا بوجه ما. فأما إذا استحوذ عليك الروع، وذهبت نفسك من الجزع شعاعا فقد كتب لك ~~الفشل والخيبة، وسد في وجهك باب النجاة والسلامة، وألفيت البر بحرا والبحر برا، وحسبت ~~الحبل ثعبانا والقطرة طوفانا.» # كأن فجاج الأرض وهي عريضة # على الخائف المذعور كفة حابل # يؤتى إليه أن كل ثنية # تيممها ترمي إليه بنابل # وإذا بصر بفرد من أعدائه خيل إليه أنه يرى خميسا عرمرما، مثله في ذلك كالسكران ينظر إلى ~~الشمعة الواحدة فيخالها ألف شمعة. # هذه آفات الخبل الناجم من فقدان هدوء الدماغ ورباطة الجأش المتسبب عما يبثه جماعة المتطيرين ~~في بعض طبقات الشعب من روح التشاؤم والسخط والقنوط. # فأين هذه الحال مما يجب أن يستشعره الشعب الناهض المطالب بحقوقه من روح التفاؤل والاستبشار، ~~والابتهاج الموقظ للهمم والعزائم، الباعث على الخفة والنشاط؟ وبارك الله في العزم والنشاط. ~~ألم يقل الحكماء إن الدنيا تنساق للنشط المعتزم والمنجرد المصمم؟ ألا ترى أن قوة الإرادة ~~ومضاء ms080 العزيمة تخلق له عينين جديدتين يرى بهما من ضروب الحيل والتدابير وصنوف الذرائع والوسائط ~~ما لم يكن يراه من قبل؟ هلا نظرت إلى الرجل المتشائم الواهن العزم الفاتر الهمة كيف يجد نفسه ~~مقرورا ويظل يرتعد ويرتعش، وعليه مثل جلد الفيل وفروة الدب من دافئ الثياب والملابس، ثم نظرت ~~إلى «الإسكيمو» ساكن القطب ذلك المتفائل المبتهج المملوء مرحا ونشاطا كيف يصنع لنفسه ثيابا ~~دفئه من البرد والبلل والثلج ذاته؟ أفلا تعلم - علمت الخير - أن من المصاعب والأخطار ذاتها، ~~ومن الأهوال والمحن والمصائب يعرف الرجل المتفائل المرح العزوم كيف يخلق الأسباب والحيل ~~لتذليل هذه المصاعب، وإزالة هذه الأخطار، وإبادة تلك المحن والمصائب؟ أليست الطبيعة ذاتها تلقي ~~علينا هذا الدرس حينما تراها تحفظ على البحيرات دفأها وحرارتها بتغطيتها بملاءة من الثلج، ~~وتصنع مثل ذلك بأديم الأرض بتغشيته لحافا من الجليد؟ # إن المتشائم يسكن الجنة فيصيرها من جراء سخطه وضجره وفتور عزمه وقلة حيله جهنم، ويسكن ~~المتفائل النار فيصيرها بفضل انشراحه وارتياحه وبحدة نشاطه وقوة عزيمته وسعة تدبيره وحيلته ~~فردوسا. # إن الإنسان بفطرته متفائل مجبول على الميل إلى الاستبشار والانشراح والنشاط والعزم، وأن هذا ~~التفاؤل هو الذي يجعله صالحا لسكنى هذا الكوكب الأرضي الذي لا يهب الإنسان شيئا على لزومه ~~خطة التسخط والضجر وفتور الهمم والعزائم، ولكنه يسخو له بكل شيء على التزام سنة التفاؤل ~~والابتهاج، وما يورثانه من سعة التدبير والحيلة. فأبناء البشر باعتبارهم متفائلين نشطين ترى كل ~~فرد منهم كأنه مجموعة قوى وجعبة كفاءات فتخاله قضيب مغناطيس فوق كرة من حديد، فكل إنسان في ~~هذا الوجود كأنه مبدع ومخترع قد أبحر في سياحة استكشافية يسترشد بخريطة ذهنه الخاصة التي لا ~~يوجد لها نظير مع غيره من سائر البشر، وهذا العالم الأرضي يظل في نظر المتفائل وكله أبواب ~~ومنافذ ومسالك، وكله فرص ونهز ومغانم، وكله حساس وكأن في كل موضع منه وترا مشدودا يجاوب ~~بالنغمة المطربة كل عزفة عازف، وهذه الأرض الصخرية الصلدة هي في الحقيقة جوهر حي حساس يفيض ~~روحا وشعورا، يتأثر ms081 بكل لمسة، ويجاوب على كل مسة وجسة، وسواء سبرت غوره بمحراث آدم أو سيف ~~قيصر أو قارب كولومبو أو مرصد غاليلو أو منطاد زبلين فلا بد أن يجاوبك على كل واحدة من هذه ~~التجارب بأعظم جواب وأروعه. # كذلك جبل أبناء البشر على التفاؤل، وعلى أن يستثمروا بفضله وبفضل ما يورثه من القوة ~~والمقدرة صخرة الأرض الصلدة، ويسخروا الطبيعة الهائلة في قضاء أوطارهم ومآربهم، وعلى أن ~~يغتبطوا ويفرحوا برؤيتهم انتصار الإنسان على الطبيعة وسيطرته على العناصر، وبرؤيتهم أن كل رجل ~~متفائل سليم الفطرة قوي الإرادة يظل مصلحا منظما، ويكون كأنه قانون أفضى إلى تشويش وفوضى ~~فاستخلص منه نظاما وصلاحا. # وجبل الناس أيضا باعتبارهم متفائلين نشطين على الاغتباط والفرح باستعراض ثروة الطبيعة ~~العظمى وكنوزها العديدة، وبرؤية هذه الذخائر الجمة بمتناول من كل متفائل مستبشر من سكان هذا ~~العالم، ولا جرم، فذلك يفجر في قلوب الناس ينابيع الأمل، ويستحثهم إلى المباراة والمساجلة في ~~سبل النشاط والهمة. # وعلى ضد ذلك التشاؤم فإنه داعية الفتور والتبلد ومجلبة العجز والتقاعد. وقدما قيل إن ~~انقباض التشاؤم يفقأ الأعين ويشل الذهن، فهو خليق أن يعد انتحارا تدريجيا. # وأي خير - أصلحك الله - في بث روح التشاؤم والاكتئاب في أفراد الشعب؟ وأي بركة في تشويه ~~جمال الحياة في أعينهم، وفي تغشية أبصارهم ذلك المنظار الأسود الذي يبرز لهم كل شيء في رداء ~~قاتم، ويكسو عروس الطبيعة الحسناء ثوب حداد، ويحيل عرسها الدائم المتجدد مأتما، ويرد بشيرها ~~نعيا، ويحدث في السلسل الزلال أقذاء، وفي مذاق الشهد الجني مرارة، وفي انسجام النغمة الرخيمة ~~تنافرا، ويطلع في وجنة الشمس الصقيلة نكتة سوداء، ويجري نجوم السعود بالشؤم، ويريك ~~المشترى ضمن كواكب النحس! # ولكن الخير كله والنعيم والسعادة في مذهب التفاؤل القائل بأن هذا العالم ملك للمؤمل ~~المجتهد، وأن لكل بغية وسيلة، ولكل غاية سبيلا، وأن كل امرئ يحمل في يده مفتاحا لإغلاق ~~خزائن الطبيعة وفخا لاحتبال صيدها. # فقل للمتشائمين من أبناء هذه الأمة وغيرها من شعوب العالم: لا تشاؤم ولا اكتئاب ولا ~~تسخط ولا ms082 تبرم، فهذا العالم الذي تعيشون عليه، وتسعون في مناكبه إنما هو مصنع هائل مفعم ~~بالقوة بأفلاكه الدائرة وفصوله وأزمانه ومده وجزره، ومكينة العالم الضخمة الهائلة تملأ ~~الفضاء عرضها السموات والأرض، وهي محكمة البناء دقيقة التركيب، لا يعتريها الفساد، ولا يتطرق ~~إليها الوهن والخلل، وهي لا تزال تصلح نفسها بنفسها بقدرة كامنة في كل ذرة من ذراتها، وهي تصنع ~~كل شيء وتقدر على كل شيء، فهذا عنصر الماء أتراه يعجز عن حمل أي ثقل مهما عظم؟ وهب أن هناك ~~ثقلا يعي الماء حمله؛ فهذا البخار أمامك فجربه أو دعك من هذا وجرب الكهرباء مثلا، فهل ترى ~~بعد ذلك لذخائر الطبيعة نفادا؟ وهل حاولت مرة أن تزن بالقناطير مقدار ما تسكب القناة الصغيرة ~~الجارية في مزرعتك من كميات المياه؟ أجل، إنه لا نفاد لثروة العالم، وإنه لا شيء في الحقيقة ~~عظيم هائل العظم إلا كنوز الطبيعة. هذا على أن الطبيعة لا تبدي لنا سوى قشورها وسطوحها، وهي ~~من تحت ذلك بعيدة الأغوار يقدر عمقها بملايين الفراسخ. # ألا إن الحزم والحكمة في التفاؤل والانشراح، وأن التشاؤم دليل الحمق والجمود؟ ولقد يكون من ~~السهل على جماعة المتشائمين أن يحقروا مذهب التفاؤل وأربابه، ويلحظوهم بعين الازدراء ادعاء ~~للفطنة والكياسة، وتظاهرا بالأرب والدهاء، ولكني أرى أن آمال المتفائلين المشرقة وأمانيهم ~~البراقة، وما يزخرفه خيالهم من قصور الهواء المونقة أحسن ألف مرة، وأعود بالخير والنفع، وأجلب ~~للرخاء والدعة مما لا يزال المتشائم يحفره من جحور السخط والضجر وسجون الهم والشقاء. # ماذا يستفيد العالم من أولئك المتشائمين الذين لا يبرحون يبصرون في كبد السماء فوق رءوسهم ~~كوكبا أسود يتخلل لآلاء الضياء والسحب البهيجة الألوان، وربما احتجب أوانه وراء ما يمر دونه ~~من أمواج النور، ولكنه لا يلبث أن يعود ظاهرا أقبح ما كان وأشد سوادا؟ # وعلى خلاف ذلك التفاؤل، فإنه منبع الحول والقوة والباعث المحرض على السعي والعمل، وعندي أن ~~الرجل الذي لا يجعل همه تحبيب الحياة والطبيعة إلى الناس - بإظهارهما لأنظارهم في أحسن صورة ~~وأجمل مظهر - كان ms083 موته خيرا من بقائه وعدمه أنفع من وجوده. # التشاؤم مرض والتفاؤل صحة، والصحة شريطة العقل وأساس الحكمة، والابتهاج آية ذلك وأمارته، ~~والبر الكريم والأريب اللبيب هو من حرك فيك نسيم الأمل، وأشعر قلبك روح الثقة وبرد اليقين، ~~وعتقك من رق الهم، لا من أذاقك مرارة الجزع وجرعك غصة الكرب، وأشعر فؤادك ذل الخوف ومضاضة ~~اليأس. # وإنما كان الابتهاج والانشراح وسيلة النجح، وسبب الفوز في هذه الحياة؛ لأنه سنة الطبيعة ~~ومنهجها، ويخيل إلي أن الفرح والسرور هو روح الطبيعة ومنبع حياة الكون، ولعلك إذا استطعت أن ~~تنفذ ببصرك إلى صميم قلب الوجود ألفيت ذلك القلب يدفع لدى كل نبضة من نبضاته تيار السرور ~~الزاخر في كل وريد وشريان من أوعية جثمان الكون حتى يظل نظام الكائنات بحذافيره مغمورا بفيوض ~~الفرح وسيول الحبور يدفق بأمواجها الطامية ويفهق. فلن ترى في نواحي الكون موضعا - مهما خلته ~~جديبا - إلا ما كان في الحقيقة مفعما بالخير والبركة، فأفقر مكان يحتوي من الثراء ما لا يكاد ~~يحصى مقداره، وأجدب محل لا تستنفد حاصلاته ولا يفرغ من اجتناء ريعه وثمرته. # وكل صوت من أصوات الطبيعة ينتهي بلحن ويختم بنغمة، وكل صفحة من صفحاتها تزتخرف حافاتها ~~وتدبج حواشيها الصبغ الجميلة والألوان البهجة. # لا تعلق على جدارك الصور الكئيبة المحزنة، ولا تلوث أحاديثك بسواد الشكوى وظلمة التشاؤم، ~~ولا تكثرن من الضجيج والأنين والتأفف والتلهف والتحسر والتضجر، وكن على أن تظل صناجة تطرب ~~الملأ بموسيقى الولائم أحرص منك على أن تبيت نواحة تبكي الجماهير بمراثي المآتم، ولا يصدرن ~~عنك من المقال والفعال إلا ما جدد من أمل، أو حفز إلى عمل، أو استنهض همة، أو استثار ~~عزمة. # من كل ما تقدم يستنتج أننا في موقفنا الحالي - إزاء ما يعترضنا من العقبات وما يكتنفنا من ~~المصاعب - نظل أحوج ما نكون إلى من يبعث فينا روح التفاؤل، ويضيء قلوبنا بشعاع البشر ~~والانشراح، ويذكي في صدورنا جذوة الأمل، ويطلع علينا في أفق السياسة كواكب الرجاء هداية ~~لنا في مسالكها الوعرة ومجاهلها المضلة فيملأ ms084 نفوسنا بذلك ثقة وإيمانا، ويشعرها قوة الثبات ~~وعزة اليقين والاعتماد على النفس والاعتداد بالذات مما ينبه الهمم، ويوقظ العزائم، ويحفز ~~إلى جسيم الأعمال وجليل المساعي. # أما خطة التشاؤم والتطير فلا أرى لها البتة مسوغا ولا مبررا - ولا سيما في حالتنا ~~الراهنة التي ليس فيها ما يدعو إلى التشاؤم أو يبعث على الخوف والفزع كما بينا وأوضحنا فيما ~~سلف - فقد اتضح أنه ليس لفريق المعارضة المتشائمة من علة أو حجة على ما لا يألون جهدهم في ~~نشره وترويجه - من الإشاعات والأراجيف والريب والتهم وسيئات الظنون بالمخلصين الغيورين من جلة ~~رجال هذا البلد وفحوله، وصفوة ثقاته ودهاته - إلا آفة الغرض والهوى، وقد ما أدرك الناس أن ~~المرء إذا أسلم زمام إرادته لقائد الغرض، وألقى عنان مشيئته في قبضة الهوى فقد نبذ طاعة الحق، ~~وخرج عليه فليس تغني معه محاجة ولا مناظرة، ولا يفلح في إقناعه وإفحامه الحجة الناصعة ~~والبرهان القاطع. # لذلك تراه إذا أراد نشر أباطيله وترويج أضاليله انصرف عن مجالات أهل الرأي والحجى، ودوائر ~~ذوي اللب والنهى من النافذي البصر، الثاقبي الفطنة والذكاء الذين يصولون بأمضى سلاح من ~~المنطق والقياس، ويكشفون دياجير الإشكال والإلباس بأسطع سراج من الدليل المشرق وأبهر نبراس. ~~فتحول عن هؤلاء إلى جماهير العامة والنساء والصبيان الذين قد يسهل عليه إقناعهم، لا بأساليب ~~المنطق والقياس، ولكن بقوة التأثير على العواطف والإحساسات (كما أوضحنا ذلك بإسهاب فيما سبق من ~~فصول هذا السفر) بل بقوة التكرار والإلحاح، وشدة الإصرار والعناد حتى يخبل أذهان من يتسلط ~~عليه من البسطاء الذين يصبحون لفرط تأثير هذا التسلط يتهمون عقولهم - بل يتهمون حواسهم - ~~ويغالطون أنفسهم عن الحقائق الناصعة الساطعة، ويخدعونها عن الشاهد الناطق والواقع ~~الملموس. # وهنا يجدر بي أن أورد فكاهة قصصية أراها أصدق مثل يضرب لتمثيل هذه الحالة الأليمة: # جاء في الأساطير القديمة أن برهميا تقيا، نذر للآلهة نذرا أن يضحي بشاة في يوم ~~محدود، ثم خرج في ذلك اليوم ليشتري شاة وفاء بنذره، وكان في جواره ثلاثة رجال قد عرفوا ~~شأن هذا ms085 الناسك وما كان قد نذر للآلهة، فرأوا في ذلك فرصة انتفاع لم يحبوا أن تفلت من ~~أيديهم، فانبرى له أحدهم فخاطبه قائلا: «أيها البرهمي، أذاهب أنت لابتياع شاة ~~تضحيها؟» # قال البرهمي: «أي وربي، ما خرجت اليوم إلا لهذا الغرض.» فحينذاك فتح الرجل جرابا كان ~~يتأبطه واستخرج منه حيوانا مشوها - كلبا ضريرا أعرج - فصاح به البرهمي: «ويلك يا ~~خبيث يا من يدنس كفه بلمس المقاذر ولسانه بافتراء الأكاذيب! أتسمي هذا الكلب النجس شاة؟» ~~فأجابه الرجل بمنتهى الجرأة والثبات: «أي والله، ومن أكرم صنوف الغنم - من أنعمها صوفا ~~وأطيبها لحما - أيها البرهمي، اغتنم ما ساقه إليك الحظ من هذه الهدية النفيسة، وأسرع ~~بتضحيتها تكسب بها أحسن الأجر والثواب من الآلهة.» فقال البرهمي: «هدانا الله وإياك يا ~~رجل، لا بد أن يكون أحدنا قد أصيب بالعمى.» # في هذه اللحظة قدم عليهما ثاني الثلاثة المتآمرين، فصاح كالفرح الجذلان: «لله مزيد ~~الحمد والشكر، هذه شاة من أكرم الغنم، لقد كفيت مئونة الذهاب إلى السوق ومشقة مزاحمة ~~الناس هنالك، بكم تبيع هذه الشاة يا رجل؟» فلما سمع البرهمي ذلك الكلام أخذه دوار في ~~رأسه، وهفا ذهنه على أرجوحة الشك يعلو ويهبط، ولعبت به موجة قلقة من الحيرة تطفو به ~~وترسب، فخاطب القادم الجديد قائلا: «مهلا يا هذا وتدبر ما تقول وما تزعم، هذه ليست ~~بشاة ولكن كلبا دنسا مشوها.» فأجاب القادم الجديد بقوله: «ويحك أيها البرهمي، ما ~~أحسبك إلا سكران أو مجنونا.» # في هذه الآونة دلف إليهم ثالث المتآمرين، فقال البرهمي: «إذن فلنحكم هذا القادم في ~~الأمر، وقد عاهدت الله أن أقبل حكمه.» فوافقه الرجلان على ذلك، ونادى البرهمي الرجل ~~القادم: «خبرنا يا أخي، ماذا تسمي هذا الحيوان؟» فأجابه الرجل بقوله: «أيها البرهمي، ~~هذه بلا أدنى شك شاة مليحة.» فقال البرهمي: «لا ريب أن الآلهة قد سلبتني حواسي.» ثم ~~اعتذر إلى صاحب الكلب واستسمحه واشترى منه الحيوان القذر بثمن جيد وضحاه للآلهة ~~فاستغضبها فرمته بداء خبيث في مفاصله. # هذه فكاهة واضحة الغرض، بينة المغزى، تشير إلى ms086 مبلغ تسلط ذوي الغايات في كل زمان ومكان ~~على عقول البسطاء بمحض الكلام والإغراء والمغالطة، ولعلها أصدق مثل ينعت ما نكابده الآن من ~~تأثير المعارضة المتشائمة على العامة والنساء والصبيان، وزجهم في متائه التضليل، والتغرير بما ~~يروجون بينهم من الإشاعات والأراجيف مع شدة ظهور بطلانها، وفرط وضوح زورها، ومنافاتها للواقع ~~الملموس، ولكن ذوي الغايات والأغراض لن يعدموا في كل آن ومكان من جمهور الناس من يستطيعون ~~خدعه عن الحقائق المدهشة المحسوسة حتى يحملوه على الاعتقاد بعكس ما تعرضه عليه عينه وأذنه، ~~وبضد ما يكيفه له ذوقه ولمسه تكذيبا لوحي شعوره وشاهد حسه، حتى تراه يسمي التمر جمرا والفجر ~~عصرا، ويحلف لك أن العسل مر بالرغم من حلاوته في فمه، وأن الطيب نتن مع عبق أريجه في شمه، ~~وأن الغزال فيل على الرغم من غيده وحوره، وأن الكلب شاة وإن عرف نفسه للأبله بنباحه ~~وضموره. # ولكن الحق أبلج والباطل لجلج، والأكاذيب في هذه الحياة محكوم عليها بالفشل في النهاية مهما ~~نجحت مؤقتا وبالكساد مهما راجت حينا، وهي - كما نوهنا سابقا - مكتوب عليها الحكم بالإعدام ~~في صحيفة الأقدار وسجل الأزل مهما تراخت مدتها وطال أجلها. # وما دامت وزارة ثروت باشا لا تبرح - كما نراها الآن - تقدم للأمة في كل يوم وليلة دليلا ~~صادقا على تنفيذ خططها وبرامجها، وعلى المسير بالبلاد نحو بغيتها وغايتها، وما دمنا نرى ~~رئيسها الجليل ثروت لا يزال يسوق من ناصع الأدلة على شدة إخلاصه للوطن، وفرط غيرته على مجده، ~~وحسن عطفه على أهليه، وإدمانه السعي الحثيث في تقريبه من أمله وإدنائه من أمانيه يقطع بذلك ~~النهار جهادا، والليل سهادا. أقول: ما دمنا نرى بطل النهضة الحالية ثروت باشا لا ينفك يزلف ~~إلى أبناء وطنه من بينات الآيات على بعد همته، ومضاء عزمته، وعظم بطولته ما يجعله خليقا ~~بقول الطائي: # كل يوم تبدي صروف الليالي # خلقا من أبي سعيد عجيبا # طاب فيه المديح والتذ حتى # فاق وصف الديار والتشبيبا # أقول: ما دامت هذه حال الوزارة الحاضرة من صدق الإخلاص ms087 للوطن، وحرارة الغيرة على مصلحته، ~~وشدة التفاني في سبيل خدمته كما تشهد بذلك الأدلة المتوالية، والشواهد المتواترة المتتالية فلن ~~يبعد ذلك اليوم الذي تصبح فيه آيات الحق الساطعة قد محقت أشباح الترهات البسابس، وعقائد اليقين ~~والإيمان قد بددت هواجس الريب والوساوس فيهتدي ضلول، ويرشد غوي، ويؤمن مشكك، ويذعن مكابر، ~~وتنقشع عن أعين غشاواتها فتبصر وعن آذان سداداتها فتسمع. # لقد ألمعنا فيما سبق من فصول هذا السفر أن من أقطع الأدلة على مضي الوزارة في تنفيذ ~~برنامجها توليها الأمر بنفسها في حكم البلاد، وإدارتها بشكل ظاهر ملموس لا يقبل ارتيابا ولا ~~تشككا على الرغم مما لا تنفك تدعيه المعارضة المتشائمة (في وجه البراهين الساطعة) من أن ~~الوزارة لم تصنع شيئا من هذا القبيل، ولم تزل مسيرة يتصرف فيها الموظفون الإنجليز آلة في ~~أيديهم يحركونها كما شاءوا وشاءت أهواؤهم. # تحتج المعارضة على زعمها هذا بحجة واهنة مفندة، وهي بقاء عدد مذكور من الموظفين الأجانب في ~~الدوائر الأميرية، فهل هذا يدل على تحكم العنصر الأجنبي في إرادة الوزراء بسحب السلطة من ~~أيديهم واتخاذهم لعبا وآلات لا حول لها ولا قوة؟ إن الوزارة لا ترى من الحكمة ولا من المعقول ~~الاستغناء عن كل موظفيها الأجانب في يوم أو بعض يوم؛ فإن لهؤلاء الأجانب اطلاعا على أسرار ~~حركة الإدارة، ووقوفا على خفاياها، ومعرفة عميقة بدقائق تركيب مكينة الحكومة وتصاريف ~~حركاتها، فمن الخرق والحماقة أن تتخلص الوزارة منهم دفعة واحدة بين عشية وضحاها؛ لما هو محتم ~~أن يسببه مثل هذا التسرع والتهور من اضطراب أسباب الإدارة، وارتباك دولاب العمل. # وماذا علينا من بقاء أولئك الموظفين الأجانب ما دام ذلك مؤقتا إلى حين، وما دام زمام ~~الإدارة العامة في قبضة الرؤساء الوطنيين تحت إشراف الوزير الواضع الخطط والبرامج المنفذ لها ~~المسئول عنها؟ وماذا يهمنا بقاء هذا العنصر الأجنبي ما دام لا حول له ولا قوة، ولا يملك ضرا ~~ولا نفعا، وليس له أن يتصرف في الإدارة العامة حلا وعقدا وإبراما ونقضا؟ # وما أحسب أن هناك شيئا أدل ms088 على حقيقة هذه الحال - الذي نصفها ونشرحها - من ذلك المنشور ~~الذي وزعه وزير المالية على رؤساء المصالح مقررا فيه مسئولية الوزارة، وتوليها العمل بنفسها ~~بطريقة واضحة لا غبار عليها للشك، ولا ظل للشبهة والريبة، وهذا نصه: # إن وزير المالية هو الذي يملي ويراقب السياسة المالية العامة، وهو المسئول نهائيا ~~عن أعمال جميع المصالح التابعة له؛ لذلك يطلب إلى رؤساء المصالح: # أولا: # أن لا يتخطوا السلطة المخولة لهم إلى ما هو من اختصاص الوزير ووكلائه ~~فيما يتعلق بتعهدات تربط الحكومة أو باتخاذ قرارات، أو إبداء آراء قاطعة في ~~مسائل خطيرة. # ثانيا: # أن لا يستعملوا السلطة المخولة لهم ضمن دائرة اختصاصهم فيما قد يكون فيه ~~مساس بالسياسة العامة. # ولما كان يصعب تحديد هذه المسائل بتفاصيلها منذ الآن، فإنه يحسن برؤساء المصالح أن ~~يكونوا على اتصال بوزير المالية - إما شخصيا وإما كتابة - ليأخذوا رأيه في المسائل ~~الهامة التي تعرض لهم. # أتريد المعارضة بعد هذا دليلا على أن الوزارة قد تولت الأمر بنفسها، وقبضت على أزمة الشئون ~~ودفة الأعمال؟ أم تطلب المعارضة برهانا بعدما عرفه الملأ أجمع من قيام معالي وزير المالية ~~إسماعيل صدقي باشا عقب تأليف الوزارة الحالية بفحص ميزانية هذا العام قبل إصدارها ببضعة أسابيع ~~وبحثها وتمحيصها ودرس أصولها، وفروعها وفصولها، على ضيق وقته وفادح أعباء واجباته الأخرى مما ~~لم يعهد في وزير مصري قبله. # وعلى هذا النحو يسير سائر الوزراء في وزاراتهم؛ إذ يأخذون في فحص أعمال تلك الوزارات، ودرس ~~شئون ما يتبعها من المصالح بجد وحد، وهمة لا تعرف الكلل، ولا يعرفها السأم والملل، ليضعوا ~~من خطط العمل وبرامجه ما يمكنهم من الاستقلال التام بأعباء العمل دون أدنى احتياج إلى معونة ~~الموظف الأجنبي مهما علا قدره وسمت رتبته. # أجل، لقد سار الوزراء شوطا بعيدا، وجروا شأوا واسعا مديدا في تولي الأمور بأنفسهم، ~~وإدارة دولاب الأعمال وتدبير دفته - كل في مجاله وميدانه - إدارة الناهض بالثقل، المستقل ~~بفادح العبء والحمل، المحتمل كل ما عسى أن تسوقه إليه عواقب أعماله من التبعات ~~والمسئولية ms089 . # وما لنا لا نعلن الحق ونعترف بالواقع، وذلك أن الشعب عامة وموظفي الحكومة الوطنيين خاصة ~~قد أخذوا يشعرون في عهد الوزارة الحالية بأن يدا حديدية بطاشة كانت تأخذ بمخنقهم قد انسحبت من ~~حول أعناقهم، ووطأة ثقيلة باهظة كانت تضغط على متنفسهم قد رفعت عن صدورهم، وأن كابوسا ~~فادحا كان يجثم على قلوبهم قد رنق جناحيه للمطير ثم حلق، وجذوة حامية كانت تأتج فوق أكبادهم ~~قد خمدت فأطفئت؟ كيف لا وقد كان الموظف البريطاني مهما صغر قدره وانحطت رتبته في العهد ~~السالف المندثر ربما غلب رأيه على رأي الوزير فنفذ برغم إرادة الوزير مشيئته. لقد كنا في ذلك ~~العهد نجزع من أمثال هذه البلايا، ونأسف ونطأطئ ذلة وانكسارا فنسيغ الشجى، ونغضي على القذى، ~~ونتقلب على جمر الغضا. أترانا اليوم لا نزال على هذه الحال أم ترانا نتيه إدلالا، ونشمخ عزة ~~وجلالا، ونرنح الأعطاف فرحا، ونمشي في الأرض مرحا؟ وكيف تجوز المقارنة بين حال كنا نختنق ~~فيها اختناقا مكبلين بأغلال الرق في أضيق سجون الاستبداد الأجنبي، وبين حال أصبحنا ننشق ~~فيها نسيم الحرية في فضاء الاستقلال الرحيب؟ وأين الضعف من القوة، والمهانة من العزة، ~~والوثبة من الركود، والنهضة من الجمود. # شتان ما يومي على كورها # ويوم حيان أخي جابر # في مجدل شيد بنيانه # يزل عنه ظفر الطائر # لا يجعل الجد الظنون الذي # جنب صوب اللجب الماطر # مثل الفراتي إذا ما طما # يقذف بالبوصي والماهر # فما بال أقوام لا يحمدون الله على هذا الفضل العظيم والمنة المضاعفة؟ وما بالهم لا ~~يعترفون بالفضل لذويه ممن ساق الله بواسطتهم وعلى أيديهم هذا الفوز العظيم والنجاح الباهر؟ ~~أو قد خلت قلوب من عواطف الشكر، وأقفرت نفوس من غريزة الإقرار بالفضل والاعتراف بالجميل؟ ~~أم هي برودة الحقد والكراهية قد جمدت ينابيع الأريحة والشعور في قلوب أناس، وعصفات الضغينة ~~والبغضاء القارة القارسة قد ثلجت أنهار الإحساس في نفوسهم، فوقف تيارها وانحبس فيضها؟ # إن أس الفضل والكرم والنبل والشرف والبر والمروءة في هذه الحياة هي شكر النعمة ~~والاعتراف بالجميل ms090 ، وإن أصل الرذائل ومصدر الخبائث، وينبوع المنكرات والمفاسد، وعنوان الضعة ~~والخسة، وشعار اللؤم والنذالة، وعلامة الغدر والفجور هو كفران النعمة ونكران الجميل، ومن ثم ما ~~نراه يملأ الكتب المقدسة من كثرة الحض على شكر آلاء الله ونعمائه والنهي عن جحودها ونكرانها ~~مع شدة غنائه عز وجل عن ثناء العباد، وعدم تأذيه أو تأثره - سبحانه وتعالى - بنكرانهم ~~وجحودهم، ولكنه علم - عز شأنه - أن الشكر مصدر الخير كله فحث عليه، وأن الكفران منبع الشر ~~أجمع فنهى عنه. # وقد قال الحكماء: الأصل في الدنيا أنها هيكل ومعبد يقوم فيه الناس بتقديس شيء واحد ألا وهو ~~«حضرة الرجل الفاضل المخلص الهمام»، وشكر ما يسدي إليهم من غر آلائه وجزيل نعمائه. أجل، إن ~~هذه الدنيا لتنطوي على شيء واحد هو الجدير بحق أن يسمى الإلهي المقدس - إذ هو عنصر كل ظاهرة ~~إلهية مقدسة في هذا الوجود - وأعني بذلك الشيء هو ما يشعر به الناس في أعماق قلوبهم من عاطفة ~~الإجلال والإعظام نحو الأبطال الأماجد في كل زمان ومكان. فهذه الخلة القدسية الإلهية هي ~~الدليل الباهر على سريان روح الله ورضوانه بين ظهرانينا، وعلى وجود ملكوته الأعلى فوق أديم هذه ~~الأرض المستضعفة المنكوبة. # فحيثما خلت الأرض من هذه العاطفة الشريفة - إجلال الفضل والكرم والمروءة في أهلها من عظماء ~~العالم وأبطاله - فقد احتجب نور الله عن هذه البقعة، وقد حيل ما بينها وبين ملكوت السموات، وقد ~~حلت عليها نقمة الجبار ولعنته، بما قد أقفرت من أس المكارم وينبوع الفضائل، وأيما بقعة من ~~أرض الله كان هذا شأنها وتلك حالها، فأي خير فيها وفي أهلها؟ وأي غبطة في معاشرتهم ومجاورتهم ~~أو ثمرة في مخالطتهم ومعاملتهم؟ فقد وجب على البر الكريم أن يغادرها لتوه وساعته واهبا ~~للشيطان الرجيم نصيبه منها ومن أهلها، وعليها وعليهم العفاء ما بقوا وما بقيت كذلك! # جبل الإنسان على الطرب إلى رؤية الجمال والجلال حيث كانا، والفرح بمشاهدة الرائع المليح، ~~والتلذذ بإكبار البارع الفائق غريزة في نفوس البشر، بل إن الإعجاب الصادق الحق لجدير أن ms091 يحرر ~~الروح البشرية - ولو برهة - من أغلال سخافات الحياة، ويصفيها من شوائب خبائثها ودناياها؛ ولذلك ~~قيل: إن الناس يولدن من بطون أمهاتهم عبادا، فهم لا مندوحة لهم عن العبادة حيثما أصابوا لها ~~موضعا، ولقد يطيق الإنسان أن يعبد الشيء الصغير إذا كان حقا، فأما الباطل فذلك ما لا يطيق ~~إجلاله وعبادته مهما أصم الآذان بطنينه الأجوف، واستطار الأبصار بزبرجه المموه، وأي منظر - ~~أصلحك الله - أدعى للرحمة والرثاء من منظر الجماهير والجماعات يزدحمون لإلقاء نظرات الإعجاب ~~والإجلال إلى مواكب الملوك واحتفالات الزعماء، وأمثال ذلك من مظاهر الفخامة المزورة والأبهة ~~الكاذبة؟ وليس في هذه الجماهير المحتشدة والجموع المتكاثفة إلا من تتوق نفسه إلى بذل عواطف ~~الاحترام والإعظام، وأداء فرائض الإجلال والتقديس، ولكن كم منهم يعود أدراجه مطرقا كئيبا ~~يشكو إلى الله خيبة أمله فيما كان قد حسب وقدر، وشدة هبوط ما يبصره من الحقيقة دون ما كان قد ~~تخيل وتوهم؟ # وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات ~~والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه ~~الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب ~~الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي ~~فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم ~~الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ~~هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما ~~تشركون ~~. # إن مذهب الناس في إجلال العظماء لهو في الواقع قطب رحى حياتهم، وعنصر كيانها، وعليه تترتب ~~سائر فروعها وأركانها، وعلى حسبه تتكيف جميع فصولها وأدوارها - سواء في محافلهم العامة ~~وسوامرهم الخاصة وفي مساجدهم وكنائسهم وأسواقهم - فليكن مذهبك في إجلال العظماء أن تحرص الحرص ~~كله على الاهتداء إلى العظيم بحق الصادق البطولة ذي الفضل الخالص لا المزيف، فإنك إن اهتديت ~~إلى ذلك كان إجلالك حرا صادقا، فأدركت الخير كله والبر بحذافيره وكلل النجاح مسعاك، وإن ~~كان إجلالك كاذبا حداك إلى البطل الكاذب فأوسعته إكبارا وإعظاما فذهبت مع الشيطان كل مذهب، ~~وركبت من الضلال كل مركب، واستحققت الإثم كله والشر أجمع، وبؤت بالخيبة والخذلان ms092 والخسارة. ~~ألا فويل للناس إذا عميت منهم قلوب وبصائر فجازت عليهم أخاديع أدعياء البطولة، ثم خفيت عليهم ~~مواطن العظمة الحقيقة فتهافتوا على مظاهرها الكاذبة! إذن لساد الباطل، وفسد الجم الكثير من ~~مصالح هذه الحياة ومرافقها، وحل به الدمار والتلف، وظلت تعبث به أيدي البلي بمرأى من الناس من ~~حيث لا يشعرون بذلك ولا يفطنون إليه؛ ذلك لأن هذه الحياة الدنيا إنما هي دار جد وإخلاص، وليست ~~بألعوبة ولا أخدوعة، ولكن حقيقة من أخطر الحقائق. # قال توماس كارليل: إن الأبطال ما برحوا موضع إجلال الناس حتى في هذه العصور الفاسدة ~~الأخيرة، ولعل الإنسان لم تتحرك في روحه عاطفة هي أطهر وأنقى وأبر وأتقى من إجلاله لمن هو أعظم ~~منه قدرا وأجل خطرا، وما أراني مغاليا إذ قلت إن هذه العاطفة هي الأثر الفعال في حياة ~~البشر أو إنها الأساس الذي تقوم عليه الأديان سواء الوثنيات وما هو أرقى وأفضل من الديانات ~~الأخرى. فهذه الديانة النصرانية هل ترونها في عنصرها وجوهرها سوى إجلال وإعجاب وضراعة وخشوع ~~لذات إنسانية سامية إلهية - ذات أعظم أبطال العالم قاطبة - ذات من لا أسميه ههنا بلساني بل ~~أترك ذلك الغرض المقدس لتأملات الصمت المقدس! # وإذا انتقلنا من الدين إلى غيره من مناحي الحياة وشئونها، ألفينا في جميعها من آيات احترام ~~الصغير للعظيم والدقيق للجليل، ومن مظاهر ولاء الوضيع للشريف ما يماثل عقيدة الإيمان ومناسك ~~العبادة في أمر الدين، وماذا ترى الإيمان الديني سوى عاطفة الاحترام والولاء لنبي أو قديس؟ ~~وماذا عسى تكون عاطفة احترام الوضيع للشريف وولاء الصغير للكبير؟ تلك العاطفة التي هي في ~~الحقيقة روح المجتمع الإنساني وعماده وقوامه إلا صنفا من عبادة الأبطال، وعلى هذا فعبادة ~~الأبطال هي أساس المجتمع وسلك نظام الرتب والدرجات في سلم الإنسانية - ذلك الأساس الذي ~~يقوم عليه صرح العمران، وذلك المحور الذي يدور عليه دولاب التعاشر والتعامل، حتى ليصح لنا أن ~~نسمي مذهب «عبادة الأبطال»: «هيروأركي»؛ أي «حكومة الأبطال» - فالعظماء والأبطال وذوو الرتب ~~والمقامات في الأمة يكونون لها بمثابة الأوراق ms093 المالية تمثل الذهب وتقوم مقامه، وإن اتفق ~~أحيانا - لسوء الحظ - أن يجيء الكثير من هذه الأوراق المالية مزيفا مزورا، فنحن قد نحتمل ~~الأوراق المالية ونعيش بها وإن وجد بينها المزيف المزور، فأما أن يكون كلها مزيفا فذلك ما ~~لا يطاق ولا يحتمل ولا يستقيم به عيش ولا حياة، وإذ ذاك تهيج الفتن وتقوم الثورات، ويهب ~~الناس يصيحون: «المساواة المساواة»؛ إذ تزول ثقتهم في الأوراق المالية الصحيحة أو الذهب - أعني ~~تزول ثقتهم في الأبطال - فيظنون أن البطل المرتفع عن منزلة ~~الاعتياديين من الناس مفقود لا وجود له، وأن عبادة البطل ضرب من الخرافة والخيال، والحقيقة أن ~~صنف البطل وعباد الأبطال موجودة في كل زمان ومكان؛ فهي من العناصر المكونة منها الإنسانية، ~~ولن تزول حتى يزول الإنسان من الوجود. # لقد فشا في هذا العصر الفاسد رأي فاسد، ذلك هو إنكار وجود الأبطال، بل كراهية وجودهم، إذا ~~ذكرت للمرء بطلا من أبطال العالم الذين أنقذ الله بهم الدول والعصور من وهدة الخراب والدمار ~~أخذوا يعيبونه ويتنقصونه وأوسعوه ذما وقدحا، ثم زعموا أن ما يعزى إليه باطلا من البطولة ~~إنما هو في الحقيقة مستعار مما أحاط به من الظروف الخاصة والأحوال النادرة، يقولون: «الوقت هو ~~الذي خلق ذلك البطل، فهو سليل تلك الآونة وابن هاتيك الساعة، ولولا ظرفه الخاص لكان كأي امرئ ~~عادي» - # كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون ~~إلا كذبا ~~- يزعمون أن الوقت هو الذي أعاره ثوب البطولة الوهمي، وأفاض عليه ~~نور العظمة السرابي، وأنه في الحقيقة لا بطل ولا عظيم، وأن كل ما جرى عليه من عظيم المآثر ~~وجليل الفعال ليس من صنعه بل من صنع الوقت. فمتى كان الوقت هو الذي يصنع الخوارق، ويأتي ~~بالمعجزات؟! لقد طالما رأينا الوقت يصيح: أين البطل العظيم، وينادي: هل من فتى همام وفارس ~~ضرغام يقيم أودي، ويصلح مفاسدي، وينقذني مما أنا منحدر إليه من وهدة التلف وهاوية البوار؟ فلا ~~يجد من يجيب دعاءه ويلبي نداءه، ويدور بعينيه في فضاء الله فلا يرى بطلا ولا ms094 عظيما: # إني أغمض عيني ثم أفتحها # على كثير ولكن لا أرى رجلا # وبعد أن يبح النداء صوت الوقت، ويقطع الدعاء حنجرته تخور قوته، وتبيد منته ثم تنهار أركانه، ~~ويتقوض بنيانه، ويعمه الفساد ويشمله التلف والخراب؛ وما ذاك إلا لأن البطل لم يدركه في ساعة ~~محنته وبلائه، ولأن العظيم لم يكن إذ ذاك موجودا، ولم تكن القدرة الإلهية قد خلقته، وأرسلته ~~هدى ورحمة للعالم. # والواقع أن غوائل التلف والفساد ما كانت قط لتصيب عصرا من العصور لو أنه أتيح له رجل عظيم ~~يجمع بين العقل والعزيمة - بين عقل يعرفه حاجة العصر وعزيمة يستعين بها على قضاء هذه ~~الحاجة - فيبلغ بعصره غاية الأمل والمنى، ويصل به إلى مدى الفوز والسعادة. فأما العصور ~~الفاسدة الخربة - المصابة بداء الشك والحيرة والكفر والجحود - فهي في مذهبي أشبه شيء بأكداس ~~الحطب اليابس الميت تنتظر من السماء شهابا يسقط عليها فيذكيها ويشعلها حريقا، وما الرجل ~~العظيم يتاح من جانب الله لمثل هذه الأكداس الذابلة الميتة يحييها ويوقظها إلا ذلكم الشهاب ~~الساطع يؤدي إلى العصر رسالته وينطق كلمته - فإذا فيها شفاء الغلة، وبرء العلة، واتحاد الآراء، ~~واتفاق الأهواء، والتئام العقائد والمذاهب، وائتلاف المقاصد والمشارب - فما هو إلا أن يقع ذلكم ~~الشهاب على تلكم الأكداس المكدسة من الحطب اليابس الميت حتى يتأجج سعيرا، وبعد ذلك يجيئك ~~الجاهل السخيف الغبي، الجامد الطبع، المظلم الروح، الذي لا يفهم معنى العظمة، ولا يفقه سر ~~البطولة؛ فيهزأ ويسخر من ذلك الشهاب الذي أشعل أكداس الحطب الذابلة بشعلة ذكائه الوقاد وجذوة ~~عزمه المتسعر، فيزعم أن أكوام الحطب الميتة هي التي خلقت ذلك الشهاب وأوجدته من العدم، يا ~~للسخف ويا للحماقة!» # ألا إنما يفهم الفضل ذووه ويفقه المروءة أهلها، والبطولة سر لا يدركه إلا من تعرف ~~معناه في صميم قلبه، وتسمع نجواه في ثنايا ضميره. وقدما قيل: إن البطل لا يمكن أن يكون ~~بطلا في عين خادمه، وليس اللوم في ذلك على البطل بل الخادم، ولو نظر الخادم إلى البطل بعين ~~تستمد شعاعها من روح ms095 بطل لعرف بطولته، ولكنه ينظر إليه بروح خادم سوقي عامي من طائفة الطغام ~~والغوغاء. ولهؤلاء مذهب آخر في البطولة يتفق مع نذالتهم ولؤمهم ودقتهم، ومع سفالهم وضعتهم ~~وخستهم، ولهؤلاء أيضا أبطالهم وعظماؤهم الذين يأتون من الأعمال والوقائع ما يعجب نفوسهم ~~الخبيثة وأرواحهم القذرة، فأولئك في نظرهم هم الأبطال والعظماء حقا، ولا بطولة إلا بطولتهم، ~~ولا جرم، فمن ذا الذي قال إن الحشرات تطربها نغمات موسيقى الطبيعة، أو يروعها سنا بهجة النيرات ~~في أبراجها والكواكب في أفلاكها؟ بل الله وعلماء الحشرات أعلم بالذي يطرب تلك المخلوقات من ~~دقيق الأشياء وحقيرها مما لا تراه العين إلا بالمجهر لفرط ضؤلته وخسته. # أما أنه ما بلي جيل من الأجيال، ولا نكب عصر من العصور بآفة هي أنكر وأنكى، وأمر ~~وأدهى من آفة التكذيب بعظمة الأبطال وجلالهم، والكفر بحسناتهم وآلائهم. # أما أنه ليس شيء أدل على سفالة الأفراد والمجاميع، ولا أشهد على لؤم غرائزهم ودقة أخلاقهم ~~وخسة طباعهم، ولا أنم على غباوتهم وجهالتهم وسخفهم وخرقهم من إنكارهم قوة البطل ومقدرته، ~~وإقرارهم للجماهير والجماعات الاعتياديين بالفضل العظيم والعبقرية، من كفرهم بالبطل الفذ ~~النادرة وإيمانهم بالعامة والدهماء، من عماهم عن نور الله المقدس، عن الشهاب الساطع واعتقادهم ~~في أكداس الحطب اليابس الميت؟! # هذا وايم الله الغفلة التامة والجهل المطبق، والخسة والدناءة، ومنتهى الحمق والبلادة، ~~وأقصى غاية الكفر والجحود. فهلا علم أمثال هؤلاء أن الرجل العظيم ما زال منذ بدء الخليقة ~~كوكب الهداية في الظلمات، وزورق النجاة في الغمرات، وسهم الرشد مسددا إلى كبد الغواية، وسيف ~~الحق مجردا على هامة الضلال والعماية، وأنه الشهاب الذي لولاه ما شبت النار في الهشيم، ولا ~~تأجج الحطب ضراما؟ أليس البطل هو مصدر النور تنعكس أشعته على الأجرام المعتمة، وينبوع الحياة ~~تفيض أنفاسه في الأشباح الخاوية المعدمة؟ وهل تاريخ العالم إلا سلسلة حلقاتها نوابغه ~~وأبطاله؟ # ولا يسعنا الآن في مقام وصف الأبطال والبطولة إلا التنويه بذكر بطل من أعظم أبطالنا، وزعيم ~~من أكبر زعماء نهضتنا، وأمهر قواد حركتنا، ذلك هو دولة الرئيس ms096 الجليل حسين رشدي باشا، وكيف ~~يتصدى امرؤ للكتابة عن أبطال النهضة الحالية، ثم لا يدفعه الشعور والواجب إلى وضع صورة هذا ~~البطل العظيم في متحف المجد القومي، ونصب تمثاله في هيكل الوطنية المقدس؟ أو لم يكن في كل ~~شوط من أشواطه الطرف الأغر في حلبة الجهاد والفارس المعلم في كتيبة الكفاح والجلاد؟ أم هناك ~~من ينكر أنه ما زال الجوهرة الكريمة في قلادة مآثرنا، والدرة اليتيمة في تاج ~~مفاخرنا؟ # إن أول ما يروع المشاهد المتأمل من مناقب رشدي باشا ومحامده الجمة العديدة هو ذلك الإخلاص ~~الحار والغيرة الملتهبة، وما لي لا أقول إن ذلك البطل العظيم إنما هو جذوة حمية متقدة وجمرة ~~إيمان متأججة؟ أو لم نره في مواقفه العديدة في حومة النضال عن حقوق وطنه كيف كانت أنفته ~~وإباؤه وشممه وكبرياؤه، وكيف كانت عواطف الوطنية الحادة إذا ثارت في جنانه، وجاشت في وجدانه ~~فتألق وهجها في حر وجهه الكريم، ولمع شعاعها في عينه الصريحة، قذف بها منطقه الشريف في وجه ~~الخصوم جهارا كلمات صدق، وآيات حق لا تسد سبيلها حجب المداجاة والمواربة، ولا تقوم من ~~دونها حوائل المداراة والمصانعة، شأن الذي لا حد لصراحته وإخلاصه. وقدما كان الإخلاص عنصر ~~البطولة وأساسها. أجل، إن الإخلاص الشديد العميق هو - كما قال «كارليل» - أس فضائل الرجل ~~العظيم، ولا نعني إخلاص من لا يزال يعجز أمام الناس بإخلاصه؛ فإن ذلك - وايم الله - عيب ~~ومنقصة، وهو إخلاص سطحي حقير وقح، بل غرور وسفاهة. إنما الإخلاص إخلاص من كان - مثل رشدي - لا ~~يباهي به ولا يفاخر، ولا يكاد يحسه أو يشعر به، إذ كان في نفسه فطريا غريزيا، فهو معدن ~~روحه وجوهر نفسه. # إن ما يبدو لنا صريحا من فرط إخلاصه وعطفه وحبه لأبناء وطنه، وعطفه على أمانيهم، وغيرته ~~على مصالحهم هو ذلك الذي يدنيه منا، ويصل ما بين قلوبنا وقلبه الكبير بأمتن روابط الحب، وأسلاك ~~كهرباء الشعور المتجاوب والإحساس المتبادل، فعينه تنم عن نجوى ضمائرنا ومكنون سرائرنا، ~~وفؤاده يخفق على دقات أفئدتنا ونبضات قلوبنا ms097 ، والرجل المخلص الغيور يراه الشعب فيعرف لأول وهلة ~~أنه فتاه وبطله وبغيته وضالته، وما زال الرجل العظيم يحقق الظنون ويصيب مكانه ومركزه من زعامة ~~الشعب وقيادته؛ إذ يكون مجرد ظهوره كفيلا أن يفسح له المكان اللائق به، ويجذب إليه الأنصار ~~والأعوان، ويخلق له الأسباب والوسائل والعدد والذخائر، فهو في ذلك كالجدول الفياض يخلق بذاته ~~لذاته ضفافه الخصبة المريعة المنتجة المثمرة حيثما جرى وتسلسل. # لقد جاهد رشدي في سبيل الوطن حق جهاده، وأبلى في الدفاع عن القضية أحسن البلاء، وكان في ~~طليعة من عملوا على تحقيق ما قد تم لنا من الفوز والنجاح، وحسبه فخارا أنه أهدف صحته النفيسة ~~الغالية في سبيل بلاده لسطوة المرض، وأبلى في محبة وطنه سربال عافيته العزيزة على جميع ~~مواطنيه، وإن ارتخصها هو - سلمه الله وعافاه - وامتهنها في خدمة مصالحهم، وقد ثبت في الميدان ~~ثبات الصناديد على رغم ما كان يقاسي من برحاء العلة، شأنه في ذلك شأن الفارس المغوار لا يثنيه ~~عن الكر في حومة الوغى ما قد أصابه من طعنات الأعداء، دأبه ذلك إلى أن خرج من المعركة أغر أبلج ~~وضاء الجبين يحمل علم العزة والنصر وما هو أشرف من ذلك وأنبل، أعني جرحه الدامي ~~الأليم. # حيا الله رشدي باشا. # الفصل الرابع # | مناقب ثروت باشا # نقف الآن وجها لوجه أمام شخصية من أعظم ما أنجبت هذه البلاد من الشخصيات الجليلة، نحاول ~~جهد طاقتنا بيان ما أودعت من آيات القوة والنفوذ ودلائل الفضل والحجى، وتحليلها إلى ما يكون ~~مجموعها من عناصر الذكاء واللوذعية، وأسرار النبوغ والعبقرية. هذا ما نرومه الآن وما نحاوله ~~وإن كان فوق قدرتنا الضئيلة وحولنا الضعيف؛ لأنا نعلم أن البطل لا يزال لغزا يعي الناس حله، ~~وأن ما يظهر لنا من مآثره وحسناته ثمار تختفي جذورها في أعماق سر الطبيعة وخفايا مجاهل الأبحاث ~~البسيكولوجية، ونعلم أن تهجم الكتاب والنقاد على شخصية الرجل العظيم - ابتغاء تعرف ~~أسرارها وتحليلها إلى عناصرها - يكون في الغالب كتهافت أسراب الفراش على الشهاب المتقد يبهر ~~أبصارها ويحير ألبابها ms098 ، وقصارها بعد ذلك أن ترتد عن لهيبه الساطع برءوس مطرقة وأجنحة ~~محرقة. # ولكنا على الرغم من كل هذا - وبباعث غريزة الاستطلاع الفني التي تدفع كل فني إلى الجرأة على ~~أعوص مطالب فنه وأبعدها غورا - نحاول الآن أن نجول جولة في عالم هذا النبوغ العجيب، ونسبح ~~سبحة في خضم تلك العبقرية المهيب، لعلنا أن نعود من هذا وذلك بقليل من نفائسهما الجمة وثروتهما ~~الطائلة. # ثروت باشا رجل عظيم قد توافرت فيه شرائط العظمة التي أساسها قوة الشخصية المتسلطة على ~~النفوس والأذهان بسحر الجاذبية، ومن ثم ما يعهد فيه من تفوق ملكة البيان وخلابة المنطق في ~~جميع مراتب الكلام، من أسماها، أعني الخطابة في الجماهير والمحافل، إلى أدناها، أعني التهامس ~~والمسارة. # لقد عرفنا ثروت في جميع أدوار حياته - منذ كان نائبا عموميا وقبل ذلك إلى وقتنا هذا الذي ~~يتربع فيه دست الوزارة، ويدير دفتي الإدارة والسياسة - خطيبا مصقعا، ومنطقيا مفحما، ~~ومتكلما مؤثرا خلابا. لقد عهدناه في كل أدواره ساحر البيان، يقتاد أفكار سامعيه، فيمكنه ذلك ~~من اقتياد إراداتهم، حتى يحبب إليهم من الأعمال والأغراض ما كانوا يستنكرونه - جهلا منهم ~~بفوائده - منذ ساعة، فيحملهم على الارتياح إلى مزاولته بعد إحجام عنه ونفور، وليس بعسير على من ~~بلغ من سحر البيان والخلابة منزلة الرئيس الجليل ثروت باشا أن يلعب بألباب سامعيه، فيقرع بها ~~أوتار السرور تارة وأوتار الحزن أخرى، وآونة يبعث منها رنات الندم والأسف، وآونة صدحات ~~الحبور والطرب، ومثله قدير أن يسل بقوة بيانه سخائم الصدور، ويستأصل جذور الضغائن والأحقاد، ~~حتى يترك العدو صديقا حليفا، والضد صاحبا أليفا، ويملأ القلوب اليائسة رجاء وأملا، ~~والنفوس الموحشة أنسا وجذلا. أو لم تحدث خطبه الأخيرة الرنانة أمثال هذه الآثار ~~الحسان في نفوس الشعب المصري الكريم يوم نزلت على القلوب بردا وسلاما، وبددت ما كان لا يزال ~~عالقا بنفوس الكثيرين من بقايا الريب والظنون والقلق والإشفاق، فكان في آياتها البليغة جلاء ~~الشبهات، وفي حججها الدامغة زوال الظنون، وكانت منفاة الهموم والأتراح، مدعاة المسار ~~والأفراح. # إن مثل الوزير ms099 الجليل ثروت باشا إذا قام يخطب، أو انبرى يتحدث، خيل إليك كأنما يصب تيار ~~روحه الزاخر في أرواح سامعيه فيمتلك نفوسهم، ويستحوذ على ألبابهم، ويقتاد أفئدتهم بأعنتها، ثم ~~يرى نفسه أحق بالخطابة من سائر المتصدين لها - إذ كان أغزرهم مادة وأملئهم وعاء - فينبري ~~للكلام - وإنه لأجدر به وأولى - وإذ ذاك يصغر بجانبه الخطباء ويتضاءلون، ثم يذهلهم فرط السرور ~~بسماع مطرباته عن الاشتغال بإحساسات الحسد والحقد وغيرها من نزعات الأنانية، فيرتاح كل سامعيه ~~إلى التضاؤل في حضرته، ويلذ لهم أن يغمسوا أرواحهم في معين بلاغته الفياضة، ويغمروا نفوسهم ~~برحيق بيانه المنعش. فمثل هذا الخطيب المصقع، والمحدث البارع، يملأ الساعة التي يقضيها ~~بالخطبة أو بالحديث من بدائع آياته، وروائع معجزاته بما يجعلها غرة في جبين العصر، ويترك ~~غيرها من ساعات حياتنا الاعتيادية، وكأنها بالنسبة إلى تلك الساعة الغنية الفياضة ساعات نوم ~~ورقاد. فمن ذا الذي يعجب بعد ذلك لفرط ما أوتي أمثال ذلك الخطيب من التأثير والنفوذ والسلطان ~~على نفوس البشر؟ # ثروت باشا خطيب عظيم ومن أجل هذا كان بطلا؛ لأن قوة الخطابة نوع من البطولة؛ ذلك لأن ~~الخطيب العظيم يقف من جماهير سامعيه موقف المبارز المناجز المستعد لملاقاة كل قادم، فهو قد وطن ~~النفس على أن يكون في كلماته الحارة المتألقة، وفي عباراته الثرة المتدفقة، ما يقنع جميع ~~سامعيه مهما تكاثر عددهم، ويفحمهم ويشفي غليلهم، ويكون فيه الجواب المسكت على كل ما عساه أن ~~يجيش بصدورهم، ويجول في خواطرهم من الشكوك والظنون والأسئلة؛ لذلك ترى مثل هذا الخطيب إذا قام ~~يخطب في المحافل وقف وقفة المشمر المنجرد، المتحفز بقدم متقدمة إلى الأمام، كالذي قد هم أن ~~يزحف على تلك الجموع المحتشدة ويغزوهم، وتلك هي الحقيقة؛ لأنه يزحف عليهم فعلا بجيوش من ~~أفكاره البديعة السامية، ويغزوهم بكتائب من آرائه الجديدة المبتكرة؛ لذلك يجب أن تكون خطبته ~~سابقة في منازل الرقي لأفكار سامعيه أيا كانوا، بل سابقة لأفكار جيله وعصره، وإلا كانت ~~فضولا ولغوا وهراء، ومن ثم كانت الخطبة الجليلة أجدر أن تعد ms100 عملا نافذا من أن تعتبر ~~مجرد كلام وألفاظ؛ إذ هي في الواقع كهرباء العمل والحركة، فهي تنطوي على القوة الدافعة إلى ~~الأعمال - شأنها في ذلك شأن ما يرسمه قائد الجيش من خرائط المواقع والملاحم، وما يصدره من ~~أوامر الكر والفر والدفاع والهجوم - وكذلك الخطيب إما أن يكون قد جاء لأمر عظيم؛ ليستنهض ~~جماهير سامعيه، ويستنفرهم إلى استئصال جيوش الأباطيل والأضاليل، وإلى افتتاح عوالم جديدة من ~~الآراء والأفكار، فتكون خطبته مناداة إلى الغزو وصيحة إلى الجهاد، وإلا فأولى له أن ~~يسكت. # إن ثروت باشا - باعتباره خطيبا مفحما ومتكلما خلابا - يؤثر في سامعيه ويقنعهم، ويحملهم ~~على اتباع رأيه والأخذ بمبدئه، وذلك بفضل ما يجلو لهم من غوامض الأمر، ويحل لهم من مشكلاته، ~~وبإعارته إياهم بصيرته النافذة، ورويته الثاقبة ينظرون بها في نواحي الموضوع وجوانبه، ~~ويتغلغلون بمنظارها الكشاف إلى خفاياه وخباياه فيبدو لهم الأمر على خلاف ما كانوا يعهدون، وعلى ~~العكس مما كانوا يحسبون فإذا السواد بياض، والفساد صلاح، والتنافر وئام، والاعوجاج استقامة، ~~والسوأة حسنة واليأس رجاء. فمثل ثروت باشا إذا شاء إقناع سامعيه وحملهم على ما يريد رأيته ينظر ~~إلى الأمام، ويتجه بنظره البعيد إلى ما سيكون، في حين ترى سامعيه قد جاءوه وهم ينظرون إلى ما ~~كان من الأمر وما انقضى - أعني إلى الماضي وما قد أنكروا من حوادثه وأحواله - فنظرهم بذلك ~~الماضي معقود وفيه محصور، ومن ثم كان قصر نظرهم وضيقه واحتباسه في دائرة صغيرة محدودة يترددون ~~فيها ويتعثرون كالخفافيش في ظلمة الشك والحيرة، وقد يئسوا من استقامة الأمر وصلاحه. أما هو ~~(أعني ثروت باشا) فغير ذلك شأنه - وما كان من زمرة الخفافيش حتى يحصر نفسه في دائرة الماضي ~~الضيقة، ويحبس نفسه في ظلمتها (وإن كان لا ظلمة مع شهاب رأيه الساطع ونجم فكره اللامع) - ولكنه ~~- وهو ذلك النسر الطماح - يضرب صفحا عن الماضي المنقرض الداثر، ويستقبل بعينه الثاقبة شمس ~~المستقبل الباهرة فيصفق في شعاعها البراق جناحيه الطموحين، ويستدر عليهما قطرات أنداء البشارة ~~من مزنة الأمل الصدوق والرجاء المحقق، ويستهبط ms101 آيات الوحي والإلهام من آفاق المستقبل المشرقة، ~~وكذلك إذا استدبر القوم المعارضون أمرهم، وتشبثوا بأذيال الماضي وأعقابه - فأوصدت في وجوههم ~~أبواب الآراء، وأغلقت منافذ الأفكار، وانحبس عنهم فيض الخواطر إلا ما يصوب عليهم من أليم ~~الذكريات مما تكف به سحائب الماضي المنقشعة - رأيت ثروت باشا - ذلك الهمام الطماح العزيمة ~~والأريب الثاقب البصر والروية - يضرب صفحا عن ذلك الماضي، ويعمد إلى معين ذهنه الفياض، وينبوع ~~قريحته المتدفق، فيغترف من ثمة سجال الرأي السديد، والفكر الأنف الجديد، ثم يستطلع نجوم فراسته ~~الصادقة فيتلمس في صحفها المشرقة طوالع السعود، أو يتسقط من شوابك أفنان شجرتها الذهبية أوراق ~~اليمن والبشارة، وحينئذ يقبل على سامعيه فيباغتهم من سوانح إلهام بصيرته، وخطرات وحي بديهته ~~بما يبدد سحائب شكهم وريبتهم، وينفر أسراب خوفهم ووحشتهم، وهنالك يبصرهم من غوامض أسرار ~~الأمر وخفايا دخائله ما لم تكن نظراتهم السطحية لتستطيع من قبل أن تكشف نقابه وتهتك حجابه. ~~هنالك يفيض إناؤه المفعم الملآن في أوعية صدورهم من مادة العلم والعرفان ما يبرز لهم الموضوع ~~في مظهر آخر، وضياء جديد وشكل مستحدث، حتى تراه يفتن ألبابهم، ويسحر عقولهم، ويملؤهم دهشة ~~وعجبا كما لو كانوا زمرة أطفال، فينسيهم أفكارهم القديمة في الموضوع، ويذهلهم عما كان يخالج ~~نفوسهم فيه من فاسد الاعتبارات والأوهام، وكذلك ينتصر عليهم بقوة التكهن والتنبؤ، وقد كانوا ~~يحسبون أنه لا يملك من سلاح الإقناع إلا تكرار البراهين المعروفة المتبذلة، والعبارات المرددة ~~والكلام المعاد. # وإني كلما تأملت ما قد أوتي الرئيس الجليل من قوة الخطابة، وسحر البيان، وخلابة التأثير، ~~تذكرت ما قاله توماس كارليل في وصف ذلك العبقري النابغة نادرة زمانه، ومعجزة أوانه، الشاعر ~~الأعظم البريطاني «روبرت بارنز»، ورأيت أن الناقد المتصدي لوصف ما يمتاز به الرئيس الجليل من ~~الملكات البيانية والخطابية الرائعة لن يستطيع أن يبلغ غرضه بأحسن من ترديده في الرئيس ما ~~قاله سالفا توماس كارليل في بطل أمته روبرت بارنز. # قال ذلك الكاتب الكبير: «كان بارنز آية في خلابة المنطق وسحر البيان، كان حديثه العادي أبدع ~~من ms102 شعره وأفتن من حديث كل من رأيت وسمعت به من سائر الناس.» # شرك العقول ونهزة ما مثلها # للمطمئن وعقله المستوفز # إن طال لم يملل وفي إيجازه # يهوى المحدث أنه لم يوجز # كان حديثه كالسلم الموسيقي قد استوعب درجات النغم من أخفت جرس التحية، وأرق كلم ~~الملاطفة، إلى أرفع صيحة الغضب وأشد صرخة الوجد، ففيه ضحكة الطرب الجذلان، وزفرة الصب ~~الولهان، وإيجاز المجتزئ بإشارته، وإطناب وليم بيت في خطابته. # وقد روت عنه السيدات والأميرات ربات الأدب البارع، والفضل الرائع، أنه كان يزدهيهن بفتنة ~~حديثه، ويستحفهن بخلابة بيانه، حتى يكدن يثبن في الهواء ويطرن في الجو. فهذا وايم الله عجيب. ~~وأعجب منه ما رواه النقادة الجهبذ المستر لوكهارت من أن خدام الفنادق كانوا إذا رقدوا في ~~مضاجعهم للرقاد ورنقت سنة النعاس في أجفانهم، ثم سمعوا صوت الشاعر بارنز يتكلم، وثبوا من ~~مراقدهم فالتفوا به وكلهم إقبال عليه وإصغاء لحديثه، وما لي أعجب من ذلك؟ أليسوا رجالا ~~ينصتون إلى رجل؟ وأعظم ما يؤثر عن بارنز ما رواه لي شيخ مسن - كان من أخص أصدقائه - من أن ~~بارنز ما فتح فاه قط إلا ألقى منه حكمة، قال ذلك الشيخ: «لقد كان بارنز كثير الصمت فإذا تكلم ~~جلى من غوامض الأمر وأنار شبهاته، ولا أدري لماذا يتصدى امرؤ للكلام إذا لم يكن قادرا على ~~هذا.» # إذا قلنا إن ثروت باشا قد حذق فن الخطابة فإنما نعني بذلك أنه قد استكمل أدوات هذا الفن ~~وملكاته - أعني صفاء البصيرة وقوة الذاكرة وحسن البيان ومتانة الحجة والبرهان وحدة ~~الخيال - أي القدرة على إبراز أفكاره في صور طبيعية ناصعة - ويضاف إلى ذلك الإرادة النافذة ~~القوية التي إذا تجملت بالثبات والنزاهة كانت جديرة أن تسمى «الخلق العظيم أو العظمة ~~الأخلاقية»، وتلك هي أسمى مراتب الرجولة. # لا شك في أن السر في نجاح ثروت باشا كمناظر وخطيب - يرجع إلى قوة أعظم من البراعات ~~اللفظية والمحاسن الظاهرية كدماثة الطبع وحلاوة الشيم ورقة الشمائل وعذوبة اللفظ والصوت - ~~يرجع إلى قوة خلقية كبرى وملكة ms103 وجدانية عظمى - أعني الإخلاص والإيمان ورسوخ العقيدة - بما ~~يدافع عنه ويحاول إثباته من النظريات والمسائل؛ فهو يقبض على ناصية نظريته، ويعتنقها أشد ~~اعتناق وأحره، والحرارة - نتيجة الإخلاص والإيمان - هي العامل الأكبر في قوة الخطابة ونجاحها. ~~فإذا أردت أن تفلح في خطابتك فكن كالرئيس الجليل، غير متعرض إلا لما أنت به عالم وموقن وخبير، ~~وكفيل أن تحتمل تبعته ومسئوليته، وتقدم عنه أوفى حساب وأدقه. فإنما الخطابة والبلاغة أن تعمد ~~إلى الحقيقة الخطيرة الجائلة في وجدانك، فتترجمها إلى أفهام سامعيك بأقرب لغة، وأعلقها ~~بأذهانهم، وأوقعها في نفوسهم، ولا مراء في أن هذه القدرة العظيمة - هذه الكيمياء العجيبة التي ~~تستطيع أن تحول الحقائق المنقوشة بلغة الخالق على صحف الضمائر المرقومة بالقلم العلوي في ~~سجلات السرائر إلى حقائق مؤداة بلغة سامعيك من الجماعات والأفراد - لهي أبدع سلاحا طبع في ~~مسبك الصانع الأجل والصيقل الأعظم. # لا نعني بلغة الخطيب التي ينقل بها أفكاره إلى أذهان سامعيه مجرد ما يفوه به من الألفاظ ~~والعبارات - وهذه أحقر وسائل تأديته، وأيسر وسائط إبلاغه - وإنما نعني ذلك التيار الروحاني ~~المنبعث من ينبوع نفسه، والسيال الكهرباء المنبث من جهاز أعصابه، وكما أن القائد العظيم يحرز ~~النصر لا بكثرة الوقائع والملاحم ولكن بفضل ما يدبره من الحيل والمناورات فكذلك الخطابة ~~والمناظرة هي حرب أفكار وأرواح؛ فالألفاظ المنطوقة هي أضعف عناصر الخطبة وأقل أجزائها، وإنما ~~الأساسي الجوهري الذي عليه المعتمد والمعول هو موقف الخطيب وما تنم عنه هيئته وصوته ~~ونغمته وحركاته وشمائله من قوة رجولته وسمو همته، ومن أنه يحمل بين جنبيه روحا أجل وأعظم من ~~روح المخاطب. # هكذا شأن فحول الرجال الذين يصولون في ميادين الخطابة والمناظرة بقوة شخصيتهم الهائلة، ~~ويسيطرون على النفوس بسلطان الروح النافذة الباهرة، والطبيعة الغلابة القاهرة، وبهذه وتلك ~~يحرزون الظفر وينالون الغنيمة، وقد روي عن روبسبيير - أحد الثلاثة الزعماء المعروفين في عهد ~~الثورة الفرنسية - أن سامعي خطبه من الجماهير والجماعات كانوا لا يكادون يفهمون كلماته ولكنهم ~~- كانوا على الرغم من ذلك يفهمون في خطبه الرنانة ما هو ms104 أعظم وأخطر من ألفاظها وعباراتها - ~~كانوا يفهمون ما أودعت تلك الألفاظ من حرارة الوجدان ونارية الشعور والعاطفة، وكانت عدوى هذه ~~الحرارة والنارية تنتقل إليهم وتسري في أعصابهم وتشيع في جوانحهم، وهل يريد الخطيب نتيجة أعظم ~~من هذه أو أثرا أشد وأبلغ؟ # مثل هذا النوع من الكلام والخطابة - وإن كان أثره الفعال مضمونا محتوما - قد يكون من ~~الزور والباطل، وقد أريد به التمويه والتضليل، واتخذ سبيلا إلى الفساد ومطية إلى ~~الشرور والرذائل. نقول: قد ينجح مثل هذا الكلام الخلاب المؤثر في النفوس بسلطان شخصية باهرة ~~لكنها غير مخلصة، ولكن نجاحه لا يكون إلا مؤقتا؛ لأن الأكاذيب والأباطيل هي - كما قلنا غير ~~مرة - رهينة بالزوال والفناء قد كتب لها الموت، وصدر عليها حكم الإعدام في محكمة الأزل مهما ~~طال عمرها وتراخت مدتها. فأنت إذا بنيت خطابتك على أساس من الباطل، وكانت مقدمة قياسك المنطقي ~~أكذوبة، فمهما استعملت بعد ذلك من خلابة اللسان وسحر البيان، ومهما أثرت في سامعيك بحرارة ~~العاطفة ونارية الوجدان، وبهرتهم بقوة الروح القاهرة وغلبة الشخصية الباهرة، فإنك لن تصنع ~~شيئا، ولن تحدث في عالم الحقيقة أثرا، وتكون إنما انتهيت من حيث ابتدأت، وما كان امرؤ قط ~~ليستطيع بأكمل عدد الفصاحة، وأمضى سلاح البلاغة أن يرفع إلى ذروة الحق من فنون الباطل ما ~~تراه يهبط بطبيعته إلى الوهدة ويهوي إلى الحضيض. # أما الفوز الدائم والنجاح النهائي فذلك نصيب البارعين المخلصين، والحاذقين الصادقين - أمثال ~~الرئيس الجليل - ممن جمعوا بين رجاحة العقل ونزاهة النفس، بين حدة الذكاء وشدة الغيرة ~~والتضحية، بين الملكات الذهنية والفضائل النفسانية، بين سمو الفكر والروح معا وصفاء الذهن ~~والقلب جميعا. # لقد بلغ ثروت في براعة الخطابة والبيان منزلة أصبح معها مليئا أن يقتاد أعنة قلوب سامعيه ~~فتذعن إليه وتعنو، فهو المسيطر على نفوسهم المتحكم في عواطفهم ووجداناتهم، وقدما قيل: ليس ~~الأمير من لبس التاج وجلس على الأريكة، إنما الأمير من عرف كيف يحكم النفوس ويسيطر على ~~الأفئدة، وكأني بالرئيس الجليل يستطيع بحدة ذكائه أن ينفذ إلى أعماق القلوب ms105 عليما بذات ~~الصدور، مطلعا على مكنوناتها، طبا بأدواء النفوس خبيرا بأمراضها وعللها، قديرا أن ~~يداوي هذه العلل والأدواء بخلابة القول، لديه - لكل جرح بلسم من فتنة اللفظ، ولكل كلم مرهم ~~من روائع الكلم - فنون شتى من البيان تعالج بها فنون شتى من آلام النفس والجنان، ولا عجب ~~فلقد يؤثر عن «أنتيفون» اليوناني - أحد الخطباء العشرة الذين روى «بلوتارك» أنهم أقطاب ~~الخطابة في العالم - أنه نشر في أتينا إعلانا عن نفسه قال فيه: «إني مستعد لتطبيب أمراض الذهن ~~بالكلام، ومداواة علل النفس بالألفاظ.» وليس ذلك بمستحيل، وقوة سلطان الكلام معروفة مجربة في ~~كل زمان ومكان منذ كان الإنسان، وآثار الألفاظ في التسلط على الأمزجة والعواطف والإحساسات، ~~وفي العقائد والأفكار والمذاهب وتكييفها وتشكيلها حسب أميال المتكلم، وفي قلب كيان الأذهان ~~والنفوس في الأفراد والجماعات، بل قلب كيان الدول والممالك، تعد من قبيل الخوارق والمعجزات، ~~وهل ترى - أصلحك الله - ما يسمونه الرقى والتعاويذ والنفث في العقد - الذي نزلت فيه آية ~~الكتاب الحكيم إذ يقول جل شأنه: # ومن شر النفاثات في ~~العقد ~~- وغير ذلك من ضروب السحر وفنونه، شيئا سوى الألفاظ والكلمات؟ وهل رأيت ~~رجلا بلغ من النعيم أقصاه، ومن الصفاء والرغد منتهاه، فوثق بالحظ وأمن من طوارق الحدثان، وأخذ ~~على القدر الميثاق ومن الدهر الأمان، إلا كان في استطاعتك - إن كنت ممن أوتي سحر البيان - أن ~~تبدد ثقته وتذهب طمأنينته، وتورثه القلق والإشفاق باللفظة تنبذها في سمعه، والكلمة تلقيها في ~~روعه؟ أفلم يرو لنا التاريخ أمثال هذه الحال عما كان يحدث بين الملوك ووعاظهم من العباد ~~والنساك، إذ كان يطلع الناسك على الملك العظيم وهو منغمس في غمار اللذات والملاهي فيرميه ~~بالكلمة من الوعظ فإذا هو قد أفاق من غمرته، وهب من رقدته، ثم أطرق فاعتبر، وارعوى فازدجر؟ ~~ألم نقرأ أمثال هذه الأخبار عن كسرى والسائح، وعن النعمان وعدي بن زيد، وعن المنصور وخالد بن ~~صفوان؟ وعلى العكس من هذه الحال، أي كارثة عظيمة أو فاجعة أليمة تنوب الفتى فلا يكون في مقدرة ms106 ~~المنطق الخلاب أن يشرع في تسكين حدتها وتلطيف سورتها. وقد عرف أفلاطون البلاغة بأنها «فن ~~سياسة العقول، وتدبير حركات النفوس.» أليس في استطاعة البلاغة أن تغير في ظرف سويعات ما شيدته ~~الحقب والأجيال من العادات والأخلاق والعقائد؟ # وكذلك قد يبلغ من سيطرة الخطيب العظيم - مثل ثروت باشا - أن يصبح جمهور السامعين بين يديه ~~كالآلة الموسيقية بين يدي المطرب البارع - فهو يعزف على أوتار القلوب كما يعزف المطرب على ~~أوتار آلته، ويستثير من أفانين الإحساسات والعواطف من جمهوره أمثال ما يستثيره المطرب من ~~أفانين الأصوات والألحان من معزفه - فتارة يسكن ثائرة غضبهم ويطفئ نيران وجدهم ويرد شارد ~~حلمهم وعازب رشدهم بتهدئة خواطرهم وطمأنة قلوبهم، وأخرى يهيج حميتهم ويجرد عزيمتهم وهمتهم، ~~يبكيهم آنا وآنا يضحكهم، إذا شاء لوى بالطرب أعناقهم وشق بالفكاهة أشداقهم، وإن شاء استذاب ~~بالعظات عبراتهم واستثار بالحكم والأمثال زفراتهم، وكذلك تراه يستولي على قلوبهم، ويستحوذ على ~~شعورهم، ويتملك إرادتهم ومشيئتهم فتكون طوع بنانه، ورهن إشارته فمهما أمرهم به يأتمرون، ومهما ~~كلفهم يتحملون ويتجشمون، ولو كان اقتحام النار وخوض اللجج والغمار. أو لم يأتك نبأ بونابرت ~~حينما ترك منفاه في جزيرة «ألبا» قافلا إلى باريز حتى إذ نزل أرض فرنسا، وسار يؤم العاصمة في ~~نفر قليل من محبيه وبطانته، لقيتهم جيوش عدوه لويز الثامن عشر الذي كان قد تبوأ الأريكة ~~الفرنسية بعد اعتزال نابليون، فما هو إلا أن رأت تلك الجيوش الجرارة شخص بونابارت وسمعوا صوته ~~حتى خضعوا له وأذعنوا، وحيوه تحية الإكبار والإجلال يدعونه إمبراطورهم ومالك رقابهم وأرواحهم، ~~ثم انضموا إليه وانضووا تحت لوائه وساروا في قيادته يؤمون باريز، وإذ ذاك بهت لويز الثامن ~~عشر وزلزل به وسقط في يديه وفر من وجه نابليون «يحتث أنجى مطاياه من الهرب»؟ # مثل هذه السيطرة الخطابية والتسلط بقوة البيان على أرواح الأفراد والجماعات - شبيهة بما ~~يؤثر عن سلطان الموسيقى وتأثير النغمات وتحكمها في شعور سامعيها وفي عواطفهم وإراداتهم - ~~كالذي يروى عن «أورفيوس» وداود وغيرهما من نوابغ الموسيقيين أنهم كانوا يجتذبون إليهم بقوة ms107 ~~عجيبة من قبيل قوة الجاذبية الطبعية جميع الكائنات ما بين حي وجماد من إنسان وحيوان داجن ~~ووحشي، ومن سبع ضار وضيغم فراس وحشرة وهامة، ومن شجرة ونبات وصخرة وجلمود. أو كالذي يروى عن ~~المطرب «ميودون» كيف لما حرك برخيم النغم أوتار مزهره في بعض المآتم استطاع أن يسحر عقول حملة ~~النعش، ويفتن ألبابهم بقوة تأثيره حتى ذهلوا عما هم فيه وبعرضه من شعائر الجنازة، وانبروا ~~يرقصون حول نعش الميت. # إن الخطيب البارع والمحدث الرائع لا يحتاج إلى جرس يلفت إليه الناس وينبههم إلى مكانه، ~~ويشعرهم بنفاسة أقواله، كما أنه لا يحتاج إلى بوليس يقوم بمهمة توقيف الناس حوله وتثبيتهم ثمة ~~بالقوة الجبرية ومنعهم من الانصراف قبل تمام الحديث أو الخطبة؛ ذلك لأن الحديث العذب والخطاب ~~الشيق يجذب بطبيعته الخلائق ويحجزهم بلا واسطة تشويق أو ترغيب، وكأني بالوزير الجليل ثروت باشا ~~- من ملك أعنة البيان وفقه أسرار الخلابة - إذا انبرى يتحدث أو يخطب استدرج الشيوخ من ~~مجالسهم، والفتيان من ملاهيهم، والصبية من ملاعبهم، والمرضى من مضاجعهم، وأثبتهم حوله مغلولين ~~بأوثق قيود من الفتنة والطرب فسلبهم أرجلهم حتى لا ينصرفون، وسلبهم ذاكرتهم حتى لا يتذكرون أهم ~~أشغالهم وأقدس واجباتهم فتشغلهم عن كلماته وتلهيهم، وسلبهم عقائدهم حتى يكون إيمانهم بأقواله ~~خالصا صريحا لا يشوبه رأي مخالف، ولا تعارضه أفكار منافية أو نظريات مضادة. # وقد حدثنا المؤرخ اليوناني العظيم «بلوتارك» قال: «لما سأل «أرخيداموس» ملك إسبرطة ~~«ثيوسيد يدس» عن صراعه مع «بيريكليز»: أيهما كان أشد بأسا وأصعب مراسا وأقهر لخصمه وقرنه؟ ~~قال «ثيوسيد يدس»: «إني كلما صرعت بيريكليز ووسدت جنبه الثرى أنكر ذلك وجادل فيه وتمارى، ~~واستطاع بخلابة لسانه أن يحمل الناظرين والشهود على تصديق مزاعمه مروجا لديهم الزور ~~ومحقا الباطل.» ولما سمع فيلب ملك مقدونيا وصف إحدى خطابات «ديموسطين» وقوة تأثيرها قال: ~~«أما والآلهة لو كنت شاهده لاستطاع أن يحملني على إعلان الحرب ضد نفسي وتجريد السلاح لقتالها.» ~~ولما قام الخطيب البريطاني «بيرك» في البرلمان الإنكليزي فألقى خطبته الطنانة في اتهام «ورين ~~هتستن ms108 » حاكم الهند إذ ذاك قال ذلك المتهم مع اعتقاده براءة نفسه من التهمة: «لقد بلغ من فرط ~~تأثري بكلمات «بيرك» أني لبثت أثناء خطبته أعتقد أنه ليس على وجه الأرض آثم أشنع مني جريمة ~~وأفظع جناية.» # لقد رأينا ثروت باشا في أحاديثه وخطبه يجمع إلى الخلابات اللفظية المحضة، والبراعات ~~البيانية البحتة، مزايا أجل من ذلك وأشرف - أعني العناصر الروحية والقوى الوجدانية من إخلاص ~~وغيرة وصدق إيمان وتضحية - وهذه هي التي تكسب الخطبة أو الحديث صفة الجزالة والفحولة ومزية ~~الجلال والعظمة، وتطبعها بطابع المجد والخلود. فإذا خلت الخطبة من هذه الصفات العظيمة ~~والميزات الجليلة، واقتصرت على الخلابات اللفظية والبراعات البيانية، كانت فائدتها وقتية ~~وأثرها سريع الزوال، وكان قصارى فعلها أن تسترق الآذان بحلو اللفظ وعذب الكلام، وتلذ ملكة ~~التصور والخيال فتكون بمثابة ملهاة ومسلاة ليس إلا. فهي وإن أثرت أشد الأثر في وقتها وساعتها ~~فليست تعدو كونها خدعة وشعوذة لا يلبث أثرها أن يضمحل فيزول، فهي أشبه شيء بصوت الآلة ~~الموسيقية تمر في الطرقات والشوارع فتحرك خيال المارة وتثير عواطفهم، وتتركهم وكأنهم ~~شعراء لحظة من الوقت ريثما ترن في أسماعهم نغماتها، ولكنها لا تلبث أن يزول أثرها من النفوس ~~متى تحولت إلى الحي المجاور؛ لذلك أرى أن اللسان الطلق الذليق إذا لم يكن من الحدة بحيث لو ~~يوضع على الشعر لحلقه وعلى الصخر لفلقه، ولو لعق النجم لمحاه، أو القمر لطواه، لكان أقصى ~~جهده أن يحدث نشوة لا تلبث أن تزول، وغاية ما يستحقه أن يدرج في عداد المسكرات والمخدرات ~~كالأفيون والخمرة، ولكان أحسن علاج يتقى به تأثيره سدادات القطن تجعل في المسامع، أو قطع ~~الشمع التي جاء في أساطير اليونان أن «يولوسيس» سد بها آذان نوتية سفينته حينما كانت تمر بهم ~~على جزيرة الساحرات اتقاء ما خشيه عليهم من فتنة أصواتهن وسحر ألحانهن. # هذا النوع من البيان السطحي هو شيء خلاف ما قد امتاز به ثروت باشا من قوة البلاغة الحرة ~~الصادقة، وإني أرى فرقا ما بين الصنفين كالذي بين ms109 رشاش الفوارة الصناعية الذي لا يكاد يتصاعد ~~حتى يتهاوى، ولا تكاد تتلألأ على لبات الضحى قلائده حتى ترفض حباته وفرائده، وبين البحر الخضم ~~في دوافق موجه ودوافع لجه، تجيش فيه زواخر عبابه، وتقصف في حجرتيه زماجر عجاجه وصخابه، ويكمن ~~في أعماقه نفائس أعلاقه، ويستكن في ضميره روائع ودائعه وبدائع بضائعه. وكذلك شأن الخطيب السامي ~~الدرجة في مراتب البلاغة، وهذه صفات من تسنم ذروة البيان، ونزل من الفصاحة في الغارب والسنام، ~~وتلك لعمري مزية نادرة وغاية بعيدة المنال تتقطع من دونها أنفاس البراذين، ولا يدرك مداها ~~إلا الكرام العتاق: # وابن اللبون إذا ما لز في قرن # لم يستطع صوت البزل القناعيس # وإنما نال ثروت باشا هذه الغاية، وبلغ هاتيك المرتبة، بفضل ما اجتمع له من خلال قلما ~~اجتمعت إلا لواحد في جيل وفرد في أمة - وهذه هي العقل والدهاء والعزم والحزم وقوة الإرادة ~~والغيرة والإخلاص والشغف بالحق والهيام بالحقيقة، يعزز هذه خلابة المنطق وحسن البيان ودماثة ~~الطبع ورقة الشمائل - هذه الخلال إذا استكملت في رجل تكون فيه من مجموعها تلك القوة ~~العجيبة النادرة المسماة «فتنة الجاذبية الروحية وسحر السيطرة الشخصية»، ومن كان هذا شأنه فذاك ~~خليق أن يرجح بسائر أهل جيله، وخليق أيضا أن يتغلب على كل أمر وحادث، فإذا صادفته ~~المعضلات والمشاكل صادفت فيه فكاك عقدها وحلال ألغازها، وإذا لاقته المحن والكوارث لاقت ~~فيه فتاكها وفراسها، ويتلقى منه الرجال جلمود صدام يصكهم فيسحقهم، ومقذف رجام يرضهم فيمحقهم. ~~مثل هذا البطل يكون كفؤا لكل حادثة وكارثة ولكل أزمة وشدة. فأين الرجل الاعتيادي - مثلي ومثلك ~~- من ذلك البطل في ساعة الروع والخطر وقد حسرت الداهية الدهياء من نقابها، وكشرت المحنة ~~النكراء عن نابها؟ قل لي ماذا تصنع إذا وجدت نفسك وسط زوبعة على كواهل أمواج كالجبال في بحر ~~جموح الموج مجنون العباب، وحولك أناس قد طاش الذعر بألبابهم، وطار الرعب بقلوبهم؟ أكنت ~~مطيقا أن تسترد عازب ذهنك، وتربط نافر جأشك، ثم تستلم مقاليد بيانك، وعنان لسانك فتصرفهما ~~بحزم وحكمة في طمأنة أفئدة ms110 أولئك الجازعين الهالعين، وتسكين خاطرهم توسلا إلى النجاة من ذلك ~~الخطر؟ وإذا رمى بك الحظ السيئ في أيدي لصوص أو جمهور ثائر أو أغوال من أكلة اللحم الآدمي ~~فماذا تصنع؟ وكيف تلتمس المخرج والمنفذ؟ وإذا أوقعك القدر في يد فاتك من قطاع الطريق ~~فهم أن يسلبك مالك وروحك فماذا أنت صانع؟ أتراك تعرف كيف تخرج من هذا المأزق الضنك بفضل قوة ~~الذهن، وشدة العارضة، وذلاقة اللسان، وخلابة المنطق، مثلما كان يفعل رجل كمعاوية أو ابن العاص ~~أو طاهر بن الحسين أو صلاح الدين، أو مثل الإسكندر أو يولوس قيصر أو القائد «مالبرة» أو البرنس ~~دي كونديه أو محمد علي أو نابليون؟ (ليس من شأني أن أتصدى لإلحاق ثروت باشا بهؤلاء الأبطال، ~~فإن ذلك موكول إلى حكم التاريخ في قادم الأجيال، وإن كان لا يسعني إلا الاعتراف والإقرار بأني ~~آنس في شخصية الوزير الجليل عنصرا من تلك الفحولة وجذوة من لهيب هاتيك البطولة). # لا شك أنه متى طلع اللص قاطع الطريق على أحد ممن سمينا من أولئك الأبطال، أحس في الحال أنه ~~قد لقي من هو أشد منه بأسا وصولة، وقال في نفسه: «إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا.» ولا عجب، ~~فما أعظم الفرق والتفاوت بين الرجل والرجل في قوة الوجه! ألست ترى الرجل يتغلب على الآخر ~~بتفوق الأول على الثاني في قوة العين وحدة اللحظ فيبهره بذلك حتى يحيره ويربكه؟ أو ما ~~سمعت بالرجل كيف يستطيع - برباطة الجأش وجرأة الجنان وبالثقة بالنفس واستشعار سيما العزة ~~والعظمة - أن يخضع الرجال ذوي المنزلة والمكانة والصولة والنفوذ والجاه فيقودهم ويسودهم، ~~ويرأس ما شاء من الشيع والأحزاب فربما عزل الملوك وألغى الدساتير وقلب الدول والممالك؟ وإني ~~لا أشك في أن مثل نابليون بونابرت أينما وضعته، وفي أيما زمان أو مكان ألقيته، فلا بد أن يسود ~~ويقود وينفذ كل ما شاء وأراد، وقد كان يولوس قيصر في أيام صباه وقع في أسر جماعة من القرصان، ~~فماذا كان منه؟ لقد ألقى بنفسه في سفينتهم، ثم ما ms111 لبث أن أكد بينه وبينهم أمتن روابط الصحبة ~~والألفة، وكان يحدثهم القصص والنوادر تارة ويلقي عليهم الخطب تارة أخرى، فإذا رآهم لا ~~يهللون إعجابا ولا يصفقون طربا هددهم بالإعدام شنقا (وقد نفذ فيهم هذا الوعيد فيما بعد ~~حينما صار قيصرا) ولم تك إلا مدة قصيرة حتى أصبح زعيمهم وعميدهم. # مثل هذا الرجل معصوم في جميع أوقاته وحالاته من آفة الاضطراب والارتباك والدهش والحيرة، فهو ~~لا تنفد من يديه أوراق اللعب الفائزة، فإذا ألقى الورقة فكسب «الطابق» لم تستطع أن تقول هذه ~~آخر ورقاته؛ إذ لا يزال لديه عتادا من السلاح وذخيرة من القوة. مثل هذا الرجل يستطيع - كما ~~قلنا - أن يقلب كيان الدولة، ثم تصبح أحاديثه ضربا من المعجزات والخوارق، وأجل معجزاتها ~~أنها تؤثر في سامعيها فتنة وسحرا، حتى يولونه على مجرد السماع به أعظم الثقة وأكملها، ~~وبذلك يتأتى له أن يغير وجه العالم، وحينذاك يسعى في خدمته، ويقوم بترديد صدى مساعيه الشعر ~~والنثر والتاريخ، وتنشأ المذاهب الفلسفية الجديدة؛ لتعليل سبب وجوده وحكمة حياته وأعماله. إن ~~ميزة هذا الرجل هي تمام مقدرته على امتلاك عواطفه ووجداناته، ولكن سر تغلبه وسيطرته أدق ~~وأعمق من هذا؛ ذلك هو سريان قوة الطبيعة بلا عائق وجريانها وانطلاقها بلا عقبة أو حائل من ذهنه ~~وإرادته إلى يديه، فالرجال والنساء لعبه وآلاته، وحيثما وجدوا فثمة له مصدر حيل إلى مراميه ~~وذرائع إلى أغراضه، وما أحسن قول لوثر حيث يقول: «إنما الرجل من أجاد الكلام.» فأمثال هذا ~~الرجل كانت ولايات اليونان تستهدي وتستورد من ولاية «إسبرطة» (أوفر الولايات نصيبا من الفحول) ~~حينما كانت تحتاج إلى قائد. # وإذا ضربنا صفحا عن فحول الرجال من الملوك والقواد وأهل الحرب والقتال؛ ألفينا في ساحات ~~السلام ومناديح الأمن والسكينة فحولا أيضا، لا يقلون عن أولئك جزالة وقوة وسلطانا على ~~الأنفس، وسيطرة على العقول. فهؤلاء وإن لم يعتلوا مسرح الحرب والسياسة، أو يتصدوا لزعامة أو ~~قيادة، وكانت صناعاتهم عادية، ومناهج عيشهم سلمية مدنية، تراهم مع ذلك يؤثرون أينما حلوا ~~تأثير الشعاع المنعش ms112 ، أو الزمهرير المرعش، وإذا نطقوا أصيخ لهم وإن لم يكن نطقهم إلا همسا ~~ونبسا، وإذا خطوا قصدوا وسددوا، وإذا فعلوا أحسنوا وأجادوا، ثم يكون عملهم قدوة تنتحى ~~ومثالا يحتذى، وهؤلاء الفحول يلقون في أخفض منازل المجتمع مثلما يلقون في أرفعها ~~وأسماها. # فأساس الملكة الخطابية في جميع الحالات - وعلى اختلاف شئون أربابها وأعمالهم وحرفهم ~~ومراكزهم - هو قوة الشخصية وشرف النفس وسمو الهمة؛ ولذلك ترى الأمم والشعوب إذا احتاجت إلى من ~~يمثلها أمام الخصوم، ويمثل أمانيها وأغراضها، ويطالب برد حقوقها، عمدت إلى من كان من بين ~~أفرادها أقواهم شخصية، وأعظمهم روحا، وأجزلهم حظا من صفات الرجولة وخلال الفحولة - كالحزم ~~والرزانة والحلم والأرب والحصافة والجرأة والشجاعة مع سمو المركز الاجتماعي - جاعلة اهتمامها ~~بهذه المزايا الأخلاقية النبيلة، والسجايا الرجولية الجليلة، أشد من اهتمامها بالكفاءات الفنية ~~- كالخبرة القضائية مثلا أو غزارة العلم بالقانون الدولي والتجاري أو التفقه في العلوم ~~الاقتصادية والسياسية - وإلى النوع الأول من الصفات والمزايا - أعني صفات الرجولة والفحولة - ~~كانت ترمي الأمة المصرية - أعني ذوي الرأي والمكانة وأولي الفضل والكفاءة والوزن والجاه منها ~~- حينما عمدت إلى اختيار الرئيس الجليل ثروت باشا؛ ليمثلها لدى الخصوم، ويكون النائب والوكيل ~~عنها في المطالبة بحقوقها وتحقيق أمانيها، ولقد صدق ظنها وصحت فراستها، وأصبحت تحمد مذهبها في ~~اختيار ذلك البطل حينما حقق شطر أمانيها، وبات ساهر الجفن، قلق الضلوع، متوقد الأحشاء في تحقيق ~~ما بقي من آمالها. فطوبى للأمة المصرية ومرحى! لقد علمت وعلم العالم أجمع أنها حينما اختارت ~~ثروت باشا للدفاع عن قضيتها والمطالبة بحقوقها قد اختارت الرجل الذي إذا نادى بالخصوم أسمع، ~~وإذا ناظر أقنع، وإذا خاصم أفحم، وإذا ناوأ أرغم: # من يساجلني يساجل ماجدا # يملأ الدلو إلى عقد الكرب ~~••• # كادوا وكدت فأزهقت ما دبروا # إحدى هناتك أيما إزهاق # إن السر في نجاح خطة ثروت - بفضل قوة تأثيره وإقناعه في خطبه وأحاديثه - هو ارتكاز ~~كلامه على أساس الحقائق الثابتة، ولا مراء في أنه ما كان للرئيس الجليل، ولا لأي خطيب أو ~~مناظر كائنا من كان، أن ms113 يبلغ ما يريده من التأثير في معارضيه وإقناعهم بمجرد الملكات ~~الكلامية، ما لم تستقر في جوف كلامه حقيقة صلبة مادية، وقياسا على هذا نقول: إن ثروت باشا ~~خطيب عظيم؛ لأنه يرمي في أثناء خطبه بالحقيقة تلو الحقيقة، أو كما يقول أهل المجاز لأنه يصيب ~~المحز ويطبق المفصل، ويقرطس الفرض، ويصمي كبد الحقيقة، وله بعد ذلك ما يسمونه ملكة التعميم ~~- أي استخلاص الكليات من الجزئيات والقواعد من المفردات - فهو يستنتج أثناء كلامه المنسجم ~~الفياض القاعدة والقانون، ينير به جو المناقشة، ويجلي به ظلمة الشك والشبهة في أوجز اختصار، ~~وأسرع إيماء كأنه لمحة البرق في غاشيات الضباب: # كم حومة للجدال فرجها # والقوم عجم في مثلها خرس # شك حشاها بخطبة عنن # كأنها منه طعنة خلس # ثروت باشا هو الرجل الذي يشتمل على الحقائق الخطيرة، ويعرف كيف يلقي بها في روع المخاطب ~~ويقذفها في جنانه - يعرف كيف ينقلها إلى وجدان المخاطب سواء أشاء المخاطب أم لم يشأ - ويحمله ~~على الاقتناع بصحتها والاعتقاد بها بالكره منه وعلى رغم أنفه، وكم من رجل يشتمل من الحقائق ~~الخطيرة على مثل ما يشتمل عليه ثروت باشا، ولكنه يعجز عن نقلها إلى قلوب معارضيه وعن حملهم على ~~الاعتقاد بها! وإنما ميزة الرئيس الجليل أنه يعرف كيف يهتدي إلى ذلك المسلك السري، والمنفذ ~~الخفي الذي يوصله إلى كل قلب مغلق، وجنان موصد من أفئدة معارضيه ومناوئيه، وكل معارض في ~~حقيقة من الحقائق، مكذب بها، مغلق دونها باب قلبه، مهما حاول الفصحاء والبلغاء إيلاجها في ~~ذهنه، وإقرارها في ضميره بمختلف أساليب البيان وشتى وسائل الفصاحة. فاعلم أنه يوجد في أسرار ~~البلاغة أسلوب إذا وضعت فيه تلك الحقيقة كان كفيلا أن ينفذ بها إلى فؤاد ذلك المنكر ~~المكذب مهما تحصن دونها بأكثف مجان الجحود وأصفق دروع المعارضة. نعم، قد يتاح لهذا المنكر ~~المعارض ذلك البليغ المقتدر، فيصب له تلك الحقيقة المكذبة المرفوضة في قالب عجيب غريب ~~مخالف لآلاف الصيغ والقوالب التي اعتاد أن يسمعها عليها - فيكون لهذا القالب من القوة والنفوذ ~~ما ms114 يخترق به حجاب سمعه وقلبه، ويفضي إلى أعماق جنانه فيضع ثمة تلك الحقيقة، ويضرب هنالك ~~أوتادها وأطنابها فترسو، وتستقر على عرش فؤاده عقيدة راسخة مكينة عظيمة النفوذ والسلطان. فإذا ~~ارتاح ضميره إلى الخضوع لسلطان هذه الحقيقة سلم وعاش، وإذا كره بعد كل ذلك أن يخضع لسلطانها ~~لم يغنه ذلك ولم ينفعه بل ستراه يموت من دون ذلك كمدا. فإن حكم هذه الحقيقة بعد تمكنها من ~~عقيدته سيكون نافذا قاهرا محتوما؛ فإما أن يخضع لها فتكون حاكمته ومالكته، وإما أن يأبى ~~الخضوع فيموت بها؛ داءه القتال ومنيته العاجلة. فهذا بلا شك أروع أساليب البلاغة وأمضى ~~أسلحتها، والذي يعالج بمثل هذا الأسلوب، ويكافح بمثل هذا السلاح، لا يملك أن يؤمن بدولة البيان ~~وسلطان البلاغة، ويردد قول نبينا - عليه السلام: «إن من البيان لسحرا.» # ولا تنس ما امتاز به الرئيس من حميا الإخلاص، ولهيب الحمية الذي هو أصل الحياة، ومنبع ~~الروح والقوة في أحاديثه وخطبه، وهذا مستمد من مصدرين: (1) غيرته ووطنيته الغريزية، (2) ~~الظروف الراهنة الاستثنائية. فإن الظروف - كما لا يخفى - ~~تكون أحيانا بمثابة منبع قوة جديد يضاعف ما بالإنسان من قدرة وهمة. ومتى اجتمعت قوة الظروف ~~وكفاءة المرء فذلك اجتماع العقل البشري والقضاء الإلهي. وقد أرى إخلاص ثروت باشا لفرط حميته ~~أشبه شيء بالنشوة قد تملكت شعوره، واشتملت على لبه؛ فهو يكاد يترنح وطنية وغيرة، وإذا أراد ~~الكلام ازدحمت سيول البلاغة في صدره، ثم انطلقت تتدفق دفعا فدفعا، وتراه قد تملكه موضوع ~~الخطابة أو الحديث - أعني موضوع القضية المقدسة - تملكا يترك الأفكار والمعاني تنسجم في نظام ~~هو - نظام الطبيعة ذاتها - أقوى النظم البيانية، وأروع الأساليب التعبيرية، وأجل وأعظم من ~~أن يجارى أو يبارى. فلا جرم إذا قلنا إن ثروت باشا إذا خطب فإنما الطبيعة تخطب بلسانه، وإذا ~~فاضت أحاديثه فإنما هي الحقيقة تفيض من معين قلبه ووجدانه. فلا عجب إذا كان تأثيرها في النفوس ~~تاما، وسلطانها على الأذهان والأرواح كاملا، شأن الطبيعة في كل حركاتها وآثارها، وعلى ~~اختلاف صورها ومظاهرها، وإني لأرى بعد ms115 في هذا الإخلاص الرائع الشديد، وفي عظيم ما ينتج عنه من ~~خطب الرئيس الجليل وأحاديثه الباهرة، مصداقا على تلك الخرافة القديمة وهي: «إنما يصيب الغرض ~~من السهام ما يغمس أولا في دم الرامي.» # من حقق النظر في أحاديث ثروت باشا وفي خطبه، وفي خطب وأحاديث سائر أئمة الخطابة والمناظرة ~~في العالم - أمثال ديموسطين وأسكينيز، وديماديس، وبيريكليس، ولوثر، وفوكس، وشانام، وباتريك ~~هنري، وآدمز، وميرابو، وأيسوقراط، وبيرك، وجون بابتست، وهرميت بطرس وجون نوكس - وجد أن أصدق ~~تعريف للخطابة أو الحديث البليغ هو أنه «أفضل كلام صادر عن أفضل روح»، وأنه «عنوان كل ما يحتوي ~~الذهن من آيات الجلال والجمال»، فإذا خرج الخطاب أو الحديث عن كونه مجرد آلة وأداة لتأدية ما ~~يجيش بالصدر من عقائل الأفكار وكرائم المعاني، وأريد به أن يكون غاية في ذاته، وأن يتباهى به ~~ويفتخر كبعض الزخارف والحلي، صار أكذوبة وخدعة، وليس هكذا حديث ثروت باشا ولا خطابه، وما ~~كانت قط هكذا أحاديث الفحول - ممن ذكرنا آنفا - ولا خطاباتهم. أجل، ليس هذا شأن الفحول في ~~كلامهم، وليس بهذا يأمر الإخلاص والصدق والغيرة والإيمان والوطنية، وما زال رجال الجد ~~والإخلاص - أمثال ثروت باشا - يؤثرون الغرض الشريف والعمل الصالح على مجرد المباهاة برنين ~~نغمات البلاغة، والمفاخرة بطنين مطربات البيان والخطابة - أعني يؤثرون الجوهر على العرض ~~والروح على الزي والملبس - وتلك شيمة الإخلاص والنزاهة. # شتان بين كلام المخلص الجاد الغيور صادرا عن أعمق أعماق نفسه، وبين كلام المزخرف المتأنق ~~العابث صادرا عن أغلفة قلبه وقشوره الظاهرية. فهذا الأخير ليس سوى سحابة صيف، وعجالة ضيف، ~~وشيء يولد مع الصباح ويزول وقت الزوال، وشبح يذهب كالظلال بذهاب الأهواء والأميال، وأما الأول ~~فآية تنقش على صحيفة الزمان، وتبقى على الدهر ما بقي الإنسان، وتنتج أعظم النتائج من آثار ~~المدنية ومظاهر العمران، وهل هذه المدنية الحاضرة وآتي المدنيات وماضيها وكل ما يعمرها ~~سالفا وحاضرا ومستقبلا من آثار الإنسان في هذه الحياة ومصنوعاته ومبدعاته ومخترعاته - من ~~دول وممالك، ونظم ودساتير وقوانين، وشرائع وآداب وأخلاق، وعلوم وصناعات ms116 وفنون، ومعاملات ~~تجارية واقتصادية وسياسية، وقصور ومدائن وقلاع وكنائس، وهياكل ومتاحف ومقاصف، وكل ما يقوم عليه ~~صرح هذه الحياة الهائلة من دعائم البقاء وأساطين العمران، وكل ما يساعد الإنسان الشقي المسكين ~~على تخفيف عبء الحياة، وتلطيف آلامها، ومعالجة آفاتها ومحنها، وإساغة جرعتها المضيضة ومضغتها ~~المرة، وتليين عجلاتها العسرة المستعصية تسهيلا لسيرها بقافلة الإنسانية التعسة في أوعار ~~هذه الحياة الشاقة الأليمة إلى مثوى الإنسان الأخير في سكينة القبر وهدوئه؛ أقول: هل ترى كل ~~هذه الأشياء المكون منها صرح المدنية ونظام الحياة إلا نتيجة كلمة حق تعبر عن فكرة ~~صالحة؟ # أجل، ليس ثروت باشا بالعابث في أحاديثه وخطبه يتوخى التأثير السطحي في الجماهير بطنين ~~الكلم الأجوف الرنان، ويخدع العقول بزبرج الكلام وتزاويقه يبتغي بذلك المفاخرة باللسن ~~والذلاقة، والمباهاة بالحذق واللباقة، ويريغ الشهرة والذكر والجاه والسلطان، ولكنه رجل الجد ~~والإخلاص والصدق قولا وعملا، كثير الإطراق والتفكير، فإذا نطق فما شئت من لب وفضل وحكمة. ~~لا يتصدى بالكلام لغرض من الأغراض، أو مسألة من المسائل، إلا أنار شبهتها، وكشف غامضها، ~~واستثار دفينتها، وهكذا يجب أن يكون الكلام وإلا فلا. إن ثروت باشا ذلك الرجل المجبول بفطرته ~~على الجد والإخلاص والحمية ليرى في قضية البلاد المقدسة أمرا جللا، أعظم من أن يحتمل العبث ~~والتظاهر والمباهاة، والإدلال برنات طنان الكلام وسجعاته. لقد كان الأمر عنده - كما قال توماس ~~كارليل - «أمر حياة أمة أو مماتها، أمر فلاح أو خسران، ومسألة بقاء أو فناء. فلم يك منه ~~إزاء ذلك إلا الجد المر والإخلاص العميق. فأما التلاعب بالكلمات والعبث بالحقائق فليس من ~~شأنه البتة، والعبث والتلاعب في المسائل الحيوية الجلى جريمة من أفظع الجرائم؛ إذ ليس هو إلا ~~رقدة القلب وهجعة العين عن الحقائق وتقلب المرء في مظاهر كاذبة خداعة. فمثل هذا الإنسان لا ~~يقتصر أمره على كون أقواله وأعماله كلها أكاذيب بل إنه هو نفسه أكذوبة. فأنت إذا تأملته في ~~صميم كيانه، ألفيت نور الله - أعني الشرف والمروءة - قد انطفأ فيه سراجه، وخبا وقاده ووهاجه، ~~فهو على الرغم ms117 من ذرابة لسانه، وخلابة بيانه، أفاك كاذب، إذ لا يزال مثل هذا الرجل سم ~~الحياة وآفة الإنسانية. فإن غرك برخامة صوته وجرسه، وحلاوة جهره ونبسه، ورقة مسه ولمسه، لم ~~يك في ذلك إلا كحامض الكربون تراه على لطف مسراه، ولين مجراه، سما نقيعا، وموتا ~~ذريعا.» # والآن بعد الذي أوردناه من ذلك الفصل المسهب والمطلب المستفيض في وصف الركن الأول من مناقب ~~ثروت باشا - أعني الملكة الخطابية البيانية بأصولها وفروعها وعددها وآلاتها ودقائقها ~~وأسرارها - ننتقل إلى الركن الثاني من صرح أخلاقه الوطيد الرفيع، أعني دماثة الطبع وعذوبة ~~الشمائل. # لقد جاء في حكمة الأقدمين أنه لن يستطيع مسرة الجلساء وإطرابهم بفنون الأحاديث من كانت روحه ~~خالية من عنصر السرور والطرب. فإن الحديث المشتمل على تحف المعاني وبدائع الأفكار إذا صدر عن ~~روح ساخطة أو غضبى أو متضجرة أو مشمئزة - أعني عن روح متنافرة مع أرواح الجلساء والعشراء - ~~كان جديرا أن يدهش الأذهان ويبهرها، ولكنه ليس جديرا أن ينعش الأرواح ويدخل على النفوس ~~عوامل الأنس والصفو والحبور. فخلة اجتذاب القلوب واستمالة الأهواء محال أن تتوافر لمن كان ~~موحش الناحية، مقفر الجناب، خشن الجانب. فإن الأذهان خلاف الأرواح، وليس من اللازم المحتوم أن ~~الرجل القادر على النفاذ إلى أذهان الناس بروائع كلمه، أن يستطيع بهذه الواسطة وحدها أن ينفذ ~~أيضا إلى قلوبهم وأرواحهم؛ إذ كيف يتأتى له ذلك إذا كان جامد الروح، مظلم الهواء، راكد ~~النسيم، والرجل الخالية نفسه من عوامل الفرح كيف يستطيع إدخال الفرح على نفوس غيره؟ # ولذلك قيل إن فن استمالة الغير بأسباب المسرة إنما أساسه أن تكون قبل كل شيء مسرورا في ~~أعماق نفسك، ومن ثم رأينا أن أعاظم كتاب الفكاهة في العالم، الذين قدموا للعالمين أوفر ذخائر ~~السرور والأنس، وأشهى ألوان الطرب والحبور على مائدة الفنون والآداب - أمثال موليير وشاكسبير، ~~وسرفانيتس، وأديسون، وجولد سمث، وفيدلن، وستيرن، وديكنز، وثكري، ورابليه، وماريفوه، وصاحب ألف ~~ليلة - كانوا جميعا من ذوي الطبائع الفرحة الجذلى، والأمزجة الرطبة الخضلة، والصدور المثلوجة ~~القريرة، والنفوس الطيبة الراضية ms118 المطمئنة المملوءة بروح الصفاء والاستبشار والتفاؤل. على عكس ~~المتشائمين المتبرمين الغاضبين الثائرين من كتاب الفكاهة - أمثال سويفت وبوب وفولتير وبيرون ~~- الذين قد مزجوا مزاجهم بأنكر الهجاء والتهكم، وخلطوا مجونهم بأمض القذع والسخط والنقمة ~~فجاءت مؤلفاتهم أدعى إلى الإيلام منها إلى الإطراب، وأدنى إلى الإيجاع منها إلى الإعجاب، وأجدر ~~بالإيحاش منها بالإيناس، وأنكى شبا من إبرة العقرب في الشعور والإحساس، ذلك إلى الجم الكثير ~~من آفات تلك الكتب التشاؤمية في المجتمع، ومساوئ آثارها في هيكل الإنسانية مما يصغر ويضؤل ~~بجانبه ما قد حوت من الفوائد والمنافع، حتى ذهب فريق كبير من أدباء العالم ونقاده إلى اعتبار ~~مؤلفيها الفحول الفطاحل من ضمن عوامل الفساد ومصادر الشر والبلاء على العالم، فقال لنا ~~الفيلسوف الألماني الطائر الصيت «فردريك نيتشه»: «أغلقوا «بيرون» وافتحوا «جيتا»، وأصل هذه ~~السوءات والآفات في الخالدات العبقريات من تآليف أولئك النوابغ هو - كما أسلفت - مرارة السجية ~~وحموضة الطبع وحرافة المزاج، وما يتبع ذلك من جفوة الروح وقسوة القلب وغلظة الكبد. # وليس ثروت باشا بالجافي النفس، ولا القاسي القلب، ولا الغليظ الكبد، ولا هو بالحامض الطباع ~~الحريف المزاج، ولا بالموحش الجناب، المظلم الناحية، الراكد النسمات، ولكنه مع متانة أخلاقه ~~وصرامة عزمه، وأنه لا يجمد في الحق، ولا يتدفق في الباطل، تراه ذلك الرجل اللين الجانب، ~~المأنوس الجناب، المشرق الناحية، هينا لينا، طلق الجبين، براق الأسارير. # بشر أبو مروان إن عاسرته # عسر وعند يساره ميسور # وكالسيل إن قاومته انقدت طوعه # وتقتاده من جانبيه فيتبع # فإذا جالسته صدرته # وتنحيت له في الحاشيه # وإذا سايرته قدمته # وتأخرت مع المستأنيه # وإذا ياسرته صادفته # سلس الخلق سليم الناحيه # وإذا عاسرته صادفته # شرس الرأي أبيا داهيه # فاحمد الله على صحبته # واسأل الرحمن منه العافيه # وطبيعة ثروت باشا بعد هي الدماثة واللطف والرقة والظرف، وإن كان فيه عند مقتضيات الأحوال ~~شدة وصلابة وبأس وصرامة: # له سورة مكتنة في سكينة # كما اكتن في الغمد الحسام المهند # وتلك شيمة الرجل الفاضل في كل زمان ومكان، وتلك كانت شيمة أبطال العرب في ms119 ذروة عزهم ~~وعلياء مجدهم؛ قلوب تذوب رحمة وعطفا، في جوانح تلتهب حمية وأنفا، وأرواحا تتدفق برا ~~وكرما، تحت عزمات تثور عزا وشمما، كالينبوع الثر الغزير، العذب النمير، يكتنفه أمنع سور ~~من الصفوان، وأمتن حاجز من الجلمد الصوان: # ولا خير في حلم إذا لم تكن له # بوادر تحمي صفوه أن يكدرا # وتلك كانت شيمة فرسان المسيحية في عهد الفروسية الأمجد الأشرف الذي هو فخر المدنية الغربية ~~في القرون الوسطى، يوم كان أئمة الدين هم أيضا أئمة الحرب والجهاد، وكان أعلام التقى أعلام ~~الوغى، يوم كان أبطالهم يحملون الإنجيل على أسلات الرماح، ويقرنون السيف إلى الصليب في نطاق ~~ووشاح. هنالك كنت ترى أقصى غاية البر والرأفة والحنان، مع أقصى غاية الثبات والشجاعة وقوة ~~الجنان. هنالك كنت ترى التواضع والحياء والخشوع والانكسار، مع البأس والشدة وصولة العزيز ~~القهار: # خاشع تارة وجبار أخرى # فتراه أرضا وطورا سماء # وهكذا إذا طلبت منتهى الرقة والدماثة والحنان والرحمة وجدتها في الرجل الصارم الشجاع القوي ~~المتين، وكذلك أعذب الماء وأصفاه هو ما صادفته في النقر واللصاب في الصخرة الصماء والصفاة ~~الصلدة. # ومن ثم كان ثروت باشا - ذلك البطل القوي الأيد الصلب العود والمعجم - رجلا سمحا سجحا، ~~غزير الأنس والحفاوة، جم الظرف والفكاهة، تكاد ابتسامته تضيء ما حوله بنور البشر ~~والطلاقة، ويكاد الهواء يتأرج بطيب أنفاسه إذ كانت صادرة عن روضة الحسب الأغر، والكرم الأوفر ~~الأبر. # ولا شك عندي في أن تلك المادة الغزيرة من الفرح والابتهاج الغريزي في ثروت باشا هي من أعظم ~~أسباب نجاحه في كل ما يحاول من الخطط والتدابير، وكل ما يباشر من المعاملات والمفاوضات؛ لأن ~~ذلك الفرح والابتهاج يظل له كنشوة طبيعية تحرك همته وتبعث عزمته، وتترك سيف جده مسلولا ~~لأيسر داع ومقتضى، وتغنيه عن كل منشط خارجي وحافز صناعي، وأكبر ظني أن هذا الابتهاج والصفاء ~~الغريزي النفساني في ثروت باشا هو بعض مصادر تلك الجاذبية والخلابة التي استطاع بها أن يؤثر في ~~كبار رجالات البريطانيين ممن فاوضوه في قضية البلاد المقدسة، ويستميلهم إلى ms120 مذهبه، ويقنعهم ~~بصحة رأيه ونصوع حجته. وأراني خليقا أن أشبهه في ذلك بالقائد الإنكليزي العظيم الدوق أوف ~~«مالبره»، ذلك البطل التاريخي المشهور الذي بفضل حذقه ولباقته انتصرت إنكلترا وحلفاؤها على ~~فرنسا في عهد لويز الرابع عشر، يوم كانت فرنسا أقوى دول أوروبا جيوشا، وأمهرها قوادا، ~~وأشدها بأسا وصولة، وأقهرها سطوة وسلطانا. لقد كانت جيوش حلفاء بريطانيا أثناء حروبها ~~الطويلة المتوالية مع فرنسا في ذلك العهد عرضة لعوامل النزاع والشقاق، لا يزال يقع بينها ~~النفور والمشاحنة، فلو كانت استمرت على تلك الحال لما كانت ظفرت من فرنسا بطائل، بل كان من ~~المؤكد هزيمتها واندحارها بأسياف تلك الدولة، ولكن القدر الذي أراد غير ذلك جعل من خلابة ~~القائد «مالبرة»، ومن جاذبيته، ومن رقة شيمته، وحلاوة أنسه، وعذوبة شمائله؛ أبلغ وسيلة وأحسن ~~واسطة لضم شوارد القلوب بين الحلفاء، وتأليف نوافر النفوس، وجمع بدائد الأهواء والأميال، ونظم ~~تلك العناصر المتشاحنة في سلك واحد من الوئام والألفة، وقياد الجميع بحبل التوفيق والهداية ~~إلى غرضهم الأوحد الفرد من تلك الحرب الشعواء - على الرغم من متباين مذاهبهم وآرائهم، ومما كان ~~متفشيا بينهم من عوامل التحاقد والتحاسد، ونزوات التعسف والتهور، ونزعات الطيش والضلال - ~~فأيما بلاط من بلاطات تلك الدول المتحالفة كان يذهب إليه القائد مالبرة ويغشاه كان لا يلبث ~~بفضل سجاحة خلقه، وحلاوة سجاياه، وعذوبة طبعه أن يستميل أهله، ويستدرجهم مهما بلغ من عنادهم ~~وشكاستهم، حتى يحملهم على قبول شروطه واتباع رأيه. # لقد امتاز ثروت باشا بنوع من صفاء النفس، وهدوء الروح، وسكينة الجأش، لها في نفوس مخاطبيه ~~ومجالسيه من الأثر العميق ما يشبه تأثير النغم الرخيم والألحان الشجية. ولا عجب، فإن الصفاء ~~والهدوء من النظام، وكل نظام فإنما يكون نظاما بفضل ما ينطوي في جوفه من الموسيقى الصامتة؛ أي ~~من روح الموسيقى، أو بعبارة أخرى: كل نظام موسيقي في عنصره وجوهره. فهذا الهدوء والسكينة ~~والصفاء في ثروت باشا تؤثر في مخاطبيه ومجالسيه تأثيرا يسبيهم من نفوسهم، ويجتذبهم إليه بنوع ~~من الكهرباء الخفي. فلا جرم إذا قلنا إن ms121 مثل هذا الخلاب تكون روحه منهلا للأنس، ومسترادا ~~للنعيم والمسرة، وسنا بشره يفيض على جوانب الجو كمثل رونق الضحى، وحديثه ينفث في الهواء ~~كأنفاس النعامي تنفح بأريج الخزامي: # أو كالنسيم الغض غب الحيا # يختال في أردية الفجر ~~••• # وإذا ما أشار هبت صبا المس # ك وخلت الإيوان من كافور # هذه السكينة والهدوء والصفاء الغريزية الفطرية (مع حدة الذهن الهائلة) هي التي بفضلها ~~بلغ نابليون - أعظم رجل في التاريخ الحديث - من ذروة المجد والعلاء، وقمة الحسب والفخار، ما ~~راع الملأ وبهر العالم، وهي التي بفضلها أيضا استطاع ذلك الرجل المدهش أن يحتمل أرزاء الدهر ~~ومحن الزمان في عظمة وجلال يشوبهما شيء من اللهو العبث، وأن يستسلم لخسارة ملك العالم استسلام ~~من خسر دورا في لعبة النرد أو الشطرنج. # وكذلك ترى ثروت باشا - على صرامته وبأسه في مواضع الجد والحزم - أغر أبلج، بساما وضاح ~~الجبين، جم البشر والحفاوة، عذب الإيناس، حلو الفكاهة، تتألق في صفحة وجهه الكريم ابتسامة ~~صادقة من فؤاد صادق؛ لأن من الابتسامات ما تكون كاذبة منبعثة عن فؤاد كاذب كسائر أكاذيب ~~صاحبها من أعمال وأقوال، وما زال الابتسام الصادق والضحك الخالص الصريح ينبعث من القلب الطاهر ~~النقي الرقيق الحاشية، الأمين الناحية، الغزير مادة الحنان والرحمة. فمثل ذلك الضحك يكون عنوان ~~الكرم والخير، وشاهد المروءة والبر، إذا كان كاذب الضحك آية الشر والنكر، وأمارة الخبث ~~والغدر، وما زال الحر الشريف يمزح في الأحايين ويهزل، والبر الكريم يطرب ويجذل، وما زلنا ~~نرى الأريب الحصيف يفصل نظام حكمته الثمين بشذور الأمازيح والفكاهات، ويرصع ديباجة كلامه ~~الجدي الرزين بفصوص المعابثات والمداعبات. ومن ثم ما قاله توماس كارليل في وصف إفراط الفكاهة ~~والضحك في سيد شعراء العالم قاطبة «وليم شاكسبير»: «لا أرى دليلا أصدق على ما يمتاز به ذلك ~~الشاعر الخالد من كرم النفس ورقة الطبع ونقاء الضمير وصفاء السريرة من غلواء الضحك وإفراط ~~المزاح في رواياته. ألا ترى أن مضحكاته تنحط عليك كشآبيب الغيث الثر، ودوافع السيل الهمر؟ ألا ~~ترى أنه إذا نصب أحد ms122 أشخاص رواياته غرضا لمرامي المزح والدعابة انبرى يهيل على رأسه ما ~~لا يحصى من أفانين الهزل والمجون، وينقله من المواقف والأشكال المضحكة فيما فيه أقصى عجب ~~العاجبين وضحك الضاحكين، فيخيل إليك أن شاكسبير يضحك من ذلك الشخص الذي هو سليل وهمه وصنع ~~خياله ضحكا مفرطا بملء صدره وأضلاعه، وهو بعد ضحك طيب صالح لا يراد به السخرية من البؤساء ~~والمساكين والضعفاء، التي هي ألأم أنواع الضحك؛ لما تنطوي عليه من السفالة والخبث والنذالة، ~~وإني أرى ضحك شاكسبير وغيره من ذوي الكرم والبر والرأفة ليس من قبيل معمعة الحريق تحت القدر ~~- يقهقه لهيبه وضرامه والقدر تغلي وتفور - ولكنه ضحك مشوب بالرحمة والعطف حتى على الأغبياء ~~والأدعياء. فمثل ذلك الضحك لا أشبهه إلا ببساط نور الشمس على صدر البحر الرحيب.» # وكذلك ثروت باشا رجل الجد والحد والقوة والمتانة والوقار والرزانة والعزم والصرامة، لا ~~يخلو مع ذلك من رقة الظرف وحلاوة الإيناس وطرف الفكاهة والدعابة. فيا له من جوهرة ~~كريمة، أبدى الله صفحتها، وجلا بهاءها وبهجتها، على حين قد أقفر العصر من الجواهر الغوالي، ~~وصفرت الأيدي من كرائم اللآلي. فحبذا تلك من جوهرة جمعت بين الرونق والمتانة، والسنا الوهاج ~~والرصانة، كالصخرة المنطوية على ينابع الكرم والسخاء، وأشعة الفطنة والذكاء، وجمرات العزم ~~والمضاء. # ومن أركان مناقب ثروت أيضا: الثقة بالنفس والاعتزاز بالرأي والنفاذ والصرامة، فهو يمضي في ~~تنفيذ إرادته مضاء النجم الثاقب، متحملا مسئولية أعماله وتبعتها، مقتحما ما يعترضه مما يراه ~~هو اعتراضا باطلا واعتبارا كاذبا، غير مبال بما يصوب إليه من سهام الملام والتفنيد ~~وقوارص العذل والتقريع، اغتباطا بما يعتقد أنه سيكون من صالح النتائج ومحمود العواقب، مما ~~يراه هو ببصره النافذ ورويته البصيرة، وإن خفي على غيره من الأشخاص المعتادين ممن لم تمنحهم ~~الطبيعة ما ميزته هو به من الذكاء والفطنة والدهاء. فلا عجب إذا كان ثروت باشا - كغيره من ~~الأبطال والفحول - يتبين فيما يأتي ويذر، وفيما يحل ويعقد من سر الحكمة ووجه الصواب ما ليس ~~يظهر لسواه من الناس؛ إذ كان ms123 كل قائد يظل أعرف بخطته من سائر الجنود، وأبصر بما ينتهج لهم ~~من مناهج السعي والعمل وسبل الغزو والجهاد. فبرنامج العمل المرقوم في ذهنه، وخريطة الزحف ~~المرسومة على صفحات قلبه، إنما يقرؤها ويفهمها هو وحده من دونهم، وهو وحده المسئول عن العاقبة ~~والنتيجة. فلينتقدوا وليعارضوا ما شاءوا، فما اعتراضهم ونقدهم إلا سحابة صيف لن تلبث أن تزول ~~متى طلعت من ورائها شموس نتائج أعماله مشرقة بلجاء؛ وإذ ذاك يعلم أقوام أن مذهب الوزير كان ~~الحق الصراح، وخطته الصدق المبين، وكان عمله منزها عن الأغراض والأهواء، بريئا من شوائب ~~الأنانية، بل هادما لعوامل الأنانية ماحقا لعناصرها، مشبعا بعواطف الوطنية والإخلاص ~~والتضحية. # ونحن إذا آنسنا في أخلاق ثروت باشا خلة الثقة بالنفس، والاعتزاز بالرأي، فقد ما آنس الناس ~~ذلك في كل بطل وقائد، وهل كان الاعتزاز بالنفس إلا شيمة النفس الثائرة على الأكاذيب والأباطيل، ~~المترفعة عن مراعاة أكاذيب التقاليد والاصطلاحات وأباطيل السنن والاعتبارات، الآخذة بالجد ~~والإقدام والإصرار والمثابرة بعزيمة لا تهن ولا تكل، وصريمة لا تثلم ولا تفل، المستهزئة ~~بأكاذيب الآراء والعقائد. فصاحب مثل هذه النفس الكبيرة الشماء ينطلق إلى غايته انطلاق الكوكب ~~المشبوب، مسترسلا في سننه طربا على نغمات موسيقى روحه العظيمة الجياشة الصداحة، ولو ثارت من ~~حوله الزوابع، وضجت المعامع، وصخبت الزعازع، وهبت العواصف، وزمجرت القواصف، وكاد الكون أن ~~يتحطم فيتهدم. هذه - وأبيك - البطولة في أنصع مجاليها وأبعد مراميها، وهي وإن راعت بعض القوم ~~وأخافتهم - لعجزهم عن سبر أغوارها وإدراك أسرارها - فالواجب على الجميع أن يوفوها حقها من ~~الإجلال والإكبار، إذا كانت قد حفت من شواهد الجلال، وآيات السمو والعظمة بما ينبغي أن يثير ~~عواطف الإعجاب والإكبار في نفس كل شريف، بل في نفس كل من علق بنفسه أدنى أثر من عناصر الشرف ~~والكرم والمروءة - فيملؤه عجبا وطربا من جلائل أعمال ذلك البطل (وإن قصر ذهنه عن تمام ~~إدراكها) ثم يلهمه شيئا من الصبر والتأني انتظارا وترقبا لما سيكون من نتائج فعاله وعواقب ~~أعماله - وحسبه أثناء ذلك أن يحمل نفسه ms124 على الاعتقاد بأن أفعال مثل هذا الرجل القوي، إنما هي ~~أفعال المولى جل شأنه يأتيها على يد عبد من عباده. فقبيح بأي مخلوق أن يتسرع إليها باللوم ~~والطعن والهجاء، وذميم أن يعجل إلى منفذها بالشر والشغب والمناوأة، أو يعترضه في سبيله الخشن ~~الصعب بالعرقلة والتعطيل والمقاومة. فحسبه بخشونة مركبه ووعورة مسلكه، وإنه يبيت ساهر العين ~~من أجل عيون ملء أجفانها الرقاد، وينصب متعب الجسد من أجل أحساد تتقلب على ألين مهاد، ويتجرع ~~غصص الألم في سبيل أقوام يرشفون أقداح المسرات والنعم، ويخترط أشواك المضض من شجر الكد والعناء ~~لمصلحة من يقطفون ثمار الراحة من أفنان الدعة والصفاء. # إن الرجل العظيم يعمل عمله مدفوعا إليه بدافع وجداني مستسر في خفايا نفسه العميقة العظيمة، ~~فحكمة هذا الدافع الوجداني لا يمكن أن تكون بادية لعيون العامة والجماهير مثلما تبدو وتظهر ~~لصاحبه، بدليل أن كل امرئ يكون أعرف بسريرة وجدانه من غيره، ويكون أبعد نظرا وأقصى مرمى ~~فيما يتعلق بمذهبه الخاص به دون غيره، وبخطته التي هو انتهجها دون سواه. # ولكنا نرى الذين لا يريدون أن يعترفوا للرجل العظيم بشرف مسعاه، وسمو غايته ومرماه - إما ~~لقصر عن إدراك مراميه أو لآفة في نفوسهم - ينكرون عليه بعد همته وحسن نيته، فيتهمونه بالسعي ~~وراء حاجة في نفسه وبغية شخصية أنانية، ومن ثم يحكمون عليه بما لا يليق أن ينسب إلى الفحول ~~والأبطال. أمثال هؤلاء الظالمين الجائرين لا يرون في أبطال العالم - الذين هم بناة ما في ~~العالم من مجد وعظمة، ومشيدو ما فيه من صروح الحضارة والمدنية العالية، والذين هم في الحقيقة ~~أعلام التاريخ وفرائد عقده النظيم المؤلفة منهم سلسلة المدنيات الذهبية - إلا أشرارا آثمين ~~لا فضل لهم ولا خير فيهم، وأنهم لم يأتوا من أعمالهم العظام ما أتوا إلا إرضاء لشهوات أنانية ~~وإشباعا لمطامع شخصية. والواقع أن أولئك الأفاكين المعتدين بالكذب والزور على مقامات العظماء ~~في كل زمان ومكان هم الجناة الآثمون الذين لم يسلم من ألسنتهم بطل ما أيا كان في حاضر ~~الزمن وغابره ms125 ؛ فهم زعموا أن الإسكندر الأكبر كان مجنونا مصابا بجنون الغزو والفتح بعلة أنه ~~دوخ بلاد اليونان وأصقاع آسيا، وزعموا أن حب الشهرة والولوع بالصيت كان باعثه الوحيد على ~~فتوحاته العظيمة بدليل أن هذه الفتوحات قد أدت في النهاية إلى الصيت والشهرة. ومثل هذا قاله ~~أولئك الأفاكون عن يولوس قيصر وهانيبال، والسفاح، وتيمورلنك، ومحمد الفاتح، وشارلمان، وشارل ~~الثاني عشر ملك السويد (الذين سموه «مجنون الشمال» إشارة إلى موقع مملكته من أنحاء المعمور) ~~ونابليون بونابرت، وكذلك خيل إليهم أنهم قد استطاعوا أن يثبتوا الجنون على أئمة العالم وقادته ~~وأقطابه، وكأنى بهم قد استنتجوا من ذلك (وإن لم يصرحوا بهذا الاستنتاج) أنهم هم الأكابر ~~والفحول والعظماء - لا نابليون ولا محمد الفاتح ولا عمرو ولا أمثالهم - وأنهم هم أجل وأعظم ~~من هؤلاء الأعلام والأقطاب؛ بدليل أنهم لم يغزو آسيا كالإسكندر، ولم يفتحوا روما كهانيبال، ولم ~~يدوخوا أوروبا كما فعل نابليون، وإنما حصروا كل مجهودهم وهمتهم في أن يأكلوا ويشربوا، ~~ويتركوا غيرهم يأكل ويشرب، وبذلك عاشوا وماتوا سالمين مسلما منهم، آمنين مأمونا من ~~شرهم. # فهؤلاء النقاد الأصاغر أشبه شيء بالبعوض الذي يحاول أن يلدغ بإبرته الضئيلة الواهية المناكب ~~العراض، والأعناق الضخمة من أسود المجتمع وضياغمه، فتكل إبرتهم وتنبري دون أن تنال تلك ~~الليوث بأدنى ضائر، أو هم كما قال الأعشى: # كناطح صخرة يوما ليفلقها # فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل # هذا البعوض النقاد ما زال يظهر في العالم منذ كان العالم، لم يخل منه عصر من العصور ولا ~~مصر من الأمصار، فنحن نتلو نبأه في إلياذة هوميروس تحت اسم «ثرسيثيس» ذلك المخلوق الحقير الذي ~~لم يكن له هم ولا دأب إلا سب الأمراء والملوك، فكان جزاؤه على الدوام الضرب بالعصي والجلد ~~بالسياط، وأشد عذابا عليه من ذلك شوكة الحسد المضيض وإبرة الحقد الأليم التي قضي عليه أن لا ~~يزال يحملها في جلده، وجمرة الغيظ والحنق التي قيض له أن لا تنفك مدفونة في صميم كبده، وحسبه ~~فشلا وخيبة مع كل ذلك أن تصبح آراؤه الوجيهة الرشيدة ms126 ، وانتقاداته السليمة السديدة - يوما ما ~~إن عاجلا أو آجلا - قد ذهبت بعد كل مجهوداته الجسيمة ومحاولاته العظيمة هباء منثورا، # وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان ~~زهوقا ~~. ~~••• # والآن بعدما أجلت قلمي الضعيف جولة في هذا الميدان الفسيح - مجال البطولة والفحولة - وسمته ~~خوضة في ذلك الخضم العميق - عباب العظمة والهمة والرجولة - ألقي به في أكنان الراحة نضوا ~~متعبا حسيرا من طول ما اصطك أثناء جولاته بهضاب تلك العبقرية الباذخة، وجبال تلك البطولة ~~الشامخة، وأطرح صحيفتي في يم التأليف ذلك الهائج المائج الثائر المضطرب لتلقى نصيبها من الطفو ~~أو الرسوب وجزاءها من العطب أو السلامة. # لقد أمضيت برهة على هضاب جبل «أوليمب» - مجال الأبطال وملعب الآلهة (في أساطير اليونان) - ~~أتأمل روائع آياتها وبدائع معجزاتها حتى أفعم قلبي جلالا وجمالا، وبهرني ذلك المشهد المهيب، ~~فانحدرت نازلا وأنا أسبح بحمد الله عجبا وطربا، وأحمد الصانع البديع الذي يأبى كرمه ~~وفضله أن يترك مقابح هذه الحياة وشوهاتها في أي عصر وبقعة، خالية من محاسن الرجولة، مقفرة من ~~مفاخر العظمة والبطولة. ~~(1) مشروع ملنر: مذكرة ~~(1) # لكي يبنى استقلال مصر على أساس متين دائم يلزم تحديد العلاقات بين بريطانيا ~~العظمى ومصر تحديدا دقيقا، ويجب تعديل ما تتمتع به الدول ذوات الامتيازات في مصر من ~~المزايا وأحوال الإعفاء، وجعلها أقل ضررا بمصالح البلاد. ~~(2) # ولا يمكن تحقيق هذين الغرضين بغير مفاوضات جديدة تحصل للغرض الأول بين ممثلين ~~معتمدين من الحكومة البريطانية وآخرين معتمدين من الحكومة المصرية، ومفاوضات تحصل ~~للغرض الثاني بين الحكومة البريطانية وحكومات الدول ذوات الامتيازات، وجميع هذه ~~المفاوضات ترمي إلى الوصول إلى اتفاقات معينة على القواعد الآتية: ~~(3) # أولا: # تعقد معاهدة بين مصر وبريطانيا العظمى تعترف بريطانيا العظمى بموجبها ~~باستقلال مصر كدولة ملكية دستورية ذات هيئات نيابية، وتمنح مصر ~~بريطانيا العظمى الحقوق التي تلزم لصيانة مصالحها الخاصة، ولتمكينها من ~~تقديم الضمانات التي يجب أن تعطى للدول الأجنبية؛ لتحقيق تخلي تلك الدول ~~عن تلك الحقوق المخولة لها بمقتضى الامتيازات. # ثانيا: # تبرم بموجب هذه المعاهدة نفسها محالفة بين بريطانيا العظمى ms127 ومصر، ~~تتعهد بمقتضاها بريطانيا العظمى أن تعضد مصر في الدفاع عن سلامة أرضها، ~~وتتعهد مصر أنها في حالة الحرب - حتى ولو لم يكن هناك مساس بسلامة أرضها ~~- تقدم داخل حدود بلادها كل المساعدة التي في وسعها إلى بريطانيا ~~العظمى، ومن ضمنها استعمال ما لها من الموانئ وميادين الطيران ووسائل ~~المواصلات للأغراض الحربية. ~~(4) # تشتمل هذه المعاهدة أحكاما للأغراض الآتية: # أولا: # تتمتع مصر بحق التمثيل في البلاد الأجنبية، وعند عدم وجود ممثل مصري ~~معتمد من حكومته تعهد الحكومة المصرية بمصالحها إلى الممثل ~~البريطاني، وتتعهد مصر بأن لا تتخذ في البلاد الأجنبية خطة لا تتفق مع ~~المحالفة أو توجد صعوبات لبريطانيا العظمى، وتتعهد كذلك بأن لا تعقد مع ~~دولة أجنبية أي اتفاق ضار بالمصالح البريطانية. # ثانيا: # تمنح مصر بريطانيا العظمى حق إبقاء قوة عسكرية في الأراضي المصرية ~~لحماية مواصلاتها الإمبراطورية، وتعين المعاهدة المكان الذي تعسكر فيه ~~هذه القوة، وتسوي ما تستتبعه من المسائل التي تحتاج إلى التسوية، ولا ~~يعتبر وجود هذه القوة بأي وجه من الوجوه احتلالا عسكريا للبلاد كما ~~أنه لا يمس حقوق حكومة مصر. # ثالثا: # تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية مستشارا يعهد إليه في ~~الوقت عينه بالاختصاصات التي لصندوق الدين الآن، ويكون تحت تصرف الحكومة ~~المصرية؛ لاستشارته في جميع المسائل الأخرى التي قد ترغب في استشارته ~~فيها. # رابعا: # تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية موظفا في وزارة الحقانية ~~يتمتع بحق الدخول على الوزير، ويجب إحاطته علما على الدوام بجميع ~~المسائل المتعلقة بإدارة القضاء فيما له مساس بالأجانب، ويكون أيضا تحت ~~تصرف الحكومة المصرية لاستشارته في أي أمر مرتبط بحفظ الأمن ~~العام. # خامسا: # نظرا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها إلى الآن الحكومات ~~الأجنبية المختلفة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية تعترف ~~مصر بحق بريطانيا العظمى في التداخل بواسطة ممثليها في مصر؛ ليمنع أن ~~يطبق على الأجانب أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، ~~وتتعهد بريطانيا العظمى من جانبها أن لا تستعمل هذا الحق إلا حيث يكون ~~مفعول ms128 القانون جائرا على الأجانب. # صيغة أخرى لهذه المادة # نظرا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها للآن الحكومات ~~الأجنبية المختلفة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية، تعترف ~~مصر بحق بريطانيا العظمى في التداخل بواسطة ممثليها لتمنع أن ينفذ على ~~الأجانب أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، وتتعهد ~~بريطانيا العظمى من جانبها بأن لا تستعمل هذا الحق إلا في حالة القوانين ~~التي تتضمن تمييزا جائرا على الأجانب في مادة فرض الضرائب أو لا توافق ~~مبادئ التشريع المشتركة بين جميع الدول ذوات الامتيازات. # سادسا: # نظرا للعلاقات الخاصة التي تنشأ عن المحالفة بين بريطانيا العظمى ~~ومصر يمنح الممثل البريطاني مركزا استثنائيا في مصر، ويخول حق ~~التقدم على جميع الممثلين الآخرين. # سابعا: # الضباط والموظفون الإداريون من بريطانيين وغيرهم من الأجانب الذين ~~دخلوا خدمة الحكومة المصرية قبل العمل بالمعاهدة يجوز انتهاء خدمتهم ~~بناء على رغبتهم أو رغبة الحكومة المصرية في أي وقت خلال سنتين بعد ~~العمل بالمعاهدة، وتحدد المعاهدة المعاش أو التعويض الذي يمنح للموظفين ~~الذين يتركون الخدمة بموجب هذا النص زيادة عما هو مخول لهم بمقتضى ~~القانون الحالي. # وفي حالة عدم استعمال الحق المخول بهذا الاتفاق تبقى أحكام التوظف الحالية بغير ~~مساس. ~~(5) # تعرض هذه المعاهدة على جمعية تنظيم، ولكن لا يعمل بها إلا بعد إنفاذ الاتفاقات ~~بين الدول الأجنبية على إبطال محاكمها القنصلية، وإنفاذ الأوامر العالية المعدلة ~~لنظام المحاكم المختلطة. ~~(6) # يعهد إلى جمعية التنظيم وضع قانون نظامي جديد تسير حكومة مصر في المستقبل بمقتضى ~~أحكامه، ويتضمن هذا النظام أحكاما تقضي بجعل الوزراء مسئولين أمام الهيئة التشريعية، ~~وتقضي أيضا بإطلاق الحرية الدينية لجميع الأشخاص، وبالحماية الواجبة لحقوق ~~الأجانب. ~~(7) # تحصل التعديلات اللازم إدخالها على نظام الامتيازات باتفاقات تعقد بين بريطانيا ~~العظمى والدول المختلفة ذوات الامتيازات، وتقضي هذه الاتفاقات بإبطال المحاكم ~~القنصلية الأجنبية؛ لكي يتيسر تعديل نظام المحاكم المختلطة، وتوسيع اختصاصها، وسريان ~~التشريع الذي تسنه الهيئة التشريعية المصرية (ومنه التشريع الذي يفرض الضرائب) على ~~جميع الأجانب في مصر. ~~(8) # تنص هذه الاتفاقات على أن تنتقل ms129 إلى الحكومة البريطانية الحقوق التي كانت تستعملها ~~الحكومات الأجنبية المختلفة بمقتضى نظام الامتيازات، وتشتمل أيضا أحكاما تقضي بما يأتي: # أولا: # لا يسوغ العمل على التمييز الجائر على رعايا أي دولة وافقت على إبطال ~~محاكمها القنصلية، ويتمتع هؤلاء الرعايا في مصر بنفس المعاملة التي يتمتع ~~بها الرعايا البريطانيون. # ثانيا: # يؤسس قانون الجنسية المصرية على قاعدة النسب، فيتمتع الأولاد الذين ~~يولدون في مصر لأجنبي بجنسية أبيهم، ولا يحق اعتبارهم رعايا ~~مصريين. # ثالثا: # تخول مصر موظفي قنصليات الدول الأجنبية نفس النظام الذي يتمتع به ~~القناصل الأجانب في إنكلترا. # رابعا: # المعاهدات والاتفاقات الحالية التي اشتركت مصر في التعاقد عليها في ~~مسائل التجارة والملاحة - ومنها اتفاقات البريد والتلغراف - تبقى نافذة ~~المفعول، أما في المسائل التي ينالها مساس ما جراء إبطال المحاكم ~~القنصلية فتعمل مصر بالمعاهدات النافذة المفعول بين بريطانيا العظمى ~~والدول الأجنبية صاحبة الشأن، مثل معاهدات تسليم المجرمين وتسليم البحارة ~~الفارين، وكذلك المعاهدات التي لها صفة سياسية سواء كانت معقودة بين ~~أطراف عدة أو بين طرفين، مثال ذلك: اتفاقات تحكيم والاتفاقات المختلفة ~~المتعلقة بسير الحروب، وذلك كله ريثما تعقد اتفاقات خاصة تكون مصر طرفا ~~فيها. # خامسا: # تضمن حرية إبقاء المدارس وتعليم لغة الدولة الأجنبية صاحبة الشأن على ~~شرط أن تخضع هذه المدارس من جميع الوجوه للقوانين السارية بوجه عام على ~~المدارس الأوروبية بمصر. # سادسا: # تضمن أيضا حرية إبقاء أو إنشاء معاهد دينية وخيرية كالمستشفيات إلخ، ~~وتنص المعاهدات أيضا على التغيرات اللازمة في صندوق الدين، وعلى إبعاد ~~العنصر الدولي عن مجلس الصحة في الإسكندرية. ~~(9) # التشريع الذي تستلزمه الاتفاقات السالفة الذكر بين بريطانيا والدول الأجنبية يعمل ~~به بمقتضى مراسيم تصدرها الحكومة المصرية، وفي الوقت عينه يصدر مرسوم يقضي باعتبار ~~جميع الإجراءات التشريعية والإدارية والقضائية التي اتخذت بمقتضى الأحكام العرفية ~~صحيحة. ~~(10) # تقضي المراسيم العالية المعدلة لنظام المحاكم المختلطة بتخويل هذه المحاكم كل ~~الاختصاص الذي كان مخولا إلى الآن للمحاكم القنصلية والأجنبية، ويترك اختصاص ~~المحاكم الأهلية غير ممسوس. ~~(11) # بعد العمل بالمعاهدة المشار إليها في البند الثالث تبلغ بريطانيا العظمى ms130 نصها إلى ~~الدول الأوروبية الأجنبية، وتعضد الطلب الذي تقدمه مصر للدخول عضوا في جمعية ~~الأمم. ~~(2) مشروع كرزون: بنصوص مشروع اتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر # أولا: انتهاء الحماية ~~(1) # في مقابل إبرام المعاهدة الحالية والتصديق عليها تقبل حكومة جلالة ملك بريطانيا ~~العظمى رفع الحماية المعلنة على مصر في 18 ديسمبر سنة 1914، والاعتراف بمصر من ذلك ~~الحين دولة متمتعة بحقوق السيادة # Sovereign State # تحت إمرة ملوكية دستورية. فبمقتضى هذا قد أبرمت - وتستمر باقية - بين حكومة جلالة ~~ملك بريطانيا العظمى وشعبه من جهة، وبين حكومة مصر والشعب المصري من الجهة الأخرى، ~~معاهدة دائمة ورابطة سلام ووداد وتحالف. # ثانيا: العلاقات الأجنبية ~~(2) # تتولى الشئون الخارجية لمصر وزارة الخارجية المصرية تحت إدارة وزير معين ~~لذلك. ~~(3) # يمثل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى في مصر قوميسير عال يكون له في جميع ~~الأوقات وبسبب مسئولياته الخاصة مركز استثنائي، ويكون له حق التقدم على ممثلي ~~الدول الأخرى. ~~(4) # يمثل الحكومة المصرية في لوندره وفي أية عاصمة أخرى ترى الحكومة المصرية أن ~~المصالح المصرية يمكن أن تستدعي هذا التمثيل فيها معتمدون سياسيون يكون لهم لقب ~~ومرتبة وزير. ~~(5) # بالنظر للتعهدات التي أخذتها بريطانيا العظمى على نفسها في مصر - وعلى الخصوص ~~فيما يتعلق بالدول الأجنبية - يجب أن توجد أوثق الصلات بين وزارة الخارجية المصرية ~~والقوميسير العالي البريطاني الذي يقدم كل المساعدة الممكنة للحكومة المصرية فيما ~~يتعلق بالمعاملات والمفاوضات السياسية. ~~(6) # لا تدخل الحكومة المصرية في أي اتفاق سياسي مع دولة أجنبية بدون أن تستطلع رأي ~~حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى بواسطة القوميسير العالي البريطاني. ~~(7) # تتمتع الحكومة المصرية بحق تعيين ممثلين قنصليين في الخارج حسب مقتضيات ~~مصالحها. ~~(8) # لأجل تولي الشئون السياسية بوجه عام، والقيام بالحماية القنصلية للمصالح ~~المصرية في الأماكن التي لا يوجد فيها ممثلون سياسيون أو قناصل مصريون، يضع ممثلو ~~جلالة ملك بريطانيا العظمى أنفسهم تحت تصرف الحكومة المصرية، ويقدمون لها كل ~~مساعدة في قدرتهم. ~~(9) # تستمر حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى على تولي المفاوضة لإلغاء الامتيازات ~~الحالية مع الدول ذوات الامتيازات، وتقبل مسئولية حماية المصالح المشروعة للأجانب ~~في مصر ms131 ، وتتداول حكومة جلالة الملك مع الحكومة المصرية قبل البت في هذه المفاوضات ~~رسميا. # ثالثا: النصوص العسكرية ~~(10) # تتعهد بريطانيا العظمى بمساعدة مصر في الدفاع عن مصالحها الحيوية، وعن سلامة ~~أراضيها. # لأجل القيام بهذه التعهدات، ولحماية المواصلات الإمبراطورية البريطانية الحماية ~~اللازمة، تكون للقوات البريطانية حرية المرور في مصر، ولها أن تستقر في أي مكان في ~~مصر ولأية مدة يحددان من وقت لآخر، ويكون لها أيضا في كل وقت ما لها الآن من ~~التسهيلات لإحراز واستعمال الثكنات وميادين التمرين والمطارات والترسانات الحربية ~~والمين الحربية. # رابعا: استخدام الموظفين الأجانب ~~(11) # بالنظر للمسئوليات الخاصة التي تتحملها ~~بريطانيا العظمى، وبالنظر للحالة القائمة في الجيش المصري والمصالح العمومية، ~~تتعهد الحكومة المصرية بألا تعين ضباطا أو ~~موظفين أجانب في أية مصلحة منها قبل موافقة القوميسير العالي البريطاني. # خامسا: الإدارة المالية ~~(12) # تعين الحكومة المصرية بعد ~~استشارة # In consultation with # حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى قوميسير ماليا توكل ~~إليه في الوقت المناسب الحقوق التي يقوم بها الآن أعضاء صندوق الدين، ويكون هذا ~~القوميسير المالي مسئولا بوجه أخص عن دفع المطلوبات الآتية في ~~مواعيدها: ~~(أ) # المبالغ المخصصة لميزانية المحاكم المختلطة. ~~(ب) # جميع المعاشات والسنويات الأخرى المستحقة للموظفين الأجانب المحالين ~~على المعاش وورثتهم. ~~(ج) # ميزانيتي القوميسيرين المالي والقضائي والموظفين التابعين ~~لهما. ~~(13) # لأجل أن يؤدي القوميسير المالي واجباته كما ينبغي، يجب أن يحاط إحاطة تامة ~~بجميع الأمور الداخلة في دائرة وزارة المالية، ويكون له في كل وقت التمتع بحق ~~الدخول على رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية. ~~(14) # ليس للحكومة المصرية عقد قرض خارجي أو تخصيص إيرادات مصلحة عمومية بدون موافقة ~~القوميسير العالي. # سادسا: الإدارة القضائية ~~(15) # تعين الحكومة المصرية بالاتفاق مع حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى قوميسير ~~قضائيا يكلف - بسبب التعهدات التي تحملتها بريطانيا العظمى - القيام بمراقبة ~~تنفيذ القانون في جميع المسائل التي تمس الأجانب. ~~(16) # لأجل أن يؤدي القوميسير القضائي واجباته كما ينبغي، يجب أن يحاط إحاطة تامة ~~بجميع الأمور التي تمس الأجانب، وتكون من اختصاص وزارة الحقانية والداخلية، ويكون ~~له في كل وقت التمتع بحق الدخول على وزيري ms132 الحقانية والداخلية. # سابعا: السودان ~~(17) # حيث إن رقي السودان السلمي هو من الضروريات لأمن مصر، ولدوام مورد المياه لها، ~~تتعهد مصر بأن تستمر في أن تقدم لحكومة السودان نفس المساعدات الحربية التي كانت ~~تقوم بها في الماضي، أو أن تقدم بدلا من ذلك لحكومة السودان إعانة مالية تحدد ~~قيمتها بالاتفاق بين الحكومتين. # تكون كل القوات المصرية في السودان تحت أمر الحاكم العام. # وغير ذلك تتعهد بريطانيا العظمى بأن تضمن لمصر نصيبها العادل من مياه النيل، ~~ولهذا الغرض قد تقرر أن لا تقام أعمال ري جديدة على النيل أو روافده جنوبي وادي ~~حلفا بدون موافقة لجنة مؤلفة من ثلاثة أمناء؛ يمثل أحدهم مصر، والثاني السودان، ~~والثالث أوغندا. # ثامنا: قروض الجزية ~~(18) # المبالغ التي تعهد خديويو مصر في أوقات مختلفة بدفعها للبيوت المالية التي ~~أصدرت القروض التركية المضمونة بالخزينة المصرية تستمر الحكومة المصرية على ~~تخصيصها كما كان في الماضي؛ لدفع الفوائد والاستهلاك لقرضي سنة 1894 وسنة 1891 إلى ~~أن يتم استهلاك هذين القرضين. # تستمر الحكومة المصرية أيضا في دفع المبالغ التي كان جاريا دفعها لسداد فوائد ~~قرض سنة 1855 المضمون. # عندما يتم استهلاك قروض سنة 1894 وسنة 1891 وسنة 1855 تنتهي مسئولية الحكومة ~~المصرية فيما يتعلق بأي تعهد ناشئ عن الجزية التي كانت تدفعها مصر لتركيا ~~سابقا. # تاسعا: اعتزال الموظفين والتعويض المستحق لهم ~~(19) # للحكومة المصرية الحق في أن تستغني عن خدمة الموظفين البريطانيين في أي وقت كان ~~بعد نفاذ هذه المعاهدة بشرط أن يمنح هؤلاء تعويضا ماليا - كما سيأتي بيانه - ~~وذلك زيادة على المعاش أو المكافأة التي يستحقونها بمقتضى أحكام استخدامهم. # ويكون للموظفين البريطانيين الحق بنفس هذه الشروط في الاستعفاء من الخدمة في أي ~~وقت بعد نفاذ هذه المعاهدة. # تسري جميع هذه الأحكام على الموظفين الذين لهم الحق في المعاش، والذين ليس لهم ~~الحق في المعاش، وأيضا على موظفي البلديات ومجالس المديريات والهيئات المحلية ~~الأخرى. ~~(20) # الموظفون المرفوتون أو المحالون على المعاش طبقا لنص المادة السابقة تعطى لهم ~~زيادة على التعويض إعانة إياب لبلادهم تكون كافية لسد نفقات ترحيل الموظف نفسه ms133 ~~وعائلته ومتاعه المنزلي إلى لندره. ~~(21) # تدفع التعويضات والمعاشات بالجنيهات المصرية باعتبار سعر ثابت قدره 97 قرشا ~~صاغا ونصف قرش صاغ للجنيه الإنجليزي. ~~(22) # يوضع جدول عن التعويضات: ~~(أ) # للموظفين الدائمين. ~~(ب) # للموظفين المؤقتين. # بمعرفة رئيس جمعية خبراء حسابات ~~التأمين # Society of Actuaries ~~. # عاشرا: حماية الأقليات ~~(23) # تتعهد مصر بأن النصوص الوارد ذكرها فيما بعد تعتبر قوانين أساسية، وألا يتضارب ~~معها أو يؤثر عليها أي قانون أو لائحة أو عمل رسمي، وألا ينقض مفعولها قانون أو ~~لائحة أو عمل رسمي. ~~(24) # تتعهد مصر بأن تضمن لجميع سكان مصر الحماية التامة الكاملة لأرواحهم وحريتهم من ~~غير تمييز بسبب مولدهم أو تبعيتهم الأولية أو لغتهم أو جنسهم أو دينهم. # يكون لجميع سكان مصر الحق في أن يقوموا بحرية تامة علانية أو غير علانية ~~بشعائر أية ملة أو دين أو عقيدة ما دامت هذه الشعائر لا تنافي النظام العام أو ~~الآداب العمومية. ~~(25) # جميع الحائزين للرعوية المصرية يكونون متساوين أمام القانون، ويكون لكل منهم ~~التمتع بما يتمتع به الآخرون من الحقوق المدنية والسياسية من غير تمييز بسبب الجنس ~~أو اللغة أو الدين. # اختلاف الأديان والعقائد والمذهب لا يؤثر على أي شخص حائز للرعوية المصرية في ~~المسائل الخاصة بالتمتع بالحقوق المدنية والسياسية، مثل: الدخول في الخدمات ~~العمومية والتوظف، والحصول على ألقاب الشرف أو مزاولة المهن أو الصناعات. # لا يسوغ فرض أي قيد على أي شخص متمتع بالرعوية المصرية في حرية استعماله لأية ~~لغة في معاملاته الخصوصية أو التجارية أو في الدين أو في الصحف أو في المطبوعات من ~~أي نوع كانت أو في الاجتماعات العمومية. ~~(26) # الأشخاص الحائزون للرعوية المصرية التابعون للأقليات القومية أو الدينية أو ~~اللغوية يكون لهم الحق في القانون وفي الواقع في نفس المعاملة والضمانات التي ~~يتمتع بها غيرهم من الحائزين للرعوية المصرية، وعلى الخصوص يكون لهم حق مساو لحق ~~الآخرين في أن ينشئوا أو يديروا أو يراقبوا على نفقتهم معاهد خيرية أو دينية أو ~~اجتماعية ومدارس أو غيرها من دور التربية، ويكون لهم الحق في أن يستعملوا فيها ~~لغتهم الخاصة ms134 ، وأن يقوموا بشعائر دينهم بحرية فيها. ~~(3) المذكرة التفسيرية: تبليغ من نائب جلالة الملك إلى حضرة صاحب العظمة سلطان مصر في 3 ~~ديسمبر سنة 1921 # يا صاحب العظمة: # إنه بموجب التعليمات التي وصلتني من حكومة جلالة الملك، لي الشرف أن أرفع إلى مقام ~~عظمتكم البيان الآتي المتضمن آراء حكومة جلالته فيما يتعلق بالمفاوضات التي جرت حديثا مع ~~الوفد المرسل من قبل عظمتكم تحت رئاسة صاحب الدولة عدلي يكن باشا، أن حكومة جلالته قدمت ~~إلى عدلي باشا مشروع اتفاق لعقد معاهدة بين الإمبراطورية البريطانية ومصر، كانت حكومة ~~جلالته على استعداد لأن توصي جلالة الملك ومجلس النواب بقبوله، ولكنها علمت بمزيد الأسف أن ~~ذلك المشروع لم يحز قبولا لديه، ومما زاد أسفها أنها تعتبر اقتراحاتها هذه سخية في ~~جوهرها واسعة النطاق في نتائجها، فإنها لا يمكنها أن تبقى محلا لأي أمل في إعادة النظر في ~~المبدأ الذي بنيت عليه تلك الاقتراحات؛ لذلك كان من المستحسن أن تحيط حكومة جلالته علم ~~عظمتكم إحاطة وافية بالاعتبارات الرئيسية التي استرشدت بها، وبالروح التي صدرت عنها تلك ~~الاقتراحات. # إن هناك حقيقة جلية سادت العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر مدة أربعين سنة - ويجب أن ~~تبقى هذه الحقيقة سائدة على الدوام - وهي التوافق التام بين مصالح بريطانيا العظمى في مصر ~~وبين مصالح مصر نفسها. إن استقلال الأمة المصرية وسيادتها كلاهما عظيم الأهمية للإمبراطورية ~~البريطانية. إن مصر واقعة على خط المواصلات الرئيسي بين بريطانيا العظمى وممتلكات جلالة ~~الملك في الشرق، وجميع الأراضي المصرية هي في الواقع ضرورية لهذه المواصلات؛ لأن مصر لا ~~يمكن فصلها عن سلامة منطقة قناة السويس؛ لذلك فإن حفظ مصر سالمة من تسلط أية دولة عظيمة ~~أخرى عليها هو في الدرجة الأولى من الأهمية للهند وأستراليا ونيوزيلاندة ولجميع مستعمرات ~~وولايات جلالته في الشرق، ويؤثر في سعادة وسلامة نحو ثلاثماية وخمسين مليونا من رعايا ~~جلالته. ثم إن نجاح مصر يهم هذه البلاد ليس لأن كلا من بريطانيا العظمى ومصر هي أفضل ~~عملية للأخرى فقط، بل لأن كل خطر جسيم على ms135 مصلحة مصر التجارية أو المالية يدعو إلى مداخلة ~~الدول الأخرى فيها ويهدد استقلالها. هذه كانت البواعث الرئيسية للعلاقات بين بريطانيا ~~العظمى ومصر، وهي لا تزال الآن على ما كانت عليه من القوة في العام الماضي. # لقد اعترف الجميع بما أصاب هذا الائتلاف من النجاح بوجه عام أثناء الحرب العظمى، ولما ~~بدأت بريطانيا العظمى تهتم بمصر اهتماما فعليا كان المصريون فريسة الاحتلال المالي ~~والفوضى الإدارية، وكانوا تحت رحمة أي قادم، ولم يكن في طاقتهم مقاومة ضروب الوسائل القتالة ~~للاستغلال الأجنبي - تلك الوسائل التي تسلب من نفوس الأمة كرامتها، وتمحو قواها الحيوية - ~~فإذا كانت الأمة المصرية الآن أمة نشيطة ذات كرامة، فإنها مدينة لهذه النهضة على الخصوص ~~لمعونة بريطانيا العظمى ومشورتها. إن المصريين سلموا من المداخلة الأجنبية، وأعينوا على ~~إنشاء نظام إداري، وإنه وقد تدرب عدد كبير منهم على إدارة الأمور والحكم واطرد نمو مقدرتهم، ~~ونجحت ماليتهم نجاحا فوق المنتظر، وقد قامت سعادة جميع الطبقات على أسس ثابتة، وفي هذا ~~التقدم السريع لم يكن هناك ظل للاستغلال؛ أن بريطانيا العظمى لم تطلب لنفسها ربحا ماليا ~~أو امتيازا تجاريا. والأمة المصرية قد جنت كل ثمار مشورة بريطانيا العظمى ومساعدتها لها. ~~إن نشوب نار الحرب بين الدول الأوروبية العظمى سنة 1914 زاد بالضرورة عرى الائتلاف توثيقا ~~بين الإمبراطورية البريطانية ومصر، ولما انضمت الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا في الحرب ~~لم يكن أثر ذلك قاصرا على تهديد المواصلات البريطانية وحدها، بل كان مهددا لها ولاستقلال ~~مصر على السواء تهديدا عاجلا، فكان إعلان الحماية على مصر اعترافا بهذه الحقيقة، وهي أنه ~~لا يمكن دفع الخطر عن الإمبراطورية البريطانية ومصر معا إلا بعمل مشترك تحت قيادة واحدة. ~~كان اتساع نطاق الحرب بدخول تركيا فيها السبب في قتل وتشويه آلاف من رعايا جلالة الملك من ~~الهند وأستراليا ونيوزيلاندة ومن رجال بريطانيا العظمى أيضا، وقبورهم في غاليبولي وفلسطين ~~والعراق شاهدة على الجهد العظيم الذي كابدته شعوب الإمبراطورية البريطانية بسبب دخول تركيا. ~~قد اجتازت مصر هذه المحنة دون أن يمسها ضرر ms136 بفضل جهود من بعثت بهم تلك الشعوب من الجنود، ~~فكانت خسائر مصر طفيفة، ولم يزد دينها وثروتها لآن أعظم مما كانت قبل الحرب في حين أن ~~الكساد الاقتصادي قد اشتدت وطأته على أكثر البلدان الأخرى، فليس من الحكمة أن الشعب المصري ~~يتغاضى عن هذه الحقائق أو ينسى لمن هو مدين بذلك كله. ولولا القوة التي أبدتها الإمبراطورية ~~البريطانية في الحرب لأصبحت مصر ميدان حرب بين القوات المتحاربة ولوطئت هذه القوات حقوق مصر ~~بأقدامها وأفنت ثروتها، ولولا نصر الحلفاء لم تكن في مصر أمة الآن تطالب بحقوق السيادة ~~الوطنية بدلا عن حماية أجنبية، فالحرية التي تتمتع بها مصر الآن وما تتطلع إليه من حرية ~~أوسع إنما هي مدينة بهما للسياسة البريطانية والقوة البريطانية. # إن حكومة جلالة الملك مقتنعة بأن الاتفاق التام في المصالح بين بريطانيا العظمى ومصر - ~~الذي جعل ائتلافا نافعا لكلتيهما في الماضي - هو دعامة العلاقة التي يجب على كلتيهما ~~استمرار المحافظة عليها، وعلى الإمبراطورية البريطانية الآن - كما كان في الماضي - أن تحمل ~~على عاتقها في آخر الأمر مسئولية الدفاع عن أراضي عظمتكم ضد أي تهديد خارجي، وكذلك عليها ~~تقديم المعونة التي قد تطلبها في أي وقت حكومة عظمتكم لحفظ سلطتكم في البلاد. ثم إن حكومة ~~جلالة الملك تطلب فوق ذلك أن يكون لها دون غيرها الحق في تقديم ما قد تحتاج حكومة عظمتكم من ~~المشورة في إدارة البلاد وتدبير ماليتها وترقية نظامها القضائي ومواصلة علاقاتها مع ~~الحكومات الأجنبية. على أن حكومة جلالته لا ترمي من وراء هذه المطالب إلى منع مصر من تمتعها ~~بكامل حقوقها في حكومة ذاتية وطنية، بل هي ترمي بذلك إلى التمسك بها قبل الدول الأجنبية ~~الأخرى، وهذه المطالب قوامها تلك الحقيقة، وهي أن استقلال مصر واستتباب النظام فيها ~~وسعادتها ركن أساسي لسلامة الإمبراطورية البريطانية. فحكومة جلالة الملك تأسف على أن مندوبي ~~عظمتكم لم يتقدموا أثناء المفاوضات تقدما يذكر في سبيل الاعتراف بما للإمبراطورية ~~البريطانية - دون سواها - من الأسباب الصحيحة للتمسك بهذه الحقوق والمسئوليات. # إن شروط ms137 المعاهدة التي تعتبرها حكومة جلالة الملك ضرورية لحفظ هذه الحقوق وكفالة هذه ~~المسئوليات قد أدرجت في مواد المشروع الذي سيرفعه إلى عظمتكم صاحب الدولة عدلي باشا، وأهم ~~هذه الشروط هو ما يتعلق بالجنود البريطانية. فإن حكومة جلالة الملك قد عنيت أتم عناية ببحث ~~الأدلة التي قدمها الوفد المصري في هذا الشأن، ولكنها لم تستطع أن تقبلها؛ لأن حالة العالم ~~الحاضرة ومجرى الأحوال في مصر منذ عقد الهدنة لا يسمحان بأي تعديل كان في توزيع القوات ~~البريطانية في الوقت الحاضر، ومن الواجب إعادة القول بأن مصر هي جزء من مواصلات ~~الإمبراطورية البريطانية، ولم يكد يمضي جيل على مصر منذ أنقذت من الفوضى، وهناك علامات ~~على أنه لا يبعد على المتطرفين في الحركة الوطنية أن يزجوا بمصر ثانية في الهوة التي لم ~~يطل العهد على إنقاذها منها، وقد زاد اهتمام جلالة الملك بهذا الشأن؛ لما رآه من عدم رغبة ~~وفد عظمتكم في الاعتراف بأن الإمبراطورية البريطانية يجب أن يكون عندها ضمان قوي ضد أي ~~تهديد مثل هذا لمصالحها، وإلى أن يحين الوقت الذي يكون فيه سلوك مصر مدعاة إلى الثقة ~~بالضمانات التي تعطيها يكون من الواجب على الإمبراطورية البريطانية نفسها أن تستبقي ما تراه ~~كافيا من الضمانات، وأول هذه الضمانات ورأسها هو وجود جنود بريطانية في مصر وحكومة جلالة ~~الملك لا يمكنها أن تتخلى عن هذا الضمان ولا أن تنقص منه. # على أنها تعيد القول وتؤكده بأن مطالبها في هذا الصدد لا يقصد بها استمرار حماية لا ~~فعلا ولا حكما، بل - بالعكس - إن أمنيتها القلبية الخالصة هي أن تتمتع مصر بحقوق وطنية، ~~ويكون لها بين الأمم مقام دولة متمتعة بحق السيادة على أن تكون مرتبطة ارتباطا وثيقا ~~بالإمبراطورية البريطانية بمعاهدة تكفل للفريقين مصالحهما وأغراضهما المشتركة؛ ولهذه الغاية ~~التي جعلتها حكومة جلالته نصب عينيها اقترحت رفع الحماية فورا والاعتراف بمصر «دولة ~~متمتعة بحقوق السيادة تحت إمرة ملوكية دستورية»، والاستعاضة عن العلاقات القائمة الآن بين ~~الإمبراطورية البريطانية ومصر «بمعاهدة دائمة رابطة سلام ووداد وتحالف ms138 »، وكانت حكومة جلالته ~~تأمل أن مصر بإعادة وزارة الخارجية ترسل ممثليها في الحال إلى الممالك الأجنبية، كما أنها ~~كانت على استعداد لتعضيد مصر في انضمامها إلى جمعية الأمم إذا طلبت ذلك؛ وبذلك كان يتحقق ~~لمصر في الحال ما للدول المتمتعة بحقوق السيادة من السلطة والميزات. # ولكن رفض حكومة عظمتكم الحاضرة لهذه الاقتراحات أوجد حالة جديدة، وهذه الحالة لا تؤثر في ~~مبدأ السياسة البريطانية، ولكنها بالضرورة تقلل من التدابير التي يمكن تنفيذها الآن؛ ولذلك ~~فإن حكومة جلالة الملك ترغب أن تبدي بوضوح حالة موقفها الآن. # ففيما يتعلق بالحاضر لا يمكن لحكومة جلالته تنفيذ اقتراحاتها بدون رضاء الأمة المصرية ~~واشتراكها، ولكن حكومة جلالته تحافظ على الرغبة التي كانت لديها على الدوام، وهي العمل على ~~إنماء مواهب المصريين بزيادة عدد الموظفين منهم في كل فرع، ولا سيما في الفروع الإدارية ~~العالية التي كثر فيها عدد الموظفين الأوروبيين، وحكومة جلالته مستعدة لأن تواصل بمشاورة ~~حكومة عظمتكم المفاوضات مع الدول الأجنبية لأجل إلغاء الامتيازات؛ لكي يكون الموقف الدولي ~~جليا عندما يحين وقت إصدار التشريع المصري الذي سيحل محل تلك الامتيازات، وكذلك ترجو ~~حكومة جلالته أن السلطة التي يباشرها الآن القائد العام تحت القانون العسكري، تباشرها ~~الحكومة المصرية وحدها بمقتضى القوانين المدنية المصرية، وهي تسر برفع الأحكام العسكرية ~~حالما يصدر «قانون التضمينات» ويعمل به في كل المحاكم المدنية والجنائية في مصر. # وهو قانون لا بد منه لحماية الحكومة المصرية، وحماية السلطة البريطانية في مصر. # وأما من جهة المستقبل، فإن حكومة جلالة الملك ترغب أن توضح بعبارة جلية السياسة التي ~~تنوي اتباعها؛ فقد علمت أن المشروع الذي قدمته إلى وفد عظمتكم قد رفض بحجة أن الضمانات ~~التي تضمنها المشروع لصيانة المصالح البريطانية والأجنبية؛ تقضي على التمتع بالحكومة ~~الذاتية تمتعا صحيحا، وهي تأسف غاية الأسف على أن استبقاء الجنود البريطانية في مصر ~~واشتراك الموظفين البريطانيين مع وزارتي الحقانية والمالية يساء فهم المراد منهما إلى هذا ~~الحد. إذا كان الشعب المصري يستسلم إلى أمانيه الوطنية - مهما كانت هذه الأماني ms139 صحيحة ~~ومشروعة في ذاتها - دون أن يكترث اكتراثا كافيا بالحقائق التي تستحكم في الحياة الدولية، ~~فإن تقدمه في سبيل تحقيق مطمحه الأسمى لا يصيبه التأخير فقط بل يتعرض للخطر تعرضا ~~تاما؛ إذ ليس من فائدة ترجى من وراء التصغير من شأن ما على الأمة من الواجبات، وتعظيم ما ~~لها من الحقوق، وأن الزعماء المتطرفين الذين يدعون إلى هذا لا يعملون على نهوض مصر بل ~~يهددون رقيها. وهم بما كان لهم من الأثر في مجرى الحوادث قد تحدوا مرة بعد مرة الدول ~~الأجنبية في مصالحها وأثاروا مخاوفها، وكذلك عملوا في الأسابيع الأخيرة على التأثير على ~~مصير المفاوضات بنداءات مهيجة استثاروا بها جهل العامة وشهواتهم. وأن حكومة جلالة الملك لا ~~تعتبر أنها تخدم مصلحة مصر بتساهلها إزاء تهييج من هذا القبيل، ولن يمكنوا مصر أن تسير في ~~سبيل الرقي إلا متى أظهر قادتها المسئولون من الحزم والعزيمة ما يكفل قمع مثل هذا ~~التهييج، فإن العالم الآن تألم من جهات عديدة من الاندفاع في نوع من الوطنية المتعصبة ~~المضطربة، وحكومة جلالة الملك تقاوم هذا النوع من الوطنية بكل شدة سواء في مصر أو في غيرها، ~~وأن أولئك الذين يستسلمون لتلك النزعات إنما يعملون على جعل القيود الأجنبية التي يطلبون ~~الخلاص منها أشد لزوما، وبذلك يطيلون أجلها. # وإذ كان الأمر كذلك، فإن حكومة جلالة الملك مراعاة لمصلحة مصر ومصلحتها الخاصة أيضا ~~تستمر بلا تردد على مواصلة غرضها كمرشدة لمصر، وأمينة على مصالحها، ولا يكفيها أن تعلم أن ~~في استطاعتها العودة إلى مصر إذا تبين أن مصر بعد أن تركت لنفسها بغير معونة قد عادت إلى ~~عهد التبذير والاضطراب الذي لازمها في القرن الماضي. فرغبة حكومة جلالة الملك أن تستكمل ~~العمل الذي بدئ به في عهد اللورد كرومر لا أن تبدأه من جديد، وهي لا تنوي أن تبقي مصر تحت ~~وصايتها بل - بالعكس - ترغب في تقوية عناصر التعمير في الوطنية المصرية، وتوسيع مجال العمل ~~أمامها، وتقريب الوقت الذي يمكن فيه تحقيق المطمح الوطني تحقيقا تاما ms140 ، ولكنها ترى من ~~الواجب أن تصر على الاحتفاظ بالحقوق والسلطة الفعالة لأجل صيانة مصالح مصر ومصالحها الخاصة ~~على السواء، وذلك إلى أن يظهر الشعب المصري أنه قادر على صيانة بلاده من الاضطراب الداخلي، ~~وما يترتب عليه حتما من تداخل الدول الأجنبية. # وسبيل التقدم الوحيد للشعب المصري يقوم على تآزره مع الإمبراطورية البريطانية لا على ~~تنافرهما، وحكومة جلالته لرغبتها في هذا التآزر مستعدة فيما يتعلق بها إلى البحث في أية ~~طريقة قد تعرض عليها لأجل تنفيذ اقتراحاتها في جوهرها، وذلك في أي وقت تريده حكومة عظمتكم، ~~على أنها مع هذا لا يسعها تعديل المبدأ الذي بنيت عليه تلك الاقتراحات، ولا إضعاف الضمانات ~~الجوهرية التي تشتمل عليها، وهذه الاقتراحات من مقتضاها أن يكون مستقبل مصر في أيدي الشعب ~~المصري بنفسه، فكلما زاد اعتراف شعبكم بوحدة المصالح البريطانية ومصالحه قلت الحاجة إلى ~~هذه الضمانات. وقادة مصر المسئولون هم الذين عليهم في هذا العهد الثاني من اشتراكهم مع ~~بريطانيا العظمى أن يثبتوا، بقبولهم النظام الوطني المعروض عليهم الآن وبالتزام جانب الحكمة ~~في العمل به، أن المصالح الحيوية للإمبراطورية البريطانية في بلادهم يمكن أن توكل ~~لعنايتهم بالتدريج. ~~(4) رد الوفد الرسمي على مشروع الاتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر # اطلع الوفد الرسمي المصري على المشروع الذي سلمه اللورد كرزون إلى رئيس الوفد بتاريخ 10 ~~نوفمبر سنة 1921. # ولقد رأى أن هذا المشروع تضمن - فيما يتعلق بأكثر المسائل التي تناولتها مناقشاتنا ~~والمذكرات التي تبادلناها منذ أربعة شهور - نفس النصوص والصيغ التي عرضت علينا عند بدء ~~المفاوضات ولم نقبلها حينئذ. # فعن المسألة العسكرية - وهي ذات أهمية كبرى - استبقى المشروع الحل الذي قاومناه أشد ~~مقاومة، ولم يقتصر على ذلك بل توسع في مرماه بما جعله أشد وطأة. على أن حماية المواصلات ~~الإمبراطورية، وهي التي قيل في مفاوضات العام الماضي إنها العلة الوحيدة لوجود قوة عسكرية ~~في القطر المصري، لا تبرر هذا الحل. # ففي حين أنه كان يكفي تعيين نقطة في منطقة القنال تنحصر فيها طرق ووسائل المواصلات ~~الإمبراطورية، وكذلك القوة التي تتولى ms141 حمايتها، نص المشروع على تخويل بريطانيا العظمى الحق ~~في إبقاء قوات عسكرية في كل زمان وفي أي مكان بالأراضي المصرية، ووضع أيضا تحت تصرفها كل ~~ما لدى القطر من وسائل المواصلات وطرقها، وهذا إنما هو الاحتلال بذاته، الاحتلال الذي يهدم ~~كل معنى للاستقلال، بل ويذهب إلى حد القضاء على السيادة الداخلية. على أن الاحتلال العسكري ~~في الماضي، ولو لم تكن له إلا صفة مؤقتة، قد كفى لأن يثبت لبريطانيا العظمى المراقبة ~~المطلقة على الإدارة كلها، وإن لم يكن هناك أي نص في معاهدة أو تقرير لأية سلطة. # أما مسألة العلاقات الخارجية، وهي المسألة الوحيدة التي عدلت فيها الصيغة الأولى التي ~~كانت وضعتها وزارة الخارجية البريطانية، وذلك بقبول مبدأ التمثيل، فإن المشروع قد أحاط الحق ~~الذي اعترف لنا به بقيود كثيرة أصبح معها بمثابة حق وهمي؛ إذ لا يتصور أن تتوفر لدى وزير ~~الخارجية الحرية التي يقتضيها القيام بأعباء منصبه وتحمل مسئوليته إذا كان ملزما بنص صريح ~~بأن يبقى على اتصال وثيق بالمندوب السامي، فإن ذلك معناه أن يكون خاضعا في الواقع لمراقبته ~~مباشرة في إدارة الأمور الخارجية، وعدا ذلك فإن الالتزام بالحصول على موافقة بريطانيا ~~العظمى على جميع الاتفاقات السياسية - حتى ما لا يتناقض منها مع روح التحالف - فيه إخلال ~~خطير بمبدأ السيادة الخارجية. وأخيرا فإن استبقاء لقب المندوب السامي، وهو لقب لم تجر ~~العادة بمنحه إلى الممثلين السياسيين لدى البلاد المستقلة، لهو أوضح في الدلالة على طبيعة ~~النظام السياسي المقترح لمصر. # ومن جهة أخرى فإن تأجيل مسألة الامتيازات دعانا إلى الاعتقاد بأنه لم تبق حاجة إلى النص ~~عليها في المعاهدة، وأن المفاوضة بشأنها في المستقبل تكون موكولة إلى مصر صاحبة الشأن الأول ~~مع معاونتها في ذلك سياسيا من جانب حليفتها. ولكن المسألة منظور إليها اليوم كأنها تعني ~~على الأخص بريطانيا العظمى التي تتولى من الآن حماية المصالح الأجنبية، وتريد أن تباشر ~~وحدها عند الاقتضاء المفاوضات بشأن إلغاء الامتيازات. # أما فيما يتعلق بالمندوبين (القوميسيرين) المالي والقضائي، وبتداخلهما في إدارة الشئون ms142 ~~الداخلية كلها باسم حماية المصالح الأجنبية تداخلا قد يصل في بعض الأحوال فيما يختص ~~بالمندوب (القوميسير) المالي إلى شل سلطة الحكومة والبرلمان، فإننا لا نريد هنا أن نكرر ما ~~سبق لنا إبداؤه من الاعتراضات في مذكراتنا. # على أنه يتحتم علينا القول بأن المناقشات التي تلت تأجيل مسألة الامتيازات بعثت في ~~نفوسنا الشعور بأن الاتفاق فيما يتعلق بحماية المصالح الأجنبية سيقوم على قواعد أكثر ملاءمة ~~للسيادة المصرية. # أما مسألة السودان التي لم يكن قد تناولها البحث فلا بد لنا فيها من توجيه النظر إلى أن ~~النصوص الخاصة بها لا يمكن التسليم بها من جانبنا؛ فإن هذه النصوص لا تكفل لمصر التمتع بما ~~لها على تلك البلاد من حق السيادة الذي لا نزاع فيه وحق السيطرة على مياه النيل. ~~••• # إن الملاحظات المتقدمة لا تجعل ثمة حاجة إلى مناقشة المشروع تفصيلا؛ إذ فيها ما يكفي ~~للدلالة على روحه ومرماه، وغير هذا فقد التزم المشروع تكرار ذكر تعهدات بريطانيا العظمى ~~و«المسئوليات الخصوصية» الواقعة على المندوب السامي، وكذلك الغرض الجديد - وهو قصد صيانة ~~المصالح الحيوية لمصر - الذي اتخذ سببا لوجود القوة العسكرية، وبهذا تتم للمشروع صيغة ~~الوصاية الفعلية. # إنا لما قبلنا المهمة التي عهد بها إلينا عظمة السلطان كنا نؤمل الوصول إلى إبرام ~~معاهدة تحالف مؤيدة لاستقلال مصر تأييدا حقيقيا، وكفيلة في الوقت نفسه بصيانة المصالح ~~البريطانية، وعندئذ فإن مصر حليفة بريطانيا العظمى كانت تعد من واجبات كرامتها الوفاء ~~بإخلاص بما تقطعه على نفسها من العهود، ولكن التحالف بين أمتين لا يمكن أن يتحقق إلا على ~~شريطة أن لا يقضى على إحداهما بالخضوع الدائم. # وإن روح المسالمة التي سادت مناقشاتنا كانت تسمح لنا بالتفاؤل بنجاح المفاوضات، ولكن ~~المشروع الذي أمامنا لم يحقق هذا الأمل، فهو بحالته لا يجعل محلا للأمل في الوصول إلى ~~اتفاق يحقق أماني مصر الوطنية. # لوندره في 15 نوفمبر سنة 1921 ~~(5) الوثيقتان الجديدتان: كتاب اللورد اللنبي إلى عظمة السلطان # يا صاحب العظمة ~~(1) # أتشرف بأن أعرض لمقام عظمتكم أن الناس قد ذهبوا في تأويل ms143 بعض عبارات المذكرة ~~التفسيرية التي قدمتها إلى عظمتكم في الثالث من شهر ديسمبر مذاهب تخالف أفكار ~~الحكومة البريطانية وسياستها، وهو ما آسف له أشد الأسف. ~~(2) # ولقد يخال المرء مما نشر عن هذه المذكرة من التعليقات العديدة أن كثيرا من ~~المصريين ألقي في روعهم أن بريطانيا العظمى توشك أن ترجع في نواياها القائمة ~~على التسامح والعطف على الأماني المصرية، وأنها تنوي الانتفاع بمركزها الخاص ~~بمصر؛ لاستبقاء نظام سياسي إداري لا يتفق والحريات التي وعدت بها. ~~(3) # غير أنه ليس شيء أبعد عن خاطر الحكومة البريطانية من هذه الفكرة، بل إن ~~الأساس الذي بنيت عليه المذكرة التفسيرية هو أن الغاية من الضمانات التي ~~تطلبها بريطانيا العظمى ليست إبقاء الحماية حقيقة أو حكما، وقد نصت المذكرة ~~على أن بريطانيا العظمى صادقة الرغبة في أن ترى مصر متمتعة بما تتمتع به البلاد ~~المستقلة من ميزات أهلية ومن مركز دولي. ~~(4) # وإذا كان المصريون قد رأوا في هذه الضمانات أنها تجاوزت الحد الذي يلتئم مع ~~حالة البلاد الحرة فقد غاب عنهم أن إنكلترا إنما ألجأها إلى ذلك حرصها على ~~سلامة نفسها تلقاء حالة تتطلب منها أشد الحذر خصوصا فيما يتعلق بتوزيع القوات ~~العسكرية. على أن الأحوال التي يمر بها العالم الآن لن تدوم، ولا يلبث كذلك أن ~~يزول الاضطراب السائد في مصر منذ الهدنة، والأمل وطيد في أن الأحوال العالمية ~~صائرة إلى التحسن. هذا من جانب، ومن جانب آخر - فكما قيل في المذكرة - سيجيء ~~وقت تكون فيه حالة مصر مدعاة إلى الثقة بما تقدمه هي من الضمانات المصرية ~~لصيانة المصالح الأجنبية. ~~(5) # أما أن تكون إنكلترا راغبة في التداخل في إدارة مصر الداخلية، فذلك ما قالت ~~فيه الحكومة البريطانية - ولا تزال تقول - إن أصدق رغباتها وأخلصها هو أن تترك ~~للمصريين إدارة شئونهم، ولم يكن يخرج مشروع الاتفاق الذي عرضته بريطانيا العظمى ~~عن هذا المعنى، وإذا كان قد ورد فيه ذكر موظفين بريطانيين لوزارتي المالية ~~والحقانية، فإن الحكومة البريطانية لم ترم بذلك إلى استخدامهما للتداخل في ~~شئون مصر، وكل ms144 ما قصدته هو أن تستبقي أداة اتصال تستدعيها حماية المصالح ~~الأجنبية. ~~(6) # هذا هو كل مرمى الضمانات، ولم تصدر هذه الضمانات قط عن رغبة في الحيلولة بين ~~مصر وبين التمتع بحقوقها الكاملة في حكومة أهلية. ~~(7) # فإذا كانت هذه هي نوايا إنكلترا، فلا يمكن لأحد أن ينكر أن إنكلترا يعز ~~عليها أن ترى المصريين يؤخرون بعملهم حلول الأجل الذي يبلغون فيه مطمحا ترغب ~~فيه إنكلترا كما تتوق إليه مصر، أو أن ينكر أنها تكره أن ترى نفسها مضطرة إلى ~~التداخل لرد الأمن إلى نصابه كلما أدركه اختلال يثير مخاوف الأجانب ويجعل مصالح ~~الدول في خطر، وإنه ليكون مما يؤسف له أن يرى المصريون في التدابير الاستثنائية ~~التي اتخذت أخيرا أي مساس بمطمحهم الأسمى أو أية دلالة على تغيير القاعدة ~~السياسية التي سبق بيانها. فإن الحكومة البريطانية لم يعد غرضها أن تضع حدا ~~لتهييج ضار قد يكون لتوجيهه إلى أهواء العامة نتائج تذهب بثمرة الجهود القومية ~~المصرية؛ ولذلك كان الذي روعي بوجه خاص فيما اتخذ من التدابير مصلحة القضية ~~المصرية التي تستفيد من أن البحث فيها يجري في جو قائم على الهدوء والمناقشة ~~بإخلاص. ~~(8) # والآن وقد بدت تعود السكينة إلى ما كانت عليه بفضل الحكمة التي هي قوام ~~الخلق المصري، والتي تتغلب في الساعات الحاسمة، فإنني لسعيد أن أنهي إلى ~~عظمتكم أن حكومة جلالة الملك تنوي أن تشير على البرلمان بإقرار التصريح الملحق ~~بهذا، وإنني على يقين بأن هذا التصريح يوجد حالة تسود فيها الثقة المتبادلة، ~~ويضع الأساس لحل المسألة المصرية حلا نهائيا مرضيا. ~~(9) # وليس ثمة ما يمنع منذ الآن من إعادة منصب وزير الخارجية، والعمل لتحقيق ~~التمثيل السياسي والقنصلي لمصر. ~~(10) # أما إنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف والرقابة على السياسة والإدارة في حكومة ~~مسئولة على الطريقة الدستورية، فالأمر فيه يرجع إلى عظمتكم وإلى الشعب ~~المصري. # وإذا أبطئ لأي سبب من الأسباب إنفاذ قانون التضمينات (إقرار الإجراءات التي اتخذت ~~باسم السلطة العسكرية) الساري على جميع ساكني مصر - والذي أشير إليه في التصريح الملحق ~~بهذا ms145 - فإنني أود أن أحيط عظمتكم بأنني إلى أن يتم إلغاء الإعلان الصادر في 2 نوفمبر سنة ~~1914 سأكون على استعداد لإيقاف تطبيق الأحكام العرفية في جميع الأمور المتعلقة بحرية ~~المصريين في التمتع بحقوقهم السياسية. # فالكلمة الآن لمصر، وإنه ليرجى أنها وقد عرفت مبلغ حسن استعداد الحكومة البريطانية ~~ونواياها تسترشد في أمرها بالعقل والروية لا بعامل الأهواء. # ولي مزيد الشرف، إلخ. # القاهر في 28 فبراير سنة 1922 # اللنبي فيلد ماريشال ~~(6) تصريح لمصر # بما أن حكومة جلالة الملك عملا بنواياها التي جاهرت بها ترغب في الحال في الاعتراف بمصر ~~دولة مستقلة ذات سيادة. # وبما أن للعلاقات بين حكومة جلالة الملك وبين أهمية جوهرية للإمبراطورية ~~البريطانية. # فبموجب هذا تعلن المبادئ الآتية: ~~(1) # انتهت الحماية البريطانية على مصر، وتكون مصر دولة مستقلة ذات سيادة. ~~(2) # حالما تصدر حكومة عظمة السلطان قانون تضمينات (إقرار الإجراءات التي اتخذت ~~باسم السلطة العسكرية) نافذ العمل على جميع ساكني مصر تلغى الأحكام العرفية التي ~~أعلنت في 2 نوفمبر 1914. ~~(3) # إلى أن يحين الوقت الذي يتسنى فيه إبرام اتفاقات بين حكومة جلالة الملك وبين ~~الحكومة المصرية فيما يتعلق بالأمور الآتي بيانها، وذلك بمفاوضات ودية غير مقيدة ~~بين الفريقين، تحتفظ حكومة جلالة الملك بصورة مطلقة بتولي هذه الأمور، ~~وهي: ~~(أ) # تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر. ~~(ب) # الدفاع عن مصر من كل اعتداء أو تداخل أجنبي بالذات أو ~~بالواسطة. ~~(ج) # حماية المصالح الأجنبية في مصر وحماية الأقليات. ~~(د) # السودان. # وحتى تبرم هذه الاتفاقات تبقى الحالة فيما يتعلق بهذه الأمور على ما هي عليه ~~الآن. ~~(7) تأليف الوزارة الجديدة: أمر كريم نمرة 13 لسنة 1922 صادر لحضرة صاحب الدولة عبد الخالق ~~ثروت باشا # عزيزي عبد الخالق ثروت باشا # إن القرار الذي أبلغنا إياه صاحب المقام الجليل المندوب السامي لدولة بريطانيا العظمى ~~فيما يختص بانتهاء الحماية البريطانية على مصر بالاعتراف بها دولة مستقلة ذات سيادة، ~~يحقق أعز أمنية لنا ولشعبنا العزيز، وهو ثمرة الجهاد القومي الذي تعهدناه على الدوام ~~بالتشجيع والتأييد، ولا ريب عندنا في أن استمساك الأمة بروابط الوئام والاتحاد والتزامها ~~جانب الحكمة ms146 في هذا الدور الجديد من حياتها السياسية كفيل بتحقيق كامل أمانيها. # ونظرا لما نعرفه لكم من الجهد المشكور في خدمة القضية المصرية، ولما لنا من الثقة ~~التامة بكم، وما نعهده فيكم من الجدارة الكاملة للقيام بمهام الأمور، قد اقتضت إرادتنا ~~السلطانية توجيه سند رئاسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرئاسة الجليلة لعهدتكم، وقد أصدرنا ~~أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف وزارة جديدة يكون من بينها وزير للخارجية، وعرض مشروعه ~~لجنابنا لصدور مرسومنا العالي به، ولما كان من أجل رغباتنا أن يكون للبلاد نظام دستوري ~~يحقق التعاون بين الأمة والحكومة؛ لذلك يكون من أول ما تعنى به الوزارة إعداد مشروع ذلك ~~النظام. # وإنا نسأل الله العلي القدير أن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا ورعايانا ~~بالخير والسعادة، وهو المستعان. # صدر بسراي عابدين # في 2 رجب سنة 1340 / أول مارس 1922 # الإمضاء: (فؤاد) # برنامج الوزارة # يا صاحب العظمة # أتقدم إلى سدة عظمتكم بفائق الشكر على ما تفضلت فأوليتني من الثقة السامية ~~إذ عهدت إلي بتأليف الوزارة الجديدة، ووجهت إلي رتبة الرئاسة الجليلة. # وإني لأتشرف بأن أعرض على عظمتكم أسماء الوزراء الذين تتألف منهم هيئة الوزارة، ~~وقد قبلوا مشاركتي في العمل، وهم: # إسماعيل صدقي باشا # لوزارة المالية # وإبراهيم فتحي باشا # لوزارة الحربية والبحرية # وجعفر ولي باشا # لوزارة الأوقاف # ومصطفى ماهر باشا # لوزارة المعارف العمومية # ومحمد شكري باشا # لوزارة الزراعة # ومصطفى فتحي باشا # لوزارة الحقانية # وحسين واصف باشا # لوزارة الأشغال العمومية # وواصف سميكة بك # لوزارة المواصلات # وقد احتفظت بوزارتي الداخلية والخارجية. # فإذا وقع هذا الاختيار موقع الاستحسان لدى عظمتكم يصدر المرسوم العالي بالتصديق ~~عليه. # يا صاحب العظمة # لم يكن لزملائي ولي، ونحن نشاطر الأمة أمانيها في الاستقلال، إلا أن نقر الوفد ~~الرسمي الذي تولى المفاوضات لعقد اتفاق مع بريطانيا العظمى على ما فعل. فلم يكن ~~يسعنا أن نتولى أعباء الحكم ما دامت المبادئ التي تسترشد بها الحكومة البريطانية ~~في سياستها نحو مصر هي تلك التي كانت تظهر من مشروع 10 نوفمبر من العام الماضي، ~~ومن المذكرة التفسيرية التي ms147 تلته، فإن تولي الحكم في ظل مثل هذه المبادئ قد يكون ~~فيه معنى القبول بها. # غير أن الكتاب الذي رفعه فخامة المندوب السامي البريطاني إلى عظمتكم، وتصريح ~~الحكومة البريطانية في البرلمان، قد أحدثا في الحالة تغييرا كبيرا، فأصبح من ~~الممكن أن تتألف هذه الوزارة؛ إذ إنها ترى أن الشعور القومي أصاب ترضية من هاتين ~~الوثيقتين، لا من ناحية الاعتراف باستقلال مصر حالا وقبل أي اتفاق فحسب، بل ولأن ~~المفاوضات المقبلة ستكون حرة غير مقيدة بأي تعهد سابق. # أما وقد جزنا هذا الدور بخير، فلم يبق على مصر إلا أن تثبت لبريطانيا العظمى ~~أن ليس بها في سبيل حماية مصالحها من حاجة للتشدد في طلب ضمانات قد يكون فيها مساس ~~باستقلالنا، وأن خير الضمانات في هذا الصدد وأجلها أثرا هي حسن نية مصر ~~ومصلحتها في حفظ العهود. # على أن الوزارة ترى أنه لكي تكون جهود البلاد في سبيل تحقيق كامل أمانيها بحيث ~~تؤتي جميع ثمرها، يجب أن يؤلف بين عمل الحكومة وبين عمل هيئة تنوب عن الأمة، وأن ~~تسعى الهيئتين متساندتين لأغراض متحدة؛ ولذلك فإن الوزارة عملا بأوامر عظمتكم ~~ستأخذ في الحال في إعداد مشروع دستور طبقا لمبادئ القانون العام الحديث، وسيقرر ~~هذا الدستور مبدأ المسئولية الوزارية؛ ويكون بذلك للهيئة النيابية حق الإشراف على ~~العمل السياسي المقبل. # وغني عن البيان أن إنفاذ هذا الدستور يقتضي إلغاء الأحكام العرفية، هذا وإن ~~إعادة منصب وزير الخارجية سيعين على العمل لتحقيق التمثيل السياسي والقنصلي لمصر ~~في الخارج. # ونظرا لأن النظام الإداري الحالي لا يتفق مع النظام السياسي الجديد ومع ~~الأنظمة الديموقراطية التي ستمنحها البلاد، فإن الوزارة قد اعتزمت أن تتولى الأمر ~~بنفسها وبلا شريك في الحكم الذي ستتحمل كل مسئوليته أمام الهيئة النيابية المصرية، ~~وسيكون رائدها في إدارة شئون الأمة توجيهها إلى المصلحة القومية دون غيرها، ~~والوزارة موقنة بأن أكبر عامل لنجاح مصر في تسوية المسائل التي بقي حلها، وأقوى ~~حجة تستعين بها في تأييد وجهة نظرها، هو أن تقبل على هذا الدور الجديد ms148 متحدة ~~الكلمة مؤتلفة القلوب، وأن تأخذ بدواعي النظام، وتلتزم جانب الحكم. # والوزارة تحيي العصر الجديد الذي كان لعظمتكم أجل أثر في طلوعه على الأمة ~~بفضل ما بذلته عظمتكم من المساعي الوطنية العالية، وهي واثقة أن ستلقى من لدن ~~عظمتكم كل تأييد في عمل الغد، وإنها لترجو أن يجيء مكللا لمجهود البلاد. # وإني لا أزال لعظمتكم العبد الخاضع المطيع، والخادم المخلص الأمين. # ثروت # القاهرة في 2 رجب سنة 1340 / أول مارس سنة 1922 ~~(8) خطب ثروت باشا في وفود المهنئين ملخصة في مقطم 21 مارس سنة 1922 - خلاصة خطب ثروت ~~باشا في وفود الأعيان يوم 21 مارس سنة 1922 # إن مصر خطت الخطوة العظمى في سبيل الاستقلال وذلك بفضل أهلها، كل على قدر اشتراكه ~~في الاتحاد والتضامن في سبيل الاستقلال. فهم - أي الوفود - يهنئون دولته به ويشكرونه عليه، ~~ولكن دولته يرد ثناءهم إليهم، ويشكر الأمة وأبناءها الذين جدوا وجاهدوا لنيل هذا ~~الاستقلال بتضامنهم، واتحاد كلمتهم حتى حصلوا على هذه النعمة العظمى من نعم الله التي يجب ~~عليهم التحدث بها على الدوام. قال: فلقد حضر هذا الصباح معتمدو الدول الأجنبية إلى سراي ~~عابدين العامرة لجلالة الملك، فقدمهم دولته إلى جلالته واحدا واحدا، ثم خطب أقدمهم عهدا ~~فهنأ جلالته باستقلال مصر مجاهرا على رءوس الأشهاد. # ثانيا: إنه إذا قلنا إن مصر خطت الخطوة العظمى في سبيل الاستقلال، فليس المراد من ذلك ~~أن مصر لم تحصل على استقلالها؛ لأنها حصلت عليه من الوجهة الوطنية المصرية، وإنما المراد ~~أنه لا يزال أمام مصر مفاوضات يلزمها أن تفاوضها من الوجهة البريطانية؛ لأن إنكلترا تطلب ~~من مصر ضمانات، فقد كانت إنكلترا قابضة على استقلال مصر وهي تقول لنا: إنه ~~وديعة بيدي أسلمكم إياه متى أعطيتموني الضمانات التي ~~أطلبها منكم، وكان دولته ينتقل من هذا الكلام إلى الكلام عن الوفد المصري الرسمي، ويطري ~~مآثر صاحب الدولة عدلي باشا فيه، وامتناعه عن أن يقيد الأمة بإعطاء الضمانات المطلوبة حتى ~~عاد دولته ورفاقه من دون أن يتم الاتفاق على الاستقلال المطلوب. وانحاز ثروت باشا وغيره من ~~الوزراء الباقين ms149 في هذا القطر إلى دولة عدلي باشا وقالوا قوله ورفضوا ما رفضه، وهكذا فضل ~~أعضاء الوزارة الحالية معتمدين في ذلك كله على اتحاد الأمة وحسن تضامنها وصدق غيرتها ~~وعزيمتها؛ حتى قدر الله أن رضيت إنكلترا بتسليم وديعة الاستقلال إلى مصر، وأن لا تطالب ~~الوزارة المصرية أية كانت بالضمانات التي تريدها، بل تطالب الأمة المصرية ذاتها. فنالت مصر ~~استقلالها وفازت بحريتها وهي لم تقيد بشيء ولا أخذ عليها عهد ما. والآن تسعى الوزارة ~~في إنشاء برلمان مصري يكون له القول الفصل في مسألة الضمانات الإنكليزية. قال دولته: «فإذا ~~بحث نواب أمتكم في تلك الضمانات ووجدوها مطابقة لاستقلالهم ومصلحة بلادهم قبلوها، وإذا لم ~~يجدوها كذلك رفضوها وهم أسياد في بلادهم.» ثم كان دولته يتخلص من ذلك. # ثالثا: إن الفوز التام في سبيل هذا الاستقلال إنما ينال إذا سلكت الأمة سبيل العقل ~~والروية، وحافظت على السكون وتمام النظام، وأظهرت للأوروبيين جميعا أنها أمة تحسن السير، ~~وتستطيع التقدم في مراتب الكمال بعد تمتعها بنعمة الاستقلال. قال دولته: «وهذا يتوقف أمره ~~عليكم ويطلب منكم، والحكومة ترجو أنكم تضافرونها عليه وتكونون لها عونا فيه، فهي مستعدة ~~لأن تضع بيدكم ما يلزم لحفظ السكون والنظام من وسيلة وعدة من الوسائل المشروعة، وعاقدة ~~النية على أن لا تدخر وسعا في تأييد النظام، وشد أزر المحافظين عليه، والضرب على كل يد ~~تعبث به وتعيث فسادا في البلاد، وهي مصممة أيضا على أن تفرغ جهدها في عمل كل ما تقتضيه ~~مصلحة البلاد من الأعمال، وما يقتضيه السكون والنظام، وتقدم البلاد والعباد في الراحة ~~والرفاهة. وترجو أن الأمة تتأنى في حكمها على عملها، ولا تتسرع بالإصغاء إلى الأقوال التي ~~لا تطابق الواقع حتى يتضح لها الغث من الثمين والصدق من المين؛ فتحكم حكمها بعد ذلك.» وكانت ~~الوفود تقابل أقوال دولته بالهتاف والدعاء، وخصوصا عند ذكر دولة عدلي باشا، وكانت تهتف ~~طويلا وتصفق كثيرا. ~~(9) خطبة صاحب الدولة ثروت باشا في مأدبة الكونتننتال # حضرات السادة الأجلاء # إني أغتبط الاغتباط بموقفي بينكم في هذا ms150 اليوم السعيد الميمون الذي هو أول عيد ~~لميلاد مولانا المعظم بعد إعلان استقلال البلاد. # أرى أيها السادة من واجبي قبل كل شيء أن أنحني بكل احترام وإجلال تحية لصاحب عرش ~~مصر على ما أبداه من التفاني في شد أزر أمته والأخذ بناصرها في هذا الدور العظيم من ~~أدوار تاريخها الطويل المجيد. # لقد كان من بواعث سعادتي أن رأيت بنفسي عن كثب ما قام به مليكنا النبيل من الجهاد ~~في القضية المصرية، فأثبت بهذا أن الدم لا يكذب، وكتب لنفسه في تاريخ المجد صحيفة ~~خالدة جديرة بابن إسماعيل وحفيد إبراهيم ومحمد علي، فليحيا سيد مصر المستقلة، ولنهتف ~~جميعا من قلب مفعم بالإخلاص والولاء: ليحيا جلالة الملك فؤاد الأول. # ثم نحيي بعد ذلك هذه الأمة الكريمة التي عرفت قدر نفسها، واستمسكت بحقها، وأبت ~~أن تتنازل عما يوجبه عليها تاريخها الحافل بالعظائم، ويحتمه عليها ماضيها العظيم، ~~وأظهرت من الحكم وسداد الرأي ما أكسبها احترام الأمم، وجعلها جديرة بما تطمح إليه ~~من المستقبل الزاهر. فإنه إذا كان لأحد فضل فيما وصلنا إليه وفي ما سنصل إليه بعون ~~الله وتأييد مليك البلاد، فإن الفضل في الواقع للأمة بأجمعها، ولما أبداه كل فرد ~~منها كبيرا أو صغيرا في صدق الوطنية وروح التضحية. # أيها السادة؛ أنتم من صفوة أبناء الأمة، ومن خيرة أهل الفضل والحجى فيها، ولكم ~~أكبر مصلحة في نجاحها ويسرها، فأنا أنتهز هذا الظرف السعيد لكي أكاشفكم بما يجول في ~~نفسي، وأخاطبكم اليوم لكي أستمد العون والتعضيد منكم على ما أنا ماض فيه مع زملائي، ~~فإنما نحن لكم نعمل وبكم نعتز، وليس لنا من الحول إلا بمقدار ما نرى منكم من الأخذ ~~بناصرنا، وما تولونا من ثقة. # لنرجع إذن أيها السادة قليلا إلى الوراء لنتعرف الحالة على حقيقتها، ولنتبين ~~منها أهمية الخطوة التي خطوناها أخيرا. # بسطت بريطانيا العظمى حمايتها على مصر في 18 ديسمبر سنة 1914 على أثر دخول تركيا ~~الحرب العامة وانضمامها إلى دولتي الوسط، وأعلنت في تبليغها للمغفور له السلطان حسين ~~كامل أن جميع الحقوق ms151 التي كانت لتركيا قد سقطت عنها، وآلت إلى الحكومة البريطانية، ~~ولكنها أعلنت في الوقت نفسه أنها تعتبر هذه الحقوق وديعة تحت يدها لسكان القطر ~~المصري. # كانت نيران الحرب مشتعلة والنفوس ثائرة، وقد أوشكت أركان الحضارة أن تنهار، وأصبح ~~مصير الشعوب معلقا في ميزان القدر. فلم يكن في وسع مصر إلا أن تصبر حتى تنجلي هذه ~~الكارثة ويتبين وجه الحق، وأقبلت على بريطانيا تنجدها نجدة الكريم للكريم، ولم تدخر ~~جهدا في سبيل مدها بالمعونة حتى بسم ثغر النصر، فلما أمضيت الهدنة بادرت مصر تقاضي ~~إنكلترا ما وعدت به في إعلانها من أن حقوق تركيا وديعة تحت يدها لسكان مصر، وتطالبها ~~برد الوديعة لأصحابها. # ولا أرى داعيا إلى الإسهاب في بيان ما وضع في هذه السنوات من الجهاد الطويل، ~~وما حدث فيه من التطور في الأفكار، فكلكم اشترك فيه، وكلكم كان من المجاهدين، ولكني ~~أذكركم أني كنت في ذلك العهد عضوا في الوزارة متشرفا فيها برياسة ذلك الوطني ~~الجليل حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا وزميله الصديق الوفي الأمين دولة عدلي باشا، ~~فأبت الوزارة أن تسكت على حق مصر أو تقبل في هذا الحق هوادة أو تسويفا، فلما حالت ~~الحكومة البريطانية بيننا وبين إبداء ما نريد كانت الاستقالة المعروفة، ولا ينكر أحد ~~ما كان لهذه الاستقالة من الأثر في تاريخ الحركة المصرية. # كان المذهب الذي تذهب إليه الحكومة البريطانية في بادئ الأمر أن مصر قد دخلت في ~~دائرة الحماية فلن تخرج منها، وقد أوفدت اللورد ملنر إلى مصر لكي ينظر في خير الأنظمة ~~لهذه البلاد في دائرة الحماية، فلما تبين لها أنه ما من مصري يرضى بتلك الحماية التي ~~فرضت على مصر فرضا لضرورات خاصة، تحولت عن موقفها الأولي، وانتهى بها الأمر إلى ~~الاعتراف بأن الحماية لم تعد علاقة مرضية، وطلبت إلى مصر المفاوضة في إبدال هذه ~~العلاقة بغيرها. # يتبين لكم من هذا أن السياسة البريطانية تجاه مصر كانت قائمة على أن إلغاء الحماية ~~لا يمكن أن يتم إلا في مقابل علاقة ms152 جديدة تحل محلها، وعلى أن لبريطانيا العظمى في هذا ~~القطر مصالح جوهرية لا بد لها من تأمينها وضمانتها، فلن تعترف باستقلالنا إلا متى ~~أعطيناها هذه الضمانات. # وإنا أيها السادة نعتقد أن خير ضمانة لمصالح إنكلترا ومصالح جميع الدول الأجانب ~~على السواء، هو حرص مصر نفسها على حسن سمعتها كدولة متمدنة راقية، ومصلحتها في حفظ ~~عهودها. فلقد أخذنا بأسباب الرقي من عهد بعيد، وأدخلنا إلى بلادنا الأنظمة ~~الحديثة، ونشرنا فيها راية العرفان، وأوفدنا البعثات العلمية إلى البلاد الغربية، ~~وبالإجمال نهضنا من عهد محمد علي نهضة عظمى حتى صح أن يقال إن مصر قطعة من أوروبا، ~~ومع هذا، فإن الأمة المصرية لأجل إثبات حسن قصدها وشديد رغبتها في الاتفاق مع ~~بريطانيا العظمى وتبديد مخاوفها، سلمت مبدئيا بفكرة الضمانات، وإنما بشرط أساسي ~~لا محيص عنه، وهو أن لا تتعارض هذه الضمانات مع الاستقلال، وعلى أمل أن لا تلبث الحال ~~قليلا حتى ترى إنكلترا ذاتها أن لا حاجة بها إلى هذه الضمانات. # تشكلت الوزارة العدلية لتتولى المفاوضة في القضية المصرية بعد أن أعلنت الحكومة ~~الإنجليزية رأيها، ولا يمكنني أن أترك ذكر هذا الحادث يمر دون أن أقوم بواجب أشعر به ~~نحو ذلك الذي كان مثلا في الوطنية ونكران الذات، وأعني به دولة رشدي باشا؛ لقد تولى ~~دولته رياسة الوزارة قبل ذلك مرات عدة، وبلغ أسمى مقام يمكن أن يطمح إليه إنسان، ومع ~~ذلك فإنه قبل أن يدخل عضوا في الوزارة الجديدة - لأن البلاد كانت في تلك الساعة في ~~حاجة إلى مواهبه وعلمه - فما تردد في إجابة نداء الواجب ولم يقعده عن ذلك اعتبار من ~~الاعتبارات. # سافر الوفد الرسمي إلى إنكلترا وعلى رأسه ذلك الرجل الكبير القلب الكبير النفس ~~عدلي يكن باشا للمفاوضة في عقد اتفاق، وقد أخذ على نفسه أن يعمل على تحقيق الاستقلال، ~~وعاهد أمته - بل عاهد قبل ذلك ضميره وربه - على أن لا يقبل اتفاقا يخل بهذا ~~الاستقلال بأي وجه من الوجوه. # طالت المفاوضات شهورا بين الرجاء واليأس إلى أن تكشفت عن ms153 المشروع الذي قدمته ~~بريطانيا العظمى إلى الوفد في 10 نوفمبر من العام الماضي، وهو المشروع الذي عرف ~~بين الناس باسم مشروع كرزون. # نظر عدلي باشا إلى المشروع فرأى أن بريطانيا العظمى غالت فيما طلبته من الضمانات، ~~وأن هذه الضمانات لا تتفق وما عاهد به أمته من استقلال لا تحوطه ريبة، فما تردد لحظة ~~في رفض برد اقترنت فيه الحكمة بالشمم، والبراعة السياسية بعزة النفس. كان في وسعه ~~أن يعرض المشروع على أمته، وأن يلقي على عاتقها مسئولية قبوله أو رفضه، ولكن عدلي ~~عرض المشروع على ضميره أولا فكان نصيبه الرفض. # أيها السادة: سينشر يوما من الأيام ما طوي من الصحائف، وما خفي من أسرار ~~المفاوضات حينئذ يعلم بنو مصر جميعا أنه ما من رجل دافع عن بلده كما دافع عدلي باشا ~~عن مصر أثناء المفاوضات الرسمية، وأن الموقف الشريف الذي وقفه ذلك الوزير الكبير ~~والوطني الصميم كان في ذاته أعظم تأكيد لشخصية مصر التي صممت على نيل استقلالها، ~~والتي تأبى أن توقع على صك يضعف هذه الشخصية. إنما الوطنية الصحيحة، الوطنية ~~الصادقة تعمل ولا تتكلم، وكل همهما موجه إلى جلب النفع للوطن. فلزم عدلي باشا الصمت. ~~كان خصومه يرمونه بأشنع ما يرمى به إنسان من نقص في الوطنية وضعف في العقيدة ~~القومية، فكان جوابه الوحيد على هذه التهم العمل على إثبات حق مصر، وأما ماعدا ذلك ~~فلم يكن له عنده من شأن، فكان وطنيا عظيما في صمته كما كان وطنيا عظيما في حسن ~~دفاعه، ولقد أعلنا تضامننا مع الوفد في رفضه للمشروع وفي رده عليه. نعم أيها السادة، ~~كنا وما زلنا ولن نزال نقر الوفد على ما فعل في هذا الرفض؛ لأننا نأبى كل الإباء أن ~~نقر أي اتفاق أو تعاقد ينقض استقلال بلادنا. # ولكن بريطانيا العظمى أمسكت بالمشروع في يدها، ولوحت بالاستقلال التام أمام ~~عيوننا، وقالت: ها أنا ذا على استعداد للاعتراف لكم بالاستقلال، ولإلغاء الحماية ~~المفروضة عليكم، ولكن بشرط أن أتقاضى منكم ثمنه. قلنا: وما هو الثمن؟ قالت: أن ms154 تعطوني ~~ما أطلبه من الضمانات المبينة في المشروع، فإن فعلتم كان لكم ما تريدون، وإن أبيتم ~~فالحماية باقية في أعناقكم. # قال الوفد الرسمي كلا، وقلنا نحن كلا، وقالت البلاد كلها بصوت واحد كلا؛ لأننا ~~نريد استقلالا صحيحا، ولأن ما تعترف به إنكلترا في المشروع تهدمه هاتيك ~~الضمانات. # أما اليوم فقد تغيرت الحال؛ فإن بريطانيا العظمى قد ألغت الحماية على مصر، ألغتها ~~ولم تتقاض ذلك الثمن الذي جعلت تقاضيه منا شرطا لإلغائها، ونادى جلالة ملكنا ~~المعظم بأن بلادنا دولة مستقلة تامة السيادة، وأبلغنا هذا النطق الملكي من وزارة ~~خارجيتنا إلى وكلاء الدول الأجنبية في مصر، كما أبلغهم إياه جناب المارشال اللنبي، ~~فجاءنا رد هؤلاء الوكلاء بوصول البلاغ إلى دولهم، وبادرت الوزارات الأجنبية بتقديم ~~تهانئها إلى حكومتنا على هذا العهد الجديد، وأرسل الملوك ورؤساء الجمهوريات إلى جلالة ~~الملك فؤاد الأول تهانيهم بالاستقلال. # أيها السادة: لقد كنا لغاية سنة 1914 مستقلين استقلالا داخليا تحت سيادة الدولة ~~العثمانية، فلما نشبت الحرب العامة، وسقطت سيادة تركيا عنا أصبحنا مستقلين حكما، ~~ولكن تمسك بريطانيا العظمى بانتقال حقوق تركيا إليها بحكم إعلان الحماية حال بيننا ~~وبين استقلالنا. # أما اليوم فقد سقطت الحماية أيضا دوليا بصورة نهائية فأصبحت مصر دولة مستقلة في ~~نظر الدول جمعاء. # ومهما كان رأي الناس في أمر الحماية واختلاف نظرهم إليها من جهة صحتها أو بطلانها، ~~فمما لا نزاع فيه أن بعض الدول وافقت عليها، وأنه من الوجهة الدولية أصبحت هذه ~~الحماية صحيحة على الأقل في نظر هذه الدول، أما اليوم فقد انتهى الأمر وسواء كانت هذه ~~الحماية صحيحة أو باطلة فقد عفت آثارها. # يقولون ولكن بريطانيا قد احتفظت بأمور معينة كانت مبينة في المشروع الذي رفضته ~~البلاد، وجوابي أن هذه الأمور احتفظت بها بريطانيا من تلقاء نفسها، وبمحض إرادتها، ~~ومن غير أن نوقع لها صكا بإقرارها، ولكن مشروع المعاهدة كان يجعل قبول هذه الضمانات ~~شرطا أساسيا لإلغاء الحماية، وهناك على ما أظن فرق كبير بين أن تكون الضمانات ~~صادرة عن إرادة إنكلترا وبين أن ms155 تكون إنكلترا حاصلة عليها بصفة شرعية برضى ~~مصر. # وفضلا عن هذا فإن إنكلترا قد احتفظت بهذه الضمانات بصفة عامة دون تعرض للتفاصيل. ~~وقد سبق أن بينا أن مبدأ الضمانات في ذاته سلمت به غالبية الأمة، وإنما كان ~~الاختلاف يقع عند التفصيل، والتصريح الأخير اكتفى بالإجمال واجتنب التفصيل. ثم إن ~~الحكومة البريطانية في تبليغها إلى جلالة الملك لم يسعها إلا الاعتراف بأن الأمور ~~المحتفظ بها تكون محلا لمفاوضة مقبلة جمة غير مقيدة، فبقي حق مصر كاملا حتى لو ~~رجعنا إلى هذا التبليغ. # وفوق هذا كله فإنا أبينا أن نرتبط أي ارتباط بأي أمر من هذه الأمور، وقلنا إن ~~الكلمة الأخيرة في ذلك تكون للبلاد ممثلة في برلمانها. # وبالإجمال فإن مصر خرجت من هذه المعركة السياسية فائزة بالمزايا التي كانت تسعى ~~إلى تحقيقها دون أن ترتبط بأي ارتباط، أو تلتزم بعهد يقيد حريتها في العمل فيما بقي، ~~وأن استقلالها أصبح معترفا به من الدول. # نترك هذا الموضوع، وننتقل إلى نظام الحكم في بلادنا. # لقد جعلنا أساس برنامجنا فيما يتعلق بالحكم أن تكون لبلادنا هيئة نيابية، وأن تكون ~~الوزارة مسئولة أمامها عن كل أعمالها فما تستطيع البقاء في منص الحكم إلا إذا أولاها ~~البرلمان ثقته، فحققنا بذلك دفعة واحدة ما بح صوت البلاد في المطالبة به سنوات عديدة ~~فلم تظفر بطائل، وما لم يحصل عليه كثير من البلاد إلا بعد أن بذلت في سبيله جهدا ~~كبيرا. # ويترتب على هذا النظام - بطبيعة الحال - أن يكون للوزارة تمام الحرية في تولي ~~إدارة البلاد وسياستها دون أن يشاركها في ذلك أحد؛ لأن تحمل المسئولية يفترض في ذاته ~~حتما هذه الحرية؛ إذ مما لا يمكن تصوره أن يكون للبرلمان الكلمة العليا في شئون ~~البلاد والإشراف عليها، وتكون الوزارة مسئولة أمامه عن هذه الشئون، فلا تبقى في ~~مساندها إلا بسيرها على إرادته، وتوخيها إنفاذ مقاصده، ثم تكون في الوقت ذاته خاضعة ~~لأية سلطة أخرى فيما يتعلق بالشئون عينها. # على أننا أيها السادة لم ننتظر إنفاذ النظام البرلماني حتى ms156 نأخذ المسئولية على ~~عاتقنا، بل نحن قد أخذناها على عاتقنا من أول لحظة، وأصبحت إدارة شئون البلاد في يدنا ~~بتمام الحرية، فلم يبق للمستشارين هذا الأثر الذي كلكم كنتم تعرفونه، وتحسون به، ~~وأصبحت كلمتهم لا تخرج عن حد المشورة، ولا أريد الحوادث فأخبركم بما سيكون في القريب ~~العاجل. # والخلاصة في هذا الباب: أن مصر الآن من الوجهة الداخلية أصبحت أمورها بيد ~~أبنائها، وأنها ستصبح في القريب العاجل ذات نظام دستوري على أحدث النظم ~~العصرية. # ولم يبق علينا إلا أن نقنع إنكلترا أن ليس بها من حاجة إلى التمسك بالضمانات التي ~~تريد الاحتفاظ بها، فتخطو بريطانيا العظمى خطوة أخرى بالاكتفاء بما لا يتنافى منها مع ~~استقلالنا الشرعي. # أيها السادة؛ ليس لدينا وسيلة لتأييد ما نذهب إليه أكبر من تعلقنا بأهداب السكينة، ~~والتزامنا الهدوء، وأخذنا بأسباب النظام؛ فإن حجتهم الكبرى في ما يبدونه من رغبة في ~~الضمانات هي شدة حذرهم على مصالحهم، وخوفهم عليها، وعدم اطمئنانهم في تركها لعهدتنا، ~~فإذا قضينا على عوامل الفتنة والاضطراب، وجعلنا التزام السكينة رائدنا؛ فإننا نثلم ~~هذا السلاح بأيديهم وندفع حججهم علينا، ولا مشاحة في أن كل من يعمل على تعكير السلام ~~أو إثارة الاضطراب مجرم في حق وطنه عامل على هدم كيانه. # على أن خصومنا السياسيين لا يرون أننا فعلنا شيئا، أو أن الوثائق الجديدة تحوي ~~أمرا جديدا، وأن إلغاء الحماية وإعلان الاستقلال وتبليغه للدول واعتراف هذه الدول ~~به، وإدخال النظام النيابي الكامل، وتقرير مبدأ مسئولية الوزارة أمام البرلمان، كل ~~هذا لا يعد شيئا مذكورا في نظر بعض الناس متى جاء على يد خصومهم. # لا غرابة في ذلك، فإن للاعتبارات الشخصية عند البعض مقاما فوق كل مقام؛ تقولوا ~~علينا الأقاويل، وأذاعوا عنا ما أذاعوا في طول البلاد وعرضها، وزعموا أن الوزارة ~~ستتعرض لحرية الانتخابات، وأن البرلمان سيكون ألعوبة في يدها. من أين أتاهم علم ~~الغيب؟ ومن أين جاءهم أنها ستعمل ذلك؟ وأية مصلحة لها في أن لا تتعرف من الأمة إلا ~~رأيا فاسدا لا يتفق ورأيها ms157 الصحيح؟ # لقد نسوا أنهم بهذا يرمون أمتهم بأقبح التهم، وينسبون إليها أنها تنقاد كالأنعام، ~~وتستسلم استسلاما أعمى للحكام حتى فيما يعود على الوطن بالتلف والمذلة. # لقد نسوا أو تناسوا أيها السادة أننا أشخاص زائلون، وأننا لن نبقى متربعين في دست ~~الأحكام إلا برهة من الزمن، ثم نخلي السبيل لغيرنا، أما النظام الدستوري فهو نظام ~~ثابت دائم، وهو أتم ما وصل إليه الناس إلى اليوم لتمثيل الأمة أحسن تمثيل، وللإشراف ~~على الحكم باسمها، سنذهب نحن أما النظام فسيبقى. وعجيب أن رجالا يتولون الحكم زمنا ~~قصيرا يعملون على تحقيق مثل هذا النظام الصالح لكي يجعلوه أداة في يدهم وسلاحا ~~يشهرونه في وجه خصومهم. # أيها السادة لن تكون الانتخابات سرا مكتوما فستشتركون جميعكم فيها؛ بل يشترك ~~فيها كل مصري له حق الانتخاب، وستذاع أخبارها وتتناقلها الأفواه، وسترون بأنفسكم أن ~~الحكومة بريئة مما يتهمونها به، وأن هذه التهم وليدة الظن الأثيم. # إنني أعتقد أن تحقيق النظام البرلماني لصحيفة فخار - ولو أن الفخر كله في الأمة ~~وإليها - فلن يبلغ بنا سوء الرأي إلى تسويد هذه الصحيفة بمثل ما ينسبون إلينا من ~~التداخل المعيب، فلا تصغوا أيها السادة إلى ما يقولون ويعيدون، واحكموا بما سترون لا ~~بما تسمعون، وإني أجاهر لكم - وهل أنتم في حاجة إلى مثل هذه المجاهرة - بأن ~~الانتخابات ستكون حرة بعيدة عن عوامل التأثير وإفساد الضمائر. # كذلك أخذ خصومنا علينا عدم إلغاء الأحكام العرفية حالا. # نعم، إن إلغاء الأحكام العرفية لم يصبح أمرا مرهونا بإرادة السلطة العسكرية - ~~وهو اليوم بيد الحكومة المصرية من حيث المبدأ - ولكن الشروط التي لا يشك أحد في ~~وجوبها لإلغاء تلك الأحكام لا تتحقق بين غمضة عين وانتباهتها، يعلمون ذلك ولكنهم ~~يغالطون ويشوهون الواقع في أمر قانون التضمينات؛ للتذرع بذلك في اتهام الوزارة في ~~إخلاصها وصدق نواياها. # تعلمون حضراتكم أنه في سنوات الحرب وبعدها صدرت تشريعات مهمة استمدت فيها سلطة ~~القائد العام لجعلها سارية على الأجانب، حينما كان الالتجاء إلى الطرق العادية في ~~إصدار القوانين غير ميسور ومقرونا بالصعوبات ms158 أو محتمل البطء في أمور تقضي ~~بالاستعجال، كضريبة الخفر وقانون أجور المباني وإيقاف سريان المدد والمواعيد ~~القانونية، وكالنظامات المتعلقة بأشخاص الأعداء وأموالهم، وتنفيذ معاهدات ~~الصلح. # كذلك منعت المحاكم الأهلية والمختلطة لأسباب مختلفة من نظر مسائل داخلة في ~~اختصاصها أو يجوز اعتبارها كذلك؛ لتتولاها محاكم عسكرية أو لجان أو غير ذلك من ~~الهيئات، وصدرت في هذه المسائل أحكام وقرارات، وبني على أساسها حقوق وتعهدات، ثم ~~صدرت أيضا أوامر إدارية، وتدابير تتعلق بالأمن أو النظام العام. # وتعلمون حضراتكم أن كل ذلك حصل، وأن السلطة العسكرية اشتركت في أعمال التشريع ~~والقضاء والإدارة العادية للبلاد بسبب الامتيازات الأجنبية وبسبب الحرب، هذا فضلا عن ~~المركز الخاص الذي تهيأ لها بسبب معاهدات الصلح، فأصبحت أشبه بنظام عادي بالرغم من أن ~~الأحكام العرفية بطبيعتها أداة استثنائية. # تعلمون ذلك حضراتكم، ولا تجهلون أن كل ما بني على هذا النظام يجب أن ينهار إذا ~~زال أساسه، وأنه إذا ألغيت الأحكام العرفية سقطت كل التشريعات التي اتخذت ~~بمقتضاها، وأصبح من الممكن أن تنقض كل الحقوق المدنية التي بنيت على أحكام السلطة ~~وأوامرها، بل أن يفتح على السلطة أبواب مسئولية واسعة. # ليس منا من لا يرغب في إلغاء الأحكام العرفية وبلا تأخير، ولكن كل إنسان يشعر ~~بأننا لا يمكننا إلغاءها دون إقرار التصرفات الماضية، ولا عبرة بما يراه غير ~~المسئولين الذين يرون أنه يكفي أن نطلب فنجاب. # عرف الناس ذلك، وسمعوا أنه يجب إصدار قانون لإقرار التصرفات الماضية، فقال بعضهم؛ ~~إنما أريد به تقرير الحماية وتنظيم أحكامها، وهم يعلمون أن ذلك القانون لا يخرج أمره ~~عن أن يكون تصفية للماضي، ولا علاقة له مطلقا بالنظام المستقبل، فلفظة التضمينات هي ~~التي أفسحت المجال للمضللين أن يذهبوا إلى التأويل ما شاءوا، وحقيقة الأمر أن ذلك ~~القانون يسمى بالإنجليزية # Bill of Indemnity # ومعناه ~~الصحيح: القانون الذي يقيل من المسئولية ويرفعها. # على أن بعض من يشكون من وجود الأحكام العرفية ويطالبون بإلغائها يعملون في الوقت ~~نفسه على عرقلة مساعي الحكومة في ذلك، وقد وعدت هذه الوزارة بأنها اعتمادا ms159 على حسن ~~موقف الأمة ستسعى في الحصول على الرجوع فيما اتخذ من التدابير المقيدة للحرية طبقا ~~للأحكام العرفية، ولكن الذين لا يرعون حرمة يحرضون على الفتنة، ويشجعون الرعاع على ~~الإخلال بالنظام، وأعمال التهييج والإرهاب (أترون في ذلك شيئا من الخير للبلاد؟) ~~ولكن هذه الحكومة لن ترى مانعا من القيام بواجبها، وستمضي أعمالها بما تمليه عليها ~~ذمتها وضميرها، ولا تلقي بالا لهذه الحركات التي لم يقصد بها وجه الله ومصلحة ~~الوطن حتى إذا فرغت من عملها وتقدمت به إلى الأمة أدرك كل باغ أن صفحتها بيضاء، وأن ~~إخلاصها عظيم. # هذا ما أردت أن أقوله لكم في هذا المقام، ولكني قبل الختام، وبمناسبة ما ذكره حضرة ~~صديقنا شيخ المحامين وكبيرهم إبراهيم بك الهلباوي (وكأني به قد خشي أن تنثني عزائمنا ~~لما نلقاه من المعارضة) لا أرى بدا من أن أطمئنه وأن أوجه أنظاركم أيها السادة ~~إلى أنني لا أكره المعارضة، بل إذا انعدمت هذه المعارضة فإنني أعمل على خلقها لما لها ~~من نفع وفائدة في الوصول إلى الحقيقة، وتمحيص كل أمر على أكمل وجه، ولكني أريد ~~المعارضة الشريفة التي تترفع عن الاعتبارات الشخصية، ولا تنزل إلى اختلاق الأكاذيب ~~والعمل على النيل من الخصم بكل وسيلة، والنظر إلى كل عمل من أعماله بمنظار البغضاء ~~والعداوة. إنني أريد الخصومة الشريفة التي لا تنظر إلا لمصلحة الوطن وخير البلد، ~~وتدرس كل أمر لذاته مجردا عن كل اعتبار شخصي، هذه الخصومة الشريفة أتمنى وجودها، ~~وأمد يدي لمصافحتها. أما تلك الخصومة الحمقاء التي تأخذ على الناس سبيل آرائهم، وتزري ~~بأقدارهم، وترجمهم في الطرقات، وتعمل على اضطهادهم ماديا وأدبيا عقابا لهم على ~~رأي أو قول، تلك الخصومة الحمقاء المجرمة التي تزعم أنها تعمل هذا باسم الحرية ~~ودفاعا عن الحرية، فتحقق بذلك القول المشهور: «أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب ~~باسمك»، تلك المعارضة المجرمة يجب علينا جميعا مكافحتها إلى النهاية؛ لأنها نكبة على ~~بلد ناهض، وسأجد من عونكم ما يعينني على الوقوف في وجهها. # أيها السادة؛ متى فتح البرلمان ms160 المصري أبوابه فستقوم منا أحزاب وشيع تبعا ~~لاختلاف الآراء، وتعدد وجهات النظر، وسيعمل كل حزب على خدمة الوطن بالسبيل التي يراها ~~أقوم السبل. أما اليوم فإننا جميعا سواء أمام المطلب الأسمى للأمة، وإذا كنا في ~~وقت من أوقات تاريخنا في حاجة إلى الاتحاد فإنما هو هذا الوقت الذي نرجو فيه أن نسعى ~~في إزالة ما يحول بيننا وبين التمتع الكامل باستقلالنا. # فأنا أنادي الأمة باسم الوطن ومصلحته بضم صفوفنا، وتناسي الماضي، وليكن كلنا حزبا ~~واحدا في خدمة بلادنا. # والله المسئول أن يقرب اليوم الذي تتحقق فيه جميع آمالنا في ظل حضرة صاحب الجلالة ~~ملك مصر أطال الله ملكه وأدام عزه. ~~(10) حديث ثروت باشا عن السودان مع مكاتب الأهرام في 22 مايو سنة 1922 # تفضل صاحب الدولة رئيس الوزارة بالجواب على الأسئلة التي ألقيناها بخصوص السودان، وهذا ~~نص الحديث: # س: # لغط الناس كثيرا في مسألة السودان في العهد الأخير، وتساءلوا لم لم ~~تبد الحكومة بيانا عن خطتها ورأيها في مركز السودان بالنسبة لمصر؟ # ج: # تذكرون أن مسألة السودان من المسائل المحتفظ بها للمفاوضات المقبلة كما ~~ورد ذلك في كتاب المندوب السامي البريطاني إلى جلالة الملك في 28 فبراير سنة ~~1922، ولكن ليس معنى الاحتفاظ بمسألة لزمن مقبل ألا يكون للحكومة المصرية ~~رأي فيها ومذهب تدافع عنه وتسعى لتحقيقه، وغير صحيح أن الحكومة لم تبد ~~رأيها في مركز السودان بالنسبة لمصر؛ فإن برنامج الوزارة كان بهذه العبارة: ~~«لم يكن لزملائي ولي، ونحن نشاطر الأمة أمانيها في الاستقلال، إلا أن نقر ~~الوفد الرسمي على ما فعل.» ولم يغب عن ذهن أحد أن الوفد أشار في الرد الذي ~~أرسله إلى اللورد كرزون إلى مذهبه في علاقة مصر بالسودان، وقال في ذلك: «أما ~~مسألة السودان التي لم يكن قد تناولها البحث، فلا بد لنا فيها من توجيه ~~النظر إلى أن النصوص الخاصة بها لا يمكن التسليم بها من جانبنا؛ فإن هذه ~~النصوص لا تكفل لمصر التمتع بما لها على تلك البلاد من حق السيادة الذي لا ~~نزاع فيه وحق ms161 السيطرة على مياه النيل.» # وليس معنى إقرار الوفد الرسمي على ما فعل إلا أن الوزارة أخذت بمذهبه في ~~المسائل المختلفة التي تعرض لها في الرد، ومنها مسألة السودان، فرأي ~~الحكومة في السودان رأي غير مكتوم، وإذا لم يكن الذين ينتقدون على الحكومة ~~عدم إبداء رأيها في السودان قد تنبهوا إلى هذا الرأي فليس ذلك من ذنب ~~الحكومة. # س: # ولكن ما هو رأي الحكومة إزاء ما يروونه من احتمال تغيير حالة السودان قبل ~~الوصول إلى المفاوضات، وهل هي تنوي السكوت على هذه الحالة الجديدة؟ # ج: # احتفظت الحكومة الإنكليزية بمسألة السودان - كما احتفظت بغيرها من ~~المسائل - وأشارت إلى أن معنى ذلك الاحتفاظ هو أن هذه المسائل تبقى على ما ~~كانت عليه حتى يجيء دور المفاوضات، فلا محل لتوقع أي تغيير في حالة السودان ~~قبل ذلك الدور. # وما دامت المفاوضة ستجرى حرة خالية من كل قيد، فكل ركن من أركان المسألة ~~سيتناوله البحث والتمحيص. # ولقد جرى لي مع فخامة المندوب السامي البريطاني حديث في هذا الشأن، وكنا ~~على اتفاق أنه مهما كانت نظرية كل فريق فإنه لن يحدث من أحد الجانبين أي ~~تغيير في حالة السودان أو بت في شأنه، بل يجب بقاء القديم على قدمه حتى ~~يجيء دور المفاوضات بين الحكومتين المصرية والإنكليزية، وقد صرحت الحكومة ~~الإنكليزية بذلك أخيرا في مجلس النواب البريطاني بلسان أحد وزرائها، وعلى ~~ذلك فلا محل لإثارة البحث في هذا الموضوع الآن. # وعندي أن مسألة السودان مسألة متشعبة الوجوه، ومن مصلحة القضية المصرية ~~أن يكون البحث فيها شاملا لجميع أطرافها في وقت واحد، وهذا لا يتيسر إلا ~~وقت المفاوضة حيث تلتقي الوجهتان المصرية والإنكليزية بصفة تامة واضحة، ~~وأرجو أن لا يتعذر إذ ذاك الوصول إلى حل مرض. ثم إن لهذه المسألة - كما ~~لغيرها من المسائل المحتفظ بها - من الأهمية الكبرى والدقة ما يقضي بإشراف ~~الهيئة النيابية على المفاوضة بشأنها. ~~(11) خطبة ثروت باشا في لجنة الدستور # حضرة صاحب الدولة، وحضرات الأعضاء المحترمين # إني باسم حكومة جلالة الملك المعظم فؤاد ms162 الأول أحييكم في هذا الاجتماع الذي هو ~~أول اجتماع للجنتكم الموقرة، كما أحيي فيكم الغيرة الوطنية والرغبة الصادقة في ~~خدمة بلادكم العزيزة؛ إذ قبلتم أن تشاركوا الحكومة في مهمة وضع مشروع الدستور للمملكة ~~المصرية بعد إعلان استقلالها. # إن الحكومة أيها السادة تقدر كل التقدير خطورة المهمة التي وكلت إليها من جانب ~~مليك البلاد، وتعلم حق العلم عظيم مسئوليتها عن حسن القيام بها أمام ضميرها وأمام ~~الأمة والتاريخ. كذلك تعلم أن مهمة وضع دستور للبلاد لا يكفي في أدائها على الوجه ~~الصالح أن ينقل ما وضع لغيرها من البلاد بغير تمحيص وتدقيق، بل يجب أن تلاحظ في ~~تقرير أحكام هذا الدستور تقاليد البلاد المحلية وعاداتها، ومختلف الاعتبارات ~~الاجتماعية فيها، وأن يستفاد في وضع نصوصه من تجاريب الأمم الأخرى. كذلك أيها السادة ~~لم تتردد الحكومة منذ طلبت إليها القيام بهذه المهمة في أن لا تستأثر في أدائها ~~برأيها، وأن لا تكتفي في ذلك بما لرجالها من الخبرة الخاصة بحالة البلد وبالأنظمة ~~العامة، بل صحت عزيمتها على الاستعانة في ذلك بخبرة ذوي الكفاءات من أبناء ~~البلاد. # وقد كان من حسن حظها أن لبيتم دعوتها، ورضيتم أن تشاركوها في مسئوليتها، وأن ~~تضحوا من وقتكم وراحتكم شيئا كثيرا في سبيل تحقيق التعاون بين الأمة والحكومة، ووضع ~~الحجر الأساسي لحياة مصر المستقلة. لذلك لا يسعني إلا أن أهنئكم بهذا الشعور، وأن ~~أسديكم خالص الشكر على العون الجليل الذي لا شك في أن الحكومة ستناله من اشتراككم ~~معها، وإن شكري لكم ليزداد إذا ذكرت الضجة التي أقيمت حول مسألة وضع الدستور، وأنها ~~لم تصرفكم عن سماع نداء الضمير والواجب. # إن الحكومة لم تقتصر في الدعوة إلى معاونتها على فريق دون آخر، بل وجهتها أيضا ~~إلى من قضت عليهم الظروف بأن يعتبروا أنفسهم خصوما سياسيين لها، غير أنهم - للأسف - ~~لم يريدوا أن يصافحوا اليد التي مدت إليهم، وأبوا أن يتقدموا إلى المشاركة في هذا ~~العمل الوطني الخطير، ولعمري إن في تصرفهم ما يقضي بالعجب؛ فإن مصير الدستور أن ms163 ~~يطبق على الأمة جميعها لا على طائفة دون غيرها، وكنت أستبعد أن تدخل الشخصيات في ~~شأن يجب بطبيعته أن يعلو على كل تلك المنافسات، ولقد أعجب أكثر من ذلك أن أراهم ~~يخطئون النظر حتى من وجهة مصلحتهم الخصوصية؛ فلقد كان اشتراكهم في عمل اللجنة يسمح ~~لهم بالاطلاع على كل ما يجري فيها، ويمكنهم من الوقوف على حقيقة ما جرت به ألسنة ~~السوء، وليتبينوا أن ليس هناك أمور مقررة من قبل تعرض على اللجنة لمجرد الشكل. ولقد ~~فاتهم برفضهم الدخول في اللجنة - فرصة ما كان أحقهم بالحرص عليها - فرصة عرض آرائهم ~~والإدلاء بحججهم. واللجنة بين أن تأخذ بها فيتضح لهم أنها لم تكن متحيزة أو صادرة عن ~~غرض أو هوى، أو أن ترفضها فيكونوا قد أراحوا ضمائرهم والحساب بعد ذلك بيد الأمة. لا ~~أدري مقدار ارتباط هذا الرفض بالحركة التي روجت منذ أيام للدعوة إلى عقد جمعية وطنية ~~وما إذا كانت سببا أو نتيجة، على أن ذلك لا يعنيني الآن، وإنما يعنيني تمحيص هذه ~~الآراء، خصوصا وأن تلك الدعوة كان ينطوي فيها شيء ليس بالقليل من سوء الظن بالحكومة، ~~وتهمتها في إخلاصها. إني أترك جانبا ذلك الفريق الذي يدأب على تحدي الحكومة ~~ومناوأتها وإقامة العراقيل في وجهها مهما جر ذلك على البلاد من الشر والوبال. # أما الفريق الثاني: فإنه يحكم على الأشياء حكما نظريا صرفا، ويخطئ تطبيق ~~النظريات على الواقع، أولئك هم الذين يزعمون أنه لم يوضع دستور إلا على يد جمعية ~~وطنية، وأنه لا يصح دستور إلا إذا كان كذلك. # علمنا أن القوانين الدستورية وتواريخها ومبادئها معروفة ومنتشرة بين جميع الناس، ~~وفي وسع كل إنسان أن يرجع إليها؛ ليعرف مقدار نصيب تلك النظريات من الصحة، ويمكنني أن ~~أقول لحضراتكم أن الأمر في وضع القوانين الدستورية ليس على ما يذكرون؛ فإن كثيرا من ~~البلاد الأوروبية وغير الأوروبية لم تكن قوانينها الدستورية وليدة جمعية وطنية. وأذكر ~~على سبيل الاستدلال تلك الأمة العظيمة التي قطعت شوطا كبيرا في سبيل الحضارة ~~والمدنية، وأعني بها ms164 الأمة اليابانية، وهي تلك البلاد التي أصبحت في مركز لا أريد أن ~~أغالي فأقول إن أمم أوروبا تحسدها عليه، ولكن مركزها على كل حال مما تغبط عليه. أما ~~أمم أوروبا فإن بعضها كان الدستور فيها من عمل جمعية وطنية، ولكنها الأقل عددا، ~~والسبب في تولي الجمعية الوطنية هذا العمل يرجع إلى ظروف استثنائية خاصة كالثورة أو ~~زوال السلطة الشرعية فيها، وحلول سلطة مؤقتة عليها. أما الأمم الأخرى فقد سارت في وضع ~~دساتيرها على الطريق العادي، وصدرت دساتيرها من ملوكها، وأذكر على سبيل المثال ~~إيطاليا والنمسا والبرتغال وتركيا. # فيجب أن لا يغيب عن أذهان أولئك القائلين بنظرية الجمعية الوطنية تلك الفروق بيننا ~~وبين من اضطرتهم أحوالهم الاستثنائية إلى الالتجاء لجمعية وطنية لوضع نظام حكوماتهم، ~~إذ إننا - ولله الحمد - لسنا في حالة من تلك الأحوال. # على أنه فيما يتعلق بمصر يجب لأجل تعيين السلطة التي تتولى وضع الدستور الرجوع إلى ~~قانوننا العام، وقد جرى الأمر فيه على أن تصدر القوانين النظامية من ولي الأمر سواء ~~كان ذلك في إنشاء مجلس الوزراء - وهو أول حجر وضع في بنيان النظام الديموقراطي في ~~مصر - أو ما في تلا ذلك من النظم النيابية التي أوجدت نوعا من الاشتراك بين الأمة ~~والحكومة، وهي قانون مجلس شورى النواب، وقانون مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، ~~والقانون الذي أنشأ الجمعية التشريعية، وإذا كان قانون سنة 1882 قد شذ عن هذا القياس ~~فإن ذلك يرجع إلى أنه في ذلك العهد كانت ثورة على العرش دعت إلى اغتصاب وضع الدستور ~~من صاحب السلطة في وضعه، وهذا ما يؤيد ما نذهب إليه من أن وضع الدستور بطريق ولي ~~الأمر ليس فيه افتئات على حقوق الأمة أو خروج عن القواعد المألوفة. # قد يقول قائل إذا لم يكن الدستور من وضع جمعية وطنية فإن في وسع ولي الأمر أن ~~يسترده في أي يوم من الأيام. وهو قول لا يقول به إلا كل رجل يجهل مبادئ القانون ~~الحديث وتطوراته؛ لأنه مهما يكن من طريقة وضع الدستور وإصداره ms165 ، فإن استرداده بعد ذلك ~~محال؛ إذ إنه بمجرد صدوره يصبح حقا مكتسبا للأمة. # إنهم يقولون إن الجمعية الوطنية هي الوسيلة الوحيدة للوقوف على رغبات الأمة ~~وحاجاتها، وأخشى أن أقول في هذا إنه حق يراد به باطل؛ لأنه حتى مع التسليم جدلا بأن ~~المبادئ العامة في مصر تسمح بأن مثل هذا العمل تتولاه جمعية وطنية، فإن هناك أشخاص ~~يعملون منذ زمن على ترويج سوء الظن بالحكومة، وعلى التقليل من أهمية ما وصلت إليه ~~البلاد، وعلى التشكيك في ما نحن قادمون عليه، بحيث إذا اجتمعت جمعية وطنية سادت فيها ~~تلك الآراء والنزعات، وانقلب العمل فيها إلى معارضة وتهويش وتعطيل تمتنع معه كل نتيجة ~~صالحة؛ بل يخشى أن ينقلب وبالا على البلاد؛ ذلك أنه بالرغم من أن البلاد نالت فوزا ~~عظيما بإعلان استقلالها واعتراف الدول به، إلا أن المسألة المصرية لم تسو بعد ~~تسوية تامة نهائية؛ إذ لا يزال أمامنا مفاوضات يجب أن تمكن مصر من الوصول إلى دورها ~~موفورة القوة تامة النظام لم تفسد عليها عوامل الشر والفوضى آمال النجاح ~~فيها. # يدعون أننا بعملنا هذا نرمي الأمة بالعجز والقصور عن تقدير مصلحتها، فالله يعلم ~~أننا نجل أمتنا كل الإجلال ونضعها فوق كل اعتبار، وأن هذا نفسه هو الذي يدعونا أن ~~نقيها في هذه الآونة الدقيقة من عوامل الفساد ودواعي التضليل، ولعمري لأن نتهم تهمة ~~سيتجلى وجه الحق فيها بعد قليل خير لنا من أن نترك البلاد تسود فيها الفوضى ويجري ~~الشغب فيها مجراه؛ فإن التهمة إذا اصطدمت بالواقع المحسوس زائلة، ولكن أضرار الشغب ~~والفوضى هائلة، وآثارها باقية. # وأريد هنا أن أتساءل عن قيمة المخاوف والشكوك التي يريد بعضهم أن ينشرها بين ~~الناس، ويحيط بها عمل الحكومة واللجنة. # يزعمون أننا نخشى الجمعية الوطنية؛ لأنها لو دعيت للاجتماع لاتخذت من القرارات ما ~~لا يتفق مع ميول الحكومة، نريد بالاقتصار على تأليف لجنة أن تتحكم في النظام ~~الدستوري، وأن تحول بين الأمة وبين إبداء رغباتها، وأقول: إن بيننا وبين الأمة ~~عهدا يحدد جوهر ما يختلف ms166 فيه الآن، لنا برنامج قطعنا فيه على أنفسنا أننا سنراعي في ~~الدستور الذي نضعه أحدث مبادئ القانون العام، وعلى الأخص المسئولية الوزارية أمام ~~البرلمان. أترى يشكون في مبادئ القانون العام الحديث نفسها، أم يجهلون أن مبدأ ~~المسئولية الوزارية هو محور النظام الدستوري وجوهره ولبابه، والأمان الكافي ضد خروج ~~السلطات عن حدودها، والأساس الصالح للتعاون بين الأمة والحكومة، أو يجهلون أن ما خلا ~~هذا المبدأ لا يبلغ أهميته وأن هذا المبدأ ضابط لأحكام الدستور نفسه؟! # قالوا: إن وضع الدستور بهذه الطريقة لن يجعل للأمة سبيلا إلى تغيير شيء من ~~أحكامه. على أنني لا أدري مبلغ هذا التكهن من الصحة، فإن ما أعلمه عن القواعد ~~الدستورية - وهي التي أشرت إليها في برنامج الوزارة - أن الدستور يشتمل عادة على نص ~~يحتفظ به بسبيل يكون من حق للأمة مشخصة في إدخال ما يرى ضرورة إدخاله من التعديلات. ~~سيرى الناس إذا انتظروا قليلا أن محاولة عرقلة الحكومة في أعمالها لم يكن من مصلحة ~~البلاد في شيء، وأن الحكومة ما توخت ولن تتوخى شيئا غير مصلحة الوطن القائمة التي ~~تتلاشى أمامها الأعراض الزائلة والأوهام الباطلة. # سيرى الناس يوم يصبح الدستور حقيقة واقعة بأن التهمة التي وجهت للحكومة غير ~~صادقة، وأن يرون أنفسهم أمام نظام يسمح للإرادة العامة بأن يكون لها مظهر حقيقي وأثر ~~فعلي في تصريف الأعمال العامة وفي كل شيء يتعلق بمستقبل البلاد. # قالوا إننا خرجنا عن برنامج وزارة عدلي باشا الذي كنا متضامنين معه فيه، ولكنهم ~~نسوا أو تناسوا أن مهمة الجمعية الوطنية بحسب ذلك البرنامج لم تكن في الأصل وضع دستور ~~للبلاد، وإنما كانت مهمتها النظر في الاتفاق الذي تألفت وزارة عدلي باشا للمفاوضات ~~فيه، ثم وضع الدستور المبني على نصوص هذا الاتفاق بعد ذلك. # فالمهمتان لا تقبلان التجزئة، وكان يجب على الجمعية إذا هي أقرت الاتفاق أن تراعي ~~في وضع الدستور ما يكون قد تضمنه من الشروط والقيود، أما اليوم فإن وضع الدستور متقدم ~~على الاتفاق، وإذا كان لا يبنى عليه فإنه ms167 يجب على أي حال أن لا يسد الطريق للوصول ~~إليه. # هذه هي الحقائق التي أردت أن أبسطها أمام حضراتكم، وأن ما تعرفه الحكومة في ~~حضراتكم من الكفاءة والكفاية لهذا العمل أحسن ضمان لأن يكون عملكم خير مرشد وهاد إلى ~~رغبات البلاد وحاجاتها. # ولا أريد أن أختم كلامي بغير إشارة إلى التضحية الكبيرة التي قدمها حضرة صاحب ~~الدولة رشدي باشا بقبول الاشتراك في عمل هذه اللجنة، ولا أخفي على حضراتكم أن فكرة ~~إسناد الرئاسة لدولته قد خطرت مرارا على بالي من أول يوم فكرت فيه الحكومة في ~~تأليف اللجنة. # ولكن علمنا بمقدار ما يبذله من نفسه وصحته في أداء الواجب الذي يدعوه إليه الوطن ~~ومصلحته، وحبنا لشخصه، ورغبتنا في تمتعه بالصحة التامة، كل ذلك جعلنا نتردد عن ~~مخاطبته في الأمر. # غير أنني لما خاطبت بعد ذلك أحدا من حضراتكم إلا وسألني عما إذا كان رشدي باشا ~~مشتركا في عمل اللجنة، وأظهر رغبته في أن يراه على رأسها، فلم أجد بدا أمام هذا ~~الإجماع من إيصال هذه الرغبة إلى علمه. # فتقدم كعادته إلى الخدمة الوطنية غير ملتفت إلى ما يكلفه ذلك من تحميل صحته هذه ~~المتاعب الجديدة، ولكنه اشترط شرطا لم يكن في وسعي قبوله، وتركت لدولته الحرية في أن ~~يقدمه بنفسه لحضراتكم؛ لتتصرفوا فيه كما تريدون ... وأختم القول بتكرار التحية ~~لحضراتكم، وتوجيه الرجاء إلى المولى - عز وجل - أن يلهمكم السداد، وأن يوفقنا جميعا ~~إلى ما فيه الخير للبلاد. ~~(12) شروط ثروت باشا لتأليف الوزارة (نقلا عن مقطم 31 يناير سنة 1922) # أولا: # عدم قبول مشروع كرزون، والمذكرة التفسيرية. # ثانيا: # تصريح الحكومة البريطانية بإلغاء الحماية، والاعتراف باستقلال مصر قبل الدخول ~~في كل مفاوضة. # ثالثا: # إيجاد وزارة خارجية مصرية، وتمثيل خارجي من تعيين سفراء وقناصل. # رابعا: # إيجاد برلمان مشكل من هيئتين: إحداهما مجلس نواب، والأخرى مجلس شيوخ، ويكون ~~للبرلمان المذكور السلطة التامة على أعمال الحكومة، وتكون الوزارة مسئولة ~~أمامه. # خامسا: # إطلاق يد الوزارة بلا مشارك في جميع أعمال الحكومة، تمكينا للوزارة من تحمل ~~مسئولية الحكم أمام ms168 البرلمان. # سادسا: # ألا يكون للمستشارين في الوزارات إلا رأي استشاري، وأن يبطل ما للمستشارين الآن ~~من الحق في حضور جلسات مجلس الوزراء. # سابعا: # حذف وظائف المستشارين في القريب العاجل ما عدا وظيفتي مستشاري الحقانية ~~والمالية، فإنهما تبقيان إلى ما بعد ظهور نتيجة المفاوضات الجديدة. # ثامنا: # استبدال الموظفين الأجانب بموظفين مصريين، وأخذ العدة لذلك من الآن، وتعيين ~~وكلاء مصريين على الفور لجميع الوزارات، وهم: وكيل للمالية، ووكيل للخارجية، ووكيل ~~للمواصلات، ووكيل للأشغال العمومية، ووكيل للداخلية ووكيل آخر للداخلية في ~~الصحة. # تاسعا: # رفع الأحكام العسكرية، ووعد الوزارة - اعتمادا على حسن موقف الأمة - بالسعي ~~في سحب ما اتخذ من الإجراءات بمقتضى الأحكام العرفية، ومن جملة ذلك: فك اعتقال ~~المعتقلين المصريين حيثما كانوا. # عاشرا: # الدخول في مفاوضات جديدة - بعد تشكيل البرلمان المصري - مع الحكومة البريطانية ~~بواسطة هيئة مصرية يشرف البرلمان المصري نفسه على تعيينها؛ للنظر في مسألة ~~السودان، وفيما لا ينافي استقلال البلاد من الضمانات التي تطلبها الحكومة ~~البريطانية تأمينا لمصالح الإمبراطورية البريطانية ومصالح الأجانب في مصر، وذلك ~~كله على شرط أن تكون هذه المفاوضة غير مقيدة بشرط أو قيد من القيود والشروط ~~المبينة في مشروع كرزون. # وبعد الانتهاء من هذه المفاوضات يكون القول الفصل في نتيجتها للأمة المصرية المشخصة في ~~برلمانها. ms169