######OpenITI# #META# URI: 1362CabdCazizBishri.Mukhtar.Hindawi40505807 #META# Tags: literary.criticism :: literature #META# ID: 40505807 #META# Title: المختار #META# AuthorID: 82863939 #META# Author: عبد العزيز البشري #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # كلمة المؤلف‏ # الباب الأول: في الأدب‏ # تطور الأدب العربي وموضعه بمصر اليوم1‏ # حيرة الأدب المصري!1‏ # كفاح اللغة العربية في سبيل الحياة والنهوض1‏ # القصص في الأدب العربي1‏ # في الأدب بين القديم والجديد1‏ # في النقد الأدبي‏ # في رثاء صبري1‏ # الأدب الحاد‏ # رسالة الأدب!‏ # خيال الشاعر بين الطبع والصنعة1‏ # شوقي ...!1‏ # الباب الثاني: فى الوصف‏ # هو ...1‏ # إسماعيل صبري1‏ # شوقي1‏ # عدو صميم، أم ولي حميم؟ ...1‏ # عبرة1‏ # قصة1 ~~حياء!‏ # أولادنا!1‏ # الطفل ملك صغير‏ # الطفل الشريد1‏ # إلى أين؟ إلى أين؟1 ألا من قرار؟! ...‏ # الشباب المولي!‏ # لا صحة إلا في المرض!1‏ # في الطيارة بين ألماظة والدخيلة1‏ # الراديو1 كما يصفه أعرابي قادم من ~~البادية‏ # مجدولين1‏ # إفلاس!1‏ # في الجمال1‏ # بنك مصر1‏ # الباب الثالث: في التراجم والتعزيات والمراثي‏ # رشدي باشا1‏ # الشيخ علي يوسف1‏ # محمد بك المويلحي1‏ # عزاء1‏ # تعزية صديق لصديقه1‏ # من صديق1 إلى الدكتور نجيب بك ~~(باشا) محفوظ‏ # مسكين!1‏ # إسماعيل1‏ # محمد بك أباظة1‏ # محمود باشا سليمان1‏ # والرجال قليل!1‏ # أحمد عبد الوهاب1‏ # يا حافظ!1‏ # ابني! ...1‏ # مقدمة‏ # الباب الرابع: في الفن والمفتنين‏ # في الفن وحده1‏ # في الفن1‏ # في علوم البلاغة‏ # في الفن والمفتنين1‏ # تطور الموسيقى المصرية في العصر الحاضر1‏ # في الأغاني المصرية1‏ # التجديد والمجددون1‏ # ديمقراطية الفنون!‏ # المفتن أبو نواس1‏ # رجال ينبغي أن يذكروا1‏ # الشيخ سيد درويش1‏ # الشيخ أحمد ندا1‏ # غني يا ...!1‏ # طرب!1‏ # الباب الخامس: في المداعبات والأفاكيه‏ # النكتة المصرية في العصر الحديث1‏ # آداب العراك في الجيل الماضي1‏ # مشروع معركة!1‏ # التطفيل والطفيليون1‏ # التطفيل والطفيليون1 في الجيل ~~الماضي‏ # الشيخ حسن غندر‏ # الباعة الجوالون1 ومساحو الأحذية‏ # إلحاح ...!1‏ # يا لطيف!1‏ # الشحاذون ...!1‏ # ابن العم ...!1‏ # ظرف ...!‏ # إلى الحكومة‏ # عشاء!‏ # قرحة البطن!‏ # تنمر ...؟‏ # غرام ...!‏ # من خلق الله! ...‏ # ما شاء الله! ...‏ # غرور ...!1‏ # رجل غريب!1‏ # إقناع معدة ...!‏ # اقتصاد سياسي! ...‏ # في البخل! ...‏ # أصحاب اللقط والتعويض!‏ # رزق ...!1‏ # ولع! ...‏ # عبقرية!‏ # مفتش عموم ...!‏ # الغرام المجاني!‏ # بطولة! ...1 ~~(1)‏ # بطولة (2)‏ # بطولة (3)‏ # غواة؟‏ # فن الوظيفة؟‏ # امتحان! ...1‏ # يا خسارة! ...‏ # بين القاضي والمأمور‏ # يوم ويوم! ...‏ # أعوذ بالله! ...‏ # أوكازيون!‏ # شعراؤنا والندابات!1‏ # كلمة المؤلف‏ # الباب الأول: في الأدب‏ # تطور الأدب العربي وموضعه بمصر اليوم1‏ # حيرة الأدب المصري!1‏ # كفاح اللغة العربية في سبيل الحياة والنهوض1 ms001‏ # القصص في الأدب العربي1‏ # في الأدب بين القديم والجديد1‏ # في النقد الأدبي‏ # في رثاء صبري1‏ # الأدب الحاد‏ # رسالة الأدب!‏ # خيال الشاعر بين الطبع والصنعة1‏ # شوقي ...!1‏ # الباب الثاني: فى الوصف‏ # هو ...1‏ # إسماعيل صبري1‏ # شوقي1‏ # عدو صميم، أم ولي حميم؟ ...1‏ # عبرة1‏ # قصة1 ~~حياء!‏ # أولادنا!1‏ # الطفل ملك صغير‏ # الطفل الشريد1‏ # إلى أين؟ إلى أين؟1 ألا من قرار؟! ...‏ # الشباب المولي!‏ # لا صحة إلا في المرض!1‏ # في الطيارة بين ألماظة والدخيلة1‏ # الراديو1 كما يصفه أعرابي قادم من ~~البادية‏ # مجدولين1‏ # إفلاس!1‏ # في الجمال1‏ # بنك مصر1‏ # الباب الثالث: في التراجم والتعزيات والمراثي‏ # رشدي باشا1‏ # الشيخ علي يوسف1‏ # محمد بك المويلحي1‏ # عزاء1‏ # تعزية صديق لصديقه1‏ # من صديق1 إلى الدكتور نجيب بك ~~(باشا) محفوظ‏ # مسكين!1‏ # إسماعيل1‏ # محمد بك أباظة1‏ # محمود باشا سليمان1‏ # والرجال قليل!1‏ # أحمد عبد الوهاب1‏ # يا حافظ!1‏ # ابني! ...1‏ # مقدمة‏ # الباب الرابع: في الفن والمفتنين‏ # في الفن وحده1‏ # في الفن1‏ # في علوم البلاغة‏ # في الفن والمفتنين1‏ # تطور الموسيقى المصرية في العصر الحاضر1‏ # في الأغاني المصرية1‏ # التجديد والمجددون1‏ # ديمقراطية الفنون!‏ # المفتن أبو نواس1‏ # رجال ينبغي أن يذكروا1‏ # الشيخ سيد درويش1‏ # الشيخ أحمد ندا1‏ # غني يا ...!1‏ # طرب!1‏ # الباب الخامس: في المداعبات والأفاكيه‏ # النكتة المصرية في العصر الحديث1‏ # آداب العراك في الجيل الماضي1‏ # مشروع معركة!1‏ # التطفيل والطفيليون1‏ # التطفيل والطفيليون1 في الجيل ~~الماضي‏ # الشيخ حسن غندر‏ # الباعة الجوالون1 ومساحو الأحذية‏ # إلحاح ...!1‏ # يا لطيف!1‏ # الشحاذون ...!1‏ # ابن العم ...!1‏ # ظرف ...!‏ # إلى الحكومة‏ # عشاء!‏ # قرحة البطن!‏ # تنمر ...؟‏ # غرام ...!‏ # من خلق الله! ...‏ # ما شاء الله! ...‏ # غرور ...!1‏ # رجل غريب!1‏ # إقناع معدة ...!‏ # اقتصاد سياسي! ...‏ # في البخل! ...‏ # أصحاب اللقط والتعويض!‏ # رزق ...!1‏ # ولع! ...‏ # عبقرية!‏ # مفتش عموم ...!‏ # الغرام المجاني!‏ # بطولة! ...1 ~~(1)‏ # بطولة (2)‏ # بطولة (3)‏ # غواة؟‏ # فن الوظيفة؟‏ # امتحان! ...1‏ # يا خسارة! ...‏ # بين القاضي والمأمور‏ # يوم ويوم! ...‏ # أعوذ بالله! ...‏ # أوكازيون!‏ # شعراؤنا والندابات!1‏ # | المختار # | المختار # تأليف # عبد العزيز البشري # | تقديم الكتاب # بقلم خليل مطران # رغب إلي صديقي الكريم الأستاذ الكبير الشيخ عبد العزيز البشري في تقديم كتابه هذا، ~~فتفرست فيه فإذا هو لا يهزل، هلا فعل أيام كنت أنشئ المجلة المصرية، ولي من ~~قرب عهدي برياسة تحرير ms002 الأهرام بضع سنين، ومما ينشر لي من الفصول في المؤيد واللواء ~~وغيرهما شهرة وذيوع صيت، فأقدم آنئذ للناس بواكير فتى فارق حلقات الدرس حديثا، ~~ودلت الأول من ثمرات بيانه، على ما سيجنيه العالم العربي من قطوف أدبه ~~وافتنانه؟ # أما وهو اليوم أعرف من كل معرف بين الناطقين بالضاد في مشارق الأرض ومغاربها، ~~فلقد سامني من هذا التقديم ما ليس بيسير، على أنني سأطلع من ثنايا مباحثه إلى ذروة ~~أرفع عليها علم أدبه، وسأقتبس من آيات نبوغه ما أجلو به للمطالعين أمثلة من ~~صور فضله. # لقد ألهم الله الأستاذ خيرا، فواتى أمنية تجيش في صدور محبيه ~~والمعجبين به بأن جمع من خطبه البارعة، ومقالاته الرائعة، ما تفرق في الصحف ~~والمجلات، فاستوت كتابا هو في وقته كنز لأولي الألباب، وسيظل فيما يلي من الزمن ~~ذخرا للأعقاب. # وبعد، فلم لا أقف من هذا الكتاب موقف الدليل من المتحف، فهو في الحق متحف ~~حافل بالمفاخر، وكل طرفة من طرفه جديرة بأن تطالع في تدبر وروية، على ~~أنني سأكتفي بالإشارة المجملة إلى ما يتضمنه كل قسم، وأتفادى من سماجة الدليل الذي ~~يعطل بثرثرته مآخذ الذهن من التأمل الصامت فيما تقع عليه العين من روائع الفن، ~~وأحب إليه بل أجدى عليه أن يتملاها نظرا، من أن يترواها خبرا. # الباب الأول: في الأدب # ها هنا يمر المطالع بقلائد وفرائد من خطب وفصول في الأدب لا يخرج ~~يتيمها، ولا يحكم صوغها وتنظيمها إلا قلم البشري ولسان البشري، ~~تحركهما نفس كبيرة الهم، بعيدة المرامي، قلقة في مهاب الأهواء ومثارات ~~المنازع، فياضة بحب مصر، وإيثار العربية الفصحى لها لغة، تتجنب التحقيقات ~~العلمية، والتعاريف المنطقية، وإن تبتغي إلا اقتناع المتأدبين من طريق الباعث ~~الغريزي فيهم، ومن طريق إخبارهم بما يجري عند الأمم الغربية الراقية من مثل ما ~~عندهم، بأن البيان يجب أصلا أن يكون عربيا سليما في اللفظ والأسلوب والاصطلاح، ~~وأن يتكيف مع سلامته ومراعاته لتلك الأصول، فينطبع بطابع الفطرة المصرية التي ~~لها ما تتخيره خاصة من تلك اللغة وتلك الأصول ms003، فإذا أحيط البيان بهذا النطاق، ~~وصين من تسرب العجمة إليه، فلا مانع يمنع من كل ابتكار وتجديد، على ألا ~~يعدو حدوده، ولا يمس الخصيصة القومية في جوهرها. # يقول في الأدب بعد أن أمسك عن تعريفه، وبعد أن أهاب مرارا بأعلام البيان ~~وأئمة المتأدبين أن يعرفوه أو يدلوا على مواضع التعريفات الصحيحة له، فلم ~~تتدل أقلامهم بجواب: # وعلى كل حال، فإن الأدب إذا لم يضبطه تعريف جامع مانع، فإن موضوعه ~~واضح في مظاهره، وفي الغايات التي يطلبها ويتطاول إليها، فما من ~~أحد إلا يرى أن أبلغ مظاهر الأدب في نفض الأحساس الكامنة، والعواطف ~~الجائشة، وتصوير ما يعتلج في أطواء النفس من ألوان الانفعالات ~~بعبارات موسيقية تتدسس إلى نفس السامع، فتثير منها كل ما يثور في نفس ~~الشاعر أو الكاتب، ولا شك عندي في أن هذا أبلغ مظاهر الأدب وأجل ~~غاياته. # كذلك لقد ضبطت بالشكل كل ما المصري القائم: # وعلى الجملة إنك لو تصفحت هذا الأدب المصري القائم، لرأيته ~~موزعا بين حياة في الجزيرة لعصر الجاهلية وصدر الإسلام، وبين حياة ~~في بغداد أو الأندلس، فيما يلي ذلك العصر، وبين حياة في لندن أو برلين أو ~~باريس أو روما أو موسكو، ولكن أين هذا الأديب الذي يعيش في مصر ويصور ~~عواطفه المصرية التي يلهمها ما ينبغي أن يلهم المصري من عواطف ~~وإحساس؟ # ثم يعود فيفصل بعض الشيء ما أراده ~~بالأدب العربي القومي، وما أبلغ الكلام الذي أوحي إليه في هذا الغرض، ومنه قوله: # إذن لا مفر لنا من أن نلتمس أدبنا القومي، ولا يكون هذا الأدب إلا ~~عربي الشكل والصورة، مصري الجوهر والموضوع، وإذن فقد حق علينا ~~أن نبعث الأدب العربي القديم، وننثل دواوينه، ونستظهر روائعه، ~~ونتروى منها بالقدر الذي يفسح في ملكاتنا، ويقوم ألسنتنا، ويطبعنا ~~على صحيح البيان، فإذا أرسلنا الأقلام في موضوع يتصل بالآداب، بوجه ~~خاص، أطلقنا القول في صيغة عربية لا شك فيها، على ألا نطلب بها ~~إلا الترجمة عما يختلج في نفوسنا، ويتصل بإحساسنا، ونصور بها ما ~~نجد مما ms004 يلهمه كل ما يحيط بنا، وما يعترينا في مختلف أسبابنا ~~من فكر ومن شعور ومن خيال. # ولقد قدمت لك أننا قد نكون في حاجة شديدة جدا إلى مطالعة آداب ~~الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها، ونقل ما يتهيأ ~~نقله إلينا منها في لسان العرب، وهذا أمر لا شك فيه، ولا غناء لنا ~~عنه، فإن ذلك مما يهذب من ثقافتنا، ويفسح في ملكاتنا، ويرهف من ~~حسنا، ويهدينا إلى كثير من الأغراض التي تشتعبها آداب الغرب في ~~هذا العصر، والواقع أننا تهدينا من آداب الغرب إلى فنون لم يكن ~~لنا بها عهد من قبل، أو أنها مما عالجه سلفنا ولم يكن حظهم منه ~~جليلا، ومن أظهر هذه الفنون القصص بالمعنى القائم، ومذاهب النقد ~~الحديث. # على أن شيئا من ذلك الأدب الأجنبي لا يجدي علينا، ولا يؤدي ~~الغرض المقسوم بمطالعته والإصابة منه إلا إذا هذبناه وسوينا من خلقه ~~ولونا من صورته حتى يتسق لطباعنا، ويوائم مألوف عاداتنا، ~~ويستقيم لأذواقنا، كما ينبغي أن نجهد الجهد كله في تجليته في نظام من ~~البلاغة العربية محكم التنضيد، فلا نحس فيه شيئا من نبو ولا ~~نشوز، وبهذا نزيد في ثروة الأدب العربي، ونرفع من شأنه درجات على ~~درجات. # هذا هو الهدف الأكبر فيما رمى إليه الأستاذ بمختلف مباحثه القيمة في الأدب: ما ~~تناول منها الموضوع في لبابه أو جال به جولاته في النقد والشعر، ومن مر ~~بالقلائد التي نظمها في هذه الفصول كلها والفرائد التي رصعها بها، لم ~~يفارقها إلا بقلب مشتاق، ولب يستظهر بالذكرى على ألم الفراق. # الباب الثاني: في الوصف # هذا الجناح من المتحف فيه العجب العجاب: أتنظر بعين البدوي إلى تلك الآلة ~~العجيبة «الراديو» فترى هيئتها كما يراها وتدهش من مفاعيلها مثل ما دهش منه؟ ~~أتشهد المؤلف قبل أن يركب الطيارة وحين ركبها، وبعد أن تدلى منها وصار ~~إلى مأمن، وأعاد ذكراها في نفسه مروعا حين رآها في السماء قافلة، وهو ~~يجالس بعض صحبه على شاطئ البحر بالإسكندرية؟ # أتتفرس في رسم المؤلف ms005 حين يهتف هاتف من أصدقائه بسنه وقد تشرف على ~~الخمسين، وتقرأ في ذلك الرسم كل ما تراءى عليه من الأحساس المتلونة التي تكن ~~أمثالها جوانح كل حي؟ ولكن من فيهم يستطيع جلاءها كما جلا؟ # أيروعك شكله وهو صحيح معافى؟ غير أنه لا يشعر بأنه مجتمع الشمل، ولا يسكن ~~إلى ما هو فيه، وكلما اطلع على ساعة من ساع الزمان رآه مشغولا بالانحدار إلى ~~التي تليها، فعلى محياه يرتسم سؤال: «إلى أين؟ إلى أين؟» وسؤال آخر: «ألا من ~~قرار؟» على أن إجابته عن هذا السؤال هي إجابة الإنسانية كلها، أجل، ولكنها إجابتها ~~بأفصح ما يتسنى لنفس أن تعبر به تعبيرا خلابا بديعا عن أسرار حيرتها ~~الدائمة! # أتنظر إليه في رسم آخر وهو ينمق ما يوحيه إليه الجمال، فتمر بك الألواح ~~العجيبة من بزوغ شمس واستوائها على عرش ملكها تصدر توقيعاتها في حياة هذا ~~العالم، ومشبها بعد ذلك متثاقلة إلى خدرها، لتتوارى عن العيون خلف ~~سترها؟ # ثم من طلوع القمر «يبدو لك أول الشهر خيطا دقيقا، ويبدو في ثانيه كحاجب الأشيب، ~~ويستوي بعده قوسا، ولا يزال ينمو ويدرك حتى يستوي بدرا كاملا»، فهو في ~~كل حالاته أولئك «ما حضر إلا أهنأ وهدى، وما غاب إلا أضل وأشقى». # ثم من روض أريض «قد انسرح بانه، وفرعت فروعه وبسقت أغصانه، ~~وزكت أوراقه، ورف بوحي النسيم نبته وجلجل اصطفاقه» إلخ، فأنت ~~مفتتن بما يطالعك به، أبدع وشي في أبرع ديباجة. # هذه أمثلة من طرف هذا الجناح، ولكن أبت العبقرية إلا أن نختم سلسلتها بقصة ~~جعل الأستاذ عنوانها لفظة «حياء» وماذا أذهب به وأغرب في سرد ما سرد من ~~وقائعها، وفي صدق تصويره لصاحبها بحسه ومعناه، وفي مختلف أطواره وفي إحكام السياق ~~إلى أن أطفى من الرسوب، في أبعد قرارة من النفس، معنى من أدق معاني الحياء، ~~ولقد قال في استهلال تلك القصة: # وحين أترجم لموضوع اليوم بكلمة «قصة» لا أعني الرواية ولا ما يشبه ~~الرواية، فإنني لا أشيع فيها خيالا، ولا أخترع لها أبطالا، ولا ms006 ~~أخلق مفاجآت، ولا أبتكر مواقف، ولا أمد لها مغزى يصيب غرضا، ~~ولا أعالج تحليل نفس أو فكرة، لأنني لا أجيد هذا الضرب من البيان ولا ~~أحذقه، بل إنني لم أحاوله قط طول حياتي الكتابية، وإنما ~~أقص حادثة وقعت بسمعي وبصري، فإن هي أصابت غرضا أو اتصل بها ~~مغزى، فذلك من صنعها نفسها، لا فضل لي من ذلك في كثير ولا ~~قليل. # وها هنا لي استدراك على الأستاذ أبديه لزائر المتحف أو مطالع هذا الكتاب! لو ~~أن شيخنا - بالفضل لا بالسن - الأستاذ البشري ابتدع هذه القصة استخلاصا من ~~الوقائع التي تجري كل يوم بأسماعنا وأبصارنا كما يفعل منشئو الروايات، ولم تكن ~~مما شهده على حد ما ذكر، لكان من أبرع القصاصين الذين عرفناهم، الله الله ~~في دقة الوصف، واستشفاف ألطف ما يتحرك به الحس في أطواء النفس، الله الله في ~~روعة الأسلوب وصفاء العبارة، وبلاغة تمهيد الفواتيح للخواتيم. # على أنه لا يزيدك بيانا على مقدرة الأستاذ في قصصه مثل وقوفك على تراجمه وهي ~~ضرب آخر منه، وقد جلا بعض مأثوراتها في كلامه على المرحوم شوقي، وفي تراجمه التي ~~أفرد لها الباب الثالث. # الباب الثالث: في التراجم # هذا القسم لا يعرض لك فيه المؤلف إلا ثلاث صور: رشدي باشا، الشيخ علي يوسف، ~~محمد المويلحي، ولكنها ثلاث لا تقوم بها محتويات متحف مهما كثرت وغلت، ~~على أنك تستشعر من البدء إلى النهاية في هذه التراجم أن محرك العبقرية فيها ~~إنما كان الوفاء، وفي مثل هذا يتجلى بأبهج الصور جلال التآزر بين القلب ~~والعقل. # في هذه التراجم الثلاث حدث الأستاذ واستفاض في الحديث، عن ثلاثة من أكابر ~~رجالات مصر، عرفهم حق المعرفة، وتروى حوادثهم شاهدا أو آخذا عن ثقات، ~~وعلق من نوادرهم أعلاقا، فيها من النفائس ما يضمن الخلود. # خذ من بعض ذلك إحدى الصور التي صور بها رشدي باشا، قال: «ولقد حدثت ~~أحداث الإسكندرية في مايو سنة 1921، ورشدي مع عدلي في لندن يفاوضان كيرزن في ~~المسألة المصرية، وكانت السلطة العسكرية قد ملكت الأمر ms007 كله عن الحكومة ~~المصرية، وتولت هي التحقيق بقوة الأحكام العرفية التي كانت مبسوطة يومئذ على ~~البلاد، فلما انتهت المفاوضات إلى الكلام في حماية الأجانب وعارض المفاوضون ~~المصريون في أن يكون هذا إلى إنجلترا، دفع اللورد كيرزن إليهم بتحقيق السلطة ~~العسكرية في حوادث الإسكندرية، وما دمغ المصريين ظلما بألوان الوحشية، وما أضاف ~~إليهم من أمور تقشعر منها الجلود، فتناول رشدي باشا هذا التحقيق ويداه ~~صفر من كل شيء، لأن التحقيق كما قلت لك، استقلت به السلطة العسكرية، ~~فأبت على رشدي عزيمته، وأبت عليه وطنيته، وأبت عليه عبقريته إلا أن ~~يكب ليلته كلها على هذا التحقيق، والله يعلم ماذا بذل من مخه، والله يعلم ~~ماذا هراق من ذكائه حتى اتسق له في الصباح تقرير يعصف بهذا التحقيق ~~عصفا، ويشهده على نفسه بالبطل، وشدة الحمل على المصريين، ثم مضى به إلى لورد ~~كيرزن فألقاه إليه، وما إن قرأه حتى سأل أن يتقاص الطرفان، وكذلك أخلت ~~حوادث الإسكندرية وجه الطريق.» # ثم خذ صورة للمرحوم الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، تجده بها حيا ناطقا، ~~وتستطلع طلع الحقيقة فيه محللة تحليلا يعرف مكانه من الدقة من عرف ~~ذلك الكاتب القدير الذي تصرف في اليسير من مادة اللغة بأحسن مما يتصرف ~~غيره في الكثير، فأحدث من بالغ الأثر في نفوس قارئيه ما تنطق به هذه ~~الشهادة له من أديب لا يشق له غبار في معرفة اللغة كالأستاذ صاحب هذا الكتاب، قال: # وفي هذا المقام يجدر بي أن أنبه إلى شيء جدير بالانتباه: ذلك ~~أن حسن البيان وجودة المقال لا ترجع في جميع الأحوال إلى ~~تمكن الكاتب من ناصية اللغة وتفقهه في أساليبها، وبصره ~~بمواقع اللفظ منها، واستظهاره لصدر صالح من بلاغات بلغائها، إلى ~~حسن ذوق ورهافة حس، بحيث يتهيأ له أن يصوغ فكرته أنور ~~صياغة، ويصورها أبدع تصوير، بل إن ذلك ليرجع في بعض الأحوال، ~~وهي أحوال نادرة جدا، إلى شدة نفس الكاتب وقوة روحه، فقد لا يكون ~~الرجل وافر المحصول من متن اللغة، ولا هو على ms008 حظ كبير من استظهار ~~عيون الكلام، ولا هو بالمعني بتقصي منازع البلاغات، ومع هذا لقد ~~يرتفع بالبيان إلى ما تتقطع دونه علائق الأقلام، ذلك لأن شدة ~~نفسه، وجبروت فكره، تأبى إلا أن تسطو بالكلام فتنتزع البيان ~~انتزاعا، ولعل في بيان السيد جمال الدين الأفغاني وهو غريب عن العربية، ~~وقاسم بك أمين وهو شبه غريب عنها، أبين مثال على هذا الذي نقول، ~~ولقد يعجب القارئ أشد العجب إذا زعمت له أن المرحوم حسين رشدي ~~«باشا»، وكان رجلا قل أن تطرد على لسانه ثلاث كلمات عربية ~~متواليات، قد كان أحيانا يرتفع بالعبارة إلى ما يتخاذل من دونه ~~جهد أعيان البيان! # والآن أستطيع أن أزعم أن الشيخ علي يوسف، على أنه تعلم في الأزهر ~~وقرأ طرفا من كتب الأدب، واستظهر صدرا من مظاهر البلاغة في منظوم ~~العربية ومنثورها - إلا أنه لم يكن مدينا في بيانه لشيء من هذا بقدر ~~ما كان مدينا لشدة روحه وسطوة نفسه، وإنك لتقرأ له المقال يخلبك ~~ويروعك، وتشعر أن أحدا لم ينته في البيان منتهاه، ثم تقبل ~~على صيغه تفتشها وتفرها، فلا تكاد تقع على شيء من هذا النظم ~~الذي يتكلفه صدور الكتاب، وبهذا أنشأ الرجل لنفسه أسلوبا، أو على ~~الصحيح لقد خط قلمه القوي نهجا من البلاغة غير ما تعاهد ~~عليه الناس من منازع البلاغات. # ثم إليك صورة للمرحوم ~~محمد المويلحي، أعجب ما فيها إبانتها عن سر فلسفته الخاصة في حمله على ~~نفسه وصبره على مضض الأيام، موفقا في ذلك بين مذهبه الفكري ~~وسيرته العقلية في الحياة، قال الأستاذ: # ومن أهم ما يلفت النظر في خلاله أنه كان أقل خلق الله ~~تأثرا بما يغمر المرء من متعارف الناس ومصطلحهم في ~~عاداتهم وتقاليدهم وسائر أسبابهم، بل لقد كان له نظره الخاص في الأشياء، ~~وكان له حكمه الخاص عليها، وهو إنما يأخذ نفسه بما يصح عنده من ~~هذه الأحكام، لا يبالي أحدا، ولا يتأثر، كما قلت، بأثر ~~خارجي ولو كان مما انعقد عليه إجماع الناس، وإذا كنت قد ~~نعته ms009 «بالفيلسوف» فإنما أعني هذه الصفة فيه؛ فإنني لم أكد أرى ~~رجلا لاءم كل الملاءمة بين رأيه في أسباب الحياة، وشدة تحريه ~~أخذ النفس بأحكام هذا الرأي، كما بان لي من خلة هذا الرجل ~~بحكم ملابستي له السنين الطوال. # إلى هنا انتهيت بك أيها القارئ الكريم من الطواف عاجلا بأقسام المتحف، وليس ~~يذهب عني أنني لم أزدك شيئا على ما يعطيك عامة الأدلاء في المتاحف من ~~الإرشاد الساذج الناقص، إلى مواضع مختلفة من مواقع الجمال والجلال. # فانصرف الآن موفقا إلى تروية نفسك من اللذائذ الذهنية التي توحيها إليك - ~~بلا وساطة - مطالعة ما في هذا الكتاب من الآيات الفنية. # | كلمة المؤلف # بسم الله الرحمن الرحيم # الحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى ~~آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. # وبعد، فما كنت أقدر في يوم من الأيام أن يستوي من بعض هذا الذي ~~أرسله في الصحف الدائرة الحين بعد الحين كتاب مجموع، وإن عادة لي ~~لزمتني من يوم ضبطت القلم ألا أحرص على حفظ شيء من آثاره المنشورة في ~~هذه الصحف، فإذا وقع لي شيء من ذلك أسرعت إلى إتلافه تمزيقا أو ~~تحريقا. # وسبيل هذه العادة إلي أنني أول ما عالجت الكتابة وتعلقت بصنعة القلم، ~~كنت أدرك تمام الإدراك أنني ناشئ لا أجيد البيان، فإذا كانت لي طبيعة فلن ~~تتهيأ لي الإجادة إلا بعد شدة معاناة وطول تمرين، وظللت على هذا دهرا ~~وأنا في ارتقاب الأحسن مما يثبت للأنظار لأحفظه وأدخره للجمع ثم ~~للطبع، فلا أراه قد تهيأ لي، فلا أبرح أهمل كل ما ينتضح به القلم، ~~ولا أبقي منه على كثير ولا قليل. # وظللت كلما اطرد بي الزمن أشعر بأن المدى بيني وبين الكمال الذي ~~أنشد يطول ولا يقصر، وأن الغاية التي أطلب تبعد على الأيام ولا ~~تقرب، حتى لقد جعلت نفسي تبرم وتضيق كلما وقع لي عفوا شيء من ~~تلك الآثار، ثم لقد أصبحت تعفينها وإتلاف ما يقع ليدي منها عادة ms010 من تلك ~~العاد التي تتصل بالفطر والطباع، حتى لو خرج المقال فأزهاني به شيطان ~~الفتنة بالنفس، وهتف به الصحاب وغير الصحاب، فإنه لا يتعذر مني على ذلك ~~المصير. # وكثيرا ما استحثني صدقاني على أن أسوي من تلك الرسائل مجموعات أطبعها ~~وأنشرها للناس، فإذا اعتلوا على عذري بأن هذا الذي أصنع مما لا أراه ~~يرتقي إلى هذا المكان، رحت أجاريهم بظاهر من القول، وفي التعليق على مشيئة ~~الله تعالى عن الكذب منتدح. # ولقد ظل هذا شأني إلى أن لحقتني في صدر هذا العام شكاة ألزمت ~~جنبي الفراش ثلاثة أشهر تعلقت فيها بين الموت والحياة، ولعل جانب الموت ~~عندي كان أرجح، وحجته كانت بحالي أسطى، وهنا بان لي أنني كنت حق ~~مخدوع في ذلك التأميل، شأن المرء في جميع أماني الحياة. # إذن لم أبلغ ذلك الكمال، ولست بدان منه ولو وصلت بالأجل آجال، وما ~~أنا بظافر بغير ما كان لي بحال، فالطمع فيما وراءه من بعض المحال. # وإذن فهذا قسمي من صنعة القلم، وما بات للتأميل من بعد ذاك مآب، وهيهات أن ~~يدرك المشيب ما انقطع دونه جهد الشباب! # وكذلك ألحت علي الرغبة في أن أستعرض آثار هذا القلم، ففي استعراضها ~~استعراض لما يصح أن يدعى بالحياة، ولعله قد وقع لسمعك ذلك المثل الشائع: ~~«إن التاجر إذا أفلس رجع إلى دفاتره القديمة»، على أنني إذا شاركت ذلك ~~التاجر، في هذا الحظ العاثر، فقد زاد حظي عليه فقدان تلك الدفاتر. # لم يبق بد من أن أذكي النساخ في المكتبات العامة، فرجعوا إلي بكثير ~~جمعت منه هذا الجزء ينتظم أبوابا ثلاثة: الأدب، والوصف، والتراجم. # 1 # وسيتلوه إن شاء الله آخر في الفن ~~والمفتنين، والأفاكيه، والمراثي. # على أنني وإن لم أحرف رأيا سلف لي أو أعدل في فكرة، وإن عدلت في ~~الواقع عنها، حفظا لحق التاريخ علي؛ فإنني قد عدت بشيء من الصقل والتسوية ~~في بعض العبارات، واستدراك ما عسى أن تكون قد فوتت العجلة مما يستقيم به ~~نظم الكلام. # كذلك لقد ضبطت بالشكل كل ما ms011 يشيع الخطأ في النطق به على ألسنة الكثير من ~~الناس، وشرحت ما عسى أن يخطئهم من مفردات اللغة علمه، تيسيرا للناشئين ~~من المتأدبين. ~~••• # وبعد، فوالذي نفسي بيده لو كنت أعلم بظهر الغيب أن أستاذي إمام البيان ~~وشاعر القطرين سيصفني بما وصف، ما سألته ما سألت، ولكنه أبى إلا ~~أن ينظر إلي نظر الأستاذ إلى تلميذه الخاص فلا يرى إلا حسنا، وحبذا لو ~~كان قد جمع عزمه، وحمل على نفسه، وخرج قليلا عن عطفه، فبصرني ~~مساقط عيوبي، فما أحوجني إلى أديب عالم نزيه يبصرني هذه العيوب، ومن ~~أولى بهذا من أستاذي مطران؟ # وإذا كان قد أخذني بأني لم أتقدم إليه بما تقدمت وأنا فتى ناشئ وهو ~~يخرج «المجلة المصرية» ويجول قلمه في كبريات الصحف كل مجال، فليعلم ~~- وصل الله في حياته النافعة - أنني ما برحت أنظر إليه اليوم بتلك العين ~~التي كنت أنظر إليه بها في تلك الأيام. # عبد العزيز البشري # الباب الأول # | في الأدب # | تطور الأدب العربي وموضعه بمصر اليوم1 # تعارف حملة الأقلام # سيداتي، سادتي # وأخيرا فهذا نادي القلم، يجمع في مصر أيضا بين رجال القلم، ولقد ~~يتداخل بعض الناس العجب من أن آخر من يفكر من أرباب المهن في ~~التعارف والاتصال والتعاون في أسباب المهنة هم أصحاب القلم! # والواقع أن الأمر، لو جاز به النظر لا يبعث على كثير ولا قليل من العجب، ~~فإن رجال القلم هم، من صدر الزمان، المتعارفون المتواصلون المتعاونون، وإن ~~تراخت بينهم الديار، يلتقون كل حين في حلق الدرس، وعلى متون الصحف، وفي ~~بطون الكتب، يلتقون لا بصورهم وأشباحهم، بل بعقولهم وأرواحهم، فإذا كان ~~تعارف غيركم وتعاونهم أثرا لاجتماعهم واتصالهم، فإنما يكون اجتماعكم ~~أنتم أثرا لتعارفكم، وتعاونكم، فاتصالكم اليوم، على تفرق ~~أصنافكم وألسنتكم وأهوائكم، إنما هو من تسجيل الأمر الواقع لا أكثر ~~ولا أقل. # وهذا هو الاجتماع الذي لا تقوى على تصديعه يد الزمان! # سيداتي، سادتي # لم تكن ثمار الفكر ملك أمة ولا خلصا لوطن، ولا حكرة لخلق من ~~الناس، أفرأيتم كيف اجتمع لنادي القلم ms012، في كل هذا اليسر، مع المصريين أصناف ~~شتى من الغربيين؟ وكيف استوت السيدات في مجالسهن أثناء الرجال؟ بل كيف توافى ~~له من عسى ألا يجمع بينهم من مذاهب الحياة إلا صنعة القلم؟ أفرأيتم ~~إذن صلة أوثق من هذه الصلة، ورحما أبر من هذه الرحم؟ ~~••• # بعد هذا، لقد أقبلت على نفسي أسائلها: لماذا آثرني بعض إخواني ~~بالدعوة إلى إلقاء أول كلمة في أول اجتماع لنادي القلم؟ ولماذا كلما ~~زدتهم اعتذارا زادوني إلحاحا حتى لم أجد لي من المطاوعة، ~~بظهر الغيب، مفيضا؟ # لقد أقبلت على نفسي أسائلها، وكلما استصعبت وتعذرت علي في ~~الجواب زدتها كذلك إلحاحا حتى طاوعتني هي الأخرى، فإذا الجواب الذي استراح ~~إليه فكري أن العادة جرت بأنه إذا انتظمت مواكب الجيش تقدم ~~الأحدثون، فالذين من فوقهم درجة، وهكذا حتى يخلص آخر صف للقادة ~~العظام، وما لي وللعسكرية وقد سلخت في منصب القضاء دهرا، وآداب القضاء ~~تجري بأن يبدأ باستخراج الرأي من أحدث الجالسين جميعا. # إلى هذا المعنى استراحت نفسي، وعلى هذا الاعتبار تقدمت إلى إلقاء أول ~~كلمة في هذا الاجتماع الكريم. # ولست بالضرورة، أعني بالحداثة الحداثة في السن، وإلا لكنت من آخر من ~~يتكلم فيكم جميعا! # الأدب عرض يتلون ويتكيف # سيداتي، سادتي # كان حتما علي بعد ذلك أن أختار موضوع حديثي إليكم، ففكرت ثم ~~فكرت، فلم يهدني تفكيري، على طول الترديد، إلا أن ألم إلمامة يسيرة ~~بتطور الأدب العربي وموضعه في مصر اليوم، فلعلي بهذا أجلو منه صورة واضحة ~~بعض الوضوح على من عسى ألا يكون قد عني بمطالعته من إخواننا السادة ~~الغربيين. # وقبل أن أسترسل إلى هذا الغرض، أبادر فأقرر أنني مؤمن كل الإيمان بأن ~~الأدب ما كان في يوم من الأيام - ولعله لا يكون في يوم من الأيام - فنا ~~محدود الأطراف، ثابت الأبواب، مرسخ القضايا، ينتهي من التأصيل ~~والتقعيد إلى كمال معين أو شبه كمال معين، شأن الفنون الموصولة ~~بالعقل، أو بالطبيعة، أو بالواقع، فلا يدخل على قضاياها التغيير إلا ~~بحدث عظيم من نحو استكشاف مجهول خفي ms013 في الزمان على أنظار العلماء، بل إن ~~الأدب لعرض يتكيف ويتلون طوعا لعقلية كل قوم، وتاريخهم، وأخلاقهم، ~~وعاداتهم، والجو الذي يعيشون فيه، وأسبابهم الخاصة، ومبلغ شعورهم ~~بالجمال، بل بصور هذا الجمال أيضا. # فالأدب الحق لكل قوم هو ما يكافئ عقليتهم، ويرضي أذواقهم، ويواتيهم في سائر ~~أسباب الحياة. # وعلى هذا، لقد يكون من العبث أن نطلب للعامة من سكان الصعيد الأعلى مثلا، ~~وهم شركاؤنا في الجنس واللغة، الأدب الذي يترواه ويمتع به المتعلمون في ~~كبد الحضر، وأن ننعى عليهم تخلفهم في هذا، وإن عبثا كبيرا أن ~~يراد تنعيمهم وتلذيذهم بمثل أدب الجاحظ والأغاني، وبما انتضحت به ~~قرائح أئمة البيان وقادة الفكر في الشرق والغرب، ولو ترجم إلى لغاتهم، ~~وأدي إليهم في لهجاتهم. # عصور الأدب العربي # سيداتي، سادتي # لقد كان لسلفنا العرب في جاهليتهم أدب قوي جدا يكافئ بداوتهم وشدة ~~طباعهم، وقوة غرائزهم، وصفاء نفوسهم، أدب يواتي كل أسبابهم في الحياة من ~~الحرب والغزو والطرد، والتفاخر بالكرم والإيثار، والتكاثر بالأهل ~~والعشيرة، وقوة الغزل، ودقة الوصف لكل ما يتناوله حسهم، والوقوف بالديار، ~~ومساءلة النؤي والأحجار. # فلما فتح الإسلام عليهم من أقطار الأرض، جعلت أشعارهم وسائر ~~آدابهم تتلون بلون الحضارة التي لابسوها، والحياة التي أخذوا في ~~تذوقها، حتى إذا بلغوا من العلم حظا، واطردت بهم الحضارة الواسعة ~~في عهد العباسيين، كان الأدب العربي شيئا آخر، شيئا يواتي مطالب عقولهم، ~~ويتوافى لأحلامهم وأذواقهم في أسبابهم الحديثة. # ومثل هذا يقال في أدب الأندلس، فإن صوره ما برحت تدارج شأنهم في ~~حضارتهم فتترف بترفهم، وتلين بلين عيشهم، حتى كان الأدب يصاب فيهم بالتزايل ~~والاسترخاء، وحتى ولدوا في الشعر فنونا لتؤدي من الأغراض اللينة الرخوة ~~ما عسى أن تثقل عليه أوزان الشعر! # ومصر أيضا، لقد كان لها من عهد شيوع العربية أدب يكافئ عيشها في كل عصر، ~~على أنه وإن كان أدبها في مبتدأ الأمر لا يكاد يختلف عنه في قاعدة ~~الخلافة؛ لأن الأدب العربي إنما كان فيها شبه عارية، لا يكاد يعالجه إلا من ~~انحدروا إليها من ms014 الأقطار العربية؛ فإنه على تطاول الزمن جعل ~~يتأقلم، وما برح يطرد في هذا حتى أصبح يحمل الطابع المصري الخالص، ~~حتى إن العديد الأكبر ممن هبطوا مصر من العلماء والشعراء والكتاب في ~~أواسط القرن السابع الهجري، عقب سقوط بغداد في أيدي التتار، لم ~~يستطيعوا أن يحيلوا لون الأدب المصري؛ بل لقد طبعهم ~~وأنسالهم بطبعه على الزمان! # دخول الصنعة في الشعر # سيداتي، سادتي # لقد امتحن الشعر العربي من العصر العباسي الأول بدخول شيء من الصنعة ~~عليه، وكانت هذه الصنعة أول الأمر تعتريه في رفق ولين ، وكان أكثر ما ~~يتغشاه من ألوان البديع الطباق والتقسيم والتجنيس، وكيفما كان الأمر فإن ~~الاحتفال للصنعة في الشعر مما يفتر في الترجمة عن صادق الحس، وكلما ~~أمعن الشاعر في الاحتفال للصنعة ازداد - بالضرورة - التراخي بينه وبين ~~نفسه. # ثم ما برح يطرد هذا الصنيع ويشيع في الشعر العربي، إلى أن يطلع في ~~العصر العباسي الثاني فيلسوف الأدباء قاطبة وأعني به أبا العلاء المعري، ~~يطلع بديوان كامل، ديوان تضمن أجل ما تنزل عليه من الحكمة، ينتظم ~~جميع أبياته لون واحد من البديع، وهو لزوم ما لا يلزم من إجراء القافية ~~على حرفين أو أكثر! # ولقد شاعت هذه المحنة وتغلغلت، لا في الشعر وحده، بل في الشعر والنثر ~~جميعا، وكان لمصر منها حظها العظيم. # وليس يتسع هذا المقام للحديث في أصحاب البديعيات من الشعراء، ولا في ~~القاضي الفاضل وتلاميذه من الكتاب، وكل ما أستطيع أن أرده الآن في هذا ~~الباب، أن الأدب كله أصبح عبدا للصنعة، يرتصد للنكتة البديعية، ولا ~~يزال يتحرف باللفظ لإصابتها واقعة ما وقعت بعد هذا مرامي الكلام، حتى ~~لقد ترون الشاعر يعقد في قصيدته القافية على حرف عزيز كالثاء مثلا، ~~دلا ومكاثرة، فيستخرج القوافي أولا، ثم ما يزال يجد ويجهد في ~~تجنيد الألفاظ لها، وقسر الكلام عليها، حتى يصيبها عن طواعية أو ~~استكراه! # وعلى الرغم من أن مصر قد استوفت قسطها من هذا اللون من الأدب، ~~فقد بقي فيها الشعر والنثر كلاهما يحملان طابعها الخاص: حلاوة ms015 في ~~اللفظ، ورقة في الغزل، ودقة في وصف مشاهد الطبيعة. # الأدب في عهد الترك # سيداتي، سادتي # لقد كرث الحكم التركي مصر في كل شيء: في العلم، وفي الفن، وفي الأخلاق، ~~وفي الصناعة، وفي التجارة، وفي سائر وسائل العيش، فأصبح من الطبيعي أن ~~يتلون الأدب، على الزمن، بلون هذه الحياة، ولو قد ظل مع هذا على ~~شأنه الأول من القوة وسعة التصرف لما كان أدبا مصريا، ولا كان مما ~~يتسق لأذواق المصريين! # ضعفت ملكة العربية، وشاعت التركية على الألسن، بل على بعض الأقلام، ~~واستأثرت بجميع الأسباب الديوانية، ودار الشعر في أضيق الأغراض من ~~المديح والرثاء والغزل المتكلف المصنوع، ونحو هذا مما لا غناء فيه ~~لمطالب العقل القوي، ولا لحاجات النفس الكريمة، وقد هزلت المعاني، ~~وتزايلت التراكيب، وقلت العناية باصطفاء اللفظ الشريف. # وما برح شأن الأدب على هذا حتى كان الفتح الفرنسي في مؤخرات القرن ~~الثامن عشر، وتنظرت بعض أسباب الحضارة الغربية لخاصة المصريين، ثم ~~أقبلت النهضات في عهد محمد علي دراكا في العلوم والصناعات، وخاصة من هذه ~~ومن هذه ما كان بسبب من المطالب العسكرية. # الأدب في عهد محمد علي # سيداتي، سادتي # لسائل أن يعترضني بهذا السؤال: لقد زعمت أن الأدب عرض يلحق حال ~~كل أمة في عقليتها وأسباب حضارتها، فما بال الأدب ظل على شأنه طوال ~~عهد محمد علي إلى صدر كبير من عهد إسماعيل، مع أن البلاد قد تحولت ~~حالها بما أصابت من الفن وما حصلت من العلم الحديث؟ # وإنني لأجيب سائلي بأن عقليات الأمم لا تتحول بمثل هذه السرعة، إلى أن ~~المتعلمين من بني مصر يومئذ كانوا في شغل دائم بالوسائل المادية التي كان ~~يريد القائم أن يخط بها ملكه، إلى أن التركية كانت ما تزال شائعة على ~~الألسن، منتضحة على الأقلام، إلى أن مثل هذا العرض، أعني به الأدب، لا ~~يواتي معروضه من الساعة الأولى، بل لا بد من مر الزمن حتى يثبت ~~الطابع الحديث للعقلية العامة في موضعه. # على أنني أزعم، بعد ذلك، أن الأدب في ms016 هذه الفترة إذا لم يكن دارج الحضارة ~~الحديثة، فقد لمحها وأصاب منها في بعض الحين. # الأدب في عهد إسماعيل # سيداتي، سادتي # أدركت مصر في عصر إسماعيل حظا محمودا من الحضارة، فشاعت فيها العلوم، ~~واستوثق الاتصال بينها وبين بلاد الغرب التي كثر روادها من المصريين، ~~وانحدر العديد الأكبر من الغربيين إلى هذه البلاد سياحا ومستوطنين، ~~كما نزحت إليها طائفة من أعيان الأدباء والكتاب السوريين. # بهذا وبهذا وبذلك جعلت الثقافة العامة تتلون بلون جديد، وجعلت ~~الأقلام تستشرف، بقدر ما، إلى أسباب الحضارة الحديثة، ولا يفوتكم أن ~~المطالب العسكرية في ذلك الحين لم تصبح مما يستغرق هم القائم، بل لقد ~~انبسط منه فضل كبير للآداب والفنون، وكان أول من انبعث في هذين ~~البابين الصحافة الشعبية والتمثيل. # ولقد انبعث طوعا لهذه الحال، جماعة من مشيخة العلماء في طلب أدب ~~خير مما عانوا من أدب، فكان أول ما طلبوا مجفوات كتب الأدب القديم، ~~واستخرجوا دواوين الفحول من متقدمي الشعراء، وجعلوا يتروون ~~هذا الأدب الجزل ويروونه تلاميذهم بالدرس والمحاضرة، وبمجلة «روضة ~~المدارس» التي كانت مجالا لأبرع الأقلام في ذلك العهد، فاستقامت الملكات، ~~وصفت الطبائع، ورهفت الأذواق، وجرت فصح العربية ناصحة على بعض ~~الأقلام من أمثال المرحومين إبراهيم المويلحي وإبراهيم اللقاني من الكتاب، ~~وعبد الله فكري ومحمود سامي البارودي من الشعراء. # إذن لقد جاد الشعر وجاد النثر، أو لقد جادا على ألسن نفر من الشعراء ومن ~~الكتاب، وأشرقت ديباجة البيان، وجرى ماء العربية صفوا، على أن النظم ~~والنثر وإن اشتركا في هذا المعنى، فإن النثر كان أوسع في فنون البيان ~~تصرفا، كما كان أسبق إلى الإصابة من المعاني التي يقتضيها عيش ~~الحضارة الحديث. # مذاهب الأدب واتجاهاته # ولقد اطردت هذه النهضة البيانية في مصر؛ ولكنها لم تجر كلها ~~في مذهب واحد، ولم تجتمع على الاتجاه في سمت معين، بل لقد كان ~~شأنها شأن القنبلة تنفجر فتتطاير شظاياها إلى اليمين وإلى ~~الشمال وإلى وراء وإلى قدام! فخلق من أدبائنا لم يسلموا قط بأن ~~الأدب شيء يعدو شعر امرئ القيس ms017، وعيش امرئ القيس فإن هم تطاولوا ~~إلى الفرزدق وجرير فمن بعض التطول والإحسان: المركب: الناقة، والمأكل: سنام ~~البعير «كهداب الدمقس المفتل»، والمورد: النبع أو القليب، والأرض: ~~الموماة، والمنزل: الخيش أو الشعر، وملتقى الأحبة: سقط اللوى، أما ~~اللفظ فالمنتقى المنتخل من كل ما ند عن الطباع، ونشز على ~~الأسماع! # موقف أبناء الثقافة الغربية منه # وقام بإزاء هؤلاء جماعة من شباننا قد استهلكهم الأدب الغربي، فلا يرون ~~أدبا إلا ما قال شكسبير وبيرون وأضرابهما، وأدوا إلينا طريفا من هذا ~~النظم في لغة ليس منها عربي إلا مفردات الألفاظ، ألفاظ يكاد المرء يشهد ما ~~بينها وبين ما قسرت عليه من المعاني من التصافع بالأيدي والتراكل بالأرجل، ~~ولولا ما يرتبطها من مثل قيد الحديد لطار كل منها إلى عشه، فخرج ~~لنا من ألوان التعابير ما لا يرضي الذوق الشرقي، ولا يستريح إليه الطبع ~~العربي! # وجعل كذلك جماعة ممن تعلموا في بلاد الغرب، بنوع خاص، يعالجون في ~~العربية إصابة المعاني الطريفة التي لامسها حسهم، وهدتهم إليها ~~أسباب تفكيرهم، فعجزت اللغة، أو عجز على الصحيح علمهم باللغة عن حق ~~أدائها، فخرج لهم الكلام إما غامضا مبهما، وإما عاميا أو ما يدنو من ~~العامي. # وبقي كتاب وبقي شعراء على ما تحدر إليهم عن آبائهم من صور الأدب: ~~ضيق في الأغراض، وإسفاف في المعاني، وفسولة في الألفاظ! # وارتصد لهؤلاء أولئك أعناق من النقدة، خلص بعضهم لوجه اللغة، ~~وبعضهم تجرد في الطريف، وإن شئنا قلنا في الغريب من المعاني، أولئك ~~لا يرون في شوقي ولا في حافظ شاعرا، ولا في المويلحي ولا في الشيخ علي ~~يوسف كاتبا! وكيف ذلك؟ ذلك بأنه قال: أثر عليه، إذ الصواب: أثر فيه، ~~وقال: غير مرة، والصواب: أكثر من مرة! وهؤلاء لا يؤمنون بشاعرية البارودي لأنه ~~لم يقع في كل شعره على الشفق الباكي، ولم يتحدث قط عن الموت ~~اللازوردي! # على أنه من الإنصاف أن نقرر أن النقد كان له أثره في تقويم الألسن ~~وتحري الفصيح من جهة، ثم كان له أثره الحي بعد ms018 لأي، في الاحتفال للمعاني ~~وتعمد الإصابة من جهة أخرى. # تعريف الأدب اليوم # سيداتي، سادتي # كذلك كانت حالنا من ثلاثين سنة خلت، بعضنا يريد أن يرضي العقل المحض، ~~وبعضنا لا يتجرد إلا في إرضاء اللفظ المحض، وبعضنا خلبته آداب ~~الغرب، وفتنته تشبيهات شعرائه وكتابه، فهو يتصيدها واقعة حيث ~~وقعت من ذوق الشرق ومن لغة العرب! # كنا إذن من أمر الأدب في بلبلة أو في شبه بلبلة، وما لنا لا ~~نكون كذلك ونحن حق مختلفين على ماهية الأدب، مختلفين على ما ينبغي أن ~~يؤديه الأدب ؟ # ولكن الأستاذ الأعظم، وأعني به الزمن، قد أنشأ يلقي علينا من دروسه البليغة ~~ما يقصر كل يوم من مدى الفرقة، ويوثق من أسباب الألفة، حتى ~~اتفقنا، أو بتنا على شرف من الاتفاق على أن الأدب إنما هو أولا ~~الأداة الجميلة لمواتاة مطالب العقل والحس والعاطفة جميعا، وتأدية كل شعورنا ~~بما نلمس من أسباب الحضارة القائمة؛ على أن يترجم عن هذا كله لسان عربي ~~ناصح، لا وحشة فيه ولا استعجام. # ولا شك في أن مظهر هذا الخير أجمعه هو الصحافة، فللصحافة بهذا الفضل ~~ندين. # كنوز الأدب القديم # ومن الواقع الذي لا تلحقه الريب أن العربية القديمة زاخرة بكنوز ~~البلاغة في جميع ألوان المعاني: فلقد مثلت فأبدعت في التمثيل، ~~وصورت فأوفت على الغاية من دقة التصوير، ولكم ترجمت عن ~~أعمق ما تدسى في النفس، وعبرت عن أشف ما يترقرق به الحس، ~~ولكن لا تنسوا أنه ليس من العدل أن نجشم هذه اللغة أن ترتصد - ~~بظهر الغيب - لإصابة كل ما عسى أن يجد من الأسباب بعد ألف عام! # إنشاء أدب قومي # إذن لقد أصبح مهمنا الأعظم اليوم هو استثمار تلكم الثروة الواسعة في ~~تجلية شعورنا، والترجمة عن عواطفنا، والتعبير عن كل ما يلامس حسنا نحن فيما ~~جل ودق من أسباب هذه الحياة، وبهذا نصل ماضينا بحاضرنا، وبهذا ندرك ~~ما ينبغي لنا، لا من أدب عربي فحسب، بل من أدب قومي يطلق عليه التاريخ: أدب ~~مصر، وهذا هو الجهد الجبار الذي ms019 يعانيه رجالات الأدب في مصر اليوم، وكثير منهم ~~ماثلون في هذا المجلس الكريم. # ولكي أكون متسقا مع نفسي أقرر أننا لا نحاول أن نخلق لنا أدبا ~~مصنوعا؛ بل إننا نتقرى هذا الأدب الذي يواتي عقليتنا، ويشاكل إحساسنا، ~~ويرضي أذواقنا في هذا العصر الذي نعيش فيه، فنحن بهذا إنما نروض الأدب على ~~حكم الطبع، ولا نروض الطبع على حكم الآداب! # التجديد، ما هو؟ # ولست أختم هذا الكلام دون أن ألم بمسألة كانت في هذه الأثناء، ولعلها ما ~~برحت، من شغل الأدباء، وهي مسألة «التجديد ». # هنالك معركة مستحرة بين التجديد وأنصاره، وبين القديم وأوليائه، وأرجو أن ~~تصدقوني إذا ادعيت بين أيديكم أنني إلى هذه الساعة لم أتبين وجه ~~الخلاف الحق بين المتناضلين، على أنني أرجو أن نتفق في القريب على أن الأدب ~~أيضا كائن حي يجب أن يشب وينمو ويتطاول إلى ما قدر له من كمال، على ~~ألا تتنكر صورته، ولا يخرج عن شخصه. # مستقبل الأدب # سيداتي، سادتي # قدمت لكم أننا أبناء العرب قد تعارفنا بعد تناكر، ~~وتلاقينا بعد تهاجر، واجتمعنا بعد فرقة، وتآلفنا بعد طول وحشة، ~~على أننا لم نقنع بهذا، فلقد كان لاستيثاق الصلات بيننا وبين الغرب أثره ~~في شدة إقبالنا على أدبه وتروينا منه، وطبع كل ما يسوغ طبعه على غرار ~~أدبنا حتى ليمكن لهذا العصر أن يسجل ما أصبنا سواء في وسائل النقد ~~أو في طرائق التفكير، وإن تعاون رجال العلم في بلادنا اليوم مع إخوانهم من ~~الغربيين لعلى هذا من بعض الدليل. # وإنني لأرجو، بفضل أدبائنا العظام وقوة جهودهم، أن يفسح الأدب العربي ~~لنفسه المكان الكريم بين سائر الآداب العالية، لا ليدل على نفسه فحسب، بل ~~ليساهم، بحظ كبير في حركة الفكر، وفي تنعيم الذوق الإنساني في العالم ~~المتحضر كله. # | حيرة الأدب المصري!1 # قبل أن أخوض في هذا الحديث الذي يستشرف له القلم اليوم أقرر، ولعلي ~~أفعل للمرة العاشرة، أنني بالذات - على كثر ما قرأت للمتقدمين والمحدثين - لم ~~أقع للأدب على تعريف جامع مانع، على تعبير أصحاب ms020 المنطق، ولا أدري إن كان ~~الفرنج قد عرفوا الأدب على هذا أم لم يعرفوه؟ فإذا تحدثت عن الأدب، ~~فإنني إنما أتحدث عن الأدب الذي ألمحه، وهو الذي خرج في لسان العرب. # وكيفما كان الأمر، فإنني بالذات لم أقع - كما قلت - على تعريف يجمع حدود ~~الأدب، ويدفع عنه ما ليس منه ... ولقد أهبت مرارا بأعلام البيان وأئمة ~~المتأدبين أن يعرفوا لنا الأدب أو يدلونا على مواضع التعريفات الصحيحة له، ~~فأمسكوا ولم تتدل أقلامهم بجواب! # وعلى كل حال، فإن الأدب إذا لم يضبطه تعريف جامع مانع، فإن موضوعه واضح في ~~مظاهره، وفي الغايات التي يطلبها ويتطاول إليها، فما من أحد إلا يرى أن ~~أبلغ مظاهر الأدب في نفض الأحساس الكامنة، والعواطف الجائشة، وتصوير ما يعتلج ~~في أطواء النفس من ألوان الانفعالات بعبارات موسيقية تتدسس إلى نفس السامع ~~فتثير منها كل ما يثور في نفس الشاعر أو الكاتب، ولا شك عندي في أن هذا ~~أبلغ مظاهر الأدب وأجل غاياته. # وأخرج من هذا إلى أن الطبيعة البشرية وإن كانت، على وجه عام، واحدة في ~~الناس، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، إلا أن لكل أناس على ظهر الأرض أخلاقهم ~~وصفاتهم، وأسلوب تفكيرهم، وتصورهم للأشياء، وتقديرهم لها، ثم أذواقهم، وألوان ~~عواطفهم وما يثيرها من فنون العوامل. # ذلك بأن لكل قوم أصلهم وتاريخهم، ورقعة بلادهم، ومناظر أرضهم وسمائهم، وما ~~درجوا عليه من أخلاق مطبوعة، وعادات موروثة، وأحداث مأثورة وغير ذلك مما يطبع ~~كل أمة على غرار خاص، ويجليها في شخصية تغاير ما عداها من شخصيات الأمم ~~الأخرى، وما من فكرة تتحرك في العقل، أو عاطفة تعتلج في النفس، أو خيال ~~يحلق في الذهن، إلا وهو مستمد من حقيقة واقعة أدركها الإنسان بإحدى ~~حواسه الخمس، أما أن يختلق الذهن ما لا يتكئ على حقيقة واقعة، فذلك ~~ضرب من المستحيل، وإذا بهرك أن الخيال قد يخلق من الصور ما لم تقع عليه ~~عين أو تتصل به أذن، فاعلم أنه ملفق لا أكثر ولا أقل: ملفق كل ~~ما يجلو من الصور ms021 من أجزاء يرجع كل منها إلى حقيقة يقع عليها الحس. # وبعد، فإنما نحن في تفكيرنا وتصورنا وما يحوك في أنفسنا من ألوان العواطف، ~~وما تتعلق به أذهاننا من فنون الأخيلة، إنما نترجم عن تاريخنا، وعاداتنا، ~~وبيئتنا، ومناظر بلادنا، وغير أولئك من العناصر التي طبعتنا أمة واحدة، هذا ~~هو الشأن الذي ينبغي أن يكون لكل أمة، وعلى هذا ينبغي أن يكون الأدب في كل ~~أمة. # وإنك - على تقارب اللغات الغربية وتكافئ أصحابها في المدنية، وتوافي ~~بعضها لبعض في أسباب الحضارة - إنك مع هذا لتسمع بالأدب الفرنسي، والأدب ~~الإنجليزي، والأدب الألماني، والأدب الروسي، وغير ذلك، كما تسمع بالأدب العربي: ~~ذلك بأن العلوم والصناعات وما إليها، أمور يمكن أن تتقارضها الأمم، أما ~~الأذواق وخلجات النفوس ونزوات العواطف، فمما لا يقع عليه التقارض والإعارة، ~~وإن جاز لأمة تقلد أخرى وتحذو حذوها في طريقة الأداء وأساليب الاستقراء ~~والتحليل، وليس معنى ذلك تحويل الأذواق أو تلوين العواطف! ~~••• # نعود بعد كل ذلك إلى أدبنا - نحن المصريين - ونقبل على أنفسنا بهذا السؤال: هل ~~ما نتحرك فيه من الأدب اليوم يؤدي حقا مطالب الأدب التي سلف عليها ~~الكلام؟ وبعبارة أخرى: هل الأدب الذي نعالجه اليوم مؤد حق الأداء لما ~~يعتلج في نفوسنا من العواطف، وما يجيش فيها من فنون الإحساس؟ أو بعبارة ~~ثالثة: هل نحن نترجم اليوم بهذا الأدب عما ينبغي أن يمليه علينا تاريخنا ~~وطبيعتنا، وأخلاقنا، وعاداتنا، ومناظر بلادنا، وما جاز بنا من أحداث؟ وعلى الجملة: ~~هل نترجم حقا عما تقتضينا جميع أسبابنا في الحياة؟ # لا شك في أن أول ما يخطر على القلب في سبيل الإجابة عن هذا السؤال، أو هذه ~~الأسئلة، هو استعراض مظاهر الأدب القائم اليوم، وتقري صوره وألوانه، ~~وتحري مطالبه وغاياته، لنعرف أين يقع من مطالب الأدب التي تقدم فيها ~~القول! # والواقع أنه مهما تختلف لهجات المتعاصرين من الأدباء في أية أمة من الأمم، ~~وتتغاير أساليبهم في فنون البيان: شعرا كان أو نثرا، فإنك - ولا ريب - واجد ~~لمجموعهم طابعا خاصا يدل على عصرهم، ويميزهم ms022 عن غيرهم، بحيث يتهيأ ~~للناقد الخبير أن يستدل من نفس البيان على العصر الذي انتضح فيه دون أن ~~يرفد بأية إشارة إليه، ولكنك، مع هذا، لا تستطيع أن تجد اليوم هذا الطابع ~~للأدب في مصر، وتستطيع أن تزعم مثل هذا عن الأدب في الشام، ونقصر الكلام على الأدب ~~المصري ففيه سقنا الحديث. # عندنا شعراء عظام، وكذلك عندنا كتاب عظام، على أنك حين تبلو آثارهم، وتقلب ~~النظر في ألوان بلاغاتهم، لا تصدق - لولا أنك تعيش فيهم - أنه يجمعهم عصر ~~واحد في أمة واحدة! وليس هذا التبلبل مقصورا على أساليب البيان ونسج الكلام ~~والملاءمة بين الألفاظ، بل ليتعدى هذا إلى الأغراض والمطالب، وطريقة نفض ~~العواطف الباطنة، وبزل النزوات الكامنة. # هذا شاعر فحل لا يرى الشعر يجود، بل لا يرى فيه شعرا ألبتة إلا إذا خرج في ~~كلام جزل، وتحرى الإتيان فيه بغريب اللفظ وشامسه، # 2 # وحسبه من المطالب ~~الوقوف بالديار، والبكاء على النؤي والأحجار، والتشبيب بهند ودعد، والهتاف ~~برضوى وسلع، وطلع بك على مضارب القباب، وما أجنت من عاتكة والرباب، ~~ووصف لك النياق وما صنع بها الوجيف في الموامي حتى أتت أنقاضا على ~~أنقاض! # وهذا شاعر لا يرى الشعر إلا أن يكون الكلام جزلا سهلا، متين الرصف، متلاحم ~~الأجزاء، مشرق الديباجة، واقعة أغراضه ومعانيه بعد ذلك حيث وقعت! # وهذا شاعر يعتصر ذهنه، ويكد عصبه، في تصيد معنى جديد، والوقوع على ~~تشبيه طريف ... إلخ. # وهذا كاتب أجل همه تجويد العبارة وصقلها، وتلقط ما جالت به أقلام ~~السابقين من الألفاظ المشرقة والجمل النيرة لا يسوقها إلى معان قائمة في ~~نفسه، وإنما يسوقها لنفسها، ولو استكره المعاني عليها استكراها! # وهذا أديب لا يراك حقيقا بالبقاء في هذا العالم إذا زل بك القلم فقلت: ~~«أثر عليه» ولم تقل: «أثر فيه» أو قلت: «الشماعة» ولم تقل: ~~«المشجب» أو قلت: «غير مرة» ولم تقل: «أكثر من مرة» إلخ إلخ - ~~لا يراك كفؤا للحياة بله حمل القلم، ولو لم يتعلق بغبارك في العلم ~~والأدب والبيان أحد! # وهؤلاء كتاب وجلهم من ms023 ساداتنا أصحاب التجديد، لا يعجبهم كاتب عربي، ولا ~~فكر شرقي، ولا شيء مما يتصل بأسبابنا باعتبارنا مصريي البيئة، عربيي اللغة، ~~ذلك بأنهم قرأوا شكسبير، وبيرون، وماكولي، ودنتي، وفلانا وفلانا من تلك الأسماء ~~التي تسكبها أقلامهم في آذاننا كل يوم، ولقد يطلعون علينا بألوان من البيان لا ~~ندركها لأنها لا تتصل منا بسبب، ولقد يريدوننا على اتخاذ نماذج لألوان من ~~البيان لا نفهمها ولا نستطيع فهمها ولا تذوقها، فضلا عن أن نصنعها ~~ونجودها، لأن طبيعتنا غير طبيعة أصحابها، وبيئتنا غير بيئتهم ولساننا غير ~~لسانهم ، وكل شيء فينا مغاير لكل شيء فيهم! # وعلى الجملة، فإنك لو تصفحت هذا الأدب المصري القائم، لرأيته موزعا ~~بين حياة في الجزيرة لعصر الجاهلية وصدر الإسلام، وبين حياة في بغداد أو الأندلس، ~~فيما يلي ذلك العصر، وبين حياة في لندن أو برلين أو باريس أو روما أو موسكو، ولكن ~~أين هذا الأديب الذي يعيش في مصر ويصور عواطفه المصرية التي يلهمها ما ~~ينبغي أن يلهم المصري من عواطف وإحساس؟ # الواقع أن الأدب المصري من هذا في أشد الحيرة والاضطراب، على أنه لا ينبغي لنا أن ~~نبتئس بهذا ولا أن يشتد ضيقنا به، فإن من الواقع المحسوس أيضا أن أساليب أصحاب ~~البيان جعلت تتقارب رويدا رويدا، كما جعلت منازع تفكيرهم تتصل ~~شيئا فشيئا، ولا شك في أن الفضل في هذا يرجع إلى قوة انتشار الثقافة العامة ~~وتعاظم وسائلها في هذه السنين. # | كفاح اللغة العربية في سبيل الحياة والنهوض1 # لقد أدال القدر من الدولة العربية، فكان أول ما دهيت به من جلى ~~الأحداث سقوط بغداد في أيدي التتار، ثم طرد العرب من الأندلس، وتشريد من ~~سلم منهم على التقتيل والإحراق، ثم استيلاء الدولة التركية شيئا فشيئا على ~~البلاد التي تتكلم العربية في الشرق والغرب جميعا، خلا مراكش في المغرب الأقصى، ~~وما لا خطر له في هذا الباب إذا كان قد سلم من الفتح التركي بعد ذلك شيء من ~~البلاد. # لست الآن بسبيل سرد الأحداث التاريخية التي صبها القدر على ms024 الأقطار العربية ~~والمستعربة، ولا بسبيل طرد تلك الأحداث وتسلسلها، والكشف عن أسبابها ~~وبواعثها، وإنما الذي يعنيني تقريره في هذا المقام أن العربية، بزوال سلطان ~~العرب في كل مكان، لم يبق لها معقل تلوذ به، ولا مدد تسترفده، ~~بل لم يبق لها مجال في مذاهب الحياة، فإن الترك الحاكمين كانوا يفرضون ~~لغتهم فرضا في جميع الأسباب الحكومية، كما كانوا هم وعمالهم لا يتحدثون ~~إلى الأهلين إلا بالتركية، فأصبحت هذه لغة الخاصة أولا كما شاع كثير من ~~صيغها وبخاصة في الشئون الدائرة على ألسنة العامة أيضا ، فشوهت العربية بهذا ~~الخلاط تشويها شديدا. # ولو اقتصر الخطب على حديث الحاكمين وعمالهم لما أعيا على أبناء ~~العربية أثره، ولكن حكم القوم إنما كان قائما على استخراج الأموال للساعة من ~~أي سبيل، واقعا ذلك حيث وقع من أسباب التعمير والتثمير والتحضير، فكان ذلك ~~بالضرورة مدعاة إلى جثوم التجارة وتقلص الصناعة، بل إلى فرار جماعات ~~الزارعين من زراعة أرضيهم، وما لهم لا يفرون بل ما لهم لا يخلعون ~~ملكية الأرض عنهم إذ هي قد أصبحت لا تغل مع الجهد إلا قليلا بالقياس ~~إلى ألوان الجبايات تقتضى عليها اليوم بعد اليوم والساعة بعد الساعة، فإذا ~~عجزوا عن الوفاء وهم لا بد عاجزون، ففي السوط (الكرباج) فضل للإبراء! # أظن أنك بعد هذا في غير حاجة إلى من يقيم لك الدليل من مراجع التاريخ على ~~أن المدارس قد عطلت، وأن دور العلم قد عفيت، وأن الناس قد ارتدوا ~~إلى جهالة عمياء، وانكسروا في وسائل الحياة جميعا على طلب ما يقيم الأود، ~~ويستر الجسد، فإذا بقي بعد ذلك فضل من الجهد، فهو حبس على التحرف عن ~~مواقع سطوة الظالمين! وبحسبي أن أقول لك: إن السلطان سليما لما فتح ~~مصر جمع كل الحذاق في فنون الصناعات المختلفة وحملهم إلى الآستانة ~~ليبنوا له هناك ويعمروا وينجدوا ويزخرفوا، وبهذا قضى على جميع ~~الصناعات البارعة في مصر القضاء الحاسم! # وبعد، فإذا صارت أمة إلى ما صارت إليه مصر بالفتح التركي - قفر ~~وفقر وظلم تغشاه ظلمات ms025، فلا علم ولا فن ولا تجارة ولا صناعة، ولا ~~أي مظهر من مظاهر الحضارة - ففيم تجري اللغة، وماذا عسى أن تتناول من ~~الأغراض، وعم تترجم من ألوان المعاني؟ اللهم إنه لم يبق بين يديها ~~إلا ما يغني في أدائه أخس العامية ولو شاهت بخلاط هذه التركية! # العربية تنبعث للعلم # لقد ركدت اللغة العربية في مصر إذن وجف عودها، وجعلت تتقلص ~~يوما بعد يوم إلى الغزو الفرنسي، وإلى قيام محمد علي، حتى خيل إلى ~~مترسم التاريخ أنها ماتت موتا لا بعث لها منه إلى غاية الزمان! # ولا يتعاظمنك أنه كان يقوم في مصر في تلك الأيام «أدب» وأنه كان يقوم ~~فيها «أدباء» فلقد كان فضالة الثمرة الجافة، وأثارة البقلة الذابلة، ~~وناهيك بأدب كل همه إلى التحرف لإصابة نكتة بديعية، إذا لم تغن في ~~إسلاسها الحيلة جرت جرا، واستكرهت استكراها، أما دقاق المعاني ~~وأما كرائم الأغراض فمما لا تستحق عند الكاتبين ولا الشاعرين جليلا ~~من الاحتفال والتشمير! # كان هناك نفر يقرضون الشعر، ويزخرفون المرسل من القول، وقد ~~يقع الجيد في بعض ما ينظمون وفي بعض ما ينثرون، ولكنه لا يصدر ~~عن طبع، وإنما تجيء به المصادفة، أو تأتي به مشاكلة المحفوظ عن متقدمي ~~البلغاء! # وكيفما كان الأمر، فإن هؤلاء الأشتات من «الأدباء» كان أدبهم وما ~~تسلك أقلامهم من فصح العربية في شبه منقطع عن سائر الناس، ~~عالمهم وجاهلهم في هذا بمنزلة سواء، وعلى الجملة لم يكن ذلك «الأدب» ولا ~~ما يجري فيه من صحاح العربية بمترجم، ولو بطريق التكلف والاستعارة، إلا عن ~~أولئك النفر الأقلين، أما الجمهرة فليست من ذاك وليس ذاك منها في كثير ولا ~~قليل، فإذا زعمنا أن لغة المصريين في ذلك الزمان كانت العربية، فإننا ~~نمضي هذا على ترخص بعيد! # ويستقر الأمر لمحمد علي، وتستمكن من ناصية الحكم يده، ~~ويتجه إلى تجييش جيش وافي العدة مدرب على النظام الحديث، فللرجل في ~~السلطان مرام بعيد، والجيش يحتاج إلى الأطباء، إذ ليس في البلد كله طب ~~ولا طبيب، فيقيم مدرسة للطب ms026 ويسوق إليها فيمن يسوق بعض المتقدمين من مجاوري ~~الأزهر، لا يعرفون كلمة إفرنجية واحدة، ويرميهم بمعلمين من حذاق الأطباء في ~~الغرب لا يعرفون كلمة عربية واحدة، فيقوم المترجمون بين الأساتيذ وتلاميذهم ~~ليؤدوا ما يلقي أولئك إلى هؤلاء. # بعث أولئك المترجمون العربية في عنف وغلطة، وما كان لهم من هذا محيص، ~~فهبت هبوب النائم المستغرق في حلمه وقد أزعجه عنه من الطوارق ما ~~يستطير اللب، فركب رأسه وجرى لا يلوي على شيء، ما يبالي أعثرت ~~رجله أم اصطدم بالجدار جبينه، وإن الذعر لأعصى من أن يدع لمثل ~~هذا فضلا من الفكر فيما يأخذ من عدة القتال وما يدع! # ولقد بان لك أن العربية لم تمت، ولو قد ماتت ما قدر لها بعث ~~أبدا، ولكنها إنما تقبضت وتقلصت وجثمت في أفحوصها دهرا ~~طويلا، لا تطالعها شمس، ولا يقرب إليها غذاء، ومع هذا لقد ظلت ~~مطوية على حيويتها، وهي لحسن الحظ حيوية قوية متينة، فإنها لم ~~تكد تحس حرارة الشمس وتصيب المتنفس في الجو العريض، حتى انتعشت وراحت ~~تطلب من وسائل الحياة ما يطلب سائر الأحياء! # فهذا رفاعة الأزهري يعود من فرنسا بعد المقام فيها مع إحدى البعثات بضع ~~سنين، وإنه ليقوم في جماعة من لداته وتلاميذه على «قلم الترجمة» وقد ~~راحوا يصبون ألوان الصيغ والمصطلحات في شتى العلوم والفنون، يتوسلون إلى ~~هذا بالبحث فيما أثر عن الأقدمين تارة بالاشتقاق، وأخرى بالتعريب، وأحيانا ~~بغير أولئك من وسائل الدلالات، واللغة تتئد في مماشاتهم مرة، ~~وتخف في التسيار مرة، على أنها في الحالين واتت - بقدر ما - ~~مطالب العلم الحديث، فحقق جهدهم فيها وجهدها معهم ما كاد يصله ~~الظن بجملة المستحيل! # ولقد جعلت اللغة أبلغ همها إلى العلم؛ لأن النهضة إنما كانت ~~تعتمد في جلى وسائلها على العلم، أما الأدب فقد فرضت له حظا ~~ضئيلا من يوم تقدم محمد علي بإخراج «الوقائع المصرية» وعهد بتحريرها ~~إلى العالم الشاعر الأديب الشيخ حسن العطار، رحمة الله عليه. # العربية تنقبض عن العلم وتتحرر للأدب # أمعنت العربية في ألوان العلوم ms027 والفنون، وخرجت فيها الكتب المؤلفة والمترجمة ~~في الطب والهندسة والرياضة والزراعة والمعادن وطبقات الأرض والفنون العسكرية ~~وغير ذلك مما جادت به القرائح في العالم الجديد إلى تلك الأيام. # ثم خبت هذه الجذوة، وسكنت بانتهاء ولاية محمد علي تلك الفورة، حتى قام ~~حكم إسماعيل، فانبعثت في عهده اللغة ثانيا، ولكنها لم تكسر أجل ~~همها هذه المرة على العلوم، بل لقد فرضت من جهدها صدرا عظيما ~~للآداب، فخرجت الصحف الدورية تتبارى على متونها سوابق الأقلام. # ويقوم في ذلك العهد العالم الكاتب الأديب المجدد حقا أعني به المرحوم ~~الشيخ حسن المرصفي فيلفت جمهرة الأدباء عن ذلك الأدب الضامر، ويوجه ~~أذهانهم وأذواقهم جميعا إلى الخالص المنتخل من أدب العرب في جاهليتهم ~~وفي إسلامهم، ويبعث لهم شعر أبي نواس وأبي تمام والبحتري وغيرهم من فحول ~~الشعراء، كما يدل على بيان ابن المقفع والجاحظ والصولي وأحمد بن يوسف ~~وأضرابهم من متقدمي الكتاب، فسرعان ما يصفو البيان ويحلو، وسرعان ما يجزل ~~القول ويعلو، وسرعان ما تنفرج آفاق الكلام وتتبسط أسلات الأقلام في كل ~~مقام، وناهيك بغرس يخرج من ثماره إبراهيم المويلحي في الكتاب ومحمود ~~سامي البارودي في الشعراء! # وفي أعقاب نهضة المرصفي يقبل العالمان الأديبان اللغويان الشيخ حمزة فتح ~~الله والشيخ إبراهيم اليازجي، فيكشفان عن مجفو العربية، ويستظهران من ~~أوضاعها وصيغها ما يدل على الكثير من الأسباب الدائرة، ويتعقبان ~~الأخطاء الشائعة، ويدلان على الصحيح الناصح من كلام العرب، فيأخذ ~~الكتاب والشعراء أنفسهم بالتحري في التماس الصحيح حذر النقد والتشهير، ~~وكذلك تصفو اللغة وتشرق ديباجتها، ولا شك في أن للصحف السيارة في هذا الباب ~~فضلا غير منكور. # وظلت لغة الآداب في رقيها واطرادها في سبيل كمالها إلى اليوم، أما ~~لغة العلم فلقد دهاها من السياسة ما دهى، فإن «دنلوب» ما كاد يقبض ~~على زمام التعليم في المعارف وينفرد بالسلطان فيها حتى جعل يحيل لغة ~~العلوم إلى الإنجليزية وتم له من هذا في المدارس الثانوية فما فوقها كل ما ~~أراد، ولو قد تهيأ له أن يدرس الطلاب قواعد العربية ms028 نفسها بالإنجليزية لما ~~أعوزه الإقدام! # وطالت هذه الحال، وخرجت كتب الدراسة في العلوم في الإنجليزية، ~~وتقلبت فيها ألسنة الطلاب في دور التعليم، وجعلت لغة العرب ~~تتقلص عن أداء الصيغ والمصطلحات في شتى العلوم والفنون، حتى تم ~~التناكر والقطيعة بينها وبين تلك أو أشرف على التمام. # إذن لقد كان بعض اللغة - أعني لغة الآداب - في تبسط وازدهار، إذ بعضها ~~وهو ما يتصل بالعلوم في تقلص وإقفار! # ويشاء القدر الحاني على لغة الكتاب أن يتولى المرحوم سعد زغلول باشا نظارة ~~المعارف، وهو من هو في وثاقة علمه بالعربية، ونفوذه إلى دقائق أسرارها، ~~وقوة يقينه بأنها زعيمة، لو قد مرنت بالعلاج، بأن تسع علم ~~الآخرين كما وسعت علم الأولين، فتقدم من فوره بدراسة العلوم، بكل ~~ما يتسع له الذرع، باللغة العربية، فشمر الأساتيذ لهذا، وأقبل ~~العالمون على رفد العربية بالعلوم المختلفة من كلتا الطريقتين: الترجمة ~~والتأليف، وخلفه على نظارة المعارف المرحوم أحمد حشمت باشا، وحذا حذوه ~~في حياطة هذه اللغة وحضانتها، وكان من توسعه في هذه الناحية أن أنشأ في ~~نظارة المعارف قلما للترجمة لينقل إلى العربية ما يتدارسه الطلاب في شتى ~~العلوم والفنون، وإذا كان هذا «القلم» لم يغن في هذا المطلب جليلا فلأنه ~~كان حق عسير، وألف لهذه الغاية أيضا لجنة دعاها «لجنة الاصطلاحات ~~العربية» وعقد رياستها له ودعا إلى عضويتها بعنق من المشهود لهم بسعة ~~العلم وجزالة الفضل، والتضلع في فقه العربية مع المشاركة في مختلف ~~العلوم. # العربية لغة علم وأدب # وبعد، فالحق أن اللغة العربية إذا كانت في هذا العصر الذي نعيش فيه قد ~~أزهرت وأشرقت وأضحت تواتي في يسر حاجة الآداب، فإنها ما برحت ~~تثقلها مطالب العلوم، بل لا غرو علي إذا زعمت أنها ما برحت تحس ~~العجز الشديد، فلقد ازدحمت مصطلحات العلوم في هذه الأربعين سنة الأخيرة، على ~~وجه خاص، ازدحاما هائلا مروعا بما أخرجت القرائح فيها من فنون ~~المخترعات والمستحدثات في مختلف وسائل الحياة، وإن إحساس أبناء العربية، ~~وبخاصة من يتولون منهم شأن التعليم والتأليف، بهذا ms029 العجز هو الذي كان ~~يبعث أعيان أصحاب العلم والبيان في مصر الفترة بعد الفترة على الدعوة إلى ~~تأليف المجامع اللغوية لعلاج لغتنا، ومدها بالوسائل المختلفة، حتى ~~تواتي حاجات العلوم والفنون، ولم يقدر لشيء منها النجاح، لأنها كانت ~~تعوزها بعض وسائل الحياة، ومن أهمها المال والسلطان. # وأخيرا أنشئ «مجمع اللغة العربية» وفوق أنه فرض صدرا عظيما من ~~جهده لاستظهار ألوان الصيغ والمصطلحات في شتى العلوم والفنون، فقد راح ~~يتبسط في قواعد العربية ما أسعدته على هذا التبسط مذاهب السلف ~~الأكرمين، إلانة للغة، وتيسيرا لما كان يتعاصى في هذا المطلب على جمهورة ~~المعلمين والمؤلفين، وقد قطع في هذا الشوط الخطا العراض، والأمل معقود ~~بأن هذا المجمع في ظل نظامه الجديد سيبلغ العربية منيتها إن شاء الله ~~في وقت غير طويل. # هذا كفاح العربية في مائة عام، وإن لغة ترزق هذا الصبر وهذا الجلد في ~~الكفاح، وهذه الجدات على كثرة دواعي البلى، لحقيقة في النهاية بالظفر ~~والعزة في الدنيا على طول الزمان. # | القصص في الأدب العربي1 # أخذ العرب عن اليونان فلسفتهم وحكمتهم، كما نقلوا عنهم إلى العربية علوما شتى ~~كالطب والنجوم وغيرها؛ ولكنهم لم يأخذوا عنهم فن القصص، وخاصة القصص التمثيلي ~~(الروايات المسرحية)، ولا أدري أكان ذلك يرجع إلى اعتبار ديني، وكراهة الشرع والطبع ~~العربي أيضا أن تسنح امرأة لجمهرة النظارة تمثل عاشقة أو معشوقة؟ أم يرجع ~~إلى أن العرب في مطلع حضارتهم كانوا ككل الأمم الناشئة، تعنى أول ما تعنى ~~بالضروريات، حتى إذا أصابت منها حظا محمودا لفتت بعض سعيها ~~للكماليات؟ # وهنا أرجو ألا تنسى أن العرب إنما عنوا بنقل فلسفة اليونان ومنطقهم إلى لغتهم ~~لغرض ديني، فقد وصلوهما بالعقائد، وأقاموا عليهما علم الكلام (التوحيد)، والدين ~~كما لا يذهب عنك من أخص الضروريات. # أم أن انصراف العرب عن ذلك الفن يرجع إلى أن الحياة الاجتماعية لم تكن قد ~~استقرت عندهم استقرارا يدعو الأذهان إلى التغلغل في تحليل حياة الفرد ~~والجماعة، والخروج بفكرة عامة تجلو على الجمهور رواية قصصية أو تمثيلية، أم أنه ms030 ~~يرجع إلى بعض هذه الأسباب دون بعض، أم يرجع إليها جميعا؟ ومهما يكن من شيء فذلك ~~الذي وقع والسلام. # على أن العرب كانوا إذا عالجوا القصة لم يعدوا إثبات شيء وقع، أو شيء يتخيلون ~~وقوعه، فكان حظهم في هذا الفن ضئيلا؛ لأن شيئا من ذلك لم يتعرض لتحليل ~~ناحية من حياة المجتمع، والخروج بفكرة عامة، هي في الواقع معقد القصة والغاية ~~من وضعها. # ولقد نزل القرآن الكريم فجاء بكثير من قصص الأمم الغابرة، وبين كيف فتنوا ~~وكيف ضلوا، وأتى على من بعث فيهم من المرسلين ، ومن آمنوا بهم ومن كفروا ~~برسالاتهم، وما أعد الله لأولئك وكيف صنع بهؤلاء. # والقرآن كتاب الله تعالى لا تخييل فيه ولا اختراع، ولا خلق لحوادث لم تقع، ~~ولا تجلية لأناسي لم يكونوا، تصويرا لفكرة، واستدراجا لفهم الجمهور بوسائل ~~التلفيق والتخييل، إنما هو القول الحق يروي به الكتاب العزيز ما وقع للسالفين ~~للعبرة والادكار. # ولقد بقيت القصة مقصورة، في الجملة، على الشعر، ولكن بالقدر الذي أسلفناه ~~عليك، حتى إذا كان عهد الدولة العباسية، التفت الناس للقصص، وترجم ابن ~~المقفع «كليلة ودمنة»، وترجم غيره كتاب «هزار أفسانه» ألف خرافة، وهو الذي ~~قالوا إنه أصل كتاب «ألف ليلة وليلة». # وعلى ذكر كتاب «ألف ليلة وليلة» أقول لك إن أبسط نظرة فيه تعرفك أنه لم ~~يكتب بقلم واحد، ولم يؤلف في زمان واحد، ولا في مكان واحد، فإنه قد يعلو ~~في أغراضه ومعانيه وعباراته علوا كبيرا في بعض المواضع، وإنه ليسف في ذلك ~~إلى غاية الإسفاف في مواضع أخر، وإنه ليحدثك حديث شاهد العيان عن بغداد في ~~أزهى أيامها، كما يحدثك حديث شاهد العيان عن القاهرة في أظلم عهودها إلخ، ~~كما أنك تجد هذا الكتاب في العربية غيره في التركية، وتجده في كلتيهما غيره ~~في الفارسية. # ولست هنا بصدد البحث في كتاب «ألف ليلة وليلة» وكيف نجم، وكيف تألف، ولعلي ~~إن تجردت في هذا البحث لا أبلغ منه مدى؛ وإنما هي كلمة اطرد بها ~~القلم، ومن حقنا أن نعود ms031 بعدها إلى ما نحن بسبيله. # ولقد أخرج الجاحظ كتاب «الحيوان»، بحث فيه طبائع الحيوانات وعاداتها، وعقد ~~المناظرات الكثيرة بين أصحابها، والجاحظ رجل واسع العلم، شديد التمكن من النفس، قوي ~~الحجة، يملك من ناصية البيان ما لا أحسب أن قد ملكه بعده كثير، فهو لا يزال ~~يمهد على لسان هذا الرأي، ويفلج بالحجة، ويبعث بالشاهد في عقب الشاهد، ~~ويضرب المثل بعد المثل، حتى يأخذ عليك مخانق الطرق، فلا تجد بعدها محيصا ~~من الإذعان والتسليم، ثم يبعث لك الطرف الآخر، فما يزال يدافع تلك الحجج، وينقض ~~ما قام بين يديك من الأدلة والشواهد، ثم ما يزال يبريها ويفريها حتى تستحيل ~~هباء يتفرق في الهواء، ثم يردك إلى مكانك الأول، ثم يعود بك إلى ~~الثاني، ويظل يرجحك بين الرأيين المختلفين بقوة حجته، وسلاطة بيانه، حتى ~~إذا قدر أنه دوخك وأرضى شهوته بإذلال ذهنك، رحمك فعدل بك إلى حديث ~~آخر! # ولقد عرض الجاحظ في كتاب «الحيوان» لمسائل من العلم ومن الحكمة، وحلل شيئا من ~~الطباع والأخلاق، بل لعله بالتكنية الغامضة والتورية البعيدة قد مس أشياء ~~تتصل بحياة المجتمع، ولكن لا تنس، مع هذا، أنه لا الجاحظ ولا ابن المقفع، ولا ~~من نحا نحوهما عرض لاصطناع القصة على النحو الذي كان يعرفه قدماء ~~اليونان ونعرفه نحن اليوم، وكل ما طلبوه من هذا فيما أخرجوا من الكتب لا ~~يعدو أن يكون حكما منثورة، وعظات جزئية لا ينتظمها سبب، ولا يجمع ~~بينها نسب «أما القصة بمعنى اختراع الأشخاص، وتمهيد المكان، وابتكار الحوادث، ~~وخلق الوقائع، ونفض الصفات على ممثليها، على أن يتجه كل ذلك إلى غاية واحدة، ~~ويدرج إلى غرض معين، فذلك ما لم يعن به العرب ولم يتوجهوا إليه». # ولكن لا ينبغي لنا أن نغفل، في هذا الباب، أمرا آخر له أثره وله خطره: ذلك أن ~~العرب، وخاصة في عصر الدولة العباسية، قد عنوا بلون من القصص، وهو الحكايات ~~القصيرة يضيفونها إلى بعض الناس لتشهيرهم والعبث بهم، أو لمجرد التفكيه والترفيه ~~بما يتندرون به عليهم، وهذه الأقاصيص ms032 وإن عرضت في بعض الأحيان لتحليل جانب من ~~نفس إنسانية، فإن ذلك لا يترامى إلى الغرض الذي تجتمع له القصة على ما كان يعرفه ~~لها قدماء اليونان ونعرفه لها نحن اليوم. # وعلى هذا كتاب «البخلاء» للجاحظ، ولا أظن أن الجاحظ كان صادقا في أكثر ما روى ~~عن بخلائه، ولعله إن صدق في أصل بعض فقد غلا فيه غلوا كبيرا! وعلى كل حال، ~~لقد كان الرجل في تصويره وتخييله، وتشبيهه وتمثيله، بارعا تام البراعة، رائعا ~~بالغ الروعة! # وهناك غير أحاديث «البخلاء» أحاديث فيها عجب وفتنة، ما أحسب أكثرها إلا قد ~~اخترعت اختراعا لا لشيء إلا للتشهير والعبث، أو لمجرد التفكيه وإدخال السرور ~~على نفوس الناس، ولعلي أوفق يوما إلى أن أعرض طائفة منها للقارئ ~~الكريم. # وعلى أي حال فإن أثر هذا اللون من القصص لا يجاوز التسلية والتفريج عن النفوس ~~بالإتيان بالعجيب يتعاظم الأحلام! # على هذا فهم العرب القصة، وعلى هذا اتخذوها، فنشأ القصاص تعد لهم الحلق ~~ليحدثوا الناس عن أبطال الحرب، وعن أبطال الجود، وعن أبطال الغرام وعن غير ~~أولئك من الأبطال، وتجمعت أحاديث «ألف ليلة وليلة»، وبرزت قصة «عنترة»، ~~ووضع كتاب «قصص الأنبياء»، وخرج كتاب «بدائع الزهور، في وقائع الدهور»، وكتاب ~~«سيف بن ذي يزن»، ثم استرسلت العامية في مصطفى منظومها ومنثورها في سيرة أبي ~~زيد الهلالي وأصحابه، واحتفلت الاحتفال كله لذكر وقائعهم ومغازيهم وفتوحهم، ~~وما يكون منهم، إذا استحر القتال، وتداعى الأبطال للنزال، فترى الواحد منهم ~~يقط الأعناق عشرين وثلاثين بضربة من السيف واحدة! ... إلخ. # ولا زال الشعراء - وليسامحنا شوقي وحافظ ومطران وإخوانهم في هذا التعبير فإنه ~~الشائع في السواد - ما زال هؤلاء الشعراء يتخذون لهم مجالس عالية في بعض المقاهي ~~البلدية ليقصوا على العامة سيرة أبي زيد وأصحابه في ترتيل وتنغم يوقعونه ~~في لباقة ولطف أداء على «رباباتهم»، ولأولئك العامة بهم ما شاء الله من افتتان، ~~ولهم ما شاء الله من التطريب على تلك الألحان! # على أن تأليف الحكايات في العربية وإجراءها مجرى الخيال لم ينقطع في ms033 زمن من ~~الأزمان، ولعل أبرز ما ظهر من ذلك أثناء هذه النهضة الحديثة كتاب «علم الدين» ~~للمرحوم علي مبارك باشا، و«حديث عيسى بن هشام» لمحمد بك المويلحي، و«حديث موسى بن ~~عصام» لأبيه إبراهيم بك، عليهما رحمة الله، وما قام على ترجمته المرحوم عثمان بك ~~جلال. # ومن أوائل من وضعوا القصة في مصر، بالمعنى المعروف، أحمد شوقي بك «النضيرة بنت ~~الضيزن»، وأحمد حافظ بك عوض «رواية اليتيم»، ولقد ترجم المترجمون مع هذا في هذا ~~العصر من قصص الغرب ما لا يحصى كثرة. # وأما القصص التمثيلي «الروايات المسرحية» فأول عهد العربية بها هذا العصر الحديث، ~~وقد بدأت بالترجمة من لغات الغرب، وأول من عالج هذا في الأمم العربية ~~إخواننا السوريون، لأنهم أول من عالج التمثيل المسرحي في أبناء العرب، وأول ما ~~شهدت مصر التمثيل المسرحي، وكان ذلك في عصر إسماعيل، شهدته من فرقهم ~~التي هبطت مصر في ذلك العهد واحدة بعد أخرى، على أن تخلفنا في هذا الباب ~~عنهم يرجع إلى أسباب لا محل لها لذكرها في هذا المقام. # وإذا كانت مادة التمثيل إلى هذا الوقت هي ما يترجم إلى العربية من لغات الغرب، ~~فإن كثيرا من أبناء العرب عالجوا بعد ذلك الوضع والتأليف، وكان من أسبقهم إلى ~~هذا الشيخ نجيب الحداد وإسماعيل بك عاصم. # ولقد كثر في هذا الوقت الذي نعيش فيه واضعو القصص التمثيلية؛ على أنها في جوهرها ~~وغاياتها ومغازيها وسائر أسبابها لم تبلغ مبلغ الروايات الغربية. # وأخيرا تقدم أمير الشعراء أحمد شوقي بك، فنظم روايتين «كيلوبترا وعنترة» # 2 # فأوفى الشعر فيهما على الغاية. # وكلتا القصتين تاريخية، إذا رمت إلى غرض فلا شأن لنا به، ولا دخل لعيشنا ~~الحاضر فيه! # وهنا ينبغي لنا ألا نغفل أن مؤلفي روايات الريحاني والكسار ومن ينحون ~~نحوهما في أسلوبهما التمثيلي يعرضون لنواح من الحياة المصرية، ولكن على ~~سبيل التهكم عليها والزراية بها، في أساليب رشيقة طلية، طلبا لإضحاك النظارة ~~والتسلية عنهم؛ فإذا كان لشيء منها مغزى بعد ذلك، فهو مغزى ضئيل لا يتسق ms034 ~~لما نخوض إليه من جسام المطالب، هذا إلى أنها كلها تفرغ في لغة عامية بحت، ~~فهي ليست من الأدب الذي نعنيه في كثير ولا قليل. # وبعد، أفلا يمكن أن يستشرف الأمل إلى أن يخرج فينا مؤلفون مسرحيون ~~يضارعون كتاب الغرب في سبك رواياتهم، وإمعانهم في التحليل بطريق التخييل ~~والتمثيل، وإصابة الأغراض البعيدة وتجليتها على النظارة بطريق التلويح لا ~~بالمواجهة والتصريح؟ فذلك الأشحذ للأذهان، وذلك الأبلغ موقعا من النفوس، بحيث ~~يكون موضوع هذه الروايات مصريا بحتا يصيب من عاداتنا، ويحلل جوانب من ~~حياتنا، ويهدينا في بعض أسبابنا السبيل. # ألا ليس ذلك على الله بعزيز! # | في الأدب بين القديم والجديد1 # لقد كان يتداخلني العجب كلما رأيت أن المتقدمين من أهل العلم والأدب ~~إجماع على تقديم شعراء الجاهلية عامة على الشعراء المولدين عامة، ولم يقع ~~لي فيما طالعته من كتب الأدب ونقد الشعر والموازنة بين الشعراء، مفاضلة بين ~~شاعرين أحدهما جاهلي والآخر مولد، إنما تعقد الموازنة بين شاعرين وقعا ~~في الجاهلية أو بين شاعرين نجما في الإسلام، ولقد يعود هذا إلى الإيمان ~~بأن من حق شعر العرب أن يرتفع عن أن يقايس بشعر غيرهم من ~~المولدين. # ولقد قرأت شعر امرئ القيس والنابغة والأعشى ومن إليهم من المتقدمين، وقرأت ~~شعر بشار وأبي نواس والبحتري ومن إليهم من المتأخرين، فأجد لهؤلاء من ~~نضارة الشعر، ونصاحة القول، وحلاوة التعبير، وسعة الخيال، ودقة الأداء، والتصرف ~~في فنون الكلام ما لا يشيع في كلام أولئك، وإنما تتلقطه في دواوينهم تلقطا، فكيف ~~لا يقوم في شريعة الأدباء أحد من أولئك بأحد من هؤلاء؟ # لقد تداخلني العجب من هذا حتى ظننت أني اهتديت إلى سببه وعلته: ذلك أن ~~القوم قدروا هذا الشعر صناعة عربية، منجمها طبائع العرب وما تجري به ~~سجاياهم، فإذا تقدم غيرهم لقرض الشعر فهو مقلد لهم ومتشبه بهم ~~ومحتذ لمثالهم، وهو لا يتوسل إليه بطبع، ولا يجري فيه على عرق، إنما هو ~~متكلف متصنع، وليس يكون للمقلد مهما يوف على الإتقان شأن المبتدع، ولا ~~للمتكلف مهما يعظم ms035 خطره شأو من ينضح بالفطرة، ويجود بالطبع. # ولقد جرى الشعراء المحدثون أنفسهم على هذا وسلموا به، فكان الشاعر يخرج في ~~صدر شبابه إلى البادية فيقيم الحول أو الأحوال ليحذق اللغة ويحفظ الغريب، ~~ويتروى أراجيز العرب وأشعارهم، ويتعرف أحوالهم وأخبارهم، ويلم بكل ~~أسبابهم وفنون تصورهم وتخييلهم، ويعنى العناية كلها بأسماء إبلهم وأوصافها وكيف ~~ينيخونها، وكيف يبعثونها، وكيف يضربون أكبادها، وكيف يسوسون أولادها، وكيف ~~يرعونها الأكلاء، وكيف يوردونها موارد الماء، وكيف يكون العلل والنهل، ~~وكيف يكون الخمس والسدس، وغير هذا مما تحتفل به أحاديثهم، وتسير به ~~أشعارهم، حتى إذا رجعوا إلى الحاضرة فقرضوا الشعر لمدح أو ذم أو هوى أو وصف أو ~~غير هذا من مطالب الكلام، ذكروا الإبل وكيف حدوها، وكيف قادوها بأشطانها، ~~وكيف أبركوها في أعطانها، وأطالوا في وصف مشيها بين وخد وخبب، ونزيد ~~ورسيم، وغير هذا من هيآتها وحركاتها وأوصافها مما تجده في صدور أشعارهم، وإنما ~~كان منهم هذا التكلف كله ليتشبهوا بالعرب وليحاكوا بأشعارهم ما استطاعوا شعر ~~العرب، إذ كان مقدرا أن البلاغة فنهم، وأن الشعر الأصيل ما قرضوا هم وما ~~نظموا، وهذا رؤبة وهذا العجاج الراجزان: لقد عاشا في دولة بني أمية وأدركا حضارة ~~دمشق، وأصابا كثيرا أو قليلا من مناعم تلك الحضارة، ومع هذا فإني أعوذ لي ولك ~~بالله تعالى من أراجيزهما، وحسبك أن تنشر بين يديك واحدة منها فتعرض كل كلمة ~~منها على معجمات اللغة، حتى إذا واتتك وتوافت لك بحل طلاسمها، وجلت ~~عليك مستغلق معانيها، رأيت ذلك البلاء كله «كما قال بعض شيوخنا» لم يعد ~~وصف أتانة أو بعر قعود، أو هملجة برذون، ولا يمكن ألا يكون رؤبة والعجاج قد ~~رأيا شيئا في دمشق حقيقا بالوصف، ولا يمكن ألا يكون حسهما قد وقع على معنى ~~يحرك القريض، ولكنهما قد شغفا بالتبريز، وظنا أن لن يتهيأ لهما ذلك إلا إذا ~~قالا وأسرفا، على طريقة العرب، وحبسا قولهما على أسباب عيش البادية وتصرف ~~أهلها وخيالهم. # وهذا أبو نواس، أفرأيت أحلى منه قولا، أو أبدع شعرا، أو ms036 أدق وصفا، أو أقدر ~~تصرفا في فنون الأغراض، أو أشد استمتاعا بكل وسائل الرفاهية في صميم دولة ~~بني العباس؟ أو إرفادا للأدب بوصف كل ما وقع للشاعر من جليل الأمر وحقيره؟ ~~ومستملحه ومقبوحه؟ حتى لقد كان الصدق في الفن والحرص على دقة الوصف يتدليان به ~~أحيانا إلى العامي المبتذل من القول والمسترخي الساقط من الكلام، حتى ~~يجلي عليك الصورة كلها وينفض على نفسك الحديث أجمعه، لم يلته بترك ~~هنة أو إشارة قد يفسدها أن تؤدى باللفظ الشريف، أفرأيت أن هذا كله إنما كان ~~يتكلف التبدي تكلفا ويصطنع الغريب اصطناعا حين يقول: # إليك ابن مستن البطاح رمت بنا # مقابلة بين الجديل وشدقم # مهارى إذا أشرعن بحر مفازة # كرعن جميعا في إناء مقسم # نفخن اللغام الجعد ثم ضربنه # على كل خيشوم نبيل المخطم # حدابير ما ينفك من حيث بركت # دم من أظل أو دم من مخدم # ويقول كذلك يصف ناقة له وتلعاب ذنبها: # ولقد تجوب بي الفلاة إذا # صام النهار وقالت العفر # شدنية رعت الحمى فأتت # ملء الحبال كأنها قصر # تثني على الحاذين ذا خصل # تعماله الشزران والخطر # أما إذا رفعته شامذة # فتقول رنق فوقها نسر # أما إذا وضعته عارضة # فتقول أرخي فوقها ستر # ولا تفوتنك قصيدته الطويلة السابغة التي مطلعها «وبلدة فيها زور» وما أحسب ~~أديبا في أي عصر من العصور الإسلامية قد تفهمها واستوضح معانيها بغير كد ~~ومطاولة وتقليب في معجمات اللغة وطول تنقيب! # وهذا هو أبو نواس الذي يقول ما لا أستطيع أن أحدثك به في صحيفة سيارة ضنا ~~بالأدب العام، والمتأدبون يقرأونه في مواطنه من تراجم أبي نواس ودواوين أشعاره، ~~وكله سهل لين يقع فيه كما حدثتك العامي والمبتذل والساقط من الكلام! # وإنما كان أبو نواس يجري في هذا على السجية المرسلة، فيصف الأشياء كما ينبغي أن ~~توصف، ويطلق القول كما يجب أن يطلق، وإنما كان في تلك يتطبع ~~ويتكلف ليشاكل العرب حرصا على معنى الشاعرية عند الناس، وليظفر برضى أمثال ~~أبي عبيدة من حفاظ لغة العرب، وليبعثهم ms037 على الاحتجاج بكلامه، وتلك المنزلة كانت ~~في الأدب تجدع دونها الأنوف وتقط الأعناق. # ولست تجد دليلا أبين ولا حجة أوضح على أن أبا نواس كان في ذلك الشعر ~~البدوي متكلفا متصنعا لا يترجم عن شيء يجده هو، من قوله نفسه يتهزأ بمن ~~يذهب هذا المذهب من الشعراء، ويبالغ في السخرية منهم: # قل لمن يبكي على رسم درس # واقفا ما ضر لو كان جلس؟! # تصف الربع ومن كان به # مثل سلمى ولبينى وخنس # اترك الربع وسلمى جانبا # واصطبح كرخية مثل القبس # وله في هذا الباب شيء كثير . # وبعد فإن الحياة متحركة غير جامدة، والشعر لا يعدو أن يكون وصفا لأمر واقع، أو ~~خيالا ملفقا من أمر واقع، أو إحساسا يستمد كل أسبابه من الأمر الواقع، ~~فلم يكن في طوق الشعر أن يعشى عن كل هذه الحضارة الواسعة التي تبسطت فيها ~~دولتا بني أمية وبني العباس، وأن يظل حبسا على ما جال فيه شعراء الجاهلية، ~~على ما أسلفته عليك، بل لقد مشى الشعر طلقا مع الحياة، فتناول كل ما أخرجته ~~الحضارة، فافتن في وصف القصور ورياشها وآنيتها، وجواري البحر ووصف هواديها ~~وقوادمها، وأزهار الروض وأنواره، ولكم جال في وصف الخمر والطرد، وقال حتى قال ~~في العلم نفسه، وتناول من ألوان المعاني والترجمة عن فنون الأحساس ما جاشت به كل ~~تلك الأسباب. # الواقع أن حياة الدولة العربية تطورت فتطورت معها لغتها وأدبها وشعرها أيضا، ولم ~~يكن إلى غير هذا من سبيل، إلا أنها على عظم هذا التطور لم تتنكر لهجاتها ولا ~~نشزت عليها أساليبها، بل ظلت على الدهر عربية لها كل مشخصات لغة العرب ~~ومميزات حياتها، وكان شأنها في هذا شأن جميع الكائنات الحية، تزيد بما يدخل ~~عليها من جديد، وتنقص بما يخرج عنها من قديم، إلا أنها تظل بكلها هي هي، لأن ~~هيكلها وصفتها العامة ومقومات حياتها الخاصة ما زالت هي هي. # ولقد خرجت الدولة العربية من بداوة مطلقة إلى حضارة مطلقة، وتبدلت في كل ~~شيء عيشا بعيش، فدارجتها لغتها البدوية، وواتت ms038 حضارتها العريضة بكل مطالبها ~~في غير رجة ولا مطاولة ولا عنف، والفضل في ذلك يرجع إلى قوة اللغة وسعتها، وإلى ~~حرص أصحاب اللسان وشعرائهم، على وجه خاص، على أن يشاكلوا العرب في منطقهم ~~ولهجاتهم ومنازع كلامهم، وإذا قلت العربية فلست أعني مفرداتها فحسب، فلقد تقرأ ~~الكلام لا يقع فيه إلا عربي صحيح، وهو مع هذا ليس من العربية في كثير ولا قليل، ~~وإنما أعني فيما أعني الأسلوب وطريقة تأليف الكلام، وسنعرض لهذا المعنى ~~في كلامنا عن الجديد إن شاء الله. # ولقد ظل الشعراء دهرا طويلا، على تقلبهم في فنون الحضارة، وافتنانهم في ذكر ~~أسبابها، ووصفهم لمناعمها، وهتافهم بما جل ودق من مستحدثاتها، يجولون بالشعر ~~أيضا مجال أهل البادية في أسلوب عيشهم وسائر أسبابهم، ولقد يكون هذا ضربا من ~~التكلف كما ذكرت لك، ولكن الذي لم يدخله التكلف ولم تلحقه الصنعة أن ~~هؤلاء الشعراء من المحدثين إنما كانوا يتصورون، بوجه عام، كما كان يتصور ~~العرب، ويذوقون مذاقهم، وينزعون في مذاهب النظر والحس منازعهم، وليس هذا بعجيب ~~لأنهم أبناؤهم ومواليهم، وأبناء جيرتهم، الناشئون في دولتهم، ولهذا ترى أن الذوق ~~الشعري العام واحد في العهدين؛ وإن اختلف فيهما بالصنعة وإرسال الطبع، وبخشونة عيش ~~البداوة وضيق مجاله، واتساع حياة الحضارة ولين أسبابها. # ولقد جاء المتنبي، والمتنبي من أفحل من حذقوا لغة العرب وحصلوا غريبها، وممن ~~خرجوا إلى البادية ليتعلموا لغة الأعراب ومنازع بلاغاتهم وطرق عيشهم، فهو من هذه ~~الناحية غير متهم، لقد طالما أخذ إخذهم وجرى على سنتهم، ولكن للرجل ~~عقلا عبقريا قد يسمو به عن هذا الأفق ويحلق به فوق هذا المستوى، فيدرك ~~أشياء على غير ما أدركوا، ويتصور أشياء على غير ما تصوروا فينحط بها إلى ~~الشعر. # ولقد يشعر بعقله لا بوجدانه، فيجري كلامه على منطق الفلسفة لا على منطق الشعر، ~~ولقد يجازف في إصابة المعنى الذي ارتصد له بأحكام البلاغة؛ بل لقد ينشز على ~~قوانين اللغة نفسها ما يبالي في كثير ولا قليل! # أتعرف موقع هذا من آراء علماء الأدب ونقدة ms039 الشعر؟ # لقد قال بعضهم في غير تردد ولا تحبس: إن المتنبي ليس بشاعر ألبتة؟ # وما كان هذا إنكارا منهم لفضل المتنبي ولا جحودا لخطره، ولكن لأن ما جاء به ليس ~~من جنس ما يقوله الشعراء رعاية لقوانين الأدب، ومشاكلة لمنازع لهجات ~~العرب. ~~••• # ولقد أطلت الحديث هذه الليلة، وهذا الموضوع الذي نعالجه يحتاج إلى حديث بعد ~~حديث، ولعلنا نوفق غدا إلى غاية الكلام إن شاء الله! # انتهى الحديث أمس بنا إلى أن قوما من نقدة الشعر قالوا: إن المتنبي على جلالة ~~محله، لم يكن شاعرا ألبتة، ولقد تجد لأبي الطيب في بعض شعره من حسن ~~النسج وقوة التعبير وسطوة الكلام ما تجده في شعر أبي تمام، وهذا في نحو قوله مثلا ~~إذ يصف الأسد وما كان من تعفير سيف الدولة له بسوطه: # ورد إذا ورد البحيرة شاربا # ورد الفرات زئيره والنيلا # متخضب بدم الفوارس لابس # في غيله من لبدتيه غيلا # ما قوبلت عيناه إلا ظنتا # نار الثرى تحت الفريق حلولا # يطأ الثرى مترفقا من تيهه # فكأنه آس يجس عليلا # ألقى فريسته وبربر دونها # وقربت قربا خاله تطفيلا # فتشابه الخلقان في إقدامه # وتخالفا في بذلك المأكولا # أمعفر الليث الهزبر بسوطه # لمن ادخرت الصارم المصقولا؟ # ولقد كان المتنبي يرق فيقول في مثل ديباجة البحتري، حتى لتحسبه ينظم من زهر ~~الروض أو من نسم السحر: # حببتك قلبي قبل حبك من نأى # وقد كان غدارا فكن أنت وافيا ~~••• # يا أخت معتنق الفوارس في الوغى # لأخوك نم أبر منك وأرحم # وغير هذا وغير هذا تجده في شعر أبي الطيب، ولكنه من القليل أقل، أما سائر شعره ~~فمن نظم العقل لا من نظم القلب، ومذهبه إلى صحة الفكر لا صحة الديباجة. # ولقد حدثتك أمس أن للرجل عقلا عبقريا قد يسمو به عن هذا الأفق ويحلق ~~به فوق هذا المستوى فيدرك أشياء على غير ما يجري في تصور جمهرة الناس، فينحط ~~بها إلى الشعر ضغطا في غير تزويق، وعلى هذا لا تقوى على احتمالها مثلي ديباجة ~~البحتري، وهي ms040 كما وصفها بعض أصحابنا من «الدنتلا» فتتمزق من دونها تمزيقا، بل ~~لقد تضطرب بجانبها قوانين البلاغة، ولقد تنشز على الذوق العام. # ولقد أرى أن الموضوع الذي نعالجه بهذه الأحاديث - القديم والجديد - لم ينجم ~~اليوم ولا في هذا الجيل، وإنما نجم مع شعر المتنبي من قرابة ألف عام. # على أن هذه المسألة لا يتهيأ حلها قبل الاتفاق على جواب هذه المسألة: ما الأدب؟ ~~ثم ما الشعر؟ # ولو قد تهيأت لنا معرفة حدهما والاتفاق على تعريفهما، لما تعذر ~~علينا حسم النزاع في هذا الموضوع الذي نعالجه اليوم. # ولا أزعم أني وقفت للأدب أو للشعر على تعريف وقع عليه اتفاق الأدباء كلهم أو ~~أكثرهم في أي عصر من العصور، ولا أزعم أني أستطيع أن أحد كلا منهما بالتعريف ~~الجامع المانع؛ فذلك مني فوق الغرور، ولو قد تقدمت له لصادرت أحد الفريقين ~~على المطلوب، لأن القضاء في هذا تسلف للقضاء في ذاك. # ولكن هذا كله لا يعني أننا لا نلمح وجه الخلاف، ولو بصفة عامة، بين أنصار القديم ~~وأشياع الجديد، فلقد نلمحه على الأقل من الخلاف بين من قالوا إن المتنبي أكبر ~~شاعر، وبين من ذهبوا إلى أن المتنبي ليس بشاعر ألبتة. # ولقد نستطيع أن نصور هذا الخلاف ولا نحدده، ولقد نصوره بأن الشعر عند قوم لا ~~ينبغي أن يتجاوز لهجة العرب وما كانت تستريح إليه أذواقهم، وبحيث لا يعدو ~~لغتهم وقوانين بلاغاتهم، ويرى الآخرون أن الشعر كما هو مظهر الشعور ينبغي ~~أن يكون مظهر حاجات العقل والفكر معا، فليس من حق الديباجة ولا من حق الأسلوب ~~المتخير ولا من حق الذوق العربي أن تعترضها في هذا السبيل. # وكذلك حدث في الأدب عندنا: أهو مسألة عربية لغوية؟ أم هو المسألة الجامعة لكل ~~مطالب العقل والتصور والخيال؟ مهما تنحرف عبارتنا في تصوير هذه المطالب عن ~~أسلوب اللغة ولهجاتها وديباجتها المرتضاة؟ # والذي يعظم في أثر هذا الخلاف أن اللغة العربية قد ركدت قرونا عدة ~~انقبض فيها أهلها عن تقليبها وإجالتها فيما تجد الأيام من فنون المعاني ms041، ~~وفي هذه المدة لقد انبعث الغرب وتحركت فيه علوم كثيرة وفنون، وسطعت من ~~أفقه في العالم مدنية جليلة تناولت كل أسباب الحياة، ثم هببنا نحن الآخرين من ~~نومتنا الطويلة، ونحن في تثاؤبنا وفرك عيوننا، نبعث أيماننا فإذا لغة عظيمة راكدة ~~في الشرق من عدة قرون، ونبعث شمائلنا فإذا حضارة هائلة شبت في الغرب من بضعة ~~قرون، ولا بد لنا لنأخذ في أسباب العلم والفن والقوة، ولنجاري هذا العالم في ~~حضارته، من أن نطابق بين قديم الشرق وجديد الغرب، ونعمل على الملاءمة بينهما، وما ~~كان ليتسق لنا هذا، إذا هو اتسق، بمثل هذه السرعة التي يقدرها منا كثير، ~~فالمطلب، في الواقع، حق عسير. # ولقد بدأ اتصالنا الحديث بالغرب في عهد محمد علي، إذ أراد أن يبعث العلم الحديث في ~~هذه البلاد، فجاء له إلى مصر بمعلمين، وأشخص إليه من مصر متعلمين، ومن ثم ~~ترجمت عن لغاته كتب في مختلف العلوم والفنون لتدرس في معاهد مصر بلغة البلاد، ~~فجاءت مزجا من العامية والعربية والتركية والإفرنجية المعربة، ولم يكن إلى غير ~~هذا من سبيل. # ثم جاء إسماعيل وبعثت الحركة العلمية فترجمت كذلك كتب لم تواتها اللغة ~~العربية، ولم يكن من سبيل إلى أن تواتيها بكل ما عرضت له من أسباب هذه ~~الحضارة. # وأنشئت لعهده مدرسة دار العلوم، وقام على تعهدها المرحوم علي مبارك باشا، وأتى لها ~~بالأفذاذ من أقطاب اللغة العربية، مثل الشيخ حسين المرصفي، فرووا طلبتها ~~أدب العرب، ولقنوهم متخير شعرهم وفنون بلاغاتهم، فخرج منهم ناظورة العلماء ~~في اللغة والأدب العربي في هذه البلاد؛ وكانوا مثار نهضتها الجديدة في هذا ~~الباب. # إلا أن هذه النهضة، مع شيء من الأسف كثير، كانت عربية خالصة، فلم تتصل بالعلم ~~الغربي الذي هو ينبوع حضارتنا الجديدة، ولم تلائم بينه وبين اللغة العربية في ~~كثير. # وإني لأستطيع أن أقول إن العلم بقي في ناحية، وبقيت اللغة في ناحية أخرى، وظل ~~الأدب عندنا يجول في حفظ المعلقات السبع، ولامية العرب، وقصيدة ابن زريق، و«أفاطم ~~لو شهدت ببطن ms042 خبت»، وفي رواية حادثة طسم وجديس، وحرب داحس والغبراء، وحرب الفجار، ~~وحفظ صدر من مقامات بديع الزمان وأبي محمد الحريري، ونحو هذا وهذا، ويعيش أدبنا ~~بهذا دهرا! # ثم جاءنا الشنقيطي، وجاءنا اليازجي، وجعلا يتسقطان الأدباء والكتاب والشعراء فيما ~~يقع لهم مما لا يجري على قوانين الصرف، ولا تقره معجمات اللغة؛ ودعت هذه الحركة ~~الجديدة إلى أن يشيع في الناس كتاب «درة الغواص، في أوهام الخواص» للحريري، وكتاب ~~«لغة الجرائد» لليازجي، يستظهرهما المتأدبون، ويرتصدون للكتاب والشعراء ~~يأخذون عليهم كل سبيل، فإذا قال كاتب: «أثر عليه» فلأمه الهبل ، # 2 # إذ هي: أثر فيه، وإذا قال ~~شاعر «طبيعي» فما أجهله وما أقصر علمه، فإن النسبة إلى «الطبيعة» طبعي ~~لا طبيعي، ويخرج ذاك غير كاتب مطلقا، وهذا غير شاعر ألبتة، وهل يكون شاعرا أو ~~كاتبا من يسف هذا الإسفاف ويسقط كل هذا السقوط؟! # أما اللغة التي تواتي حاجات العلم وحضارة العلم، فلم يكن لها أي حظ في تلك ~~النهضة، إذا صح هذا التعبير، إذا استثنينا جمعية أو مؤتمرا لغويا عقده ~~السيد توفيق البكري في داره، ودعا إليه أئمة اللغة والبيان، فتمخض عن عشر ~~كلمات عربية تصلح للتعبير عن أغراض حديثة، فوقع من نصيب «التليفون»: المسرة، ~~ومن حظ «البسكليت»: الدراجة، ومنها ما أخذ الأدباء به ومنها ما أهملوا، ولست ~~أخفي عليك أن حاجة العلم والفن قد امتدت من ذلك التاريخ وحده إلى عشرة آلاف ~~كلمة أو تزيد! # والعجب العاجب مع كل هذه العناية باللغة أن القائمين بالنهضة في ذلك العهد لم ~~يعنوا حتى بأساليب اللغة ولهجتها وذوقها، بل لقد حبسوا كل عنايتهم على ~~مفرداتها، وقد قلت لك أمس: «إني إذا قلت العربية فلست أعني مفرداتها فحسب، فلقد ~~تقرأ الكلام لا يقع فيه إلا عربي صحيح، وهو مع هذا ليس من العربية في كثير ولا ~~قليل، وإنما أعني فيما أعني الأسلوب وطريقة تأليف الكلام.» # وتقدمت نهضتنا اللغوية حقا، كما تحركت رغبتنا في العلم ~~حقا، فعكف ناس على اللغة فحفظوا مفرداتها، وفتحوا أذواقهم للهجاتها وأساليبها؛ ~~كما عكف ناس ms043 على علم الغرب، فاطلعوا عليه واستشرفوا له، ورغبوا رغبة صادقة في أن ~~يرجعوا به إلى قومهم، ويلقوه معشرهم في لغتهم، إذ اللغة، أو إذ علمهم ~~باللغة، أو إذ هما معا لا يستطيعان أن يواتيا كل أغراض العلم، وإذ العلم لا يرضى ~~أن يذلل لأساليب اللغة أو إلى الأساليب التي لا يستريح إليها إلا المتصدون ~~لحفظ اللغة، فعندنا قوم يحبون أن يخضعوا العلم للغة، وعندنا آخرون يريدون أن ~~يخضعوا اللغة للعلم، وهذا أصل الخلاف ومنجم الشقاق. # ولقد تبسط بي الكلام إلى الحد الذي لم أكن أقدره، إذ وعدتك أمس بأني ~~موف على غايتي في حديث اليوم، فانتظرني إلى غد، واعذرني إذ أطيل عليك هذا ~~الحديث. # ذهب عني وأنا أعرض عليك في مقال أمس تلك الصور التي اضطرب فيها الأدب ~~العربي في هذا العهد الحديث، أن ألم بصورة كان لها أثر في نهضتنا الأدبية، ولا ~~يزال لها فيها أثر غير ضئيل، فقد أخذ شباب من أذكياء شبابنا بحظ من لغات الغرب ~~وترووا أدبه واستظهروا من شعر شعرائه، وجاشت نفوسهم بكثير من معانيهم ~~وأخيلتهم، وفنون استعارتهم وتشبيههم، وكان لهم كذلك حظ غير قليل من أدب العرب، ~~واستظهار كثير مما نضحت به قرائح شعراء الصدر الأول؛ ولقد حفزوا عزائمهم ليصلوا أدب ~~الشرق بأدب الغرب، أو ليجلوا في ديباجه البحتري ما قال شكسبير، فنظموا كذلك ~~وترسلوا، ولكن كان هذا المرام فوق مناط الطبيعة، فخرج كلام لا ترضى عنه أساليب ~~العربية، ولا تستريح إليه أذواق المتأدبين. # على أن أولى هذه النهضة أنفسهم قد فطنوا إلى ما في هذه الوثبة الهائلة من شديد ~~الخطر على لغة العرب، إذ إنها لا تستبقي منها إلا ألفاظا تحشر إلى ألفاظ، أما ~~رونقها وأما بهجة أسلوبها فقد يدركهما العفاء، فرجعوا إلى اللغة يبعثونها في رفق ~~وفي لين، ولا يحملونها من بلاغة الغرب إلا ما كان أشبه بذوقها، وإلا ما صقلوه ~~بصقالها، فدار في أساليبها لا نابيا ولا متعصيا. # على أن هذا النوع من البيان قد تسرب إلى المسارح وإلى بعض الآثار ms044 المترجمة أو ~~المنشأة، فلا زلنا نسمع ونقرأ «الموت البنفسجي - وضوء القمر الطري - والصخرة ~~المدمدمة - والزهرة الفيلسوفة - واضطراب الشيطان في نسيج عنكبوته»! # ونعود بعد هذا إلى ما كنا بسبيله؛ ولقد قرأت رسالة صديقي الدكتور هيكل في صحيفة ~~الأدب التي خرجت بها السياسة أمس، وبين فيها رأيه في القديم والحديث؛ وإني ~~لأوافقه على كل ما قاله في جملته وتفصيله، وأعلن فوق هذا إعجابي بدقته واعتداله ~~وصحة حكمه. # وإذا كان المقام يحتمل مزيدا على ما كتب ففي بعض التفصيل. # ولقد عرفت أن عندنا أنصارا للقديم وأنصارا للجديد، أما أولئك فالذين ~~يرون بوجه عام أن الأدب مسألة عربية لغوية، فما جاءنا عن العرب وما انتهى ~~إلينا من بلاغة الصدر الأول والذين يلونهم إلى عهد انقباض اللغة هو الأدب لا ~~غيره، وأما هؤلاء فلا يرون إلا أن الأدب هو الوفاء بحاجة العقل والفكر والتصور ~~والشعور، وأن اللغة وأساليبها ليست إلا أداة لها وظرفا، وثمرة هذا الخلاف تظهر، ~~كما حدثتك أمس، في أنه إذا لم تتواف اللغة لكل تلك الحاجات فأيهما ينبغي أن ~~يخضع للآخر؟ # ونحن حين نتحدث عن أنصار القديم وأنصار الجديد نثر الحقيقة ونظلم الواقع إذا نحن ~~نظمنا كل فريق في صف واحد، فإن أنصار القديم يبتدئون بقوم لم يتصل لأدبهم حس ~~بحضارة القرن العشرين، وينتهون بقوم قد اتصل شعورهم بكل ما حولهم، وإنك لتراهم ~~يستشرفون لكل ما يلامسهم من فنون الحضارة وحاجات العقل والتصور في هذا العصر، ~~ويشكونه بالترجمة والتعبير ما استطاعوا بشرط ألا ينبو عنه الذوق العربي ولا ~~تشمس عليه أساليب الكلام، وأما الآخرون فينتهون بطائفة لعلها لا تلمح شيئا ~~من بهاء هذه اللغة ورونقها، ولا ترى لديباجتها وأسلوبها حقا ولا كرامة، وأولئك ~~الذين لا يقع لكلامهم من العربية إلا مفرداتها، ولكن بيانهم نفسه ليس من العربية في ~~شيء أبدا! # ولعله لا يشق على الفريقين أن يسقطا ذينك الطرفين من حساب هذا الخلاف، ~~فيدعا أولئك مزملين بشملاتهم، ظاعنين على عيسهم، حتى إذا «وخدت» بهم ~~يوما في شارع عماد الدين صدمها «المترو» صدمة ms045 جعلتها وجعلتهم «أنقاضا على ~~أنقاض»، ويدعا هؤلاء في رطانتهم وعجمتهم، فإلى المالطية غايتهم وبئس ~~المصير! # وبعد أن ينفض الطرفان أيديهم من تراب أولئك وهؤلاء لا يبقى إلا قوم تفقهوا في ~~لغة قومهم، وحذقوا أساليبها، وهم مع هذا دائمو الاستشراف لما تطلع به الحضارة ~~الحديثة من علم وفن، حراص على أن يشكوه بلغتهم وينتظموه ما ~~استطاعوا في أساليبها النصاح، وقوم حذقوا العلم والفن يحبون أن يجلوهما ~~على قومهم بلغة العرب؛ فهم دائمو البحث والتقري، علهم يعثرون بين ~~محكم صيغها وروائع تعبيراتها على ما يمكنهم من أن يحملوه رسالة العلم ~~الحديث. # وهذا هو الواقع والحمد لله، وإن من حقنا أن نغتبط كل الاغتباط بهذه النهضة ~~الكريمة، نهضة العلم والفن الحديث، تجاولها نهضة اللغة والأدب القديم، ولن يخرجا ~~من هذه الحرب إلا إلى الصلح والسلام، ولن يفضي بينهما هذا الخلاف إلا إلى الوفاق ~~والوئام. # سيقول فلان من أنصار الجديد: إني ليعتلج في نفسي معنى لا أستطيع أن أنفضه ~~في ديباجة عربية صحيحة، وسيبادره فلان من أنصار القديم بأن هذا أو قريبا منه قد ~~وقع في تعبير المتقدمين فهاكه، وبهذا يحيا الأدب وتحيا اللغة معا. ~~••• # لم يبق من مواطن الإشكال إلا فيما لم يعن فيه القديم على الوفاء بأداء ~~الجديد، ولا شك أن أكثر هذا أو كله من مستحدثات العلوم والفنون، وكيف الحيلة ~~في هذا، وما عسى أن يرى فيه أنصار القديم؟ أيرون أن يلينوا بقديم لغتهم حتى ~~يتسع له؟ أم يرون أن يذاد جملة ويدافع ألبتة حتى لا يقع للعربية ما ~~يفسد كرائم مفرداتها ويذهب بأساليبها النصاح؟ وكذلك تكتب الفرقة بين العلم ~~والعربية إلى غاية الزمان! # وتلك مسألة لا يحلها إلا الزمن، وسيكون الفوز فيها للأنفع على كل حال. # 3 # على أن الحياة متحركة والمعاني تستحدث في كل يوم، ولا بد للعلماء ~~والأدباء من أن يقولوا، وهم يقولون فعلا، وهم يؤدون أغراضهم بما يتهيأ ~~لكل منهم من فنون الكلام، وهنا لا يسعني إلا أن أذكر بالخير كله أنصار القديم، ~~فلولا غيرتهم وحرصهم على لغتهم ms046، واستظهارهم لبدائعها، وتعقبهم لكل ~~منحرف عن قوانينها، ناشز على أساليبها، لعفت اللغة، وتبلبلت الألسن، ~~وتشعبت اللهجات، وأضحى هذا التراث الجليل أثرا من الآثار، وبخاصة في هذا ~~العصر الذي هجمت فيه حضارة الغرب على أهل الشرق من كل مكان. # ومهما يكن من شيء فإن من أفحش الظلم أن يتدلى أنصار الجديد بمعانيهم في ألفاظ ~~وصيغ لا تستقيم للغة إذا كان في فصيح العربية ما يغني في أدائها كاملة غير ~~موتورة، وأحسب أن هذا موضع اتفاق بين الفريقين، وأرى أن حركتنا في هذا الباب ~~مرضية - بقدر ما - إن لم تكن كاملة، فاللغويون يعرضون، والأدباء ~~يستظهرون، والمترجمون يتحرون؛ ولغتنا كل يوم تتبسط لتتناول مختلف ~~الأغراض. # أما ذلك الإشكال الذي أسلفت الكلام فيه فكأني بصديقي الدكتور هيكل قد فطن ~~إلى أنه لا يمكن أن يحل بجهد الجماعات، فلقد جربت مصر لهذا الغرض نفسه ~~جمعية بعد جمعية، وبلت مؤتمرا بعد مؤتمر، فلم تظفر اللغة منها كلها ~~إلا بخذلان، فالتفت بالأمل إلى جهد النوابغ الأفذاذ، وفي الحق إننا مدينون ~~بكل نهضاتنا، والأدبية منها بوجه خاص، لجهد أولئك النوابغ الأفذاذ. # وقد رد الدكتور هيكل سبب انصداع المتأدبين إلى أنصار قديم وأنصار حديث إلى أن ~~«مثل هذا الخلاف يرجع إلى قيام طائفتين اختلف تهذيب كل منهما، واختلفت ثقافتها ~~عن الأخرى، فتعذر عليهما التعاون الواجب لخلق روح قومية للثقافة والأدب، ولن ~~يزال هذا الخلاف ما بقي الاختلاف بين الطائفتين في التهذيب والثقافة، وما بقيت ~~الأمة في علمها وأدبها كلا على سواها وعالة على غيرها» ا.ه. # وهذا كلام صحيح، وإن من يمن الطالع أنه في الوقت الذي تدور فيه هذه ~~المناقشة تأخذ وزارة معارفنا أهبتها لإنشاء جامعة تضم إلى كلياتها العظيمة ~~كلية للآداب خاصة، ولا شك في أنها ستروي طلبتها آدابا من آداب أمم الشرق ~~والغرب، ولكن ملاك الأدب فيها ومادته وأساسه لن تكون بالطبع غير العربية، ~~فليطمئن صديقي، فلن نلبث طويلا إن شاء الله حتى نظفر بأدبنا القومي، فلا نكون ~~عيالا على غيرنا، وحتى تتقارب مذاهب أنظارنا باتحاد ms047 ثقافتنا، فلا يرى بين ~~ناشئتنا الجديدة - على الأقل - ما يرى بيننا نحن من فرقة في قضية الأدب ~~وانصداع. # فلننظر المستقبل في غبطة وأمل وارتياح. # كيف نبعث الأدب # 4 # وكيف نترواه؟ # عرض وجلاء تاريخ # لا شك في أن من أهم نهضاتنا التي نتواثب فيها الآن ومن أبرزها ~~نهضة الآداب: فلقد زاد عدد المقبلين على الأدب العربي والذين يعالجونه في ~~هذا العصر بقدر عظيم، كما أعليت مكانته، وأبعدت أغراضه، ~~وتلونت فنونه، وبعد أن كان يضطرب في أضيق مضطرب، ~~ويتقلب في أفسل المعاني، ولا يستشرف إلا للضئيل التافه من ~~الغايات : من المديح الوضيع الذليل، ومن الغزل المصنوع المتكلف، ومن ~~فخر مكذوب لا يمت إلى مفاخر العصر بسبب، ومن وصف مفترى على ~~الطبيعة، فلا هو مما ينتظم الواقع، ولا هو مما يخلع عليه الخيال ~~الصناع صورة الواقع، ومن هجو تتلقط فيه المعايب والمقاذير من هنا ~~ومن هنا لتعفر بها وجوه الناس عفرا، ونحو ذلك مما كان يجول فيه ~~الأدب في الجيل الماضي، على وجه عام، وتتجرد في طلبه والتشمير له ~~جمهرة المتأدبين، على أنه لم يكن له أي حظ من وجدان ولا من ~~جيشان عاطفة، وكيف له بهذا وهو لم يذك له حس، ولم يخفق به ~~قلب، وإنما أمره إلى حركة آلية لا تكاد تعود في مذهبها تلك الحركة التي ~~تنبعث بها الصناعات اليدوية، إلى أن تلك المعاني، إذا صدق أن مثل ~~ذلك مما تطلق عليه كلمة المعاني، كانت، في الكثير الغالب، تجلى في ~~صور مترهلة متزايلة، لا يقوي بناءها أو يشد متنها شيء من ~~جزالة اللفظ ومتانة الرصف، وتلاحم النسج، ولا يجتمع لتزيينها وتبهيجها ~~شيء من حسن الصياغة وإشراق الديباجة وجمال النظام! # ولقد قيدت هذا «بالكثير الغالب»؛ لأن ذلك الجيل الماضي لم يخل ~~من كتاب ومن شعراء أغلوا حظ الأدب، ففسحوا في أغراضه، ~~وأبعدوا في مطالبه، وحلقوا بمعانيه، وأبدعوا في البيان، فاتسق ~~لجلالة المعاني شرف اللفظ، وبراعة النظم، وإحكام النسج، وكذلك استوى من ~~المنظوم والمنثور كليهما كلام يترقرق ماؤه، ويتألق سناؤه، ~~ورحم الله إبراهيم ms048 المويلحي وإبراهيم اللقاني وأضرابهما في الكتاب، ~~ومحمود سامي البارودي وإسماعيل صبري في الشعراء، فقد هدوا إلى حسن ~~البيان السبيل. ~~••• # وإذا كان الأدب يتمثل لأدباء هذا الجيل في صورة أبدع وأروع من الصورة ~~التي كان يتمثل فيها لسلفهم القريب، كما أدركوا هم أن له مهمات ~~أوسع أفقا وأبعد، مدى من تلك التي كان يدور فيها في ذلك العهد، حتى ~~لقد أصبح يتقلب في جلى أسباب الحياة، بل لقد تجاوز أو كاد يتجاوز ~~أفق الكماليات البحت إلى موطن الضرورات في الحياة الاجتماعية إذا كان ~~المتأدبون قد أصبحوا يحلون الأدب هذا الموضع، ويتمثلونه على هذه ~~الصورة، فذلك لأنهم طالعوا أدب الغرب ورأوا ما يتصرف فيه من مختلف ~~الفنون، وما يتجرد له من جسام المطالب. # لقد أصبح الأدب وسيلة من وسائل تنعيم النفس وتلذيذها بما يجلوا عليها من ~~صور الجمال، وبما يرهف من الحس حتى يتفطن من ألوان المعاني إلى ~~كل دقيق وإلى كل بديع، كذلك لقد تبسط الأدب واسترسلت آثاره إلى ~~كثير من الأسباب العامة، على ما تقدمت الإشارة إليه، فعظم بذلك أمره ~~وجل في عيش الحضارة خطبه، وكذلك أضحى للبارعين من أهله في الغرب من ~~الشأن ما لا يكاد يوصل به شأن. # ولقد زعمت لك أن الذي بعث تقدير أبناء العربية للأدب هذا المبعث ~~ما جلي عليهم من أدب الغرب، وما طالعوا من بعيد آثاره في شتى الأسباب، ~~فراح كثيرون منهم يتأثرونه، ويتصرفون بالبيان في مثل ما يتصرف ~~فيه من مختلف الفنون، على أن كثيرين من هؤلاء الكثيرين قد انقطع ~~جهدهم دون هذه الغاية، فلم يظفروا من الأمر بجليل، ولا شك أن ذلك ~~يرجع إلى أنهم - في غالب الأحيان - إنما ينقلون إلى العربية ما يتهيأ ~~لهم نقله من آداب الغرب على الصورة التي يستوي فيها لأهله، لا يحاولون، ~~أو لعلهم يعجزون إذا هم حاولوا، أن يطبعوه على ما يألفه الخيال ~~الشرقي، ويستريح إليه الذوق العربي، وتسلس له بلاغات العرب! # ولقد يكون هذا من أثر الافتتان بأدب الغرب، والتجرد في محاكاته وتقليده ~~من ms049 جهة، وقلة المحصول من فقه العربية ورقة الزاد من ألوان بلاغاتها من ~~جهة أخرى. # وبعد، فما نحسب أن هناك من ينكر على الأدب العربي جليل خطره في ~~عهد الجاهلية وفي قيام الدولة العربية في الشرق والغرب؛ وأنه كان - في ~~الجملة - يؤدي من مطالب الحياة ما يؤديه الأدب الغربي اليوم، وأقول - في ~~الجملة - لأن الأدب قد تشعبت في هذا العصر فنونه، وتطاولت ~~آثاره إلى كثير لم يلتفت إليه في الزمان القديم، ولعله لو ظلت دولة ~~العرب قائمة، وظلت حضارتهم في اطرادها، ما تقاصر اليوم عن شأو الأدب ~~الغربي، بل لعله كان يسبقه إلى كثير! ولو قد عني النشء من متأدبينا ~~بدراسة هذا الأدب، وخاضوا في أمهات كتبه، وأطالوا تسريح النظر فيما أثر ~~من روائعه، لرجعوا إلى نفوسهم بأنه أدب عظيم كل عظيم، أدب يمتع حقا ~~وينعم الروح حقا بما ينفض من عاطفة معتلجة، ويصور من دقيق حس، ~~ويتدسس إلى ما استكن في مطاوي الضمير؛ إلى ما أصاب من المعاني ~~البارعة، وما تعلق به من الأخيلة الرائعة، وما تصرف فيه من كل دقيق ~~وجليل في جميع الأسباب الدائرة بين الناس، ما ترك جليلا من الأمر ولا ~~دقيقا إلا مسه وعرض له وعالجه بالتصوير والتلوين، وكل أولئك ~~يصيبه في مصطفى لفظ، ومحكم نسج، وبارع نظم، ودقة أداء، ~~وحلاوة تعبير! # على أن الأدب العربي، مع هذا، طالما جال في بعض الأسباب العامة وساهم في ~~الأحداث السياسية والقومية والمذهبية بقدر غير يسير؛ ومهما يكن من شيء ~~فهو أدب واسع الغنى، رفيع الدرجة؛ بل إنه لمن أغنى الآداب التي قامت في ~~العالم ومن أعلاها مكانا. # والواقع أنه قد انقبض بانقباض الدول العربية وضعف بضعفها، فجعلت ~~تضيق أغراضه، وتتواضع معانيه، ويجف ماؤه، ويتجلجل بناؤه، حتى صار إلى ~~ما صار إليه، وظل عاكفا عليه، إلى ما قبيل نصف قرن من الزمان. # ولا يذهب عنك أنه في فترة انقباضه الطويلة قد انبعثت في الغرب حضارة ~~جديدة جعلت على الزمن تنبسط وتتناول وسائل الحياة دراكا حتى ~~بلغت شأوا بعيدا، ومما ms050 ينبغي أن يلتفت إليه أشد الالتفات في ~~هذا المقام، أن هذه الحضارة أولت أجل عنايتها للشئون المادية، ~~فكان حظ العلوم الطبيعية والكيميائية منها عظيما، فاستكشفت أشياء ~~كثيرة، واخترعت أشياء كثيرة، حتى كاد الإنسان لا يتناول شأنا ~~من شئون الحياة إلا بسبب طريف، وبذلك كثرت الآلات المادية كثرة ~~تفوق حدود الوصف، وهي تطرد في الزيادة كل يوم، إذ اللغة العربية جاثمة ~~في أفحوصها # 5 # لا تمتد بالتعريف عن هذا، إذا هي امتدت، إلا إلى القليل، بل ~~إلى أقل من القليل! # ولقد كان من آثار فقر العربية في هذا الباب أنها حتى بعد نهضتها ~~الأخيرة لزمت في بيانها دائرة الأدبيات لا تصيب من المحسات المادية، ~~إن هي أصابت، إلا في حرج وفي عسر شديد! وكيف لها بهذا وليس لها به عهد ~~قريب ولا بعيد؟! # وإذا كانت الحاجة تفتق الحيلة كما يقولون، فقد بعثت النهضة ~~العلمية في عهد محمد علي رفاعة وأصحابه إلى أن ينفضوا قديم العربية لعلهم ~~يجدون بين مفرداتها وما أثر في كتبها من المصطلحات العلمية والفنية ما ~~يدلون به على ما استوى لهم من جديد في العلوم والفنون، فإذا أصابوا هذا ~~وإلا عمدوا إلى الوسائل الأخرى من النحت والاشتقاق والتعريب، وإذا كان قد ~~اجتمع لهم فيما نقلوا إلى العربية من علوم الغرب وفنونه صدر محمود، ~~فإن ذلك أصبح لا غناء فيه ولا سداد له، بعد أن فترت تلك النهضة ~~وخبت جذوتها، على حين تطرد العلوم والفنون في تبسطها حتى ~~لتخرج على العالم كل يوم بجديد، وهذه الحاجة الملحة، والتي يشتد ~~إلحاحها ويتضاعف كلما تراخت الأيام، لقد كانت تبعث جماعات الفضلاء الفينة ~~بعد الفينة إلى تأليف الجمعيات للبحث والنظر في تحريك لغة الغرب حتى ~~تستطيع أن تتوافى لمطالب الحضارة الحديثة، على أنه لم يقدر لها ~~النجاح لأسباب لا محل لذكرها في هذا المقام، فلم يبق بد من ~~أن تضطلع وزارة المعارف بالأمر، وبعد لأي قام «المجمع اللغوي»، نسأل الله ~~تعالى أن يمده بروحه، ويعينه على مهمة جليل المشقة جليل الآثار، وأن ~~يهديه ms051 إلى أقوم سبيل! ~~••• # لقد استطرد القلم من حديث الأدب إلى حديث اللغة، وما له لا يفعل واللغة ~~مادته وملاكه، وإذا كان أجل همه إلى المعنويات فليس له عن هذه ~~المادة غناء بل لقد تكون وسيلته وأداته حتى في التعبير عن أخفى ~~العواطف وأدق خلجات النفوس، على أن أهم ما يعنينا من هذا البحث إنما هو ~~حيرة الأدباء، أو على تعبير أضبط، حيرة بعض من يعانون الأدب في هذا ~~العصر، وذلك أن في مأثور العربية أدبا غنيا سريا، واتى سلفنا العظيم ~~بمطالب الشعور ومطالب الحضارة جميعا، على أننا نعيش الآن في حضارة غير ~~حضارتهم، ونعالج من وسائل الحياة غير ما عالجوا، ثم إنه مهما تطبعنا ~~الوراثة على طبعهم، وتنضح علينا من أذواقهم وشعورهم وغير ذلك من خلالهم، ~~فإن مما لا شك فيه أن لتطاول الزمن، وتغير البيئات، وتلون ~~الحضارات، وما يجوز بالأقوام من عظيمات الأحداث أثرا قد يكون بعيدا في ~~كل أولئك، وأنت خبير بأن الأدب الحق إنما يتكيف بما هو كائن، ويترجم ~~عما هو واقع، # 6 # ومن هذا تجد كل أدب حي متحرك في تطور مستمر طوعا لتطور ~~العوامل والأسباب، ولست تلتمس دليلا على أن الأدب العربي إنما كان كذلك ~~في حياته القوية بخير من أن تستعرض شأنه في الجاهلية وتقلبه ~~في جميع الدول العربية في العصور الإسلامية، فلن تخرج من هذا إلا بأنه قد ~~تأثر في كل عصر وفي كل بيئة بقدر ما تغير على القوم من مظاهر ~~الحياة. # ومعنى هذا الكلام أن الأدب العربي، في أي عصر من عصوره الخالية، مهما ~~يجل قدره، وتعظم ثروته، لا يمكن أن يغنينا الآن في كثير ~~من مطالب الحياة إذا اتخذناه على حاله، ولم نعد ما كان من صوره ~~وأشكاله، وإلا فقد سألنا الطبيعة شططا، فهيهات للساكن الجاثم أن ~~يلحق المتحرك السائر. # وهناك أدب غربي دارج الحضارة الحديثة وسايرها خطوة خطوة، واتسع لكل ~~مطالبها، وواتاها بجميع حاجاتها في غير مشقة ولا عناء، ولا يذهب عنك أننا ~~إنما نتأثر الغرب في ثقافته وعلومه وفنونه ms052 وسائر وسائله، وهذه سبيلنا ~~إلى ما نستشرف له من التقدم ومشاكلة الأقوياء، ولكن هذا الأدب الغربي ~~الذي نقبل على محاكاته فيما نقبل عليه من آثار القوم، لا يتسق في ~~بعض صوره لشأننا، ولا تستريح إليه أذواقنا، بل إنه قد لا يستوي في ~~تصوراتنا، ولا يجدي علينا في كثير، أضف إلى هذا عجز بعض نقلته ~~سواء في شعره أو في نثره، وقلة محصولهم من العربية، واضطرارهم بحكم ~~ذلك إلى إخراجه، مترجمين كانوا أو محاكين ومقلدين، في صور بيانية شائهة ~~الخلق، ناشزة على الطبع، لا تحس إلا مليخة باردة في مذاق ~~الكلام! # وبعد، فإن مما لا يتقبل النزاع أنه لا بد لنا من أدب قوي سري ~~يواتي جميع حاجاتنا، ويساير ثقافتنا القائمة، ويتوافى لهذه ~~الحضارة التي نعيش فيها، بحيث تطمئن به طباعنا، وتستريح إليه أذواقنا، ~~شأن كل أدب حي في هذا العالم، ولعل من أشد الفضول أن نقول إن هذا الأدب ~~لا يمكن إلا أن يكون عربيا، ولكن كيف الحيلة في ذلك؟ # ذلك ما نعالجه في مقال آخر، إن شاء الله تعالى، فلقد طال هذا ~~الحديث. # أين أدبنا الصريح؟ # لقد تعرف أن الأدب الحق لكل أمة هو الذي يشاكل حضارتها، ويكافئ ثقافتها، ~~ويواتيها في جميع أسبابها، ويترجم في صدق ويسر عن عواطفها، ~~وينفض ما يعتلج في الصدور من ألوان الشعر والأحساس، ولقد تعرف أن ~~الأمم كما تختلف في ألوانها وفي ألسنتها وفي أخلاقها وعاداتها وغير ~~أولئك، فإنها تختلف كذلك في شعورها وفي أذواقها ومنازع عواطفها، ومهما ~~تختلف في أفراد الأمة الواحدة هذه العواطف بالقوة والضعف، والرقة ~~والجفاء، وغير ذلك من وجوه الاختلاف، فإنها ترجع إلى أصل واحد، ~~وتندرج تحت جنس واحد، على تعبير أصحاب المنطق، وذلك لأنها أثر من ~~آثار الإرث، والبيئة، والعادة، والتاريخ، وما يتردد عليه النظر من ~~صور الطبيعة، وغير ذلك، كما أن لنوع الثقافة ومبلغ حظ الأمة منها أثره ~~البعيد أو القريب في هذا الباب. # وكيفما كان الأمر، فإن لون العواطف الشائع في كل أمة ليس بالشيء الذي ~~يستعار ms053 استعارة، ولا بالذي تتناقله الأمم كما تتناقل العلوم ~~وفنون الصناعات مثلا، وكيف له بهذا وقد رأيت أن أبلغ عناصره مما لا ~~يدرك بالكسب ولا بالاختيار، إن هو إلا حكم الطبيعة وما من حكم ~~الطبيعة مناص! # وأحسب أننا - بعد التسليم بهذا - في غير حاجة إلى أن نبعث الأدلة ~~على أن ما يترجم عن عواطف قوم ويصور من حسهم الباطن قد لا ~~يؤدي هذا لغيرهم، وأن ما يستقيم من البيان لأذواق خلق من الناس قد ~~ينشز على أذواق معشر آخرين، على أنه قد تشترك العاطفة والذوق ~~كلاهما في معنى من المعاني، وحينئذ يصدق البيان. # وعلى هذا فإنه مهما نسرف في مطالعة أدب الغرب والتروي منه، ومهما ~~نجهد في محاكاته وتقليده، فإنه لن يكون لنا أدبا في يوم من الأيام، ~~اللهم إلا أن تنقلب أوضاع الطبيعة، فإن الأمم لا تطبع على غرار ~~الآداب، بل إن الآداب لهي التي تطبع على غرار الأمم! # لقد نكون في حاجة، ولقد تكون هذه الحاجة شديدة جدا إلى مطالعة آداب ~~الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها، ونقل ما ~~يتهيأ نقله إلينا منها في لسان العرب، ولكن ليس معنى هذا أن ~~نتخذها آدابا لنا، فذلك - كما علمت - عبث لا يغني ولا ~~يفيد! ~~••• # والآن نلتمس أدبنا باعتبارنا عربا أو مستعربين نعيش في مصر، ~~مأخوذين بثقافتها القائمة، موصولين بتاريخها القديم، إننا نلتمس هذا ~~الأدب الذي يوحي به إلينا تاريخنا العربي من ناحية، وتاريخنا المصري من ~~الناحية الأخرى، هذا الأدب الذي تلهمنا إياه أخلاقنا وعاداتنا ~~وثقافتنا، ويسويه لنفوسنا العيش في وادي النيل، إننا نلتمس هذا الأدب ~~الذي يفيض بما تجيش به عواطفنا، ويصدق في الترجمة عما يعتلج في ~~نفوسنا، ويصور دخائل حسنا أكمل تصوير، ويعبر عنها أدق ~~تعبير، وإن شئنا الكلمة الجامعة قلنا إننا نلتمس الأدب القومي فلا نصيب ~~أثره إلا قليلا فيما يخرج لنا من آثار الأدباء والمتأدبين! # اللهم إن فينا أدباء جروا من العربية على عرق، وأحرزوا صدرا من ~~بديع صيغها، وتفتحت نفوسهم لمنازع بلاغاتها، واستظهروا الكثير من ms054 ~~روائعها فيما نظم متقدمو شعرائها، وما أرسل المجلون من كتابها، ~~على أن أكثر هؤلاء، والشعراء منهم على وجه خاص، إذا اجتمع أحدهم لحديث ~~العاطفة لم ينفض ما يحس هو وما يشعر، وإنما تراه يترجم عما كان ~~يجده السلف الأقدمون من مئات السنين، لأنه جعل كل همه إلى المحاكاة ~~والتقليد ليخرج شعره عربيا لا شك فيه، وهؤلاء يتناقص عديدهم على ~~الزمان حتى أشفى فنهم على الزوال. # وهناك شباب لم يبلغوا حظا مذكورا من العربية، ولعل من بلغ ~~منهم حظا منها لم يعن بها ولم يكترث لها، وهؤلاء أقبلوا على ~~أدب الغرب فجعلوا يحاكونه ويترسمون آثاره، فيستحدثون أخيلة لم ~~تتراء لأحلامهم، ويسوون صورا لم تتمثل لخواطرهم، ويريقون ~~عواطف لم تترقرق في نفوسهم، ويفصدون أحاسيس لم تجش قط في ~~صدورهم، وتراهم يستكرهون هذه الأمشاج من المعاني على نظام ليس فيه ~~من العربية إلا مفردات الألفاظ، يشد بعضها إلى بعض بمثل قيود الحديد، ~~برغم تنافرها وتناكرها، بحيث لو أطلقت من إسارها لتطايرت ~~إلى الشرق والغرب ما يلوي شيء منها على شيء! فيخرج من هذا ومن هذا ~~كلام لا يستوي للطبع، ولا يستريح إليه الذوق، ولا يخف للتعلق به ~~الخيال! وكيف له بشيء من هذا ولم ينتضح به طبع، ولا رهف له حس، ~~ولا تحركت به عاطفة ولا انبعث إليه من نفسه خيال! فهو أدب ~~مصنوع مكذوب على كل حال! # بل إن هناك شبابا لم يحذقوا شيئا من لغات الغرب، ولم يظهروا ~~فيها على شيء من آداب القوم، ولكن تعاظمتهم صنعة أولئك فراحوا هم الآخرون ~~يشاكلونها ويحذون جاهدين حذوها، ليضافوا هم كذلك إلى جمهرة ~~المجددين، وما التجديد في شرعة أكثر هؤلاء إلا الإتيان بالغريب الشامس ~~في نظمه وفي صوره وأخيلته ومعانيه! وإذا كان هذا اللون من البيان مما ~~يصح أن ينتسب إلى أي أدب من الآداب، فإنه مما لا يصلح لنا على ~~أي حال! # وإن مما يضاعف الإساءة ويزيد في الألم أن يقبل الناشئون من طلبة ~~المدارس على هذا اللغو، فيتخذوا منه نماذج يحتذونها إذا ms055 شمروا للبيان، ~~ولن يجشمهم التجويد والبراعة فيه جليلا من جهد ولا مشقة، لأن ~~قسر أي معنى على أي لفظ، وتسوية الخيال في أية صورة، ليس مما يعيي ~~جهد المرء ولا مما يعتريه بالمشاق، ومن هنا يشيع أرخص الآداب، أو ~~أنه ينذر بالشيوع في هذه البلاد! ولو قد ترك في مذهبه هذا لطغى ~~أشد الطغيان ما تغني في صده جهود الأعلام من الأدباء، وحينئذ ~~يكتب على مصر أن تعيش من غير أدب أو تعيش بهذا الأدب المنكر الشائه ~~الذي لا نسب له مدة طويلة من الزمان! # الأدب القومي # إذن لا مفر لنا من أن نلتمس أدبنا القومي، ولا يكون هذا ~~الأدب إلا عربي الشكل والصورة، مصري الجوهر والموضوع، وإذن ~~فقد حق علينا أن نبعث الأدب العربي القديم، وننثل دواوينه، ونستظهر ~~روائعه، ونتروى منها بالقدر الذي يفسح في ملكاتنا، ويقوم ~~ألسنتنا، ويطبعنا على صحيح البيان، فإذا أرسلنا الأقلام في موضوع يتصل ~~بالآداب، بوجه خاص، أطلقنا القول في صيغة عربية لا شك فيها، على ألا ~~نطلب بها إلا الترجمة عما يختلج في نفوسنا، ويتصل بإحساسنا، ~~ونصور بها ما نجد مما يلهمه كل ما يحيط بنا، وما يعترينا ~~في مختلف أسبابنا من فكر ومن شعور ومن خيال! # ولقد قدمت لك أننا قد نكون في حاجة شديدة جدا إلى مطالعة آداب ~~الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها، ونقل ما يتهيأ ~~نقله إلينا منها في لسان العرب، وهذا أمر لا شك فيه، ولا غناء لنا ~~عنه، فإن ذلك مما يهذب من ثقافتنا، ويفسح في ملكاتنا، ويرهف ~~من حسنا، ويهدينا إلى كثير من الأغراض التي تشتعبها آداب ~~الغرب في هذا العصر، والواقع أننا تهدينا من آداب الغرب إلى فنون ~~لم يكن لنا بها عهد من قبل، أو أنها مما عالجه سلفنا ولكن لم يكن ~~حظهم منه جليلا، ومن أظهر هذه الفنون القصص بالمعنى القائم، ~~ومذاهب النقد الحديث! # على أن شيئا من ذلك الأدب الأجنبي لا يجدي علينا، ولا يؤدي الغرض ~~المقسوم بمطالعته والإصابة منه، إلا ms056 إذا هذبناه وسوينا من ~~خلقه ولونا من صورته حتى يتسق لطباعنا، ويوائم مألوف ~~عاداتنا، ويستقيم لأذواقنا، كما ينبغي أن نجهد الجهد كله في تجليته في ~~نظام من البلاغة العربية محكم التنضيد، فلا نحس فيه شيئا من ~~نبو ولا نشوز، وبهذا نزيد في ثروة الأدب العربي، ونرفع من شأنه ~~درجات على درجات. # وليس هذا الذي نرجوه لأدبنا بدعا في شريعة الآداب سواء في جديد ~~الزمن أو في قديمه، فلقد كان الأدباء وما برحوا إلى اليوم يعتمدون ~~الفكرة البديعة، والمعنى السامي، والخيال الطريف المنسجم، يصيبونه في ~~لغى أجنبية ، فلا يزالون به يطامنون منه لأذواقهم، ويروضونه لأساليب ~~لغاهم، حتى يجلوه فيها من غير عسر ولا استكراه، وإن تصرف ~~المتقدمين من أقطاب البيان العربي فيما شكوا من ألوان المعاني في ~~اللغات الأجنبية لمن أصدق الدليل على صحة هذا الكلام، وهل رأيت إلى ابن ~~المقفع لو لم يجئك أنه ترجم كتابه «كليلة ودمنة» عن إحدى اللغات ~~الهندية، أفكان يتسرح بك الشك في أنه عربي الأصل والمنجم، عربي ~~الحلية والنسب؟ اللهم إن تسوية المترجم لما ينقل إلى لغته، وطبعه على ~~ما يواتي أحلام معشره، ويسوغ في أذواقهم، وينزع منازع بلاغاتهم، ~~ليس مما يقدح في كفايته، بل إنه لمما يرفع من قدره ~~ويغلي من تصرفه، وكيف لا وهذا القرآن الحكيم، لقد حدثنا عن ~~عشرات من الأمم، كانوا ينطقون في الأعجمية لغات متفرقة، ونقل إلينا ~~كثيرا من أحاديثهم ومقاولاتهم ومحاوراتهم ومجادلاتهم، فما أداها إلا ~~في أعلى العربية الخالصة، بل في العربية البالغة حد الإعجاز، وهل بعد ~~بلاغة القرآن بلاغة، وهل وراء بيان الكتاب العزيز بيان؟! # وصفوة القول أنه لا يعيب اللغة أو يغض من شأنها أن تصيب من بلاغات ~~غيرها على أن تسيغه وتهضمه وتسويه حتى ينتظم في سلكها، ~~ويتصل بخلقها، ويوسع في مادتها، ويضاعف ثروتها، لا أن يقسر ~~عليها قسرا، ويستكره لها استكراها، فينكر صورتها ويشوه من ~~خلقها على ما نرى من صنع كثير يعربدون في الأدب العربي باسم ~~«التجديد» في هذه السنين! # كيف نعلم الأدب # ولا ms057 شك في أن الينبوع الأول الذي يرده النشء لينهلوا من فتون ~~العربية ويترووا آدابها ويستشعروا بلاغاتها، وينبعثوا لترسمها ~~إذا هم أقبلوا على البيان، هو معاهد التعليم على وجه عام، فإذا هي ~~جدت في مهمها وأخذت من بين يديها من التلاميذ بما ينبغي أن ~~يؤخذوا به من أساليب التعليم والتمرين، كان لنا في هذا الباب كل ما ~~نريد. # وإذا كان الأدب كسائر الفنون إنما يبرع المرء فيه بالاستعداد الفطري ~~مع الكلف به وشدة الإقبال عليه وطول التمرين فيه، بأكثر مما يحرز ~~بالتعليم والتلقين، فإن مما لا يعتريه الريب أن للأستاذ، وخاصة في ~~ابتداء العهد بالطلب، أثرا بعيدا في تعليم أصول الفن وبيان حدوده، ~~وإعلام طريقه بين يدي الطالب، وتهذيبه بطول التعهد، وتوسيع ملكاته ~~بألوان الملاحظة، وإسلاس الإجادة له بفنون التدريب والتمرين، ولعمري ~~لو قد أخذ الأساتيذ تلاميذهم بهذا الأسلوب في تعليم الأدب العربي ~~لأحبوه وكلفوا به، وانبعثوا من تلقاء أنفسهم لمراجعته في أوقات فراغهم، ~~وإمتاع النفس بتسريح النظر في بدائعه، وكذلك تصبح مطالعة الأدب رياضة ~~يطلب بها الترفيه والاستجمام إذا لحق الكد، وأجهدت المطاولة في ~~طلب العلم، وسرعان ما تستقيم الطباع، وتدرك الملكات، ويجري صادق ~~البيان في الأعراق مجرى الدماء! # أما إذا حصب التلاميذ بالقواعد جافة لا يترقرق فيها ماء البيان ~~صافيا، وقنع الأساتذة بأن يلقوا إليهم قطعا من الشعر أو النثر ~~ليحفظوها دون أن يوصل بين نفوسهم وبين ما تحوي من ناصح البلاغة، فقد ~~استثقلوا الدرس وكرهوه وبرموا به، وتجرعوه تجرعا، إشفاقا من ~~العقوبة أو من التخلف إذا كان الامتحان! # وإني لأكره أن أقول إن إقبال كثرة التلاميذ على هذا الأدب الرخيص الذي ~~يخرج في العامية حينا، وفي تلك العربية المنكرة الشائهة أحيانا، ~~وتهافتهم عليه، وافتتانهم به، وأخذ الأقلام بمحاكاته وترسمه، ~~إنما هو أثر من آثار ذلك البرم والاستثقال لدروس العربية وآدابها في ~~معاهدنا المصرية! # والآن، فالرأي في قيام أدبنا القومي، وفي بعث لغة الكتاب العزيز، إلى ~~أساتيذ المدارس، وإلى وزارة المعارف، فلننظر ما هم فاعلون! # عثرة ورجاء # بقيت هنالك ms058 مسألة لا يجمل بنا أن نختم هذا المقال دون أن نعرض ~~لها بشيء من البيان: يقولون إن اللغة العربية فقيرة، أو إنها أصبحت فقيرة ~~بحيث لا تستطيع أن تؤدي بعض مطالب الحياة في هذا العصر إلا في شدة ~~عسر وحرج، ولا تستطيع أن تؤدي بعضها أبدا، وهذا كلام - على أنه لا ~~يخلو من الحق - فإنه لا يخلو من الإسراف إلى حد بعيد، إذ الواقع أن اللغة ~~العربية غنية سخية بالكثير مما يواتي مطالب العاطفة، ويصور نوازع ~~الشعور أحسن تصوير، فلقد بلغ المتقدمون من شعراء العربية في هذا الباب ما ~~لا أحسب أن قد برعهم فيه كثير من أصحاب البيان في اللغات الأخرى، ولو ~~قد نفض متكلفو الأدب دواوين أولئك الشعراء وفروا ما أجنت ~~من قصائد ومقطوعات، لخرج لهم من ذلك ما يبلغهم جليلا من تصوير ~~مختلف العواطف، والتعبير عن خفيات الحس والشعور، وهذا - لو علمت - ~~أجل مطالب الأدب في جميع اللغات، وحبذا لو أكثر الأساتيذ من ~~عرض هذه الأشعار على تلاميذهم، وتقدموا إليهم الفينة بعد الفينة بالحديث، ~~في الموضوعات الإنشائية، عن الحس والعاطفة في مختلف الأسباب، واستدركوا ~~عليهم ما عسى أن يكون أخطأهم في ذلك من ناصح البيان. # على أن هناك عقبة أخرى تحتاج إلى جهد في التذليل، وهي أنه في ركود لغة ~~العرب بانقباض حضارتهم، عقد ما لا يكاد يحصره العدد من الاصطلاحات ~~العلمية والفنية، واستحدثت أشياء كثيرة جدا في جميع وسائل الحياة، ~~سواء منها الضروريات والكماليات، ولا شك في أن إصابة هذه الأشياء في ~~لغاتها إفساد للعربية واستهلاك لها، كما أنه لا معنى للالتفات عنها إلا ~~الإعراض عن هذه الحضارة العريضة، بل الإعراض عن أكثر ما نجده وما ~~نعالجه في هذه الحياة، وهذه العقبة تقوم الآن على تذليلها جهود أفاضل ~~الأدباء من جهة، والمجمع اللغوي من جهة أخرى، بالغوص عما يدل على ذلك في ~~مجفو العربية، سواء بأصل الوضع أو بالطرق الفنية الأخرى. # ولقد يكون من المفيد في هذا المقام أن ننبه حضرات رجال هذا المجمع إلى ~~أن ms059 الاكتفاء بإثبات ما يتسق لهم من هذه المصطلحات والألفاظ في ~~معجم جامع أو نشرها في كراسات دورية ليس مما يجدي كثيرا في ~~إصابة الغرض المقسوم، فقد ثبت - بحكم التجربة - أن أبلغ الوسائل في ~~شيوع الألفاظ والصيغ المستحدثة أو المبعوثة من جاثم اللغة، وكثرة ~~دورانها على الألسن والأقلام، هي استعمال كبار الشعراء والكتاب لها، ~~وترديدها فيما تجليه الصحف السائرة لهم من الآثار، فحبذا لو سعى إلى ~~هذا أولياء اللغة، وخاصة فيما يتصل، مما يستظهرون، بالفنون ~~والآداب. # نسأل الله تعالى أن يهدي الجميع سواء السبيل. # | في النقد الأدبي # لا أزعم أنني استويت اليوم إلى مكتبي وهذا الموضوع الذي أتقدم للحديث فيه واضح ~~المعارف في رأسي، مجتمع الأقطار، بين الحدود؛ إنما هي خواطر تتطاير من هنا ~~ومن هناك في هذا الباب، وسأحاول بجهدي نظمها، فإذا اتسق منها موضوع واضح الشخص، ~~مستوي المعارف، وإلا فليأخذها القارئ على أنها خواطر نثار. # على أنه لم يبعثني على إرسال القلم فيما لم يدرك # 1 # بعد في نفسي، ولم يتسق لي من ~~أجزائه خلق سوي، إلا ما هالني من حال النقد الأدبي في هذه الأيام؛ فهذا النقد، ~~مع الأسف العظيم، لا يجري أكثره الآن على حكم الغرض المقسوم له من استعراض ~~الكلام، وطول تصفحه، وامتحان الرأي والذوق له، لإمازة جيده من رديئه، والدلالة ~~على هذا والإشارة إلى هذا، مع الإبانة عن وجوه التعليل، ولا أقول مع سوق البرهان ~~وإقامة الدليل، فإن مرد هذا في الأكثر إلى تقدير الذوق، شأن جميع الفنون ~~الجميلة، وقضايا هذه الفنون ليس مما يثبت في الغالب على القياس المنطقي في أي ~~شكل من الأشكال. # وأنت خبير بما يكون للنقد إذا وقع على جهته من الأثر البعيد في تصفية الآداب، ~~والاطراد بها في سبل التقدم إلى ما شاء الله، وهذا يكون بتبصير المنشئين ~~بمواطن الإجادة ومواطن الضعف فيما يخرجون من الآثار، ليأخذوا أنفسهم بتحري ~~ما ذهب النقد السليم إلى أنه الخير، كما يكون بتفتيح أذواق القارئين وإرهاف ~~حسهم حتى يفطنوا إلى دقائق الصنعة، ويستجلوا مواضع الحسن ms060 في الكلام ~~فتجتمع لهم بهذا خلال: منها العلم بفن نقد الكلام، والقدرة على تمييز ~~جيده من رديئه، وطيبه من خبيثه، ومنها جلاء الذوق وإرهاف الحس، ولا شك أن ~~استمتاع من يتهيأ له هذا والتذاذه بروائع الفن لا يمكن أن يدرك بعضه ~~من لا حظ له في شيء من ذلك، إذا صح أن يكون لمثل هذا بالفن الجميل ~~متاع! # وللنقد فوق هذا مزية أخرى لا ينبغي أن تسقط من الحساب: ذلك بأن قيام النقدة ~~وارتصادهم لما تنتضح به قرائح المتأدبين، من شأنه أن يدخل الحذر على هؤلاء ، ~~فلا يتكئوا في شأنهم على البهرج يزيفونه للجمهرة تزييفا، بل إنهم ليجتمعون ~~للتجويد، ويشمرون في تحري الإصابة والإحسان ما واتى جهدهم الإحسان، إن لم يكن ~~للظفر بالثناء الرفيع يذهب به الصيت والذكر، فللسلامة على التهجين وسوء ~~المقال. # ولقد شهدنا في عصرنا هذا من كبار الأدباء من لا يجلو على الجمهور شيئا من أدبه ~~إلا بعد أن يعرضه على عنق من النقدة، فما أجازوه منه أمضاه، وما استدركوه عليه ~~استدركه بالتسوية والتغيير والإصلاح، وما يفعل أحدهم ذلك لأنه ضعيف الرأي في ~~نفسه، ولا لأنه لم يذهب بأثره إلى غاية الإعجاب، وإنما هو الخوف من النقد، ~~والشهوة إلى استخراج الثناء ممن لهم في إذكاء شهرة الأديب ورفع صيته أثر كبير ~~أو صغير! # ولا شك أن هذه الخلة في بعض أصحاب الأدب معيبة بمقدار ما هي ضارة، أما وجه العيب ~~فيها فيما تدل على تخاذل الطبع، وإظهار الناس على عدم الثقة بالنفس، وأما وجه الضرر ~~فلأن خير أدب الأديب ما يصدر عن نفسه ويترجم عن حسه، بحيث يكون صورة صادقة له ~~هو، لا لمزج منه ومن سواه من الأدباء! ولا أحب أن أغفل في هذا المقام شيئا له ~~خطره الشديد: ذلك أن الناقد مهما تبلغ دقته ونفوذ نظره ونزاهته عن كل هوى، لا ~~يكفل له التوفيق على الدوام، فلقد يكون الرأي في كثير من الأحوال في جنب ~~المنشئ الأديب لا في جانبه، هذا إلى أن موهبة الشاعر ms061 أو الكاتب أو المفتن على ~~العموم، قد تنزع نزعة مستحدثة طريفة تنشز على مستوى العرف الفني القائم، ~~فلا تلقى أول الأمر من الأذواق إلا إنكارا؛ فرد المفتن على هذا إلى ما ~~شاع به العرف وانعقد عليه الذوق العام، صد للعبقرية عن سبيلها الذي لو قد تهيأ ~~لها أن تطرد فيه لجاز أن تستحدث في الفن أعظم الأحداث، شأن جميع الفورات ~~التي هي في الواقع شرع جديد لنظام جديد في أي سبب من أسباب الحياة، على أن ذلك ~~العيب وهذا الضر لا يرجعان إلى النقد ولا إلى النقدة، وإنما يرجعان إلى طبائع ~~هؤلاء المفتنين. # وكيفما كان الأمر، فإنني إنما أردت أن أبين خطر النقد على كل حال. ~~••• # والنقد، ولا شك، قديم يقوم بقيام الفنون في كل زمان وفي كل مكان، فإن المفتن ~~مهما يبلغ من صغوه لفنه، وصدق هواه إليه، ومهما يجد في ذلك من ~~اللذة والاستمتاع، فإن لذته واستمتاعه إنما يكونان أتم وأوفى إذا ظفر من الناس، ~~وخاصة من أصحاب البصائر، بحسن الرأي وجلالة التقدير، وأحسب أن المفتن الذي لا ~~يدخل في حسابه هذا وما زال معه عقله لم يخلق بعد في الزمان، وما دام الحديث في ~~النقد الأدبي فلنقصر الكلام على أهل الأدب، وإن كان المفتنون جميعا في ذلك ~~أشباها. # وإذا قلت لك إن النقد قديم، فاعلم أن احتفال الشعراء والكتاب للنقد، وجهدهم ~~في استخراج رضا النقدة، واستدراج ألسنتهم بالثناء عليهم والهتاف بآثارهم كذلك ~~قديم، وإن من يتصفح تاريخ الشعر والشعراء من مطلع الدولة الأموية، وتاريخ ~~النثر والنثار من يوم احتفل أهل البيان للنثر الفني في عصر الدولة ~~العباسية، لا يتداخله أي ريب في هذا الكلام. # نعم لقد كان الأدباء، والشعراء منهم خاصة، يصانعون النقاد، ويعملون جاهدين على ~~الزلفى إليهم ابتغاء المنزلة عندهم، وإيثارهم بألوان التبجيل والتكريم، وكثير ~~منهم من كان يعرض شعره عليهم لامتحانه واختباره قبل طرحه على سائر ~~الناس، إن لم يكن لحسن الظن بإدراك ملكاتهم، وحدة إحساسهم ورهافة ~~أذواقهم، فلإطلاق ألسنتهم فيهم بحسن المقال، وإلا فكيف ms062 للمفتن بانطلاق الذكر ~~وذهاب الصيت عند الجمهور، وليس له - في العادة - وسيلة إلى هذا إلا تقدير ~~هؤلاء؟ # وإني لأذهب في تقدير النقد، والإبانة عن خطر النقدة إلى ما هو أبعد من هذا من ~~جليل الآثار، فإن أثر هذا إذا اتصل بشهرة الشاعر أو الكاتب والذهاب بصيته، فإن هذا ~~الذي أرمي إليه هو جدوى النقد على الفن، وإن شئت تعبيرا أدق وأدل على بعد الأثر، ~~قلت في بناء الفن نفسه وتأصيل أصوله، وتقعيد قواعده، وتفصيل فصوله، وحسبك في ~~هذا الباب أن تعرف أن علوم البلاغة ما كانت لتكون لولا نقدة الكلام، إذ الواقع ~~أن قواعد هذه العلوم، في الجملة، وأعني علوم البلاغة، إنما انعقدت بتقصي ~~ما أثر عن نقدة الكلام في الأجيال المتعاقبة من الكشف عما يضمر هذا البيت ~~أو هذه الجملة من معنى كريم، والدلالة على ما جلي فيه من نسج متلاحم ومن ~~لفظ نير شريف، ومن التفطين كذلك إلى ما يقع من فسولة معنى، واستكراه ~~لفظ، وتزايل تركيب، ونحو ذلك، فعلى هذا التقصي قامت علوم البلاغة على الجملة، بل لا ~~حرج علينا إذا زعمنا أنها مدينة في قيامها لنقد الناقدين، ولعل بلوغنا هذا ~~المعنى الذي استدرج إليه تداعي الكلام من غير سابق نية من أسعد الفرص التي ~~تهيئ لنا أن نصارح بأن هذه، علوم البلاغة، على شأنها الذي انعقدت عليه ~~منذ الأجيال الطوال، لم يصبح لها من الأثر، سواء في تحري ألوان البلاغات أو في ~~إجراء مقاييس النقد، كثير من الغناء، فالبلاغة لم تكن قط في إصابة معنى مأثور، ~~ولا في نظام لفظ موروث، ولا في استنان أسلوب معين من أساليب البيان، وإنها ~~لم تكن كذلك في يوم من الأيام، وإنها لن تكون كذلك في يوم من الأيام، على أن هذا ~~شيء قد وقع على سبيل الاستطراد، فلندعه إلى حديث خاص، فإنه قد يحتاج إلى كلام ~~طويل. ~~••• # وبعد، فهذا موضع النقد من الأدب، وهذا أثره فيه من قديم الزمان، ولا يذهب ~~عنك أن هذا النقد، إذا استثنيت ما يتصل ms063 منه باللغة أو بقوانين النحو ~~والصرف، إنما مرجعه في الكثير الغالب إلى سعة الخبرة بالأمور على وجه عام، وإلى ~~شدة الفطنة، وصفاء الذهن، ورهافة الحس، وكمال الذوق، بحيث يتهيأ للناقد من ~~النفوذ في باطن الكلام، والتفطن إلى دقائقه واستظهار ما فيه من حسن أو من ~~مكنون عيب، ما يعيا عنه أكثر الناس، ذلك كان متكأ النقد ومصدر وحيه، ~~لا ضابط له وراء ذلك من قانون، ولا من نظام مسنون. # بل إنه لكثيرا ما كان النقد يجري مجرى النكتة ويأخذ مأخذها في الكلام، أعني أنه ~~قد يكون أثرا للمحة الخاطفة من الذهن، ما تعتمد على أصل ثابت من التعليل ~~والتوجيه، وكثيرا ما كان يتعسف في هذه النكتة أيضا رغبة في التشهير ~~واحتيالا على إسقاط الكلام، وإن من يتتبع كتب الأدب العربي ليقع له ~~من هذا الشيء الكثير. # ولعل مما بعث على هذا وحمل النقدة عليه أن النقد إنما كان يوجه على ~~كل بيت في القصيدة استقلالا، قل أن يسلك في عبارة نقدية بيتان أو أبيات، ~~وذلك راجع إلى طبيعة الشعر العربي من عدم اعتبار القصيدة - في الغالب - وحدة ~~ماثلة الشخص، واضحة الصورة، مستوية الخلق، ينزل البيت فيها منزلة الجزء من ~~الكل، والعضو من الكائن الحي، لا يتشخص إلا بمجموعة الأعضاء. # بعد هذا الاستطراد اليسير نرجع إلى الحديث في أثر النقد في توجيه الآداب: وإذا ~~كان للنقد مع هذا، ومع هذا كله، هذا الأثر البعيد في حياة الأدب العربي، فكيف كان ~~يكون شأنه اليوم في ذلك، وقد أصبح للنقد مناهج واضحة، وطرق معبدة، وحدود ~~مرسومة، وأصبح يتكافأ كثير من وسائله على قضايا العلم، وإن لم يزل للذوق فيه ~~أثره البعيد؟ وعلى الجملة لقد أصبح النقد الأدبي فنا من أرفع الفنون في هذا ~~العصر الحديث. # أقول كيف يكون شأن الأدب العربي اليوم لو جرت الطرق على أزلالها، وأخذ جمهرة ~~نقادنا أنفسهم جاهدين بمذاهب النقد الحديث، على أن يكونوا في نقدهم نزهاء مخلصين، ~~وعلى ألا يجروا أساليب النقد الغربية كما هي على كل ما ms064 يخرج لهم من آثار أدبنا ~~العربي، فذلك إلى ما فيه من عسف وعنت، فيه أذى للأدب كبير، فإن مما لا ~~شك فيه أننا نفارق القوم في كثير: نفارقهم في العقليات، وفي الأخلاق والعادات، ~~وفي التاريخ والبيئة، وفي النظام الأدبي، كما نفارقهم في الأذواق، ولا يذهب عنا أن ~~الأذواق هي مستمد الفنون على وجه عام. # لقد لاح لك ما يكون للنقد، إذا سار على هذا النهج، من عظيم الجدوى على أدبنا ~~العربي، بانتخاله وتصفيته، ودفعه في طريق الكمال حتى يوفى بجهد الناقدين على ~~الغاية لو كان للكمال حد مقسوم؛ فهل نحن الآن فاعلون؟ # فوضى النقد الأدبي # الواقع أن الأمر ليس كذلك مع الأسف الشديد؛ هذا هو الواقع الذي يشركني في ~~تقريره كثير، ويشركني في الإيمان به الجميع، وإن جحده من تميل بهم ~~الأهواء عن قصد السبيل! # الواقع أن النقد عندنا أصبح فوضى ما تفتأ تستفحل وتستحصد، حتى ~~بات يخشى أن يضل الناشئين عن كل أدب صحيح، إذا لم يأت بالفعل على ~~كل أدب صحيح. # وإنني لأتقدم إلى تقرير هذا الواقع المر وتبيينه، لأنني امرؤ لا ~~أنتمي - والحمد لله - لشيعة، ولا أتصل بحزب من هذه الأحزاب ~~الأدبية القائمة في البلاد الآن، ولا يستطيع زاعم أن يزعم أني دعوت لنفسي ~~أو دعوت لأحد من الأدباء في يوم من الأيام. # وعلة هذا، في تقديري، تعود إلى السعار الذي لحق كثيرا من متأدبي هذا ~~العصر إلى طلب الشهرة ونباهة الذكر من أخصر طريق، وليس في هذه الطرق أخصر ولا ~~أيسر من التهويش وصب المديح جزافا، وهيل الثناء وإضفاء النعوت وإفراغ ~~الألقاب بغير حساب! # والأديب لا يستطيع أن يضطلع لنفسه بهذا وحده، مها يجد ويسرف في ~~انتحال الأسماء والألقاب، يضيف إليها ما تفضل به في نعت نفسه من سابغ ~~المقال، بل لا بد له في بلوغ الشأو وإدراك الغاية من الاستعانة بغيره على ~~مهمه، وكلما كثر هؤلاء الأنصار والأعوان هان بالضرورة إحراز الشهرة في ~~أقرب آن، وهؤلاء الأعوان لا ينهضون لهذه الخدمة بغير ثمن عيني، أي ms065 بدون أن ~~يبادلهم صاحبنا المديح ويقارضهم الثناء، ومن هنا كان للأدب عندنا في ~~هذه الأيام أحزاب وشيع هي أشبه ما تكون بالشركات المالية يساهم فيها ~~الجميع، فتعود جدواها على الجميع! # ولقد دعا هذا بالضرورة إلى التنافس والتباري بين هذه الأحزاب والشيع ~~الأدبية، وهذه الهيئات أو الشركات رأس مالها قائم على الكلام، فهي إنما ~~تتنافس وتتبارى بالكلام، وهذا الكلام عبارة عما شئت من غلو وإسراف في إراقة ~~الثناء من كل منها على كل أثر يصدر عن أي كان من المنتمين إليها، ~~والارتصاد بلاذع النقد لما يظهر من أثر كل خارج عليها، وهكذا ديست ~~حرمة الأدب، وعفر وجه النقد الكريم بالتراب! # ليس يعني الأدب كثيرا أن يغمط أديب بعض حقه، أو أن يغمط حقه كله، ~~ولا يعنيه كثيرا أن يفرغ على متأدب من النعوت والألقاب ما لا يرتفع ~~إلى بعضه كل قدره، ليس هذا مما يعني الأدب في ذاته كثيرا، وإنما الذي ~~يعنيه ويجهده ويعنيه هو فقدان المقاييس الأدبية التي هي المرجع ~~الصحيح أو القريب من الصحيح في تقويم حظوظ الآداب. # هذا شعر خالد! وهذه شاعرية جبارة! وهذا المعنى من وحي السماء! وهذا فلان يؤدي ~~رسالة الأدب إلى العالم ... إلخ، يا لطيف! يا لطيف! # مهلا رويدا أيها الناس، فلقد والله ابتذلتم النعوت وأرخصتم الألقاب، وما ~~لها لا ترخص ولا يلحقها أشد الوكس، وقد أصبحت لا تدل في أكثر ~~الأحيان إلا على كل تافه وكل هزيل! # نعم، لقد خرجت هذه الألفاظ عن معانيها الموضوعة لها، فالألفاظ تخرج عن ~~معانيها بالاستعمال حتى تصبح حقائق عرفية، بل حقائق لغوية بطول صرفها إلى ~~معان جدد، كذلك سنة اللغة من قديم الزمان! ولقد تبحثون غدا عن ألفاظ ~~تؤدي هذه المعاني على حقائقها وتجلو صورها المتمثلة في صدور الناس فلا ~~تخرجون من هذا بكثير ولا قليل! ~~••• # وبعد فلقد تجود بعض القرائح بالشعر الخالد، ولقد تصل الشاعرية إلى مرتبة ~~الجبروت، ولقد يكون فينا اليوم، ولقد ينجم فينا غدا من يستحق بنبوغه وارتفاع ~~مواهبه شيئا من هذه النعوت والألقاب، فكيف ms066 ندعوه؟ وبماذا ندل على موضعه؟ وما ~~الذي نميزه به من سائر المشتغلين بالآداب؟ # ثم إذا كانت هذه الألقاب والنعوت الضخمة التي لا ينضحها الزمان على ~~الأفراد في الأمم الأخرى إلا في الحقب الطوال، إذا كانت هذه النعوت والألقاب ~~مما لا ينقطع عندنا وبله المدرار، لا في الليل ولا في النهار، فترى ~~ما الذي يبعث الهمم ويشحذ العزائم في إنضاج الملكات، وتربية ما عسى أن ~~يكون مطويا من الموهبات في بعض النفوس، والمطلب يسير، وأضخم الألقاب معروضة ~~بأبخس الأثمان في أكسد الأسواق؟ # لقد يحتج علي بأن في مصر عنقا من مشيخة الآداب، وأن فيها كذلك ~~فريقا من شباب الأدباء، وهؤلاء وأولئك يأخذون أنفسهم في باب النقد الأدبي ~~بما شئت من دقة ومن نفوذ ومن إنصاف، وهذا حق لا ريب فيه، ولكن لا تنس ~~أن هؤلاء قد غمرت آثارهم الكثرة الكثيرة بما تتهافت به كل يوم من ~~النقد الفسل المغرض الشهوان، وبهذا يفوت الأدب نقد الفاضلين ~~الأكفاء النزهاء. # وإذا اجتمع علينا إلى فقدان موازين النقد الأدبي إهدار رأي كل ذي رأي، ~~وتهاون قدر كل ذي قدر، وإضلال الناشئين في بيداء مجهل، فذلك ~~الخذلان من الله، والعياذ بالله! # أسأل الله تعالى أن يتولانا بهدايته، إنه على كل شيء قدير. # | في رثاء صبري1 # مضى المغفور له إسماعيل باشا صبري إلى جوار ربه كما مضى قبله وكما يمضي بعده ~~كل من يتكلف شعرا أو يعالج فنا أو يشارك في علم، وعقدوا له يوما ~~للرثاء كما عقدوا وكما يعقدون لأولئك كلهم، ودعوا للقريض شوقي وحافظا ومطران ~~والهراوي وعبد المطلب كما يدعونهم للقريض في كل ذاهب، وشمر شوقي وحافظ ومطران ~~وعبد المطلب والهراوي للشعر كما شمروا لغير إسماعيل صبري، ولقد قالوا في صبري ~~كما قالوا في الناس كلهم: إن وجهه آلق من البدر، وإن راحته أندى من البحر، ~~وإن شمائله أزكى من الزهر، وإن عبقريته أبقى على الدهر من الدهر! # ولقد قالوا مثل هذا كله فيمن خفوا لرثائهم ممن لا نحب أن نزدري أقدارهم، أو ~~نتهاون أخطارهم ms067، أو نذم أشعارهم، ولكنهم على كل حال لم يبلغوا كثيرا ولا ~~قليلا مما بلغ إسماعيل باشا صبري جلالة نفس، ولا عظمة خلق ولا فصاحة شعر، ~~ولا فتحا في الأدب هذا الفتح! # لقد أخرج الأولون «الموازين» ليقدروا خفيف الأجرام وثقيلها، وصنعوا ~~«المكاييل» ليعرفوا كثير الحبوب وقليلها، وضبطوا «المقاييس» ليحددوا قصير ~~الأمدية وطويلها، ونحن إلى الآن لم نوفق إلى ذلك «الميزان» الذي يضبط ~~لنا المقال، إذا تصدينا يوما لقدر أقدار الرجال! # سنطوى نحن وسيطوى من بعدنا، وسيخلف من بعد أولئك خلف لم ~~يتصلوا بمجالسنا، ولم يترووا شيئا مما يجري على ألسنتنا، فإذا أحب هؤلاء ~~أن يعرفوا مقدار حكمنا على كل رجل من رجالنا، صاروا ولا محالة إلى ما نحن ~~مثبتوه في صحائفنا، ولكأني أنظر إلى هؤلاء الخلف وقد شاع فيهم العجب، وملك ~~الدهش عليهم كل مذهب، لأن وصفنا لكل علمائنا واحد، ونعتنا لكل ~~أدبائنا واحد، وقدرنا لكل شعرائنا واحد؛ حتى لأحسبهم يحسبون أنه كانت لدينا ~~مطبعة لكبار الرجال، فمهما تتكرر نسخها فإن صورتها كلها واحدة! # لقد يطمع الرجل الحسان في ثواب التاريخ أكثر مما يطمع في ثواب دنياه، فيا ويح ~~«العبقرية» ويا ويح الإحسان من حكم التاريخ، إذا كان الناس جميعا سيجلون غدا ~~في صورة سواء! # | الأدب الحاد # من الواقع الذي لا يتطاول إليه الشك أن مصر تنبعث الآن في نهضة قوية في كثير من ~~أسباب الحياة، وفي صدرها الثقافة بوجه عام، والأدب على وجه خاص. # لم يصبح الأدب مجرد فضل من الكلام لا يكاد يطلب به شيء، ولم يبق للأدب ~~مضطرب في تلك الأغراض الهزيلة التي كان يضطرب فيها الأجيال التي ~~تقدمتنا من العصر التركي إلى خمسين سنة خلت، ولم يمس جهد الأديب ~~متجردا في طلب المحسنات البديعية واستكراهها على الكلام، بله تسوية ~~الكلام لمجرد إصابة تلك المحسنات فحسب، لا! لا! لقد عز الأدب في هذا العصر، ~~واستحصد ملكه، وعظم شأنه، بما ارتصد لتجلية الفكر، وأداء مطالب ~~العقل، والتسلية عن النفس وتلذيذها بكل جميل وبكل بديع. # وفي الغاية، لقد جعل الأدب ms068 يتبسط من يمينه ومن شماله حتى كاد يستغرق، ~~بجهد أعلام البيان، جميع الأسباب الدائرة بين الناس، فإذا تقاصر الأدب العربي اليوم ~~عن توفي شيء من الأشياء، فإنه لبالغه في القريب بعون من الله وبتظاهر جهود ~~الأدباء. # على أن ما من حقه أن يلفت النظر في هذه النهضة البيانية - ولا أحسب ذلك ~~مما دق على أفهام الكثير من جمهرة المتأدبين في مصر - أن الأدب العربي في جميع ~~ألوانه وصوره، قد أصيب في هذه السنين بنوبة عصبية قبل أن تفارقه أو ترق عليه، ~~وإن كانت هذه النوبة أثقل على أقلام الكتاب منها على أقلام الشعراء. # وبعد، فأنت خبير بأن لكل مقام من مقامات الكلام بيانا يحسن به ولا يحسن ~~بغيره ولا يحسن هو في غيره، فهذا الباب لا يصلح إلا بسطوة القول وحدة القلم، ~~وهذا الباب لا يجوز أداؤه إلا في لين لفظ ورفق تعبير، وهذا الباب لا يحمد ~~الكلام فيه إلا بالاجتماع لتجويد الصياغة وإحكام النسج، والإصابة من فنون البديع ~~بما لا يستهلك الغرض أو يسيء إلى المعاني، وهذا الباب لقد يرذل فيه مثل ~~هذا ويعاب كل العيب، فإن من يستنفر قومه للجهاد ذيادا عن شرفهم ~~ودفاعا عن حريمهم، لا كمن يصف مجلس لهو في روضة معطار، قد لعب النسيم ~~بأغصانها، وغرد الهزار على أفنانها، وإن مثل ذلك اللعب باللفظ واعتماد نكات ~~البديع لسمج كل السمج بالمرء يرثي ولده ويصف ما أجد له الأسى من ألوان ~~البرح، وما أحدث الثكل في كبده من صدوع ومن قرح. # هذا إلى أنك في الباب الواحد قد تقول في هذا الموضع كلاما لا يجمل بك أن تقوله ~~في موضع آخر منه، فإن من يزل لسانه بالكلمة العوراء في صديقه، ليس كمن يسعى في ~~إردائه أو الإصابة من شرفه مثلا، فهذا يقال في عتابه أو هجائه كلام، وهذا ~~يوجه عليه كلام آخر. # وبعد، فليست بنا حاجة إلى التقصي وطلب الصور المختلفة لمقامات الكلام؛ فذلك ~~من القضايا المفروغ منها، ولقد أجمل الأقدمون هذا المعنى فقالوا: «لكل مقام ms069 ~~مقال.» # ونرجع الحديث، بعد هذا، إلى ما سقنا له الكلام: أسلفنا أن الأدب العربي، في ~~جميع ألوانه وصوره، قد أصيب في هذه السنين بنوبة عصبية قل أن تفارقه ~~أو ترق عليه، وحسبك أن تقلب النظر في الصحف السياسية مثلا، فلا ترى إلا ~~عنفا ولا ترى إلا حدا، وخاصة في مقام الجدل الحزبي، وإذا لم يكن في كل هذا ~~الباب ما يجوز أن يجرى القلم فيه هينا رفيقا لأن موضع النزاع هين ~~رفيق، أفكل مواضع الخلاف - على كثرتها وتفرق مذاهبها - حقيق بأن يصل العنف ~~فيه إلى أقصى مداه ، وينتهي إلى غاية منتهاه. # اللهم إن من البديه أن التهمة - إذا كانت هنالك تهم - من المقولات بالتشكيك، ~~على تعبير أصحاب المنطق، وهي في باب السياسة تنتهي بخيانة الوطن - والعياذ بالله - ~~وتبدأ بالتفريط اليسير في اليسير من الحقوق العامة، وبين هذين الحدين مراتب ~~كثيرة، ولكننا تعودنا أن نسم كل هذا بميسم واحد، ونطبعه بطابع ~~واحد، ونجري القول فيه بدرجة سواء! # وما لي وللسياسة وكتابها، فذلك شيء قد نترت منه يدي من زمان بعيد، ولا ~~والله ما قصدت - وأنا أصيب من هذا المعنى - صحفا بأعيانها، ولا تمثل لي ~~كاتب بشخصه، فلقد أضحت هذه الخلة من عموم البلوى، على تعبير جماعة ~~الفقهاء. # ولقد تزعم أننا في كفاح سياسي عنيف، ومن شأن هذا الكفاح أن يرهف الأعصاب، ~~ويحد الأقلام، ويثير في النفس أعنف الشهوة إلى الخصم والفلج، لقد تزعم ~~هذا، ولقد أستريح إلى هذا الزعم معك؛ فلنترك السياسة ولنترك الساسة يمضون ~~لطياتهم راشدين، ولنتحول إلى غير هذا من مقامات البيان التي لا شأن لها ~~بالسياسية ولا شأن للسياسة بها: سرح نظرك في أي جدل ديني أو علمي أو فني، ~~فإنك لا تصيب إلا عنفا وإلا حدة في منازع الجدل والحوار! # ثم تعال نطالع المسرح المصري، فإننا لا نكاد نسمع منه إلا هدة الهدم، ولا ~~نشاهد فيه إلا مسيل الدماء وتسعر النيران، هكذا يؤلف الكاتب المسرحي غالبا، ~~وهكذا يختار المترجم للمسرح المصري من فنون «الروايات»! # وهنالك شبان ناشئون ms070 يعالجون وضع «الروايات» القصصية، أفرأيت فيها في ~~الكثرة الكثيرة إلا المآسي، وإلا أعنف المآسي وأحدها، من ثكل الولد، ~~وموت الخطيب، وفرار العروس، وخراب الدور العامرة؟ فإذا كان هناك هوى وصبابة، ~~فخذ ما شئت من أقسى المعاني وأشدها، ومن أعنف الصور وأحدها، ~~وعلى الجملة فأنت لا تكاد ترى في صور أدبنا المختلفة إلا مظاهر تلك العصبية التي ~~غشيتنا جميعا في هذه السنين! # وإني لأذكر أنني دعيت لتقدير الدرجات في بعض الامتحانات الخاصة في مادة الإنشاء، ~~وكان الموضوع المطروح على الممتحنين لا تستدعي طبيعته جدلا ولا تشميرا للقهر ~~والفلج ، فإذا كان ولا بد ففي لين القول ورفيقه كفاية وغناء، ولكن لم ~~يرعني إلا أن أرى الكاتبين جميعا قد أشبوا حربا وتمثلوا وجاههم ~~عدوا، وسرعان ما ضريت نفوسهم وثارت حفائظهم، فاستحالت الأقلام في أيديهم ~~قنا خطية راحوا يشقون الصفوف بها شقا، ويدقون بها أصلاب الأقران دقا، ~~وما برحوا في كر وفر، ومد وجزر، وهل جاءك حديث الطرف الأغر؟ ثم تم ~~لهم النصر والغلب، ومضى هذا في تعقب من فر وطلب من هرب، ~~وتجرد هذا في استخلاص السبي واستصفاء السلب! # ولقد نبهت إلى هذا تنبيها قويا في تقريري الذي رفعته إلى وزارة المعارف ~~يومئذ، وعلمت بعد من كبير في الوزارة أن الرأي قد اجتمع على لفت أساتيذ ~~الإنشاء في المدارس إلى ذلك. ~~••• # ولست أكتم القارئ أن هذه الحال لا بد عائدة على الأدب العربي بأبلغ الأخطار، ومن ~~هذه الأخطار حرمان المتعلقين بالأدب الاستمتاع بكثير من الفنون التي لا تستريح إلا ~~إلى الدعة والرفق واللين، كالوصف، والتحليل، والكشف، والتفكيه، وألوان ~~المداعبات، ولا تنس وراء ذلك تلك المغازي البعيدة الرائعة التي ~~يشكلها الكاتب اللبق النافذ القلم، في سراح ورواح، # 1 # حتى ~~ليخيل للقارئ أنه لم يطلبها ولم يتعمدها، وإنما هي التي سقطت ~~إلى الطرس من عفو القدر! # ومن هذه الأخطار الذهاب بملكة الوزن والتقدير، ووضع كل شيء في نصابه، ~~ومكافأته على قدر ما يخرج من حسابه، فإن الثائر المهتاج لا يصلح لتقدير شيء، ولا ~~يصح حكمه على ms071 شيء، ومن هنا يتبين كيف تسيء هذه الحال إلى كثير من قضايا ~~العلوم والآداب والفنون، كما تسيء إلى غيرها من الأسباب الدائرة بين الناس! # ومن هذه الأخطار أننا أصبحنا لا نشرع القلم إلا إذا كنا غضابا، فإذا ~~أعوزنا الغضب زررنا على أعصابنا، وتكلفنا إرهافها وإذكاءها لنعتصر آخر ~~ما فيها من جهد، وتصول بكل ما تملك من سطوة، وهذا إلى أنه مما يخبث من نفس ~~الكاتب والقارئ بطول التكرار والمعاودة، فإنه مما يهد منهما، ويسرع ~~بالاختلال إلى أعصابهما جميعا! # وبعد، فإنه إذا كانت الغاية من ذلك الإرهاف والإعناف شدة التأثير في نفس القارئ ~~والسطوة بكل مشاعره، فإن ذلك قد يأخذ فيه أول الأمر هذا المأخذ ويبلغ منه غاية ~~المدى، على أنه بعد ذلك لا يزال - بحكم التكرار وطول المراجعة - يعتاده ~~ويتألفه، حتى إذا تطاول الزمن تبلد على ذلك العنف حسه، فلا يثير ~~فيه كامنا، ولا يحرك منه ساكنا، فيصبح مثله مثل من تصفى بعض ~~المخدرات في مبتدأ الأمر نفسه، وتذكى حسه، وتحضر ذهنه، وتطير فكره ~~وخياله كل مطير، ثم ما يزال يتخاذل هذا الأثر عنه ويتزايل فيه حتى يتفقد حاله ~~المعتادة وطبيعته المفطورة، فلا يجد بعضها إلا في هذا الذي تعود، ولقد ~~يدركه العجز كله مع هذا فلا يعود يجد من أصل طبيعته ومفطور قوته شيئا ~~ألبتة! # أفرأيت كيف تجني الحدة حتى على نفسها وعلى الغاية التي تحمد هي ~~فيها؟ # ثم إنك لقد تظفر بإسالة الشئون، وتقريح الجفون، وتكريش الجلود، وتصديع الكبود، ~~حين تشهد الناس طفلا فرق الترام أجزاءه، أو شابا هوى في النيل بعروسه، أو ~~عجوزا فقدت ولدها وحيدها بعد مصرع زوجها، أو بنية حافلة بالسكان ~~تستعر فيها النار ولا يجد من فيها من الشيخة والطفل الصغار مهربا، ~~وغير ذلك مما يقع كل يوم من ويلات الدنيا وأرزائها. # تستطيع أنت وأستطيع أنا ويستطيع كل إنسان أن يبلغ هذا بهذا، ولكن أي فن ~~فيه؟ وأية كفاية لا يبلغ إلا بها؟ اللهم إن كان مثل هذا الضرب مما يحتاج إلى ~~الموهبة والإصابة ms072، فكل الناس فيهما بمنزلة سواء! وهيهات بعد ذلك التفريق بين ~~الكاتبين في المقدار، ولا يذهب عنك في هذا الباب أن أجود الطعام وأردأه يستويان ~~ما أهلت الملح أو غمرت في الخردل ونحوه من الحريفات! ~~••• # فإلى شباب المتأدبين أوجه هذه الكلمة «العصبية»، وأرجو أن ينعموا النظر ~~فيها، فإذا صحت عندهم راضوا النفوس على الوداعة والتطامن، والرجوع إلى الطبع، ~~ومن البلية أن يرتاض المرء ليعود إلى طبعه ويرجع إلى أصل فطرته، فقد قالوا: إن ~~العادة طبيعة ثانية، وإنما توجهت بهذا الخطاب إلى الشباب لأنهم عتاد الحاضر ~~وهم ذخيرة المستقبل ، وهم الأقدرون على منازعة العادة، والله يهدينا ويهديهم إلى ~~سواء السبيل. # | رسالة الأدب! # من الصيغ التي يكثر دورانها هذه الأيام على أقلام المتحدثين في الفنون «رسالة ~~الأدب أو الفن» و«رسالة الأديب أو الفنان»، تشيع هذه الصيغة في حديث المتحدثين في ~~أسباب الفنون، ويكثر دورانها على أقلام المتعلقين بالآداب منهم خاصة، شأن كثير ~~من الصيغ والكلمات التي يعتمدها بعض الظاهرين من الكتاب لأداء بعض المعاني ~~الطريفة يستحدثونها في العربية استحداثا، وهذا في القليل النادر، أو يترجمون ~~بها عن تعبيرات إفرنجية، وهذا في الكثير الغالب، وسرعان ما تنتضح بها الأقلام، ~~حتى لقد تنتظمها أقلام نشء المتأدبين من غير حساب، إلى أن تمل بكثرة ~~الابتذال، وإلى أن تفقد معناها بطول تذريتها ذات اليمين وذات الشمال! ~~وإنك ما تكاد اليوم تشق صحيفة من الصحف حتى تأخذ عينيك من جميع أقطارهما كلمة ~~من هذه الكلمات الدائرة من نحو «القدر الساخر»، أو «يا لسخرية الأقدار»، و«رسالة ~~الأدب» أو «رسالة الأديب» وغير ذلك مما تراه فاشيا في رسائل بعض المتأدبين في هذه ~~الأيام، حتى يكاد يشيع فيك الاعتقاد بأن هذه الكلمات أو تلك الصيغ المستطرفة هي ~~مادة المقال وملاكه، والغرض المقسوم بنظمه والتشمير في وضعه وإنشائه، وإن طلبت ~~تعبيرا أبلغ دقة وصراحة، قلت إنك لا تخرج من النظر في بعض هذا إلا بالشعور ~~بأن الكاتب لا يعني من حديثه شيئا، وأنه لم يجتمع لتأليف مقاله ليؤدي ~~غرضا، لأنه ms073 لا يتراءى له غرض، وأن كل ما يريد من الأمور وما يملك، أن يزجي ~~طائفة من الصيغ والكلمات الطريفة التي أثرها عن بعض مشهوري الكتاب! # هذا غرض يدلك بنفسه على منجمه، ويهديك - في غير عسر - إلى جوهر ~~علته، وهي لا تعدو في الغاية إرخاص الأدب وتيسير انتحاله لمن شاء من أهون ~~سبيل، وليس أدل على هذا ولا أبلغ في الاحتجاج له من شيوع هذه الكلمة التي ~~اتخذناها موضوعا لهذا المقال، أعني «رسالة الأدب»، وكثرة دورانها على ~~الأقلام! ~~••• # وبعد، فهل للأدب، أو للفن على جهة العموم، رسالة؟ وما رسالته التي يحملها ~~الأدباء أو المفتنين؟ # هذه كلمة فيما أعلم جديدة، أعني أنها لم تقع لي في كل ما قرأت للمتقدمين، ~~فإذا كانت مما سبقت به الأقلام ولكنها لم توافقني في كل ما أرسلت فيه ~~النظر، فإن علمي بها على ذلك هو الجديد. # وكيفما كانت الحال، فإنه ما خفق معنى هذه الكلمة في ذهني إلا راعني وتعاظمني، ~~فأسرعت إلى رده عنه وتوجيه القول فيه على لغو الحديث، وأحلته إلى ذلك ~~الضرب الشائع من الألفاظ في هذه الأيام، لا يضبط معنى من المعاني، ولكنه ~~يبذر فيه على الطرس بذرا، قصدا إلى محض التزيد والإطراف. # وقبل أن يهولك مني هذا الكلام ويروعك، أرجو أن تطيل النظر والتدبير في معنى ~~«رسالة العلم أو الفن»، وقولهم: «إن فلانا أدى رسالة الأدب أو الفن»، فإنك إذا ~~نزلت من فورك على الحقائق اللغوية، استحال عندك أن يكون لشيء من الأدب أو الفن أو ~~ما يجري مجراهما رسالة يحملها الناس أو غير الناس، إنما يبرد البرد ويبعث ~~الرسل من له عقل وإرادة ورأي في تصريف الأمور، وليس للأدب ولا لسائر الفنون حظ من ~~هذا بالضرورة، كثير ولا قليل! # لم يبق إلا أن تعود بالتجوز باللفظ والانحراف به عن أصل موضوعه، وتصير به إلى ~~المعنى الأشكل بمراد البلغاء، ما دامت علائق المعاني تأذن لك بهذا التجوز ~~والانحراف، وهنا يتمثل لك الفن في صورة العاقل المريد القادر على التدبير ~~والتصريف، وتتمثل له ms074 رسالة يتقدم إلى المفتن بتبليغها إلى من يشاء أو إلى ~~ما يشاء من العالمين، وأنت خبير بأنه ليس للفن لسان يترجم به عما يريغ من ~~فنون الأغراض، فكيف الحيلة في أن يتقدم إلى الرسل بتبليغ ما شاء من الرسالات؟ اللهم ~~إن له من أسباب البيان، ما هو أفصح وأبين من تعبير اللسان، بل إن له على رسله ~~من السلطان ما لا يقاس به سلطان، إن له تلك السطوة الساطية التي تكره المفتن ~~إكراها وترغمه إرغاما على أن يؤدي رسالته، لا يستطيع لأمره معصية ولا يجد ~~منه سبيلا إلى الفرار! # لقد تعتلج الصور الرائعة في نفس الفنان، ولقد تزدحم في صدره وتقوى وتشتد في طلب ~~المفيض والمتنفس، ولا تزال كذلك حتى تتفصد عنه، ما يكاد يجد في حقنها حيلة ~~أو يكون له في تفصدها خيار، فهو في شأنها منفعل أشبه منه بفاعل، إذا صح تعبير ~~أصحاب الفلسفة في مثل هذا المقام. # هذه رسالة الفن، وكذلك يؤديها الفنان! # ليست رسالة الفنون إذن شيئا من تلك الأشياء التي تتعلق بها إرادة المرء حرا ~~تام الاختيار، يوردها إذا أراد، ويصدرها حيثما شاء، ولكنها - كما زعمت ~~لك - قوة قاهرة لا يكاد يكون له بموردها ولا بمصدرها يدان، بل إنه بمجرد ~~أداة لتصرفها لأشبه منه بفاعل متأنق مختار، ولولا أنه إنسان يمشي ويريد ~~ويتصرف فيما يتصرف فيه الأناسي لحق أن يضاف في هذا الباب إلى خلق من ذلك ~~الخلق الذي يصدر عنه كثير من أسباب اللذة والمتاع، لا إرادة له في شيء منها ~~ولا تدبير! بل لقد يصدر عنه من ذلك ما يصدر، ما له فطنة إليه ولا شعور به ولا ~~إحساس! وليت شعري هل يدري الهزار بما يصنع، ساعة يشدو ويسجع، وليت شعري هل ~~تجتمع له نية وأرب، في أن يشيع ترجيعه في نفوس الخالين اللذة والطرب، أم أراد ~~بتغريده وشدوه ما يذكي من لوعة الصب ويهيج من وجده وشجوه؟ وهذه الزهرة ~~أتحسبها قد أشرقت لتتبهج لعين الناظر، وتنفست بالشذا لتنفث السحر ~~في أنف العاطر ms075 # 1 # وقل مثل هذا في البدر إذا ~~تألق، وفي الغدير إذا ترقرق، فإذا صدرت عنها روائع الآثار، فما كان المشي منها ~~هوى فيه ولا خيار. # ومما يتصل بهذا المعنى ما زعمته في بعض مقامات الكلام # 2 # من أن من الشعراء، وأعني بهم بالضرورة من ~~يستحقون هذا الاسم، من تتخطى شاعريتهم أفق مداركهم؛ فنراهم يصيبون من المعاني ما ~~لا تتعلق به، في العادة، أذهانهم حتى لو راجعتهم في بعضها، وقد آبوا إلى أنفسهم، ~~لاحتاجوا في تفهمها إلى مطاولة وجهد في الاستخبار! # ذلك بأنهم لم يصنعوا مثل ذلك الشعر صنعا، ولا جاءت روعته من التشمير في ~~التجويد والافتنان، ولكنه فيض يفاض على الشاعر من عالم الغيب فيتحرك به ~~لسانه، أو تجري به على الطرس بنانه، لا أقول نزل به جبريله ولكن ~~وسوس به شيطانه! # ولعل هذا المعنى يفسر لنا ما كان يزعم العرب من أن لكل شاعر شيطانا يلهمه ~~الشعر ويفيض به عليه، كأنه حين تعاظمهم أن يقع للشاعر من فنون المعاني ما ~~لا يتسق في العادة لفكره، ولا يتعلق به ذهنه، راحوا يلتمسون المصدر من ~~عالم الغيب، ويصلونه بما وراء آفاق الحس، ففرضوا لكل شاعر شيطانا يسدي ~~بدائع الكلم إليه، ويفيض بروائع الحكم عليه! والله أعلم. ~~••• # وبعد، فليس هناك شك في أن زعم العرب ذاك خرافة من الخرافة، ثم لقد ترانا من ناحية ~~أخرى قد غلونا في توجيه كلمة «رسالة الفن» على المعنى الذي وجهنا، وأن أمرها ~~أرفق من ذلك وأهون، وليكن لك في هذا من التقدير ما تحب، على ألا تبالغ ~~في إرهاق الأفهام، ولا تغلو في النشوز على ذوق الكلام، فإنك مهما تجهد في ~~الأمر وتتطلف في الاحتيال له لواجد للفن رسالة يريد، على أية صورة من الصور، ~~وبأية كيفية من الكيفيات، تبليغها للناس، أو على الأقل لمن يجري منهم على عرق ~~في ذلك الفن، وأن هذا الفن قد اصطفى من بين أهله فلانا ليبلغ رسالته ~~ففعل. # ليكن لك ما تريد من تصوير الكيفية التي يحمل بها الفن أولئك المصطفين ~~رسالته ms076، ويقتضيهم أداءها إلى من بعثوا فيهم من العالمين، فإنك على ألين تقدير ~~لتجد الخطب جليلا كل جليل! ~~••• # رسالة الفن! هذه لعمري كلمة إذا كان لها مدلول يتصل بالواقع، فمدلولها على كل حال ~~غال ثمين، تالله ما كانت رسالة الفن - إذا حق أن يكون الفن رسالة - بالشيء ~~المرتخص المبتذل في الأسواق يشتريه من شاء بأوكس الأثمان، ولا هو باللقى # 3 # على عذارى الطريق يتناوله من شاء ويطرحه في حيثما أراد! # رسالة الفن! كلمة كبيرة سواء أجرت على معنى استحداث الأحداث فيه، أم على معنى ~~إيتائه بجليل مطالبه، أم تجليته في أبرع صورة وأروعها، ليس مدلولها الجد ~~على أي معنى من هذه المعاني وجهته، بالذي في يد المتناول ولا بالذي على طرف الثمام # 4 # كما يقولون، إنما ~~هو شيء شامس # 5 # عصي لا يذل ولا يسلس ~~إلا لمن آثره الله تعالى بالمواهب العظام! # هنا يخيل إلى القارئ الجاد الذي لا يعرف أن الألفاظ قد تعبث وأن الصيغ قد ~~تعربد أن مصر قد استوى لها في هذا العصر آلاف من العبقريين الذين اصطفتهم ~~الفنون لأداء رسالتها فأدوها على خير الوجوه، وما للقارئ الجاد، أو على ~~الصحيح القارئ الذي يقدر الجد في جمهرة الكاتبين، لا يرى على هذا أن مصر كما ~~تخرج الحب وتجود بالقطن، أصبحت كذلك تخرج، ولكن عفوا بلا بذر ولا ~~سقي ولا تعهد، آلاف العبقريين الذين يحملون إلى العالم رسالات الفنون؟ ~~وكيف لا يرى هذا وهو لا يبسط بين يديه صحيفة إلا زحم نظره أسماء الحشد ~~الحاشد من هؤلاء الموهوبين الذين يشتعبون أقطار البلاد حاملين بريد الفنون إلى ~~أصحاب الفنون؛ على أنك لو اطلعت على كثير من هذه الصحف المنزلة على أولئك ~~الرسل؛ بل لو قد اطلعت على أكثرها الكثير لما شككت في أن الألفاظ قد ~~انحرفت عن معانيها بقدر كبير، حتى إننا لو اطردنا في إجالة مثل هذه الصيغ ~~سنصبح بعد قليل من الزمن في أشد الحاجة إلى نقض معجماتنا اللغوية لنقيم من جديد ~~كل لفظ بإزاء معناه الطريف، وإلا اضطربت الأفهام، واختل ms077 ميزان ~~الكلام. # لقد قلت في بعض هذا المقال إن العلة في هذا لا تعدو في الغاية إرخاص الأدب، ~~ولقد تعلم أن هذا الأدب قد تيسر انتحاله لمن شاء، وحسب المرء في تقلده ~~أن يتكثر في المقال بطائفة من تلك الألفاظ والصيغ الطريفة الدائرة، وما دام ~~هذا سبيل المرء إلى ادعاء الأدب وانتحاله، فلا شك على هذا القياس في أن الترقي إلى ~~مقام العبقرية وحمل رسالة الأدب يغني فيه أن يطبع كلاما منثورا أو ~~منظوما يذهب به إلى أي غرض أو لا يذهب به إلى غرض ألبتة، وله بعد هذا أن ~~يضفي عليه ما شاء من النعوت والألقاب، وأن يستحيل في طرفة عين من حملة رسالات ~~الفنون والآداب! # فاللهم إذا كان هذا هكذا، وهو كذلك مع الأسف العظيم، فويل للآداب وويل للفنون في ~~هذه البلاد. # 6 # | خيال الشاعر بين الطبع والصنعة1 # لعل من الفضول أن يقول قائل: إن الشاعر يتكئ أكثر ما يتكئ في فنه على الخيال، أما ~~العالم فوجهه كله إلى الحقائق مادية كانت أو معنوية، ذاتية كانت أو نسبية، ~~نعم لقد يكون هذا من فضول الكلام إذا قرر لذاته، ولكنه يرتفع عن هذا الموضع ~~إذا سيق لتوجيه بعض القضايا التي قد تدق على كثير أو على قليل من الأفهام، ولعل ~~الموضوع الذي نعالجه اليوم من هذا الطراز. # وبعد، فإذا كان شعر الشاعر إنما يتكئ أكثر ما يتكئ على الخيال، فاعلم أن هذا ~~الخيال مهما يغل، ومهما يحلق ويرتفع، ومهما يستحدث ويخترع، ~~ومهما يلون من الألوان، ويشكل من الأشكال، فإنه مستمد في تصرفه جميعه ~~من الحقائق الواقعة، مبتدئ لا بد منها، منته لا مفر في الغاية إليها، فمن ~~الحقائق الواقعة مادته، وهي مستعاره في كل ما سوى وفي كل ما صور ~~وشكل ولون. # وذلك بأن الإنسان مهما يرزق من شدة العقل ويؤت من قوة الخيال، لا يستطيع أن ~~يتصور شيئا لم يقع عليه حسه، وكيف له بهذا والحس وحده هو السبيل لا ~~سبيل غيره إلى إدراك الإنسان، وإلى إدراك الحيوان، فدنيا ms078 الحيوان هي ما يحيط به ~~ويشهده في مضطربه لا أكثر؛ ودنيا الإنسان في الواقع، هي ما يرى وما يسمع، ~~وما يدرك من الحقائق بسائر الحواس الأخرى، وليس يعدو العلم من طريق القراءة ~~حاستي السمع والبصر، بل إن هذا الإنسان نفسه لو قد كف من أول مولده في ~~محبس لما قدر أن دنياه شيء غير ما هو فيه، وما يتصل من الأسباب بما هو فيه، ~~ولقد يعمد ذهنه إلى التقصي، ولقد يتبسط في القياس، ولقد يذهب في إدراك ~~ما لم يشهد إلى قريب أو إلى بعيد، ولكنه في النهاية لن يقع على جديد لا يتصل ~~بمحيطه، ولا يرتبط بأسبابه. # 2 # لك الحق بعد هذا الكلام في أن توجه هذا السؤال: إذا كان الخيال لا يمكن أن ~~يعدو الواقع الذي يدركه الحس فما الفرق بينه وبين الحقيقة؟ أو ما الفرق بين ~~أخيلة الشعراء وبين حقائق العلماء؟ # لقد توجه بادئ الرأي هذا السؤال، على أنك لو فكرت وتدبرت لبان لك ~~الفرق بينهما دون جهد في التفكير والتدبير: فالعالم إنما يطلب الحقيقة كما هي، ~~سواء أكان ذلك بأخذها كما قررها مقرروها، أم باستظهارها أم ~~باستكشافها، أم بنحو ذلك من وسائل إصابتها والتهدي إليها، أما الخيال فإنه ~~يعمد إلى الحقائق الواقعة فيتناولها بالتأليف والتلفيق، ويأخذها بالتشكيل ~~والتلوين، حتى تستوي له منها صورة توائم في قوتها وروعتها وتناسقها ~~حظ مسويها من قوة التخييل، وجودة الصنعة، ودقة الذوق، والعكس في ~~العكس. # فقد بان لك أن الصورة المتخيلة مهما يغل فيها صاحبها ويطرف، ومهما ~~يبعد بها عما طالعه الفكر، فإنها مشكلة من حقيقة واقعة، أو ملفقة من ~~حقائق واقعة، ولست أصيب مثلا لتوضيح هذا الكلام أحسن مما أجراه أصحاب المنطق من ~~التمثيل للممكن العقلي - المستحيل الوقوعي - بقيام جبل من الذهب، وتموج بحر من ~~الزئبق، فذلك وإن كان غير واقع بالفعل، مما يمكن إيقاعه في الذهن بالتلفيق ~~والتشكيل: فالجبل موجود والذهب موجود، والبحر كائن والزئبق كائن، وكل سعي ~~الخيال في تجلية مثل هذه الصورة هو استعارة هذا المعدن لذلك الجرم ms079، فيكون جبل ~~الذهب، ويكون بحر الزئبق. # كذلك تستطيع أن تفرق بين الشاعر والعالم، بأن الشاعر في الجملة معط، أما ~~العالم في الجملة فآخذ، الشاعر يبتكر ويستحدث بقلب الحقائق والتلفيق بينها ~~وإفراغها في غير صورها وتلوينها بغير ألوانها، أما العالم فأبلغ جهده في ~~تلقي الحقائق، فإذا كان له فيها استحداث أو ابتكار فبمجرد الانتفاع بما انكشف له ~~فيها من الآثار، وما جلي عليه من مكنون الأسرار. # ولقد علمت أن الشاعر إنما يتكئ في فنه أكثر ما يتكئ على الخيال، حتى لقد ذهب ~~أكثر النقدة إلى أنه ليس شعرا ذلك الكلام الذي يجري في الحقائق المجردة وإن كان ~~مقفى موزونا، ولقد عرفت أثر الخيال في تلفيق الحقائق وتزييفها وطبعها ~~على غير صورها الواقعة، لهذا نفى الله تعالى أن يكون كتابه الحكيم شعرا ونفى أن ~~يكون رسوله الكريم شاعرا: # وما هو بقول ~~شاعر ~~، # وما علمناه الشعر وما ~~ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين # يرد ~~جل مجده بهذا وبغيره دعوى الكفار أن القرآن شعر، على معنى أنه من تلفيق ~~الخيال وتزييفه، كما رد دعواهم أنه سحر، والسحر ما يواري حقائق الأشياء، ~~ويجلوها على صور تتمثل للأوهام بخداع الأسماع والأبصار: # سحروا أعين الناس ~~، # يخيل إليه ~~من سحرهم أنها تسعى # إنما الكتاب كله حق وصدق ~~ومنطق صحيح # لا يأتيه الباطل من بين يديه ~~ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ~~، # إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ~~، وهذا هو ~~الأليق بحجة الرسالة، وآيات الله المعلمة على طريق الهدى وعلى طريق ~~الضلالة. # ومن البديه أن الشعراء لا يطلقون أخيلتهم في فنون المعاني لمجرد العبث بقلب ~~الأوضاع، ومسخ الأشكال، والتلفيق بين الحقائق، إنما الغاية كل الغاية أن تجلو عليك ~~هذه الأخيلة صورا طريفة بديعة لهذا الذي أدركته من الواقع، أو تترجم ~~لك عما يدق عن فهمك من معانيه ومغازيه، أو تكمل لك وتبسط بين يديك ما ~~ترى أن الطبيعة قد قصرت فيه وانقبضت دون حبكه وتسويته، ونحو هذا مما ~~يرهف الحس، ويمتع النفس بمطالعة صورة من صور ms080 الجمال الفني في أي وضع من أوضاعه، ~~وعلى أي شكل من أشكاله. # ولا شك في أن أبدع هذه الصور وأروعها، وأذكاها للحس، وأجملها موقعا من ~~النفس، هي أدقها حبكا، وأحكمها سبكا، حتى إذا طالعتها التبست ~~عليك بالحقيقة أو إنها لتكاد، وهنا تتفاوت منازل الشعر بتفاوت الشعراء في قوة ~~التخيل، ورهافة الحس، ودقة الصياغة، وبراعة الأداء. # وفي هذا المقام يجمل أن نوضح معنى لعله يحتاج عند الكثير إلى التوضيح، قال ~~المتقدمون: إن أعذب الشعر أكذبه، وهذا كلام صحيح إذا اتجه على أن أعذب الشعر ~~ما كان من نسج الأخيلة لا ما وقع على مجرد تقرير الحقائق الثابتة، ولكننا ~~إذا تحولنا بالنظر إلى ناحية أخرى من نواحي هذا الموضوع رأينا كذلك أن أعذب ~~الشعر أصدقه: ولسنا نعني بالصدق هنا المطابقة للواقع، على تعريف أصحاب ~~المنطق، وإنما نريد به الصدق في الترجمة عن شعور الشاعر، فأعذب الشعر في الواقع هو ~~الذي ينفض عليك ما يعتلج في نفس الشاعر، وما يتمثل لحسه في إدراكه ~~للأشياء. # ولا يذهب عنك أننا نحن سواد الناس تعرض لنا الأشياء فندركها، في الغالب، كما ~~هي ماثلة لأعياننا أو لأذهاننا، وهذا الإدراك لا يتعدى ظاهر الصور، أما الشاعر، ~~وأعني به من يستحق هذا الاسم، فله نظرة نافذة في مطاوي كثير من الأشياء تسلكها ~~دقة حسه، وهنا يتقدم خياله السري فيسوي منها صورة جميلة بارعة، فإذا واتته ~~قدرة النظم، فأداها كما أدركها، وجلاها كما تمثلت له، خرجت على ~~حظ من الإحسان والإجمال يوائم حظه من قوة الخيال ودقة الذوق، وحسن ~~الأداء. # والشعر الذي تتوافر له هذه الخلال هو الشعر الذي يروعك، ويصقل حسك وقد ~~يغمز على كبدك، لأن الشاعر قد رفعك به إلى نفسه، فأشهدك ما لم تكن ~~تشهد، وكشف لك من دقائق الأشياء عما لم تكن ترى، وبعث عاطفتك ~~فحلقت في عالم الروح كل محلق، وترقرقت في سرحات الجمال كل ~~مترقرق. # وأعود فأقول لك: إن الصورة الشعرية، في هذه الحالة، وإن كانت خيالا في خيال، إلا ~~أنها لقوة موقعها، ودقة ms081 صنعها تشبه عندك الصور الواقعة؛ بل لقد تلتبس عليك ~~بالحقائق الثابتة، وكيف لا يكون لك في نفسك هذا الأثر، وهي نفسها قد تمثلت ~~لإدراك الشاعر واضحة سوية، في غير تعسر ولا تعمل، فنفضها في ~~الشعر عليك كما تراءت لذهنه، وتمثلت لحسه. # أرجو أن يكون قد صح عندك الآن أن أعذب الشعر، من هذه الناحية، أصدقه لا ~~أكذبه. # الصناعة الشعرية # ولست أعني بالصناعة هنا إلا صناعة الخيال، فإنه إذا كانت الصناعات البديعية، ~~لفظية وغير لفظية، قد أساءت إلى الشعر العربي إساءة بالغة، فإن الصنعة ~~الخيالية لقد كانت في الإساءة أشد وأبلغ، وتلك أن الشاعر أو من يتصدى لقرض ~~الشعر على العموم، لا يشعر شيئا ولا ينفذ حسه إلى شيء، فيبعث خياله من ~~مجثمه، ويستكرهه استكراها على أن يصنع له صورة شعرية، فيمشي متعثرا ها ~~هنا وها هنا في الارتصاد لما عسى أن يسنح له من المعاني واقعة حيث ~~وقعت، حتى إذا لاح له شبحها، شكها ولو لم يتبين شخصها، ثم ~~جعل يعالجها بالترويض والتذليل، ويضيف إليها ما ظنه من جنسها، أو ما ~~حسبه مما يلابسها، ويطبع من هذه الأمشاج صورة شعرية «والسلام»، صورة لا ~~الشاعر أحسها من أول الأمر أو تذوقها، ولا من يقرؤه شعر بالإلف ~~لها، أو ذكا حسه بها! # وهذا الخيال المصنوع المتعمل المجهود به ليس من الشعر في كثير، وهذا على ~~أرفق تعبير، بل إنه لأشبه بصنعة النجار أو الحداد في بسائط المصنوعات، بل إنه ~~كثيرا ما تخرج الصورة الشعرية ملتوية شائهة، تخفى معارف وجهها ~~على ناظمها، فكيف بقارئيه؟ وعلى عيني أن أقول إن شيئا من هذا يقع في بعض ~~ما نقرؤه من شعر هذه الأيام. # ودعنا من الحديث الآن حتى نفرغ من شأن القديم، وخبرني بعيشك: أي شيء هذا ~~الذي ساقه علماء البلاغة شاهدا على حسن التعليل؟ # لو لم تكن نية الجوزاء خدمته # لما رأيت عليها عقد منتطق # وقول الآخر في هذا الباب أيضا: # لم تحك نائلك السحاب وإنما # حمت به فصبيبها الرحضاء # 3 # اللهم أفكان من السائغ ms082 في العقل أو في الذوق أو في الخيال أن نظرة الشاعر ~~للجوزاء تحيط بها دقاق النجوم لم تلهمه إلا أنها إنما تمنطقت لتقوم على خدمة ~~ممدوحه؟ # وهل كان من السائغ أن نظرة ثاني الشاعرين في السحاب وهي تهمي، لم ~~تشعره إلا أنها غارت من كرم ممدوحه لقصورها عن مجاراته، فأخذتها الحمى، ~~فلم يكن ما تسح به إلا من عرقها! # اللهم اشهد أن هذا وهذا كلام بارد مليخ، # 4 # وهذا وهذا من الخيال الفسل # 5 # السخيف! # وبعد، فهذه فسولة الكلام وسخفه إنما ترجع في قرض الشعر، في الجملة، إلى ~~أحد شيئين : إما لأن الناظم لا طبع له ولا شاعرية فيه، فهو يتصيد الخيال ~~تصيدا ويصنعه صنعا، ليجيء بنحو ما يجيء به الشعراء، وإما للرغبة في شدة ~~المبالغة، والإيفاء على الغاية من المديح ونحوه، فيسف الشاعر ويستخف، ~~ويأتي بمثل هذا الهذيان الذي أتى به ذانك الشاعران، إلى أن طبيعة هذه ~~الموضوعات ليس فيها مجال عريض لشعور صحيح، ولا لخيال واضح صريح، والحمد لله ~~الذي عفى على كثير من هذا الأدب في العصر الذي نعيش فيه. # وانظر، بعد هذا، كيف يقول زهير بن أبي سلمى في مدح هرم بن سنان ووصف ~~كرمه، وكيف، على أنه غلا في ذلك أشد الغلو، أتى لهذا الكرم بصورة ~~قوية مسبوكة سائغة: # قد أحدث المبتغون الخير من هرم # والسالكون إلى أبوابه طرقا # من يلق يوما على علاته هرما # يلق السماحة منه والندى خلقا # وذلك لأن ممدوحه كان جوادا حقا، وأنه هو تأثر بشدة جوده حقا، وهو إلى ~~هذا شاعر فحل، خصب الذهن سري الخيال، فلم يتعمل ولم يتعسف، بل لقد ~~انتضح شعره بالصورة التي جادت بها شاعريته؛ فجاءت - على إمعانها في الغلو ~~- سائغة مسبوكة لا نشوز فيها على الأذواق، وهذا هو الفرق بين الخيال المطبوع، ~~وبين الخيال المصنوع. ~~••• # ولقد عرض ذكر الذوق في بعض هذا الحديث، وللذوق محله غير المنكور في الشعر ~~وفي غير الشعر، ولقد كان ينبغي أن نفصل القول فيه بعض التفصيل لولا أن ~~طال بنا الكلام، فلنرجئ ms083 هذا إلى مقال آخر. # | شوقي ...!1 # بمناسبة ذكراه الثانية # لقد خرج في هذه الدنيا شعراء ما أحسب أحدا منهم كان يستطيع ألا يكون شاعرا، ~~لقد تتصل الشاعرية بالطبع والجبلة، وليس بملك المرء أن يخرج عن جبلته ~~وطبعه، ولست أجد مثلا أضربه لهذا الطراز من الشعراء أبلغ من أبي نواس في ~~الغابرين، وأحمد شوقي في المحدثين، وأغلب اعتقادي أن الشاعر من هؤلاء حين ينزل ~~عليه الشعر لا يقدر على صرفه عنه، أو حبس لسانه أو قلمه عن الجريان به، إلا برياضة ~~ومطاولة وجهد. # هؤلاء يطلبهم الشعر أكثر مما يطلبونه، ويتغشاهم البيان أكثر مما ~~يرتصدون له ويتجردون في إصابته. # وبحسبك أن تطالع دواوين شوقي - والحديث فيه اليوم - لتعلم أنه لو كان رزق ~~أعظم حظ من العزم والقوة والجبروت، ما كان ليقوى على كتم شاعريته الفائضة ~~الجياشة، وهيهات للسد بالغا ما بلغ من المتانة والمناعة أن يكف النيل عن ~~جريانه، وأن يكبح إذا طغى من طغيانه! # تقرأ شعر شوقي، فتتعاظمك هذه الكثرة الكثيرة من فاخر الشعر وبارع الصنعة ورائع ~~البيان، ويذهب العجب بك كل مذهب، وتروح تتساءل: أية قوة بدنية هذه التي احتملت ~~كل هذا المجهود الفكري؟ وكيف تهيأ لهذا الرجل أن يعيش ما عاش؟! # والواقع الذي لا يتداخله الشك أن شوقي لم يكن على حظ كبير من صحة البدن، بل لقد ~~تستطيع أن تقول إنه كان رجلا مضعوفا مختل الأعصاب من أول نشأته، فإذا ~~طلبت السر في شأنه، فالسر كله في أنه لم يكن يجهد في قرض الشعر؛ لأنه لا يكلفه # 2 # ولا يتعمل كما قلت ~~لك في طلبه، ولا يرهف في ذاك حسا ولا يحد عصبا، إنما هو الينبوع ينبثق ~~فيجري الماء دفقا ما يحتاج إلى متح ماتح. # نعم، لقد كانت تكاليف الحياة تقتضي شوقي كما تقتضي غيره أن يستفتح الشعر ويبعثه في ~~مديح، أو رثاء، أو تهنئة، أو في غير ذلك من الأسباب الخاصة أو العامة التي لا يرى ~~بدا من القول فيها، على أنه لا يكاد يقبل على صناعة الشعر فيما ms084 طلبه، حتى ~~تتحرك شاعريته، فتجره عما هو بسبيله جرا، وتملي عليه هي ما تشاء أكثر مما ~~يملي عليها هو ما يريد، ولست أطلب في هذا دليلا أبلغ من أن شوقي لم يمدح ~~أحدا قدر ما مدح الخديو السابق، على أنه حين جرد تلك القصائد من ذلك ~~المديح ليدخلها في ديوانه، ظلت سوية قوية رائعة بما فيها من رقيق غزل، ومن بارع ~~وصف، ومن بالغ حكمة وجليل مثل، كأن لم تفقد شيئا، ولم يعوزها شيء! ~~... # إذن كان شوقي شاعرا مطبوعا أتم طبع، سريا أجزل السراء، موفقا ~~إلى أبعد غايات التوفيق. # تصرف في فنون الشعر كلها فما ضعف قط في واحد منها، بل قل أن يتعلق ~~بغباره في أي باب من أبواب القصيد شاعر، اللهم خلا الهجاء، فلم يؤثر عنه فيه ~~بيت واحد، ولعل ذلك يعود كما قلت في «مرآته»، إلى لطف نفسه، وأنفته من ~~أن يشهر الناس ويطلب معايبهم، أو لعله يعود إلى الخوف والورع من أن ~~يزيد في ثورة خصومه به، أو لعله فطن إلى أن الزمان سيعفي على هذا الضرب ~~الحقير من الشعر، وما أحسبه - لو عالجه - إلا موفيا فيه على الغاية والإحسان، على ~~أن الله تعالى كان ألطف به من أن يدليه في هذا الهوان. # وإذا كان عجبا من كثير من الشعراء أن يكون حظهم من البراعة في فنون الشعر بدرجة ~~سواء، فإن هذا من شوقي وأمثال شوقي غير عجيب، فالرجل - كما زعمت لك - لا ~~يملك من شاعريته أكثر مما تملكه شاعريته، وما إن اجتمع ~~لقول الشعر، ومضى يجيل الفكر ويطير الخيال، إلا ملكته تلك الشاعرية عن ~~نفسه، وراحت تجوده بالهاتن الحنان من وحي القريض، فإن أصابت ما احتفل له، ~~وإلا ففي فنون المعاني الآفاق العراض، وأرجو منك أن تراجع شعر شوقي في كل ما ~~يتورط فيه الشاعر، ولا ينبعث له من نفسه لو كان أمره كله إليه، لتزداد ~~إيمانا بما أقول. # وأرجو منك ألا تحسبني غاليا ولا متزايدا إذا زعمت لك أن شعر شوقي كان في ~~بعض ms085 الأحيان، بل في كثير من الأحيان، يتخطى إدراكه العادي، أعني أنه كان يصيب ~~ألوانا من المعاني لو أنك راجعته فيها غداة نظمها لاحتاج في فهمها إلى فكر ~~وتدبير! ولقد وقع لي أكثر من مرة أن راجعته في بعض شعره أرى أنه قد مس ~~فيه معنى رفيعا جدا، ولكن اللفظ أقصر من أن يطوله بواضح البيان، وإني ~~لأضمر ما ألمح، وأحيانا ما كان يلمح غيري، فإذا هو بادئ الرأي كقارئه ~~متحير متردد، وإذا هو في فهم مرامي الكلام في حاجة إلى جس وإلى استخبار! # 3 # وأريد أن أقول لك إن هذا الرجل قد كان يفاض عليه ساعة وحي الشعر ما لم ~~يكن لفكره في الحساب، ولقد ذكرت هذا من بضعة أيام لنفر من الأدباء ممن ~~كانت لهم صلة بشوقي، فأكد لي بعضهم أنه وقع له مثل هذا مع أمير ~~الشعراء. # صنعة شوقي # وإذا كان لهذا الشاعر صنعة، أو كان له في شعره ما يعد من عمله، فهو ~~احتفاله للمعنى أولا، فإن واتى اللفظ ولان ونصع وأشرق، وإلا فلأم هذا ~~اللفظ الهبل! # 4 # لم يكن شوقي إذن يكلف بالديباجة، ولا يجهد في تسوية اللفظ وصقله، ولكنه مع ~~هذا قد يجيء بالعجب العاجب! بل لقد استحدث شوقي في العربية صيغا أوفت على ~~الغاية من حلاوة اللفظ، ومتانة النسج، وقوة الإشراق، وأحسب أن قوة المعاني هي ~~التي أرادته على هذا ودفعته إليه دفعا. # ولقد كان مما يعد على شوقي أنه يكثر من الغريب في شعره، حتى لقد كان ~~يضطر هو إلى تذييل ما يفشي من قصائده في الصحف بالشرح والتفسير، ولا أحسب ~~هذا سائغا في العصر الذي نعيش فيه، بل إني لأزعم أن محصول شوقي من متن ~~اللغة لم يكن يواتي هذا القدر الذي يشعره استكثاره من الغريب في قصيده، ~~فلقد كنت تسأله معنى الكلمة المفردة تكون قد خلت في بعض شعره، فإذا هو ~~لا يدريه في بعض الأحايين، وإنني لأرجح أن الرجل لم يكن يعمد بهذا إلى ~~التكثر بسعة العلم، ووفرة المحصول من اللغة، ولكن ms086 لأنه كان يصيب من دقائق ~~المعاني ما لا يتيسر له أداؤه باللفظ الشائع، كما كان يطيل أحيانا كثيرة في ~~القصائد إطالة يحتاج معها إلى الكد في التماس القوافي، فكان يضطر في ~~هذا وفي هذا إلى التماس الألفاظ من المعجمات ينتزعها انتزاعا. # التجديد والمجددون # وهنا أحب أن أقول شيئا يسيرا في التجديد والمجددين، وإنني أوجه هذا ~~الكلام بنوع خاص إلى الناشئين من المتأدبين. # إذا كان من آيات الحياة في الكائنات تطورها ونموها وتجددها، فالأدب ~~ولا شك من هذه الكائنات التي لا تكتب لها الحياة إلا على التطور والنمو ~~والتجديد ، وإلا كان ميتا أو أشل على أيسر الحالين. # ولكنني أحب أن ألفت في هذا المقام إلى مسألة قد تدق على أفهام ~~الكثير أو القليل، وتلك أن هناك فرقا بين التربية والتجديد، وبين المسخ ~~والتغيير، ولست أجد مثلا أسوقه في هذا الباب خيرا من حياة الطفل وحياة ~~النبات، كلاهما ينمو ويربو، وكلاهما يطول ويزكو، حتى يبلغ الحد المقسوم ~~لكماله، وقد تتغير بعض معارفه، وقد تحول بعض أعراضه، ولكنه في الغاية ~~هو هو لا شيء آخر، فحسن الوليد، هو حسن الطفل، هو حسن الفتى، هو ~~حسن الشاب، هو حسن الكهل، وهو حسن الشيخ، وتلك الفسيلة # 5 # الصغيرة، هي هذه النخلة الباسقة؛ # 6 # كل نما وربا بما دخل عليه من الغذاء، وما اختلف عليه من ~~الشمس والهواء. # لقد أصاب كل منهما ما أصاب من أسباب التربية والإزكاء، فاحتجز منها ما ~~واءمه وما تعلقت به حاجته، ونفى عنه ما لا خير له فيه وما لا حاجة به إليه، ~~ثم أساغ ما أمسك وهضمه، فاستحال دما يجري في عرقه، ويزيد في ~~خلقه. # ولا شك في أن لأدبنا العربي عناصر، وله مقومات، وله شخصية بارزة معينة، فمن ~~شاء فيه تجديدا - ومن الواجب الحتم على القادرين أن يجددوا - فليتقدم، ~~ولكن من هذه السبيل. # ولا تنسوا أن من هذه المقومات، إن لم يكن أهمها جميعا، هو صحة ~~العربية وتحري فصحها، فمن تهاون هذا وتجاوزه، فليس ما يصنع من ~~الأدب في شيء أبدا ms087، ومما يتصل بهذا المعنى ما لعلي لا أخطئ إذا ~~دعوته تقاليد العربية؛ فللعربية كسائر اللغات القوية تقاليدها المأثورة ~~على الزمان. # وهناك مقومان آخران لهما خطرهما العظيم، ألا وهما التخييل والذوق العام، ولا ~~أحسبك تنكر أن لكل أمة ذوقها الخاص بها في كثير من أسباب الحياة، ولقد ~~تشارك غيرها من الأمم في بعض هذا، ولقد تفارقها في بعض فراقا شديدا ~~أو يسيرا. # أما التخييل فقد قلت لك في مقال مضى إن خيال المرء مهما حلق وعلا، ~~ومهما أسرف وغلا، فهو لا يمكن أن يخرج عن كونه مجرد تلفيق من الحقائق ~~المحسة الواقعة، وأنت بعد خبير بأن أصدق خيال وأروعه، وأن أحكم ~~تشبيه وأطبعه، هو ما اشتقه الشاعر مما يحيط به وبقارئه، ويقع لأسماعهما ~~ولأبصارهما جميعا، وإلا نبا عن السمع، ونشز على الطبع، ولو كان بالغا ~~غاية الغاية في بيئة أخرى. # نعم، لقد يشهد الشاعر من مجالي الطبيعة ما لم يشهد عامة قومه، ولقد ~~يظهر على كثير مما انتضحت به بلاغات أئمة البيان في الأمم الأخرى، ~~ولقد يتذوق هذا في لغاهم، ويتأثر به إلى حد بعيد، ولقد يرى أن ينقل ~~ما يطول من ذلك إلى معشره بإخراجه في لغتهم لينعمهم ويلذذهم ~~ويرهف حسهم، ويفتق في أذهانهم، ويفسح في أدبهم، بإدخال جديد عليه، ~~وإضافة بديع من الآداب الأخرى إليه، فإن له من ذلك ما يحب، على أن يصوغه في ~~صحيح لغته، ويطبعه على غرار أدبه، ويحتال على تسوية خلقه، حتى يصبح ~~تام المشابه بما ألف قومه، حتى لا يحسوا فيه غربة، ولا يشعروا ~~منه بوحشة، فإذا وفق الأديب إلى هذا وأجاده وأحكمه فهو المجدد ~~التام. # شوقي إمام المجددين # ولقد ضرب شوقي في الأرض كثيرا، ورأى من صور الطبيعة ومن بدائعها ما لم تتهيأ ~~رؤيته لكثير، وقرأ في الفرنسية لأئمة البيان في الغرب ما لا يكاد يملكه ~~الإحصاء، ولقد أساغ ما استعار، وجرى في أعراقه طلقا، واستطاعت شاعريته ~~الفخمة أن تجلو منه ما شاء أن يجلو عربيا خالصا لا شك فيه؛ وهذه ~~دواوينه تزخر ms088 بهذا البدع زخرا. # فاللهم إن كان التجديد ما ذكرنا، فشوقي إمام المجددين في هذا العصر غير ~~مدافع، أما إن كان التجديد هو المسخ، واستحداث صورة شائهة، واستكراه ألوان ~~من المعاني لا تمت إلينا بسبب، على صيغ لا هي بالعربية ولا هي بالأعجمية، ~~فاللهم اشهد أن شوقي ليس مجددا بل ليس شاعرا أبدا. ~~••• # ولقد جال شوقي بشعره في كل غرض، وقصد كل قصد، وأصاب من كل معنى، وطال ~~نفسه في أكثر قصيده إلى ما لم يطله كثير من أنفاس الشعراء، فما ~~ضعف ولا تخلخل ولا أسف، ولا فسلت أخيلته ، ولا شاهت ~~معانيه، بل لقد يأتي أكثر ما يأتي بالجوهري الرائع من حر الكلام. # وليس شوقي بالذي يستدل على مكانه بالبيت أو البيتين في القصيدة، أو ~~بالقصيدة والقصيدتين في الديوان، بل إذا طلبت عليه دليلا فهذه دواوينه ~~شق منها ما تشاء، وقع منها على ما تريد لك المصادفة، فلن تصيب إلا أرفع ~~الشعر وأفخر الكلام. ~~••• # وبعد، فلقد مات شوقي، وانحسمت جميع أسبابه من الدنيا، وفرغ من ~~مودات الناس ومن عداواتهم، وأصبح شعره حبسا على التاريخ؛ فمن كان يرى ~~حقا أن شوقي لم يبلغ هذه المنزلة، أو أنه لم يبلغ بعضها، أو أنه لم ~~يكن شاعرا ألبتة، فهذا له رأيه، وعليه تبعته، ولا حيلة لنا ولا لغيرنا ~~فيه، وأما من يقدر شوقي حق قدره، فينزله هذه المنزلة أو ما ~~هو أقرب إليها، فمن واجب الذمة أن يشيد بقدره، ويدل على جلالة محله، لا ~~قضاء لحق الإنصاف وحده، ولا أداء لشكر النعمة فحسب، فلقد كان شوقي نعمة ~~عظمى أسبغها الله على أبناء العربية جميعا؛ بل لاستدراج نشء المتأدبين إلى ~~استظهار شعره، وإنهالهم من أدبه، واتخاذه النموذج المحتذى إذا اجتمع ~~أحدهم للبيان. # هذا واجب الذمة للحق وللبيان جميعا، وخاصة بعد هذا التبلبل الذي لا أحسب أن ~~البيان العربي شهد مثله في أي عصر من عصور التاريخ، وحسبي هذا، فما ~~أحب أن أقذف بنفسي في هذه الحرب الناشبة من أنصار قديم وأصحاب ~~جديد! # الباب الثاني # | فى ms089 الوصف # | هو ...1 # لا يشغل من هذا الفضاء حيزا كبيرا، فإنه دقيق الجرم، لطيف الحجم، يخيل ~~إليك أنه لا يثبته لمهب الهواء إلا رجحان عقله ورسوخ عزمه، وإلا فلو قد ~~خلي على هذا بينه وبين خفة روحه ورقة شمائله لاستحال معه نسمة من ~~النسيم! # مهما يكرثه # 2 # من الأمر وتشط به صائلات الفكر، فإنه لا ~~يطالعك إلا بوجه مبسوط لا أثر لعقدة فيه، بل لقد يقبل عليك فوق ذلك بالحديث ~~الفكه ليؤنسك ويذهب وحشتك، ويفرخ روعك إذا كنت غير كفء لمجلسه، بل ~~لقد يستدرجك إلى الحديث ويملي لك فيه، # 3 # ويحسن الإصغاء إليه، ويظهر ~~الاحتفال له، مهما يكن سخيفا يجري في تافه الموضوعات، بحيث يشعرك أنك تنضح على ~~سمعه جديدا عليه، يفيده علمه به؛ حتى لتغلون في هذا الشعور، فما تفارق ~~مجلسه إلا وقد خلت أنك أسلفت إليه بحديثك يدا! # متواضع شديد التواضع لا يضيف فضلا لنفسه، ولا يدل على أثر لفضل، بل إنه لشديد ~~الاجتهاد في أن يتمثل لك في صورة آحاد الناس، ولقد يجيد سبك هذا حتى يجوز أمره ~~عليك، فتحسب حقا أنه مثل سائر الناس، فإذا كان الحديث في علم أو في أدب أو في ~~فن، أو في استجلاء وجه الرأي في العظيمات، فهنا لا يستطيع أن يكتمك نفسه، ~~فهيهات لامرئ أن يكف ما تجري به الأقدار، على أن عبقريته إذا فضحته برغمه وكشفت ~~عن حقيقة شأنه، فإنه لا يبرح يواريها بشدة التواضع والرفق في مضارب الحجة لكيلا ~~يروعك عظم خطئك، ولا يهولنك مدى ما بينك وبين الصواب، وما إن تراه ~~يقول لمحدثه أخطأت أو عدوت الرأي، بل لقد يدارجه في بعض القضية، ثم ~~يلوح له بالرأي في حواشي القول تلويحا، حتى إذا شامه عدل إلى طريقه وكأنه ~~تهدى إليه من تلقاء نفسه، ما قاده إليه أحد، ووالله لكأن أبا تمام كان يعنيه هو ~~بظهر الغيب حين قال: # جم التواضع والدنيا بسؤدده # تكاد تهتز من أطرافها صلفا # أخذ نفسه بأعلى قواعد الأخلاق، فلا يصدر إلا عنها في كل سعيه، يستوي ms090 في ذلك ~~الدقيق والجليل من عامة شأنه، وإنك لتراه إلى هذا شديد التجمل للناس، عظيم ~~التصبر على مكروههم، فلا يجبه إنسانا بكلمة السوء، ولا يعيره عيبه، ~~ولا يعنف في العتاب - إن هو عاتب - على مساءة لحقته؛ بل لقد يصوغ هذا في ~~الكلمات الخفاف اللطاف تمضي هينة رفيقة ما تثير أذى ولا تسيل جرحا، وإنه ~~حتى ليفعل هذا وهو مستحي غاض البصر، كأنه هو الذي أساء، وأنه هو الذي ~~يعتذر! # رزقه الله عفة النفس وعفة اللسان وعفة الرأي معا، فلا يحدر طرفه إلى ما ~~ليس له، ولا يستكثر نعمة دخلت على إنسان مهما يجل قدرها ويدق قدره، ولم ~~تحص عليه قط كلمة سوء رمى بها غائبا، ولقد يجيئه أن فلانا هتف به بما لا ~~يحب، فلا يزيد على أن يتقبض وجهه، وتتقلص شفته، ويومئ بالأسف إيماءة ~~خفيفة دقيقة، ويعود سريعا إلى طمأنينة نفسه واستراحة عصبه؛ وهذا إذا كان من ~~يلمزه ممن يعنى شأنهم، وإلا فلا يكون منه شيء أبدا! # وأما عفة رأيه وتفكيره، فإن هوى أو شهوة، أو طمعا في نفع، أو مصانعة لذي ~~سلطان، أو تعلقا بالفلج، # 4 # وقهر الخصم إذا استكره ~~على الجدل ولم يكن له منه بد، اللهم إنه لا يمكن لشيء من هذا ولا لغيره أن ~~يغض من عفة تفكيره ونزاهة رأيه، كأنما يتعاظمه أن يسطو بهذه الحجة القارحة، ~~التي آثره الله بها، على الحق، على حين أن الأكرم لها والأجدر بها أن ~~يسلطها على الباطل فتكسره تكسيرا، وكأني به يأبى إلا أن يحصن هذه ~~النعمة الجليلة على الزوال إذا هو بطرها فأنفق منها في غير إظهار الحق، وفي غير ~~ما يرضي الله! ~~••• # ضخم العقل والذكاء، ضخم العلم والتفكير، ينال بالنظرة الأولى ما لا ينال ~~غيره إلا بشدة الجهد والمطاولة، وطول التفكر والتدبير، بل لقد يدرك بهذه ~~النظرة ما لا يدركه غيره إلا بقائد ودليل، فهو رجل كأنه قد سفرت له وجوه ~~الحقائق، وبذلت لعينيه ذات السرائر، ونفضت بين يديه ما أجنت في أطواء ~~الضمائر، فما يغيب عن ms091 لحظه خافيها، بل لقد أضحى أدق نظريها # 5 # لعلمه بديها، ~~وكأن المتنبي قد عناه بلحظ الغيب حين قال: # ومن خلقت عيناك بين جفونه # أصاب الحدور السهل في المرتقى الصعب # فإذا جاءك، بعد هذا، أنه أدق الناس تفكيرا، وأعمقهم بحثا، وأكثرهم إصابة، ~~فلا يروعنك مع هذا أنه أكثرهم إنتاجا، وأوفرهم آثارا، فقد ~~رأيت أن عبقريته لا تعيا بشيء، ولا تجهد في الطلب بطول ~~الاستقراء والاستخبار، وما حاجته إلى هذا وقد راض الله تعالى لذهنه الحقائق ~~ويسرها له، حتى لكأنها هي التي تتزاحم لديه، وتتهافت عليه؟ ~~••• # كريم الطبع، سمح النفس، عالي الهمة، ما عاذ إنسان بجاهه إلا أعاذه ما دام ~~أهلا للبر والعطف، وإنه ليسأل المعروف فيعد وعدا فاترا متحيرا بين ~~الأسباب والعلل، فتنصرف عنه وقد يئست اليأس كله من بره بك وسعيه لك، ~~ثم لا يروعك إلا أن تعلم من غيره أنه لم يبق في قوس الهمة والجد في ~~السعي منزعا، حتى يصل شأنك أو يقطع برده القدر، يفعل هذا وهو حريص ~~أشد الحرص على كتمانه عنك، حتى لا يثقل عليك بالشعور بالمنة لطول ما جهد ~~لك وأبلى في شأنك، ولقد تتقدم إليه لتشكره، وقد تعتب عليه إسرافه في بذل جهده، ~~فيعاجلك بصرف الحديث إلى شيء آخر، فإذا ألححت فيما كنت فيه وأبيت إلا ~~ترديدا له، هون الخطب عليك وأكد لك أن أمرك لم يجشمه من الجهد ~~كثيرا ولا قليلا! يقول هذا مقال الواثق المطمئن الذي لا يتكلف شيئا في إخفاء ~~يده وإنكار فضله! ~~••• # هذا «هو» وتالله ما يمنعني من التصريح عن اسمه إلا اتقاء غضبه؛ فتلك لعمري التي لا ~~هوادة لغضبته فيها ولا إسجاح، # 6 # على أنني غني عن أن ~~أسمي الشمس ليعرف الناس أنها الشمس! # ألا ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. # | إسماعيل صبري1 # رحم الله إسماعيل، وعوضنا في أدبه الحلو حسن العوض. # لقد كان مودع الأمس قطعة شعرية نظمتها الطبيعة، فأجادت فيها أيما ~~إجادة، وأبدعت أيما إبداع! # جادت به الطبيعة كما تجود بالزهرة المونقة، والنسمة اللينة ms092، والجدول العذب ~~النمير! # ما حسبت قط أن صبري تكلف الشعر يوما أو شمر له، أو جلس ~~يتصيد للقريض فنون المعاني، ويتخير لها مشرقات الألفاظ. # هذه الوردة تنفث العطر، وهذا الغمام يجود بالقطر، وهذا صبري ينطق بالشعر! # هذه القماري يطربك تنغيمها وتغريدها، وهذه بنات الهديل # 2 # يشجيك سجعها وترديدها، ~~أفرأيت واحدة منها تكلفت الغناء، أو أراغت # 3 # به التطريب ~~والإشجاء، أو عمدت إلى تقليب حلقها في ضروب اللحن وأشكاله من خفيف أهزاجه ~~وثقيل أرماله؟ ~~••• # كنت أصحبه، رحمة الله عليه، نتمشى في أقطار الجزيرة، ننعم برياضها ~~وجداولها، ونتفرج بين أدواحها وخمائلها، حتى إذا امتلأت عينه من نضير أنوارها، ~~وأنفه من عبير أزهارها، وأذنه من هدير أطيارها، انطلق هو الآخر يتغنى بالبيتين ~~أو الثلاثة من الشعر، وهنالك تتشابه علي صنعة الطبيعة وصنعة الشاعر، فما ~~أدري أأرى زهرا من الشعر، أم أسمع شعرا من الزهر؟ وكذلك كان ينظم الشعر ~~إسماعيل! # ينفض عليك إسماعيل هذا الشعر فلا ترى أنه جاءك بجديد عليك، وإنما جاءك بشيء متصل ~~بحسك، قائم في قرارة نفسك، وهو لا يعتريك به من مخارج سمعك، وإنما يعتريك ~~به من مداخل طبعك، حتى ليخيل إليك أنك أنت صاحب هذا القول دونه، فإذا كان ~~له في الأمر فضل ففي أنه عرف كيف يتدسس إلى أطواء قلبك، فيجلو عليك ~~ما أعيا تصويره على بيانك. # اللهم إن جهد شعر الشاعر أن يحرك في الناس ألوان العواطف، أما شعر هذا الرجل ~~فإنه في ذاته عواطف تعتلج في السطور، كما تعتلج العواطف في الصدور، وإنه ~~ليشعرك بما يجول فيه من رقة ورحمة، وبرحة هوى، وحرقة جوى حتى ~~ليكاد يريك دمعة الثاكل، ويسمعك أنة المجروح! # فيا لله! ما أروع هذا الذي يقبض بيده على العواطف المترقرقة في الصدور، ثم ~~يصوغها شعرا يقرؤه الناس! ~~••• # وبعد، فإذا تسلل شعر صبري إلى حبة قلبك، وملك عليك منازع نفسك، ~~وأشعرك من صور الجمال ما لا يشعرك كلام الناس، فلا تقل: أجاد صبري، ~~ولكن قل: تبارك الله أحسن الخالقين! # | شوقي1 # سيداتي سادتي # في مثل هذا اليوم ms093 من عامين مضيا أذن مؤذن أن البلبل قد سكت بعد طول ~~سجعه وتغريده، وأن الزهر قد ذبل بعد إشراقه وتوريده، وأن النجم قد هوى ~~فلم يعد يتألق، وأن الغدير قد غاض وهيهات له بعد الآن أن يترقرق! # مات شوقي، ولو كان شوقي كسائر الناس ما كان لموته جليل خطر، ولرب رجل يموت ~~فلا يفرق المجموع بين موته وحياته، ولكن موت شوقي شيء آخر: أرأيت إلى النهر ~~إذا يبس، وإلى المطر حين يحتبس، ووا رحمتاه إذا للسارين لحق النجم الغروب، ~~وقد تشعبت الطرق واختلفت رءوس الدروب! # لقد كان شوقي نعمة من النعم العامة التي تفضل الله بها على هذه البلاد، بل ~~التي تفضل بها على أبناء العربية جمعاء، فموته من المصائب العامة التي ~~يحس خطرها كل امرئ يقدر روعة الفكر، ويحتفل لأبهى صور ~~الجمال. # ولو أن الله تعالى بعث الشعور في مظاهر هذه الطبيعة، وأقدرها على النطق، ~~لشارك في إحياء ذكرى شوقي: البحر الخضم، والجبل الأشم؛ والفلك الدائر، والنجم ~~المختلج الحائر؛ والعود إذا أورق، والزهر إذا نور وأشرق؛ ~~ولاجتمعت لمأتمه كل سجوع من بنات الهديل، يقمن عليه المناحات ~~بأحد البكاء وأحر العويل، فلقد طالما أضحك وسرى، ولقد طالما ~~أطرب وأشجى، ولكم جلا من صور الطبيعة فأجاد وأحكم، وأنطق ~~الصخر في مرسخه لو كان الصخر يتكلم، ولكم لاغى الطير غادية ورائحة، ~~ولكم لاعب الغزلان شاردة وسانحة، ولكم داعب الغصن حتى تثنى خصره، ~~وغازل الزهر حتى تنفس أرجه وعطره. # شوقي لم يمت، ومثل شوقي لا يموت أبدا، بل إنه ليزداد حياة على تطاول ~~الأجيال، هذا شوقي حي أقوى الحياة في بيانه القوي، وسيظل هذا البيان المشرع ~~العذب النمير ينهل منه بنو العروبة ما قدرت للعربية في هذه الدنيا ~~حياة. # | عدو صميم، أم ولي حميم؟ ...1 # تلقيت هذا الكتاب من حضرة الكاتب الأديب صاحب الإمضاء، وإني مثبته بنصه ~~في «المصور» من غير تغيير ولا اختصار: # حضرة ... ~~«فلان» لقد حيرني وأقلق فيه منطقي وأزعج تفكيري، وأفسد علي حسي، فما ~~عدت أدري أأحبه أعظم الحب، أم أبغضه ms094 أشد البغض، ولا أعلم ~~أأكبره غاية الإكبار، أم أنني لا أجن له إلا أبلغ الازدراء ~~والاحتقار، فإني والله لا أعرف أكان هو أصدق أصدقائي، أما كان هو أعدى ~~أعدائي، إنه لأحد هذين على أي حال، أما أنه ليس هذا ولا هذا فذلك المحال ~~كل المحال! # إنه يحفظ غيبي، ولا يأذن لأي كان بأن يبسط في لسانه بمقال سوء، ~~ولو جشمه ذياده عني في غيبتي ما جشمه، ما في ذلك شك ولا إلى ~~جحوده سبيل! # وإني لقد يعتريني المرض، ولقد يحزبني من أمر الدنيا حازب، وتعتريني ~~الأيام ببعض المكروه، فيكون هو أول من يطلع علي، ويستطب ~~لدائي، ويتفقد علاجي، ويستوثق من مواظبتي على دوائي، ويكون هو أشد ~~الناس اهتماما بمواساتي، وأعظمهم اجتهادا في تسليتي والتسرية عني، ~~ولا يزال هذا شأنه حتى أصح وأبرأ، وتعود إلي طمأنينتي، ~~ويذهب الله عني ما أجد من وجد وأسى، ما في ذلك شك، ولا إلى ~~جحوده سبيل! # ولقد ترق حالي، ويلح العسر علي، فما إن يكاد يعرف هذا ولو من طريق ~~التفرس، فليس من خلقي التشكي، حتى يجمع همه ويركب رأسه، لا يسكن ولا ~~يفتر ولا يهمد له سعي، أو يصيب لي عملا كريما يجرى علي ما أعود ~~به على شملي، ولقد يفعل هذا على غير علمي وفي سر مني، ولقد يغلو في أن ~~يكتمني سعيه لكيلا يجرح شعوري، أو يحرج نفسي بما يجهد في ~~شأني، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل! # ولقد ينتهي إليه أن خلقا من الناس يأتمرون بي، فإذا لم يستطع أن ~~يكف بادئ الرأي كيدهم، ويدفع عني أذاهم من حيث لا أعلم، باداني ~~بأمرهم، وحذرني مكرهم، وقد كنت على شرف الوقوع في حبالهم، ~~فينجني الله تعالى به من كيد عظيم، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده ~~سبيل! # وإني لقد أخطئ الرأي، ولقد يضلني الهوى عن سبيل الحكمة في بعض ~~الأمر، حتى يكاد هذا يزلقني إلى ما تكره عواقبه، فيزعجني بكل ~~الوسائل عنه، ويردني برغمي معافى منه، ما في ذلك ms095 شك ولا إلى جحوده ~~سبيل! # وإني لا أذكر أنني غبت عنه قط إلا تفقدني، وجعل يتعاهدني في جميع ~~مظاني، ويقصني جاهدا حتى يصيبني، ولو كنت في قواصي الأرض، ليجالسني ~~ويقضي أجل الوقت معي، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل! # ولا أذكر أنه تهيأت له قط نزهة جميلة، أو مجلس غناء وتطريب، أو ~~نحو هذا مما ينعم النفس ويلذذها إلا أسرع فدعاني إليه وآثرني به، ~~وألح علي في حضوره، وقد يستكرهني إذا تعذرت عليه في ذلك استكراها، ~~ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل! # ومهما يكن من شيء فإنه في كل هذا الذي ذكرت لك يؤثرني - فيما أعلم ~~- أشد الإيثار، ويعقد في عنقي من المنن ما لا تسخو به إلا ~~أنفس أصدق الأصدقاء وأصفى الأولياء، حتى إنني لأتمثل في شأنه هذا ~~معي بقول الشاعر: # فأصبحت يلقاني الزمان لأجله # بإكرام مولود وإعظام والد # على أنه قد ذهب عني أن أذكر لك في صدر هذا الكلام الصفات البارزة ~~لصديقي أو عدوي هذا «فلان»، ولكن الفرصة لما تزل حاضرة، والحمد ~~لله، إلى الآن: هو رجل في أعقاب الشباب، انحدر من أسرة إن لم يمد ~~لها في غنى عريض، فإنها تجري على عرق من الفضل والكرم، ومن النبل ~~والشمم، وهو بعد على حظ غير قليل من العقل والذكاء والعلم والثقافة ~~جميعا، حاضر البديهة، حسن الرأي في الجملة، يجيد الحديث ويحذق النكتة، ~~وقد يبرع في إدارة مجلس السمر، وهو وإن لم يكن أديبا فإنه يتذوق الأدب، ~~مرهف الأعصاب، لقد يثيره التافه من الأمر، وتارة يسرف في الحمل على ~~النفس ليصبرها على مكروه عظيم، لرأي يراه هو ولكن يكتمه الناس، ولقد ~~نجد فيه أحيانا أدبا جما وظرفا عظيما، ولقد ترى فيه حينا عنجهية ~~شديدة وسلاطة لا تطمئن إلى الصبر عليها رواسخ الجبال! # ثم إنه لرجل مرح في غالب شأنه يطرب على الغناء، ويتبسط في مجلس الأنس ~~واللهو، ولا يعلق يده عن الإنفاق على أسباب التنعيم والتسلية ~~والترفيه. ~~••• # بعد هذا أرجو منك يا سيدي أن ms096 تسمع كيف يصنع لي هذا الولي الحميم، أو هذا ~~العدو الصميم: إنني ما غشيت قط مجلسا هو فيه إلا تغير وجهه، وحال ~~لونه، وتقلصت شفته، وبان الغيظ والحنق عليه، فإذا حييت ~~تثاقل في رد التحية، وجعل يتكلف مصافحتي تكلفا حتى ~~كأنما يضطلع بعبء ثقيل، بل لقد يبتدرني من القول بما أكره، فأنطلق ~~من فوري مغضبا مغيظا، وأنا أستشعر اغتباطه بهذا واستراحته ~~له! # ولقد يضمني به المجلس ومعنا من الصحب من يعرف أنني أحبهم ~~وأوثرهم وأتقي غضبهم، فلا يزال يغريهم بي، ويغرس الحفظية علي في ~~صدورهم بما يدعي علي من قول منكر قلته فيهم، أو سعي ~~خبيث سعيته لكيدهم وإيصال الأذى إليهم، فإذا حاولت البراءة إليهم ~~مما اتهمني، زاد في لجاجه، وألح في احتجاجه، وربما عزز قوله ~~باليمين يرسلها غموسا غير متحرج ولا متأثم، ولقد يجيئني ~~بمن يشهد الزور بين أيديهم علي ليبطل حجتي، ويحق التهمة علي؛ ~~فيفسد بيني وبين صحبي. # ولقد يراني أنقد بعض السلع، فيأبى هو إلا أن يختار لي، لأنه أعرف ~~بجيدها ورديئها، فلا يسعني إلا أن أنزل على رأيه راضيا أو كارها، ~~فإذا تقدمت لمساومة البائع في الثمن، أسرع فدفعني وتولى هذا عني، ~~فإذا خلصت بالسلعة، وعرضتها على أصحاب الخبرة، بان أنني قد ~~اشتريت أردأ الأشياء بأغلى الأثمان! # ولقد يزين لي المخاطرة على سباق الخيل، ويؤكد لي في قوة وشدة ثقة، ~~أنه يعلم علم اليقين أن الرابح في الشوط الأول هو الجواد الفلاني، ~~وأن الرابح في الثاني هو الجواد الفلاني وهكذا، ولا يزال بي حتى يستخرج ~~مني طوعا أو كرها من المال ما يثقل علي ويبهظني ليعقد لي ~~رهانا على بضعة جياد معا (بارولي)، ممنيا نفسي بربح المئات من ~~الدنانير، فإذا كان آخر النهار، لم يظهر جواد منها ولو تفقدته بألف ~~منظار، وأعلم أنه خالفني في خطره هو إلى غيرها من الجياد، وإنما ~~آثرني أنا بما خسرانه مكفول، والربح فيه ألبتة غير مأمول! # ولقد يعلم أنني هيأت لنفسي بعض المتاع أتفرج به وأسلي عن نفسي، فلا ~~يفتأ ms097 يتنسم الأخبار، ويترسم الآثار، حتى إذا تم له الوقوف على ~~كل شيء، جعل يعمل الحيلة، ويتوسل إلى إفساد الأمر بكل وسيلة، فيدس ~~علي من يزعم أنه من قبل الصحب، وأنهم قد أجلوا جلستهم لطارئ ~~طرأ، وحادث فجأ، ولقد يدسه عليهم على أنه رسولي إليهم ليبلغهم عني ~~مثل ذلك، فإذا تعذر ذلك عليه، وكشفت لي ولصحبي حيلته، وظهرت ~~دسيسته، استحدث لي من الأسباب ما ينغص عيشي، ويكدر ~~صفوي، ويبدل سروري قلقا وغما! # وإنه ليعلم أنني أخاف ركوب السيارة فلا أتخذها إلا مضطرا، فإذا ~~ركبتها تفرقت نفسي بين يديها لعلها تصدم أو لعلها تصدم، ~~فتهشم أو تتهشم، وأن لساني لا يفتر عن سؤال السواق الهون ~~والرفق في المسير طوال الطريق، وإنه كذلك ليعلم أنه ما من حدث من ~~أحداث الدنيا يزعجني عن نومة الظهيرة، وخاصة في أيام الصيف، ومع هذا فلقد ~~يقتحم علي غرفة نومي، وقد تعودت أن أنام وحدي، ويكون ذلك منه في ~~بعض الساعة الثالثة بعد الظهر في يوم من أيام شهر يوليو مثلا، وإنه ~~ليبعثني من نومي وما عللت منه ولا نهلت، فأهب منزعجا مبهوتا ~~مكدودا لقس النفس موزع الفكر، فإذا بي أراه واقفا بسريري، ~~فأسأله الخبر في روعة وفزع؛ فيسألني أن أسرع في وضع ثيابي لأننا ~~مسافران من فورنا في السيارة إلى بورسعيد في أمر جلل لا يخبرني خبره ~~إلا إذا بلغنا سالمين! # بورسعيد! بورسعيد! وفي هذه الساعة! وفي السيارة! # وإنه ليسرف في الإلحاح علي بدعوى شدة حاجته إلى أن أكون معه في هذه ~~الطلبة، وإلا تأخرت حاجته العاجلة إذا لم يفسد الأمر كله، ~~فإذا اعتللت عليه، وأظهرت شيئا من البرم بهذه الرحلة الشاقة ~~الخطرة، أقبل علي في مثل صورة المتوسل يذكرني الود القديم ~~والصحبة الطويلة، وهو وإن كان يتعفف عن أن يذكر سوابق يده عندي، ~~ويتعالى عن أن يمتن بها ويتطول، فإنني في هذا المقام لأذكرها وحدي من غير ~~حاجة إلى من يذكرني، ولا شك أن هذا أوقع في النفس وأبعث ~~لداعية المروءة، وعلى هذا لا يسعني ms098 إلا مطاوعته، ولقد أتكلف الاغتباط ~~بهذه الرحلة الجميلة! # ولقد يتفضل المولى جل وعلا فيصل في الأعمار حتى نبلغ مدينة الإسماعيلية ~~ولم نكلم كلما، فاسترحنا فيها ساعة، ثم واصلنا المسير فصرنا على ذلك ~~الصراط المتلوي المتأود الذي لا يطرد في استقامته عشرة أمتار سويا ~~وقناة السويس عن أيماننا، والترعة الإسماعيلية عن شمائلنا، والسيارة تسلك ~~ما بينهما مسلك الخيط من سم الإبرة، فإذا كنا على هذا أومأ إلى سائقه ~~الجبار فأطلق للسيارة العنان ووخزها وخزا عنيفا، فطارت كل مطار، ما ~~تخشى بأس الأرض ولا ترهب سطوة البحار، وليس على يميننا إلا غرق ، ~~ولا على يسارنا إلا غرق، أما من قدام، فليس إلا الصدام والموت الزؤام، ~~وللسيارة زفير وشهيق، وصهيل كصهيل الجواد العتيق، وإن بصري ليزيغ، وإن ~~قلبي ليرقص في جوفي فأراه يغمز جنبي مرة، ويصك حنجرتي مرة، وإذا ~~استطعت أن أجمع نفسي فسألته الرفق، أومأ إلى السائق ليزيد، إذا كان في ~~قوة السيارة فضل لمزيد! # وأقول له ذات يوم، ونحن على هذه الحال: إذا كان بك أن تهلكني، ~~وتعجل اليتم لبني، فما حاجتك إلى أن تهلك أنت وتعجل ~~اليتم لبنيك؟ فأجابني من فوره بقول الشاعر، وقد ~~أخذ التنمر والشهوة إلى افتراس العدو ~~من خلفه كل مأخذ: # فاقتلوني ومالكا # واقتلوا مالكا ~~معي # هذا يا سيدي بعض ما يلحقني من كيده وشره، وذلك بعض ما ينالني من ~~عطفه وبره، أفلا خبرتني: أيكون هذا الرجل لي أعدى الأعداء، أم ~~أصدق الأصدقاء؟ # إنني في انتظار جوابك على مثل جمر الغضى، والسلام عليك ورحمة ~~الله. # المخلص م ... ~~«تحرير المصور» يظهر لي يا سيدي أنك رجل طيب بلغت من الطيبة غاية لا ~~يستحب لك منها المزيد، أما صاحبك فيخيل إلي أنه ليس بالرجل المفطور على الشر، ~~ولا بالذي يبتغي لك الأذى والكيد لاضطغان عليك، وعداوة يحملها لك، بل إنه لقد تشتد ~~شهوته إلى مداعبتك، حتى بما قد يكون مظنة الخطر عليك وعليه معا، والشهوات - لو ~~علمت - فنون، وإني لأكاد أقطع بأنه يحبك ويؤثرك، ولا تنس في النهاية أن ms099 ~~الحب بلاء كما يقولون، أسأل الله لي ولك العافية. # عبد العزيز البشري # | عبرة1 # جلست ليلة أمس إلى بعض أصدقائي وجعلنا نسمر، فقص واحد منهم علينا القصة ~~الآتية، قال: # كان لي صديق، وكان رحمه الله عذب الروح، سلس النفس، قوي العاطفة، ~~متسعر الذكاء، حلو الحديث، حاضر الفكاهة، وكأنه قطعة ناضرة من الغبطة ~~وحلاوة الأمل. # ولقد أحب الحياة وغلا في حبها، وأبغض الموت وأسرف في بغضه، وسبيل ~~الموت في العادة هو المرض، فكان إذا ذكر المرض طار قلبه فرقا من ذكر ~~الموت! # وكيف يتقي المرض ويتحامى أسبابه؟ لقد جاء بطبيب والتزمه بياض نهاره وسواد ليله، ~~فلا يهب من فراشه إلا إذا أمره بالهبوب، ولا يطمئن إلى مضجعه إلا إذا ~~أذنه بالاطمئنان، ولا يخرج من داره لطلبة أو لفرجة إلا إذا أشار عليه بالخروج، ~~ولا يبدل ثوبه أو يحف لحيته أو يتروى بجرعة الماء إلا إذا أوحى إليه ~~الطبيب، فإذا استويا إلى المائدة وقربت ألوان الطعام تحرم أو يقول له ~~الطبيب أصب من هذا اللون وأقلل، ونل من هذا وأكثر، وبقي عليك لتسيغ هذه ~~اللقمة ست مضغات، وبقي عليك لتزلق هذه المزعة # 2 # إحدى عشرة! # وجاء بكتب الحكمة، وطلب المجلات الطبية ما يخرج منها في العربية وما يخرج ~~في الفرنسية، وجعل يديم النظر فيها والإكباب على تفهم مباحثها، وما قاله ~~العلماء في اتقاء الأمراض وعلاجها، وما لوح به المستكشفون من إمكان التوصل إلى ~~مدافعة الموت وإطالة الحياة، ولكنه لقد يصافح إنسانا وقد يمس آنية أو ~~يلمس ثوبا، فسرعان ما يفزع إلى ألوان المطهرات: هذا يغسل به يديه، وهذا يضمخ # 3 # به ثوبه، وهذا للمضمضة، ~~وهذا للاستنشاق! # ولكنه يتنفس ولا غناء له عن أن يتنفس، وقد يجر نفسه نسمة مؤذية بما ~~تحمل من «المكروبات»، فهو دائب على تجرع الأدوية: هذا لتطهير الحلق، وهذا لتنقية ~~الرئتين، وهذا لتنظيف المصران # 4 # الدقاق، ~~وهذا لترويق الكبد والكليتين! # ولكن قلبه يضرب، ومن آية الحياة أن يضرب القلب، أفأمن بين ساعة ~~وأختها أن تختل ضربات قلبه فتكون نفسه # 5 # في إحدى جمحاته؟ فتراه ms100 ~~طوال يومه مكبا على كرسوع يسراه ببنان يمناه، و«ساعته» في حجره ليعد ما ~~تدور عليه كل «دقيقة» من ضربات قلبه: لقد استوت سبعين فالحمد لله! لقد ازدادت إلى ~~تسعين فوا حر قلباه! لقد تدلت إلى ستين، وذلك فتور وانخذال، لقد هبطت إلى سبع ~~وخمسين، وذلك من نذر التلاشي والانحلال! الأطباء! الأطباء! علي «بكنصلتو» ~~ينتظم فلانا وفلانا وفلانا من كبار الأطباء! ... # ويدور البحث والفحص والتقليب، والتسمع والجس والتحليل، فيخرج من هذا كله أن ~~الأمر لا يعدو فتورا في أعضاء الجسم يذهب بفنجان قهوة أو بجرعة شاي! # وسرعان ما ينبعث في صاحبي نشاطه، وتعود إليه نضارته وفتاء قوته، وقد يستقبل حديث ~~المرض هنيهة فيأخذ في حديث الناس، ويتبسط إلى الصحاب بالنادرة اللطيفة، ويحاضرهم ~~بالملحة الطريفة، وما يزال هذا شأنه حتى يرميه بابه بزائر، فإذا سقط لسانه بأن ~~فلانا قد مات، تربد وجهه، وتتعتع لسانه، وتزايل هيكله في مجلسه، ~~وتاهت حدقتاه في محاجرهما، وشد نفسه شدا ثم تهافت بها على الزائر يسأله: ~~وهل مرض فلان هذا وهل شكا؟ وماذا كانت علته؟ ومتى ابتدأت شكاته؟ وما الذي ~~كان يظهر عليه من أعراض الداء؟ وهل كان يحس وجعا؟ وفي أي موضع كان يستشعر الألم؟ ~~وما صفة الدواء الذي كان يتناوله؟ ومن الطبيب الذي كان يعالجه؟ وهل فحص عن قلبه؟ ~~وهل كان يعد ضرباته؟ إلخ! ... # ثم إنك لتشعر أن قد نشبت في نفس المسكين معركة هائلة بين الرجاء في الحياة ~~وتوقع الموت كما مات فلان هذا فيكون الفوز في صدر هذه المعركة للأول، إذ تراه قد شد ~~متنه، وأقبل يحدثك في قوة وحماسة عن صحة قلبه وسلامة سائر جوارحه، ~~وأن جمهرة الأطباء قد أكدوا له ذلك وأقاموا عليه أبلغ البراهين وأدمغ ~~الحجج؛ حتى لقد صح لهم أن قلبه من السلامة بحيث لا يقع مثله إلا في كل ~~ثلاثة آلاف قلب لا يسلم واحد على علة. # ثم تكون له فترة يقبل فيها على جس نبضه، ثم تراه قد دخل في الغشية ~~ولحقه الذهول، فزاغت عيناه، وتقلصت ms101 شفتاه، وأرعشت يداه، وجعل يطفو ~~ويرسب في كرسيه؛ وأومأ فتطاير الخدم يطلبون الأطباء من كل مكان! # وكذلك قضى العمر إلى غايته مشغولا عن متع الحياة ومطالب الحياة بشدة الحرص ~~على الحياة! # وقد مرض حقا وألحت عليه العلة وأيس منه أساته، وجاءني أنه لا يعد ~~يومين، فأسرعت إلى عيادته وأنا أرجو ألا يكون قد اطلع على حقيقة علته، ~~فيموت قبل أن يموت! # وجلست إليه فإذا هو يفطن إلى خطبه، وهو يشعر بأنه لن يطوي على ظهر ~~الأرض يوما حتى يطويه بطنها طيا، أفرأيته من الموت كان مذعورا ~~منخلع القلب مستطار اللب؟ # كلا والله! فإني لقد رأيته وهو يستقبل الموت هادئ السعي، وادع النفس، ~~يتجمع ليتحدث في هذه الأسباب الدائرة بين الناس، حتى يخذله لسانه، وتتخلف ~~عنه قواه، فيرخي جفنيه ويدخل في مثل السنة؛ ثم ينتبه وعلى شفته ~~ابتسامة عذبة أعرفها له وهو في صدر الشباب، وقد يحاول أن يدور ~~بلسانه في ملحة أو نادرة مستطرفة فيعيى عليه الكلام، فيحاول أن يتعلق ~~إلى شأنه بشيء بين الضحك والابتسام، ثم يعود إلى إغفاءته في غبطة ودعة ~~وارتياح. # وظل هذا شأنه حتى دخل في الحشرجة، وفارق هذه الدنيا ورحمه الله! # قال محدثنا: أفرأيتم كيف كان رفق الطبيعة بالإنسان؟ # ليس من سبيل إلى توقي غير الدهر والعصمة من كوارثه؛ والناس - ما عاشوا في ~~هذه الدنيا - أهداف للمصائب، وأعراض للنوائب، وهم أبدا مهتمون بها دائمو الجزع ~~منها، وإنما يكون إشفاقهم من رزايا الدهر، وجزعهم على قدر قربهم منها ~~أو بعدهم عنها، كذلك يتفاوت ما يتداخل نفوسهم من الوجد والفرق بتفاوتهم في ~~قوة القلب، ومتانة الأعصاب، وثبات الإيمان. # وعلى كل حال، فإنه ما من مصيبة في الأرض إلا كان موقعها أهون وأخف من ~~توقعها، وهذا - كما قلت - من رفق الطبيعة بالإنسان، وإن في حديث ~~صاحبي الذي قصصته عليكم لعبرة. # فقال بعض الحضور: وعلى هذا صح المثل العامي القائل: «الوقع في البلاء ولا ~~انتظاره!» # فبادره آخر بالمثل العربي: «الناس من خوف الذل في الذل». # وتمثل ثالث بقول كثير ms102: # فقلت لها يا عز كل مصيبة # إذا وطنت يوما لها النفس ذلت # وجعل رابع يردد قول الشاعر: # لا أستقيل زماني عثرة أبدا # ما شاء فليأت إن الشهد كالصاب # 6 # وتفرق عند هذا مجلس الإخوان، فعزمت لأسامرن به قراء «ليالي ~~رمضان». # | قصة1 ~~حياء! # وفتى يشرب المدامة بالما # ل ويمشي يروم ما لا يرام # تركته الصهباء يرنو بعين # نام إنسانها وليست تنام # جن من شربة تعل بأخرى # وبكى حين ثار فيه المدام # كان لي صاحبا فأودى به الده # ر وفارقته عليه السلام # وحين أترجم لموضوع اليوم بكلمة «قصة» لا أعني الرواية ولا ما يشبه الرواية ؛ ~~فإنني لا أشيع فيها خيالا، ولا أخترع لها أبطالا، ولا أخلق مفاجآت، ولا أبتكر ~~مواقف، ولا أمد لها مغزى يصيب غرضا، ولا أعالج تحليل نفس أو فكرة، ~~لأنني لا أجيد هذا الضرب من البيان ولا أحذقه، بل إنني لم أحاوله قط طول ~~حياتي الكتابية، وإنما أقص حادثة وقعت بسمعي وبصري، فإن هي أصابت غرضا أو ~~اتصل بها مغزى، فذلك من صنعها نفسها، لا فضل لي من ذلك في كثير ولا ~~قليل. # كان لي صاحب شاب نشأ في الحسب، وتقلب في شيء من النعمة، وأصاب حظا من العلم، ~~وكان يكلف كلفا شديدا بالأدب، فلا يخلو بنفسه إلا أكب على ديوان شعر ~~لواحد من متقدمي الشعراء، فإذا سقط على كلام جيد رائع جعل يترنم به، ~~وإذا وقع له في نثر النثار أو في خطب الخطباء كلام بليغ راح ~~يشيع فيه نفسه ويقلب به لسانه، وكان رحمه الله إلى هذا عذب الروح، جم ~~التواضع حاضر البديهة، حلو الحديث، ولكنه مع هذا كله كان شديد الحياء حتى ~~لترى فيه خفر الفتاة الكعاب، يتحامى مجالس الناس ولا يتهافت عليها، فإذا قضت ~~عليه الأسباب بأن يدخل في غمرهم عقد الحياء لسانه، وملك عليه ~~بيانه. # وكان عصبي المزاج يثيره التافه من الأمر فيغضب، ولكن الغضب لا يصل من نفسه ~~إلى أبعد من السطح، فهو كالغدير تثير صفحته العاصفة، ولكن باطنه كله سهل ~~وادع رفيق. # ولقد ms103 جرى عليه القدر، فعلق فتاة يصل أهلها بأهله بعض السبب، وكانت حلوة ~~نجلاء العينين، لها فم دقيق بديع، إذا افتر افتر عن مثل حب الغمام، أو ~~عن عقد من الدر بديع النظام، مدملجة الجسم، ممشوقة القد، مشرقة الوجه، ~~حتى لتحسب أن وجنتيها تجول فيهما الشمس، وكانت إلى هذا مرحة لعوبا ~~تكاد من خفة الروح ومن شدة المراح تطير. # وهو يرتصد لها في مغداها ومراحها، ولربما استهلك في ذلك يومه الأطول، حتى ~~إذا جازت به أسبل عينيه، أو لفت النظر إلى شيء آخر من الخجل ~~والاستيحاء! # ولقد حدثني أنه جاز في رفقة من صحبه ببيتها صباح يوم، فإذا هي في ثياب التفضل ~~تقطف من الحديقة أزهارا، فلما رأتهم توارت منهم في بعض الشجر، قال: ~~فتشجعت وأرسلت نظري، فإذا غصن تتدلى منه وردة لم ير الراءون ~~شبها لها في الزمان! ~~••• # وأخذ فيه الهوى، وألحت عليه الصبابة، ولحقه من الوله عليها ما نقرأ ~~مثله في الكتب فلا نصدقه. # ويشاء الله أن تدعو أهلها بعض أسبابهم إلى التحول عن القاهرة، فتحولوا ~~وامتلخوا معهم قلب صاحبي المسكين، فكيف حيلته؟ وكيف له بتعليل ما يغمز على كبده ~~من هوى وصبابة؟ لم يجد المسكين حيلة إلا أن يفزع إلى الشراب، فكان يصطبح # 2 # ويغتبق، # 3 # ويسكر ما تهيأ له السكر في الليل أو في النهار، ~~فإذا زجره عن هذا زاجر، أو وعظه واعظ، تمثل بقول الشاعر: # فأصبحت ألحى السكر والسكر محسن # ألا رب إحسان علي ثقيل # وكان إذا جمعه المجلس، حتى المجلس الطلي الظريف، استوحش واستشعر ~~الوحدة، فتسلل وانتبذ بنفسه ناحية ليأنس باستحضار هواه، فكان في هذا ~~يذكرني قول الشاعر العربي يصف لبنته ما يجد من فراق أهله: # إذا عن ذكرهمو لم ينم # أبوك وأوحش في المجلس # ويذكرني قول الآخر (ولعله مجنون ليلى): # وأخرج من بين الجلوس لعلني # أحدث عنك النفس في السر خاليا # وإني لأستغشي وما بي نعسة # لعل خيالا منك يلقى خياليا # وقلت له مرة في ذلك، فقال: اسمع يا فلان! لقد خلصت حياتي كلها لها ~~وتجردت ms104 نفسي فيها، وانقطعت حواسي إليها، وأصبحت هي جميع مادتي وعناصر ~~وجودي؛ فكيف تريدني على ألا أشتغل بها أو أحتبس على التفكير فيها؟ والله يا ~~فلان! إني لأراها طول يقظتي كما أراها طول نومي، فإنني ما رأيت درة قط ~~إلا حسبت أنها انتزعت من ثغرها، ولا أبصرت مرآة قط إلا ~~ظننت أنها استعيرت من صدرها، ولا طالعت وردة ناضرة إلا خلت ~~أنها قطفت من خدها، ولا تمثل إلي غصن من البان إلا أحضرني ~~صورة قدها، ولا سطع لي عبير إلا شعرت أنه من شذاها، ولا فصحني نور ~~إلا قدرت أنه من إشراق محياها ، ولا سمعت شدو القمري إلا سمعتها ~~تتكلم وتلغو، ولا طاف بي النسيم إلا تمثلتها تلعب وتلهو، ولا طلعت الشمس ~~إلا رأيتها فيها، ولا استتم البدر إلا خلتها تعلو على الدنيا كبرا ~~وتيها، وإني لأرفع بصري إلى السماء فأرى لها هودجا في موكب السحاب، وأخرج إلى ~~الفلاة فإذا هي التي يترقرق بها السراب، فهي سعدي وهي نحسي، وهي نعيمي ~~وهي بؤسي، وهي لذتي وألمي، وهي صحتي وسقمي، وهي نعمتي وبلائي، وهي ~~حياتي وفنائي، ثم أقبل علي وقال لي في خوف وورع: فما حاجتكم إلى أن تقطعوا ما ~~بيني وبين نفسي؟! ~~••• # ولقد ظل صاحبي على شأنه قرابة عشر السنين، وانتهى إليه في بعضها أن الفتاة ~~زفت إلى بعل، وكانت هنالك في ظنه عواثير تحول دون خطبتها له وتزويجها منه، ~~فاجتمع عليه ألم الصبابة وألم الغيرة معا، واستوحش المسكين وآثر الوحدة، ~~وألح على الشراب وأكثر من الخروج إلى الفلوات، ولعله لم يكن يطالع بكل ~~مداخله إنسانا قدر ما كان يطالعني، ثقة منه بإيثاري له وفرط ~~محبته، وكتمان مستوره، وكان رحمه الله إذا عرض الخاطر في هذا يتمثل ~~بقول جميل: # أموت وألقى الله يا بثن لم أبح # بحبك والمستخبرون كثير # عشر سنين! وعشر سنين على مثل هذا كثير: رقة نفس، ودقة حس، وتسعر ذكاء، ~~وغرام بالغ، وشدة وله، وانقطاع وطول مهاجرة، و«أرق دائم وحزن طويل»، ~~ويأس فاره وأمل هزيل، والخمر! الخمر ms105 فوق ذلك، تهيج في نفسه وتعربد، ~~وتسرف في عمره وتبدد، ورسل الموت تتوالى، ونذر الطب تتدارك ~~وتتتالى، وماذا يعني صاحبنا من كل أولئك؟ أليس يعيش لها؟ فخير له أن يموت ~~فيها! # ولقد ضربه المرض بذات الجنب، فما برح يرق وينحف، ويهزل ~~ويضعف، ولكنه إذا تحدث عنها خلت أن أرماق نفسه قد تجمعت ~~كلها في لسانه، فترى منه في ذاك أقوى القوة، وتشهد منه أفتى الفتوة؟ # ويدعوني إليه ذات يوم، فوافقته، فإذا هو مشرق الوجه، مرح النفس، لولا ~~المرض يثقله لما وسعته الدنيا طربا ومراحا، فأقبلت عليه بالهناء ~~على مدخل العافية، وسألته الخبر ، فضحك ضحكة طويلة مزقها عليه السعال، ~~فلما سكن وتطامن، قال: احزر؟ فقلت: لا أحزر إلا أن يكون جاءك خبر ~~من عند صاحبتك فقال: إي والله، فلقد جاءتني جارية لها تقول لي: إن فلانة قد عادت ~~إلى القاهرة واستقرت فيها، وهي تدعوك إلى زيارتها لتسألك في بعض شأنها، وإنها ~~لفي انتظارك الآن لو تهيأ ذلك لك، وإلا ففي غد أو بعد غد، فخففت من فوري مع ~~الجارية، ولقد والله وددت لو أستحيل في طريقي إليها حمامة، أو أنتفض ~~نعامة، حتى أستمتع برؤيتها الوقت كله، فلا تزاحمني على هذا المتاع مسافة ~~الطريق. # وتلقتني مرحة في جد وتوقر، وسلمت عليها في أدب وتحشم، ~~واتخذت لها مقعدا لا هو بالقريب مني، ولا هو بالبعيد عني، وتحدثنا ~~ساعة في مثل أحاديث الناس، وجعلت تقص علي بعض ما لقيت في تلك السنين، ~~وهي لا تفتأ الفينة بعد الفينة تسألني عن شأني وما تغير بعدها من أسبابي، ~~فأجر لها الجواب جرا، لأنني إنما كنت مشغولا عنها بها! ثم أفضت إلي ~~بمسألتها، وزعمت لي أنها فكرت فلم تر لها مسعدا فيها غيري لما ~~بين أهلينا من وثيق الصلة، إلا أن يكون علي في الأمر غضاضة أو أن تلحقني فيه ~~مشقة، وأنا أحلف لها بكل مؤثمة من الأيمان أنه ليس هناك أية غضاضة ولا أية ~~مشقة، وأنها في تحرجها جد مبالغة، ثم استأذنتها وانصرفت. # فقلت له: وهل ms106 منعك الحياء أيضا من أن تباديها بحبك؟ فقال: كلا! ~~فلم يعد للحياء علي من سبيل؛ ولكنني كرهت أن أفعل لكيلا أتهم ~~عندها وعند نفسي بأنني أقتضيها على مسعاتي لها أجرا، قلت: فماذا صنعت؟ ~~قال: سعيت لها مسعى صغيرا رد الله به حقها عليها، ولقد تعاظمها ~~الأمر فأرسلت إلي جاريتها تشكرني وتستزيرني، قلت: فماذا أنت ~~صانع؟ قال: سأظل أياما أخر أتقلب على مثل جمر الغضى، وأعاني من الشوق ~~واللوعة ما أعاني، حتى تتراخى الأيام بتلك المسألة؛ وحينئذ أزورها وأسكب بين ~~يديها كل غرامي وولهي، فلم يبق في فضل لصبر ولا لكتمان، وودعته على أن ~~يطالعني بما سيكون من أمره معها. ~~••• # وفي أصيل يوم صافي الأديم، عليل النسيم، أرسل من يدعو بي إليه، فوافيته فإذا ~~هو أنحل من الطيف، وأرق من سحابة الصيف، فما إن رأيته قط، وا ~~حسرتاه، متداعيا متهدما كما رأيته في ذلك اليوم؛ على أنني رأيت في عينيه ~~بريقا حديدا، وعلى شفتيه الذابلتين ابتسامة تشف عما وراءها من ~~حرقة ألم، وشدة أسى وندم، فقلت له: ما لك؟ فقال: لقد زرتها اليوم ~~ولم ألبثها، بل اقتحمت عليها، وجثوت بين يديها، وبثثتها ما أعاني ~~فيها من الهوى، وما أجد من حرق اللوعة ومن برح الجوى، فعراها أول الأمر ~~شيء من الذهول، وجعلت تدير في نظرا حائرا، وظلت على هذا برهة، ~~فلما عادت إليها نفسها سألتني عن مبدأ هذا الحب وكيف نجم، ~~فرحت أقص عليها حديثي من أوله إلى آخره، فجعلت تعجب لأمري ~~في ذعر وندم، وتسألني: لماذا لم أصارحها بهواي كل هذا الزمان الطويل؟ ~~ولماذا سمت نفسي كل هذا العذاب الأليم، والخطب لو قد باديتها بحبي، وعزمي ~~على التقدم لخطبتها كان أيسر وأهون، لأنها لم يكن يعجزها أن ~~تروض الصعاب، وتذلل العقاب، # 4 # واندفعت تبكي ~~وتنشج، واندفعت أنا أبكي وأستعبر، حتى بلغنا من البكاء غايتنا، ولكل ~~سائلة قرار، وأخذت بيدي وأجلستني إلى جانبها، وأنشأت تمسح ما انهل ~~من الدموع على خدي، وتمر يدها لينة رفيقة على كتفي كأنها تدلل ~~طفلا. # ثم أقبلت ms107 علي تعاتبني على أن أخرت مكاشفتها بهواي حتى تولى ~~الصبا، وجفت أنوار الربى، وآذن البدر بالأفول، وأشرفت الوردة على ~~الذبول، وأوشك أن يحزن # 5 # أملود # 6 # الإهاب، وأن يسكن ما كان ~~يتحير في الخدود من ماء الشباب، أفكل هذا يصنع الحياء؟ ألا بعدا لهذا ~~الحياء! # فقلت لها: دعيني من هذا، فوالله ما أراك الآن إلا كما كنت أراك فتاة مرحة ~~لعوبا تثبين في حديقة بيتك، تجمعين الأزهار، وتارة تلاغين الأطيار، وهل ~~تحسبين أن الأيام أبقت مني على عين تنظر جديدا، أو عاطفة يشبها حديث؟ ~~إنما أنظر إليك بتلك العين، وأشب لك تلك العاطفة، وهما اللتان ادخرتهما ~~للحياة من ذلك العهد البعيد، ولو كانت لي عين تنظر كما تنظر عيون الناس، وعاطفة ~~تهب كما تهب عواطف الناس، ورأيتك اليوم أحلى وأنضر مما كنت، لانصرف ~~حبي عنك، لأن هواي إنما يكون إلى غيرك، فهلم بنا نسافر معا إلى الماضي، تبعثين ~~له حسنك، وأبعث له قلبي، فعلى هذا الماضي نعيش ما قدرت لنا الحياة. # ثم كانت زفرات تنفس بها الحشى، وترجم بها القلب عن كل ما أعيا على ~~اللسان! # ولا أدري أأحبته من تلك الساعة كما أحبها دهره الأطول؟ أم أنها ~~أسعدته بالبكاء رحمة به، وشفقة عليه؟! ~~••• # وألحت العلة على صاحبي، وأثقلته في فراشه، فلم ير صاحبته بعدها ~~أبدا، وكنت أعوده في كل يوم، فلما تراءت له المنية قال لي ذات يوم؛ أنت أصدق ~~أصدقائي وأحفظهم لعهدي، وأكتمهم لسري، فهل لك في يد تسديها ~~إلي؟ فقلت له: فدتك نفسي فمر، وأنا لك فيما دون الدين والعرض طائع، قال: ~~فإني حين علقت فلانة وصدني الحياء عن مكاشفتها بهواي كنت أفيض بمذكرات ~~أصف فيها بعض ما أجد لها من الصبابة، فهل لك أن تحفظها عندك ولا تنشرها ~~للناس - إن نشرتها - إلا بعد أن ينطوي خبري وخبرها، ويمحى أثري وأثرها؛ فما ~~أحب أن يعرف على الزمان غيرك من أنا ومن هي، فلنا من حكم العادة ومن ~~حكم بيوتنا ما يكفنا عن هذا، فعاهدته على ذلك، فمد المسكين يده ms108 الريقية ~~الناحلة، واستخرج من تحت الوسادة رزمة دفع بها إلي، بعد أن كرر الوصية تكرير ~~الواثق لا المستريب. # وقضى بعد أيام، ولكم سالت لمصرعه كبود، ولكم لطمت في رزئه خدود، ولكم ~~شقت عليه جيوب، ولكم تفطرت له قلوب! ~~••• # وشخصت في ضحى يوم من الأيام إلى قبر صديقي لأزوره، فإذا عليه ورد ناضر ~~وريحان جنى، فسألت سادن القبور عمن جاء بهذا؟ فقال لي: إن سيدة تنتاب هذا القبر ~~حينا بعد حين، فتنثر عليه الرياحين والزهور، وتظل ساعة تبكي حتى تستعير ثم ~~تنصرف، فسألته أن يصفها لي، فعرفت أنها صاحبته؛ رحمة الله عليهما ~~جميعا . # | أولادنا!1 # تسألني يا سيدي في كتابك أن أصف لك حب الولد، وما مبلغه، ومن أي نحو هو، ~~وهل يستوي فيه صغارهم صغارهم وكبارهم، وذكورهم وإناثهم؟ وهل صدق ذلك الذي قيل ~~له: أي بنيك أحب إليك؟ فقال: صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، ومريضهم حتى ~~يبرأ؟ # وترى هل تختلف محبة الولد باختلافهم في الصفات من الجمال والقبح، والنجابة ~~والغباء، وحسن الخلق وسوء الطبع، والنشاط والكسل، والنجاح والخيبة؛ ونحو ذلك مما ~~تختلف فيه الصفات وتتغاير الطباع؟ # وتسألني يا سيدي أن أوضح لك شيئا تبهم عليك في أمر الولد: ذلك بأن حبهم ~~لا شك فيه؛ بل إن هذا الحب من الأشياء الموصولة بالطبع والغريزة، ومع هذا فإنك لترى ~~أكثر الآباء إن لم ترهم جميعا يتمنون لو أنهم لم يكونوا قد رزقوا أولادا! ~~فكيف يستقيم الجمع بين هذا الحب كله للولد، وبين هذا الضيق كله بالولد؟ أليس من ~~أعجب العجب أن يضيق الإنسان بأحب الأشياء إليه، ويبرم بأشد ما يكلف به في ~~الدنيا، ويتمنى أن لو لم يكن بعد ما قد كان؟ # ثم تعود فتلح علي في أن أصور لك هذا اللون من الحب تصويرا صادقا ~~واضحا حتى تشعر بأن لك أولادا تحس حبهم وتتذوقه كما يحسه ويتذوقه ~~الآباء! ~~••• # أما بعد، فلقد سألتني شططا وجشمتني عسيرا، بل ما أراك تجشمني من ~~الأمر إلا محالا! فكيف لي بأن أصف لك ما لم يقع ms109 قط عليه حسك، وأن ~~أجلو على نفسك من ألوان العواطف ما لا صلة لها به ولا سبب، وإن مثلك في هذا ~~لكمثل من يستوصف طعم الكمثرى، أو لون البنفسج، أو نغمة العراق، أو رائحة ~~الياسمين؛ ليدركها إدراك من قد طعم أو رأي أو شم أو سمع! اللهم إن ~~هذا الذي تجشمني يا سيدي ليس في طوقي ولا في طوق اللغة؛ فإن هذه المعاني ~~التي لا تدرك إلا بالحس، لا يمكن أن يغني في تذوقها الوصف! # بل إنني وإياك لقد نشترك في الشعور بمعنى من هذه المعاني، ولقد تترقرق في ~~نفوسنا بإزائه عاطفة واحدة، ومع ذلك يعيي علينا كلينا البيان في جلوها ~~والترجمة عنها، فإذا بدا لأحدنا في أي وقت أن يذكرها لصاحبه لم يزد على ~~أن يشير إليه بأن يبعثها في نفسه ويستحضرها استحضارا، وتلك لغة ~~الإحساس. # اللهم إن جهد اللغة في هذا الباب أن تقرب هذه المعاني، لمن لم يسبق له ~~أن يحسها ويلابسها، بفنون التشبيه والتمثيل: كأنه يقال: إن طعم كذا ~~شبيه بطعم كذا، أو إنه بين الحلو والحامض مثلا، وإن عبير هذه الزهرة شبيه بعبير ~~ذلك النوع من الزهر لولا أنه أشد أو ألطف مثلا، وكل ما يمكن أن يعطي ~~هذا - مهما يعل بيان الواصف ومهما يدق وينفذ - إنما هو صورة تقريبية، أما أن ~~ينفضه بالبيان على الحس حتى كأنما يذاق حقا فذلك مما يوصل ~~بالمحال! # وأنت ترى أنه لا سبيل حتى إلى جلو هذه الصورة التقريبية الناقصة لشيء من هذه ~~المعاني إلا بردها إلى شيء سبق أن وقع عليه الحس ولابسه الشعور. ~~••• # على هذا سأتحدث إليك يا سيدي، عن حب الولد، سأتحدث إليك وأنا واثق أتم الثقة ~~بأنني عاجز أشد العجز عن أن أنفض عليك كثيرا من هذا الشعور الذي تنطف به ~~كبدي، فيشيع في جميع نفسي، ولقد تعلم أن كلمة الحب تنطوي على ألوان من الحس ~~كثيرة قد تقترب اقترابا شديدا، وقد تفترق افتراقا شديدا، ومهما يكن من هذا ~~الافتراق وذلك الاقتراب، فإن للحب في ms110 كل موضوع كيفا خاصا وشعورا مستقلا ~~لا يشركه فيه سواه، فللحياة حب، وللجمال حب، وللذات حب، وهكذا، على أنك تحس ~~لهذا الضرب من الجمال غير ما تحسه لذلك الضرب من الجمال، وتشعر لهذا اللون ~~من اللذة غير ما تشعر لذلك اللون، إذن فاعلم أن حب الولد غير أولئك ~~جميعا. # حب الولد غير حب الزوج، وغير حب الوالدين، وغير حب الإخوة وأبنائهم؛ هو حب له طعم ~~لا تذوقه في شيء من كل أولئك، هو مزج من الرحمة والحنان، ومن السعادة والجمال، ~~ومن الطرب والشجى، ومن الطمأنينة والقلق، ومن الأثرة والإيثار، ومن الخوف والرجاء ، ~~هو مزج من هذا كله مختلط، يموج بعضه في بعض، فيخرج له ذلك الطعم الخاص ~~الذي لا يكون إلا بمجموع هذه المعاني، وإن كان أظهر عناصره الرحمة ~~والحنان. # لعلك يا سيدي قرأت قول الشاعر العربي: # وإنما أولادنا بيننا # أكبادنا تمشي على الأرض # لعلك قرأت هذا البيت مرة ومرة، ولو قد قرأته ألف مرة ما خرج لنفسك منه شيء ~~مما يحس له صاحب الأولاد! # نعم، هؤلاء هم أكبادنا، ما غابوا عنا إلا شعرنا بنقص في نفوسنا، بل بأحسن ما في ~~نفوسنا، حتى يردوا علينا؛ بل إنه ما اجتمع بهم شملنا إلا شعرنا بأنهم ~~قطع قد فصلت عن نفوسنا، ولو قد تهيأ لنا أن نحسوها حسوا لنملأ بها هذا ~~الفراغ الذي نحسه فيها لفعلنا! # ابني معناه أنا، ولست أريد «بأنا» كلي، بل إنما أريد به عصارة ما في من ~~عطف ورحمة، وأمل وشعور بأسعد السعادة وأجمل الجمال! ليس لحم ابني ولا دمه ~~وعظمه إلا هيكلا لكل هذا، بلى ليس إلا رمزا بل ليس إلا هذه المعاني قد ~~تجسدت فسويت على صورة الإنسان، بل إني أكاد لا أراه إلا تلك المعاني ~~مترقرقة لم تمسكها صورة الإنسان! ~~••• # هذا ولدي الصغير يلعب بين يدي، فسرعان ما أنسى سني وأطرح كل همي، بل ~~سرعان ما أخرج عن نفسي، فلا أراني إلا قد رددت طفلا يتمثل في خلقه، ~~فأنا الذي يلعب ويعبث، وأنا الذي يسر ms111 ويغتبط بهذا اللعب والعبث، حتى إذا ~~تعرض لمكروه في بعض جريه ووثبه، ودفعه وجذبه، ثبت إلى نفسي ~~فكففت المكروه عنه، ثم رددت من فوري إلى ما كنت فيه! # وإذا كان قد جاءك أن أعظم العظماء في هذا العالم قد خرجوا في ملاعبة أبنائهم ~~عما ينبغي لهم من الجد والتوقر؛ بل لقد يبلغون في هذا أشد ما يبلغ ~~الصبيان من ألوان العبث، فاعلم أنهم لا يتكلفون هذا تكلفا لمجرد إدخال السرور ~~عليهم؛ بل إنهم لكثيرا ما يرون أنفسهم في بنيهم فيستشعرون هذه الحداثة، ولا ~~يجدون حرجا من أن يصنعوا ما يصنع الأحداث؛ بل إنهم ليجدون في هذا لذة ~~لا تعدلها لذة، ومراحا دونه كل مراح! # وإذا كان قد جاءك أن أعظم العظماء في هذا العالم قد اتخذوا من أنفسهم مطايا ~~لصغارهم، فأركبوهم ظهورهم، لا يرون بهذا بأسا ولا يجدون فيه حرجا، فاعلم ~~أنهم، وقد عجزوا عن أن يردوا كبودهم إلى مواضعها بين ضلوعهم، سواء عليهم ~~أوضعوها على الصدور أم وضعوها على الظهور! # ولقد ترى الرجل يؤثر ولده على نفسه بالحلوى والفاكهة مثلا، فلا تظنن ~~أنه إنما يفعل هذا لمجرد تفكيهه وتلذيذه؛ بل إن نفسه هو لتتذوقها بهذا ~~أحلى متذوق، وتسيغها أحسن مساغ، بما لا يقاس به احتلابها بالشفاه، ~~وتقليبها في الأفواه. ~~••• # ها أنا ذا أقبل ولدي، وإني لأجد لقبلته من اللذة ما لا أجده لشيء من لذائذ ~~الدنيا، هي لذة فيها شدة وفيها رفق، وفيها عنف وفيها لين، وفيها حر وفيها برد، ~~وفيها وراء ذلك حلاوة لا يتعلق بها وصف الواصفين، أرأيت هذا الذي ألح عليه ~~الظمأ في اليوم القائظ حتى استحال الظمأ في حلقه أوارا، ثم أقبل على الشبم ~~الزلال فجعل يعب منه عبا حتى ينقع غلته نقعا؟ اللهم إني لأجد في ~~تقبيل ولدي أشد من هذا وأحلى وأروح، لولا أن اللذة فيه لا تنقضي، والغلة ~~إليه لا تنقع، على كثرة العب وعلى توالي الرشيف! # وإذا كان الماء يروي أوار الجسم، فإن هذه القبلة إنما تروي أوار النفس، ~~وشتان بين ms112 هذا وهذا في مذهب الشعور! # هذه قبلة تتظاهر الحواس كلها على إصابتها وإدراكها، وتتجمع النفس من جميع أقطارها ~~لتشهدها وتلتذ بها، فلا يبقى شيء منها غائبا عنها ولا مخطئا لها؛ حتى ~~لتشعرن بأن هذه النفس تتقطر كلها على وجهه، ولا يبقى منها إلا رمق ~~هو الذي يشعرك ما أنت فيه من اللذة ومن النعيم! # وإنني لأسمع صوت ولدي الصغير في لغوه أو في كلامه أو في ضحكه، فيشيع في ~~من الطرب ما لا يشيع أندى الأصوات، ولا نغم عود في يد أحذق الضاربين! بل إني ~~لأجد منه ما يجد الشجر إذا نزل عليه الماء فاهتز العود وضحك الزهر! # ولقد تخبث نفسي بما يشب فيها من الغيظ والاضطغان، حتى أحسها تكاد تتمزق ~~تمزقا، فما إن أرى ولدي وأنا على هذه الحال إلا رأيتها قد تطامنت وسمحت ~~حتى توشك أن تصير نارها إلى خمود! # وإن أشد الناس جبنا وفرقا ليرى ولده في خطر أو مستهدفا لخطر، ~~فلا تراه إلا ينصب لاستنقاذه انصبابا ما يبالي ما يصيبه، بل ما يبالي ~~أهلك معه أم هلك دونه! ~~••• # وهذا ولدي يمرض، فهذه كبدي تسيل مسالا، وها أنا ذا أجن ولكنني لا أغفل عن ~~المكروه غفلة المجانين، ولا أجد ما يجدون من رضى بحالهم وارتياح، وهذا حسي يضطرب ~~اضطرابا شديدا بين الرحمة والألم، والحنان والخوف، والإشفاق والجزع، وإن وراء هذا ~~كله لشيئا هائلا بشعا يتراءى لي شبحه من بعيد، فأغمض عيني دونه حتى لا ~~أراه ولا أتبينه، بل إني إذا خلوت إلى نفسي لأطلبه وأتفقده، فإذا ~~تمثل لي بكيت حتى استعبرت، فأجد لهذا البكاء راحة مما يغمز على ~~كبدي ويحرق صدري تحريقا، بل إني لأتمنى على الله أن ينقل ما به إلي، فإذا ~~كان ثمة حدث لا بد من أن يجري به القدر، وددت جاهدا مخلصا لو أنني ~~أكون أسبق الاثنين. # وإني لأذكر في هذا المقام أنني احتسبت ولدا لي كان وحيدا، فجن جنوني، ~~وفعل بي الأسى الأفاعيل، وقد انتهى إلى أبي رحمة الله عليه بعض ما ms113 أصنع أو بعض ~~ما يصنع الوجد بي، فدعا بي وقال لي: بلغني أن الجزع قد بلغ منك إلى أنك ~~تفعل كيت وكيت، أفلا آثرت الاحتمال وتجملت بالصبر على هذا كما ~~احتملت أنا وكما صبرت؟ فسكت لأنني لم أصب قولا أقوله، فأقبل ~~علي رحمه الله وأخذ يدي كلتيهما في يديه، وقال: اسمع يا ولدي، إذا كنت قد ~~حزنت لموت فلان مرة فلقد حزنت لموته مرتين! فرفعت وجهي إليه وقلت له في ~~شيء من الدعة والرفق يخالطهما كثير من الدهش: وكيف هذا؟ فقال في لوعة شعرت ~~بما يعانى في مجاهدتها: لأنه إذا كان ابنك مرة فإنه ابني مرتين! ورأيت ~~الدمع يترقرق في عينيه ولكنه لا يأذن له في أن يتجاوز المحجرين، ووالله لقد ~~سرى هذا الكلام عني كثيرا إذ قد علمت أنني في هذه المصيبة صاحب أضعف ~~السهمين! # وإن تعجب لشيء فاعجب لهذا الإنسان الأثر الشديد الأثرة، الحريص على الحياة ~~أبلغ الحرص، والكلف بها أشد الكلف، والذي يود لو يمتد عمره إلى ما وراء ~~أعمار الناس جميعا، هذا الإنسان يفرق أشد الفرق من أن يتقدمه إلى الفناء ~~ولده، وإن اللذة كلها والسعادة جميعها لتتمثل له في تصوره أن ولده ~~سيعلله إذا شكا، ويقلبه إذا مرض، ويغمض جفنيه إذا مات، ويسوي عليه ~~التراب بعد أن يفضى به إلى لحده! ~~••• # ثم إنك تسألني: أيكون حظ الأبناء من حب أبيهم واحدا، وأنهم كلهم فيه بمنزلة سواء ~~أم أنه يختلف باختلافهم بالصغر والكبر، والذكورة والأنوثة، فاعلم يا سيدي، أنك على ~~إغراقك في حب أبنائك جميعا، وشمولهم بلون من الحب لا يشركه في مذاقه سواه، فإنك ~~واجد لحب كل منهم كذلك شعورا خاصا لا يشركه فيه غيره ولا يزاحمه عليه ~~سواه، فحبهم أشبه بالجنس عند أصحاب المنطق تحته أنواع، وإنك لتصيب من التفاح ومن ~~الكمثرى ومن العنب والتين وغيرها من ألوان الفاكهة فتلتذها كلها فكلها حلو لذيذ؛ ~~على أن ما تجده لهذا من الطعم غير ما تجده لذاك، ولله شوقي بك رحمة الله عليه حين ~~يقول في ms114 وصف الخمر: # حمراء أو صفراء، إن كريمها # كالغيد، كل مليحة بمذاق # والواقع أن الإنسان لو قد حد حسه، وأرهف شعوره، وراح يتدسس في أعماق ~~ضميره ليتفقد حقيقة هذا الاختلاف، ويتعرف وجهه، لرأى أن مادة هذا الحب واحدة ~~وجوهره غير مختلف، ولكن سن كل ولد، وظروفه وأسبابه وجنسه تتناول صورة ~~حبه بالتشكيل والتلوين. # ولقد زعمت لك في بعض هذا الكلام أن حب الولد مزج من عواطف كثيرة أسطعها ~~الرحمة والحنان، فإذا كان الوليد في المهد فإنك لا تكاد تجد له إلا هاتين ~~العاطفتين، فإذا تقدمت به الأيام حتى درج وجعل ينطق ببعض اللفظ ، أضيف ~~إلى هاتين شيء من الأنس به والطرب له، فإذا تقدمت به الأيام فجعل يثب ~~ويلعب، ويقلد في بعض الأقوال، ازداد بك هذا الأنس وهذا الطرب، وأحسست إلى ~~ذلك جديدا، هو أن هذا الغلام يشغل من لهوك صدرا عظيما ما لك منه بد ولا لك عنه ~~غناء، فإذا تقدمت به السنون حتى استوى للتربية والتعليم، دخل على كل أولئك شيء ~~من الإيثار له بإجماله بالطاعة والنجابة وحسن الأدب مع الناس، وشيء من التأميل ~~الرفيق في أن يكون في مستقبل شأنه من الناجحين، وكلما اطردت به السن ~~ربت هذه العاطفة له واشتدت حتى تكاد تغمر سائر ما تجد له من الأحاسيس، فإذا ~~اغترب أو مرض أو أصابه مكروه من المكروه، عادت تانك الخلتان إلى سطوعهما حتى ~~لا يكاد يشعر له إلا بالرحمة والحنان، لأن شأنه في ذلك أولى بالرحمة ~~والحنان! # أرجو أن تكون قد فهمت الآن حق الفهم الوجه في قول ذلك الذي زعم أن ~~أحب بنيه إليه صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، ومريضهم حتى يبرأ، ولعلك ~~كذلك تكون قد استخرجت من كلامي أن أسطع العناصر في حب البنات إنما هو ~~الرحمة والعطف والإشفاق، لأنهن ضعيفات ما لهن بعراك الأيام يدان. ~~••• # ثم إنك تسألني: أيختلف حب الولد باختلافهم في الصفات من الجمال والقبح، ~~والنجابة والغباء، وحسن الأدب وسوء الخلق، والنشاط والكسل، والنجاح والخيبة، وغير ~~ذلك من الصفات. # لعله ms115 قد وقع لك يا سيدي في بعض ما تقرأ جواب ذلك الأعرابي الذي قيل له: ما ~~بلغ من حبك لفلانة؟ فقال: «والله إني لأرى القمر على جدارها أحسن منه على ~~جدران الناس!» # لقد ترى أن هذا الأعرابي كذب أشد الكذب، لأن القمر على جدار صاحبته كالقمر ~~على جدران سائر الناس، ولقد تراه صادقا أتم الصدق لأنه يرى القمر على جدار ~~صاحبته أحسن منه على جدران سائر الناس، وكذلك الولد فإنك لا تكاد ترى فيهم إلا ~~جميلا، أو على الأقل إنك لا تكاد تلمح عيوبهم سواء أكانت خلقية أم ~~نفسية إلا بعد شيء من التأمل والتفكير، أما ما دمت ترسل النظر فيهم ~~عفوا بلا تعمل، فإنهم عندك أحسن الأولاد، ذلك بأنك إنما تنظر إلى كبدك، أو على ~~الصحيح إنما تنظر إلى نفسك، وأنت خبير بأن المرء قل أن يتفطن إلى عيوبه، ~~ولو قد تفطن إلى شيء منها فإن أمره لا يتعاظمه كما يتعاظمه ~~مثله في غيره من الناس، وكذلك ترى الرجل لا ينكر من بنيه بعض ما ينكر ~~من غيرهم من الأبناء، إذ كان يقدر هؤلاء بالعقل والفكر، أما أولاده فإنما ~~يقدرهم بالعاطفة والهوى، ما يكاد يلابسهما تفكير ولا تدبير. # نعم، لقد يكون في الولد عيب خلقي واضح، ولقد يصاب بالآفة من شأنها أن تثقله ~~عن السعي في الحياة، ولقد يبلغ من انحراف الطبع وفساد الخلق وسوء الأدب أقصى ~~الغايات والعياذ بالله، فإن موقع ذلك من نفس أبيه، وحظه من التقدير عنده، ~~أضعف من قدره في الواقع ومن قدره عند الناس، وإن ذلك ليسوءه ~~بالضرورة، وقد يكدر عليه عيشه، وقد يهيجه ويثير على الولد سخطه، قد ~~يبلغ ذلك به كل هذا، ولكنه لا يحط من حبه لولده وإيثاره له على أي حال، بل ~~إن ذلك منه لدليل على هذا الحب والإيثار، فما ساءه ولا كدر عيشه ولا أحنقه ~~ولا أسخطه إلا الرحمة له، والشفقة به، والأسى على أنه لم يكن من أسعد الناس أو ~~أنه لا يكون أسعد الناس. # بل إن ms116 الوالد لقد يتمنى الموت لولده في بعض الحين، لا بغضا له ولا اضطغانا ~~عليه، ولكن رحمة به وشفقة مما يجني عليه سوء أخلاقه، حيث لا رجاء فيه لخير ولا ~~لصلاح؛ فشأنه في هذا شأن من تضرب العلة أعز الناس عنده وأكرمهم عليه، ~~العلة المعنية الشديدة الإلحاح بآلامها وبرحها، والتي لا يعرف الطب لها ~~شفاء، ولا منها نجاء، وإنه ليتعجل له الموت رقة له وإيثارا له ~~بالاستراحة مما يعاني من هذا العذاب الشديد، على حين أنه أشد الناس لموته جزعا، ~~وأعظمهم منه ورعا وإشفاقا! ~~••• # وأخيرا أراك تسألني: كيف يستقيم الجمع بين حب الولد إلى هذا الحد وتمني ~~أكثر الناس لو لم يكن الولد بعد أن قد كان؟ # ولست أشك يا سيدي، في أنك إذ كنت تصوغ هذا السؤال قد قدرت الفرق ~~الواسع بين تمني أن لو لم يكن الولد، وتمني هلكه بعد أن قد كان، فاعلم ~~إذن أنه ما يشبه لهذه المنية إلا غلوه في حبه، والرقة له، والشفقة به ~~مما يلقى أو مما عسى أن يلقى في هذه الحياة من علل وأسقام، ومن برح ومن ~~آلام، على أنه وقد خرج إلى الدنيا فلا يكون له من أبيه إلا ما جلوت عليك بعضه ~~في هذا الحديث، فلقد تعاصى علي أجله. ~~••• # وبعد، فما أراني بعد هذا كله بلغتك ما تحب ولا جليلا مما تحب، بل إني ~~لأخشى ألا أكون قد بلغتك شيئا أبدا! على أنني أدلك على من يستطيع أن يصف لك ~~ما استوصفت في أوضح صورة وأدق تعبير، حتى يتهيأ لك أن تتذوق حب الولد في ~~جميع صوره وأشكاله، وليس يجشمك طلب هذا إلا أن تسرع فتبني # 2 # عسى أن ترزق أولادا، فهؤلاء الأولاد ~~وحدهم هم الذين يستطيعون أن يجيبوك إلى ما سألت أبرع إجابة، ~~ويصوروا لك هذا الحب أصدق تصوير! # | الطفل ملك صغير # بل هو ملك كبير، بل هو أعظم الملوك شأنا، وأقواهم سلطانا، مملكته منيعة لا ~~تقلقها جارة، ولا يزعجها عدو بغارة، وهو مطلق الأمر في حكمه لا يقيده ~~قيد ms117، ولا يحد من سلطانه حد، ولا تشركه في تصريف الأمر يد، ولا يقوم بإزاء ~~أيده قوة ولا أيد، # 1 # نافذ حكمه كيف حكم، متقبل ~~قضاؤه مهما ظلم، لا معقب لمراده، ولا مراجع له في إصداره ولا إيراده، يأمر ~~فلا يرى إلا مطيعا، ما يجشم في أمره قولا ولا توقيعا، ففي إشارته الكفاية، ~~وبالإيماءة يبلغ الغاية، فإذا هو تكبر على الإشارة، وتعالى على الإيماءة، ~~أسرعت الرعية # 2 # إلى ~~تفقد مبتغاه، وتحسس معناه، # 3 # ثم بادرت بالتلبية ~~طيبة النفس، فرحة القلب، قريرة العين! ~~••• # كل شيء له، وكل ما وقعت عليه عينه فهو داخل في ملكه، ما يحوز أحد دونه ~~شيئا، ولا يملك أمر عليه أمرا، وإذا أمر فقد وجبت الطاعة، في التو ~~والساعة، مهما جل المرام، وتعذر حتى على الرؤى والأحلام، أين منه سليمان ~~في مرامه، وقد تعاظمه انتظار عرش بلقيس قبل أن يقوم من ~~مقامه؟! # ناعم في ملكه غير معنى بجهد في تدبير، ولا مكدود بعبء كبير ولا صغير. ~~••• # هو كأهل الجنة، لا يخاف وناهيك بما يورث الخوف من الأسقام. # ولا يرجو وناهيك بما يعقب فوت الرجاء من الآلام، ولا يحزن ولا يأسى، ولا ~~يجزع ولا يشقى، وما له يفعل وقد كفل الأمان، من صرف الزمان؟! # هو دائما في أمان أي أمان، أليست ترعاه العيون، وتحوطه القلوب، ويحرسه «اسم ~~الله»؟ ومن يحرسه اسم الله لا يناله بالأذى إنس ولا جان. ~~••• # يفعل ما يشاء، فلا يرقى إليه حساب، ولا يتأثم من شيء فهل يلحقه عاب؟ كلا ~~فقد عز على الشك وعلا على الارتياب! ~~••• # يسر فتسر الدنيا، ويمرح فتمرح، كل شيء رهن به، وكل شيء حبس عليه، ينام ~~فتخفت الأصوات، وتتعلق الأنفاس، ويستيقظ فيهب النائم، وينبعث الجاثم، فكل ~~إنسان له عبد وكل شيء له خادم! ~~••• # وجهه ولو شاه أجمل وجه، وخلقه وإن تنكر أحسن خلق، طلعته ~~أبهى من البدر، وريحه أزكى من العطر، وإقباله أسعد من إقبال الدهر، كأنما ~~صور من نفس من ينظر إليه، وكأنما صب من قلب من يحنو عليه، وأي الناس ~~لا يحنو ms118 عليه؟ # أما صوته في لغوه، فأحلى من صوت الهزار في زجله وشدوه، إذا تبسم ~~فكأنما أشرق من الروضة آسها، وإذا لغا فكأنما ترنم من الحلي ~~وسواسها. ~~••• # هو نفسه للرعية، أعظم متاع وأكبر أمنية، محبب أحسن أم أساء، وهو ~~معقد الرجاء أنى ذهب وأنى جاء. # هو ملك كبير، أما عرشه فأحنى الصدور، وأما سريره فأوثر الحجور، وأما ~~سماطه فممدود، على القلوب تارة وتارة على الكبود، وأما في مراحه ومغداه، ~~فأعز المطايا مطاياه، وتلك لعمري كرامة خصه بها الله! # وأما غذاؤه فأصفى ما انتضحت به المهج، # 4 # ولو كانت النفوس مما يمكن أن ~~يرضع أفاويق ، والأرواح مما يستطاع أن يجري فراتا في مساغ الريق، لآثرته ~~بذاك الرعية، طيبة النفس صادقة الأريحية! ~~••• # أسعدك الله أيها الطفل وأصحك ورشدك، حتى تضطلع بنصيبك من الأعباء، كما ~~اضطلع بعبئك أنت الأمهات والآباء، ما سألوك فيه أجرا، ولا اقتضوك عليه شكرا، ~~اللهم آمين. # | الطفل الشريد1 # وجه مغبر شائه كأنه معفور بتراب قبر، وصدغان غائران كأنهما من أثر ~~خسف، ووجنتان ناتئتان حتى أمستا كركبتي بعير، وقد لصق جلده بعظمه، ~~حتى لا يقوى قبره على قشره، إلى يوم نشره، وهاتان عينان دائمتا التحير ~~والاضطراب، تتناهبان النظر من كل ناحية، ولو استطاعتا أن تنظرا إلى الأقطار الستة ~~معا في آن، لفعلتا على طول الزمان! # هذه رجل حافية، وهذه أسمال # 2 # بالية، ~~تفرقت فتوقا وخروقا، وتفصلت مزوقا وشقوقا، تكشف من البدن ~~أكثر مما تداري، وتفضح من السوأة أعظم مما تواري، على أن القذر قد ~~أضفى عليه رداء محكم النسج متلاحم الأجزاء، وناهيك برداء القذر من ~~رداء! # ليت شعري، أهذا شبح من أشباح الظلام، أم هو طيف من أطياف الأحلام؛ تنكرها ~~الأيدي وإن تراءت للعيون، وتريك ما لا تظن أن يكون كيف يكون! # ها هو ذا يثب من ها هنا، ويقفز من ها هنا، لا يقر له على الأرض قرار، كأنما ~~هو كرة تتقاذفها الأقدار، سواد الليل وبياض النهار! # ها هو ذا دائم الاختلاج عن يمينك وعن شمالك، حتى يشتت شمل طرفك، ثم إذا ms119 هو ~~قد امحى كيف تمحي الأشباح، إذا أشرقت شمس الصباح. # ها هو ذا يرتصد للكسرة بين يديك إن كنت آكلا، ولعقب «السيجارة» تلقيه إن ~~كنت مدخنا، وقد يأخذ عينه لقى # 3 # من فضالة الطعام خسيس، قد يعافه الغراب، ~~وتعف عنه الكلاب، فإذا هو قد ارتج ارتجاجا، وكان يسيل اضطرابا واختلاجا، ~~وجعل بصره يدور في كل ناحية، مترقبا سطوة القدر بكل داهية، ثم انقض على فريسته ~~انقضاض العقاب، وطار بها حتى اختفى في السحاب! # هو دائم الخوف، متصل الفزع، يخاف من كل شيء، ويفزع حتى من لا شيء، ~~يتوقع الأذى من كل إنسان، ويترقب البطش به أنى كان، كل ما في هذه ~~الدنيا ساهر على إيذائه، جاهد في كيده وبلائه، فكيف له في هذه الدنيا بالقرار، ~~وهل أمسى له من الأذى معاذ إلا بطول الفرار؟ حقا لقد باتت حاله شرا من حال ~~من عنى الشاعر: # وضاقت الأرض حتى إن هاربهم # إذا رأى غير شيء ظنه رجلا # ولكن أين المفر، وهو لا يفلت من ترقب شر، إلا إلى توقع ~~ضر؟! # ثم إن طول جهد النهار ليسأله المضجع في بعض الليل، وقد يكون الليلة زمهريرا، ~~فيجري ثم يجري وهو خائف يترقب، حتى يلوح لعينه مرقد في كنف جدار على ضاحية # 4 # الطريق، فإذا أمن ~~رقبة العيون المذكاة # 5 # عليه من كل جانب، تسلل فأوى، ~~ويا بئس المأوى، وترى هل يواتيه بعد هذا الجهد نوم إذا لم يزعجه عنه العسس، # 6 # أزعجه خوف العسس؟ ثم انتفض ~~في السحرة ما أحس قرارا، ولا نام إلا غرارا! # 7 # لا «يذوق» النوم إلا غرارا # مثل حسو الطير ماء الثماد # لقد حرم المسكين عطف الأب وحنان الأم، كما حرم رفد الخال وعون العم، ~~ولم يجد ما يعوضه عن شيء من ذلك ولو بمزقة من رحمة الرحماء؛ بل ما أصاب من ~~الناس إلا بلاء وتوقع بلاء، فهل تظن أن مثل هذا يجد لإنسان رحمة أو ~~يحس لشيء رقة وحنانا؟ اللهم إنها لكبد قد تحجرت فما تطرقها ~~رحمة، وإنه لقلب يغلي غليان القدر من حقد ms120 ومن اضطغان، ولو قد صانعه القدر ~~فاستطاع أن ينفث ما في صدره، لاستحالت هذه الأرض فحمة سوداء! # ثم إنه لا يميز حلالا من حرام، ولا يفرق بين طريق الخير وطريق الإجرام، كل شيء ~~مباح، لا يصد عنه إلا بطش الظلمة السلطاء! # ولقد يصكه على أم رأسه من لداته # 8 # أو من ~~غيرهم من هو أشد منه قوة، وقد يركله في بطنه، وقد يناله من هذا أو من هذا ~~أذى كبير لعله يبلغ في بعض الحين حد التلف، فلا يشكو ولا يستعدي، لأن هذا ~~حق الأقوياء على الضعفاء! ~~••• # ها هو ذا يسعل سعالا رفيقا مسمعه ، لينا موقعه، لو أرهفت ~~له الأذن لخرج لك منه نغم حزين يخز الحشا، ويخد الكبد خدا. # الله أكبر! لقد أقبل وشيكا مقوض الرئات، وسفير الممات! # فيا معشر القادرين الأقوياء، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء! # | إلى أين؟ إلى أين؟1 ألا من قرار؟! ... # لست أدري لعمري: فيم أنا الآن؟ تالله ما أراني في شيء أبدا لأنني لا أشعر بأنني ~~مجتمع الشمل بهذا «الآن»! ولا أراني شعرت بهذا قط في طول الحياة! # ما اطلعت على ساعة من ساع الزمن إلا رأيتني مشغولا عنها بالانحدار إلى ~~التي تليها، ولا صرت إلى يوم من الأيام إلا أحسست أن همي إلى ما وراءه، ~~ولا أفضيت إلى سنة من السنين إلا كان بالي إلى ما بعدها وشغلي كان به، ~~فأنا من يوم طالعت هذه الدنيا لا أجدني إلا على سفر دائم لا لبثة فيه ولا ~~هوادة، ولا مناخ لراحة ولا لزاد، سير في النهار مغذ، وسرى في الليل ~~حثيث! # اللهم إني لأبتغي القرار في هذه الدنيا ولو ساعة واحدة أستريح فيها إلى نفسي وأشعر ~~بالسكون معها والاطمئنان! # اللهم إني لأبغي أن أجدني في مساحة من الزمن، ولو ضاق ما بين حديها، فأستشعر ~~السكون، وأفرق بين ما كان وبين ما يكون، وأستطيع في كل أثناء هذا الزمان، أن ~~أعرف: فيم أنا الآن! # ولكن كيف لي بهذا ومن ورائي ذلك السائق الخفي المرير ms121، # 2 # ما يلوح لي مجثم # 3 # إلا بعثني منه، ولا يتراءى ~~لي مثوى إلا أزعجني بسوطه عنه، فأنا بين يديه دائم الجري لا أحط رحلا من ~~سفار، ولا أطمئن على طول المدى إلى قرار. # وإني لأرى أنني أنا الذي يمر بالأيام وليست الأيام هي التي تمر بي، وأنني ~~أنا الذي يطوي السنين وليست السنون هي التي تطويني، وإني لأجد أن شأني مع الزمن ~~لكشأن المسافر في القطار، يخيل إليه أنه ثابت في موضعه وأن ما يجوز به من الأعلام ~~والشخوص إنما هو الذي يجري على خلاف، وعلى هذا لو أذن لي في الوقوف ولو لحظة ~~واحدة لاستشعرت القرار في الدنيا وأحسست هذا الذي يدعونه «الآن»، ولكني ~~برغمي السائر المغذ لا ينيخ راحلة ولا يحط رحلا، فإذا لم أنعم بالاطمئنان ~~إلى الزمان فلا ملامة على الزمان! # ترى ما حاجتي، أو ما حاجة هذا السائق الخفي الذي لا يني عن دفعي دائما إلى ~~الأمام - ترى ما حاجته إلى أن أحسو العمر حسوا، فما كنت في ساعة من ~~الدهر إلا استشرفت لما بعدها، ولا طلع علي يوم من أيام العمر إلا ~~تشوفت إلى غده، ولا دخلت علي سنة إلا تعجلت السنة التي ~~من ورائها، حتى لو تهيأ لي أن تجمع أيام عمري في سجل واحد، لأسرعت ~~إلى تقليب صفحاته حتى آتي من فوري على آخرها، وفي آخرها - لو علمت - آخر ~~العهد بالحياة! # ترى ما خيري أو ما خير هذا السائق المرير في ألا يدعني أطمئن في هذه الدنيا ~~لشيء، أو أستريح فيها إلى حال، وما إن اشتقت إلى شيء فطالعتني منه البداية، ~~إلا شغلني عنها الاستشراف إلى النهاية، وما إن هفت نفسي إلى أمر فهممت ~~بالإصابة من بواكيره، إلا صرفني عنها التشوق إلى غاياته ومآخيره، وما حصل في ~~يدي شيء ما تقدمت به المنى، وجد في طلبه المسعى، إلا أسرع إلى نفسي ~~الزهد فيه، والتطاول بالمنى إلى سواه! فأنا من الدنيا ومن ساعاتها كالكرة بين ~~مهرة اللعباء، تظل تتقاذفها الأيدي ولا تستقر في موضع أبدا ms122! # ترى ما حاجتي إلى تعجل الساعات في الأيام، وإلى تعجل الأيام في السنين؟ ~~وترى أية غاية أريد أن أبلغها بهذا السفر السريع؟ # تالله إني لفي حاجة إلى من يهديني إلى ما أبغي بهذا وما أريد! # أتراني أطلب طي الحياة وأنا كسائر الناس حق حريص على هذه الحياة؟ والله ~~إن «هذا محال في القياس بديع». # 4 # إذن فما هذه الشهوة الملحة إلى فناء الأيام، وهذه الشهوة الملحة إلى بقاء ~~الأيام؟ ~~••• # وبعد، فما أراني في هذه الحياة غير قصة خيالية أنا ممثلها، وأنا في الوقت ~~نفسه شاهدها، فما إن جد لي منها منظر إلا تاقت نفسي لما بعده، ولا ~~حل منها فصل إلا تعجلت غايته والتحول إلى ما وراءه! # وكذلك أفتأ أطلب النهاية حثيثا حتى تختم «الرواية»، ولن تختم إلا بتلك ~~المأساة التي تنتهي بها جميع أقاصيص الحياة، غير «أن الرواية لم تتم فصولا». # 5 # | الشباب المولي! # هذه هي المرة الثانية التي يهتف فيها «فلان» بسني، ويزعم أنني أتشرف الآن على ~~الخمسين، إذا لم أكن قد جزتها بقليل! وترى ما خيره في أن يباديني بهذا ويؤكده ~~ويلح فيه، وأنا أنفيه جاهدا فلا يصدق، وأرده عنه فلا يرتد، ~~وأزجره فلا يزدجر! وتالله ما أراه يطلب بهذا إلا غيظي وإحناقي بإظهاري ~~وإظهار الناس على أنني قد علت بي السن، وأنني أنشأت أمعن في ~~الشيخوخة المضنية للأجسام، والداعية للأسقام، والمهرولة بالأحياء إلى الموت ~~الزؤام! # اللهم إنه لسمج به أن يطلب لي هذا ويتمناه على الله، ثم لا يستحي أن يصارحني ~~بهذه المنية ويصارح بها الناس، على حين أنني - شهد الله - ما أسلفت إليه ~~إساءة، ولا تناولته قط بمكروه! # سبحان الله! ما أعظم كدر النفوس، وأشد اضطغان القلوب، حتى على من هو غير ~~حقيق منها إلا بالعطف والإيثار! # وبعد، أفأراني حقا قد بلغت الخمسين؟ هذه الخمسون التي لا يبلغها ~~المرء إلا إذا جاز مستمهلا بأيام الشباب، حتى تطويه السنون عنه طي السجل ~~للكتاب وهيهات للمرء أن يأسى عليه بعد أن نهل من معين اللذات وكرع، ~~ومرع في طيبات ms123 العيش ورتع، وواتى النفس بكل مناها، وأبلغ ~~مطالب الصبوة غاية مداها، ويا طالما طاب مراحه وأنسه، وسطعت في ~~أفق السعادة شمسه، ويا طالما اشتد لهوه وقصفه، # 1 # وتقلب ~~في ألوان المتاع عطفه، لا تكدر الهموم من صفوه، ولا تشغله متاعب ~~الحياة عن متاعه ولهوه، مخلصة لداعيات الصبا نفسه، لا يعنيه يومه ولا ~~يعنيه غده ولا أمسه، حتى إذا استوفى حظه من متع الشباب، وشبع منها ~~وبشم بها؛ انصرف عنها زاهدا فيها كارها لها، وأقبل على ما هو الأخلق بالحكمة، ~~والأشبه بكمال الرجال، وأصبح يتمثل بقول الشاعر: # وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه # فإذا عصارة كل ذاك أثام ~~••• # وكيف أكون قد بلغت الخمسين ولما أبلغ من آثار هذا الشباب شيئا؟ ولم ~~أصب بعد من متعه كثيرا ولا قليلا؟ # اللهم إنني ما برحت أستشرف لهذه الأيام التي طالما تمثلت لأحلام ~~الفتوة جميلة جمال صفحة البدر، ناضرة نضرة الورد قد طله ~~القطر، هذه الأيام الحلوة اللذيذة التي طالما تراءى لي بها المستقبل، فأتعزى ~~بقرب لقائها عما أجد في حاضري من هم وأسى، ومن وجد وشجى. # اللهم إنني ما زلت في انتظار أيام الشباب التي لا يفتأ يوسوس في صدري بها ~~الأمل، فأشعر لها بشوق لا يعد له شوق، وأجد في قلبي حنينا إليها لا ~~يشبهه حنين، وهل تكون هذه الأيام كلها بين أيام العمر إلا روضة قد ينعت ~~أثمارها، وضحكت أزهارها، وأشرقت أنوارها، # 2 # وتعطفت في أرضها الجداول، وسجعت على ~~أيكها البلابل، ومشى في خلالها النسيم، يحمل من الورد عاطر التحية وأزكى ~~التسليم، فتنحني الغصون إجلالا لوفوده، وإكراما لوروده! # هكذا الشباب المنتظر، مراح لا يلحقه ضجر، وصفو لا يشوبه كدر، ~~ودعة لا تروعها الغير، ونفس قد وضعت عنها الأعباء والآصار، # 3 # فتكاد من ~~الخفة تطير في اقتناص المنى كل مطار! # لقد طال بي انتظارك يا هذه الأيام، فليت شعري متى تحقق الآمال وتصدق ~~الأحلام؟ # أنت آتية أيام الشباب لا ريب فيك، وإنني ما زلت في الانتظار ... ~~••• # ما لي أجد غمزا على كبدي، وأكاد أحس بأن شعبة قد ms124 انخلعت من قلبي، وأن ~~ذهني تطاير عني كلما لاح شبح الخمسين، فلقد بلغت الخمسين، وا رحمتاه، ~~حقا! ... # لا تأسي يا نفس ولا يتعاظمنك الأمر، فإنني إن كنت قد بلغت ~~الخمسين عددا، فإنني لم أعل بها قط سنا، وكيف تعلو بي السن وأنا ~~لما أزل في انتظار الشباب الذي لم أخضه بعد، ولم أله به لهو من ~~يخوض الشباب؟ # لا! لا! ليست المسألة عددا في السنين، وليست الحياة مساحة تقاس بدورة ~~الفلك، فلتعد علي السنون ما شاءت أن تعد، ما دمت - في الواقع - ~~لم أزل فتي الروح مستشرفا لعهد الشباب! وليس من سنن الطبيعة أن ~~يسبق الجدة القدم، ويتقدم على الشباب الهرم! # إذن فأنا لما أزل على شرف الشباب الغض، وأنف هذه الخمسين ~~العددية راغم! # لقد بلغت الخمسين حقا، ولكنها ليست تلك الخمسين التي كان يتمثل لنا الناس ~~فيها شيوخا قد شاب قذالهم، وابيضت لحاهم، وتكرشت وجوههم، ~~وترهلت لحومهم، وتجلجلت أسنانهم، وفترت حدة عيونهم، وضعفت قوة ~~متونهم، وثقلت آذانهم، وكلت أذهانهم، فإذا تحدث أحدهم جعل ~~يعصر ذاكرته عصرا، وإذا مشى فكأنما يحمل على ظهره وقرا. # 4 # لقد بلغت الخمسين عددا، ولكنني لم أتقدم بها في السن كما يتقدم سائر ~~الناس، وكيف تعلى سني حتى تدخلني في الشيخوخة على حين أني لو قد ~~استعرضتها وفررت عنها # 5 # من يوم تفطنت إلى ~~الحياة ما زادت في الواقع على عشر، وهذا على أسخى تقدير، فأين يا ترى سائر هذه ~~السنين؟ اللهم إني لأبحث عنها وأجهد ذاكرتي في طلبها سوية فلا أجدها، فليس ~~من العدل أن تسقط من مدة العمر هذه السنون! وإن ظلما دونه كل ظلم أن ~~نجري حساب الأعمار في هذه الدنيا على دورة الأيام! # وليت شعري ما الدليل على أنني قد بلغت هذه الخمسين لو أنني عشت في بداوة لا ~~تتعقب فيها السنون؟ # إذن لم أصبح بعد شيخا، ولتعد علي الأيام ما تشاء! ~~••• # ولكنني مع هذا أرى الشيب يصيح في رأسي، فكيف لعمري لحقني قبل الشباب ~~المشيب؟! # لا تأسي يا نفس ولا تشفقي من ms125 بياض الشعر، فلكم رأيت فتيانا باكر ~~رءوسهم هذا النصول وعجل إليها، فما كان بياض الشعر يا نفس دليلا على ~~المشيب! ومع هذا ففي الصبغ إصلاح لخطأ الطبيعة، وتصحيح لما يدعي علي بعض ~~الناس من كذب وزور! # هذا كلام صحيح، ولكن ما لي أحس في عيني فتورا، وأجد في نظري قصورا، حتى ~~أصبحت لا أتبين الشخوص إلا بمقدار، ولا أستطيع القراءة إلا بمعونة ~~المنظار؟ # لا شك أن هذا من مرض طارئ، أو من عرض مفاجئ، وما كان جهد العيون وتقاصر ~~الأنظار، دليلا على انطواء الشباب والطعن في الأعمار! # وهذا أيضا كلام صحيح، ولكن ما بالي أري ثقلا في سمعي لقد يفوت علي في ~~المجلس بعض الحديث، ولقد ترعش يدي في بعض الحين فما تكاد تستطيع ضبط ~~اليراع! # وهذا كذلك ليس أمارة على فوت الشباب، إن هو - كما قال الطبيب - إلا من تعب ~~الأعصاب! # فما بالي أجد أسناني قد شاعت في أصولها الآلام، وتجلجلت كلها فما تثبت ~~واحدة منها إلا لهش الطعام؟ # لقد حدثني الطبيب أن هذا إنما اعتراني من أثر «السكر» الذي كشف عنه «التحليل»، ~~وهذا «السكر»، والحمد لله، ليس صادرا عن علة لازبة # 6 # ولكنه عارض لا يلبث أن يزول ~~بأرفق العلاج؛ على أنه كاشفني بأن الخير كل الخير في خلعها جميعها والتعويض عنها ~~بأسنان مصنوعة لا تحقن في اللثة أذى ولا تبعث ألما، فوق أنه يسهل ~~تخليلها وغسلها، ويسلس جلوها وصقلها، وإن شئت كسوتها بالعسجد، وإن ~~شئت تركتها كالدر المنضد، وماذا علي في هذا والكواعب الحسان في الغرب ~~يبادرن إلى خلع أسنانهن في غير شكاة # 7 # بل لمحض التبهج ~~بالأسنان المصنوعة، فلنعجل بخلعها قبل أن نقرع سن الندم، إذا ألحت ~~العلة وأعضل السقم! # إذن فإنني ما زلت في انتظار الشباب، ولا يجوز أن نلقي لهذه الأعراض بالا ~~أو ندخلها في الحساب! ~~••• # ولكن ما بالي أصبحت لا أشتهي الطعام، ولا أكاد أقوى على هضم خفيفه فضلا عن ~~غليظه إلا إذا استعنت على ذلك بألوان العقاقير: هذا في أثناء الطعام، وهذا عند ~~المنام ms126، وهذه الحبة يجب أن تبلع بعد الوجبة، وهذا الذرور مما يسهل ~~الصفراء، ويرفه عن الكبد وينظف الأمعاء، وهذا لكيت وكيت، وهذا لذيت ~~وذيت. # سبحان الله! وماذا يضيرك ذلك ما دام يعينك على شأنك، ويصرف عنك الأذى، ويقيمك ~~في العافية، والعقاقير ميسورة في كل مكان، ولا يستهلك تناولها وقتا، ~~ولا يقتضيك مشقة ولا جهدا، والدواء مما لا يستغني عنه كبير ولا صغير، ولا ~~قوي ولا ضعيف! # ثم ما لي إذا مشيت أحسست في جسمي تزايلا، وفي ساقي تخاذلا، ~~وكأنني أحمل رجلي وليست هي التي تحملني، وسرعان ما يجهد بي وما مشيت ~~طويلا، ولا حملت عبئا ثقيلا! # ثم إنني بت لا أقوى على رطوبة الليل في العراء، وما إن تبديت لها ساعة ~~حتى أصبح في أسوأ حال، ويعتريني من الأوصاب ألوان وأشكال! # وهذا وذلك لا بأس عليك منهما إذا أخذت نفسك بشيء من رياضة البدن، واستنشاق ~~الهواء النقي في الشمس الساطعة، فإذا كان الليل أثقلت الدثار، واعتكفت ~~في الدار، فلا ينالك سقم، ولا يعتريك ألم! # فما لي أمسيت لا أنام إلا غرارا، # 8 # وأراني أهب ~~على أخف طرقة، وأخفت خفقة؟ # وما خيرك في أن يثقل نومك، ويستهلك في الغفلة عن الدنيا يومك؟ ~~والنوم كما علمت حاجة يضطر إليها تعب الأجسام، فمن العبث أن نتفقد ~~الحاجة إذا لم نجدها ولم تلجئنا إليها الضرورات! ورحم الله الشاعر الذي ~~يقول: «إن تحت التراب نوما طويلا.» ~~••• # وهكذا ما شكوت علة إلا أصاب الأمل لها تعليلا، وهون على خطبها ~~وإن كان الخطب فيها جليلا! وأنا أصدقه وأطاوعه، وأدفعه ولا أدافعه، ~~وما لي لا أفعل وهو لا يمنيني بحلم من الأحلام، وإنما يتراءى لي بحقي على ~~الأيام، والحق لا بد واصل وإن طال بطؤه، والدهر لا محالة إلى الحق عادل وإن كثر خطؤه. # 9 # إذن فلننتظر، ومن صبر فقد ظفر! ~~••• # ثم إني لأقوم إلى المرآة فأحقق النظر، فلا يروعني إلا أن أرى وجهي قد ~~تغضن، وجبيني قد تكرش، وأجد في شفتي تهدلا، وفي عنقي ترهلا، ~~أما عيناي فقد بدتا لي ms127 كعيني دمية قد نصلتا فلا أثر فيهما يشبه بريق ~~الحياة! # وإني في هذه اللحظة لأستنجد ذلك الذي طالما واساني وهون علي ما أجد # 10 # فإذا هو يتثاقل عني، وإذا أوصابي ~~وعللي تتداعى وتتجمع لذهني رويدا رويدا حتى تستوي كلها في خلق ~~واحد. # رباه! ما هذا كله؟ أليس هذا كل ما كنا نتمثله في الشيخ إذا ضربته ~~الخمسون؟ # وما إن كاد يستوي لي هذا الخاطر المشئوم حتى أحسست أن نفسي تطير شعاعا، # 11 # وأن قلبي يتمشى في صدري، وأن كبدي تسيل ~~مسالا، وأن ذهني قد تفرق عني فما أستطيع له جمعا! ... وإني لأستلقي على فراشي ~~وأتحامل لأجمع بعضي على بعضي، وأصطاد ما ند عني من فكري، فما خرج لي من كل ما ~~جمعت إلا أنني الشيخ صاحب الخمسين حقا، وأنها قد صنعت بي كل ما تصنع ~~بسائر الناس! # إذن فقد ولى الشباب، فما له من رجعة ولا له من مآب! # أرأيت إلى التاجر يقدر مواتاة السوق ويطاول الأيام في انتظار الغني وإقبال ~~الدنيا، وبينا هو في هذا حق سعيد بالثقة به والاطمئنان إليه، وإذا السوق ترجف ~~رجفتها، وإذا نظرة واحدة في دفتره تؤذنه بأن قد أفلس؛ فقد ضاع ~~السبد واللبد، # 12 # وإنه لن يشقى في الحياة شقاءه أحد! ~~••• # يا ويلتاه! أكذلك يذهب الشباب قبل أن يجيء، ويدبر قبل أن يقبل ويودع ~~قبل أن يسلم؟ # يا عجبا للهلال يغشاه المحاق ولما يبلغ التمام، وللورد يلحقه الذبول ~~ولما تتفتح عنه الأكمام! # يا عجبا للشمس تشمر للغروب والرجوع، ساعة يؤذن مشرقها بالبزوغ ~~والطلوع! # ويا رحمتاه للروض إذا ذبلت في مطلع الربيع أزهاره، وجفت قبل النضج ~~ثماره، وسكن من الشجر اصطفافه، وتساقطت أوراقه، وسكن النسيم، وكان العهد ~~به أن يتنسم، وسكت العندليب، وكان الظن به أن يشدو ويتنغم! # أهكذا يكون نقض العهود، وخلف الوعود، أهكذا تشح السماء بعد طول ما منت ~~بالبروق والرعود؟! # فأين هذا الشباب وهو حق لا حلم من الأحلام، ولا وهم من الأوهام؟ وليت شعري كيف ~~ذوى، ومتى انطوى، وما زلت في انتظار وفوده، وترقب ms128 وروده، طوعا ~~لمطرد وعوده؟ # نترقب شبابا فإذا هو هرم، وجدة فإذا هي قدم، وصحة فإذا هي سقم، ~~ووجودا فإذا هو عدم! تالله إن علمت قط أن التبر يحور ترابا، وأن الماء ~~يستحيل سرابا! ~~••• # هذا الدهر ما زال يعدنا ويمنينا الأماني، وكلما تنجزنا في السعادة ~~وعدا أنظرنا إلى غد، فإذا صرنا إلى هذا الغد قال: أليس موعدكم الغد؟ ~~ونحن نتابعه كمن يتابع ظله؛ فلا هو بلاحقه ولا هو عن لحاقه ببعيد، ~~وكذلك تنقضي الأيام بعد الأيام، وتنطوي الأعوام بعد الأعوام، ثم لا يروعنا ~~إلا أن نتفقد هذا «الغد» الذي طالما انتظرناه، فإذا هو قد مضى في «الأمس» ~~الذي استدبرناه! فهذا الشباب الذي يتحدثون عنه لا قيام له إلا في التصور والتخييل، ~~لأنه إما شيء تجيء به الأيام، أو شيء قد خلت به الأيام، أما أن له سرحة ~~يتفيأ الإنسان في ظلالها، وفسحة يطمئن بين غداها وآصالها، # 13 # بحيث يستشعر الثبات والاستقرار، فذلك ما لا ~~يكون في منهج الأعمار! # نعم، لقد يصيب الإنسان كثيرا أو قليلا مما يدعى بسعادات الحياة، ولكن هيهات ~~أن يصفو له شيء منها إلا كدرا، فإن الزمان أحرص من أن يصفي العيش ~~لإنسان، وإنه في هذه السبيل ليسلط عليه ولو من وساوس نفسه ما ~~يصرفه عن متاع الحياة وهو في متناول يده، ورهن مراده، فإذا أعوزه هذا ~~وسوس له بالتأميل فيما هو أجل مما تيسر له من النعيم وأعظم، فشغله عن ~~حاضره بقابله، وصرفه عن عاجله بآجله، وهكذا تتصرم الأعمار، في ~~الارتقاب والانتظار! # آمنت يا دنيا أنك سارقة ماكرة فاجرة، تمكرين بالناس وتخدعينهم على أعمارهم ~~حتى تنشليها منهم نشلا، ولا والله ما يعينك على فجورك هذا إلا غفلة ~~الناس! ~~••• # وبعد، فلعلك عرفت لماذا يخادع المرء الناس على سنه، بل إنه ليخادع ~~عليها نفسه، ولعله في هذا حق معذور، فلقد طالما وصل المستقبل بسعادات وارتبطه ~~بها، حتى ما يستطيع تصوره بغيرها، ولا تمثله متجردا منها، فكلما مر ~~عليه يوم لا تواتيه تلك السعادات لا يراه مما ينبغي أن يحسب في ms129 مدة العمر، ولا ~~مما يجوز أن يعد عليه فيه! فهذه علة تعاظمه لدخوله في السن واستثقاله ~~لتذكيره إياه. # اللهم إننا لنتهاون شأن الذبابة، ونستحقر هذه الحياة التي تحياها، ولو قد ~~تفطنا إلى الحق الواقع لعرفنا أنها أسعد منا عيشا وأنعم ~~حالا، لأنها لا تشتغل إلا بالحاضر، وهو الحق المحس الذي يذاق ~~ويستشعر حقا، فلا يتفرق حسها بين الأسى على ما فات في سالف الأيام، ~~وبين التعلق في المستقبل بكواذب المنى في كواذب الأحلام! # فيا الله ما أخس حياة تنتهي بالإنسان إلى التراب، وهو لا يتذوق منها بعض ~~ما ينال هذا الذباب! # وإذا كان لنا معشر الناس أن نأسى على شيء في هذه الحياة الدنيا، فليكن أسانا ~~على أننا ننفقها في الأسى على ما قد فات، وطول التأميل فيما هو آت، وهكذا ~~نجوز بالدنيا فلا نستشعر منها إلا آلاما، ولا نذوق إلا منى وأوهاما، ~~وصنع الله لهذا الشاعر في كذبه على كذب الآمال: # منى إن تكن حقا تكن أعذب المنى # وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا # | لا صحة إلا في المرض!1 # لست أدري لماذا لا نتذوق صحة الأبدان ولا نستشعرها ما دمنا فيها؟ ~~أترى لأنها شيء سلبي لا يذاق ولا يحس؟ أم لأنها كسائر نعم الحياة ~~قل أن يقدر المتقلب فيها قدرها، أو يعظم المتمكن منها ~~خطرها؟ أم أن ما تجد الأيام من أشغال الدنيا وهمومها ومطالبها مما ~~يحول بين المرء وبين تذوق الصحة والالتذاذ بالعافية؟ # اللهم إنني لا أقطع في هذا بشيء من وجوه التعليل ألبتة، ولكن الذي أقطع به ~~ولا أراني أتحول عنه أن الإنسان لا يرى أن هناك نعمة أجل وأعظم من نعمة ~~العافية يوم يضربه المرض ويسلبه السقام هذه العافية، بل إن بحسبه ~~أن يرى امرءا معافى في بدنه ليقدر له من الشعور بالسعادة والإحساس ~~باللذة ما لا يتعلق به وصف واصف، ولا يتصور مبلغه إلا هؤلاء ~~الأصحاء! # لقد كنت في العافية فما قدرت لها قط قدرا إلا إذا ذكرت المرض ~~وأوزاره، وإني لأكره بالطبع أن يتداخلني ms130 السقم، وينتابتي الوجع والألم؛ وأن ~~يكفني هذا عن ولاية عملي، ويثقل # 2 # بشأني أهلي وولدي، ويحول ~~بيني وبين الإصابة من متاع الدنيا إذا كان في الدنيا متاع! # ومهما يكن من شيء فإنني ما رجوت العافية لذاتها، وكيف لي برجاء ما لا ~~أحس ولا أشعر؟ وإنما أرجو ألا أبتلى بالأسقام والعلل، فإذا لم أذكر ~~المرض فهيهات أن يجري ذكر الصحة لي على بال! # ثم إني ذات صباح لأحس وجعا في بطني، فلا أوجه الأمر بادئ بدء إلا على أن ~~أحشائي مغصة من أثر برد أو من فعلة طعام تجهمت له الأمعاء، فلم ~~يجد له من خلالها لطف مساغ، فاحتميت على عادتي وتحرمت الطعام، ~~أرجو أن يزول عني مغصي إذا انقضى النهار. # ويذهب النهار ويقبل الليل، فإذا المغص مقيم على غمزه ما يبرح ولا ~~يريم، ثم يكون الغد فإذا هذا الغمز في الحشا يستحيل وخزا، فأظل على ~~تحرمي واحتمائي، وجعلت أختلف على ألوان الرصفات تبتغى لمثل ما ~~أنا فيه، ولكن الألم يزيد على هذا ولا ينقص، وينبسط في بطني ولا ~~ينقبض! # وتجوز بي على ذلك بضعة أيام لا يكرثني الأمر ولا أراه حقيقا بالاعتداد به ~~والاحتفال له، حتى إذا رأيت أن الألم قد طالت مدته، واشتدت ~~وقدته، لم أر بدا من العياذ بالطب بعد أن أعيا علي ما ~~تعودت الاستراحة به ألوان العلاج. # ولكن لقد أخطأ الطبيب شخص الداء، فسرعان ما استفحلت العلة وتمردت ~~المعى على الدواء، فما أولاها على التمرد إلا عقابا، ولا أصلاها على الإباء إلا ~~تأليما وعذابا! # وبعد أسابيع عراض نهرها، طوال لياليها، ينحسر الشك عن داء عقام، وعلة لا ~~يرتقي إلى خطرها كثير من الأسقام. # وهنا أرجو أن يصدقني القارئ إذا زعمت أن الوقوع على حقيقة المرض ومبلغ ~~خطره لم يتعاظمني ولم يدخل على نفسي الذعر بقدر ما يتصور، فإن ~~كان قد مسني شيء من هذا فلعله قد ذهب به أو خفف من وقعه استراحتي إلى ~~حقيقة شأني بعد تلك الحيرة الطويلة المملة العنيفة، وإذا عرف الداء، سهل - ~~كما ms131 قالوا - الدواء، وإذا وقع في التقدير أن علتي مما لا يرجى منه ~~الشفاء، إذن فقد بلغت حد اليأس، واليأس - كما قالوا - إحدى ~~الراحتين! # إذن لم يكن كل همي إلى علتي، فلقد استهلكه دونها همي بما يعنيني من ~~الأوجاع والآلام، وإن قصارى جهد المرض أن يرديني، وأهون بها من غاية، ~~فلكم والله ابتغيت هذا الردى فلم يسعدني به المقدار! ~~••• # إذا كان الصباح الباكر كنت كما يكون الناس، فإذا ارتفعت الشمس قليلا عن الأفق ~~شعرت بغمزات لطاف على جنبي الأيمن، ثم أراها تثقل رويدا رويدا وهذا أذان ~~النفير العام، يدعو إلى أحشائي جمهرة الأوجاع والبرح والآلام، فما هي إلا دقائق ~~معدودة حتى أحس أن كل ما في الأرض من مدى مسنونة قد اجتمعت علي ~~تقطع أحشائي، وأن كل ما في الدنيا من رماح ومزاريق قد تظاهرت على الطعن ~~الدراك في أمعائي ما يفل لها حد، ولا يكل للطاعنين من دونها زند، ~~وأن نيران جهنم كلها قد كورت وضغطت بقدرة القادر وقذفت في بطني ~~قذفا حتى أكاد من وقدة الآلام أسمع لها حسيسا! وكلما ارتقبت الفرج ~~بتقطع الأمعاء وتفرقها، وتمزقها وتحرقها، وأن الموت لا محالة آت، ~~فذلك مما لا قيام للحياة معه ولا ثبات، فإذا آلامي جديدة لا تبلى على كل أولئك ~~الأحداث، كأن يد القدرة تسرع إلى جمع ما يتفرق، ووصل ما يتمزق، حتى ~~لا ينتهي لي عذاب، ولا ينقضي ما أعاني من الحرق والأوصاب، ونعوذ بالله من عذاب ~~أهل جهنم الذين قال الله تعالى فيهم: # كلما نضجت ~~جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا ~~العذاب ~~! اللهم لقد ذقت هذا العذاب في هذه الدار، فأقلني في ~~الآخرة بفضلك من عذاب النار! # ولا تزال البرح والآلام تفري الفري في أحشائي بلا هوادة ولا فترة ولا ~~سكنة أبدا، وليت شعري كيف لا يدركها التعب والإعياء، على طول ما تبلي في ~~هذا البلاء؟! # وإني لا أزال كذلك تختطفني الغفوة فأغفو دقائق، ثم تتخاذل عني فتلقيني ثانية ~~لما كنت فيه من العذاب الشديد، وهكذا كان دأبي عامة الليل ms132 وعامة ~~النهار! ~~••• # ثم إني لأتجلد للألم وأتصبر، فلا آذن لحلقي أن يتنفس بالآهة أو ~~بالأنة، وأكظم وجعي فلا أترجم عنه بما يترجم به عن الأوجاع عامة ~~المرضاء؛ وأظل على هذا دهرا، ثم إذا هذا التصبر يتقلص رويدا رويدا، ~~وإذا بي أئن لو كنت خاليا، ثم إذا بي أئن وأتأوه وأنا بين ~~الناس! # ثم إنني رجل أعهد في شماس الطبع، وعصيان الدمع، فإذا المرض يأبى إلا ~~أن يذلل ذلك الطبع، ويذل هذا الدمع! وهكذا أسلم للمرض أنفتي كما ~~يسلم الشجاع الكمي سلاحه لخصمه، وينزله الغلب على حكمه، ما ~~به رضى بهذا ولا ارتياح، ولكنها لقد جرت به الأقدار! ~~••• # وإنني لأرجو الطبيب وأخشاه، وأحبه وأرهبه في وقت معا، كأنه قد أصبح لي أبا ~~وكأنني قد ارتددت بين يديه غلاما! ولقد يأمرني الأمر فيما يتصل بعلاجي ~~وما يطلب به سلامتي، فأعصيه في سر منه في بعض ما أمر، وأخالفه إلى ~~بعض ما نهى، فإذا ما سألني عذت بالمعاريض فرارا من الكذب الصريح، وهذه من ~~إحدى ذلات المرض أذله الله! # وما أن أبصرت إنسانا من أهلي أو عودي، حتى خادمي، إلا تخيلت أنه ~~يستطيع أن يدفع عني بعض ما بي، ويخفف بعض ما أجد، ولولا الحياء ~~لاستجديته العافية استجداء، فشأني كان كشأن الغريق يصارع الموج أكثر ما يصارعه ~~بالتأميل في نجدة من على الشط من الناس! وتلك أخرى للمرض أخزاه الله! # هؤلاء الأصحاء الأجسام، وليكونوا من أولئك الباعة المترفقين بأبدانهم، # 3 # وليكونوا من كناسي ~~الشوارع؛ بل ليكونوا ممن ضمنتهم # 4 # السجون في أفظع الجرائم، يا لله ما ~~أسعدهم جميعا وما أنعم حالهم، إنهم ليكادون يطيرون طيرا بما يجدون من لذة ~~العافية في الأبدان! من لي بيوم واحد أو بساعة واحدة أراجع فيها العافية وأنعم ~~بها، فلا آسى بعدها على شيء أبدا! # ما لكم يا أهل العافية لا تطربون ولا تمرحون ولا تطولون الجبال الشامخة ~~من تتايه ومراح؟ إنه ليخيل إلي أنكم تجاهدون في كظم أفراحكم أشد ~~الجهاد! # فلو خلعتم علي شيئا مما تجدون من العافية؟ إذن ms133 لرأيتم أنه لا يتسع لمراحي ~~كل ما بين الأرض والسماء! # الصحة، الصحة وحدها، ففيها عن كل عرض غناء. # ما عزبت عن الإنسان نعمة من نعم الدنيا إلا اقتصر حسه على ألم ~~فقدانها والحرمان منها، أما فقد الصحة فإن يشعر الحرمان من كل شيء؛ وقد ~~صدق من قال: «يا أهل العافية لا تستقلوا النعم!» # أستغفر الله! بل إن فقدان الصحة لمما يزهد في أنعم الحياة، وإنني لأذكر، ~~وأنا في مرضي هذا، أنه ما عرضت لي منية من المنى التي طالما هفت نفسي ~~إليها وسألت الله فيها جاهدا، إلا دقت في عيني، وهانت على نفسي ، حتى ~~لأراني في تشهيها والاحتفال لها إنما كنت سخيفا كل سخيف! # هذا جرحي قد اندمل، وها أنا ذا أمشي وئيدا إلى العافية، وإني لأشتهي بعض ~~الطعام ولكن هيهات أن ينولني الطبيب، فآه! هذا اللون ما أحسنه وأسوغه ~~وأحلى مذاقه، وما أنعم الآكليه وأسعدهم؟ فلو رجعت إلى العافية ~~لكسرت عليه عشر وجبات متتابعات! # هذه الرقعة من القاهرة أو من غير القاهرة ما أجملها وما أبدعها، وما أبهى ~~خططها وأحلى موقعها! لئن رددت إلى العافية لأتخذن منها منتجعي ومثابي، ~~ومذهبي في غدوي ومآبي! # وهذا كيت وهذا كيت، مما يصاب ب «لعل» وما يصاد ب «ليت»، ما دام في مصباح ~~هذه الحياة زيت! ~~••• # ويشاء الله تعالى بعد هذا البلاء كله أن أصح وأسلم، ويعود إلي ما كان لي ~~من العافية، وإني لأستعرض ذلك الذي كنت أشتهيه وأنظره للعافية، فإذا ~~النفس منصرفة عنه، زاهدة فيه، لا تراه يستحق من هموم الشهوة كثيرا ولا ~~قليلا! # ها أنا ذا أعود إلى العافية فأعود إلى ألا أذوق لها طعما، ولا أشعر بها إلا ~~وهما، ولا أجد لها من أسباب النعماء، بعض ما يقدره العليل للأصحاء، ~~أفتراني أرجو دوام السقم، لأستديم الشعور بما في العافية من النعم؟ إذن فيا ~~لها نعمة لا يقوم وجودها إلا في العدم! وصدق من قال: «الصحة تاج على رءوس ~~الأصحاء، لا يراه إلا المرضاء» ورحم الله القائل «وبضدها تتميز الأشياء ms134». # وعلى هذا أسأل الله ألا يشعركم هذه النعمة يا معشر القراء، إنه تعالى سميع ~~الدعاء! # | في الطيارة بين ألماظة والدخيلة1 # لقد كان بيني وبين صديقي وأستاذي المرحوم محمد بك المويلحي اتفاق وثيق على أن ~~السيارة لم تصبح بعد مركبا عاديا سائغا يجوز للناس أن يتخذوه في سراح ورواح # 2 # آمنين، فإذا كنت ترى في ~~ملاعب «البهلوان» من يمشي على السلك الأرفع، ومن يصارع الوعل، ومن يعفر الليث ~~الخادر بالسوط، فصل ركوب السيارة بهذا، فإن كنت بطلا فتقدم إليها في ~~غير حاجة، وإلا تكن فلا يضطرك إليها إلا الضرورة الملحة من طول مدى وضيق ~~وقت، وخوف فوت ونحو هذا، والضرورات - كما قالوا - تبيح المحظورات، وقضى ~~المويلحي رحمه الله على هذا؛ وبقيت بعده هذه السنوات الثلاث حافظا ~~لعهده، قائما على ميثاقه، ولست أدري بعد إذ ترقرق في عالم الأرواح: ~~ألا يزال ثابتا على رأيه؟ أم تكشف له من مكنون الحقائق ما حرفه عنه؟ ومهما ~~يكن من شيء فسنلتقي في يوم قريب أو بعيد، وحينئذ يتهيأ لنا أن نعيد ~~النظر في ذلك الاتفاق! # هذا رأيي، إلى أن أموت على الأقل، في اتخاذ السيارة؛ على أنني لا أفتأ أتخذها على ~~علمي بأن جانب التلف فيها يغلب جانب السلامة، ولكنها كما زعمت الضرورة، ~~وإنني لأخاطر من شاء على ما يشاء، مما يدخل في طوقي، إن كان أحد رآني قط ~~أقرأ في السيارة جريدة، أو أنقد دراهم، أو ألقي بالا إلى حديث رديف؛ ~~بل إن شأني معه إذا هو أقبل بالحديث علي ~~لكشأن القائل: # وأطيل لحظ محدثي ليرى # أن قد فهمت، وعندكم عقلي # وكيف لي بهذا وأنا في أعظم شغل من رجفان القلب وضربانه، ومن عين شائعة بين ~~يدي السائق والترام المقبل من هنا، والسيارة المنطلقة كالسهم من هنا، وهذا الغلام ~~الذي يحجل بين يدي العجل من هنا، وهذا الحافي راكب الدراجة يعترض السيارة في تمام ~~سرعتها، فيلوح لسائقها بيسراه ليتلبث حتى يقطع هو (بسلامته) الطريق، وغير ~~هذا من ألوان العذاب الأليم والبلاء المحيق! # أما الساقة فوالله ms135 ما أدري ما حظ أكثرهم الكثير في أن يطيروا بك على أديم الأرض ~~طيرا، وإني لأسأل الرجل منهم أن يتريث فلا يسمع، وإذا فعل طوعا لرجائي ~~أو لزجري فلثانية أو اثنتين، ثم عاد أجرى وأسرع مما كان، وإني لأقول له: يا ~~سيدي لست مستعجلا أمرا، والله ما أنا ذاهب لإطفاء حريق، ولا لإنقاذ غريق، ~~صدقني والله ما أنا ماض لقيادة الجيش في المعركة الحاسمة، ولا أنا مدعو ~~لتأليف الوزارة، ولا لشراء «النمرة» الرابحة في سباق الدربي، كل هذا ولا حياة ~~لمن تنادي! # ولقد قلت لسواق مرة، وقد عناني في هذا الباب أمره: أتعلم يا سيدي ~~أنك بإسراعك هذا ستفقدني مائة جنيه كاملة! فقال لي: وكيف هذا؟ قلت: إني خاطرت ~~صديقا على أن من يسبق منا إلى الموعد يدفع لصاحبه مائة! فأشفق ~~على مالي، وليت الخنزير لم يفعل، فلقد أقبل علي وولى الطريق قفاه، ~~وجعل يلقي علي محاضرات شائقة في مضار المراهنات! # وآخر، لقد أسرع بي وأنفي راغم إسراعا مرعبا، فسكت وأسلمت أمري لله، ~~وبعد لأي، إذ افترقت مسالك السبل، التفت إلي وقال: أين البيت؟ ~~قلت: أفجاد أنت في أنك ذاهب بي إلى البيت؟ قال: طبعا! قلت: والله ~~يا أخي لحسبت أنك عدلت بي إلى قرافة المجاورين! ~~••• # هذا حديثي مع السيارة، وهذه علاقتي بها، لعنة الله عليها، أما الطيارة، كان الله ~~لراكبيها، فلم يلحقني ولن يلحقني منها بعون الله أي أذى، وكيف لها ~~بذاك؟ ولو قد دعيت إلى ركوبها على أن تحلق بي إلى موطن إجابة الدعوة، أو ~~تتقرى بي مسقط الغنم من ليلة القدر، فيكون لي ما شاء الله من العافية في ~~النفس والولد، وطول العمر، وسعة الرزق، ونفوذ الكلمة، وبسطة السلطان؛ لآثرت ما أنا ~~فيه من الجهد على كل تلك العافية! # إذن فأمر هذه الطيارة مفروغ منه عندي إلى غاية الزمان إن شاء الله، فإن بدا ~~لولدي أو لحفدتي، إن كان يكون لي حفدة، فليفعلوا فلهم زمانهم! # ولكن هناك قدرا يرغمنا ولا نرغمه، ويلجمنا ولا نحكمه، # 3 # وإنه ليدعنا نصور ms136 ~~ونفكر، وندبر ونقدر، وهو منا ضاحك وبنا مستهزئ! وإنا لنريد اليمين، ~~فإذا هو يطرحنا إلى الشمال، وإنا لنطلب قدام، فإذا هو يركلنا # 4 # إلى وراء، وكيف لنا بالفرار؛ ~~والهارب إنما يتقلب في يد الطالب؟! # صدقني يا سيدي إذا أكدت لك أن العلم كله ليضيق بشأني، وأن مركوني ~~والمرحوم إديسون، والعالم أينشتين، وأضرابهم من فحول العلماء والمستكشفين، لأعجز ~~جميعا عن أن يهتدوا إلى «نظرية» تطيير هذا الكاتب، ألا فليبذلوا الجهد فيما هو ~~أجدى: من إحالة الحصى ذهبا، والهواء حطبا، ومن إطالة العمر إن استطاعوا، ~~ومدافعة الموت إن أطاقوا، والاصطلاء بالثلج، والابتراد بالنار، والمشي على أديم ~~الطيف ، واستخراج القر من وقدة الصيف # 5 # ليعالجوا ما ~~طاب لهم من هذا، وليعدلوا عن ذاك، فقد جفت عنه الأقلام، وطويت من دونه ~~الصحف! # ولقد حدثتك عن القدر، فانظر بعد هذا كيف يصنع القدر: # لي صديق من شياطين الإنس لا تعجزه وسيلة، ولا تعيى عليه حيلة، لا أدري أي ~~رصفائه من شياطين الجن زين له أن يطيرني أنا! والعياذ بالله تعالى، سلام ~~قولا من رب رحيم، وإليك الحديث: # من بضع ليال غشيت سامر الأصدقاء، وما إن كدت أستوي في مجلسي ~~حتى ابتدرني صديقي الأديب الظريف الأستاذ حسني نجيب بهذا الكلام: يا ~~فلان! نسافر معا في الطيارة إلى الإسكندرية! فلم يعد الأمر عندي أن ~~يكون من إحدى مزحاته، على أنه كرر هذا وأعاده، وأعاده وكرره، ~~حتى لم يبق فيه فضل لنكتة، فقلت له: ويلك! أجاد أنت؟ فقال: إي ~~والله لا أقول إلا جدا، وستكون نزهة جميلة تظل تذكرها على ~~الأيام، وجعل يبدئ ويعيد في هذا ودمي يغلي في عروقي، والغيظ يذهب ~~بي كل مذهب، حتى كدت أخرج من جلدي، فقلت له: ما الذي أصابك؟ ~~ويحك! أسافر في طيارة؟! لعمري لو أمكنتني من خزائن ركفلر ~~ومن سلطان موسوليني ما فعلت! فقال في جد وتصميم: بل تسافر! # ولما رأيته قد أطال في هذا وأفرط، قلت: لن أسافر ألبتة، فإن كان لك من ~~الحول والسلطان ما تستكرهني به على هذا السفر، فاصنع ms137 ما أنت صانع! ~~وأمسكت بعد ذلك عن مراجعته، فلم يسكت، بل جعل يدخل بنا في تفاصيل ~~السفر، ويقترح ألوان الثياب التي آخذ والتي أدع! والفندق الذي نتدلى ~~فيه عند مهبطنا الإسكندرية! و... و... و، حتى أضجرني وأبرمني وطير ~~لبي كل مطير، فقمت عن المجلس وأنا لا أكاد أرى ما بين ~~يدي، غيظا وحنقا، ولم يفته أن يشيعني بالتعجل في إعداد العدة ~~واتخاذ الأهبة لأن الوقت قد أزف! فعدت إلى بيتي وقد جعلت على نفسي ~~ألا أغشى سامر القوم إلا بعد أن يسافر حسني «على الطائر ~~الميمون»! # لم يرعني في ضحى اليوم الثاني إلا أن يسألني حسني في «التليفون» ~~عما إذا كنت قد فرغت من إعداد العدة للرحلة الجوية «يا فتاح يا ~~عليم»! وأسأله أن يكف عني فلا يكف، وأستحلفه أن يدعني فلا ~~يعطف ولا يرق، وفي المساء عاود المسألة في «التليفون» أيضا، ~~وجعلت أجادله جدال المغيظ المهتاج، فلا يكرثه ذلك ولا ~~يلويه. # وهنا تكلم القدر فسكت المقدور، وتزايل الحذر فوقع المحذور. # تقفون والفلك المحرك دائر # وتقدرون فتضحك الأقدار # فلقد أطلق علي القدر من كنانة الغيب ما قصف عزمي قصفا، ~~ونسف كل تصميمي نسفا، فلقد كان ولداي الأكبران ~~بنجوة مني يستمعان هذا الحوار ~~ولا أراهما، فما إن أطبقت فم «التليفون» حتى تقدما وهتفا ~~معا: # إذا كنت يا أبتاه تخاف الطيارة فنحن نركبها بدلا منها! فقلت: ~~لقد قتلتماني أيها الشقيان كما قتل خادم المتنبي مولاه، سامحكما ~~الله وعفا عنكما، وطلبت الأستاذ حسني من فوري وسألته عن ساعة قيام ~~الطائرة وغير هذا من بعض التفصيل، وسرعان ما دعا إلى «التليفون» صديقي ~~المفضال الأستاذ لطفي محمود السكرتير العام لبنك مصر، وهذا أقبل ~~علي بالهناء، فقد كان بين السفر الكرام، وتبين لي بعد أنه كان ~~أبلغ المؤتمرين بي أثرا! وهكذا يكون رجال المال، صنع الله ~~لهم! # كان ذلك عشية الأربعاء، والسفر مصبح الجمعة؛ فيا لها من ست ~~وثلاثين ساعة في انتظار البلاء! # جعل الرعب يشيع في نفسي، والفزع يغمز على قلبي، وأتلفت ~~بالخاطر في كل ms138 مطرح فلا يقع إلا على ويل، أما الرجاء في السلامة فقد ~~سكن صياحه، وانطفأ مصباحه. # يا رباه! كل يوم وفي كل ساعة تحلق الطيارات حتى تكاد تحك ~~قرن الشمس وتصك وجه القمر، فتغدو سالمة، وتعود غانمة، فلماذا لا ~~يجري القدر إلا على طيارتي أنا؟! لم تسعدني كل هذه الأمثال ولو ~~بمزقة من ظل الرجاء، وأخيرا تهديت إلى حل ظهر لي بادئ ~~الرأي محكما بديعا، ذلك بأنه إذا كان ولا بد من سقطة، فأقصى جهدها ~~ألف متر، فماذا علي لو أديتها مقدما، فأتسلف السلامة في ~~تلك الرحلة «العزيزة»! وما علي إلا أن أثب من سريري إلى الأرض ~~ألفا وخمسمائة مرة زيادة في الاحتياط، وبذلك نبرئ الذمة من ~~الآن. # وفيما أنا أتهيأ لهذا تنبهت فجاءة إلى أن «بنك» الطيران لم يدخل ~~بعد في أعماله نظام المعاملة بالتقسيط! فسقط في يدي، وتركت الوهم ~~يسري بين حنايا الضلوع مسراه، وفوضت أمري كله إلى الله، فبيده ~~البسط والقبض، وعن أمره الرفع والخفض؛ ولا بد مما ليس منه ~~بد. # ويطول علي الانتظار من مساء الأربعاء إلى صبح الجمعة «والوقوع في ~~البلاء خير من انتظاره» كما يقولون، وكان يسلي عني الفينة بعد ~~الفينة «تليفونات» أتلقاها من أصحابي سائلين عن الخبر كأنه حدث في ~~البلد حدث، وأجيبهم بالتأكيد، وهم بين مصدق وبين ~~مكذب، وبين مشجع وبين مخذل، وتتطارح المفاكهات من ~~هنا ومن هنا، وكلها حول أن عبد العزيز يطير! # على أنها الأيام قد صرن كلها # عجائب حتى ليس فيها عجائب # يوم الطيران # وأهب من نومي في بعض الساعة الخامسة من صباح يوم الجمعة، وجعلت ظلال ~~الأحلام تتقلص رويدا رويدا، والذاكرة تنصقل رويدا رويدا، وجعلت الذكريات ~~تتوارد تباعا، وإذا من بينها أنني بعد ثلاث ساعات أطير! ورحت أجس ~~أطواء نفسي، وأتقرى مداخل حسي، فإذا أنا كل وادع وكل مطمئن، ومضيت ~~أبحث عن الوهم فلا أجده، وأتحسس الفزع في منابته فلا أصيبه! فلو وفدا ~~علي ولو ساعة! فقد ألفتهما وطال الإلف، وحالفتهما فاستوثق ~~بيننا الحلف، وإني في هذا لحقيق بقول ms139 المتنبي: # خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا # لفارقت شيبي موجع القلب باكيا # ونهضت خفيفا، فأصلحت من شأني، ورزمت متاعي، ورأيت أنه ما زال بين ~~يدي من فضل الوقت ما يتسع لرياضة الصباح، وهي تستهلك الساعة وبعض ~~الساعة، وطلع علي حسني لموعده، فمضينا على اسم الله إلى المطار، وهو طول ~~الطريق يزين لي هذه الرحلة ويبهجها لنفسي، وما به - شهد الله - إلا ~~الخوف من أن يفلته صيده، فهو إنما يلقي الحب للطائر، ويتراءى ~~بالحمل لليث الخادر! # ولما رأيته قد أسرف في هذا أقبلت عليه وقلت له: يا سيدي؛ دون ~~هذا وينفق الحمار! خفض عليك، فإني طائر طائر! سواء أكانت الرحلة ~~جميلة أم زفتا وقطرانا، وسواء وصلنا سالمين إلى الإسكندرية أم ~~صرنا إلى الدار الآخرة، فالمسألة أصبحت مسألة كرامة، لا أضحك ~~الله أولادي مني، ولا عبث بسيرتي أصحابي، فرأيته يعالج حقن الغيظ، ويجهد ~~في هذا جهدا شديدا، لأنني توسمت فيه من أول ما دعاني لهذه الداهية ~~أمرا، فبيننا ثأر قديم! # وأمسكنا كلانا عن الحديث حتى بلغنا المطار، وهناك استقبلنا الشاب ~~الكفء الجليل القدر، والفاضل ابن الفاضل الأستاذ كمال علوي المدير العام ~~لشركة مصر للطيران، ورفعونا أولا إلى الميزان، فخرجت والعصا في يدي بخمسة ~~وخمسين كيلو، والحمد لله على القلة، فهي كثيرا ما تخفف من كلفة ~~وتعصم من ذلة. # ثم مضوا بنا إلى الطيارة، وكانت أول طيارة رأيتها في حياتي من كثب، ~~فصفوا الركب بجوارها، والتقط المدير بيده صورتهم الشمسية، ثم دعينا ~~إلى الصعود، وأجلسوني وحسني أيضا في الصف الأول مما يلي مجلس السائق، وجلس ~~في الصف الثاني الأستاذان لطفي محمود، وكمال علوي، ومن ورائهما ثلاثة من ~~الإنجليز، وبقي في الطيارة مكان واحد خاليا. # وأطلق السائق التيار فدار المحرك برهة تزيد على الدقيقة، والطيارة ~~ثابتة في موضعها، ثم بعثها فزحفت على الأرض زحفا رفيقا، ثم استحال جريا، ~~وظلت تدور على اليبس، ولما طال ذلك منها قلت لصاحبي؛ لعلنا نبلغ ~~الإسكندرية على هذه الحال برا؟ أفتراها إذن سيارة، أفرغوا عليها هيكل ~~طيارة؟ فضحك صاحبي ms140 وقال: أي أرض؟ لأنت والله على جناح الريح، فالتفت ~~وحققت النظر فإذا أنا حقا قد صرت بين الأرض والسماء من حيث لم ~~أشعر! # ولقد كان يخيل إلي أن الطيارة ثابتة في موضعها من الجو، لولا أنني كلما ~~تشرفت من النافذة رأيت البيوت تصغر وتدق، حتى إذا جزنا بحينا ~~في حلمية الزيتون بانت لي المنازل في أحجام الرجام، ففسد علي كل ما ~~أعددت لملاعبة أولادي، وقد واعدوني أن يطالعونا من سطح ~~الدار. # ونسيت أن أقول لك إنني حينما دعيت إلى ظهور # 6 # الطيارة، تفقدت شيئا مهما جدا، وخاصة في هذه الرحلة ~~فلم أجده، وكيف لي بإصابة ما لم يكن، ووجدان ما لم يخرج بعد ~~إلى الوجود، ذلك بأنني تعودت إذا ركبت القطار أو السيارة أن أقرأ ~~حزب البر، فإذا علوت السفين قرأت حزب البحر، فمن لي اليوم ~~بحزب الهواء؟ لقد اشتد وجدي لهذا وكظ الهم صدري حتى كان يفرق ~~أضلاعي! # يا قوم: لا أسألكم أن تصنعوا لنا سيارة تنهب الأرض نهبا، ولا طيارة ~~تطوي الجو طيا، فلقد وفر الغرب عليكم هذا وكفاكم المئونة فيه، ولكنني ~~أسألكم أن تؤلفوا لنا حزبا للهواء، نستعصم ببركته كلما عرجت # 7 # بنا الطيارة إلى السماء! # شعور # فإذا طلبت شعوري من ساعة استويت إلى مجلسي في الطيارة، فذلك مما يعيي ~~تصويره على القلم: خطرة خوف ووهل # 8 # مرت كإيماضة البرق، أو كما قال البحتري: «خطرة البرق بدا ثم ~~اضمحل»، وسرعان ما أحسست لونا من شرود في الذهن يسير لم يقطع ما ~~بيني وبين ما حولي، فإني لأرى الأرض، وأفرق بين أخضرها ويابسها، ~~مساكنها وخلائها، وأرى الترع في اختلاجها وتأودها، # 9 # فإذا أقبل علي أحد بالحديث تفهمت ما يقول، على أن ذلك ~~كان يجشمني شيئا من حد # 10 # الذهن، ولقد أجيب عما أسأل عنه في غير تتعتع، إلا ~~أنني كنت أوجز القول ولا أطيل، لأن ذهني لم يكن أكثره بملكي ~~فإن شيئا قويا لينازعني نزاعا عليه! # فإذا عدت إلى نفسي، فرددت طرفي إلى جوف الطيارة، أو أغمضت ~~عيني، وانقطع ما بيني وبين سواي ms141، لا أعود أشعر بشيء، أو أنني أشعر ~~شعورا غامضا مبهما، لا هو بالخوف ولا هو بالأمن، ولا هو بالرجاء ولا ~~باليأس، ولا هو بالسرور ولا بالحزن، ولا هو بالتفكير في النفس أو الولد أو أي ~~شيء من تلك الأسباب التي كنت من قبل أقدر دوران الفكر فيها، ~~ونزوع الهم كله إليها، بل إنني في هذه الحال، لا أفكر في أنني على ~~جناح الريح، وعلى الجملة لقد كان شعوري في تلك الساعة أشبه ما يكون ~~بشعور الرجل تهيأ للنوم ولما يزل على جناح السنة، هذا شعوري ~~أديته إليك بقدر ما واتاني القلم. # ويتركني صحبي على هذا فترة لا أدري: أطويلة هي أم قصيرة، إلى أن بعثني حسني، ~~حسني أيضا، بحديث «الغراب»، فعرفت أن كنانة الخبيث ما برحت حافلة ~~بالسهام؛ وكان السهم هذه المرة أمضاها ظبة # 11 # وأصلبها مكسرا، فاسمع يا سيدي لا أسمعك الله حديث «الغراب»، ~~وخاصة إذا كنت معلقا بين التراب والسحاب. # يا غراب ~~«فلان» الغراب، وهذا لقبه، وهو يتكسب من الترسل # 12 # في القهوة التي نجلس إليها، ولقد عقد الشؤم كله والنحس ~~أجمعه بغرته «السوداء»، حتى لو قلت له: يا غراب علي بكوب ماء، لم ~~يلبث أن يعود إليك بأن شركة المياه قد أفلست، فهدمت أبنيتها، ~~وسدت أقنيتها، وباعت عددها وآلاتها «خردة» وتحملت عن هذه البلاد ~~بسلام! ولقد تقول له: يا غراب! اطلب داري في «التليفون» واسأل: هل زارني ~~أحد؟ فيعود إليك بأنه لم يزرك إلا محضران وثلاثة من الغرماء، وصاحب البيت في ~~طلب الكراء! ~~- فهل طلبني أحد في «التليفون» يا غراب؟ ~~- لم يطلبك يا سيدي إلا النيابة، والقصر العيني، والإسعاف! ~~- إذن فامض إلى جريدة الأهرام، وإليك «نمرة» جلوس ولدي، واسأل: هل نجح ~~في امتحان الشهادة الابتدائية؟ ~~- سقط يا سيدي، وأغلب الظن أن ليس له ملحق! ~~- أرجو منك يا غراب أن تراجع لي هذه «النمرة» في كشف سباق الدربي. ~~- يا خسارة يا سيدي! لقد كان بينها وبين «النمرة» التي ربحت الجائزة ~~الكبرى رقم واحد! # وهكذا، # أينما يوجهه لا يأت ~~بخير ~~، صدق ms142 الله العظيم. # وأنا رجل شديد التطير، يزعجني ما دون «نفحات» الغراب بنسبة # وأصحابي يعرفون شدة ذعري من هذا الغراب، ويتقصون حوادثي ~~التي لا تنقضي معه. # على أن من أشد ما يدهشني حتى يكاد يذهب بلبي، ولع في هذا الغراب ~~شديد بألا يأذن لوجهه الكريم بمفارقة طرفي لحظة واحدة، ولو ~~جلست ثمة عشر ساعات متواليات، اللهم إلا أن تكون القوة القاهرة، ~~فأنى جلست وقف بإزائي، وإني لأجول طرفي إلى الشرق فسرعان ما ~~يشرق وجه الغراب، فأرده إلى الغرب فيغرب، وأتحول من ناحية إلى ~~ناحية، فيتمثل لطرفي في أقل من الثانية، ولما حزبني هذا الأمر رحت ~~أطلب الفداء، وألتمس البرء من هذا الداء، فدعوت به وقلت له: يا ~~غراب! هل تقبلني «مشتركا» عندك؟ فقال: وكيف ذاك؟ قلت: بألا تريني ~~وجهك في مقابل «اشتراك» شهري قدره كذا، وعلى هذا تم الاتفاق، وإن ~~بلائي من «قومبانية» المياه وأختها «قومبانية» النور لأهون من ويلي من ~~الغراب، فهاتان لقد ينبئاني إذا تأخرت عن الدفع اليومين أو الثلاثة، ~~ثم يحبس الماء، أو يقطع تيار الكهرباء، أما «قومبانية» الغراب ~~فالبدار بإرسال «الاشتراك» البدار، وإلا أطلقت عليك التيار، من غير سابقة ~~تنبيه ولا إنذار! ~~••• # وبعد إذ تشرفت بتقديم هذه الشخصية الفذة إلى حضرات القراء، لم ~~يرعني وأنا في تلك الغفلة اللينة إلا أن يهتف حسني بأعلى صوته: يا ~~غراب! وكان بيننا وبين الأرض ما ينيف على ستمائة متر فقط؛ فمقياس ~~الطيارة أمامي، والتفت إلي وقال: ألا تعرف أنني جئت بالغراب ~~ودسسته في مؤخر الطيارة، وسيثب إلينا الآن، وهذا الكرسي الخالي له؟ ~~فقلت: أتجد يرحمك الله؟ قال: بل يرحمك أنت! وأطلقها الخبيث في ~~تشف وشماتة، ونهض يجيء بالغراب، ووالذي نفسي بيده ما شككت قط في ~~أنه قد فعل، فصاحبي حاذق مدبر فاجر! فجمعت شملي، وحددت شجاعتي، وقلت ~~في أتم وداعة واطمئنان: اسمع يا هذا! إن كنت فعلت فقد والله أحسنت ~~كل الإحسان، لأنني إن بلغت سالما فقد نجوت من الغراب والطيارة ~~معا؛ ومن نجا من هذين فقد أمن أحداث الزمان ms143 في طول الزمان، وإن ~~هلكت، وكل امرئ هالك، فقد أنقذت العالم من الغراب، فأنا إذن ~~مخلص هذا الزمان، وهذا مقام تتقطع دونه علائق الآمال! فضحك حتى تبادر ~~دمعه وعرفت أن حقده علي لم يبلغ هذا المدى، وإن كنت ~~لا أخفي على القارئ أن مجرد ذكر الغراب، ونحن على هذه الحال، خطر لا ~~يتهاون شأنه إلا المخاطرون! # بعد هذا تركني وكفاني عبثه، فرجعت إلى نفسي فإذا كلي حاضر: إدراك ~~تام، وشعور واف، ونفس وادعة، وعصب مطمئن، وطرف أوجهه حيث أشاء، فيعود ~~إلي بألوان الصور كاملة واضحة، وكأن الفزع من رؤية الغراب، ذهب بالفزع من ركوب ~~الطيارة، وهكذا تداوينا من الفزع بالفزع، وصح فينا قول الأعشى: # وأخرى تداويت منها بها # وقول أبي نواس: # وداوني بالتي كانت هي الداء # وتلك عندي يد للغراب لا أنساها له على تطاول الأيام! # على أن شيئا واحدا حير حسي، وأدخل علي الشك في صحة إدراكي: ذلك ~~بأنني ما شعرت قط بأن الطيارة هي التي تسير، بل إنني لا أراها إلا ~~ثابتة لا يتحرك منها إلا المحرك، ولكنني أنظر إلى المقياس فإذا هو ~~يحدث أنها تجري في سرعة سبعين ومائة كيلو متر في الساعة، ثم ثمانين ومائة، ~~ثم تسعين ومائة! ثم أرخي نظري إلى الأرض، فإذا هي التي تدور في اتجاهنا، ~~ولكن في تثاقل وشدة هوادة، حتى يخيل إلي أن ما نقطعه منها أو ~~ما تقطعه هي منا لا يدرك كيلو واحدا في الساعة! # ثم علونا وعلونا، فأشار صاحبي إلى قطار من قطر «السكة الحديد»، فإذا ~~هو في لطف جرمه، ودقة حجمه، لا يكبر هذه القطر التي يتلعب ~~بها أبناؤنا الصغار! # أما الأرض فكان مرآها عجبا من العجب: هذه رقاع سندسية خضراء، لا تزيد ~~مساحتها على متر في متر، يفرق بينها فراغ أدكن طويل في مثل عرض الأصبع، هذه ~~هي الترع، أو السكك الرئيسية، وتلك هي «الغيطان»، وكلما أمعنا في ~~الارتفاع ازدادت هذه كلها دقة ولطفا، حتى لقد خيل إلي في بعض الوقت أننا ~~إنما نتشرف على خريطة ms144 جغرافية كبيرة، لا على هذه الأرض، ذات الطول ~~والعرض! # ولقد جزنا بالنيل مرتين، ولقد أذكر أنه بانت لنا جزيرة صغيرة في ~~وسطه، وحسبت أنني أستطيع أن أتناولها من الشاطئ بخطوة واحدة، ~~وأتناول الشاطئ الآخر بالأخرى! إيه! ما أصغر هذه الأرض في عيوننا، وما ~~أهونها على أنفسنا نحن معشر سكان السماء! # ما أحلى منظر هذه الأرض وما أبدعه من عند السماء! هي رقعة شطرنج جميلة، ~~إلا أنه لا يملك منها اتساق التقسيم ولا تشابه الأجزاء، ولا هي ~~تقتصر في تلونها على البياض والسواد: هذه رقعة خضراء مربعة، وهذه ~~أخرى تستوي في مثلث غير مستوي السوق ، وهذه رقعة مستطيلة تحسبها فرشت ~~«ببركيه» جديد لم تمسه بعد يد الصقال، وهذا إطار جميل يعتدل ثم ~~يتثنى، ويستقيم ثم يتلوى. # وما برحنا في شغل من تقليب النظر في هذه الطبيعة، وكأننا جالسون في أحد ~~رواشن الدور، تجوز من دوننا مظاهر الابتهاج والسرور! # ولعلك الآن مستشرف إلى مطالعة شعوري في هذه الساعة، وإني لمباديك به غير ~~متزيد ولا غال: كنت أستمتع بمثل نعيم الجنة لم يلقني في طريقها ~~موت، ولم يعنني في سبيلها حساب! # وإن شئت وصفا يتصل بأحاسيس هذه الدنيا، فليس عندي ما أجلو عليك من فنون ~~التشبيه إلا أن أحيلك على الحلم اللذيذ في النوم المطمئن الهنيء، تتوافى لك ~~فيه أسباب المنى وما في يديك منها كثير ولا قليل! # ثم دخلنا في الصحراء، وكلها شيء واحد لا يرجع إليك طول النظر فيه إلا بالضجر ~~والملال، فجعلنا نتشاغل بالحديث وبالقراءة بعض الحين، وعاد حسني، وحسني ~~دائما، فقال لي: أتحب أن أشير على السائق بأن يعمل «شوية شقلباظ!» ~~فتتمتع بهذا اللون من الطيران قبل النزول؟ فشخصت إلى الأستاذ علوي، وفي ~~عيني ما لا يخفى من سؤال وضراعة، فتجمع في كرسيه، وقال في جد لا أثر ~~فيه للعبث: لكما يا صاحبي أن تمزحا ما طاب لكما المزاح، وإني لأدخل معكما ~~في بعض هذا كيفما شئتما، ولكن لا سبيل إلى مزاح مع طيارة ولا مع طيار! ~~فتحولت إلى ms145 الشقي، وقد قلمت أظافره، وقلت له في لهجة الظاهر # 13 # المنتصر: «طيب انبط بقه!» # وتراءت لنا من بعيد صفحة البحر، فتداخلني كثير من الهم معه يسير من ~~الفزع، أما الهم فلأن هذه الرحلة البديعة قد آذنت بانتهاء، وأما الفزع ~~فلما كنت أعلم من أن الطيارة تترجح في مهبطها حتى لتستوي في بعض ~~الحين على جنبها، وعلى هذا تمكنت في مجلسي، وشددت بيدي على حافة كرسي حسني، ~~ولبثت أنتظر، وأنشأت الطيارة تتدلى، ولولا أنني أرى عقرب المقياس يتدلى ما ~~شعرت أن الطيارة تتهابط، ومال علي حسني وقال: لا يرعك أن الطيارة ~~ستميل ميلا شديدا عند مهبطها ، وهذا ما لا بد منه لنزولها، فقلت: ~~فلتمل كيف شاءت، فليس بيننا وبين الأرض إلا مائة متر أو دون، وحدثتك ~~أنني كنت قد جمعت شملي للتحرف لهذا الميل؛ على أنه لم يرعني، وأنا ~~في فترة هذا الانتظار، إلا أن يهتف بنا من الركب هاتف: أن تفضلوا! وأنظر ~~فإذا نحن على الأرض، وإذا الباب يفتح، وإذا الركب يتدلى! # وتسألني في النهاية، كم مرة أطلقت نظرك إلى يد السائق! فأقسم لك أنني ما ~~أرخيت إليه طرفي قط ولا مرة واحدة، ولماذا أفعل؟ والطريق معبدة، ليس ~~على عذارها طوار، ولا عمد للترام، ولا «مزلقان» لسكة حديد، ولا نحن على سيف # 14 # نهر، ولا بمقترب من سيارة يقودها بعض «الوارثين»، وليس على ~~سكتنا غلمان لا يحلو لهم الحجلان إلا في بهرة الطريق، ولا «دغف» لا ~~تطيب له قراءة الجريدة إلا وهو ساع على قدميه في الساعة الخامسة من يوم الأحد ~~في وسط ملتقى شارع فؤاد بشارع عماد الدين، ولا، ولا، من هذا البلاء الذي ~~يأخذ جميع المذاهب على ركاب السيارات! # نعم، لقد رجفت بنا الطيارة في أثناء الطريق بضع رجفات لا تزيد في ~~مدتها، ولا في خفقاتها على اختلاجة الجفن، بحيث لو كان المرء مشغولا بحديث أو ~~قراءة، فإنه لا يشعر بها أو لا يكاد، وقيل لي: إن هذه إنما تجيء عند اختلاف ~~المناطق، كالخروج من اليابس إلى الماء، أو الدخول ms146 من أحدهما إلى الصحراء، على ~~أن الطيارة لو ارتفعت فوق ما ارتفعنا قليلا لما كانت هذه الخلجات لعلوها ~~على تيارات الهواء. ~~••• # ولست أكتم سيدي القارئ أنني ذعرت في هذه الرحلة ذعرا شديدا كاد يجيء ~~على نفسي: ذلك بأننا بعد أن وصلنا بسلامة الله، أخذنا من فورنا سيارة ~~إلى النزل، فلبثنا هناك إلى ما بعد الظهر، ثم بدا لنا أن نتغذى ~~في مطعم الشاطبي، وما كدنا نصل إلى رأس السلم حتى أشار لي صديقي حسني إلى ~~ناحية السماء، فإذا طيارة تحلق في الجو، وقال لي: إنها التي كنا فيها، وهي ~~الآن في مقفلها إلى القاهرة ، فقلت له: وقد اصطكت ركبتاي من الذعر ~~والوهل! أفكنا على هذا الارتفاع؟ قال: بل لقد كنا في بعض الطريق على ثلاثة ~~أضعافه! ولقد والله أحسست أن قلبي يمشي في صدري حتى بلغ حنجرتي، فجعل ~~يتخلج فيها تخلجا «لا يرتقي صدرا عنها ولا يرد»، فلما عاد ريقي ~~فجرى في مجاريه قلت له: أفجننت أنا حتى أجازف في مثل هذا؟! والله لئن كان ~~حدث لي حدث في هذه الرحلة، ما سمعت لك مرة واحدة، ولا ركبت معك ~~بعدها طيارة أبدا. # على أننا قد وصلنا بحمد الله تعالى سالمين، فلحى الله أنفس ~~الجبناء! # | الراديو1 كما يصفه أعرابي قادم من ~~البادية # سيداتي سادتي # تفضلت شركة مركوني فدعتني لأتحدث إليكم أحاديث شتى في أوقات متفرقة، وإني على ~~ما تداخلني من الزهو بهذا التشريف، لقد تعاظمني الأمر وهالني، فليس من ~~اليسير على مثلي أن يقف بين يدي هذا المذياع «أعني الميكروفون» فيخاطب آلاف ~~الآلاف من أصناف الناس في شعب الأرض، بينهم العالم والأديب، وفيهم الكاتب والشاعر ~~والناقد، وسيدات هنالك لا ينقصن في هذه المقامات علما وفضلا وأدبا. # لقد تعاظمتني هذه الدعوة، فتعذرت بادئ الرأي على إجابتها، ولكنني دفعت ~~بعد هذا إليها من أولياء مشورتي دفعا. # إذن لقد حق القول، ولكن ماذا أقول، وكيف أتحدث؟ # خلوت إلى نفسي لأختار أول حديث لي في هذه المحطة، وجعلت أتصفح وجوه ~~الموضوعات، على أنه كلما سنح ms147 لي واحد منها، حال بيني وبينه همي وشغل نفسي بما ~~يكون من موقفي في «الراديو»؛ وكف ذلك الشغل ذهني عن أي تفكير في غيره وعن ~~أي تدبير، نعم، لقد ملك ذلك علي ذهني من جميع أقطاره ... إذن فلأرسل حديثي ~~في «الراديو» ولأقصر عليه الحديث. # الراديو # سيداتي، سادتي # لعله قد هجس في نفوسكم جميعا أو في نفوس كثير منكم هذا السؤال: ترى لو ~~أن مخترعا عظيما كالسنيور مركوني كان قد طالع سلفنا الأقدمين بهذا ~~«الراديو» فماذا كانوا يظنون، وكيف كانوا يقولون؟ # أما أنا بالذات، فقد غم علي الأمر، وتقسمت ذهني ألوان الفروض، ~~ولكنني لم أستقر منها على واضح صريح، فضلا عن حق يقين! # ولكن، ولكن للمصادفات، المصادفات وحدها في كثير من الأحيان، آثارا تعيي ~~على أشد عقل، وأعظم جهد، وأحكم تدبير، بل إن للمصادفات، المصادفات ~~وحدها، في كثير من الأحيان، الفضل الأول فيما هدي إليه أعلام الناس من ~~اختراع عظيم، وما وقفوا عليه من استكشاف جليل! # هذه المصادفات، أو على الأصح هذا القدر، لقد ساقني يوما، وكان ذلك من نحو ~~عامين، إلى زيارة صديق جمع الله له إلى النعمة والترف، حلية الظرف والذكاء، ~~وما إن كدت أطالعه بالسلام ويتلقاني بالتحية، حتى قال لي: إني ~~سأريك الساعة شيئا عجبا لعله لم يخطر لك على قلب أبدا! قلت: هات ما ~~عندك، فتقدم إلى خادمه بأن يدعو الشيخ عدلان، وما لبثنا غير قليل حتى ~~أقبل علينا شيخ من الأعراب أسمر اللون شديد السمرة، خفيف اللحم، ليس ~~بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، أملى علي شكله الستين، ثم ~~علمت أنه قد أطل على الثمانين، وهو مع هذا مستوي القامة، حتى كأن ~~قامته الرمح المثقف، فحيا بتحية الإسلام، فرددنا التحية بالتحية. # وأقبل علي صاحبي يعرف لي الرجل، قال: إنه من إحدى بوادي نجد، وهو ~~يتنخس في الدواب، # 2 # على أنه لم تهيأ له رؤية الحضر من قبل، بل لقد كان يرسل على ~~إبله وخيله إلى مصر وغير مصر ولده وبعض معشره، ثم بدا له أن يفد معهم هذا ms148 ~~العام، ليشهد عيش الحضر قبل أن يدركه الأجل، ووافق مقدمه حاجتي إلى ~~بعض الجياد، وسألته أن يقيم عندي ما أقام في مصر، لما رأيت من ظرفه، ~~وخفة روحه، ولطف حديثه، وحسن بديهته. # ولقد بعثت «الراديو» ذات عشية في حضرته، فارتاع وشده، وذهب ~~الرعب بلبه كل مذهب، ثم اطمأن صاحبي فترة قصيرة وقال: وعلى ~~الشيخ عدلان أن يقص بقية الحديث، والتفت إلى الرجل وسأله أن ~~يتكلم، فتعذر وتمنع، فعزم عليه إلا تكلم، فأكرم ~~الضيف وأومأ إلي. # تنحنح الرجل، وسعل سعالا رفيقا، ثم أنشأ يتحدث في لهجة بدوية ~~كثيرا ما كان يلتوي علي فيها اللفظ، فيسويه لي بعض من حضر. # سيداتي، سادتي # الآن أنقل إليكم حديث ذلكم الأعرابي بعد أن علقته وقيدته بقدر ~~ما واتاني الجهد، فإن كنت قد عالجته بعض العلاج ففي شيء من الصياغة بتقويم ~~ما لا يستقيم في آذاننا من لهجة أولئكم الأعراب، قال: # دعاني صاحبك ذات عشية إلى أن أصعد إليه، فلما استوينا في مجلسنا من إحدى ~~الغرف، أومأ إلى ركنها، فحولت بصري فإذا دمية # 3 # من خشب بتر ساقاها فأقعدوها على منضدة، # 4 # لها أنف صغير، ولها أذنان دقيقتان، وقد توسط ما دون الجبين ~~عين لها، وا عجباه، واحدة تمزقت حدقتها فتناثرت في بياضها ~~تناثر أكارع النمل، على صفحة الرمل، ولها فم، يا حفيظ! قد استهلك نصف ~~وجهها، سجوه بديباجة من حرير، وليتهم سدوا عليه مسامير من حديد! وما أحسب ~~والله هذه الدمية إلا صنعت على صورة الجن لم تطبع على صورة ~~الإنسان! # ثم قام صاحبك إليها فعرك أذنها، وسرعان ما احمرت حدقتها فاستعذت ~~بالله من الشيطان الرجيم! ثم سمعت لها حسيسا # 5 # ما لبث أن استحال زمزمة وهمهمة، # 6 # فخلت والله أن الأرض قد زلزلت علي، وأحسست قلبي ~~يتمشى من الروع في صدري حتى يصك حنجرتي، فجمعت ثوبي للهرب، فجذب ~~صاحبك فضل ردائي، ولو قد أطلقني ما أصبت المهرب، فلقد تخاذلت عني ~~ساقاي، وأظلم ما بيني وبين وجه الطريق، وجعلت ألتمس آية الكرسي ~~أستعصم بها من هذا الشيطان، فأذهبها الرعب ms149 عني، وكأني لم أحفظ ~~منها في دهري الأطول كلمة واحدة! ولما رأى صاحبي ما بي قال لي: خفض عليك ~~يا شيخ! قلت: وهذا العفريت! قال: لن ينالك منه مكروه إن شاء الله، فلقد ~~قيدوا ساقه، وشدوا وثاقه، فما يجد له من إساره فكاكا، ولا يستطيع ~~في محبسه حراكا، قلت: أفيسجن سليمان المردة في قماقم من نحاس ~~أو من ذهب، وأنتم لا تبالون أن تسجنوها في جماجم من خشب؟ فانثنى عني إلى ~~الدمية فعرك أذنها الثانية، فسرعان ما سكن هديرها، وبطل زئيرها، وإذا ~~العفريت يتحدث في لين صوت واطمئنان نبرة كما يتحدث عرفاء القوم # 7 # إذا اجتمع لهم في الهينات القوم، وإذا هو ينطق بالحكمة بعد ~~الحكمة، ويرسل العبرة في عقب العبرة، فأفرخ ذلك من روعي # 8 # حتى كادت ترتد إلي نفسي، ووالذي نفسي بيده لو كان حديث هذا ~~العفريت مما يطعم لكان أحلى من الجلاب، # 9 # أو لو كان مما يبصر لكان أصفى من العسجد المذاب. # 10 # على أن صاحبك لم يلبثه حتى يأتي على غاية حديثه، فلقد قام إلى دميته ~~فعرك هذه المرة أنفها، فجعلت عينها تدور في محجرها، ثم تركها ~~فاستقرت، ولم يرعني إلا أن أسمع من جوفها عزيف عود، وصوت مزمار كأنما ينفخ ~~فيه داود، وهما يتعطفان على نقر دف أحسبهم قد علقوا فيه صنوجا دقاقا، # 11 # ووالله قد حسن إيقاعه وحلا نبره، كأنما وكل إلى طويس # 12 # نقره، وسمعت معازف أخرى جعلت تتنغم وتترنم، حتى ~~خلتها من جودة الإيقاع تتكلم، فشاع في الطرب، بقدر ما ~~تداخلني من الدهش والعجب! # ثم ارتفع صوت لولا البيان لقلت: سجع كنار، أو شدو هزار، ولقد راح ~~يشتد ثم يلين فيشف، ويحلق ثم يهبط ويسف، وآنا يطرد ويستوي، ~~ثم إذا به ينثني ويلتوي، ويسترسل ثم يتعرج ويتعطف، ويتقدم ثم ينحاز ويتحرف، ~~والكبد تتياسر معه وتتيامن، والقلب يتطاير ثم يتجمع ويتطامن، والنفس يرتفع ~~كلما ارتفع، ويقع معه حيثما وقع! # وما برح العفريت في شدوه وتسجيعه، وترديده وترجيعه، حتى ذهب الطرب بي ~~كل مذهب وغلب علي، ولم أقو على ms150 شق ثوبي فجعلت ألدم صدري، ~~وليت شعري أفأمسى هذا العفريت يرد على المسامع، صنعة إسحاق وغناء ابن جامع؟ # 13 # وما فرغ العفريت من غنائه، حتى أنشأ يقص علينا أحدث الأحداث في قواصي ~~الأرض وأدانيها: صينها وهندها، وشينها وسندها، وعراقها وحجازها، ونجدها ~~وأهوازها، ومصرها وسودانها، فقلت: لصاحبك: كيف للجني بهذا وهو قيد أسره، ~~ورهن محبسه؟ فقال: إنما يوسوس له بهذه الأنباء إخوانه من المردة ~~والشياطين، قلت: الأمر لا بد أن يكون هكذا! # سيداتي، سادتي # لقد تعاظمني أن أدع الرجل سادرا في ضلته، فقلت له: اسمع يا أخا ~~العرب! والله لقد كذبك وهمك، وما صدقك صاحبي! فنظر إلي الرجل نظرة ~~المأخوذ، وعلق نفسه وفغر فاه، ثم قال لي في لهفة ودهش: وكيف ذلك يا ~~ابن أخي جعلت فداءك؟ قلت: إن الذي رأيت إنما هو من صنع مردة ~~الإنس لا من صنع مردة الجن! ... ورحت أبين له حقيقة «الراديو» على ~~قدر ما يتعلق منه بعلمي ويتسع له فهمه، وطفقت أضرب له ما حضرني من ~~الأمثال، والرجل بين مصدق ومكذب، فلما أعياني أمره دعوت «بالراديو» ~~وأظهرته على خلفه، ليرى بعينه ما في جوفه، فلما قطع اليقين عنده علائق ~~الشك، زفر زفرة طويلة، ثم تمثل ببيت البحتري في وصف إيوان كسرى: # ليس يدرى أصنع إنس لجن # سكنوه، أم صنع جن لإنس # وليس هذا بأول بدوي بهرته أسباب الحضارة فأشاع فيها الظنون! فلقد ~~قرأت مثل هذا عن أعرابي لعله انحدر إلى بغداد في عهد العباسيين، وأقول ~~«لعله» لأن عهدي بهذه القصة عهد طويل. # سيداتي، سادتي # أفرأيتم أن المصادفة، المصادفة وحدها، هي التي هيأت لي الحديث إليكم ~~الليلة؟ # وبعد، فإذا كان العجب لم يأخذ فينا ~~بعض ما أخذ في ذلك الأعرابي حين طلع علينا هذا «الراديو» أول مطلعه، ~~فذلك لأننا نعيش في حضارة ممدودة الرواق، مبسوطة الآفاق، وقد جازت بنا ~~ألوان من المخترعات لم تكن تخطر على القلب، فوق أن المجموعة قد أحرزت ~~على الأقل أطرافا من علوم الحياة تسلس لها في هذا وأشباهه وجوه الفهم ~~والتعليل، إلى ms151 أن الأخبار تتقدم عادة بخروج هذه المخترعات وشيوعها فيطامن ذلك ~~من الانبهار بها، ولو لم نصب شيئا من هذا لكنا وذلكم الأعرابي في ~~تصور «الراديو» بمنزلة سواء! # ولقد يكون أبناء هذا العصر قد دخلهم شيء من العجب أو الدهش يوم أضاءت لهم ~~الكهرباء، ويوم تغنى لهم الحاكي (أعني الفونغراف)، ويوم حلقت فوق ~~رءوسهم الطائرات، ويوم غناهم «الراديو» وخطبهم وحدثهم، ولكن ~~الطفل الذين درجوا وهذه الأشياء قائمة، لم يلحقهم منها - إن لحقهم - ~~إلا يسير من العجب، بل لقد يحسونها من إحدى البسائط في وسائط الحياة، ~~وهكذا كلما زكا العلم وربا واطردت الحضارة ببني الإنسان! # من مزايا «الراديو» # سيداتي، سادتي # دعونا الآن من العجب والدهش في حديث «الراديو»، فلم يبق لهذا موضع الآن، ~~وصدق المثل: إذا عرف السبب بطل العجب، حتى إذا لم يعرف للأمر سبب، فإن ~~ذلكم الانفعال ليسكن وحده بالإلف وطول الاعتياد، ومن حق «الراديو» علي ~~بعد ذلك، وهو وسيلتي إليكم الآن، أن أتحدث عن شيء من آثاره؛ ولكنني لن أتحدث ~~إلا يسيرا. # كان للأصوات على العموم مدى تنتهي إليه، وهذا المدى يختلف بعدا وقربا ~~باختلاف الأصوات من جهة، والأسماع من جهة أخرى، قوة وضعفا، كما يختلف باختلاف ~~الجو ضوضاء وجلبة، أو هدأة وسكونا، وعلى أي حال فإن هذا المدى لم يكن يتجاوز ~~الصدر في رقم المئات من الأميال، كما يكون من هزيم الرعود وعزيف المدافع ~~مثلا، فلما كان البرق (أعني التلغراف) تهيأ له أن يحمل نقر الناقر إلى آلاف ~~الأميال، فلما كانت المسرة (أعني التليفون) سافرت أحاديث الناس كذلك ~~مبينة واضحة اللفظ، على أنه لا يتهيأ الاستماع إليها إلا لواحد أو ~~لآحاد. # ويأذن الله باللاسلكي، وقوامه - كما تعلمون - إشاعة الأصوات في الأثير، ~~ولمن شاء بهذه الأداة التي بين أيديكم الآن، استمع في حدود المسافة التي ~~يبلغها جهد المصدر، وهو المحطة التي تتولى الإذاعة من جهة، وجهد ~~الأداة التي تتلقاها من جهة أخرى. # بهذا أصبح أثر «الراديو» في باب الإذاعة أشبه ما يكون بأثر المطبعة، غير أن ~~ذلك يتصل بالآذان ms152، وهذا يتعلق بالأعيان، والجامع بينهما واحد على كل حال! ~~فكلاهما يستخرج من الشيء المحدود ما لا يحصره عد، ولا يحيط به ~~حد! # فمهما يفسح بين يدي الخطيب أو المغني، ومهما يؤت أحدهما من قوة الصوت ~~وجهارته، فإنه ليس ببالغ من الأسماع إلا بضعة الآلاف على أوسع تقدير، أما ~~«الراديو» فيستطيع أن يبلغ آذان الملايين في شعاب الأرض المختلفة دون ~~مطاولة جهد ولا تجشم عناء! # سيداتي، سادتي # ليس «الراديو» أداة لهو فحسب؛ على أن شأنه في هذا الباب جليل، ومن الفضول أن ~~أحدثكم عن شيء تستمتعون به وتطربون عليه أكثر لياليكم إذا لم يكن في لياليكم ~~جميعا، ولكنني ألفتكم إلى شيء واحد: ذلك بأن هذا «الراديو» قد اعتمد ~~ناحية من نواحي «الأرستقراطية»، وإن شئتم قلتم ناحية من نواحي الأثرة ~~الإنسانية، فحطمها تحطيما، ولقد أدركت العصر الذي لم يكن يؤذن فيه ~~لصغرى الطبقات، بل لبعض وسطاها في سماع المرحوم عبده الحامولي وأضرابه إلا ~~بخوض المشقات واقتحام الأهوال، فلقد كان يقف بأبواب السرادقات في أعراس ~~علية القوم غلاظ الجند في أيديهم غلاظ الهراوات، # 14 # فما يتهيأ لمستمع مسكين أن يدنو لينشر أذنه إلا مشق # 15 # بالعصا العشر والعشرين، وهو يصيح في ظاهر السرادق آه آه، ووالله ~~ما أدري أيتأوه الرجل من لذة النغم، أم من حرقة الألم؟ # والآن، وبفضل هذا «الراديو» تيسر لكل إنسان أن يسمع أعلام المغنيات ~~وأقطاب المغنين في أقطار الأرض، وهو وادع في كسر بيته، فإذا أعوزه «الراديو» ~~استمع في المقهى، وإلا فعلى ظهر الطوار متسع للجميع! # سيداتي، سادتي # قلت لكم إن «الراديو» ليس أداة لهو فحسب، والواقع أنه كذلك وسيلة نافذة ~~أبلغ النفوذ لبث العلوم والفنون والآداب، ونشر ألوان الثقافات على العموم، ~~وكل أولئك من شأنه أن يرفع من مستوى الجماهير، حتى ليزيل كثيرا من الفروق ~~الثقافية بين الطبقات. # هذا إلى أنهم لو تجاوزوا به المدن إلى القرى لرفهوا الفلاحين المساكين ~~وسلوا عنهم، وخففوا من آثار كدهم في يومهم الأطول، إلى ما يغذون ~~به من ألوان التعليم والتثقيف، والإرشاد إلى كل ms153 ما هو نافع فيما يتصل بصحتهم ~~وزروعهم، وتربية بنيهم، وتدبير أموالهم، وغير ذلك من أسبابهم، وموافاتهم بما ~~يعنيهم من أنباء بلادهم وسائر بلاد العالم. # ولا تنسوا بعد ذلك أن «الراديو» سيكون من العوامل البعيدة الأثر في ~~التقريب بين الثقافات العالمية، وتقارض بعض الفنون بين الأمم المختلفة من غير ~~عسر ولا تجشم عناء. # ولقد كنا وما زلنا، في الموسيقى بوجه خاص، نأخذ ولا نعطي، وإني لأرجو أن ~~يضاعف أولو الشأن من قوة هذه المحطة العظيمة، حتى يتكافأ الأخذ والعطاء ~~بفضل حذاق الموسيقيين المصريين، فلا نعيش عيالا على غيرنا أبد ~~الآبدين! ~~••• # هنالك مزية أخرى جليلة «للراديو» اسمحوا لي بأن أفخر وأتتايه بأنني - بفضل ~~الله - أول من استكشفها، وما كان ليفكر فيها من قبلي إنسان: ~~إن المغني إذا جلس للناس فنشز عليه النغم، والخطيب إذا تراءى ~~للجماهير فأخطأه التوفيق والتوت عليه الكلم، كان شأنه بين حالين أحلاهما ~~مر، وأيسرهما عسر: فإما أن ينفضوا عنه بسلام، وإما أن يثبتوا ~~فيسمعوه موجعات الكلام، أما وهو قائم بين يدي المذياع، فإنه لا يرى ~~ما يصنع له، ولا يسمع ما يقال فيه، وعلى هذا فإنني أسامحكم يا سادتي من ~~كل قلبي في كل ما قلتم الليلة وفي كل ما صنعتم، وأسأل الله المغفرة لي ~~ولكم! # | مجدولين1 # أخي السيد الجليل # هل لك إلى أن تعيرني قلمك ساعة واحدة، فأصف به تلك «الرواية» الرائعة التي ~~أديتها إلى أبناء العرب، فإنه ليس حقيقا بوصف براعة «مجدولين» إلا معرب ~~«مجدولين»! # قرأت كتبا وأقاصيص لأعيان الكتاب والمؤلفين متقدميهم ومن تأخر منهم، وليس ~~شيء منها يقل عن «مجدولين» غرابة حوادث، وقوة خيال، وصحة معان، ونصاحة أسلوب، ~~ورشاقة لفظ، وصفاء ديباجة، فلم تثر من شجوني، ولم تنل من شئوني بعض ما نالت ~~«روايتك»، فعمرك الله كيف صنعت حتى برعت هؤلاء جميعا، وبلغت من نفوس ~~القارئين ما تثلمت دونه كل أولئك الأقلام؟! # إني محدثك الحديث وأنت به أخبر! لقد كان ظن كثير باللغة أنها لا تنبسط إلا ~~لما يتحرك في أذهانهم، وما تجول به أفكارهم ms154، وما تناله حواسهم، وحسبهم بهذا القدر ~~الذي تستقيم به أمورهم، وتنتظم به معايشهم، وتتسق لهم به أسباب اجتماعهم في هذه ~~الحياة. # أما تلك المعاني التي تعتلج في قرارات النفوس، وتترقرق في أطواء القلوب، ~~وتضطرم في حنايا الضلوع، فهيهات أن ينتظمها الكلام، أو تشكها أسلات ~~الأقلام! # تلك المعاني التي يبعثها في نفس الفتى مرأى الشمس إذا برزت من خدرها، ~~والوردة إذا خرجت من كمها، والبدر إذا تألق في كبد السماء، والآل إذا ~~ترقرق على متن الصحراء، والبرق إذا لمع، والسحاب إذا همع، والحمام إذا ~~سجع، والعبير إذا سطع، والزهر إذا طله الندى، فأقبل النسيم يحمل إليك منه ~~عرف الشذا، والجوزاء إذا تبدت في عقد مؤتلف النظام، والحسناء إذا افترت ~~عن مثل حب الغمام - وما إلى هذا من ألوان المعاني وفنون الإحساس التي يدركها ~~أولئك الذين صفت طباعهم، ورهفت مشاعرهم، في حال عشقهم ~~وصبوتهم، وفي سعادتهم أو في شقوتهم، وفي مراحهم ولهوهم، أو في ~~حزنهم وشجوهم. # لقد عيت لغة الناس بأداء كل ذلك وانخذلت دونه، وتقدم للتعبير عنه ما تراه ~~من فتور النظرة، وانهمار العبرة، وانعقاد ما بين العينين، وانبساط الأسارير، ~~وتربد الوجه، واحمرار الوجنة، وانتقاع اللون، وما تسمعه من نفثة مصدور، ~~وأنة مهجور، وآهة عان، وزفرة غيران، ومثل هذا مما يدعوه أصحاب المنطق بالدلالة ~~الطبيعية. # هذا ظن الناس باللغة؛ وبخاصة لغة العرب، حتى أخرجت لهم «مجدولين» فإذا قلم ~~لم يتعذر عليه معنى، ولا تحرج عليه مذهب من مذاهب الكلام؛ وكأني به وهو ~~يتدسس في القلوب تدسسا، فلا يزال يتعطف حتى يبلغ منها مجامع الإحساس، فما ~~طلب في صميمها معنى إلا أصابه، ولا أراغ في قرارها عاطفة إلا شكها، ثم استلها ~~فجلاها في «مجدولين»، بلسان عربي مبين! # فإذا بهرت قراءك «مجدولين» فلأنهم يسمعون فيها أحاديث عواطفهم، ويرون ~~في أثناء سطورها عصارة قلوبهم؛ فما يدري أحدهم إذا اطرد في قراءتها: أهو في حديث ~~نفسه أم أنه يتلو قصص غيره في كتاب؟! # ذاك أيها السيد، سر روعتي وإعجابي، ولئن سقطت إلى الكتاب هنات قليلة ms155 لا ~~تطمئن إليها قوانين اللغة، فحسبك أنك أتيت فيها بما قطت دونه أنامل كثير من ~~الكتاب، على تطاول الأزمان والأحقاب! # إني أهنئك يا أخي، وأهنئ هذه الأمة، فلقد كانت «مجدولين» فتحا جديدا للغة ~~العرب. # | إفلاس!1 # لا أكذب القراء الخبر، فلقد اجتمعت اليوم لأكتب «حديث رمضان» فإذا بي ~~مفلس لا أصيب زادا، ولا أجد لشأني عدة ولا عتادا، ولست أعني الإفلاس من ~~المال، فهذا شيء قد أزمن وطال ثواؤه، حتى نزل منا والحمد لله منازل العادة، ~~بحيث لو فارقنا لالتمسناه وتفقدناه، ووجدنا له من الشوق والحنين، ما لا يجد في ~~وحدته مالك الحزين، # 2 # ورحمة الله على المتنبي حين ~~يقول: # خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا # لفارقت شيبي موجع القلب باكيا! # وبهذا ارتقينا، بفضل الله تعالى، عن مرتبة الرياضة على الصبر، إلى مقابلة المكروه ~~بالحمد والشكر، فبتنا خيرا من كثير عزة حين يقول: # فقلت لها يا عز كل مصيبة # إذا وطنت يوما لها النفس ذلت # فليس الإفلاس المعني إذن إفلاس مال، ولكنه إفلاس مقال! ~~••• # لقد فصحني النهار، وعلي أن أكتب «للجهاد» حديث رمضان، وأنبعث إلى مكتبي ~~فأستوي له، وأبسط القرطاس بين يدي، وأشرع اليراع ثم أهوي به، فإذا هو يتعصى ~~علي ويركب رأسه، ويشرد تارة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار، ما يكف ~~له جماح ولا يطامن من نفار! # يا ويلتا! ماذا أكتب «للجهاد» اليوم وكيف أقول؟ اللهم لا شيء! # أترى الأرض كلها قد أقفرت من موضوع يكتب كاتب فيه، ولو بالإصابة من أطرافه ~~ومس حوافيه؟ اللهم لا! # وإني لأبسط العزم وأشده، وأذكي الذهن وأحده، وأمد الفكر وأثنيه، ~~وأنشره ثم أطويه، وأتصعد به إلى السماء، ثم أغوص به في جوف الدأماء، # 3 # فلا يجديني ولا قطرة ماء! # ثم إني لأرمي بالقلم وأتطاير عن مكتبي، وأنفر إلى حديقتي الصغيرة، فأتفقد أشجارها، ~~وأتوسم أزهارها، وأهرول من ها هنا ومن ها هنا، لعل خاطرا يعتريني فأصيب به ~~كلاما، فإن ظفرت بعد هذا بشيء، فظفر القابض على المزقة من الفيء. # 4 # ثم أعود فأستوي إلى مكتبي فأستندي ذهني فلا ms156 يندى، وأروضه على القول فلا ~~يطيع ولا يرضى، وأستبينه فلا يبين، وأستعطفه فلا يرق ولا يلين، ~~وأستمنحه فلا يمنح، وأستعطيه فلا يعطي ولا ينفح، وإني لأهز القلم هزة الكمي # 5 # ساعة يخرج للنزال، ~~ويبرز لقراع الأبطال، فإذا هو يتعايا في يدي ويتثاقل، وإذا هو يتراخى ويتزايل، وإذا ~~بي أراه قد تفلل من غير حرب، وتثلم من غير طعن ولا ضرب! # ويلي عليك وويلي منك يا هذا القلم! # هذا ميزان النهار قد اعتدل، وهذا البريد يتهيأ للسفر، فإن لم أرسل على ~~جناحه حديثي «للجهاد» فبأي وجه أطالع القراء من غدي؟ إذن فلأبعث بهذه الشكوى ~~العاجلة، لعل في معشر القارئين من يعذر الكاتب إذا ونى أو قصر، ويرثي له ~~إذا تعاصى عليه البيان وتعذر! # | في الجمال1 # لا أعرض لتعريف الجمال، لأنني عاجز عن تعريفه، وما الحاجة إلى ذلك وهو حاضر في ~~كل نفس، موصول بكل حس، يستشعره الإنسان، كما يستشعره الحيوان؟ # والجمال يتجلى في الإنسان، وفي الحيوان، وفي النبات، وفي الماء، وفي كواكب ~~السماء، وفي الجبل الأشم، وفي الصخر الأصم؛ بل إنه ليتجلى على متن الصحراء الموحشة، ~~ما تبض # 2 # من الماء بقطرة، ولا ~~تتفرج من النبات عن زهرة، فالجمال ماثل في كل خلق من خلق الله لو تفقده ~~المتأملون! # وفي كل شيء له آية # تدل على أنه الواحد # وإذا كان القدر قد جرى على أهل هذه الأرض بألوان المشاق والمتاعب، وأنواع ~~الرزايا والمصائب، فقد سوى الله الجمال في كل شيء ويسره لكل طالب، وهيأه لكل ~~حاسة؛ حتى إذا حزب # 3 # الناس ~~الأمر تفرجوا # 4 # بالجمال، ~~وإذا اعتراهم المكروه عاذوا به، فكان لهم خير العزاء، وكان لهم منه نعم ~~الجزاء. # هذه الشمس تصحو بسحرة # 5 # من رقادها، ~~وتتثاءب وتتمطى، وتأخذ زينتها لتطلع على الأرض، وهي لا تتبدى للأفق قبل أن ~~ترسل من أشعتها رسلا خفاقا يكشفون لها وجه الطريق، حتى إذا رأوا أن جيوش ~~الظلام تركب مناكبه، وتسد مسالكه، فتحيروا بينها ولم يجدوا لها مدفعا، ~~استنجدوا فأنجدتهم من أشعتها برسل، ويقوم النزال، ويستحر القتال، وكلما ~~قدم من ms157 ضوء النهار مدد انقبضت أجنحة الليل، وكلما أقبلت من جيوش الشمس ~~نجدة، انحازت بين يديها جيوش الظلام، حتى إذا هي شمرت ذيلها وولت، وكسي ~~أديم الأرض بذلك الضوء اللين الدقيق، بدا من الشمس حاجب لعلها تستوثق به من أمن ~~الطريق، ثم جعلت تتثاقل في مطلعها وتتجنى، وتتهادى في مشرقها وتتأنى، والطيور ~~تلاغيها بترجيعها وشدوها، والدواب تحييها بوثبها وعدوها، إلى أن تركب في فلكها، ~~وتستوي على عرش ملكها، ولا تزال عامة نهارها تصدر توقيعاتها في حياة هذا ~~العالم: فيا ضوء أنر للخلق سبلهم حتى يستطيعوا أن يسعوا في مناكب الأرض ~~ويأكلوا من رزق الله، ويا أرض أنضجي بذرك ليزكو زرعه، ويبسق؛ # 6 # فرعه، ويطيب للآكلين ثمره وينعه # 7 # ويا سحب جودي ~~بالأمطار، لتخصب الأودية وتحتفل بالعذب السائغ الأنهار. # ولا تزال في جهدها ونصبها حتى تعلو بها السن، فتترقرق صفرة الأصيل، في ~~ذلك الخد الأسيل، # 8 # ويبدل جلال الشيخوخة من ~~رونق الشباب، وتصرف نضرة اللجين بالعسجد المذاب، وماذا تراه يجدي ~~في نضارة السن أو يغني عن بضاضة الإهاب؟ # ثم تمشي متثاقلة إلى خدرها، لتتوارى عن العيون خلف سترها، وهي تعتمد من ~~شعاعها على عكازة، كأنها شيخة أجهدها طول السرى في مفازة، حتى إذا حاذت ~~الأفق، جعلت تتدلى وراءه رويدا رويدا، كأنها تتزود ليومها من العالم بآخر نظرة، ~~أو لتنفث من شعاعها المهزول ما أجنت على الصبا من لوعة وحسرة، حتى يغشاها ~~الذبول، ويدركها الأفول، مخلفة وراءها فلولا من جيشها الأحمر، ما تفتأ ~~تجتاحها جيوش الظلام، وكذلك الأيام دول وسبحان من تفرد بالدوام! ~~••• # وهذا القمر يبدو لك أول الشهر خيطا دقيقا، ثم يبدو لك في ثانيه كحاجب ~~الأشيب، ثم يستوي قوسا، والنجوم تحف به وتدلله، وتسهر عليه في سقمه ~~وتعلله، ولله در ابن المعتز إذ يشبه الهلال بقوله: # انظر إلى حسن هلال بدا # يهتك من أنواره الحندسا # 9 # كمنجل قد صيغ من فضة # يحصد من زهر الدجى نرجسا # وقوله: # أهلا بفطر قد أناف هلاله # الآن فاغد على المدام وبكر # وانظر إليه كزورق من فضة # قد أثقلته حمولة ms158 من عنبر # ولا يزال ينمو ويدرك حتى يستوي بدرا كاملا، والنجوم حافة من حوله منها ~~الثابت ومنها الرجراج، ومنها ما أثبتته الهيبة ومنها ما ألهبه الوجد فهو دائم ~~الاختلاج، وكيف لا تحتفل النجوم لابن الشمس وولي عهدها، وحارس ليلها وقائد ~~جندها في بعدها؟ # والقمر في أول مولده، وفي طفولته، وفي فتوته، وشباب سنه، وفي شيخوخته ~~وهرمه؛ رفيق النفس، رقيق الطبع، كريم الجوهر، حلو الشمائل؛ ما حضر إلا أهنأ ~~وهدى، وما غاب إلا أضل وأشقى؛ وما تألق إلا كسا الأرض بردا من لجين، إذا ~~أنكرته اليد فهيهات أن تنكره العين! ~~••• # وهذا الروض الأريض: لقد انسرح بانه، وفرعت # 10 # فروعه وبسقت أغصانه وزكت ~~أوراقه، ورف # 11 # بوحي النسيم ~~نبته وجلجل اصطفاقه، وأشرقت أنواره، وتطلعت من أكمامها أزهاره، ~~فعاجلها الندى، وانتثر من قطره بين طياتها مثل عيون الدبى، # 12 # والجداول من دونها تتعطف وتتمايل، والبلابل على أفنانها تتشادى وتتزاجل. # 13 # وهكذا، فإنك واجد الجمال في الكثير مما جلت الطبيعة، وفي الكثير مما جالت به ~~يد الإنسان. ~~••• # على أن الناس ليسوا على حظ سواء في الشعور بالجمال ومبلغ إصابة اللذة منه، كما أن ~~مظاهر الجمال المختلفة ليست عند الناس بدرجة سواء: فمن الناس من لا يروعه إلا منظر ~~البحر قد اشتد التجاجه، # 14 # وتدافعت أمواجه، ومنهم ~~من لا يبهره إلا الزهر قد اختلفت ألوانه، ورصعت به بانه، وسطعت ~~بالعبير أردانه، ولله در ابن المعتز حين يقول: # وعلى الأرض اخضرار # واحمرار واصفرار # فكأن الروض وشي # بالغت فيه التجار # نقشه آس ونسر # ين وورد وبهار # ومن الناس من لا تخلبه إلا الموسيقى، فهي تريه من آي الجمال بأذنه، ما لا ~~يستطيع أن يشهد بعينه، وهي تشفه حتى يحسب نفسه صفحة من الماء، وترقه ~~حتى يخالها قطعة من الهواء، وتخففه حتى يحلق في جو السماء، وما هو أن ~~حلقا صلصل أو أن وترا تنغم، ولكن نفسا صبت وقلبا ~~تكلم! ~~••• # ولقد قلت لك إن الناس ليسوا على حظ سواء في إدراك الجمال ومبلغ إصابة اللذة منه، ~~والواقع أنهم في هذا متفاوتون كل التفاوت ms159: فمنهم من يسمو فيه إلى حد الافتتان ~~والانبهار، ومنهم من يسف إلى حد جمود الحس وصمم الشعور، وبين هذين الحدين ~~مراتب بعضها فوق بعض. # هذا وليست نعمة الشعور بالجمال مقصورة على إصابة اللذة وتنعيم النفس، ~~واستراحتها من العناء، وتفرجها من ألوان الهموم؛ بل إن لها وراء ذلك أثرا ~~بعيدا في ترقيق الحس، وتهذيب النفس، والمطامنة من جماحها، ورياضتها على العطف ~~والرحمة وحب الخير، كما أن لها أثرا بعيدا في تهذيب المدارك، وتعويدها دقة ~~الملاحظة، وشدة التفطن لما يعيى على كثير من الناس. # وإدراك الجمال، مهما يجف الطبع، يمكن أن يكتسب بالتنبيه وترديد الملاحظة، ~~ولفت الشعور بإظهار الإعجاب والافتتان، حتى إذا أومض في نفس الناشئ برقه، ~~نبض له عرقه، فأقبل على التماسه، فإذا أصابه جعل يتأمله، ويجرد له ~~الحاسة التي تدركه، ولا يزال هذا دأبه ووكده حتى تستوي له ملكة إدراك ~~الجمال، وله منها بعد ذلك ما شاء الله من اللذة ومن تهذيب النفس أيضا. ~~••• # ولقد كان أكثرنا - نحن المصريين - إلى زمن قريب، لا يعنى بهذه الملكة ولا ~~يحتفل لها، بل إن بعضنا قد كان يعد تفقد كثير من مظاهر الجمال ضربا من ~~العبث، بل ضربا من الفتون. # وإن أنس لا أنس أنني من نحو خمس عشرة سنة كنت أساير بعض كبار الأعيان في ~~بعض الرياض؛ فلمح على عذار الطريق وردة كميتة، # 15 # فسرعان ما أهوى إليها بيده، فغطى رأسها ببعض راحته، وزر أصابعه على أصلها، وما ~~زال يشد عليها حتى فرق شملها، وجعل يحدثني وهو يعرك ورقها بيديه، حتى ~~إذا فراها وبراها ألقى بعظامها على جانب الطريق، ولا والله ما ألقى عليها في أثناء ~~هذا الصيال نظرة واحدة، حتى خيل إلي أن بين الرجل وبين هذه الوردة المسكينة ~~وترا قديما! # وأعرف رجلا من الأغنياء المتعلمين المترفين أيضا، ما خلت داره من سيارة ~~أو اثنتين أو ثلاث لحاجاته وحاجات أولاده، أفتدري كيف يقضي هذا الغني المتعلم ~~المترف كل أوقات فراغه؟ # صدقني إذا قلت لك إنه يقضيها في مقهى يحاذيه «موقف» مركبات يسطع ms160 في الجو ~~من رجيع خيلها ما يسطع، وهو جاثم على النرد (الطاولة) ما يريم ولا ~~يتحلحل، ولا يمل ولا يضجر، إن علمت قط أنه عدل بسيارته يوما ~~إلى الجزيرة ليمتع الطرف بجمال مناظرها، ويريح # 16 # الأنف بشذا أزاهرها، أو ~~أنه صعد إلى أصل الأهرام، ليجمع إلى الروعة بفخامة البناء، التمتع بطيب ~~الهواء! # ولست بالضرورة أسوق هذين مثلا لجميع المصريين، وعلى كل حال، فإن نهضتنا ~~الجليلة تناولت فيما تناولت فنون الجمال، فلقد وثبت الأمة لمعاضدتها، ~~وانبعثت الحكومة لمساعدتها، وتظاهرت الهمم من كل جانب على تربية الأذواق وإرهاف ~~المشاعر، فمن تشييد المعاهد للفنون الجميلة على اختلاف ألوانها، إلى إنشاء متاحف ~~جديدة، وزيادة العناية بالمتاحف القديمة، إلى الإكثار من إقامة المعارض لمفتن ~~الصور، وأخرى لمبتدع الزهر، يتبارى فيها المتبارون، ويتسابق إليها المتسابقون، ~~وسيكون لهذا كله أثره في تربية الأذواق، وفي تهذيب الأخلاق، فإن من البطر على فضل ~~الله ألا يقبل الناس على إمتاع النفوس بهذه النعمة العظيمة التي لا تكلف الناس ~~من المال أو الجهد - إن هي كلفتهم - إلا يسيرا! # | بنك مصر1 # لا أحاول في هذا المقال - وهيهات لي - أن أجلو عليك صورة كاملة لتلك ~~البنية العزيزة التي أقامها «بنك مصر» في شارع عماد الدين لتكون مثوى له، ~~ولما يرفده من الشركات في القاهرة، وكيف للغة بأن تتناول ما لم يجر على ~~مثال، ولا وقعت عليه العيون ولا تعلق به الخيال؟ # ولقد كنا نقرأ أقاصيص «ألف ليلة وليلة» وما افتنت فيه من الأخيلة في وصف ~~مجالس الملوك إنسهم وجنهم، وكنا نقرأ ما جاءت به السير من حديث قصر غمدان، ~~وإيوان كسرى أنوشروان، وما حوى الخورنق والسدير، وما أبدع الفاطميون في القصر ~~الكبير والقصر الصغير، كنا نقرأ هذا فلا نتمثل إلا ركاما من الذهب والفضة ~~واليواقيت واللآلئ وغيرها من ثمين الجوهر، ثم يقبل البناءون فيدوفون # 2 # هذا بهذا بعد أن يعالجوه ~~بالطيب والعنبر، وبالمسك الأذفر، # 3 # حتى إذا علكت # 4 # هذه الطينة، رفعوا منها قصرا ذا شرفات ~~وكوى ومقاصير وإيوانات وأبهاء! # هذا الذي تنفضه عليك أخيلة القصاص من ms161 صفة القصور الدائرة، في الأعصر ~~الغابرة، فإذا أنت انبعثت من النوم، وشخصت على قدميك، لا على جناحي خيالك، إلى ~~تلك البنية التي أقامها «بنك مصر»، فسرعان ما تتفقد نفسك، وتجس مواقع ~~حسك، لتعرف: أهببت من النوم أم عقد على جفنك المنام، وكان حقا ما ترى أم ~~كان حلما من الأحلام! # لم تقم في هذا البناء كله لبنة واحدة من الذهب ولا أخرى من الفضة، ولا ~~رصعت جدره بشيء من الدر ولا من اللؤلؤ، ولا ضمخت # 5 # حوائطه بالعنبر، ولا ~~تدلت من سقوفه معاليق الجوهر، على أنه يملأك من روعة وجمال، لم ~~تستشعرهما دهرك في حقيقة ولا خيال، إنما هو المال والعلم والذوق، ~~تظاهر ثلاثتها على إخراج هذا البدع كله، وما شاء الله كان! # دعك من ظاهر هذا البناء، فلقد تجد له في البنيات أشباها؛ على أنه أوفى على ~~الغاية من الفخامة والإحسان، وخذ بنا في جوفه، فهناك ينفغر الفم، ويتحير ~~النظر، ويتعلق النفس، ويزيغ اللب في هذه الفتنة. # يستقبلك من الباب مصراعان عظيمان طبعا من الصفر، قد جالت فيهما أمهر الأيدي ~~بأدق النقش وأحسن التزيين؛ فتراه كله قائما على أشكال هندسية بديعة مفرغة في ~~متن المصراع تفريغا، فإذا جزته وصرت إلى المدخل فرفعت النظر إلى حوائطه ~~كاد ينزلق عليها لشدة ملوستها انزلاقا؛ فقد كسيت بالمرمر الأملد من الصبح # 6 # واللؤلؤاني، تتمشى في صفحتها جداول دقيقة من ~~الخضرة؛ حتى إنها لتمثل لك عروسا صقلت عارضها حتى تم إشراقه؛ وشف ~~جلده فبانت من دونه أعراقه. # وتجد بين يديك سلما أي سلم! لقد اقتلعه «بنك مصر» صخرا من ~~جبال أسوان من ذلك «الجرانيت» الأحمر الصلب الذي تراه في تماثيل قدماء المصريين، ~~ثم بعث به إلى ألمانيا فنحت وسوي درجا عظيما مؤطرا بأبدع ~~النقوش. # فإذا أنت ارتفعت على هذا السلم حتى غايته، فأنت في بهو عظيم يترامى فيه ~~النظر، فيكون أول ما ينطق به اللسان: ما شاء الله كان! وأول ما يجول به الخاطر ~~الندامة على أن ليس لك في كل جارحة عين، ففي كل شبر ms162 بدع، وفي كل فتر إحسان! ~~وهيهات أن تحط بصرك على موضع في سقف هذا البهو، أو في أرضه أو في جدره أو ~~عمده وكل ما قام فيه، فهان عليك أن تحوله عنه من جمال ومن إبداع! # وقد سقفت حواشي البهو الأربع بسقوف تعتمد على جدره من جهة، وعلى عمد ~~من المرمر الأصفر مربعة من الجهة الأخرى، وأما بهرته # 7 # فقد ارتفع ~~سقفها إلى مدى الطبق الثاني، وهذا السقف كله مؤلف من قطع مربعة من ~~البلور افتنت فيها أيدي الصناع بمختلف الأشكال في مختلف الألوان، فخرج من ~~هذا الاختلاف، أحسن الاتساق وأحكم الائتلاف، فإذا رفعت النظر إليها ~~خيل إليك أنك في يوم عرس تبارت فيه الكواعب الحسان، من كل مكحولة ~~العين وكل مخضوبة البنان. # وإن كنت قد غشيت دار الآثار العربية فاقتطفت نظرة من تلك القناديل ~~الزجاجية التي خلفها الفن الفاطمي، فإنك ولا شك ستتخيل أن هذه القناديل قد ~~صيغت من الجوهر قرطا، وأرسلت في هذا السقف حلية ونظمت فيه ~~سمطا. # وأما تلك السقوف التي قامت على حواشي البهو، فقد قسموها مربعات أيضا، بحيث ~~يتناهى عرض كل مربع إلى مدى ما بين العمودين، وأجروها كلها على الطراز ~~العربي، فحدث ما شئت بلسان الذوق الجديد عن جمال الفن القديم، فبعد أن ~~أبدعت الصناع في حفرها وتكريشها طوعا للأشكال الهندسية المقسومة لها، ~~عادت عليها تكفتها بالفضة، وتموهها بالذهب، وتشجرها بأزهى الألوان، ~~من أخضر ناضر وأصفر فاقع وأحمر قان. # والعجب أن لكل رقعة من رقاع تلك السقوف رسما خاصا، تجري فيه ألوان خاصة، ~~في أشكال خاصة، وكلها مع هذا عربي، لا تدري أيها أجمل وأحسن، وأيها أبدع ~~وأفتن، فلا يسعك أن تنصرف عنها إلا وأنت تردد قول شوقي: # حمراء أو صفراء إن كريمها # كالغيد كل مليحة بمذاق # وقد فصل بين حواشي البهو وبين بهرته بحجاز قائم على مسامته تلك العمد ~~يرتفع إلى نصف القامة، ليقوم عمال المصرف من خلفه على قضاء حاجات الناس دون ~~أن يداخلوهم، وهذا الحجاز كله قد اتخذوه من المرمر الأبيض، نحت ms163 على صورة ~~أنصاف دوائر بارزة متجاورة، تقوم أطرافها على سوق من المرمر الأسود، وقد بسطت ~~عليها مناضد صفيقة من المرمر الأصفر، مدت في داخل حواشي البهو مهادا لأسباب ~~عمال المصرف، ومتكأ لأذرعة المتمثلين إليهم من الناس. # ومن فوق هذا السقف طبق آخر، له ما للأول من دقة فن وروعة جمال، وهو يشرف على ~~بهرة الإيوان من أقطارها الأربعة، وترى من فوق كل عمود من تلك العمد المربعة ~~التي حدثتك عنها عمودا أسطوانيا قد أحسنت يد النحات في قاعدته ~~وهامته أيما إحسان، وافتنت في نقشها أيما افتنان. # أما أرض الإيوان فإذا لم يحدثك أحد أنها من الرخام، فقد خلتها فرشت ~~بجلود الصلال، # 8 # أو بالوشي ~~الصنعاني نمنم بمثل أكارع النمال، أو أنها لوح كفت بالذهب، أو كأس ~~علاها الحبب! # 9 # وقد انتهى إلي أنهم جاءوا لها بقطع الرخام من إيطاليا وألمانيا وأمريكا، حتى ~~يتم لهم ما قدروا لها من جمال يتحير فيه الطرف، وبدع يعز على كل ~~وصف. # وهناك غرف ومقاصير، وهناك دهاليز وسلاليم، وهناك فرش ممهودة، وأرائك ممدودة، ~~وتريات منضودة، وهناك طرف وتحف، وأشياء وأشياء إذا وعتها الأفهام، فهيهات ~~أن تتعلق بوصفها الأقلام. # والعجيب أنك واجد في كل رقعة لونا من الحسن يخالف ما تجد في أختها، ونوعا من ~~الفن غير ما ترى في التي تليها؛ على أنك واجد بينها كلها أوثق الاتصال ~~وأحكم الاتساق، وكذلك شاءت عبقرية الفنان العظيم الأستاذ أنطوان لاشاك بك # 10 # أن تلحن في هذه البنية ~~دورا موسيقيا بارعا، مهما يتنوع في ضروبه ويتلون في أنغامه، ~~فكلها مؤتلف في قراره متسق في مقامه! ~~••• # هذا ما واتاني به القلم في مدخل هذا البناء الجديد وبهوه العظيم، أما باقي ~~تفصيلاته، ووصف سائر طبقاته، فإني أدع هذا لغيري، فقد جهد بي وجف في يدي ~~القلم. # الباب الثالث # | في التراجم والتعزيات والمراثي # | رشدي باشا1 # لست أحاول في مثل هذه العجالة أن أجلو على القارئ الكريم صورة كاملة لرشدي باشا، ~~أو أن أترجم له ترجمة وافية تكافئ عظمته العظيمة، فإن من فتنة الدعوى أن ms164 ~~تظن أن مثل حسين رشدي كله يجتمع في مقالة أو في مقالات، إنما هو من أولئك ~~الأفذاذ المعدودين - إن لم يكن في العالم كله ففي الشرق على الأقل - فما أخلق ~~رشدي بأن يتجرد لبحثه وتحقيق عبقريته نفر من علماء النفس والتاريخ، وإذن ~~لخرجوا منه كل يوم بعظيم. # سأتحدث في هذا المقال عن رشدي لا حديث باحث محلل يرد غرائزه القوية إلى ~~مناجمها من قضايا علم النفس، ويصل كل ناحية من نواحيه بأترابها في عظماء الناس، ~~ولكنني أروي عنه حوادث متفرقة شهدتها كلها بنفسي أو ترويتها عن ~~الثقات الذين لا يترقرق الشك حول خبرهم، ولربما عرضت لبعضها بشيء من ~~التحليل ، على أنني في ذاك أتحرى أن أجمع كل حادثة إلى أختها، وأضم كل واقعة إلى ~~ما يشابهها، حتى يمكن أن يتسق من هذه الأمشاج هيكل لرشدي باشا إذا كان ~~ضئيلا فهو صادق على كل حال. # نشأته # رشدي باشا، على أنه نشأ في الحسب، لأنه ابن محمود باشا ابن دبوس ~~أوغلي، أو طبوز زاده الكبير، إلا أنه لم ينجم في الغنى، ولم ~~يتقلب في صدر شبابه في النعمة التي يتقلب فيها من تسلسلوا من مثل ~~بيته، ولقد شخصت إليه يوما مع المرحوم والدي لزيارته وهو رئيس وزارة، ~~فجعل يتحدث بنعمة الله عليه، وكان مما قال: إنه كان طالبا في باريس فمات ~~والده المرحوم محمود باشا دبوس أوغلي، وإذا كل ما تركه لبنيه الخمسة (ثلاثة ~~أولاد وبنتين) ستمائة «بنتو» خرج حسين منها بمائة وخمسين كانت هي كل ~~مادته لطلب العلم وللعيش الجاهد في باريس، فانظر كيف عانى هذا الشاب في صدر ~~العمر، وكيف كافح الشهوة والأيام ليعيش في باريس بمائة وخمسين «بنتو» لا ~~يرفدها إلا نصيب كمصة الوشل # 2 # في وقف دبوس أوغلي الكبير، ويصبر على هذا العيش ويروض النفس ~~له في طمأنينة ورضا، حتى يظفر «بالدكتوراه» ويسبق في الامتحان لداته ~~جميعا! # ولقد كان رشدي باشا لعوبا طروبا، فكان يمضي عامه الأطول في لهو ~~الشباب وفي عبث الشباب، قل أن يحتجز # 3 # لمذاكرة الدروس ومراجعة ms165 الأساتيذ، حتى إذا كان بينه وبين أوان ~~الامتحان شهران، مضى إلى الحلاق فسأله أن يحلق رأسه كله بالموسى لكيلا ~~يجرؤ على أن يتدلى بعدها في الشوارع أو يغشى الملاهي العامة، وانقبض هذين ~~الشهرين في غرفته مكبا على الدرس جاهدا فيه، حتى إذا تمثل إلى ~~ممتحنيه لم يقنع بأن يكون طالبا ناجحا فحسب، بل لقد تعمد مطاولتهم ~~والولوغ بالتفنيد في قضاياهم، وانتهى بهم أو انتهوا به إلى الحكم بأن هذا ~~التلميذ غير ما خبروا من التلاميذ، وأن هذا الذكاء غير ما عرفوا من ~~الذكاء! # فقد خرج لنا من هذا أن رشدي من يوم تدلى إلى الدنيا تدلى إليها ~~بخلتين لا يد فيهما لتعليم ولا تدريب، إنما هما من صنعة الله الذي يقول ~~للشيء: كن فيكون، وهما: العزم الجبار، والذكاء العجيب! # ذكاؤه وفطنته # لقد كان هذا الرجل إلى يوم قبض إلى رضوان الله متسعر الذهن، ~~ملتهب الذكاء، ولعله كان أذكى من نبهوا من المصريين جميعا، وكان حاد ~~الفطنة مرهف الحس، ولقد كنت تطرح عليه القضية تحتاج إلى تسريح النظر وإجالة ~~الفكر، وترتيب مقدمات القياس بحيث تتمكن كل واحدة منها في موضعها المقسوم حتى ~~يتهيأ تحلب النتيجة المنطقية، وكل هذا يحتاج إلى جهد، وكل هذا يحتاج ~~إلى بسطة في الزمن ومطاولة في التفكير والتدبير، ولكن رشدي كان ينحط بك إلى ~~النتيجة الصحيحة السليمة قبل أن تتم لفظك وتفرغ من قولك. # ولقد مضيت يوما أتفرج في «الجمعية التشريعية» وكان رشدي على ما أذكر ~~وزيرا للحقانية، وطرح على الجمعية مشروع قانون وضعته الحكومة لردم ~~البرك، وكان الكلام في جزاء من يتخلف من الأهلين عن ردم بركة تدخل في ~~ملكه، وفي أن الحكومة في هذه الحال تردمها بالقوة عنه، وترجع بوجوه ~~النفقات عليه؛ فانبعث المرحوم عبد اللطيف المكباتي بك وقال: فإذا كان للحكومة ~~بركة فتعذرت على ردمها فحينئذ يحق للأهلين أيضا، فلم يدعه رشدي ~~يتم تشريعه، بل لقد وثب من مجلسه وثبة عنيفة، وصاح ملء لهاته: هذه ~~ثورة! ... فانتفض المجلس كله انتفاضة عنيفة واحتج على الوزير ms166، واقتضاه أن «يسحب» ~~هذه الكلمة، كلمة: الثورة «فسحبها» وهو - ولا ريب - يعلم أن قوله الحق، وأن ~~القوم لم يلحقوه، أو أدركوه، ولكن لم يريدوا أن يسجل على جمعيتهم أنها ~~تطلب الثورة، «فسحبها!»، ولست أشك في أنه فعل مصانعة لسكينة القوم، وإلا فأية ~~ثورة أشنع وأخبث من أن الحكومة إذا ونت في عمل من أعمالها نفذ الأهلون ~~ذلك بالقوة عليها، ورجعوا عليها بما بذلوا في ذلك من النفقات؟! # الواقع أن رشدي باشا كان رجلا حديد الفطنة، فلم تكن فطنته بأية حاجة إلى ~~أن تتسكع على مقدمات القياس فتجس كلا منها، حتى إذا استوثقت من سلامته ~~أقرته في موضعه، ثم خلصت بعد كل هذا إلى النتيجة فاستخرجتها في ~~هوادة ومطمئن أناة، بل لقد كان يمر بذهنه على هذا كله مر البرق ~~الخاطف، فيقبض على النتيجة الصحيحة في أسرع من رد الطرف، إذ أنت تحسبه ~~يذكو ذكاء القرود، لا يلمح في طريقه أو لا يعني في طريقه إلى النتيجة، ~~بوجوه الأسباب والعلل، في حين قد لمحها جميعا وعني بها جميعا، وبلغ ~~المدى بذلك الذهن «الإكسبريس» الذي لا يقف على صغار المحطات، على أنه حتما ~~يجوز بها في سبيله جميعا! # ولعل حدة الذهن هذه، ولعل صولة العقل هذه في حسين رشدي قد حطت من شأنه عند ~~كثير من أولئك الذين لم تهبهم الطبيعة ما وهبته، فكانوا أعجز عن أن ~~يطيروا في الفهم مطاره، إذ هو بعد رجل عصبي جائش سريع لماع الذهن، ~~تقاوله في الأمر فيقذفك بحجته على نحو ما يصل هو، ويدعك لذهنك المطمئن ~~المعتاد، فلا يسعك، وأنت بعض معذور، إلا أن تظن بالرجل عبثا، هذا إذا لم تكن ~~رزين الذهن فتحسب أن الرجل قد خرف واهتر! # 4 # عبقريته # لقد كان رشدي باشا عبقريا بقدر ما يمكن أن تأذن به هذه الكلمة، ولقد سلف ~~عليك أنه كان في صدر أيامه شابا لعوبا يعطي شبابه مدى أشره، فلم يكن كل ما ~~تهيأ لرشدي من العلم الفحل في القانون، بمختلف فنونه، ابن التعليم ولا طول ~~المراجعة ms167 وحفظ القضايا المرسومة، إنما كان ابن الاستعداد، ابن العبقرية، وفي ~~النهاية ابن تلك اللطيفة الروحانية التي يهبها الله المتخيرين من ~~عباده، فندركها فيهم لا نملك لها تعليلا، ولا نستطيع لسببها تأويلا، كان ~~رشدي في هذا البلد ملك القانون غير مدافع، سلم له بهذا سعد، وهو ~~من تعرف شدة عقل، وكفاية لا يترامى إليها حد، وسلم له بها ~~عدلي، وعدلي إذا ذكر أحضرك المثل الأعلى لسلامة الفهم والبصر بالأمور، ~~والرأي النصيح تتقطع من دونه جهود التفكير، وسلم له بهذا ثروت، وإذا قلت ~~ثروت قلت كل بليغ في الفضل وكل عظيم، وسلم له بها من يلي هؤلاء علما ~~وبصيرة وجلالة محل وشدة خطر، إذ رشدي في الحق لم يقرأ أكثر مما قرأ غيره، ولم ~~يتوفر أبلغ من سواه على الدرس والتحصيل، وما شاء الله كان! # ولقد أذكر أنه في إحدى جلسات لجنة الدستور، وكنت من سكرتيريها، اقترح ~~أحد الأعضاء مبدأ دستوريا لا يحضرني موضوعه الآن، فصده رشدي في عنف، ~~وقال: إن هذا مبدأ غير مستقيم، ولا يمكن أن يؤذن به في قواعد دستور، فقال ~~ذلك العضو، وهو من الأذكياء المتفقهين: ولكنه قد أخذ به في دستور كذا، ~~وسمى دولة لعلها من تلك الدولات التي انصدعت عن روسيا ووضعت ~~دساتيرها بعد إذ ضرب الفالج رشدي وصرفه عن درس القوانين، فأكد ~~رشدي أنه، وإن لم ير ذلك الدستور، يقرر أن ما زعمه العضو لا يمكن أن ~~يكون! وتحاجا ساعة، ثم انتهيا إلى أن يأتي العضو من غده بنسخة ذلك ~~الدستور، ولكنه في اليوم الثاني إنما جاء معتذرا بأنه بعد إذ راجع المادة ~~أدرك أن العجلة زلت به أول الأمر عن تفهم الكلام، وهكذا كان مخ ~~رشدي نيرا سليما مطبوعا على القانون وللقانون، صادق الحكم فيما قرأ وما ~~لم يقرأ من أحكامه ومبادئه. # قوة حجته # كان رشدي باشا من أشد خلق الله حجة وأمضاهم قولا، يحكم له بهذا كل ~~من أوتي فطنة يلمح بها ما يتراءى لذهنه أثناء التدليل من فنون الأسباب ~~والعلل، على أنه ms168 قد اجتمع عليه إلى تلك الحالة «العصبية» ضعف المادة في لغة ~~العرب، فلم يكن لبيانه إذا تكلم بهذه اللغة أو كتب من الوضوح ما يتوافى لجلالة ~~معانيه، ويواتي براعة تدليله، ولكنه برغم هذا كان إذا كتب ارتفعت قوة ~~معانيه بعباراته العربية، حتى يجيء منها أحيانا بالرائع الجزل الذي لا ~~يتهيأ لمن له مثل حظه القليل من لغة العرب والتفقه في أدبها. # وإني لأذكر أنه اختلف يوما مع بعض المصطفين الأعلام من أعضاء لجنة ~~الدستور على مسألة، لا محل لإيرادها الآن، فذهب إلى رأي أزعجهم، ~~وبعثهم بالإنكار والاحتجاج، وكلما سألهم أن يصبروا حتى يدلي ~~إليهم بحجته، صاحوا في وجهه، ودافعوه بغليظ الكلام، وأخيرا وثب من مجلسه، ~~وأهاب بهم بأعلى ما اتسعت له لهاته: «يا حضرات السادة: استمعوا لي حتى ~~أفرغ من حجتي، ثم فندوها بكل ما عندكم من حجة ودليل» ثم اطمأن ~~قليلا، وعاد فقال في رفق ولين وإلقاء: «ولكنكم لن تستطيعوا!» فسكت القوم ~~وتكلم رشدي ثم تكلم، فما هو والله إلا أن راح يلعب بالألباب لعبا، ~~وما هو إلا أن راح يستعرض كل أدلتهم وما حصلوا من حجج، فيشد ~~وثاقها، ثم يلقيها بين يديه واحدة بعد واحدة، والقوم ذاهلون عن مصيرهم ~~بما تداخلهم من العجب ومن الطرب، حتى إذا ذابت آيتهم تحت لسانه كما يذوب ~~الثلج في اليوم القائظ، أقبل على معارضيه في تؤدة واطمئنان، وقال لهم: إذن ~~فتكلموا، فما هي إلا رءوس منغضة وأفواه مفغورة، ثم تصفيق يرتفع إلى السماء ~~من إعجاب ومن افتتان! # ولقد حدثت أحداث الإسكندرية في مايو سنة 1921 ورشدي مع عدلي في لندن يفاوضان ~~كيرزن في المسألة المصرية، وكانت السلطة العسكرية قد ملكت الأمر كله عن ~~الحكومة المصرية، وتولت هي التحقيق بقوة الأحكام العرفية التي كانت مبسوطة ~~يومئذ على البلاد، فلما انتهت المفاوضات إلى الكلام في حماية الأجانب، ~~وعارض المفاوضون المصريون في أن يكون هذا إلى إنجلترا، دفع اللورد كيرزن ~~إليهم بتحقيق السلطة العسكرية في حوادث الإسكندرية، وما دمغ المصريين ظلما ~~بألوان الوحشية، وما أضاف إليهم ms169 من أمور تقشعر منها الجلود، فتناول ~~رشدي باشا هذا التحقيق ويداه صفر من كل شيء، لأن التحقيق - كما قلت لك - ~~استقلت به السلطة العسكرية، فأبت على رشدي عزيمته، وأبت عليه ~~وطنيته، وأبت عليه عبقريته إلا أن يكب ليلته كلها على هذا ~~التحقيق، والله يعلم ماذا بذل من مخه، والله يعلم ماذا هراق من ذكائه، ~~حتى اتسق له في الصباح تقرير يعصف بهذا التحقيق عصفا، ويشهده على نفسه ~~بالبطل، وشدة الحمل على المصريين، ثم مضى به إلى لود كيرزن فألقاه ~~إليه، وما إن قرأه حتى سأل أن يتقاص الطرفان، وكذلك أخلت حوادث ~~الإسكندرية الطريق! # نعم، لا يعرف أحد ما بذل رشدي ليلتئذ من عزم وذكاء، ليدفع عن وطنه ~~كل هذا البلاء، ولكن كثيرين يعلمون أنه بذل الصحة، أو على الصحيح بذل ~~الحياة، لأنه لم يدر عليه يوم أو يومان حتى ضربه الفالج فأبطله ~~حينا، ثم أتى في النهاية على حياته العزيزة الغالية. # شجاعته # ولقد كان رشدي رجلا شجاعا كل الشجاع، يجهر بكل ما يعتقد، واقعا ~~كلامه حيث وقع، لا يبالي في ذاك شيئا ولا يبالي فيه أحدا؛ وإن امرءا كرشدي ~~قوي العزم، عظيم النزاهة، وافر الإخلاص، شديد التمكن من النفس؛ لا يجد أية ~~حاجة لأن يرائي الناس أو يماريهم ويتحرف لهم، بل هو كل حقيق بأن يعد ~~كتفه لاحتمال كل ما يحمله سعيه من التبعات. # ولست أريد أن أعرض لشأنه في أعقاب سنة 1914، فذلك - كما أشار رئيس مجلس ~~النواب ووكيل مجلس الشيوخ في تأبينه - من حق المستقبل يحكم فيه بعد أن يطالع ~~ما طاف به من الظروف، وما اتكأ عليه من الأسانيد، إلا أنني في هذا الباب لا ~~أنسى أن رشدي كان شجاعا في احتمال تبعة ما وقع على يديه، وكان له بالطبع ~~رأي فيه إن خيرا وإن شرا، وهو على أنه - كما علمت - قد راجع الكثيرين ~~من أصدقائه في الأمر فأقروه وأجازوه، إلا أن شجاعته أبت عليه في معرض ~~الجدال أن يشرك معه في تبعة الأمر أحدا، بل لقد مضى ms170 بها وحده، محتسبا ~~إنصافه عند التاريخ وحده. # لقد تعلم أنه سير سفينة الحكم طوال مدة الحرب، ولقد تعلم ما ~~حاق بمصر أيام الحرب من هول وشدة، ولقد تعلم ما كان للسلطة العسكرية من ~~صولة وقوة، وغدا ستعلم ما كان لرشدي باشا من مواقف يكف بها العاديات عن ~~المصريين لا يقفها إلا الرجل الشجاع. # وجاءت الهدنة العامة، وأعد الجبار «السربرونيات» عدته لالتهام مصر، ~~وأخرج مشروعه الذي يسل به الحكم من أيدي المصريين سلا، وخاف الناس ~~وانقبضوا في أكسار دورهم من خوف ورهبة، وبرز له رشدي بتقريره الوطني الخالد ~~على وجه الدهر، وسرعان ما كسره به تكسيرا، وكان ذلك أول أذان بالفورة ~~المصرية، حتى إذا تعذر عليه الإنجليز ودلوا بقوتهم؛ أضرب - وهو ~~رئيس الوزارة - عن الحكم أشهرا، فكان صنيعه حدوة للموظفين فأضربوا ~~جميعا، وكان إضرابهم أبلغ مظهر للنهضة المصرية، ولقد سمعت منه، رحمه ~~الله، أن الحبال قد فتلت لرقبته مرتين، فما أبه ولا بالى في سبيل وطنه، ~~وكذلك يكون الرجل الندب الشجاع. # ومما يذكر له في هذا الباب أنه كان في مفاوضات سنة 1921، وجرى الكلام في ~~الاحتلال الإنجليزية، وأصر المفاوضون المصريون على طلب الجلاء، فقال لهم ~~اللورد كرزن في شيء من التهكم: وإذا سحبنا عسكرنا من بلادكم، ألا يجوز أن ~~تحتلها اليونان في اليوم الثاني؟! فانتفض رشدي انتفاضة شديدة، وأجابه من ~~فوره: لا تنس يا لورد أن أسلافك حين حاولوا غزو مصر ألقاهم هؤلاء ~~المصريون في البحر، وكان ذلك بقيادة جدي أنا! (يريد رحمه الله موقعة رشيد)، ~~فوجم اللورد كرزن ووجم الحاضرون جميعا، وبعد سكوت طويل أو قصير صرف ~~اللورد الحديث إلى شأن آخر! # نزاهته # تقلب رشدي في مناصب الحكم حتى صارت إليه رياسة الوزارة، وحتى طرح ~~القدر بين يديه يوما أمر مصر كلها، وكان طوال زمن الحرب كل شيء، ~~في الجهة المصرية على الأقل؛ فما التمس قط لنفسه ولا لأحد ممن يلوذون به ~~مغنما من أي نوع كان، وعزيز علي أن أنوه بشرف رشدي وأن أشيد ~~بنبل نفسه، فإن مثله لأجل ms171 من أن تلحق ذمته التهم، ولقد ~~وافقته مرة في مكتب المرحوم أحمد الأزهري بك من كبار موظفي مصلحة الأملاك، ~~وهو يسأله في تأجيل دين عليه للمصلحة، ذهب عني قدره بالضبط، على أنه على ~~كل حال يضطرب بين الستمائة جنيه والثمانمائة، ثم التفت إلى بعض ~~الحاضرين وقال في مرارة أردفها بضحكة مصنوعة: يقولون إني بعت مصر ~~بثلاثة ملايين، فهلا دفعوا منها لمصلحة الأملاك هذا المبلغ وأخذوا لأنفسهم ~~الباقي؟ # عطفه وبره # كان رشدي نبيل الإحساس، بالغا من طيبة القلب مبلغا لا يكاد يلحقه فيه ~~إنسان، فما أصاب عانيا أو مدنفا أو امرأ تغير له الزمن إلا أحس ~~بأنه هو المسئول عما ضربته به الأيام، وكثيرا ما تتضح عينا هذا ~~الرجل الشجاع بالدمع إذا رأى مكلوما في جسمه، أو ممتحنا في أسباب حياته، ~~أما ماله وأما جاهه العريض فذلك كله نهب مقسم بين العافين من الناس، ولو ~~كان رشدي باشا يملك كل ما في الدنيا من مال لخرج عنه لطالبيه في سماحة ~~وارتياح، ولقد تقسم وقته في أخريات سنيه، بين أن يفرق على الناس ~~كل ما احتوته محفظته، وبين أن يطوف بهم الدواوين يشفع لهم في قضاء ~~الحاجات، ولقد أسرف في هذا حتى ابتذلت شفاعته أو كادت تبتذل عند ~~الحكام لشدة إفراطه في الرجاء، على جلالة محله لديهم، وسمو قدره ~~عندهم، وحتى خرج من الدنيا صفرا إلا من الشرف، وإلا من أعلى الذكرى لأعلى ~~الرجال. ~~••• # وبعد، فلقد خسرت مصر - من غير شك - بموت رشدي باشا مجموعة من المواهب ~~جليلة غالية، وإذا كانت الأيام تنجب لنا رجلا في علمه، أو في عبقريته، أو ~~في شجاعته، أو في وطنيته، أو في طيبة قلبه، أو في نبل أخلاقه، أو في كرم ~~يده؛ فهيهات أن تنجب رجلا جمع معا كل هذه الخلال كما جمعها فقيدنا ~~العظيم، وإن لم يكن ذلك على الله بعسير. # | الشيخ علي يوسف1 # في يوم 25 أكتوبر من سنة 1913 والقلوب واجفة، والأبصار زائغة، ومصاير الأمور ~~تتواثب للأوهام في صور مبهمة غامضة، تضطرب بين اليأس كله ms172 وبين الرجاء كله، ~~والناس يتساءلون متهامسين من الخوف ومن الورع: ترى ماذا عسى أن يكون قسم مصر ~~من هذه الحرب العامة، وماذا كتبت لها الأقدار، في صفحتي الليل والنهار؟ # في ذلك اليوم من تلك الأيام السود، مات رجل ليس كمثله في مصر كثير، رجل إذا ~~أحبه ناس أشد الحب، فلأنه قوة كبيرة في مصر، وإذا كرهه ناس أشد ~~الكره، فلأنه قوة كبيرة في مصر، فالشيخ علي يوسف، على تفرق الأهواء فيه، كان ~~قوة هائلة في هذه البلاد يحسب الناس جميعا لها كل حساب. # ولقد كنت من الذين أبغضوا الشيخ عليا أبعد البغض، ثم كنت من الذين ~~يحبونه أغلى الحب، ولا والله ما رأيته في حالي بغضي وحبي له إلا رجلا ~~عظيما! # مات الشيخ علي يوسف في ذلك اليوم، فما قامت الدنيا لموته كما كان ينبغي أن ~~تقوم، ولا قعدت الدنيا لموته كما كان ينبغي أن تقعد، بل لقد شيع ودفن ~~كما يشيع ويدفن أوساط الناس، وكأن الناس لم يشيعوا فيه مفخرة من مفاخر ~~مصر، ولا أودعوا الضريح كنزا من كنوزها الثمان! # لا أقول إنه الإهمال السيئ، ولكن أقول إنه الظرف السيئ، ولا أريد المزيد، والآن ~~تسأل الشباب المثقفين المتعلمين عن الشيخ علي يوسف، وكيف كان خطبه في البلاد من ~~إحدى وعشرين سنة فقط، فترى أقلهم من لا يعرف عنه كثيرا، وترى أكثرهم من لا ~~يعرف عنه كثيرا ولا قليلا! # أهكذا، وبهذه السرعة السريعة، تختفي سير الرجال عندنا كما تختفي الصور إذا ~~ساد الظلام، أو كما تختفي أشباح الرؤى ساعة الهبوب من المنام؟ # وإنني لأضيف الوزر في هذا أيضا على الظروف، والحمد لله الذي جعل لنا من هذه ~~«الظروف» تكأة نعتمد عليها كلما غشيتنا غاشية من الإهمال، أو طاف بنا طائف ~~من سيئ الأعمال! ~~••• # ولقد قلد الشيخ علي منصب مشيخة السجادة الوفائية، فاستحق بهذا أن يسمى ~~السيد عليا، وقلده الخليفة العثماني الرتبة الأولى من الصنف الثاني، ~~فاستحق بذاك أن يدعى علي بك أو علي باشا يوسف؛ ولكنني لا أعبر عنه إلا ms173 بالشيخ ~~علي يوسف، هذا الاسم الذي طالما رن في الآذان، وتجاوبت به الأصداء من كل ~~مكان: الشيخ علي يوسف! الشيخ علي يوسف! وحسبه بهذا لقبا، بعد ما اعتز بنفسه ~~حسبا، وكرم بالرسول الأعظم نسبا. # كان الشيخ علي يوسف رجلا عصاميا بأوفى معاني الكلمة، نجم في «بلصفورة» من بلاد ~~مديرية جرجا، في أسرة إذا كرم أصلها فقد رقت حالها؛ ولا تنس أن المال ~~هو كل شيء في هذا الزمان، وتعلم القراءة والكتابة في كتاب القرية، وحفظ ~~القرآن الكريم، ثم انحدر إلى بني عدي من أعمال مديرية أسيوط، فطلب العلم ~~هناك على الشيخ حسن الهواري، ثم قدم الأزهر فطلب العلم فيه بضع سنين. # وإلى هنا كانت حياة الشيخ علي حياة عادية بحتة، فلم يزد خطبه على ~~مجاور مغمور في ذلك الخضرم الزاخر بآلاف المجاورين. # وتستشرف نفس الفتى للأدب، والأدب في ذلك الوقت أن تقول شعرا مقفى ~~موزونا، فإذا أعوزك العروض، وعميت عليك أوزان الشعر، فحسبك أن يكون ~~المصراع في طول المصراع، فإن زاد الكلم ففي تصغير الكتابة وتدقيق الحروف ~~متسع للجميع، وعلى شرط أن تتغزل فتتغزل كلما طلبت مديحا، ~~وتتغزل كلما أردت رثاء، وتتغزل كلما ابتغيت هجاء، وكانت هذه - وخاصة ~~في البيئة الأزهرية - أهم فنون الشعر، إن لم تكن جميع فنون الشعر! # وعلى هذا قرض الشعر المجاور علي يوسف، فذهب له بين المجاورين صيت ~~وذكر. # ولقد كان الأدب يحمد من المجاور عند أشياخه، إلا أن يسرف فيه، ويجرد له ~~صدرا كبيرا من وقته، فإنهم كانوا يكرهون ذلك منه، لأنه في الواقع يشغله ~~بقدر ما، عن توفير الذهن على الدرس والاستذكار، ويرون هذا منه آية على «عدم ~~الفتوح» والعياذ بالله! وحسبه في العام قصيدة يمدح بها شيخه يوم يختم ~~الكتاب، وقصيدة أو اثنتان يرثي بهما من يموت من علية العلماء. # وأسرف الشيخ علي في قرض الشعر، فمدح ورثى، وتغزل «بالطبع» وهجا، حتى اتسق ~~له من هذا النظم ما جمعه بعد في ديوان كامل، وبهذا أصبح مجاورا ممتازا ~~وإن حق عليه القول، وتراءى له ms174 شبح الهول! # إذن أصبح الشيخ مجاورا ممتازا بين المجاورين بالأدب، أو إن شئت قلت: ~~لقد أدركته من الناحية الأزهرية حرفة الأدب. # ولقد دعاه هذا إلى الاختلاف إلى مجالس الأدباء، ومساهرتهم ومسامرتهم والتروي ~~عنهم، ثم إلى غشيان دور بعض العلية ممن كانوا يجلسون لأهل العلم والفضل والأدب، ~~فيتحاضرون ويتذاكرون، وأقبل الشيخ على هذا الشأن بقدر ما أدبر عن الكد في ~~دروس الأزهر، ثم جعل يرسل المقالات المنثورة في الصحف والمجلات التي كانت قائمة ~~في ذلك الوقت، وكان يكتب أول الأمر على طراز الكاتبين في عصره: مقدمات طويلة ~~تمهد بين يدي كل موضوع ولو لم تدع إليها حاجة الكلام، واحتفال للمحسنات ~~البديعية تستكره استكراها، ولو استهلكت الغرض المطلوب! # على أن من حسن حظ الشيخ علي أنه ابتدأ في معالجة الكتابة في الوقت الذي انبعثت ~~فيه تلك النهضة البيانية الفاخرة، تلك النهضة التي نفخ في ضرامها بالإرشاد والتنبيه ~~السيد جمال الدين الأفغاني، وبالفعل من الإنشاء والتعليم والتأليف الشيخ حسين ~~المرصفي، وللشيخ علي طبيعة، وفيه فطنة قوية، فجعل يدرب قلمه ويروضه على ~~إرسال البيان سهلا جزلا خاليا من الاعتساف، متطلقا من تكاليف البديع. # وفي هذا المقام يجدر بي أن أنبه إلى شيء جدير بالانتباه: ذلك أن حسن البيان ~~وجودة المقال لا ترجع في جميع الأحوال إلى تمكن الكاتب من ناصية اللغة، ~~وتفقهه في أساليبها، وبصره بمواقع اللفظ منها، واستظهاره لصدر صالح من بلاغات ~~بلغائها، إلى حسن ذوق ورهافة حس، بحيث يتهيأ له أن يصوغ فكرته أنور ~~صياغة، ويصورها أبدع تصوير، بل إن ذلك ليرجع في بعض الأحوال، وهي أحوال نادرة ~~جدا، إلى شدة نفس الكاتب وقوة روحه، فقد لا يكون الرجل وافر المحصول من متن ~~اللغة، ولا هو على حظ كبير من استظهار عيون الكلام، ولا هو بالمعني بتقصي ~~منازع البلاغات، ومع هذا لقد يرتفع بالبيان إلى ما تتقطع دونه علائق الأقلام، ~~ذلك لأن شدة نفسه، وجبروت فكرته، تأبى إلا أن تسطو بالكلام فتنتزع البيان ~~انتزاعا، ولعل في بيان السيد جمال الدين الأفغاني، وهو ms175 غريب عن العربية، وقاسم بك ~~أمين وهو شبه غريب عنها، أبين مثال على هذا الذي نقول، ولقد يعجب القارئ أشد ~~العجب إذا زعمت له أن المرحوم حسين رشدي باشا، وكان رجلا قل أن تطرد على ~~لسانه ثلاث كلمات عربية متواليات، لقد كان أحيانا يرتفع بالعبارة إلى ما ~~يتخاذل من دونه جهد أعيان البيان! # والآن أستطيع أن أزعم أن الشيخ علي يوسف - على أنه تعلم في الأزهر، وقرأ طرفا ~~من كتب الأدب، واستظهر صدرا من مظاهر البلاغة في منظوم العربية ومنثورها - لم ~~يكن مدينا في بيانه لشيء من هذا، بقدر ما كان مدينا لشدة روحه وسطوة نفسه، وإنك ~~لتقرأ له المقال يخلبك ويروعك، وتشعر أن أحدا لم ينته في البيان منتهاه، ثم ~~تقبل على صيغه تفتشها وتفرها، فلا تكاد تقع على شيء من هذا النظم الذي ~~يتكلفه صدور الكتاب، وبهذا أنشأ الرجل لنفسه أسلوبا، أو على الصحيح لقد خط ~~قلمه القوي نهجا من البلاغة غير ما تعاهد عليه الناس من منازع ~~البلاغات. # ولندع الآن بيان الشيخ علي وأثره، فلذلك موضع آخر من هذا الحديث، ونعود إلى ~~تاريخ الرجل فنقول: إنه ما كان يستوي له ذلك القدر من الأدب حتى أنشأ مجلة دعاها ~~«الآداب»، وهي وإن لم تكن شيئا يذكر بالقياس إلى المجلات الأدبية القائمة الآن، ~~لقد كانت شيئا مذكورا بالقياس إلى المجلات التي كانت قائمة في ذلك العهد، وخاصة ~~بعد إذ عفى الزمن على مجلة «روضة المدارس» التي كان يقوم على تحريرها وإجالة ~~الأقلام بروائع البيان فيها صدور العلماء والشعراء والكتاب. # المؤيد # وإذا قلت «المؤيد» قلت شطر من تاريخ مصر محتفل بالأحداث العظام راع ~~أهل الرأي في مصر أن ليس لهذه الأمة - أعني للمسلمين وهم كثرتها ~~الكثيرة - صحيفة تتحدث عنها وتدلي بحاجاتها، وتترجم عن أمانيها، وتذود عن ~~حقوقها وكرامتها، وإن أمة ليس لها في هذا الزمان صحيفة، لهي أمة لا تحس ~~لنفسها وجودا، ولقد قوي الشعور بشدة الحاجة إلى صحيفة وطنية إسلامية بعد ~~إذ صدر المقطم صحيفة تظاهر الاحتلال الإنجليزي، وتروج ms176 للسياسة ~~الإنجليزية في هذه البلاد، وتدفع في صدر الأماني القومية ما اعترضت تلك ~~السياسة في يوم من الأيام، وهنا يتقدم الشيخ علي مع صاحب له يدعى الشيخ أحمد ~~ماضي، فينشئان جريدة «المؤيد» يومية سياسية وطنية إسلامية، ثم لا يلبث ~~الشريكان أن يختلفا، ولا يخرج أحدهما عن الشركة إلا على مال، والمال في يد ~~الشيخ علي أقل من القليل، وهنا تحركت أريحية بعض كبار المصريين، فأدوا ~~المال عن الشيخ إلى صاحبه، وهكذا خلص المؤيد للشيخ علي يوسف، وكان للمرحوم ~~سعد باشا زغلول في هذا سعي مشكور. # وأذكر أنه لما أتى رحمه الله بمطبعة جديدة من طراز «الروتاتيف» وعقد لذلك ~~حفلا جامعا في إدارة «المؤيد»، خطب في الجمع فأتى في سيرة المؤيد على هذه ~~الحادثة، ونوه بفضل سعد بك زغلول «المستشار بمحكمة الاستئناف» الذي أبى أن ~~يسمع هذه الخطبة إلا واقفا. # وجرى المؤيد طلقا، والله يعلم كم عانى الشيخ علي في إخراجه فردا لا مسعد ~~له من معين أو من مال، الحق أن الرجل قد جاهد في هذا جهاد الجبابرة، وعانى ~~عناء لو صوره القلم على حقيقته لظنه الناس من إحدى القصص التي تمثلها ~~أخيلة الكتاب، وهكذا لم يمض زمن طويل حتى جنى ثمرة الصبر العجيب # إن الله مع الصابرين # صدق الله ~~العظيم. # مضى «المؤيد» يحرره الشيخ علي يوسف، ويرفده بالمقالات البارعة أعيان أهل ~~الرأي والعلم والأدب في البلاد، من أمثال المرحومين: الشيخ محمد عبده، وسعد ~~بك زغلول، وقاسم بك أمين، وفتحي بك زغلول، وحفني بك ناصف، وكثير غيرهم من ~~أصحاب البيان، وكانوا يسرون أسماءهم في الأحاديث السياسية بوجه خاص، فذلك ~~مما لا تأذن به المناصب الحكومية بحال، وكذلك أضحى المؤيد مجالا لأفحل ~~الأقلام وأنضج الآراء، بل لقد أضحى المدرسة التي تخرج عليها من شهدوا ~~الجيل الماضي من أعلام البيان. # ويسير المؤيد، ويذهب صيته لا في مصر ولا في العالم العربي فحسب، بل في ~~العالم الإسلامي كله، فلقد أصبح لسانه المعبر أفصح تعبير عن حقيقة حاله، ~~والمترجم أنصح ترجمة عن آلامه وآماله ms177، ومتحدث أخبار المسلمين وراويها، ~~وملتقى أفكارهم في قواصي الأرض وأدانيها: # لا يرحل الناس إلا نحو حجرته # كالبيت يفضي إليه ملتقى السبل # وحسبنا هذا القدر الآن في المؤيد وفي صاحب المؤيد، وسنعاود الحديث فيه إن ~~شاء الله تعالى، عسى أن نوفيه بعض حقه إن لم نوفه كل حقه، رحمة ~~الله عليه. # ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، على أنه كان إلى الطول، يظهر في ~~مرأى العين نحيلا هزيلا، ولكنه كان مكتنز اللحم، مستطيل الوجه، واسع ~~مساحة الجبهة، أزرق العينين، طويل الهدبين، كثيرا ما ترى له في إطراقه ~~نظرة غريبة ساجية، ضيق الفم، على أن في شفتيه الحمراوين شيئا من الغلظ، ~~تعلوه صفرة ما أحسبها من أثر مرض، وشعر لحيته الدقيقة المتسقة يميل إلى ~~الشقرة، رفيق الصوت لينه إذا تحدث، فإذا رفع صوته ضمر بعض الضمور، ~~وتسلخ بعض التسلخ، فلم يكن من تلك الأصوات التي تصلح للخطابة. # وكان بعد رجلا شديد العقل، قوي النفس، حديد العزم، وافر الشجاعة، لا ~~تتعاظمه قوة خصم بالغة ما بلغت قوة ذلك الخصم وبأسه، وإذا تحداه ~~متحد ركب رأسه في نضاله لا يبالي أين يقع المصير، وصح فيه قول ~~الشاعر: # إذا هم ألقى بين عينيه عزمه # ونكب عن ذكر العواقب جانبا # وأذكر أنني مضيت إليه مرة في صحب لي من خلصانه، وسألناه أن يترفق بالمؤيد، ~~فلقد تظاهر عليه خصومه، وألبوا الجمهرة عليه، وأذكوا عليه حماسة ~~الشباب في رأي له قد لا يحسن فهمه العامة، ولا يستريح إليه طموح ~~الشباب، فأصغى إلينا وأحسن الإصغاء، وترك كل واحد منا يقول ما عنده، حتى إذا ~~انتهينا ونحن على الظن بأنه نازل عند رأينا، عادل إلى ما سألنا، فإذا هو ~~يرتج في مجلسه ارتجاجة عنيفة، ويقول في قوة وفي عزم حديد: «والله لا ~~يعنيني أن يكون الناس جميعا في صف واحد، وأنا والحق الذي أعتقده بإزائهم في ~~صف واحد!» وتركناه ونحن نرى منحدر المؤيد بطغيان الخصومة يوما بعد ~~يوم! # ولقد كان الشيخ علي رحمة الله عليه رجلا متمكنا من نفسه حقا ms178، ولقد ~~كان مما يشاع عنه - ولعل خصومه هم مبعث هذه الإشاعة - أنه كان يقول: ~~أنا لا أبالي أن أخسر هذا البلد، ففي إمكاني أن أعود فأكسبه بثلاث مقالات ...! # ولقد عاشرت الرجل ما عاشرته، واستمكن ما بيننا من الود والإلف إلى ~~الحد الذي يبعثني على الاعتقاد بأنه ما كان يخفي عني شيئا، حتى من نجوى ~~نفسه في الأسباب العامة، وشهد الله ما سمعت منه قط هذا الكلام، ولا ~~أية عبارة أخرى يمكن أن تؤدي معناه. # ولكن مع هذا لقد كان هذا هو الواقع - أعني الواقع من حاله لا من مقاله - ~~فإنني لا أعرف رجلا سياسيا عظيما كان أقل الناس أنصارا وأكثرهم ~~خصوما كما كان الشيخ علي يوسف، وخصومه على كثرتهم، لقد كانوا من جميع ~~الطبقات، وكانوا من جميع الهيئات، وإنهم ليحيطون به إحاطة الطوق من كل جانب، ~~وكلهم عامل على إسقاطه، جاهد ما امتد به الجهد في هدم المؤيد، مذك عليه ~~الأقلام والألسن من كل ناحية، تدمغه بتهمة الخيانة الوطنية فما دونها في غير ~~هوادة ولا إشفاق، والمؤيد يتقلص بين أيدي القارئين ويتقلص، حتى يظن أنه قد ~~تشرف على العفاء، ثم إذا الشيخ يتجمع، وإذا هو يشرع القلم شرع ~~الرمح الرديني، وإذا هو يطعن الطعنة البكر ها هنا مرة، وها هنا مرة، ~~فلا يصيب إلا الكلى والمفاصل، وإذا هؤلاء الخصوم يتطايرون عنه تطاير ~~الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، وإذا المؤيد يرن في البلد رنينه، ~~بعد ما تردد تأوهه وطال أنينه! # وقد عرفت أن الشيخ علي يوسف كان مبغضا إلى الكثرة في البلاد، وإن ~~هذا البغض ليرجع في الأكثر إلى أسباب صناعية: منها المنافسات الصحفية، ~~ومنها الغيرة من موضعه يومئذ من ولي الأمر، ومنها أنه كان هنالك رجال أقوياء ~~ببسطه الجاه وسعة الغنى، وفيهم كذلك من ذهب لهم في العلم والأدب صيت ~~وذكر، كان هؤلاء لا يستريحون إلى سياسة القصر، ولربما ظاهروا المعتمد ~~البريطاني أحيانا في عدائه للقصر، فهم بالضرورة ينقمون من كل رجل توافيه ~~للقصر، وخاصة إذا كان رجلا كالشيخ ms179 علي يوسف جبار العقل، جبار القلم! # أرأيت كيف كان هذا الرجل محاطا من جميع أقطاره بنطاق من العداوات ~~المختلفة، بل التي يصطرع التناقض أحيانا بين أسباب بعضها وبين أسباب ~~بعض؟ على أن إذكاء بغض الشباب والعامة للرجل من جهة، وبغض بعض الخاصة له ~~من جهة أخرى، إنما كان يسلكه له خصومه من أحد طريقي الضعف فيه - إن صح ~~هذا التعبير - أولهما: أنه كان معتدلا لا يرى العنف سبيلا إلى استرداد ~~حقوق البلاد؛ بل إن هذا العنف لقد يرديها في أخطار لم تكن لها في الحساب، وكان ~~طوعا لهذا يرى ألا يتحدث عن الشئون العامة إلا الشيوخ الناضجون المجربون، ~~وهذا وهذا - ولا شك - مما لا يرضي الشباب المشتعل حماسة لحق الوطن، ولا ~~تنس أن العامة من وراء هؤلاء. # أما السبب الثاني فلصوقه بالقصر، وشدة توافيه له، ومظاهرته له على ~~الدوام، وأظن أن هذا مقام لا تحمد فيه إطالة الكلام. # مع هذا كله ففي الجلى، يوم تحدث الأحداث القومية، ينفض الناس ~~قلوبهم حتى يتساقط عنها كل ما علق بها من الحقد على الشيخ علي يوسف، ~~ويتلعون أعناقهم نحو المؤيد، شاخصة أبصارهم، مرهفة آذانهم، ~~معلقة في انتظار ما يقول الشيخ أنفاسهم، فإذا النمر الجبار يثب ~~على فريسته من عدوان العادين وثبته، فلا يزال يوسعها تمزيقا بمخلبه، وضغما ~~بأنيبه، حتى ما يدعها إلا «أعظما وجلودا»! # نعم، لقد كان يقول الشيخ علي فيروي كل غلة، ويشفي كل علة، ويعلو ~~بسطوة قلمه حتى ما ينتهي منتهاه في ذاك أحد، والناس طرا لهذه النصرة ~~بين مهلل وبين مكبر! هذه كانت قدرة الشيخ القادرة، وهذه كانت قوته ~~العبقرية النادرة، وهذه مقالاته في أعقاب حادثة دنشواي ما برحت ترن في ~~آذان من قرأوها إلى الآن. # وإني لأذكر له حادثا طريفا في هذا الباب: فشت الفاشية، لا أعادها الله ~~بين المسلمين وإخوانهم الأقباط عقب مصرع المرحوم بطرس باشا غالي، وكان ذلك ~~في سنة 1910 على ما أذكر، وعقد الأقباط مؤتمرا مليا لهم في أسيوط، ~~وأجابهم المسلمون بمؤتمر مثله في القاهرة، وأفضوا ms180 برياسته إلى أكبر رجل في ~~البلاد يومئذ، وهو المرحوم مصطفى رياض باشا، واختار القائمون على هذا المؤتمر ~~مثوى لاجتماعه ملعب مصر الجديدة، ومضى الناس أفواجا في اليوم المشهود، ~~واجتمع رجالات البلد لم يتخلف منهم إلا من انقطع به العذر، وتصدر ~~الحفل رياض باشا، وتعاقب الخطباء كابرا بعد كابر، فأبلوا في المقال ~~أيما بلاء، وأبدعوا في الخطاب أيما إبداع. # حتى إذا كانت النوبة على الشيخ علي أذكى بعض شبان الحزب الوطني في ~~المحتشدين في بهو الملعب طائفة من الفتيان من طلبة الأزهر وتلاميذ المدارس، ~~يسألون القوم ألا يصفقوا إذا خطب الشيخ، ولا يظهروا أية إشارة تدل ~~على الاستحسان، فوعدهم أكثر الناس بهذا، وأصروا عليه مخلصين لما تنطوي ~~صدورهم من حقد عليه ومن بغضاء. # وينبعث الشيخ يخطب، وهو كما قدمت لك غير خطيب - أستغفر الله - ~~بل لقد انبعث يتلو مقالته في أوراق بين يديه، وأنت حق خبير بالفرق الهائل بين ~~أثر التالي وأثر الخطيب، وما إن مضى في تلاوته بضع دقائق حتى أخذ الناس عن ~~نفوسهم، ونسوا ما عاهدوا أولئك الفتيان وعاهدوا أنفسهم عليه، فبروا من ~~التصفيق أكفهم، وشققوا بالصياح حناجرهم تشقيقا، فكنت تسمع من ~~هتافهم مثل الرعد القاصف، وترى من اضطرابهم وتموجهم فعل الريح ~~بالأغصان في اليوم العاصف! وكان من أشدهم سعرا من كلام الرجل هم أولئك ~~الفتية الذين كانوا يروضون الناس على ألا يلقوا خطابه إلا بالجمود ~~والإعراض. # وجهد بالرجل فتعاور التلاوة عنه كل من أستاذنا إبراهيم بك الهلباوي، ~~والمرحوم أحمد بك عبد اللطيف المحامي الأشهر، وأنت كذلك خبير بأثر خطبة يتلوها ~~في الساعة غير منشئها، ما أرخى إليها من قبل نظرا، ومع هذا فما ~~برحت تزداد الفورة ويشتد بالقوم الفتون! # ولقد أذكر أنه بعد إذ فرغ من خطاب الشيخ، وافقت في طريقي صديقا لي ~~من شبان الحزب الوطني، وهو الآن من أعلام الفضل الذين يتولون منصبا ~~جليلا في السلك القضائي؛ وكان يومئذ مسرفا غاليا في التشيع لمبادئ ~~حزبه، مفرطا في بغض الشيخ، شديد الحمل عليه؛ ورأيته يضرب كفا ~~بكف ms181، فسألته: ما به؟ فأوما إلى مكان الشيخ من منصة الخطابة وقال: «على ~~حس الخطبة دي، يقعد ابن ال ... يخون في البلد ثلاث سنين أخر!» # ولا زلت كلما لقيت صاحبي أذكره هذه الحكاية، فيضحك في غيظ، لا ~~أدري: أمن تذكيري له بهذه القصة، أم أنه ما تزال في صدره بقية من هذا الضغن ~~القديم؟! الله أعلم! ~~••• # وقد عرفت أن الشيخ علي يوسف كان رجلا مكافحا، بل إن قلمه لم يكن ~~يجود في شيء مثلما كان يجود في الكفاح، ولم تكن سياسة الاحتلال في مصر تخشى ~~سطوة قلم قدر ما تخشى قلم هذا الرجل، فإنه كان - فوق كفايته ~~البيانية، وما آتاه الله من شدة العارضة، والتمكن من نواصي جلائل المعاني - ~~لا يهرول إذا هرول في الصغائر، ولا يطعن إذا طعن إلا في الصميم. # ولا أحب أن أتجاوز هذا المعنى في الرجل قبل أن أدل على خلة من خلاله ~~في كفاحه: ذلك بأنه كان يعتمد أضعف النقاط في خصمه فيتجمع لها، ثم ~~يثب عليها بكل قوته، ولا يبرح يطعنه منها دراكا، حتى يدوخ رأسه، ~~ويذهله عن سائر أسلحته، إذا كانت له أسلحة أخرى تجهز بها لذلك ~~النضال. # وكان في كتابته سريعا جدا، حتى لتحسبنه ويده تجول في القرطاس ~~عازفا على قانون، لا مسطرا بيراع، وتراه كلما فرغ من وجه الرقعة من الإضمامة ~~دفع بها إلى من يفضي بها إلى المطبعة، وهكذا حتى يأتي على غاية المقال، ~~لا يتتعتع، ولا يتحبس، ولا يحتاج إلى مراجعة شيء مما أسلف، ومع هذا ~~تجد المقال سويا غاية في الحبك وتناسق الأطراف! # ومن العجب العاجب في أمره أنه كثيرا ما كان يكتب والغرفة محتفلة بالزوار ~~وأصحاب الحاجات، يرفعون أصواتهم بفنون الأحاديث والجدل، بل لقد يأخذ معهم في ~~بعض ما هم فيه، وهو ماض لشأنه لا يشغله هذا عنه كثيرا ولا قليلا! # الشيخ علي الصحفي # ولقد كان رحمه الله، صحفيا بأجمع معاني الكلمة، يكتب المقال الرئيسي كل يوم ~~بيده، ويراجع كل ما يدلي به إليه الكتاب من المقالات، ويفض ms182 البريد ~~بنفسه، فما رآه كفئا للنشر أذن في نشره، وقد يحذف بعض المقال ~~ويبقي على بعض، فإذا تهيأت الجريدة للطبع وراجعها المصححون، تناولها فقرأها ~~من أولها إلى آخرها، يصحح ما عسى أن يكون قد فات القوم تصحيحه ويتثبت من ~~ألا يكون قد دس على الجريدة شيء مما يكره، أو يكون قد سقط إليها في ~~سر منه إعلان عن خمر أو غيرها من المناكر. # وكان على جلالة محله، وكثرة المخبرين لديه، يطوف بنفسه كل يوم بأكثر ~~الدواوين في تنسم الأخبار، يستخرجها بلطف حيلته من النظار «الوزراء» ~~أو من المستشارين الإنجليز فمن دونهم من عيون الموظفين. # وهكذا استطاع الشيخ علي بكفايته وحد عزمه، أن يجعل من المؤيد أعظم ~~جريدة في مصر، برغم كل ما كان يعتريها من الكيد، بل أعظم جريدة في العالم ~~العربي كله. # من أخلاق الشيخ علي # وقبل أن أختم الحديث في الشيخ علي يوسف أرى لزاما أن أشير إلى فضيلتين ~~من فضائله البارزة بروزا عظيما: أولاهما أنه كان خيرا مطبوعا، ما رأيته ~~سئل الخير قط يستطيعه إلا فعله مهما يكن فيه من عنت ومن إرهاق، ~~وإنه ليفعل مغتبطا راضيا هاشا حتى ليكاد يلتمس لسائليه الخير التماسا، ~~وحتى ليكاد يصدق فيه قول الشاعر: «كأنك تعطيه الذي أنت ~~سائله»، وإني لأعرف أنه كان يجرد صدرا من يومه في السعي لحاجات الناس ~~ابتغاء رضوان الله، هذه واحدة، أما الثانية فشدة وفائه، ولقد عرفت ~~صلة الرجل بالقصر، ومبلغ ضعفه له، ولقد يتغير ولي الأمر يومئذ ~~على رجل من صدقانه، أو ممن أسلفوا له يدا، فتتناهشهم الأقلام من كل ~~جانب، اللهم إلا المؤيد، فإنه الذي لا يطلق مقالة السوء فيه أبدا، وحسبك ~~دليلا في هذا الباب شدة توافيه للمرحومين الشيخ محمد عبده، وسعد باشا زغلول، ~~ورياض باشا، وغيرهم كثير، فإن كان قد مس بعضهم كما مس رياض باشا عقب خطبته ~~المشهورة؛ فلقد كان عذره واضحا، وأي وطني يطيق أن يسمع الإشادة بفضل ~~المعتمد البريطاني على حساب كرامة أمير البلاد! على أنه فيما مسه قد ms183 كان به ~~أرفق الكاتبين. ~~••• # فإن زعمت بعد هذا أنه كانت في الرجل هنة أو كانت فيه هنات، فمن ذا الذي ~~سلم على العيوب كلها، و«كفى المرء نبلا أن تعد معايبه»، ~~وحسب الشيخ علي أنه كان بمجموعة مزاياه ومواهبه مفخرة من مفاخر هذه البلاد ~~التي لا يسخو بمثلها الزمان، و«إن الزمان بمثله لبخيل». # رحمه الله رحمة واسعة، وعزانا عنه نحن القادرين قدره أحسن ~~العزاء. # | محمد بك المويلحي1 # قبل أن أتحدث عن هذا الرجل الذي يجب أن يتحدث عنه مدونو تاريخ الأدب العربي في ~~العصر الحديث، قبل هذا أحب أن أقول في هذا الباب شيئا عاما، ذلك بأننا ~~اعتدنا أن نغفل الكلام في سيرة من عاصرناهم، ورأيناهم ولابسناهم، إلا أن يكون القول ~~من جنس هذه المراثي التي تضفى فيها حلل الثناء، ويكال فيها المديح في ~~العادة بغير حساب، ولقد يكون هذا الثناء حقا أو قريبا من الحق، بحيث لا يؤذي ~~التاريخ في كثير ولا قليل، ولكنه لا يمكن أن يجلو على الأجيال المستقبلة شيئا ~~من حقيقة الرجل، لأن الكاتبين في هذه الحالة لا يعنون ببسط حياة الرجل، وظواهر ~~خلاله، والعوامل البارزة في تكوينه، ومطبوع عاداته، ولو ما يتصل منها بالأسباب ~~العامة، وذلك من أيسر الأمور، لأنهم عرفوه بالمشاهدة، واستيقنوه بالملابسة وطول ~~الاختبار، وهذا ولا شك مما يهيئ للقادمين دراسته وتحليله دراسة إن لم تنته ~~إلى أصدق النتائج، فهي أدنى إلى الصدق من غيرها على كل حال. # وليس يذهب عن القارئ أن إهمال المعاصرين على هذا النحو لا بد مفض إلى إحدى ~~حالين: إما إلى إدراج كثيرين من رجال الآداب والفنون في مطاوي النسيان، أو التحيف ~~من أقدارهم بقدر كثير أو قليل؛ وإما إلى تجليتهم إذا تراخى الزمان في غير صورهم، ~~ونحلهم صفات وخلالا لم تكن لهم، بحكم العنعنة في رواية الأخبار، والاتكاء في ~~تحليل نفس الرجل على ما صدر عنه من الآثار، وكثيرا ما يضل الباحث المستنتج ~~في هذا أبعد الضلال، هذا إلى ما في معاناة مثل تلك البحوث من ms184 إضاعة للوقت، ونفقة ~~من الجهد، وتجشم للعناء. # وأغلب الظن في هذا الإغفال من المعاصرين لمن عاصروهم من رجال الفنون والآداب، أنه ~~يرجع إلى أن الرجل العظيم قل أن يراه معاصروه بالعين التي يراه بها الخالفون، فهو ~~في الغالب إذا استحق منهم ترديد ذكره، والهتاف باسمه، وتدوين سيرته، فقل أن ~~يعنى أحد بتقصي عاداته، والتسلل إلى مداخله، وعرض ما يلابس الأسباب العامة ~~من سائر أموره، أو لأنهم لا يعنون بهذا لأنه حاضر لمعاصريه قريب منهم، فهو في ~~حكم المبذول الذي ينال منه من شاء أن ينال، ولا شك أن في هذا ضربا من الغفلة ~~عن أن الحاضر سيغيب على الزمن، وأن المبذول سينقبض، وأن ما في متناول اليد اليوم ~~ستتقطع من دونه غدا علائق الآمال! # ولقد يسكت النقدة عن تقصي ذلك عمدا، والتلبث بتحليل الرجل ورد العوامل ~~في تكوينه إلى مناجمها، حتى ينطوي الزمن عليه وعلى أهله، وعلى أشياعه وخصومه من ~~معاصريه، فيتهيأ الجو للبحث والتحقيق، لا رغبة ولا رهبة فيه، فيكون البحث أنور ~~وأصفى، وتخرج النتائج أدق وأوفى. # وهذا مذهب في الرأي له أثره وله خطره، بالرغم من أنه يفوت على المؤرخ ~~المدقق من عناصر الحكم ما قد يسيء في بعض الأحيان إلى حكمه، فإذا هو طلبها ~~تصحيحا لبحثه، فلن ينالها إذا نالها صادقة إلا بعد أن يتجشم في سبيلها عرق ~~القربة كما يقولون. # على أنني في هذا لا أذهب إلى القول بنشر المعايب، واستظهار المكاره، حتى لا يثير ~~المدون ثائرة الأهل والصحاب والأنصار، إنما أريد أن يجلو المعاصر، من غير ذلك، كل ~~ما له خطر في تكوين الرجل، فإذا كانت هناك مغامز لا ينبغي إغفالها في تجليته ~~وتحليله، فليسجلها على أن يكتمها حتى يجليها لوقتها، أو يجليها من ~~بعده من الأعقاب. # وعلى أي حال فإن إغفال هذه الأمور التي نحسبها في غالب الأحيان من التوافه، ~~كثيرا ما يخل بحق التاريخ، ويفضي إلى الجهل بالجم من حقائق الأشياء، ولست أجد ~~في الباب مثلا أيسر ولا أدنى إلى الحس من أننا ms185، لولا مهبط البعثة العلمية ~~التي صحبت الحملة الفرنسية في سنة 1798، ما اهتدينا بسهولة أو ما اهتدينا أبدا ~~إلى أزياء جدودنا وسمتهم من قرن وثلث قرن من الزمان، فكيف بمن هم أعلى من هذا ~~وأبعد في مذهب التاريخ؟ # ولو قد عني أهل كل عصر بأن يحفظوا لخلفهم نماذج من ثيابهم، وآلاتهم في ~~سائر حوائجهم، وفعل هؤلاء مثل فعلهم، لظلت سلسلة الأزياء واضحة على وجه ~~الزمان. # ولعل من الخير أن أنبه في هذا المقام إلى أن محاولة كشف الرجل من آثاره ~~المحفوظة لا تجدي كثيرا في الإبانة عن خلاله ومداخل عيشه حتى مظاهرها، بل ~~إنها لكثيرا ما تكون من وسائل الضلة في إثبات التاريخ، ولست أسوق لهذا أكثر من ~~مثلين اثنين: ذلك بأنك لو اتكأت في طلب خلال الجاحظ على مجرد آثاره، لخرج لك ~~منها أنه كان أزهد الناس في المال، وأنه لو سقط ليده لكان أجود به من الريح ~~المرسلة، فإن أحدا لم ينع الشح ولم يذم الأشحاء كما نعى الجاحظ وكما ~~ذم، وإن أحدا لم يؤلف كتابا في «البخلاء» أبلغ فيهم إيجاعا، وأشد لهذه ~~الخلة وأصحابها إقذاعا، كما صنع الجاحظ، ومع هذا لقد كان هو نفسه من أشد ~~المبخلين الذين أوفوا على الغاية من الجشع والحمل على المروءة أحيانا في طلب ~~المال، وإنك لو التمست مثل هذا في أبي الفرج # 2 # لخرج لك ~~من آثاره أنه كان أجمل الناس سمتا، وأنظفهم بدنا وثوبا، وأشدهم أخذا للنفس ~~بأدق آداب السلوك في طعامه وشرابه، وغير ذلك من أسبابه، ولكن الواقع أنه كان من أشد ~~الناس شرها، وأقبحهم مؤاكلة، وأقذرهم خلقا وثوبا، حتى ليصح في بعض خلته ~~قول الشاعر: # وسخ الثوب والعمامة والبر # ذون والوجه والقفا والغلام! # ولولا أن معاصري هذا وهذا أثبتوا لكل منهما ما أثبتوا لزلت فيهما الأقلام، وضلت ~~الأوهام! ~~••• # بعد هذا آخذ في حديث أستاذي ورئيسي وصديقي، العالم الفيلسوف الأديب الكاتب ~~الناقد، السيد محمد بك المويلحي، رحمة الله عليه. # من أكثر من ثلاثين سنة خلت، ولما أزل بعد في أيام الفتوة ms186، وفي صدر ~~طلب العلم في الأزهر، صدرت في مصر جريدة أسبوعية سياسية أدبية باسم «مصباح ~~الشرق» في أربع صفحات دون صفحات الجرائد التي تصدر الآن مساحة، ولون ورقها ~~يضرب إلى الحمرة، ويقوم بتحريرها إبراهيم بك المويلحي وابنه السيد محمد ~~المويلحي، وكانت عامة الصحف الأسبوعية قد وصلت في ذلك العهد من المهانة والفسولة ~~والإسفاف وتفاهة الموضوعات إلى أبعد الحدود. # مصباح الشرق # لقد كان هذا «مصباح الشرق» شيئا طريفا حقا، لقد كان أبلغ من طريف فإنه ~~لأعجوبة حقا، لقد كان «مصباح الشرق» أبلغ من أعجوبة، إنه لشيء يكاد يتصل ~~بحكم الخوارق في تلك الأيام! # بلاغة بليغة، ولفظ جزل متخير وديباجة مشرقة، وصيغ مونقة ، ونسج ~~متلاحم، وأسلوب ليس وراءه في هذا الذي يدعونه السهل الممتنع. # أدب بارع، علم وفلسفة، وبحوث رائعة في سياسة الأمم، وفي الأخلاق وعلوم ~~الاجتماع، منها المبتكر المنشأ، ومنها المترجم من مختلف اللغى، في عبارة ~~عربية بليغة سلسة ناصحة واضحة لا تستروح منها أي ريح للاستعجام، هل ~~رأيت قط ترجمات السابقين في عصر بني العباس؟ # مذهب طريف في النقد، نقد الأشخاص، لا عهد للأدب العربي به من قديم الزمان؛ ~~بل لعله لا عهد له به من أول الزمان! # لم تكد تطالع الناس هذه الصحيفة الدقيقة الجرم مرتين أو ثلاثا حتى ~~أصبحت من بعض شغل الخاصة في هذه البلاد! # لا يدخل الأصيل في يوم الخميس من كل أسبوع إلا وقد زاغت أبصار، ~~وتكرشت جباه، وتقلصت شفاه، وتداركت أنفاس، ووجفت قلوب، هل ~~رأيت انفلات الطائر بعد طول الاحتباس؟ كذلك كان يترقب الخاصة مشرق ~~«المصباح» وسرعان ما تخطفه اليد الراجفة فتشقه، وسرعان ما يشيع البصر كله في ~~مساحة النقد كلها، لا يستقر على موضوع خاص، ولا يتحيز في حديث معين، بل إنه ~~لينساح على الصفحة كلها انسياحا ليدرك قبل رد الطرف: أشك المويلحي اسم ~~صاحبه فيمن شك أم أرسله في جملة الطلقاء؟! حتى إذا اطمأن الرجل إلى أنه قد ~~كتبت له السلامة لجمعته، ألقى الصحيفة بين يديه، وجعل يطامن من ~~نفسه، ويبسط من ms187 خلقه ما تقبض، ويفرخ من روعه ما تحبس. # وإذا كان هذا شأن من لم تصب منهم أقلام المويلحيين، فاحكم أنت - ~~عصمنا الله وإياك - كيف كانت حال من تنال منهم هذه الأقلام؟ على أنه مما ~~ينبغي أن يذكر هنا، أن «المصباح» لم يكن يعرض قط لأعراض من يتولاهم ~~بالنقد، ولا يتدسس إلى مكارههم، أو يتتبع عوراتهم، بل لا يتناول من ~~أمورهم إلا ما كانوا يعرضونه هم من ذات أنفسهم، أو ما يدلون هم عليه ~~بآثارهم وظاهر أعمالهم؛ فلقد كان «المصباح» أجل من ذاك موضعا، وآنف ~~كرامة. # وإنه ليستحدث لونا طريفا من النقد لا عهد لأدب مصر به، بل لا عهد به للأمم ~~العربية جمعاء، وهذا النوع من النقد يقوم في الجملة على التماس الجانب الضعيف ~~في أثر الرجل، فيعرضه بالقلم في صورة «كاريكاتورية» يزيد في تشويهها ما ~~يتوافى لذلك الذهن الدقيق من ألوان التشبيه، وما يحضره من فنون ~~الاستشهاد والتمثيل، ولا يبرح يمط الموضوع في هذه الناحية بالتوليد، وطلب ~~المناسبات القريبة، والملابسات الدانية، تسندها النكتة البارعة، ويسعفها ~~التندر البديع، حتى ينتهي إلى ما لا ينتهي إليه أحد من الناقدين! # ولقد كان هذا من «مصباح الشرق» الأصل الثابت لهذا اللون من النقد - أعني ~~النقد «الكاريكاتوري» في مصر - كما كانت صحيفة المويلحيين «أبو زيد» أول ~~ما عرف فيما أعرف أنا من التصوير «الكاريكاتوري» في هذه البلاد، ولعلي ~~ألمع إلى هذه الصحيفة في بعض هذا الكلام. # لم ينته خطب «مصباح الشرق» إلى هذا الموضع فحسب؛ بل لقد كان - على أنه ~~صحيفة لا تظهر في جميع الأسبوع إلا مرة واحدة - يروي من جلائل الأخبار في ~~الأسباب العامة ما لا تبلغه الصحف اليومية، على شدة ارتصادها لمثل ذلك، وإذكاء ~~عيونها الكثيرة في طلبه وتقصيه، فكانت أمهات الصحف اليومية لا تتحرج، في كثير ~~من الأحيان، من نشر مهام الأخبار نقلا عن صحيفة «مصباح الشرق» الأسبوعية ~~مضافة إليها معزوة لها، وفضل «المصباح» في هذا السبق العجيب إنما كان لجلالة ~~محل إبراهيم بك المويلحي عند أولي الأمر كلهم، وخفة ms188 روحه، ولطف مدخله، ~~وسعة حيلته، حتى ليستخرج منهم بهذا ما لا يخرجون عنه لغيره من رواة ~~الأخبار! # ولا أحب أن أجوز هذا الموضع من الكلام قبل أن أقول إن «المصباح» أول من ~~جلا للناس براعة الجاحظ وعبقرية ابن الرومي بما كان يختاره لهما من بدائع ~~المنثور وروائع المنظوم، قبل أن تقع العيون من آثارهما على كتاب أو ديوان، ~~وأول من عالج النقد الأدبي لما تنتضح به قرائح الشعراء، وأعني به ذلك النقد ~~الرفيع الغالي، الذي جمع بين أساليب النقد في أزكى عصور العربية، وبين طرائقه ~~التي اختطها نقدة الغربيين في هذا الزمان. # وعلى الجملة، فلقد فتح «المصباح» في الأدب العربي فتحا جديدا، وأمسى ~~«مصباحا» حقا يهتدي المتأدبون بسناه إذا أرسلوا القول أو اجتمعوا لنظم ~~الكلام. # وبهذا وهذا أصبح «مصباح الشرق» أفخر مدرسة لطلب الأدب الرفيع الجزل الطريف في ~~هذه البلاد. # ومما ينبغي أن يذكر في هذا المقام أن جماعة الشعراء قد تعاظمتهم سطوة ~~«المصباح» في باب النقد، فحسبوا له كل حساب، ويا ويل من لا يتحرى من ~~الشعراء البارزين ما لا يبلغه الجهد كله من التدقيق والتجويد والإحسان. # وإني لأكتفي اليوم من حديث السيد محمد المويلحي بهذا القدر، على نية العودة ~~إليه في القريب، إن شاء الله. # لست أغلو إذا زعمت أنني في مطلع نشأتي الأدبية كان «مصباح الشرق» عندي هو ~~المثل الأعلى للبيان العربي، وبهذا كنت شديد الإكباب على قراءته، وتقليب ~~الذهن واللسان في روائع صيغه وطرائف عباراته، حتى لقد كنت أشعر أنني ~~أترشفها ترشفا لتدور في أعراقي وتخالط دمي، وتطبع ملكتي على هذا ~~اللون من البيان الجزل السهل الناقد الطريف، ولكن «ما كل ما يتمنى المرء ~~يدركه»! # ولقد كنت فتى مولعا بالصناعة، شأن أكثر نابتة المتأدبين في ذلك العهد، فلما ~~أرسل محمد المويلحي في المصباح: «أحاديث عيسى بن هشام» زادني وزاد لداتي به ~~فتونا. # كيف تمثل لي محمد المويلحي؟ # لم تكن عيني إلى هذا العهد قد وقعت قط على محمد المويلحي، ولا خيار للمرء في ~~تمثل صورة من ms189 لم ير من الأناسي، وما لم يشهد من البقاع، فكانت الصورة ~~التي جلالها علي الخيال لهذا الرجل، صورة شاب معتدل القد، وضيء الطلعة، ~~وسيم الوجه قسيمه، وما كان ذلك البيان الجوهري ليجلو علي من الرجل غير ~~ذلك، على أنني كنت أرى أباه إبراهيم بك الحين بعد الحين في زياراته لوالدنا، ~~عليهما رحمة الله، وفي زيارات والدنا له «بعمارة البابلي» يوم كنت أصحبه، ~~وكان هذا المويلحي الكبير تحفة من تحف العصر التي قل أن يجود بمثلها ~~الزمان: قوة لسن، واشتعال ذهن، وحضور بديهة، وسطوة نكتة، وسعة علم بالزمان ~~وأحوال الناس، أما سرعته وتوفيقه في إيراد الشاهد من عبر التاريخ، ومأثور ~~الآداب من منثور الكلام ومنظومه، فهذا ما لم يتعلق بغباره فيه أحد، فكان ~~مجلسه متاعا من أعظم المتاع. # على أنني لم أوفق إلى رؤية المويلحي الابن مرة واحدة! # وتتابعت السنون، وخلص تحرير «المصباح» إلى محمد، ثم امتحنه القدر بحادثة ~~اعتداء يسير عليه من بعض الطيش من أبناء «الذوات» في إحدى القهوات، ~~وانتهى الخبر إلى المرحوم الشيخ علي يوسف، وكانت في صدره موجدة شديدة على ~~محمد وعلى أبيه لما كان بينه وبينهما من كيد وصراع، فانتهز الفرصة، وروى ~~الحادثة في صورة مهولة، واستدرج الكتاب والشعراء للقول فيها، وفسح ~~لهذا في المؤيد مكانا عريضا، ومن ذا الذي لم يكن موتورا من المويلحي؟ ومن ~~ذا الذي لم يقدر الوتر منه في مستقبل الأيام؟ وإذا كان الرجل عاجزا عن أن ~~يخرج للمويلحي وحده، فهذه جموع الأدباء والشعراء والعلماء أيضا قد تداكت ~~لقتاله بكل ما في أيديها من سلاح! ألا فليتقدم لطعن المويلحي من شاء أن يتقدم، ~~فليس على أحد في قتاله اليوم من بأس! # وتثور العاصفة، ويشتد البأس، وتحمر الحدق، وأذن النفير العام، فوثب ~~القاعد، وتحرك الساكن، وانبعث الجاثم، وهب النائم، وأهاب القعديون # 3 # بالمتخلف، واستحمسوا المتخاذل، وشد الجميع على قلب رجل ~~واحد، وهل كان من المستطاع أن يصمد لهذا الجيش اللجب رجل واحد؟ لم ~~يستطع المويلحي أن يثبت في الميدان، فأطفأ «المصباح»، وانسل إلى داره ms190 وقد ألقى ~~يد السلام، واحتجب ولكن في انتظار الثأر وري الغلة بالانتقام! # ولقد تم للمويلحي من هذا بعض ما أراد أو كل ما أراد، فلقد كان ممن أثاروا ~~الثائرة على الشيخ علي يوسف أيام حادث الزوجية المشهور، وفتح له في جريدة ~~«الظاهر» بابا مثل ذلك الباب، واستدرج له أقلام الشعراء والكتاب، وواحدة ~~لواحدة كفاء! # متى رأيت المويلحي وكيف اتصلت به؟ # بين سنتي 1907 و1908، لا أذكر على التحديد، سألت صديقا حديث العهد بصداقتي، ~~ولكن وده للمويلحي قديم، سألته وتمنيت عليه أن يجمع بيني وبينه، وما كان ~~أبلغ دهشي واغتباطي حين قال لي: إن المويلحي قد طالعه بأنه يحب أن يراني، ~~ولعله عرف بي من أيام كنت أرسل القول في الشيخ في فتنة الزوجية شعرا ~~ونثرا، (وأسأل الله أن يغفر لي هذا)، وتواعدنا أن نذهب إليه في ~~الأصيل. # وكان رحمه الله قد اتخذ مسكنه دارا من ~~دور سعيد باشا نصر، تقع في أطراف العباسية يومئذ، وهذه الدار لا يعطي العين ~~ظاهرها أكثر من منظر «حوش» في قرافة الإمام، فإذا جزت مداخلها انفرجت ~~للعين حديقة واسعة قد عبدت طرقها تعبيدا، ونضدت أشجارها تنضيدا، ~~وتأنقت يد البستاني في تسويتها وتنميقها، كما تأنقت يد الطبيعة في ~~تشجيرها وتزويقها، فهذا الفل الوضيء الآلق، وهذا الورد المشرق الضاحك، وهذا ~~النرجس تنبعث من عيونه الأسحار، # 4 # وهذا الياسمين لقد استحال تنفسا في ساع الأسحار. # 5 # ولقد أفرد زاوية من زوايا الحديقة للغزلان والطواويس وجماعات الطير من كل ~~غرد صداح. # ويستقبلني رحمة الله عليه بالبشر والتأهيل والترحيب، وإذا بي إزاء رجل ~~حنطي اللون، بين الطويل والقصير، والسمين والهزيل، مستطيل الوجه، عريض ~~الجبهة، حاد العينين، مستوي الأنف، له فم قريب إلى الفوه في غير قبح ولا ~~استكراه، إذا تمثل واقفا لمحت في ساقيه تقوسا خفيفا لعله دخل عليه من ~~أنه عالج المشي قبل أن تصلب عظامه، وله إذا تحدث صوت لا أقول خشن، بل ~~أقول جزل، فإذا أقبل على القراءة زر عينه اليسرى، فبان التكرش الشديد ~~في معقد ما بين أعلى العارض ms191 وأسفل الجبين، وهذا التكرش لا شك كان من أثر ~~السنين، وإن كان يخفيها في المويلحي شدة عنايته بصحته، وتكلفه ألوانا من ~~علاج البدن بمأثور الوصفات، والتزام الحمية في كثير من الأوقات، وأخذ ~~النفس بالراحة التامة ما تستثيره أزمة من الأزمات، ولا يستدرجه ~~مجلس لهو، ولا تقنصه داعية لذة من اللذات؛ وبهذا تهيأ له أن يحيا في ~~مثل نضرة الشباب إلى الممات. # وقد تلقاني في غرفة الاستقبال، وهي غرفة أنيقة حقا، لقد أثثت ~~بأفخر الأثاث وأغلاه، وأفخر من كل شيء فيها الأناقة في تصفيف الفراش ~~والذوق التام، وقد زينت أجبنها # 6 # بصور كبيرة له ولأبيه، وللأميرة نازلي فاضل، وللسيد جمال الدين ~~الأفغاني، وبألواح خطية جميلة جرت بروائع الحكم، وأكثرها من شعر ~~المعري. # وخضنا في أحاديث من أحاديث الأدب، ولونا الكلام تلوينا حتى ~~تجاوزنا نصف الليل، وتفارقنا وكأن حبل المودة بيننا ممدودة من ~~عشرين سنة، وتواعدنا اللقاء ما تهيأ لنا، وكذلك استمكن الإلف، واستوثقت حبال ~~الود، فما نتفارق إلا على موعد من لقاء قريب، ولقد أعيش معه اليومين والثلاثة ~~نقرأ عامة نهارنا وصدرا من ليلنا كتبا، أو نتذاكر أدبا. # وكان ممن يختلفون إلى داره مغرب الشمس عادة بعض أقطاب العلم وأصحاب الرأي ~~والبيان والبداءة المواتية، وأذكر منهم المرحومين: عمه السيد عبد السلام ~~باشا المويلحي (سر تجارب مصر)، والسيد محمد توفيق البكري، والشيخ علي يوسف، ~~بعد إذ تصافت القلوب مما كان علق بها من الأضغان، والسيد محمد البابلي، ~~ومحمد بك رشاد، وحافظ بك إبراهيم، وعبد الرحيم بك أحمد، وحافظ بك عوض، والسيد ~~عبد الحميد البنان، أحياهما الله أطيب الحياة؛ وخذ ما شئت في أثناء هذه ~~المجالس من أدب رائع، ومن نادرة طريفة، ومن حاضر نكتة قل أن تسخو بمثلها ~~الأذهان. # ولقد كنا نقضي معا عامة الصيف في مدينة الإسكندرية، ولعل من أسعد هذه ~~الأصياف ذلك الذي قضيناه معا في فندق في ضاحية المكس خالصين للرياضة ~~ومراجعة الكتب في مختلف الآداب، لا ننحدر إلى صلب المدينة إلا لقضاء سهرة ~~مونقة مع آثر الصحاب، كما عشنا ms192 معا في شتاء سنة 1911 و1912 بضعة أشهر في ~~دار استأجرناها في حلوان. # وفي سنة 1910 قلد في ديوان «عموم» الأوقاف منصب رئيس قسم الإدارة ~~والسكرتارية، وفي يناير من سنة 1911 عينت في «قلم السكرتارية»، وللمويلحي ~~في هذا التعيين سعي غير منكور، وبهذا أصبح لي رئيسا، كما كان لي أستاذا ~~وصديقا. # ولقد ظل الود بيننا موصولا حتى قبض إلى رحمة الله. # نشأته ودراسته # هو السيد محمد المويلحي بن إبراهيم بك بن السيد عبد الخالق المويلحي، أصلهم ~~من مرفأ المويلح ببلاد العرب، هبط جدودهم مصر من زمن غير قصير، وكانوا يتجرون ~~في صناعة الحرير؛ وهم أهل نعمة وثراء، ولقد أتلف أبوه إبراهيم كل ما كان ~~في يده من الأموال، فلم ينزلق عنه لبنيه إلا نطاف من الاستحقاق في بعض ~~الأوقاف. # وما أحسب محمدا تجاوز في الدراسة المنظمة التعليم الابتدائي، ثم جعل ~~يتعلم على أبيه، ويكب على قراءة الكتب في العلوم والآداب، ثم اتصل ~~بأئمة العلماء وأقطاب أصحاب الأدب، من أمثال السيد جمال الدين الأفغاني، ~~والشيخ محمد عبده، والشيخ حسين المرصفي، ومحمود باشا سامي البارودي، وغيرهم من ~~أعلام عصره، فحذق العربية وبرع فيها، وجود البيان أيما تجويد، وهيأ له ~~جده واضطرابه في أسفاره بين الشرق والغرب تجويد اللغات الفرنسية، ~~والتركية، والإيطالية؛ كما أصاب حظا من الإنجليزية واللاتينية، وكان كثير ~~القراءة إلى غاية الممات، فلا تكاد تقتحم عليه إلا رأيته يعالج بالتنسيق ~~حديقته، أو يقرأ في كتاب عربي، أو في كتاب يجري في إحدى هذه اللغات. # ولقد سألته ذات يوم عن أحسن الفرص التي هيأت له أعظم حظ من العلم، ~~فقال: كنت في الآستانة في ضيافة رجل فاضل يدعى سليمان أفندي، وكانت عنده ~~خزانة كتب تعد من أفخر خزائن الكتب الأهلية، فلبست ثيابي ذات عشية ~~تأهبا للخروج كعادتي لأسهر في بعض ملاهي المدينة؛ وتفقدت كيسي فإذا هو ~~صفر من الدرهم، فنضوت ثيابي ثانية وقلت باسم الله، ولبثت ~~عاكفا على قراءة الكتب، لا أبرح هذه المكتبة إلا للنوم أو لغيره من حاجات ~~الحياة، وظللت على هذه الحال ms193 ستة أشهر وبعض الشهر، حتى أذن الله ~~بالفرج، وجاءني من المال ما هيأ لي استئناف الحياة مع الناس! # ومن يعرف صبر المويلحي، وشدة حمله على نفسه، لا يستطيع أن ينكر منه هذا ~~المقال؛ وسألم إن شاء الله بهذه الخلة العجيبة فيه عند الكلام في عاداته ~~وأخلاقه، وحسبي هذا الآن، فقد أطلت الحديث؛ وإلى الملتقى القريب. # تتمة في نشأته ودراسته # لقد عرفت مما قصصنا عليك أن هذا الرجل وإن نشأ عظاميا بما لبيته ~~من الغنى والحسب، فقد نشأ عصاميا بما حصل من العلم والأدب، اتكأ على ~~نفسه فأكب على الكتب داثرها ومجفوها، ولعل أكثر نظره إنما كان في كتب ~~التاريخ والسير، ولو قد وقع لك صدر من آثار أبيه وآثاره لرأيت لهما في ~~مواطن الاستشهاد فطنة عجيبة إلى دقائق دقيقة، مما يعلق بزوايا التاريخ أو ~~بحواشيه، قل أن يفطن لها أكثر القارئين، وقل أن يحفل بها أو ~~يعلقها من يفطن إليها من الدارسين، على أنها قد يكون لها في دواعي الكلام ~~مقام عظيم، وكثيرا ما ترفعه درجات على درجات. # كذلك اعتمد محمد في تحصيل العلم والآداب على الاتصال بصدور أهل الفضل، ~~يصاحبهم ويلابسهم، ويلازم مجالستهم، ويشهد محاضراتهم ومقاولاتهم، كذلك داخل ~~رجال الحكم وأصحاب السياسة في مصر وفي الآستانة، فعرف أساليبهم، وأدرك ~~مذاهبهم، ولم ينكسر على هذا وهذا؛ بل لقد صاحب كذلك أهل الظرف وأصحاب ~~البدائه، وشاركهم في أسمارهم، ودخل في مناقلاتهم ~~ومنادراتهم. # وعالج البيان من صدر شبابه، يصقل له أبوه القول، ويقرب له مصطفى ~~اللفظ، ويأخذه بتجويد النسج، ويهديه إلى مضارب القلم، وسرعان ما نضج ~~وأدرك، وجرى قلمه بالبيان حلوا متينا نيرا، ووقع من فنون ~~المعاني على أجلها وأكرمها، ونهج لنفسه أسلوبا خاصا به، إن ~~تأثر فيه بأحد، فبالأسبقين من أعلام الكتاب، فكان منه بذلك كله ~~الأديب التام. # واحترف صنعة القلم، واشترك في تحرير جريدة المقطم بضع سنين على ما أظن، ~~ولا أحسبه قد شارك أباه في تحرير الصحف التي أخرجها في عهد الخديو «إسماعيل»، ~~فتاريخها إن لم يكن أبعد من ms194 مولده، فهو أبعد في أرجح الظن من حمله ~~القلم، والله أعلم! # وكان أبوه رحمة الله عليهما، كثير الاختلاف إلى الآستانة مثوى الخلافة ~~يومئذ، فكان يصحبه في بعض الرحلات، وقلد إبراهيم بك في زمن السلطان ~~عبد الحميد منصب المستشار لوزارة المعارف العثمانية، وأقام فيه بضع سنين، ~~لعلها تسع إن صدقتني ذاكرتي: فقضى محمد في الآستانة هذه السنين. # ولما اعتزل إسماعيل باشا إمارة مصر، وآثر المقام في إيطاليا، دعا بإبراهيم ~~بك ليؤنسه ويسامره ويخدمه في بعض مساعيه عند السلطان، فحمل معه ~~ولده وأقاما في نابولي في قصر إسماعيل بضع سنين، ومن هنا تدرك كيف ~~حذق محمد لغة التليان. # ولقد طاف محمد كثيرا ببلاد أوروبا، إما موفدا من أبيه في بعض مساعيه، ~~وإما متفرجا متنزها، وله في وصف مؤتمر باريس سنة 1900 مقال بارع ~~بديع، كان ينشر منجما في مصباح الشرق، # 7 # وطاف كذلك بالبلاد السورية، وزار المدينة المنورة، ووصف القبر ~~الشريف أحسن وصف وأبدعه، ونشره في جريدة المؤيد. # 8 # واستقر المويلحيان أخيرا في مصر ما يبرحانها إلا للنزهة والرياضة، وأصدرا ~~صحيفة «مصباح الشرق»، وقد مرت بك صفتها في أول مقال، ثم طواها كما ~~ذكرت لك، واعتكف محمد في داره لا يلي عملا عاما، حتى عين في سنة ~~1910 رئيسا لقسم الإدارة والسكرتارية في ديوان «عموم» الأوقاف، وأزيل عن ~~هذا المنصب بعد إذ قامت الحرب العظمى، وتبدلت الحال، لأسباب لا يحتمل ~~ذكرها هذا المقال، فعاد إلى اعتكافه لا يتدلى إلى البلد إلا في قضاء حاجة، ~~أو مساهرة من يستطيب مجالستهم من الصحاب، وظل كذلك إلى الشكاة ~~التي مات فيها، عليه رحمة الله، وكانت وفاته في يوم 10 مارس سنة 1930. # أخلاق المويلحي وعاداته # قبل أن أطرق هذا الباب من سيرة الرجل، يحسن بي أن أقرر أنه لم ~~يكن على حظ من نطاقة اللسان؛ بل لقد كان يعتريه في بعض الحديث ما يشبه ~~الحبسة؛ بل لقد تتعثر الكلمة في حلقه فلا يستطيع أن يلفظها إلا ~~بمط عنقه، كأنما يمرئ لها مجرى الصوت. # ومن أهم ما يلفت النظر في خلاله، أنه ms195 كان أقل خلق الله تأثرا ~~بما يغمر المرء من متعارف الناس ومصطلحهم في عاداتهم وتقاليدهم ~~وسائر أسبابهم؛ بل لقد كان له نظره الخاص في الأشياء، وكان له حكمه ~~الخاص عليها، وهو إنما يأخذ نفسه بما يصح عنده من هذه الأحكام، لا يبالي ~~أحدا؛ ولا يتأثر كما قلت بأثر خارجي، ولو كان مما انعقد عليه إجماع ~~الناس، وإذا كنت قد نعته «بالفيلسوف» فإنما أعني هذه الصفة فيه، فإنني ~~لم أكد أرى رجلا لاءم كل الملاءمة بين رأيه في أسباب الحياة، وشدة تحريه ~~أخذ النفس بأحكام هذا الرأي، كما بان لي من خلة هذا الرجل، بحكم ملابستي ~~له السنين الطوال. # ولقد كانت له آراء في كثير من الأشياء لقد تبدو غريبة، حتى يظن أن في ~~طريقة تفكيره شيئا من الشذوذ والانحراف، وما أحيل هذا إلا على أنه لا ~~يخف لمطاوعة الناس في كل ما يستوي من الإدراك للناس! # ثم لقد كان رجلا يرجح عقله ذكاءه، وإنه ليحتاج في تفهم دقائق ~~المعاني إلى شيء من المطاولة والتدبير، على أنها بعد هذا تتسق لذهنه مدركة ~~ناضجة، لا كما تخطر لحداد الذكاء «خطرة البرق بدا ثم اضمحل»! # كذلك كان مما يلفت النظر في شأن المويلحي أنه شديد الاستيحاش من الناس، ~~فلا تراه يستريح بالحديث إلى من لا يعرف منهم ولم يألف، ولقد يكون في مجلس ~~يجمع الصفوة من خلانه، ومعهم رجل لا يعرفه، فإذا هو يفتر وينقبض حتى ~~يكاد «يوحش في المجلس»، وعلى هذا لقد كان يكره بالطبع الدخول في زحمة ~~الناس، والترائي للجماهير، وما إلى هذا من مقتضيات الظهور. # ومن أجل صفات هذا الرجل حدة العزم، وقوة الصبر، وشدة الحمل على النفس، فما ~~إن رأيته يوما شاكيا ولا مظهرا للبرم بالحياة مهما كرثه تصرف ~~الحياة، ولقد يكثر المال في يده فيبسطها، إلى ما يقرب من السرف في ~~النفقة في حاجاته، وإصابة ما يحلو من المتع واللذائذ، ولقد يرق المال في ~~يده فيلزم داره الشهرين والثلاثة لا يبرحها أبدا، متجملا في عامة ~~شأنه بما عنده ms196 مهما يبلغ من القلة، لا يسأل أحدا عونا، ولا يطالع ~~الصديق بحاجة. # كذلك كان من أجل صفاته الصدق في القول، ولقد عاشرته ما عاشرته، ~~فما أذكر - والذي نفسي بيده - أنني أحصيت عليه كذبة واحدة قط، ولا من ذلك ~~النوع الذي يتورط فيه المرء في مصانعة الناس ومجاملتهم، فإن ألحت ~~التقاليد عليه في شيء من هذا سكت أو ورى، ولقد أذكر أنه قابل ولي ~~الأمر الأسبق في يوم من أيام رمضان، فسأله: أصائم أنت يا محمد بك؟ فأجاب من ~~فوره: «والله ما أكذبش عليك يا أفندينا!» فضحك ملء شدقيه من هذا ~~الجواب! ~~••• # ثم لقد كان رحمه الله شديد العناية بالنظافة في جميع ملابساته، متأنقا ~~عظيم التأنق في كل شيء، يحب الزهر ويكلف به، ويحسن تأليفه وتصنيفه، ولا ~~يمس إلا أزكى العطر وأغلاه. # وكان شديد الاحتفال للطعام، مبالغا في التأنق فيه؛ ولربما طالع طاهيه ~~المرات الكثيرة في مطبخه، يتقدم إليه بأن يفعل بهذا اللون كذا وكذا، ويصنع ~~بتلك الصحفة كيت وكيت، وهو بهذا حق خبير، فإذا قرب إليه طعامه اجتمع له ~~اجتماع شهوان يلتذ به أيما التذاذ، على أنه مع هذا كان حسن المأكل، ~~يلتزم في تناوله وإزلاقه أعلى الآداب. # وكان رجلا طبا، كأن طول تمرينه في النقد الكتابي قد طبعه على النقد في ~~كل شيء، وأنضج ملكته فيه، فلا تراه يتخذ شيئا في أي سبب من أسبابه ~~إلا إذا فحص ونقد وتخير، فما يكاد يخدع على أمر أبدا! # وهو بعد يحب النكتة البارعة ويحتفل لها، على أنه إذا وصل المجلس بينه ~~وبين أصحابه ممن حذقوا هذا الفن وبرعوا فيه، من أمثال المرحومين السيد محمد ~~البابلي، ومحمد بك رشاد، ومحمد بك رأفت، لم يكن في الغالب هو المنشئ للنكتة ~~والمبتكر لها، ولكنها ما تكاد تسقط من فم غيره حتى يتولاها بالتخريج والمط ~~والتوليد والتلوين، فما ينتهي أحد في ذاك منتهاه. # ومهما يكن من شيء فإن هذا الرجل كان من أوسع الناس علما بطباع المصريين ~~وأخلاقهم وعاداتهم ومداخل أمورهم، على اختلاف طبقاتهم وتفاوت ms197 مراتبهم، ~~فإذا تحدث في هذا الباب فحديث المتمكن الخبير. # ومما ينبغي أن يذكر له، ويختم به هذا الحديث، أنه رجل لم يجد ~~الإلحاد ولا الزيغ إلى قلبه السبيل؛ بل لقد كان مؤمنا شديد الإيمان بالله ~~وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، والحمد لله رب العالمين، فإن ~~رأيت منه شيئا من الانحراف في تخريج مسألة جزئية من مسائل الدين، فأحل ~~الأمر على مجرد الخطأ في الاجتهاد والتأويل. # رحمه الله رحمة واسعة، وغفر لنا وله، وأحسن جزاءه في دار الجزاء. # | عزاء1 # كتب يعزي كبيرا في بنية له: # لا قوة إلا بالله، ولقد خبرتك يا سيدي دهري الأطول، فإذا رأس لم ~~يطأطأ لعظيم، وإذا قلب لم يهن في يوم الروع، وإذا ساق لم ~~تنخذل من دون أفدح الأعباء، فكيف كانت حالك يا سيدي يوم التمست ~~زهرتك الناضرة فإذا قد عراها الذبول، واستقبلت شمسك الساطعة فإذا قد ~~لحقها الأفول، أفترى عزمك قد تضعضع، وقلبك قد تصدع، ~~ورأسك قد ألقي إلى كفيك فلا تسمع بينهما إلا زفرة، ولا ترى ~~إلا عبرة تترقرق في عبرة؟ # وا رحمتا لك، فقد طالما كبرت على غبر الدهر، وشمست على أحداث ~~الليالي، فلم يزدك امتحان الزمان إلا شدة على الشدة، وقوة على ~~القوة؛ ولم يزدك جلاد الأيام إلا صبرا على الجلاد، وعزما في ~~الكفاح والجهاد، حتى كان قضاء الله في بنيتك، فسرعان ما سلمت ~~لقضاء الله، ووهت قوتك كلها حين لا قوة إلا بالله. # ولو كان للموت قلب لكنت آخر من يعتدي الموت على قلبه، فإن ~~عظيما أن يجرح آسي الكلوم، والدافع عن ظلامة المظلوم، والقائم ~~طول العمر في وجه الأقوياء الطغاة، ذيادا عن حقوق الضعاف العفاة، ~~والباذل كل مواهبه العظام في سبيل الوطن وفي سبيل الله! # ليس في الموت حيلة إلا أن يعين الله على بلائه بالصبر وجميل العزاء، ~~ثم يثيب من فضله عليهما بالأجر وحسن الجزاء، وقد حق لك يا سيدي الرئيس ~~أن تظفر في الأولى بالصبر الجميل، وأن تفوز في الأخرى بالأجر الجزيل، ~~والسلام عليك ورحمة الله ms198. # | تعزية صديق لصديقه1 # إلى صديقي الدكتور بيومي # لقد ضربك الدهر فأدمى، وطعنك فأصمى؛ واعتمد أزكى زهرة في يدك ~~فاقتطفها اقتطافا، وأكرم درة في بيتك فاختطفها اختطافا، ~~ولطالما تألقت فيه نورا، ولطالما سطعت فيه أرجا وعبيرا. # وإن صديقك الذي أنقذت في الله والمودة ولده، لحقيق بأن ينخلع فؤاده ~~بما عصف الدهر بولدك، فجمل الله يا أخي صبرك، وأجزل فيه أجرك، ~~والسلام عليك ورحمة الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. # صديقك المخلص # | من صديق1 إلى الدكتور نجيب بك ~~(باشا) محفوظ # لقد عشت عمرك عظيما جليلا، ويأبى الدهر إلا أن يكون مصابك عظيما ~~جليلا. # وإذا كان القدر إنما يمتحن الناس على قدر ما رزقوا من فضل وصدق ~~وعزم ، وقوة صبر ووثاقة حلم؛ فما أروع رأي القدر فيك حتى امتحنك بهذا كله! ~~وكيف الحيلة في ذلك؟ وذلك تقدير العزيز العليم! # يا صديقي # لقد أجرى مصابك في كل محجر دمعة، وأذكى في كل صدر لوعة، وكان له على كل ~~حشا غمزة، وفي كل قلب وخزة، وأقام في كل دار مناحة، وبسط في كل مكان ~~مأتما، وشده الناس من هول المصاب، وزاغت أبصارهم حتى كأنما دعوا ~~لساعة الحساب، فاللهم رحمة ولطفا، واللهم رأفة وعطفا. # لقد شاعت هذه الفاجعة حتى أصاب كل سهمه، واحتمل كل قسمه، فالله ~~تعالى أكرم من أن يختصك بهذا كله، فبعض هذا مما لا يقوى على حمله ~~إنسان! # ألهمك الله من التصبر ما يكافئ مصابك، ومن التعزي ما يؤاسي كلومك ~~وأوصابك. اللهم آمين. # | مسكين!1 # كتب تحت هذا العنوان يعزي عزيزا في عزيز: # لست أرى امرءا أحق بالشفقة وأولى بالرحمة من هذا الذي قدر لنفسه ~~طول السلامة ودوام الأمن، فلم يدخل قط في حسابه صروف الأقدار، ~~ولا ما عسى أن يجيء به الليل والنهار، حتى إذا امتحنه الدهر في نفسه ~~أو في ولده، أو في أحب الناس إليه من أهله وغير أهله، انخلع قلبه، ~~وكاد الهلع يأتي عليه؛ ورأى أن صبره أوهن من أن يحتمل ~~الرزيئة، وجلده أرق من أن يصمد لما حاق ms199 به من البلاء! # وطول الجزع إذا لم يورث العلة ويخلف الداء، فإنه قمين ~~بأن يكدر العيش ويخبث النفس، حتى لا يكاد المرء يرى في هذه ~~الدنيا إلا ظلاما ووحشة ومنكرا ومكروها، وماذا لعمري وراء ذلك من ~~مفسدات الحياة؟ # كل هذا من ركون الإنسان إلى موادعة الدهر، والتفاته عن مواقع محنه ~~ورزاياه، ولو قدر هذا وأعاره صدرا من لحظه، وأولاه شطرا من ~~تقديره، لأخذ نفسه بالاستعداد لكل ما عسى أن يكون: فراضها على ~~احتمال المكروه، وطامنها إلى أن الإنسان ما دام قائما في هذه الحياة فهو ~~هدف لأحداث الزمان، فإذا وقعت الواقعة كان من القوة والجلد ~~والتمنع بحيث لا يهده الجزع، ولا يقوضه الحادث الجسام. # اللهم إنه لا عذر لنا في الغفلة عن صروف القدر، والاستراحة إلى موادعة ~~الأيام، وهذا الدهر - من يوم كان الدهر - لا يزال يرمي بسهامه دراكا عن ~~أيماننا وعن شمائلنا، ومن قدامنا ومن ورائنا؛ فلا يطيش له سهم أبدا، ~~فلماذا نقدر لنا نحن السلامة والأمن والعافية على طول ~~الزمان؟ # هذا الموت! ومن ذا الذي سلم على الموت، ومن ذا الذي سيسلم على الموت؟ ~~إليه مصير كل حي، ولا حيلة فيه أبدا # كل شيء ~~هالك إلا وجهه # تعالى الله، # إنك ميت وإنهم ميتون # صدق الله ~~العظيم. # ومع هذا فإذا جاء هذا الحق الذي لا ريب فيه، والذي لا مفر لأحد منه، ~~فامتحننا في ولد أو في قريب أو في حبيب، تصدعت كبودنا، ~~وتفرقت أحشاؤنا وطارت كل مطار أحلامنا، واشتد إنكارنا لهذا ~~الموت كأنه لم يكتب قط علينا، وكأن القدر قد ضمن لنا السلامة عليه، ~~وكتبنا دون الخلق جميعا في سجل الخالدين! # يا ويلنا من غفلتنا! يا ويلنا من إحسان ظنوننا بالأيام! # ليس الزمان هو الذي يخدعنا، ولكنا نحن الذين يخدعون أنفسهم عن صرف ~~الزمان! وإننا لنجزى على هذه الخديعة جزاءنا الأوفى، إذ نضاعف ~~بمصيبة الروع والهلع مصيبة الفقد والحرمان! ~~••• # لا تجزع يا أخي ولا يسرف فيك الأسى، وما خيرك في أن تتلف ~~وتتلف أنفسا معك، على حين لا ms200 تجدي بذاك حيا ولا ~~ميتا؟ # خذ نفسك بالصبر، وكلفها التجلد، وألق مصابك بالعزم الشديد؛ ~~فذلك الأخلق بالرجال، لا أسألك يا أخي ألا تحزن، ولا أريدك ألا تبكي، ~~فإنني بهذا أجشمك ما ليس في الطباع، وأريدك على ألا تكون لك عاطفة ~~تترقرق، وكبد تحن، ولب يسيل بالذكرى، وعين تتبادر ~~بالدمع على من ذقت فيهم لوعة الفراق! # بل ابك، فمن الدمع ما أسكن من وخز الحشا، ومن الدمع ما ~~أهدأ من غمز الكبد، ومن الدمع ما أبرد من لوعة ~~الملتاع. # ابك، ولكن بكاء رقة ورحمة، وشتان بين عين تذرف الدمع من شدة ~~الهول والهلع، وبين عين تفيض بالدمع من الرحمة والحنان! # ولعلك في لوعتك وشدة ولهك ذاكر قول كثير: # فقلت لها يا عز كل مصيبة # إذا وطنت يوما لها النفس ذلت # أعانك الله يا أخي، وشد بالصبر عزمك، وثبت بالإيمان قلبك. # إنا لله وإنا إليه راجعون. # | إسماعيل1 # لقد نفضنا أيدينا من ترابه، ورجعنا عنه منهزمين بين يدي ~~القدر. # وا رحمتاه! أيدري الناس ماذا صنعوا اليوم؟ لقد كفنوا الجمال كله في برد، ~~وأودعوا الأدب أجمعه في لحد، وراحوا من بعده سكارى وما هم بسكارى ولكن ~~الخطب فيه جليل. # إسماعيل! أين ذلك العلم الذي برعت به الأقران، وأين ذلك الفضل الذي ~~أوفيت به على مقدور الزمان، وأين تلك الشمائل، كأنما قدت من الورد ~~والأقاحي، وأين تلك الخلال قد استعيرت من نسيم الصباح؛ وأين هذا العقل ~~والذكاء، أين هذا الأدب والحياء، أين هذا الإخلاص والوفاء، أين هذا البر والسخاء، ~~أين تلك الهمة القعساء، أين تلك العزمة التي أنافت على الجوزاء؛ أين رجاء للأمة ~~بك مرصود، أين أمل للوطن فيك معدود؟ كل هذا كان يستجمه الدهر للموت يا ~~إسماعيل؟ # لقد سخت الدنيا بك سخاء # لم يسمع بمثله في سالف الأيام # برزت يا إسماعيل إلى ميدان الحياة فتيا مقداما، لم تنخذل لك فيه ساق، ~~ولم تصطك لك كسائر الناس قدم، بل أبت عليك تلك العزمة الهائلة الجريئة ~~إلا أن تقطع الشوط كله بوثبة واحدة، فبلغت المدى في ms201 مثل طرفة العين، وماذا ~~بعد الحياة إلا الموت يا إسماعيل؟ # حسب الناس إذ رأوك أن سنة الحياة قد تبدلت في الخلق، وأن النبوغ ~~جميعه يمكن أن يتهيأ للمرء في فجر العمر، وما دروا أن نفسك العبقرية هي التي ~~كانت تطير في العمر حتى تناولت آخره، فمت شيخا وأنت بعد في ميعة الصبا ~~وباكورة الشباب. # لقد قضيت أيامك القصار الطوال، في حرب مع المنية ونضال، فما صارعت في ~~حماك مريضا إلا صرعتها، ولا قارعت بين يديك عليلا إلا قرعتها، حتى ~~أصابتك من مأمنك، وعمدت إليك في المعركة وأنت تستخلص من لهوتها نفسا فرمتك ~~بتلك اليد العسراء، فرحت الشهيد الكريم شهيد العلم والمروءة والوفاء. # لقد رماك الدهر بالأرزاء يافعا ، فاضطلعت بحملك الثقيل صابرا، ومضيت ~~لطلبتك العظيمة في الحياة، تقتحم إليها العقبة بعد العقبة، ضاحك السن، طيب ~~النفس، حتى إذا جزتها كلها، وانطلقت الآمال تهيئ لك ذلك المكان ~~الرفيع الذي يعتليه المقاديم النابغون، إذا بيد القدر قد سبقت فمهدت لك ~~هذا المضجع في جوانب القبر، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! لهفي عليك! ~~أي عين لم تدمع، وأي نفس لم تجزع، وأي كبد لم تتصدع، وأي يقين لم ~~يتزعزع؟ # لقد كان يدعى لابس الصبر حازما # فأصبح يدعى حازما حين يجزع # تلك حيلة الناس في عزائك، لو كان يلتمس في مثل رزئك السلوان، فاللهم أفض ~~على عيوننا من الدمع بقدر ما يشب في قلوبنا من لوعة أسى، ويذكو في صدورنا من ~~حرقة جوى، فتلك على «ضيائي» نعمة الصبر والعزاء. # يا من خلقت الدمع لط # فا منك بالعبد الحزين # بارك لعبدك في الدمو # ع فإنها نعم المعين # | محمد بك أباظة1 # من شاء أن يعرف الصرح كيف يتهدم، والطود كيف يتحطم، والجمال كيف يحول، # 2 # والزهر كيف يلحقه الذبول، والبدر ~~كيف يدركه الأفول؛ فهذا مصرع محمد بك أباظة فيما دون ردة الطرف، لقد كان ~~مصرعه آية من آيات الله على أن القوة لله جميعا. # كان محمد شديدا في عقله، شديدا في ذكائه، شديدا في خلقه ms202، شديدا في ~~خلقه، شديدا في صراحته، شديدا في وفائه، يرى أن أسباب الحياة دون أن ~~يستخذي لها، فكان لا يصيبها إلا قوة وغلابا، لا ورعا # 3 # في إقدامه ولا هيابا، حتى إذا ~~جاء أمر الله تلقاه مطيعا، ومضى إليه سريعا، لم تغن عنه قوته كلها فإن ~~القوة لله جميعا. # لقد ضننا بك يا محمد على الموت، وضن القدر بك على الحياة، فلم يكن ما ~~أردنا ولكن كان ما أراد الله. # وا رحمتا لك: أهكذا تهوي البدور، أهكذا تغيض البحور، أهكذا تزلزل شم ~~الجبال، أهكذا يخترم غطاريف الرجال، أهكذا تعدو المنية على ذخيرة أمة ~~وعدة آمال؟ # وا حسرتا عليك: يطويك الردى أكمل ما تكون بدرا، أفكرهت فسحة ~~العيش خشية أن يدركك السرار، ولمصر فيك أوطار كثار: أم هكذا جرى على ~~مصر حكم الأقدار، فلا ينجم فيها فتى إلا عاجلته بالتلف والبوار؟ # لقد أتعبت الوسائل في خطبك، فجللت على الرثاء، وتعاظمتني فيك أسباب ~~العزاء، ولو كان منك عوض لاطمأن الصبر على فقدك إلى جزاء. # فاللهم رفقا بالبلاد، واللهم لطفا بالعباد، إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا ~~لموتك يا محمد لمحزونون. # | محمود باشا سليمان1 # قضى محمود باشا سليمان فطويت صحيفة حفيلة بالعظائم في تاريخ مصر الحديث، ~~وليست تتسع مثل هذه «اليوميات» لترجمة مثل هذا الراحل العظيم الذي كان آخر عهدي ~~برؤيته غاية ربيع سنة 1923، وإني لمحدثك عنه في هذا العهد حديثا يسيرا ما ~~كنت لأفضي منه بما يتصل بولده وهو ثابت في الحياة. # كنت مفتشا في وزارة الحقانية سنة 1923، وبدل الحكم غير الحكم، ~~ورأت الوزارة الجديدة، لسبب لا أعلمه إلى هذه الغاية، أن تقصيني إلى ~~أسيوط، حيث ولتني عملا تافها أشبه بلا عمل، فكنت أتحين أيام ~~الفراغ من الأسبوع فأقضيها عند محمود باشا سليمان في ساحل سليم. # وكان رحمه الله ينام مبكرا، ويهب من نومه في السحر، فيتوضأ ويتهجد إلى أن ~~ينصدع الفجر فيقوم لصلاته، فإذا ختمها أخذ في ذكر الله تعالى من تلاوة ~~قرآن، إلى أوراد مشهورة، وأدعية مأثورة؛ حتى إذا بلغ من ms203 هذا ما شاء الله أن يبلغ ~~قربوا إليه لمجة # 2 # خفيفة، فأصاب منها يسيرا، فإذا ~~فصحه النهار نهض لرياضته، فمشى ساعتين كاملتين خفيفا يجول في حدائقه الواسعة، ~~ويتجاوزها حتى يطلع على سيف النهر، وهكذا إلى أن يتم نصاب الرياضة. # ولقد كنت أصحبه أحيانا، فإذا مشينا أخذ بأطراف الحديث، فكان حديثه ~~كقطع الروض قد طله الندى. # وانظر بعد هذا إلى دفة هذا الرجل العظيم وكرم شمائله: لقد كان رحمه الله ~~يراني شابا غريبا ليس لي هناك من لداتي من آنس بهم، وأستريح بألوان ~~السمر إليهم؛ فيأبى - على جلالة محله - إلا أن يتبسط معي في فنون القول، ~~فيقص علي نوادر من حضرهم من مشيخة الأدباء، أمثال المرحومين الشيخ ~~القوصي والشيخ علي الليثي ، ويروي الطريف من أشعارهم وأزجالهم، وأجل ما ~~انتضحت به قرائحهم في محاضراتهم ومناقلاتهم؛ فتزول وحشتي، ويغمرني الأنس، ~~حتى لأحسبني في مجلس رفقة من الشباب الفاره، وهو على هذا ما يبرح حدود ~~الواجب لسنه ووقاره وتاريخه الجليل، وبذلك أيضا استدرجني لمسامرته والتسرية عنه ~~بما يحضرني من ملح ونوادر وأفاكيه، مما لا ينشز على مثل مجلسه ~~الكريم. # وما برحت له في تلك السن فطنته القوية، وعينه العالية، واتصال ذهنه من ~~الأسباب العامة بكل دقيق، فكان إذا جاء البريد بالصحف السيارة قرأها بنفسه واحدة ~~بعد أخرى، حتى يأتي عليها جميعا، وكان قد اعتزل السياسة، ولكنه لم يستطع أن يعتزل ~~الرأي، فإذا وقع له في إحدى الصحف حديث لا يرى للبلد فيه خيرا صاغ الكلام في صورة ~~استفهام يريك ظاهره أن الأمر لا يشغله ولا يعنيه، فإذا فتشته أصبت فيه كل ~~صدق الرأي وكل حكمة الحكيم. # وقلت له ذات يوم: ألا تهبط يا باشا مصر فتقضي في «ذهبيتك» أياما كسابق عهدك؟ ~~فرأيت الدمع يترقرق في عينيه، وقال: ومع من أجلس يا بني؟ لقد مات قرنائي وأصحاب ~~عمري، فأنا لا أجدني في أبناء هذا الجيل إلا غريبا! # وإليك مثلا واحدا من شفقته بولده، وشدة عطفه عليهم، وإيثاره لهم: دعوت له ~~مرة - وقد جرى حديث الصحة والمرض ms204 - بطول العمر ودوام العافية، فانتفض انتفاضة ~~شديدة، وقال: لقد كنت أحسبك يا فلان تحبني! فدهشت من هذا السؤال، وقلت له: ~~وكيف رأيتني يا باشا لا أحبك، وأنا أدعو لك بطول العمر ودوام العافية؟ فقال: بل ~~ادع لي بأن يلحقني الله عاجلا بالدار الآخرة، فلا يمتد بي الأجل حتى ~~أشهد مكروها في ولد من بني أو في أحد أبنائهم. # 3 # الله أكبر! ... # سيذكرون في نعي محمود باشا سليمان إيثاره لبنيه، فلقد خرج لهم حيا عن كل ما ~~ملكت يمينه، وما دروا أنه آثرهم بما هو أعز من المال، لقد آثرهم ~~بالحياة! # | والرجال قليل!1 # راغب بك عطية # 2 # إلى صديقي محمد راغب بك # وا رحمتاه لك: لئن فقد الناس بالأب واحدا لقد فقدت فيه أيها الحزين ~~الواله اثنين: أبا وأخا معا: أبا يكاد من حدب يخلع شغاف قلبه على ~~وليده، ويعتصر من الحنان كبده ليفيضه على طفله وحيده، ولو تهيأ للأجسام أن ~~تتبخر لاستحال جثمانه عطفا عليك، وترقرق في الأثير حنانا ~~إليك. # وإذ تستوي في الدنيا فتى لا يراك إلا أخا يماده أوثق أسباب الإخاء، ~~وصديقا يصفيه أحلى علائق المودة والولاء. # وحين تعلو به السن، ويلحقه الوهن، وتتداخله الأسقام من كل جانب، لا يتمثل فيك ~~إلا الأب يعوذ به ولده كلما أدركه العجز أو أصابه المكروه من أي ناحية، ~~فكنت للوالد البر: الوالد العطوف الحنان، فقارضت عطفا بعطف، ~~وبادلت برا ببر، وقضيت الدين خير القضاء، ووفيت الحق ~~وأغليت الوفاء. # ولقد مضى أبوك، وما أحسبه وهو متقلب في رضوان الله إلا راثيا ~~لشانك، حزينا لبكائك وأحزانك، حتى ليصح فيكما قول الشاعر: # لو كان يدري الميت ماذا بعده # للحي منه بكى له في قبره # غصص تكاد تفيض منها نفسه # ويكاد يخرج قلبه من صدره # وا رحمتاه لك! إن عذابك لأشد من كل عذاب، وإن مصابك لأجل من كل ~~مصاب. # لست أسأل لك يا صديقي اليوم سلوا، فهيهات لي أن أطلب المحال، ولا أسأل ~~أن يرقا دمعك، فالله تعالى أرأف من أن يكظم هذا الأسى كله في ms205 ~~صدرك، فإن جمود العين في مثل ما أنت فيه من العي بالبكاء، وهو أشد ~~من عي اللسان بالكلام، بل إني لأدعو الله أن يفيض شئونك حتى يروح عن ~~هذه الروح المجروحة، ويفرج عن هذه الكبد المقروحة. # لم يخلق الدمع لامرئ عبثا # الله أدرى بلوعة الحزن # وهكذا الدنيا، ما سقت حلوا إلا أعقبته مرا، ولا بسطت ~~عرفا إلى وهي تطوي فيه نكرا! فكل ما تقلبت فيه من ذلك الحنان ~~العذب، لقد بات ذكرى تخز الكبد وتحز في القلب، كان الله في عونك يا ~~أخي، فما يصبر أحد على ما تجد، إلا بعون من الله ومدد. ~~••• # أما المصيبة في أبيك رجلا عظيما شأنه، جليلا في البلاد خطبه، فهذه ~~تتقسمها الأمة كلها ، لا تستأثر بها وحدك، فلقد كان رحمه الله ~~رجلا حق الرجل: سعة علم، ووثاقة حلم، ونصاحة رأي، وشدة عزم، وسلاسة طبع، ~~جم التواضع، فإذا ما دعا داعي الكرامة، كان أشمس من أسامة. # 3 # وحسبك عزاء فيه أن عاش كريما وفيا أبيا، وهذا تاريخه الضخم يتألق ~~فخرا، وتعتد سيرته في البلاد عدة وذخرا. # وصل الله في عمرك، وأدام منك أفضل خلف لأفضل سلف، والسلام عليك ~~ورحمة الله. # | أحمد عبد الوهاب1 # طوى الجزيرة لما جاءني خبر # فزعت فيه بآمالي إلى الكذب # حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا # شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي # من كان يظن أن يذوي الغصن إبان إيراقه، وأن يذبل الزهر ساعة إشراقه، ~~وأن يسرع البدر ليلة التمام إلى محاقه؟ # أي حسن لعمري، وأي جميل، وأي كريم في هذه الدنيا لم يكن لأحمد عبد ~~الوهاب؟ # هذا الشباب الناضر، وهذا الحظ المواتي الحاضر، وهذا الأيد والقوة، وهذا أسر ~~الفتوة، وهذا العقل الراجح، وهذا الذهن الواضح، وهذا المنطق الناصح، وهذه النفس ~~الوضية، وهذه الشمائل الرضية، وهذا النظر البعيد، وهذا الرأي السديد، وهذا العلم ~~والفضل، وهذه السماحة والنبل، وهذه الكفاية التي دوت بها السهول والجبال، ~~وستتغنى بها الأجيال بعد الأجيال. # هذا كله أحمد عبد الوهاب، وهذا كله لقد دس وا لهفتاه في التراب ms206! # ما حسبت ساعة طلع علي الخبر إلا أنه مزحة بغيضة، وإذ هو وا حسرتاه ~~أبغض مزحات الموت جميعا! # لئن كانت حياتك عجبا من العجب، لقد كان موتك يا عبد الوهاب أعجب العجب! ~~السبل ممهودة، والوسائل موصولة ممدودة، كل شيء في انتظارك، وكل عظيم من الأمر في ~~تنسم أخبارك، قم يا عبد الوهاب وشمر، وأصلح وعمر، وثمر ما ~~شئت أن تثمر، فلقد طالما ضربت على صدق العزم أبلغ الأمثال، ~~وأريت الشباب أن من الشباب من لا يعرف المحال! # تعال يا عبد الوهاب! فمصر الناهضة لطلاب المجد في أشد الحاجة إلى أمثالك، ~~وأمثالك في مصر قليل، وانهض من مطالبها بعبئك وعبئك منها ثقيل. # تعال يا عبد الوهاب! فقد آن لمصر أن تعتز بما لها من المفاخر، وآن لها أن ~~تعتد بما فيها من الذخائر، انظر كيف ترى الآمال بك معقودة، والعظائم في ترقب ~~طلعتك مجموعة محشودة؟ أقدم أقدم! فما عودت مصر الإحجام، في ساعة الجلى ولا في ~~حد الصدام. # ما لك لا تجيب؟ أحقا لقد عدا الموت عليك، وإنها لجناية على البلد ~~جميعا؟ # أهكذا تأفل الأقمار، أهكذا تغيض الأنهار، أهكذا تيبس الروضة المعطار، أهكذا ~~يعدو ظلام الليل على وضح النهار؟ وما أجدر مصر أن تقول في منعاك: # كنت الشبيبة أبهى ما دجت درجت # وكنت كالورد أزكى ما أتى ذهبا # طلعت لي قمرا سعدا منازله # حتى إذا قلت يجلو ظلمتي غربا # يا عمر الورد: لقد كنت حلما من الأحلام، لولا ما تحدثتا به آثارك ~~الضخام! # يا علما تنكس، ويا سيفا تثلم، ويا أملا تحطم، ويا بنيان قوم ~~تهدم! # وما كان قيس هلكه هلك واحد # ولكنه بنيان قوم تهدما # لقد عظمت مصيبة مصر فيك، أحسن الله لها العزاء، وأوفى لها الجزاء، إنا لله ~~وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. # | يا حافظ!1 # لم لا تجيب وقد دعوت مرارا # يكفي سكوتك أربعين نهارا! # يا حافظ! هذه أربعون تقضت ونحن في انتظارك، إذ أنت لم تحسن بطلعة ولم ~~تسعد برد خطاب! # أطاب ms207 لك المقام هناك من بين من تقدموك من إخوانك، فلم تعد تحفل بمن ~~خلفت هنا من صحبك وصدقانك؟ أم لعلك آثرت انتظارهم في مثواك ~~ليجتمع الشمل كله؛ وإنهم لموافوك عما قليل، فما في هذه الدنيا كثير! # يا حافظ! هذه أربعون تقضت والوله عليك لا يخلق تليده، ولا يبلى جديده، ~~وما ذكرك صاحبك، # 2 # وهيهات ألا يذكرك، إلا أحس على ~~قلبه غمزا لا يسكن إلا بالعبرة، وهكذا: # لم يخلق الدمع لامرئ عبثا # الله أدرى بلوعة الحزن # وكذلك كان البكاء نقمة، فأبى خطبك إلا أن يحيله نعمة أي نعمة! # هذه شعبة من قلبي قد انخلعت لموتك، ولعلها دفنت معك، وما لها لا ~~تفعل؟ وقد كنت بعضي وكنت بعضك؟ فإذا أنا بكيتك فقد «بكى بعضي على بعضي ~~معي»، فاعجب لمن جمع بين الموت والحياة، ومن تقسمت هذه الأرض شطريه: ~~هذا يدب على متنها، وهذا مدرج في بطنها! # وإذا كان المرء تاريخا وذكرى، فخبرني يا حافظ كيف أصنع بسبع وعشرين سنة، ~~هي في مساحة العمر ملاعب الصبا، وهي بين أشواك الحياة أزهار الربى؟ # وها هي ذي لقد أضحت مبعث الأسى والشجن، ومثار اللوعة والحزن، وهكذا الدهر ~~إذا أسعد وأنعم، أبى إلا أن يحيل شهده إلى صاب # 3 # وعلقم! # يا حافظ! أين أنت؟ إني لأطلبك في كل مكان فلا أصيبك، وكيف وقد كنت يا حافظ ~~ملء كل مكان؟ هذي يدي لقد أصبحت منك صفرا، وهذي نفسي لقد أمست من داعيات ~~العيش قفرا: # كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا # أنيس ولم يسمر بمكة سامر # يا حافظ! أين أنت، وكيف صنعت؟ وأين ذهب ذلك الود الذي ظللنا نجمعه جمع ~~الشحيح للمال، في مدى سبع وعشرين سنة، ونحرص عليه حرص الكريم على وليده، ~~وندلله تدليل الشيخ الفاني لوحيده، أتراه قد تبدد كله بضربة ~~من الموت واحدة؟ فحق فينا قول متمم بن ~~نويرة في أخيه: # وكنا كندماني جذيمة حقبة # من الدهر حتى قيل لن نتصدعا # فلما تفارقنا كأني ومالكا # لطول افتراق لم نبت ليلة معا! # لقد كنت تعيب على من ms208 صاروا إلى الآخرة قبلك أن أحدا منهم لم يباد ~~الأحياء بما سمع وما رأى؛ وكيف يكون ذلك العيش عيش الآخرة، فهلا فعلت أنت؟ فما ~~أشوقنا إلى حديثك! أنت الذي ملأ الدنيا بيانا في جميع أسباب الحياة، فهل ~~يعز عليك أن تحدثنا في بعض أسباب الممات؟ # ها أنت ذا تدعى فلا تجيب! وقد كنت الطلاع في كل مهمة، الندب # 4 # عند كل ملمة، الشادي كلما تفتح لأمل هذا البلد ~~زهره، النائح كلما كرثه أمره وتغير له دهره! # ليت شعري، ما الذي حبس لسانك، وقد كان أجرى من السيل الدافق؟ # وما الذي أخمد بيانك، وكان أسطع من البرق الآلق؟ ما هذا منك يا حافظ؟ # يا ليت ماء الفرات يخبرنا # أين تولت بأهلها السفن ؟ ~~••• # يا حافظ! لقد سافرت قبل أن تتزود لهذا الذي يدعى بالموت، وقبل أن أتزود لهذا ~~الذي يدعى بالحياة بعدك، فهلا جلسنا معا جلسة نتذاكر فيها العيش في تلك ~~الأيام؟ # أتذكر إذ كان المترفون يقلبون أعطافهم في ألوان المناعم، أو ما اصطلح هذا ~~الناس على أنه من المناعم، إذ أنا وأنت لا نغبط أحدا على عيشه، ولا ننفس على ~~امرئ ما وصله الله به من مال وجاه، وما لنا نفعل ونحن بحمد الله سريان حق ~~سريين بما رزقنا كلانا من محبة وصدق ووفاء؟ أتندر عليك ما شاء الله أن ~~أتندر، فلا أرى عليك برما ولا تعاظما لهذا الذي أصنع بشاعر النيل، وتتطرف بي ~~ما شاءت لك سطوة اللسان أن تتطرف، فلا والله ما أحسست قط أن نعمة في الدنيا ~~تقوم بإزاء هذا الذي أنا فيه! فما حاجتنا بعد هذا إلى ما يتكاثر الناس به من جاه ~~ومن مال؟ # أرأيت يا حافظ كيف قد بعدك متني، وكيف هد فقدك ركني؟ # كنت لي نعمة وكنت سماء # بك تحيا أرضي ويخضر عودي # يا حافظ! أتذكر كيف أغنانا هذا العيش وكفانا، وكيف كنا ندل به ~~ونتتايه، حتى ما يعجبنا من الأمر عجب، ولا يستهوينا من مغريات ~~هذه الدنيا أرب، فلو قد سألت اليوم في سر ms209 من حارس الموت عن صاحبك، أو عن بقيتك ~~التي ما زالت ثابتة في سجل الأحياء، لخرج الجواب في قول مسلم بن الوليد: # أصبحت كالثوب اللبيس قد اخلقت # جداته منه فعاد مذالا # وبقيت كالرجل المدله عقله # أشكو الزمان وأضرب الأمثالا # سالمت عذالي فآبوا بالرضا # عني وكنت أحارب العذالا # ومقد علمت بأنه ما من فتى # إلا سيبدل بعد حال حالا # يا حافظ! إن الرجل العظيم ليموت فيخلو بموته موضع واحد، أما أنت فلقد أخلى ~~موتك مواضع كثيرة: أنت شاعر النيل غير مزاحم؛ فلقد اتصل شعرك بمائه، ~~وامتزج بواديه أرضه وسمائه، وشدا في نعمائه وسرائه، وناح في بأسائه وضرائه، ~~وأنت الكاتب لا يلحق في حسن الصياغة غباره، ولكن تترسم إذا أعوز تجويد النسج آثاره، ~~وأنت الأديب التام؛ تضرب في فنون الأدب كلها ما تشرد عليك شاردة، ولا تند ~~عنك منها مستأنسة ولا آبدة، وأنت المحاضر كأنما يخوض منك جلاسك في عباب، ~~أو كأنما يقرأون منك في كل باب أسبغ كتاب، وأنت السمير ما تبرح تشيع في مجلسك ~~الطرب، وما يبرح جلاسك يتنزون لحديثك من إعجاب ومن عجب، وأنت الذكي الألمعي ويا له ~~من ذكاء كان مثل سنا البرق، يومض من جانب الغرب فيسطع في عرض الشرق، وأنت، وأنت، ~~وأنت يا حافظ! لقد كنت معاني كثيرة، وكنت مباهج من مباهج الحياة عديدة، ~~فقدر يا أخي، رحمك الله، جملة مصائبنا فيك! # أنا هنا إنما أبكي حافظا لا أنشر مناقبه؛ فلذلك بعد مقام عريض. ~~••• # وبعد، فلقد تعذرت على رثاء حافظ طويلا ضنا بنفسي على إظهار الناس على ~~ما يشهدون اليوم من حيرة ووله واختلال أعصاب، ولكن لقد بعثني على هذا من أصدقائي ~~من لا أستطيع مدافعتهم، وإظهار الخلاف لهم، فحقت علي قولة ~~الشاعر: # ألا يا حمامي قصر زوران هجتما # بقلبي الهوى لما تغنيتما ليا # وأبكيتماني وسط صحبي ولم أكن # أبالي دموع العين لو كنت خاليا # وبعد، فلقد كنت يا حافظ كثير الترجيع لقول صديقك وأستاذنا إسماعيل باشا ~~صبري: # وحياة المرء اغتراب فإن ما # ت فقد عاد ms210 سالما للتراب # وها أنت ذا قد عدت إلى الوطن، وأبت بعد طول السفر إلى الأهل والسكن، ~~وبدلت من حدث الدهر الأمن والسلامة، وضمنت لك الدعة والراحة إلى يوم ~~القيامة. # فإلى الملتقى يا حافظ في الجنة إن شاء الله، فلقد كنت شديد الإيمان بالله عظيم ~~الإحسان إلى الناس، والسلام عليك ورحمة الله. # | ابني! ...1 # يا مشرعا للمنى عذبا موارده # بيناه مبتسم الأرجاء إذا نصبا # 2 # كنت الشبيبة أبهى ما دجت درجت # وكنت كالورد أزكى ما أتى ذهبا # طلعت لي قمرا سعدا منازله # حتى إذا قلت يجلو ظلمتي غرا # جاء ولم يرغب في مجيئه أحد، ولكنه ذهب على عيني وعلى أعين الجميع. # فيم جئت يا بني وفيم ذهبت؟ أفكنت حامل رسالة البرح والآلام، ~~أديتها إلي ورجعت إلى مثواك بسلام؟ # ما الذي حبب إليك هذه الحياة؟ ثم ما الذي زهدك سريعا في هذه ~~الحياة؟ # لقد يكون من الأثرة الشديدة يا بني أن أرجو لك اللبث في هذه الدنيا تعاني كل ~~ما يعاني من حكم عليهم فيها بطول البقاء، كل هذا لأنعم من وجهك بنظرة، ~~ومن شفتيك بابتسامة، ومن صوتك الحنان بلغاة! # ولكن لقد كانت كذلك أثرة شديدة منك يا بني أن تطلب النجاة بنفسك من هذه ~~الحياة، وتتركني كما تركتني لا أنا مع الموتى ولا أنا مع الأحياء! # أمسكتك وحرصت عليك إرضاء لشهوة نفسي، وتركتني وفررت مني إرضاء لشهوة نفسك، ~~وواحدة بواحدة، وذلك الجزاء الوفاق! # وافيتني ولم أدعك، فعندي من مثلك ما يكفي وما يغني، والفضل لله، فصدفت عنك ~~وأعرضت. # وما أدري أكان ذلك مني عن زهد فيك أم بطر على نعمة الله بك؟ ولكنك أبيت إلا ~~أن يكون لك هناك محل، فما برحت تجهد لذلك الجهد الكبير، بخلقك هذا الدقيق ~~الصغير، تعمل لتلك الغاية في كل يوم من الشهر، وفي كل ساعة من اليوم، وفي كل دقيقة ~~من الساعة، لا وانيا ولا متخاذلا، تعمل لها مستيقظا ونائما، ومختلجا وساكنا، ~~ومبتسما وباكيا، وصحيحا وشاكيا، وهل كان مما يخرج عن جهدك أن تكبر وتزكو، ~~وتنمو وتحلو ms211؟ ومع هذا لقد كنت أجاهد فيك النفس وأغالبها عليك، وأزعم إذا هتف ~~بك إخوتك ومضوا يشيدون بموقعك من قلوبهم، أنك لا ترتقي في السعر عندي إلى جناح ~~البعوضة! وإني لأغلو في هذا وأشتد كلما غلوا واشتدوا في أنك الآثر ~~الأحلى. # ثم أجدني - على غير إرادة مني - أختلس النظرة السريعة إليك، ثم أجدني - برغم عنادي ~~- أثبت النظر في وجهك وأطيل، ثم يبدو لي في سر من العيون أن أمس ببنانتي خدك ~~الرخص الدقيق، فإذا أنت تبتسم وتدير في وجهي طرفك الحيران، ثم أتشجع على نفسي ~~فألاغيك، فإذا أنت ترجع بالصوت الناعم الرقيق كأنه قطعة من أنعم نسمات السحر، ~~ثم إذا بي أقبلك فإذا لقبلتك حلاوة، وإذا بي أجد لها على صدري بردا! # وإن هي إلا أيام تمضي على هذا، حتى أصبحت أشعر أن هذه القبلة تجاوزت أن ~~تكون لذة من اللذائذ، فقد صارت لعيشي ضرورة من الضرورات. # فإذا أصبتك نائما في ساعة من ساعات حنيني إليك وما أكثرها، علقت عيني ~~بشخصك، وأفرغت كل ما في قلبي على وجهك الملائكي لو أن الملائكة تنام. # لقد بلغت وشيكا غرضك، فأصبحت من شغل نفسي، بل لقد كدت تصبح ~~شغل نفسي جميعا، وهكذا ينخذل عنادي من دونك انخذالا، وأفتضح يا بني في هواك ~~افتضاحا! # لقد تم لك يا حسن كل ما أردت، وبلغت مني فوق كل ما أردت، وهذا مطعني ~~لقد انكشف لك دانيا سويا، فما لك لا تعجل بالثأر من بطري، فتطعن الطعنة ~~الشهلاء، وهذا منك أعدل الجزاء؟ ولقد فعلت يا بني في غير تردد ولا ~~إبطاء! # وهكذا لقد كفى عزمك الحديد عشرون دقيقة بين أن كنت كالوردة الضاحكة وبين أن ~~صرت جثة تطلب - وا مصيبتاه - اللحد! # جدت بنفسك المطمئنة على صدري الملتاع، فإذا بك تخوض لجنة الموت في دعة ورفق ~~ونعومة نفس، لا مجاهدة ولا معاناة ولا اختلاج، حتى أسلمت نفسك، ولولا ~~إجلالك الموت لظل على شفتيك هذا الذي طالما نعمني من حلو الابتسام. # وما لك يا بني وأنت بين يدي تعالج نزعا ms212 أو تعاني احتضارا؟ فعنك كنت ~~وما زلت أنزع، وعنك كنت وما برحت أحتضر، وإنه لنزع شديد، وإنه لاحتضار يا ~~بني طويل! # لقد استحالت كل جارحة في نفسا تعاني من سكرات الموت ما لا يعلم مدى ~~أوجاعه وآلامه وبرحه إلا الله، فهذه تزم بملازم الحديد زما، وهذه تضغمها ~~أنياب النمور ضغما، وهذه توخز بالإبر وخزا، وهذه تحز بالمدى حزا، وهذه ~~تفريها المخالب فريا، وهذه تشويها النار شيا، وكيف لي بعذاب نزع واحد، ~~ولم يصبح لي كسائر الناس نفس واحدة «ولكنها نفس تساقط أنفسا»؟ # لا شك يا بني أنك مضيت من فورك إلى الجنة، فإذا أحببت أن تعرف مبلغ ~~عذاب أهل النار، فأشده بعض ما أنا فيه! # ويلي منك يا بني! لقد ورثتني كل يوم موتات لا نجاء لي منها إلا بهذا ~~الذي يدعونه الموت، اللهم يا من امتحنني بهذا العذاب كله في الدنيا، ~~أقلني بفضلك من عذاب الجحيم في الآخرة. ~~••• # لست أدري يا بني أينا الأحق برثاء صاحبه؟ لعمر الله إذا حققت، وأنت في ~~مقعد الصدق، لرأيتني الجدير منك بالمرحمة وطول الرثاء، ولكأنما كان يعنيني ~~وإياك هذا الشاعر حين يقول: # لو كان يدري الميت ماذا بعده # للحي منه بكى له في قبره # غصص تكاد تفيض منها نفسه # ويكاد يخرج قلبه من صدره # وا حر قلباه! إننا نعيش في هذه الدنيا عيش الآمن في سربه، بل عيش الذي ~~عاهده القدر على أن يسلم على الزمان فلا تكرثه الكوارث أبدا، وإننا لنشعر في ~~أنفسنا المراح فنعبث ونضحك، ولقد يضحك لضحكنا خلق من الناس، ولا ندري ماذا ~~يضمر لنا القدر بعد ساعة واحدة، بل بعد دقيقة واحدة، ولقد يكون فيما يضمر لنا ~~ما يقد المتن قدا، وما يهد النفس هدا، وكذلك كان شأني يا بني ~~فيك. # في ليلة أسهرها في داري راضيا مغتبطا، وما لي لا أكون وأولادي بخير، وأهلي ~~جميعا بخير، وأصحابي جميعا بخير، بل لا أشكو المرض الذي طالت علي مدته حتى ~~كاد يصبح عندي من إحدى العادات، ثم أسترسل للنوم كذلك ms213 راضيا مغتبطا، ثم أبعث في ~~جوف الليل لا لشيء إلا لأرى مصرع ولدي، وأشهد هذه الخاتمة الوجيعة من فصول رواية ~~تمثلها لي وتمثلها بي الحقيقة لا يمثلها الخيال! # يا هذه الليلة: كيف كنت ولم كنت؟ أفكان يفنى الدهر كله لو لم تكوني بين ~~لياليه الكثار؟! # يا هذه الليلة! لقد رميتني فأصميت، وطعنتني فأرديت، وكأني بك وقد نفست بي ~~على الموت، لا لأنك تؤثرين لي طول الحياة، بل لأنك تؤثرين لي طول ~~العذاب! # آمنت يا هذه الليلة أنك كنت السهم في قوس الدهر، وأنك كنت النصل في رمح ~~القدر! # النظرة الأخيرة # هذا ولدي يحمله حامله ويخرج به من داري إلى غير عودة أبدا، وإني لأتحامل ~~وأجمع جسدي المحطم، وأجر ساقي المتزايلتين جرا، لأشيع إلى ~~الباب ولدي بل لأشيع نفسي، وإني لأتزود منه بالنظرة الأخيرة، فإذا بي ~~أحس أن كبدي وقلبي يسيلان كلاهما على عيني، فإن كانت بقيت منهما بعد ~~هذا بقية فكالأسفنجة بعد شدة الاعتصار، ووالله ما أدري أكانت تلك النظرة أحلى ~~ما ذقت في حياتي من ألوان المتاع، أم كانت أقسى ما شعر به حي من ~~الحرق والآلام والأوجاع؟ # اللهم اشهد أنني راض بقضائك، صابر لبلائك، شاكر لنعمائك، إنا لله وإنا إليه ~~راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! # | مقدمة # بقلم طه حسين # رغبت إلى الأستاذ الصديق عبد العزيز البشري في أن أقدم الجزء الثاني من ~~كتابه المختار، فتأبى علي وأظهر امتناعا ثم التواء، ولم أظفر منه بما أردت ~~إلا بعد جهد وإلحاح، وما رغبت إليه في ذلك حرصا على كتابة فصل من الفصول، أو ~~إيثارا لإملاء مقال طويل أو قصير، فالله يشهد لقد أضيق بالكتابة حتى أكره أن ~~أسمع لفظها، وأتبرم بالإملاء حتى لا أسمح لصاحبي أن يتحدث إلي بذكر القلم ~~والورق. # وما رغبت إليه في ذلك لأعرفه إلى الناس، وقد عرفه الناس قبل أن يعرفوني، ~~ولا لأقدم كتابه إلى القراء، فليست آثار البشري من الآثار التي تحتاج إلى أن ~~تقدم بين أيديها المقدمات، وإنما رغبت إليه ms214 في ذلك؛ لأني أرى له دينا في ~~عنقي، وفي عنق كثير من المثقفين في هذا الجيل الذين يحبون الفن الرفيع من الأدب، ~~ويحرصون على الاستمتاع به، ويخلصون له نفوسهم وعقولهم وقلوبهم وضمائرهم، فكل ~~هؤلاء المثقفين قد وجدوا عند البشري منذ أوائل هذا القرن ما يرضي حاجتهم إلى الأدب ~~العالي والفن الممتاز، وكلهم مدين له بساعات حلوة قضاها مستمتعا بلذة موسيقية ~~رائعة، كان يشترك فيها سمعه وقلبه وعقله، وأيسر ما يجب للبشري عند هؤلاء أن يعترفوا ~~له بالفضل ويسجلوا على أنفسهم هذا الجميل، ويشهدوا الأيام على أنهم ليسوا من ~~الجحود والعقوق بحيث يقصرون في ذات كاتب عظيم كهذا الكاتب العظيم. # وما أحب أن يظن بي البشري مجاملة أو ملاطفة، أو مبالغة في القول، أو ~~تزيدا في الثناء، فأنا أبرأ إلى الله وإليه من هذا كله في هذا الفصل الذي ~~أمليه الآن. إنما هو ثناء صادق يصدر عن ضمير مقتنع اقتناعا صادقا بأن هذا ~~الكاتب الأديب قد فرض على هذا الجيل لنفسه حقا ما أحسب أنه قادر على أن يؤديه ~~أو ينهض به، وما أراه يبلغ من ذلك إلا أن يقدم إلى عبد العزيز البشري تحية ~~مهما تكن فهي رمز متواضع يسير لما يشيع في النفوس، ويتغلغل في القلوب من شكر له، ~~وإعجاب به وإكبار لفنه الجميل. # لست أدري أيرى الناس كلهم رأيي في فن عبد العزيز، ولكن الذين تحدثت إليهم في ~~ذلك قد شاركوني فيما رأيت، ووافقوني على الصورة التي كونتها لنفسي من هذا الفن، ~~وأخص ما يمتاز به أدب عبد العزيز أنه حلو سمح خفيف الروح، لا يجد قارئه مشقة ~~في قراءته، ولا جهدا في فهمه، ولا عناء في تذوقه وتمثله، ومن الفنون الأدبية ~~الرائعة ما يكون شاقا عسيرا، وغامضا ملتويا، وما تكون اللذة التي يؤتيها نتيجة ~~لمشقته وعسره، وأثرا لغموضه والتوائه، فهو فن مقصور على الخاصة، أو على جماعة ضيقة ~~من الخاصة، ومن الفنون الأدبية ما يكون سهلا يسيرا وقريبا داني المنال، لا يلتوي ~~على أحد ولا يشق على ms215 طالب، ولكن إمتاعه لقرائه يسير مثله، ليس عميقا ولا بعيد ~~المدى، لا يكاد يذاق حتى ينسى، ولا يكاد يستمتع به حتى ينقضي العجب منه ~~والرضى عنه والرغبة فيه، فهو إلى أن يكون فنا لتمتيع العامة وإرضائها أدنى منه ~~إلى أي شيء آخر، وليس أدب عبد العزيز من هذا ولا ذاك، وإنما هو أدب لا تنقطع أسبابه ~~بينه وبين أوساط المثقفين، ولعل الأسباب أن تتصل بينه وبين عامة الناس، ولعلهم أن ~~يجدوا فيه اللذة القوية إذا قرءوه أو سمعوا له، ولكنه مع ذلك - بل من أجل ذلك - ~~يرتفع ويرتفع، حتى يرضي خاصة الناس ويبلغ إعجابهم، وينزل من قلوبهم أحسن ~~منزل، ويقع من عقولهم وشعورهم أجمل موقع وألطفه، فهو فن ميسر ممهد موطأ ~~الأكناف، فيه دماثة الرجل الذي حسنت أخلاقه، ورقت شمائله، وظرفت نفسه، ~~واعتدل مزاجه، فهو محبب إلى الناس جميعا، مقرب إلى الناس جميعا، ويرغب ~~الناس جميعا في صحبته، ويكلف الناس جميعا بعشرته، ويتحرق الناس جميعا إلى ~~لقائه، ويعجز الناس جميعا عن فراقه وبعد العهد به. # وما عليك إلا أن تسأل من شئت من أي طبقة من طبقات الناس الذين يقرءون الأدب ~~العربي الحديث عن رأيهم في أدب عبد العزيز البشري، فستلقى منهم جميعا رضى وحبا ~~وإعجابا واستعذابا، وسيختلفون في تعليل ذلك وتأويله. يلتمسون هذا التأويل وذلك ~~التعليل في أمزجتهم الخاصة، وفي حظوظهم المختلفة من الثقافة، وفيما يكونون ~~لأنفسهم من رأي في الأدب، ومن مثل أعلى في الفن، ولكنهم سيتفقون على أنه أدب ~~محبب إلى الأسماع والنفوس جميعا. وقد حاولت غير مرة فيما بيني وبين نفسي، ~~وفيما بيني وبين أصدقائي، أن أتعرف مصدر هذه الخصلة التي يمتاز بها أدب عبد ~~العزيز، والتي تحبب أدبه إلى الناس - على ما يكون بينهم من اختلاف الطبقة ~~وتفاوت المنزلة - وأحسبني وفقت إلى هذا المصدر ووضعت يدي عليه، وما أدري ~~أيقرني عبد العزيز على ما أرى أم يخالفني فيه؟ وما الذي يعنيني أن يرضى عبد ~~العزيز من هذا أو يغضب؟ فأنا لا أكتب لأرضيه ولا لأسوءه ms216، وإنما أكتب لأقضي دينا ~~وأؤدي حقا، ولعلي أن أرضي التاريخ الأدبي بعض الرضى. # وأول ما يبدو لي من مصدر هذه المزية التي يمتاز بها أدب عبد العزيز أنه جمع ~~خصالا ثلاثا، فلاءم بينها أحسن ملاءمة، وكون منها مزاجا معتدلا رائع ~~الاعتدال، فهو مصري قاهري كأشد ما يمكن أن يكون الإنسان مصريا قاهريا، يحس ~~كما يحس أبناء الأحياء الوطنية، ويشعر كما يشعرون، ويحكم كما يحكمون، لولا أن ~~ثقافته ترتفع به إلى هذه الطبقة الممتازة التي تحسن الحكم على الأشياء، وهو - على ~~كل حال - قاهري الحس، قاهري الشعور، قاهري الذوق، وما أراه يجد مشقة يسيرة في أن ~~يتحدث إلى أشد الطبقات في الأحياء الوطنية تواضعا، وما أراه يحتاج إلى أن يبذل ~~جهدا ضئيلا في أن يبلغ من الحديث إلى هذه الطبقات رضى نفسه ورضى محدثيه، ~~فهذه خصلة، والخصلة الثانية: أنه بغدادي الأدب كأشد ما يمكن أن يكون الأديب ~~بغداديا، وقد عاشر أبا الفرج الأصبهاني وأصحابه، فأطال عشرتهم وتأثر بهم، وانطبعت ~~نفسه وعقله ولسانه بطابعهم، فهو إذا تحدث إلى المثقفين تحدث بلغة الأغاني، لا ~~يكاد يصرفه عن هذه اللغة صارف، إلا أن يأتي من قرارة نفسه المصرية القاهرية، فإذا ~~هو يلقي النكتة المصرية بارعة رائعة لاذعة، ولكن لذعا يؤلم ولا يؤذي - إن أمكن ~~مثل هذا التعبير - فهذه خصلة ثانية. # والخصلة الثالثة: أنه قد ألم بحظ من حياة المترفين الذين عرفوا الحضارة ~~الغربية وذاقوها وتمثلوها، واستمع لأحاديثهم وشاركهم في هذه الأحاديث، فأخذ ~~من هذه الحضارة الأوروبية شيئا يسيرا خفيف الظل قوي التأثير في الوقت نفسه، ~~يستطيع أن يلائم مصريته الموروثة وبغداديته المكتسبة، فتكون له من هذه ~~الخصال الثلاث مزاج غريب اشتركت في إنشائه بغداد والقاهرة وباريس. # اشتركت في تكوين هذا المزاج، ووفقت في هذا التكوين إلى أبعد مدى، إلى ~~مدى لم توفق إلى مثله في تكوين كاتب من كتابنا المعاصرين، فأنت واجد عند ~~الكتاب المعاصرين الظاهرين هذه العناصر الثلاثة كلها، ولكنك ترى العربية تغلب ~~على هذا، والمصرية تغلب على ذاك، والإنجليزية أو الفرنسية تغلب ms217 على ثالث، فأما أن ~~تتوازن هذه العناصر وتأتلف ويحب بعضها بعضا، ويطمئن بعضها إلى بعض، ويجتهد كل ~~منها في أن يعين صاحبيه؛ فذلك شيء لا تظفر به إلا عند عبد العزيز. # ومن هنا كان أدب عبد العزيز مرضيا معجبا لطبقات المثقفين جميعا، إذا قرأه ~~الأزهريون أعجبوا به؛ لأن فيه شيئا من الأزهر، وإذا قرأه أبناء المدارس المدنية ~~أعجبوا به؛ لأن فيه روحا من أوروبا، وإذا قرأه أوساط الناس الذين ليسوا من ~~أولئك ولا هؤلاء أعجبوا به؛ لأن فيه روحا من مصر، وإذا قرأه أهل الشام والعراق ~~أعجبوا به؛ لأن فيه روح العربي الخالص القوي، والغريب أن التئام هذه العناصر قد ~~أتاح لعبد العزيز ما لم يتح لكاتب آخر من المعاصرين ، فهو أكثر الكتاب ~~المحدثين اصطناعا للنكتة البلدية. يصطنعها بلغتها العامية في غير تكلف ولا ~~تحفظ ولا احتياط. يأخذها من حي السيدة أو من حي باب الشعرية، فيضعها في وسط ~~الكلام الرائع الرصين الذي يمكن أن يقاس إلى أروع ما كتب أهل القرن الرابع ~~والثالث للهجرة، فإذا نكتته البلدية العامية مستقرة في مكانها مطمئنة في ~~موضعها، لا تحس قلقا ولا نبوا، ولا يحس قائلها قلقا ولا نبوا، ولكنها ~~تفجؤه فتعجبه وتملأ نفسه رضى، ثم يحس أن الكلام ما كان ليستقيم لولا أن هذه النكتة ~~قد جاءت في هذا الموضع واستقرت في هذا المكان. # وهذا الذي يصنعه بالنكتة البلدية في يسر ولباقة لا يعرف سرهما أحد غيره، ~~ولعله هو لا يعرف سرهما، ولعله لا يتعمد ذلك ولا يصطنعه، وإنما هو وحي الطبع وإملاء ~~الفطرة. هذا الذي يصنعه بالنكتة البلدية في يسر ولباقة يصنعه بالكلمة الأوروبية، ~~أو بالجملة الأوروبية، فأنت تقرأ الفصل من فصوله فما تشك في أنك تقرأ لبديع الزمان، ~~وإنك لفي ذلك، وإذا كلمة فرنسية تفجؤك فلا تزيد على أن تذكرك بأنك تقرأ لعبد ~~العزيز البشري ليس غير. # وأغرب من هذا أنه يجمع بين الكلمتين الأوروبية والبلدية في جملة واحدة من سياق ~~عربي رصين، فإذا هذا كله يأتلف وينسجم كأحسن ما ms218 يكون الائتلاف والانسجام. ألم ~~يجمع في جملة واحدة هذه الكلمة الفرنسية «موريه» وهذه الكلمة البلدية «الألاج»؟ ~~فاقرأ الجملة العربية الرصينة التي اجتمعت فيها هاتان الكلمتان، فلن ترى فيها ~~نبوا ولا قلقا ولا اضطرابا. هذا على أن أحدنا قد يحتاج إلى أن يورد الكلمة ~~البلدية أو الأوروبية في سياق الكلام الهين الذي لا يتكلف فيه رصانة ولا جزالة، ~~فيدور حول هذه الكلمة ويدور، ولا يأمن مع ذلك أن يتورط في الثقل والاستكراه! # وأخرى تعيننا على تعرف المصدر لما يمتاز به فن عبد العزيز، وهى أنه قوي الحس ~~إلى درجة نادرة حقا، لا يكاد يمر به شيء إلا التقطه التقاطا، ورسمه في ~~نفسه رسما، يخالطها مخالطة حتى يصبح كأنه جزء منها، ثم هو لا يكتفي بالتأثر ~~والتقاء ما يعرض لنفسه من الأشياء والخواطر، ولكنه سريع التأثر سريع التأثير، ~~فهو إذا أحس لا يكن ما يحسه، ولكنه يعلنه ويظهره، فهو يتلقى الأشياء ~~مسرعا ويعكسها مسرعا، وتعمل نفسه الخفية أو ضميره المكنون فيما بين ذلك عملها ~~الغريب الذي يظهر خواطره وأحكامه وتصويره للأشياء كأروع ما تكون الخواطر ~~والأحكام والتصوير! # من أجل هذا كله كان عبد العزيز مدرسة وحده في هذا الجيل، لا تستطيع أن ~~تلحقه بهذه البيئة أو تلك من بيئاتنا الأدبية، ولا تستطيع أن تصله بهذه ~~المدرسة أو تلك من مدارسنا المنتجة في الشعر والنثر، وكنت أظن في أول الأمر أنه ~~بقية لمدرسة قد مضى أكثر أعضائها. بقية لتلك البيئة التي كان يضطرب فيها المويلحي ~~وحافظ والبابلي - رحمهم الله - ولكني رأيته يعرض لأشياء ما كان أحد من هؤلاء يستطيع ~~أن يعرض لها، ويلج موالج ما كان أحد من هؤلاء يستطيع أن يفكر فيها، ثم ~~يمرق منها كما يمرق السهم من الرمية، وقد ظفر بكل ما أراد وبأكثر مما ~~أراد، وما أشك في أن تلك البيئة الطريفة اللبقة الموفقة لو اجتمعت كلها لكتابة ~~فصل عن الطيارة كالذي كتبه عبد العزيز، أو فصل عن أحمد ندا، أو فصل عن حسن غندر، ~~لما ظفرت من ذلك ms219 ببعض ما ظفر به. إنما كانت الإجادة تتاح لأعضاء تلك البيئة ~~سهلة ميسرة، ولكنها عادية مألوفة لا تبلغ الروعة إلا نادرا، فأما صاحبنا؛ فإنه ~~يستطيع أن يبدأ الفصل رائعا ويمضي فيه رائعا، ونحن نستطيع أن نعد له فصوله ~~العادية، فأما فصوله الممتازة فهي أكثر ما كتب. ماذا أقول؟ تستطيع أن تسمع له ~~وهو يتحدث جادا أو هازلا، راضيا أو ساخطا، فإن استطعت أن تملك نفسك وتردها ~~عن الإعجاب به فأنا مخطئ، ولكنك لن تستطيع! # ومن أجل هذا أيضا لم يكن عبد العزيز مدرسة وحده فحسب، بل كان مدرسة لا تلاميذ ~~لها، فكما أنك لا تستطيع أن تلحقه بهذه البيئة الأدبية أو تلك، فأنت لا تستطيع ~~أن تلحق به هذا الكاتب أو ذاك. فنه على سهولته ويسره وقربه من الناس جميعا ~~أرفع وأعسر وأشد استعصاء من أن يتعلق به المتأثرون والمقلدون؛ ولذلك لم ~~يتعلق به أحد ولم يحاول تقليده أحد، وظل عبد العزيز واحدا في فنه، وسيظل ~~واحدا في فنه يستمتع بآثاره الناس جميعا، ولا يستطيع أحد من هؤلاء الناس أن يلحق ~~به أو أن يحاكيه، أو أن يزعم لنفسه القدرة على أن ينقل فنه إلى الأجيال ~~المقبلة. # سيبقى فن عبد العزيز؛ لأنه فوق التقليد الذي يبتذل آثار الأدباء، ولأن شخصية ~~صاحبه فذة، ليست شائعة، ولا يمكن أن تكون شائعة. # أفتراني بعد هذا قد استطعت أن أعلل هذه المزية التي يمتاز بها هذا الكاتب الفذ؟ ~~أما أنا فلا أدري، ولكني أعتقد أني قد اهتديت من ذلك إلى شيء، ولعل هناك أشياء ~~ليس الاهتداء إليها يسيرا. # أفتراني بعد هذا محتاجا أن أطوف بك كما فعل صديقنا مطران في هذا المتحف الذي ~~يقع بين دفتي هذا الجزء؟ أما أنا فلا أرى ذلك ولا أميل إليه، ولا أريد أن أكون ~~دليلك بعد هذه الفصول الرائعة؛ لأني لا أريد أن أعرض نفسي لما يتعرض له ~~الأولاد، ولا أحب أن تقول لي ما أنت وذاك؟ أرحني من صوتك الغليظ، ومن لهجتك ~~العنيفة الفظة، وخل بيني وبين ms220 هذا الفن الرائع والأدب الرفيع. # لك علي ذلك يا سيدي، فخذ في قراءة هذه الفصول وأنا زعيم بأنك لن تتركها حتى ~~تفرغ منها، ولعلك لا تفرغ منها إلا لتستأنف النظر فيها، فإني قد جربت ذلك من ~~قبلك. # الباب الرابع # | في الفن والمفتنين # | في الفن وحده1 # يريدني صديقي الأستاذ العالم الأديب محرر «الهلال» على أن أقول مقالا في موضوع ~~الفن والجمال! على أنني من جانبي قد قدرت بادئ الرأي أن المدى المقسوم لا يتسع ~~لهذين معا، فلنقسر حديث اليوم على «الفن»، ولنرجئ القول في الجمال، فله إن شاء ~~الله إذا امتد العمر مجال. # ما الفن؟ # ولقد كان أول ما انبعث فيه ذهني هو التماس أفق هذا الفن وترسم حدوده ~~وماذا يراد به اليوم في متعارف الناس؟ # في الحق أنني لم أصب في كل ما وقع لي من كلام المتقدمين والمتأخرين من ~~أصحاب العربية إلى زمن قريب تخصيصا لهذه الكلمة بذلك المعنى الذي يتناول ~~اليوم بكلمة # Art ~~، فلم أر بدا من مراجعة ~~معجمات اللغة العربية تحقيقا لأصل الوضع اللغوي لكلمة «فن»، ووجوه تصرفها في ~~مختلف المعاني بالاشتقاق والتجوز وغير ذلك من أسباب الدلالات، وقد اعتمدت ~~في طلب هذه الغاية من متون المعجمات لسان العرب، وصحاح الجوهري، والقاموس ~~المحيط، وأساس البلاغة، فخرج لي من كل أولئك ما أنا مورده عليك في إيجاز ولكن ~~فيه الغناء. # الفن في اللغة # الفن واحد الفنون، وهي الأنواع، والفن الحال، والفن الضرب من الشيء، والجمع ~~أفنان وفنون، يقال: رعينا فنون النبات، وأصبنا فنون الأموال. # والرجل يفتن الكلام: أي يشتق في فن بعد فن، والتفنن فعلك، ورجل ~~مفن (بكسر ففتح): يأتي بالعجائب، وذو فنون من الكلام. # وافتن الرجل في حديثه: إذا جاء بالأفانين، افتن الرجل في كلامه ~~وخصومته إذا توسع وتصرف، وافتن أخذ في فنون من القول. # والفنان (بتشديد النون الأولى): الحمار الوحشي. # وتطلق هذه الكلمة أيضا في بعض تصرفاتها على معان أخر لا محل للإشارة ~~إليها في هذا المقام لأنها لا تتصل بما نحن فيه من قريب. ~~••• # وبعد، فأنت ms221 ترى أن كلمة «فن» إنما تدل بالوضع اللغوي على النوع والحال، ويدل ~~الفعل منها «فنن» الكلام على الاشتقاق في فن بعد فن، أي التصرف فيه نوعا ~~بعد نوع. # ومهما يكن من شيء، فإن دلالة هذه المادة في هذا المعنى، تكاد تكون مقصورة ~~على التصرف في فنون الكلام، وللعرب في هذا عذرهم إذ كان جل همهم إلى ~~«فن» الكلام، على أنها قد امتدت مع الزمن حتى تناولت كذلك بعض معان ~~أخر، وسيأتي في ذلك الكلام. # ثم لقد رأيت أن العرب لم يطلقوا كلمة «الفنان» إلا على الحمار الوحشي # 2 # على أن إطلاقها على المعنى الذي يطلقها بعضهم عليه اليوم # Artiste # ليس مما يعيى على وسائل ~~العربية، لولا أن استعارة اسم الحمار للإنسان مطلقا، فضلا عن الإنسان الحاذق ~~الصنع، قبيح! # ولقد سلف عليك أنه يقال رجل «مفن» (بكسر ففتح): يأتي بالعجائب ولا شك ~~في أن هذا أصح تعبير وأدقه للمعنى المراد، لولا أن اللفظة جد قريبة من لفظة ~~تنفر الآذان منها أشد النفور، إذن لم تبق حيلة إلا أن نصير في أداء هذا ~~المعنى إلى اتخاذ كلمة «مفتن» أو «متفنن» وهما صحيحتان على كل ~~حال. # كيف تطورت كلمة الفن وإلى ماذا صارت اليوم؟ # قلت لك إن كلمة «الفن» قد تصرفت في بعض معان أخر غير تلك المعاني ~~التي أطلقت عليها بأصل الوضع اللغوي؛ ذلك بأنه لم تكد الدولة العربية ~~تنبعث في الحضارة حتى أرسلت كلمة «الفن» للتعبير عما يقابل كلمة «العلم»، فما ~~كان قوامه إرسال القضايا الكلية التي يتعرف بها أحكام ما يندرج تحتها من ~~الجزئيات، فذلك علم، وما كان قوامه العمل الجاري طوعا للأصول والأحكام ~~المقسومة، فذلك فن، فيقال علم الأصول، وعلم الفقه، وعلم النحو، وعلم الصرف، ~~ولا يقال في شيء من ذلك فن، ويقال للخطابة، وقرض الشعر، والموسيقى فن ولا يقال ~~علم. # فقد بان لك أن العلم مادته الفكر والنظر، وأن الفن مادته العمل ~~والأثر. # ولقد يتبهم الفرق الدقيق بين العلم والفن على بعض الناس حين يجدون بين ~~أهل اللسان من يعبر ms222 عن الموسيقى مثلا بعلم الموسيقى مرة، وبفن الموسيقى مرة ~~أخرى، وعن البلاغة بعلوم البلاغة تارة، وبفن البلاغة تارة أخرى، وهكذا. # والواقع أن الموضوع الواحد قد يكون علما وفنا معا، ولكنه إنما يكون هكذا ~~من ناحية، ويكون كذلك من ناحية أخرى، فنحن إذا طلبنا الموسيقى مثلا من جهة ~~القضايا العامة من نحو تقسيم النغم إلى أصلية وفرعية، وأن هذه النغمة لا ~~يفضى منها إلى تلك إلا بطريق كذا، وأن هذه لا تقع في جواب تلك إلا بشرط كذا ~~إلخ، فلا شك أن «الموسيقى» على هذا علم لا فن، فإذا غنانا المغني بالفعل فتصرف ~~في فنون النغم طوعا لتلك الأحكام، فلا ريب في أن «الموسيقى» على هذا فن لا ~~علم. # وكذلك قل في علوم البلاغة، فما قررت من أحكام الفصل والوصل، والإيجاز ~~والإطناب والمساواة، والاستعارة والتشبيه، والجناس والتورية والتقسيم إلخ، ~~فتلك علوم البلاغة، حتى إذا أرسلت القلم بالكلام البليغ، فذلك فن ~~البلاغة. # لتفننت في الكتابة حتى # عطل الناس فن عبد الحميد # 3 # وكذلك القول في الهندسة، وفي كل ما تجري عليه أحكام القضايا النظرية بحيث ~~يمكن أن يكون له أثر محسوس في خارج الأعيان كما يقولون. # على أن العامة في مصر بوجه خاص، قد تبسطوا بعد ذلك في هذا الباب حتى ~~دعوا كل مهنة فنا، وحتى أصبحوا يكنون أصحاب «الكيوف» بأولاد الفن، ~~ولعل الوجه في هذه النكتة أن ما كان يتناوله الصناع إلى الجيل الماضي من ~~«فنون» المخدرات، كان يعينهم ولو إلى حين، على طول الصبر في سبيل التأنق ~~والتجويد والإتقان! # وكيفما كانت الحال، فإن اللغة في اطرادها وتوسعها لم تكن تأبى إدراج هذه ~~الحرف في جريدة «الفنون»، لأنها وإن لم تقعد لها القواعد وتعقد لها ~~القضايا في الكتب، إلا أن أصحابها قد تغنوا عن ذلك بطول العلاج والتمرين، وما ~~كشفت لهم التجارب على طول السنين. # وقد جرد المتأدبون المصريون من أبناء هذه الجيل كلمة «الفنون» للفنون ~~الجميلة خاصة، فجعلوها بذلك ترجمة لكلمة # Beaex ~~Arts # في لغة الفرنسيين، وعلى ذلك أصبحت كلمة «الفنان»، ~~أستغفر الله ms223 بل «المفتن» أو «المتفنن» ترجمة لكلمة # Artiste ~~، ويعنون بها صاحب الفن ~~الجميل. # ولا يذهب عنك في الغاية، أن وصف بعض الفنون «بالجميل» لا ينافي، بل إنه ~~ليقتضي أن هناك فنونا أخر، وإن كان لا يوصف شيء منها «بالجميل» وكذلك بقي ~~اصطلاح الجمهرة على المراد من «الفن» قائما في الجملة، وإن كان بعض المتأدبين ~~اليوم يأبى إلا أن يقصرها كما أسلفنا على «الفن» الجميل. # استمداد الفنون وتطورها # وبعد إذ فرغنا من تاريخ هذه الكلمة من أول منجمها في متواضع العرب الأولين، ~~وتصرفها في وجوه المعاني حتى مصيرها اليوم، بعد هذا يحسن بنا أن نلم ~~إلمامة يسيرة بنشأة الفنون وتطورها واضطرابها بين مختلف الأوضاع ~~والأشكال. # لا شك في أن منشأ الفنون على وجه عام إنما هو الغريزة، فالحاجة هي التي ~~تدفع الإنسان إلى أن يبتكر الفن ابتكارا، أو أن ينقله نقلا ويقلد فيه ~~تقليدا، سواء أكان ذلك عن الحيوان أم عن الطبيعة نفسها، بحيث يكون هذا النقل ~~والتقليد على الوجه الذي يوائمه ويواتي أسبابه. # وأريد «بالحاجة» ما يعم الضروريات والكماليات جميعا، فحاجة الإنسان إلى ~~الثواء في المأمن هي التي هدته إلى بناء الدور، وحاجته إلى الأنهار هي التي ~~هدته إلى إقامة الجسور، ومن ثم نجم فن الهندسة، وقل مثل هذا في سائر ~~الفنون التي تدعو إليها ضرورات الحياة، كما أن استراحته إلى تنغيم الطيور ~~وتسجيعها، وتغريدها وترجيعها، وما يجد لذلك من طرب ويملكه من أريحية، قد بعثه ~~هو الآخر على التنغيم والترنيم، وكذلك نشأ فن الموسيقى، وقل مثل هذا في كل فن ~~جميل. # وبعد، فأنت خبير بأن الفنون كلها وإن نشأت بسيطة غاية في البساطة، ضئيلة غاية ~~في الضآلة، بحيث لا تواتي إلا أدنى الحاجة، فإنها على الزمن لا تفتأ تتسع ~~وتتركب، وتتشكل وتتلون، طوعا لسنة الاطراد في تفقد سائر مطالب الحاجة ~~أولا، ثم التدرج في التماس الأحسن ثانيا، ثم التأنق في ابتغاء الكمال ~~ثالثا، ولا يزال الإنسان يجد في السعي لبلوغ هذا الكمال؛ ولكنه غير بالغه ~~مهما تراخى الزمان بحال! # ولقد نعلم ms224 أن الفنون في تطورها وتلونها وتهذبها وارتقائها، والأساليب ~~التي يجري فيها كل أولئك، خاضعة للزمان والمكان، والجو ومألوف العادات، ومأثور ~~التقاليد، وحظ القوم من التعليم والتثقيف، ذلك شأن الفنون كلها، ضروريها ~~وكماليها فيه بمنزلة سواء. ~~••• # هذا ما هداني إليه الفكر في أمر «الفن» فإذا كان القلم قد زل في بعض الرأي، ~~فأرجو أن يدلني العالمون على وجه الصواب. # | في الفن1 # لا أحاول أن أعالج في هذا الباب بحثا علميا يقوم على نظم الأدلة ومدافعة ~~الشبه، إنما أريد أن أعرض ما سنح لي فيه من الخواطر وما تنظر # 2 # من الأفكار. # إنك لترى المرأة التامة أو الفتاة الكعاب فيتداخلك العجب بها فتروح تهتف بجمالها، ~~وإنك لترى طاقة الزهر قد ائتلفت وتناسقت أنوارها # 3 # فتروح تهتف بجمالها، وإنك لتسمع الصوت فيلذ لك جوهره، ~~ويطربك إيقاعه، وتحلو لنفسك نبرته ولطف تنغيمه، فتروح تهتف بجماله، وإنك ~~لترى البيت يروقك منظره، ويعجبك حسن نظامه، فتروح تهتف بجماله، وكذلك القول في كل ~~ما يخلبك ويروعك مما يقع لحسك، ولا شك في أن ما يعتريك عند هذا كله من الانفعال ~~إنما هو من أثر الجمال في نفسك، ولو قد أقبلت على نفسك تيك تسائلها: ما الجمال؟ ~~ما استرحت منها إلى جواب! # أما الجمال فموجود حقا، وإن محاولة التدليل على وجوده لضرب من العبث، وهو ~~مدرك حقا، لأننا نحسه ونشعر به كلما تجلى علينا في معنى من معانيه. # نعم، نحن نحس الجمال في الإنسان، ونحسه في الحيوان، وفي النجوم الآلقة، وفي الآجام ~~الباسقة، وفي اللج القامس، # 4 # وفي الجبل الشامس، # 5 # وفي الغدير الناعس، وفي الزهرة تطلعت ~~من كمها، وعاذت بغصنها عياذ الطفلة بثدي أمها، كما نحس الجمال من حلق المغني، ~~ويد العازف، وريشة المصور، وشعر الشاعر، ورسم المهندس، وغير أولئك من كل حاذق ~~صناع. # نحس الجمال ونشعر به، وكثرة الناس على الأقل ترتبه في كل مظهر من مظاهره على ~~درجات، فيقولون: هذه الخريدة أجمل من تلك الخريدة، وهذه الطاقة أبهى من تلك الطاقة، ~~وهذا الإناء أظرف من ذلك الإناء، وهذا الصوت ms225 أحلى من ذلك الصوت، وهذا المصور أبرع ~~من ذلك المصور، وهذا الشاعر أروع من ذلك الشاعر إلخ. # ولو قد سألتهم القاعدة التي رسمت لهم حدود الجمال، وعرفتهم جميع منازله، ~~حتى فضلوا بعض مظاهره على بعض لأعياهم الجواب، ذلك بأنهم لا يرجعون في حكمهم ~~ولا في تقديرهم إلى قواعد محدودة معينة، كما يرجعون بجزئيات النحو والمنطق مثلا ~~إلى قواعد محدودة معينة، فيقولون هذا التعبير يصح على لغة التميميين دون الحجازيين، ~~أو أنه إنما يجري على لغية، أو أنه شاذ، أو أنه لحن صريح، وأن هذه القضية ~~منقوضة، أو أن هذا القياس مختل لأن صغرى مقدماته لا تندرج في كبراها، بل إنهم ~~إنما يرجعون في قضية الجمال وترتيبه في كل سبب من أسبابه، وإيثار بعض مظاهره على ~~بعض، إلى ما يروقهم ويخلبهم ويتمشى في نفوسهم من الطرب والإعجاب. # وهنا لا نجد بدا من أن نعود فنقول ما الجمال؟ لا أحسب أحدا من الناس وفق إلى ~~إدراك كنه الجمال فحده بذاتياته حدا، على تعبير المناطقة وإن كانوا عرفوه ~~بآثاره، ولعل أدنى تعريفات الجمال إلى الصواب: أنه كل ما يستريح إليه الذوق ويثير ~~الإعجاب في النفس. # ولقد حاول الصدور الأولون أن يضبطوا حدود الذوق، ويدلوا على ما يرضيه وما ~~ينشز عليه، فوضعوا فيما وضعوا في هذا الباب فن الموسيقى، وعلوم البلاغة. # 6 # وهنا ينبغي أن يفهم النشء حق الفهم أن استمداد مثل هذه الفنون ليس من الأمور ~~الواقعة، ولا هو من أحكام العقل، كاستمداد علوم الكمياء والطبيعة، والحساب والمنطق ~~مثلا، إنما مادتها الذوق السليم، وتعرف ما يرضيه، وتقصي ما يطربه، وعلى ~~هذا أجروا قواعدهم، وفي حدوده أطلقوا أمثلتهم وشواهدهم. # وأحب بعد هذا، أن تعرف فرقا جليلا بين شأن العلوم وشأن الفنون، فإنك ~~بمدارسة العلوم والتمرين فيها، تستطيع أن تكون بقدر ما منتجا، أي تكون كيميائيا ~~أو طبيعيا أو حاسبا، أما في الفنون فإنك في الأكثر، تستطيع أن تكون بصيرا بالفن ~~ومميزا بين جيد الصنعة ورديئها، كما تستطيع أن ترفع جيدها في التقدير درجات على ~~درجات ms226، وتحط رديئها درجات دون درجات، أما أن فن الموسيقى يؤهلك لأن تكون مغنيا ~~بارعا أو عازفا رائعا، وأن علوم البلاغة تستطيع أن تخرج منك كاتبا لبقا أو ~~شاعرا فحلا، فذلك ما تتحسر دونه تلك الفنون! # ذلك أن البراعة في هذه الفنون الجميلة إنما ترجع أولا إلى الاستعداد والطبيعة ~~وتهيؤ الملكة، على أن التعليم والتهذيب إنما يصقلان الطبيعة صقلا ولا ~~يخلقانها خلقا، وإنك وإن غيرك ممن جروا من أصول الصنعة على عرق، لتقضون ~~بالتفوق والتبريز لهذا المغني على ذلك المغني إذ أنتم كلكم جازمون بأن هذا المسبوق ~~أبلغ خبرة وأغزر علما، كما قد تحكمون بأن هذا الشاعر أبلغ من هذا الشاعر وأحلى ~~كلاما، وأبرع منزعا، وأروع مقطعا، إذ أنتم كلكم قاطعون بأن هذا المبروع أوسع ~~باللغة علما، وأكثر لعلوم البلاغة تحصيلا وأصدق فهما! # والوجه في هذا أن العلوم التي تستند قضاياها إلى العقل أو إلى الواقع كالحساب ~~والمنطق والطبيعة، إنما يكون التبريز فيها في العادة على قدر ما حصل المرء من ~~قواعدها، وتفهم من قضاياها ومسائلها، أما الفنون التي تستند قضاياها إلى ~~الذوق، فالبراعة فيها إنما تجري على براعة الذوق نفسه، لا على العلم بالقضايا ~~الاصطلاحية التي تحرى بها علماء الفن ضبط ما يرضي هذا الذوق وما ينشز ~~عليه، وإنك لا تجد في الدنيا رجلا واحدا درس فن الطبقة وضروب النغم، وضبط حدودها، ~~وعرف ما يستقيم على الصبا وما يتسق من التناغيم للعراق، ثم أقبل يمط حلقه ~~متأثرا هذه القواعد الفنية، فانتظم مغنيا حاذقا يشيع الطرب ويبعث الأريحية في ~~الناس! # وكذلك قل في سائر هذه الفنون، وإنك لتجد آلافا من الناس أعلم من مثل شوقي ~~بمتن اللغة وبأوزان الشعر وما يلحقه من زحاف وعلل، وأفقه في علوم البلاغة وسائر ~~أسباب الكلام، وإذا شوقي يسجع بأعلى الشعر، وإذا أولئك لا يبعثون إلا الفسل المليخ # 7 # من ~~المقال. # وإنك لتجد كثيرين من الضراب أعلم من محمد العقاد بالموسيقى، وأحفظ لأصولها، وأضبط ~~لقواعدها، فإذا أطلقوا في «القانون» أيديهم لم يحركوا منك ساكنا، حتى إذا أرسل ms227 ~~العقاد فيه بنانه، أخذ منك العجب، وتمشى فيك الطرب، ولربما ارتفع بنفسك وأدخل ~~عليك من الأريحية ما يخيل إليك أنك أصبحت على المؤمنين أميرا! # والواقع أن العبقرية في الفن لم تعرف علتها ولا سبيلها للناس ولا للعبقريين ~~أنفسهم، ولقد تسأل العامة وأشباه العامة عن فلان المغني أو القارئ: بماذا كان أبرع ~~أهل فنه حتى ذهب له ما لم يذهب لهم من صيت وذكر، وليس بأنداهم صوتا ولا بأعرقهم ~~فنا؟ فيجيبونك من فورهم «فتوح من الله»، ولقد تسألهم عن العقاد بماذا تفرد ~~«بالقانون» دهرا طويلا لم يتعلق بغباره أحد؟ فيجيبونك «حلاوة إصبع» يا ~~سيدي! # ولقد تسأل الخاصة عن الشاعر فلان أو الكاتب فلان، وبماذا برعا وبذا؟ ~~فيجيبونك: «إنها الموهبة!»، ولا أرى بين مذهب العامة ومذهب الخاصة في هذا فرقا ~~كبيرا ولا صغيرا، فكلاهما يدل على تمام العجز عن إدراك ذلك الشيء الذي تتهيأ ~~به العبقرية للمرء في فن من الفنون! # والآن يمكننا أن نحدد الفرق بين البراعة في الفن والبراعة في العلم: فالتبريز في ~~العلم أساسه تحصيل قضاياه وحسن تفهمها، والاستعداد والذوق شرطان فيه، أما التبريز ~~في الفن، فأساسه الذوق والاستعداد، وتحصيل قضاياه وحسن تفهمها شرط ~~فيه. # ومما يجلو لك هذا المعنى وينير سبيله بين يديك، أنك لا تستطيع أن تحكم بصحة ~~القضية الرياضية، أو المنطقية، أو بفساد النظرية الطبيعية، إلا إذا كان لك إلمام ~~بالعلم وبصيرة فيه، على أنك تقرأ شعر الشاعر فيروعك ويعجبك، وتسمع غناء ~~المغني فيهزك ويطربك، وترى صورة المصور فتروقك وتخلبك، في حين أنك لم ~~تحصل من قضايا تلك الفنون كثيرا ولا قليلا؛ ذلك بأن مرجع الحكم فيها كما قلنا، ~~إلى الذوق أولا، والذوق غريزة لا يخلقها الدرس ولا التعليم، فإذا كان للتعليم في ~~هذا الباب فضل، فهو مجرد التهذيب والصقل، على ما سلف عليك من الكلام. # ولا يفوتك أن الفن لا يدل على موضع الجمال، اللهم إلا الغافلين ومن تقاصرت ~~أذواقهم إلى حد بعيد، ولكنه يسمي مظاهر بأسمائها التي وقع بها الاصطلاح، كما ~~يدل على مذاهب ms228 المفتن في ألوان تصرفه، ولقد يكون بهذا أقدر من غيره على إدراك ~~مبلغ الحذق في كيفية التصرف وطريقة الأداء، على أنك مع هذا لو جئت برجلين ~~ذيقين، أحدهما خبير بفن الموسيقى والآخر غير خبير، فإنهما كليهما ليطربان ~~لجيد التوقيع، وإن عرف أولهما أن اللحن جار في نغمة الرمل مثلا، وجهل ثانيهما ~~إلى ماذا ينسب اللحن من مذاهب الأنغام، لأن إدراك الجمال والانفعال به لا ~~يحتاجان كما قلنا إلى تعليم ولا تلقين. # وهنا شيء يتصل بهذا الباب ما ينبغي لنا أن نتجاوزه وألا ندل عليه، ذلك أن كل ~~ما تخرجه عبقرية العالم من طريف القضايا ومستحدث النظريات في العلوم، لا ~~يعدو أن يكون مجرد استكشاف لأمر موجود في ذاته، وكل الخطب فيه أنه كان مجهولا ~~حتى تهدت عبقرية العالم إليه، ودله ذهنه أو تجاريبه عليه. # أما ما تنتضح به عبقرية المفتن من ذاك، فإنشاء وخلق من عدم، ومن هنا ~~ندرك لماذا كانت الفنون أشد تطورا من العلوم، وأبلغ منها قبولا للتغيير ~~والتحوير؟ ذلك لأن مردها كما علمت إلى الذوق، والذوق أسرع تكيفا ~~بحكم الزمان والمكان والعادات والأحداث. ~~••• # وبعد، ففي نفسي أن أتحدث عما صنع العالم قديمه وجديده للفن تعرفا ~~للجمال، وضبطا لمذاهبه، وتربية لملكاته، ولكن لقد طال الكلام اليوم، فلندع هذا إلى ~~فرصة أخرى إن شاء الله تعالى. # | في علوم البلاغة # سيداتي، سادتي # 1 # طوينا في الأزهر بضع سنين، مقصورا جهدنا كله على درس الفقه والنحو، ثم استشرفنا ~~على العادة، لدرس شيء من علوم البلاغة في أبسط كتبها المعروفة يومئذ لأهل الأزهر، ~~ولم يرعني في تلك الأيام إلا أن هجم على نفسي سؤال شغلني وأهمني، حتى كان ~~في بعض الحين يملك علي مذاهب تفكيري! وإني لأخشى أن أبادي به أشياخي أو لداتي في ~~الطلب، لئلا أرمى بالجهل المطبق بما يعلم الناس جميعا، بدليل أن أحدا لم ~~يراجع فيه من بين الطلاب جميعا! # هذا السؤال هو أنه ما دامت للبلاغة علوم مقررة، ومعارف واضحة، وقواعد مفصلة ~~مقسومة، وقضايا محدودة مرسومة، فقد أصبح من ms229 السهل اليسير على كل من يجيد علمها، ~~ويحذق فهمها، أن يجيء بالبليغ من القول إذا نظم أو نثر، بل لتهيأ له أن يجيء ~~بأبلغ الكلام، بل بما ينتهي منه إلى حدود الإعجاز! وما له لا يصنع، وقواعد البلاغة ~~تشير بأوضح الإشارة إليه، وتدل بأفصح العبارة عليه؟ # ماذا على المرء إذا أرسل الكلام أن يخرجه مطابقا لمقتضى الحال، ويجريه على ~~أحكام الفصل والوصل، ولا ينحرف به عن مقتضيات الإيجاز والإطناب والمساواة؟ وهذه ~~أحوال التشبيه بين يديه، فما يمنعه أن يصوغ الكلام على غرارها، ويترسم فيه أجلى ~~آثارها؟ وهكذا ... # ولكن الواقع ... الواقع القاسي يأبى مع الأسف إلا أن يزعجني عن الاستراحة إلى هذا ~~الفكر القويم، والمنطق السليم! فهؤلاء متقدمو الطلاب الذين درسوا علوم البلاغة في ~~أفحل كتبها المقسومة وأعلاها مكانا، لا حظ لأكثرهم الكثير في فصاحة ولا في بيان! ~~بل هؤلاء أشياخهم الذين استهلكوا الدهر الأطول في درس هذه الكتب وتحقيق ~~قضاياها ومسائلها، حتى فروا أبوابها فريا، وبروا فصولها بريا، هؤلاء ~~كثير منهم لا غناء لهم في فصاحة لسان، ولا في نصاحة بيان! # هذا طالب كبير يجاورني في خزانة حوائجي في الأزهر، وهو يتلقى علم الأصول في كتاب ~~«جمع الجوامع»، أي أنه فرغ من درس كتاب «السعد»، أي أنه ختم علوم البلاغة، ولم ~~تبق له بشيء منها أية حاجة، لقد جمعنا هذا الطالب المنتهي ليسمعنا ~~قصيدة رائعة من نظمه يهجو بها أهل بلدة «كوم زمران» المجاورة لبلده، فأسرعنا إلى ~~الاستواء بين يديه وقد أرهفنا الآذان، وحددنا الأذهان، وعلقنا الأنفاس، ~~حرصا على المتاع بما لا يظفر بمثله عامة الناس! # ولست أروي لكم أيها السادة، من هذه القصيدة الرائعة حقا، والجديرة بمن أتم دروس ~~«السعد» وحواشيه حقا، إلا هذه الستة الأبيات. # أما مطلع القصيدة فهو بمشيئة الله تعالى. # دع كوم زمران كي تنجو من العلل # وتستريح أخي من كثرة الزلل # ومنها: # إن جاءهم ضيفهم قبل العشاء إذن # تراهم يا فتى في غاية الملل # فالبخل يشتق منهم ما على أحد # منهم ثياب سوى البالي من ms230 الحلل # ما فيهم عاقل يا ابن الكرام فقد # جنوا جميعا وقاك الله من خبل # ومنها: # لا يحضرون دروس الفقه إنهم # والله لو تدرين في غاية الكسل # أما تمام التمام، ومسك الختام، فهو: # ستون بيت قريض لا تزيد سوى # بيت به قد سألت العفو عن زللي # سيداتي، سادتي # إذا لم يكن لهذه القصيدة من نظم ذلك الشيخ كل الفضل، فلا شك في أن لها أبلغ ~~الفضل في أن نبهتني إلى أن درس علوم البلاغة - على هذه الصورة على الأقل - ليس من ~~شأنه أن يعلم البلاغة أو يطبع على ناصع البيان، ولعل لها بعد ذلك شأنا آخر! # البلاغة # من البين الذي لا يحتاج إلى أي جلاء أن مقاويل العرب إنما كانت تجود ببليغ ~~القول فطرهم، وتنتضح ببارع الكلام سلائقهم، لا يصدرون في شيء من هذا عن ~~علم تعلموه، ولا عن درس تفهموه، ولا قواعد يتحرون أحكامها، ولا ~~أقيسة يتقرون حدودها وأعلامها، إنما مردهم في كل ذلك إلى الفطنة، ~~الفطنة والذوق المرهف السليم، حتى موسيقى الأشكال والهياكل - وأعني أوزان ~~الشعر ومقاطعه - لقد كانت هي الأخرى موصولة بطباعهم، فلم يكونوا في أي حاجة ~~إلى قانون يهديهم موقع النبرة من السلك المنظوم. # 2 # وما يقال في الخطيب والشاعر، يقال في سائر النقدة وهم كثرة العرب ~~الغامرة إن لم يكونوا كلهم متذوقين ناقدين. # وبهذا المقياس الفطري كانت تقدر أقدار الشعراء والخطباء، فينزل كل ~~منزلته في غير ضراع ولا حراب، # 3 # من الصدور أو المتون أو الأعقاب. # هذه الفطنة النافذة، وهذا الحس المرهف، وهذا الذوق التام، لقد أغنت جمهرة ~~العرب عن المطالعة بفنون نقد الكلام، والتنبيه إلى ما في مطاويه من المحاسن ~~والعيوب، حتى لكأن هذه الخلال الشائعة فيهم كانت عندهم من أفصح أساليب ~~الخطاب! # ولست أزعم أن العرب كانوا كلهم أصحاب بيان، وأن شعراءهم إنما كانوا يرسلون ~~الشعر من عفو الخاطر، لا! بل إن من أعلامهم لمن كان يجتمع للقريض ويتكلف تجويد ~~النظم، ولقد يجهد ببعضهم كثيرا في تحرير الكلام وضبطه، والكر عليه ~~بالجندرة والصقل والتهذيب. # ولقد ظل ms231 شأن البلاغة العربية كذلك إلى غاية العصر الأموي، فإذا كان قد نجم ~~في هذا الباب جديد، فإن بعض البصراء بفنون الكلام قد انبعثوا لنقد بعض ما يجلى ~~عليهم من الشعر، وجعلوا يدلون بوجه عام على ما لعله يخفى من عيوب، ولقد ~~يقارنون بينه وبين شيء من جنسه من أشعار السابقين، ويفطنون إلى ما يضمر من دقة ~~معنى وإحسان أداء، ومهما يكن من شيء فإن ذلك الضرب من النقد لم يكن جاريا ~~على أي نهج علمي - إذا صح هذا التعبير - إنما هو الذوق والفطنة والحس ~~العام. # وبالرغم من أن بعض العلماء تقدموا في أعقاب هذا العصر، وفي صدر العصر العباسي ~~الذي وليه، لجمع الحديث واستخراج الأحكام الفقهية، وعقد القواعد للنحو ~~والصرف، بل لقد تعمد الخليل بن أحمد المتوفى سنة (170) ضروب الشعر ~~وتقصي أوزانه ومقاييسه، فوضع علم العروض، بالرغم من هذا كله فإن ~~أحدا من العلماء لم يتكلف وضع قاعدة علمية واضحة المعارف بينة ~~الحدود لشيء من فنون البلاغة، يرد إلى حكمها ما يندرج تحته من ~~الجزئيات. # كيف عقدت للبلاغة قواعد وجردت لها علوم؟ # سيداتي، سادتي # إذن فكيف ومتى ضبطت للبلاغة قواعد وجردت لها علوم؟ # يقول ابن خلدون: «إن السبب في إطلاق «البيان» على الأصناف الثلاثة أنه ~~أول ما تكلم فيه الأقدمون، ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى، وكتب ~~فيها جعفر بن يحيى، والجاحظ، وقدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها، ثم ~~لم تزل مسائل الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن محص السكاكي زبدته ~~وهذب مسائله إلخ»، وهذا الكلام يحتاج إلى قدر كبير من الإيضاح ~~والتفصيل. # أما أن البيان كان أسبق الفنون الثلاثة إلى التدوين، فذلك أن الإمام ~~اللغوي الجليل القدر أبا عبيدة المتوفى سنة (209) قد وضع رسالة في البحث ~~عن «المجاز في غريب القرآن»، ولا شك في أن غرضه إنما كان دينيا محضا، ~~فإن تبين الحقيقة من المجاز مما تتأثر به الضرورة أحكام الشرع ~~الكريم، فإذا صح أن تقصي هذه المجازات تقصيا جزئيا دون العناية ~~بنظمها في قواعد كلية تستخرج منها ms232 الأحكام العامة - إذا صح أن يدعى ~~هذا تدوينا في علم البيان - فلا نزاع في أن رسالة أبي عبيدة هذه هي ~~أول ما دون لا في علم البيان فحسب، بل في علوم البلاغة على ~~الإطلاق. # بعد هذا نعود إلى جعفر بن يحيى والجاحظ، أما جعفر فلم يسقط إلينا مما ~~كتب في هذا الباب كثير ولا قليل، وأما الجاحظ المتوفى سنة (255) فلقد ~~جرى قلمه في كتابه «البيان والتبيين» أكثر ما جرى بأسباب بتراء، وإرشادات ~~عامة لمن يتصدون لنسج الكلام، ونقول في تعاريف البلاغة عن الأقوام ~~الآخرين، على أنه قد يقع اجتهاده في بعض ما يكتب على أمور يعتبرها ~~العلماء المدونون بعد ذلك - إما بنصها أو بعد تهذيبها وتسويتها - من ~~قواعد علوم البلاغة التي لا يطوف بها ريب ولا يلحقها نزاع. # يقول الجاحظ مثلا: ... ومن ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر وإن كانت مجموعة في ~~بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض استكراه، فمن ذلك قول ~~الشاعر: # وقبر حرب بمكان قفر # وليس قرب قبر حرب قبر # ولا شك أنه بهذا يعد واضع شرط من شروط الفصاحة، وهو السلامة من ~~تنافر الكلمات، وقد استشهد مدونو البلاغة على هذا الضرب من التنافر ~~بالبيت نفسه. # ويقول في مقام آخر: «... عن الحسن يرفعه، أن المهاجرين قالوا يا رسول ~~الله: إن الأنصار فضلونا بأنهم آووا ونصروا وفعلوا وفعلوا قال النبي # صلى الله عليه وسلم ~~: «أتعرفون ذاك لهم؟» قالوا: نعم، قال: «فإن ذاك»، يريد أن ذاك ~~شكر ومكافأة». # وهذا أيضا من بلاغة الإيجاز بالحذف. # وهنالك أمثلة يسيرة أخرى مما نضح به قلم الجاحظ صادرا فيها عن ~~اجتهاده أو ناقلا عن غيره، وكل ذلك لا غناء فيه إذ نحن تحدثنا في شأن ~~علوم البلاغة عن التدوين والتصنيف. ~~••• # بعد هذا جعل أمير المؤمنين عبد الله بن المعتز المتوفى سنة (296) ~~يتفقد ألوان البديع التي أصابها في الكتاب العزيز، وفي كلام من سبقه ومن ~~عاشره من أعلام البيان، فأحصى منها بضعة عشر نوعا ضمنها رسالة ~~لطيفة، نشرها مطبوعة من عهد قريب أحد كبار ~~المستشرقين ms233. # قدامة بن جعفر # ثم يجيء أبو الفرج قدامة بن جعفر المتوفى سنة (337) على أرجح الأقوال ~~فيصنف فيما يصنف كتابيه «نقد الشعر» و«نقد النثر». # ولقد يغنيني عن الإطالة في الإبانة عن أثر هذا الرجل في وضع الأسس ~~الأولى لقواعد علوم البلاغة، ومحاولة إجراء هذه الأسس على نهج علمي - إذا ~~صح هذا التعبير - لقد يغنيني عن هذا تلك الرسالة البديعة التي وضعها ~~في الفرنسية صديقي الدكتور طه حسين، وأداها في العربية صديقي الأستاذ عبد ~~الحميد العبادي، وصدر بها كتاب «نقد النثر». # وقد صرح الدكتور طه في رسالته هذه بأن قدامة إنما وضع ما وضع من أسس ~~علوم البلاغة العربية متهديا بكتب أرسطاطاليس، وهذا حق لا شبهة فيه، ~~ولا يتخالج الشك فيه من يقرأ كتاب «نقد النثر»، بل إن المؤلف نفسه ليصرح ~~في بعض المواطن من كتابه بأن أرسطاطاليس قال في هذا الموضع كذا ونص على ~~كيت. # على أن من أظهر ما يخرج به متصفح هذا الكتاب، أن الرجل في ~~تدوينه لعلوم البلاغة، أو على الصحيح في محاولته تدوين هذه العلوم، إنما ~~كان - برغم ما بين يديه من قضايا أرسطو - كالساري في بيداء مجهل، فهو لا ~~يفتأ يلتمس الأعلام ويتحرى المسالك والدروب، أو هو كالطائر المهاجر ~~يسقط حيث يلوح له الحب، وتترقرق لعينه صفحة الماء، فما إن تسنح له ~~الجزئية يحسبها مما يتصل بما هو بسبيله إلا تراه قد هجم عليها، ومثل لها ~~بآية من آي القرآن الحكيم، وتارة يتمثل بالبيت أو بالبيتين من الشعر، ~~مترفقا شديد الترفق في وجوه التعليل والتأويل. # وهو إنما يتصيد أسباب البلاغة نثارا حتى إنه لم يفصل بين فنونها ~~الثلاثة، فقد يأتي بالمسألة من مسائل البديع في إثر القضية من قضايا ~~المعاني أو البيان. # ثم لقد يميل في بعض الطريق إلى بحث فلسفي، أو يأخذ في شيء من المنطق أو ~~الأصول أو النحو أو الصرف، أو يعدل بالحديث إلى قوانين الجدل، وهي التي ~~دعيت بعد بآداب البحث والمناظرة، وللرجل حق العذر في هذا فإنه لم ~~يعد سنة ms234 من نشأوا العلوم، وخاصة منها ما كان مرده إلى ~~الأذواق، وهذا ما نعبر عنه اليوم بالفن الجميل. # وكيفيما كانت الحال، فإن هذا قدامة حتى في القليل من المعاني التي وقع ~~عليها من فنون البيان، لم يضع لشيء منها قاعدة كلية، إنما جهده ~~كله كما أسلفنا أن يلتمس لما يتمثل له من الجزئيات وجوه العلل التي ~~تشرف بها رتبة الكلام. # عبد القادر الجرجاني # ومن العجب أن يشب ابن خلدون في تسجيل نشأة علوم البلاغة من قدامة إلى ~~السكاكي، ولا يقف وقفة - ولو قصيرة - برجل له أثره وله خطره، بل لقد ~~عقد له بعضهم فيما نحن بسبيله أبلغ الآثار وأعظم الأخطار، وذلكم ~~الرجل هو الإمام الجليل عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة (471). # ألف الجرجاني في علوم البلاغة كتابين، هما «أسرار البلاغة» و«دلائل ~~الإعجاز»، ولقد جعل أجل همه في الكتاب الأول إلى «البيان»، ~~فتكلم في التشبيه وأطال، وتكثر من إيراد الشواهد والأمثال، وقسم ~~المجاز إلى لغوي وغير لغوي، وأسبغ القول في فنون الاستعارات، وأصاب ~~في أثناء ذلك ألوانا يسيرة من «البديع» كالسجع، والتجنيس، وحسن التعليل، ~~أما ما أصاب من مسائل المعاني فإن جميعه إنما كان من حظ كتابه الآخر ~~«دلائل الإعجاز»، اللهم إلا سنحات قد تلوح أحيانا في آفاق ~~الكلام. # وعبد القاهر يعمد إلى المسألة من مسائل العلم فيضفي بين يديها المقدمات، ~~ويسبغ المقال في التعليل لها أيما إسباغ، ولا يزال يتيامن بالقول ~~ويتياسر، ويضرب في مجازات الكلام جيئة وذهوبا، ولا يبرح يفصل ~~المعاني تفصيلا، ويلون الحجج تلوينا، حتى إذا ظن أنه أوفى من ذلك ~~على الغاية ووقع بقارئه على الصميم، راح يورد الشاهد في إثر الشاهد، ~~جاهدا في شحذ فطنتك وإرهاف ذوقك، ليتهيأ له أن يتدسس بك إلى ~~أطواء الكلام، فتجس ما أجنت من الدقائق جسا، وتستشعر ما ~~أضمرت من المحاسن ذوقا محسا، وكل أولئك يصنعه في عبارة جزلة ~~فخمة، ويجلوه في ديباجة مشرقة اللفظ، متلاحمة النسج، ولا شك أن ~~عبد القاهر بعبارته هذه إنما كان أدنى إلى تعليم البلاغة منه بآثار ms235 ما ~~يخرج له من بحثه وتحقيقه، لولا أنه يتكلف السجع ويجتمع له في كثير ~~مما يجرى من البيان. # وكيفما كان الأمر، فإنه كقدامة لم يعن بضبط ما اتسق له من نتائج ~~البحوث في قواعد كلية تنتظم ما تحتها من الجزئيات على الأسلوب المعروف، ~~نعم إنه لقد مهد لهذا ويسره لمن دون بعده من العلماء في هذه ~~الفنون. # ومما تحسن الإشارة إليه في هذا المعنى أن التأليف في علوم البلاغة، ~~إلى هذه الغاية لم يعد في الجملة ألوانا من أساليب النقد، طلبا لشحذ ~~الأذواق وإرهاف الإحساس، والاجتهاد في التفطين إلى ما دق وخفي من ~~وجوه المحاسن والعيوب في الكلام، وليته لم يتجاوز هذا القدر، إذن لكان ~~لهذه العلوم من الحظ ومن الأثر غير ما لها الآن؟ # السكاكي والقزويني # سيداتي، سادتي # بعد هذا جاء العلامة المحقق أبو يعقوب يوسف السكاكي المتوفى سنة ~~(626)، فاستخلص جملة أحكام البلاغة التي تهدى إليها من تقدمه من ~~الباحثين، وضم كل جنس إلى جنسه، وجمع كل شكل إلى شكله، وجعل ينظم ~~ما تهيأ له من ذلك في قواعد واضحة الرسوم، مضبوطة الحدود، حتى تكون جامعة ~~مانعة، على اصطلاح جمهرة العلماء، وساق لكل قاعدة ما اجتمع له من الأمثلة ~~والشواهد، ووصل كل ذلك بكتابه «مفتاح العلوم». # ولا ينبغي أن نظن أن السكاكي في مجهوده هذا إنما كان صائغا فحسب؛ بل ~~إنه كثيرا ما يكون لاجتهاده في توجيه الأحكام وفي جوهر المادة العلمية ~~الأثر البعيد. # إذن لقد استطاع السكاكي أن يحيل أحاديث البلاغة من مادة أدب ونقد ~~واحتفال لتفطين الأفهام وشحذ الأذواق، حتى تستطيع النفوذ إلى دقائق ~~البلاغات، لقد استطاع السكاكي أن يحيل أحاديث البلاغة علوما إنما تخاطب ~~الأفهام، لتدلها على مبرم الأحكام! # ثم جاء العلامة الخطيب القزويني محمد بن عبد الرحمن المتوفى سنة (739)، ~~فضغط ما استخرج السكاكي ضغطا شديدا، وعصره عصرا «بليغا»، حتى ~~أصبح ما يطالعك من قواعد كتابه أشبه بالأحكام العسكرية في شدة السطوة ~~والجفاء! # وعلى كل حال فإنه على قدر ما تم لعلوم البلاغة - بمختصر الخطيب القزويني ms236 ~~- من التحرير والضبط والدقة في تجلية الأحكام والقواعد، وشدة التحري في ~~إيراد الأمثلة والشواهد، فلقد ذهب من الجهة التعليمية رواؤها، وجف ~~ماؤها، واقتصر خطابها على العقل والحافظة، وكانت من قبل تخاطب الإحساس ~~والأذواق! # وإذا كانت علوم البلاغة «الرسمية» قد ختمت بمختصر الخطيب القزويني، ~~فتكون قد استهلكت من أول تنشيئها إلى غاية نضجها وإدراكها أربعة ~~قرون سويا. # ولا شك أن من الكتب التي استغرقت جليلا من هم الدراسين ~~والباحثين والشارحين والمعلقين هو هذا الكتاب، فلقد شرحه وعلق عليه ~~من لا يحصون من العلماء كثرة، وأهم شروحه وأعظمها كان ~~استدراجا لعناية أصحاب التحقيق هو المختصر لسعد الدين مسعود بن عمر ~~التفتازاني المتوفى سنة (792)، والمطول له كذلك، وأشهر الحواشي على هذا ~~المطول وأشيعها بين أهل العلم تداولا، حاشية السيد الشريف علي بن محمد ~~الجرجاني المتوفى سنة (816)، وشرحا السعد وحاشية الجرجاني لقد كانت من ~~عهد بعيد هي المادة العظمى لتروية علوم البلاغة لمتقدمي الطلاب في الأزهر ~~الشريف. # فوق التعقيد الشديد في عبارات هذه الكتب، أيها السادة، والمبالغة في ~~إيهامها وإغماضها، فإن ملاك البحث فيها إنما هو الجدل اللفظي، ~~والاعتساف في بحوث فلسفية لا غناء لها في صنعة البيان، بل إنني لأزعم أنه ~~لو كان هناك من يريد التخلص من فصاحة اللسان ونصاحة البيان، فليس عليه ~~أكثر من أن يدرس هذه الكتب حق درسها، ويديم النظر فيها، ويقلب في ~~عباراتها لسانه وفكره، ليكون له كل ما يحب إن شاء الله! # لتكن هذه الكتب مما يفسح في الملكات العامة، ويطبع الطالب على الصبر على ~~البحث والتحقيق، ويعوده ألا يسيغ قصية من القضايا إلا بعد أن ~~يحككها بألوان الاختبار والامتحان - ليكن لها كل هذا، وليكن لها غير هذا ~~أيضا - ولكنها لا يمكن أن تلقن علوم البلاغة على أي حال، فضلا عن أن ~~تذيق الطالب البلاغة نفسها، أو تريحه ريحها، اللهم إلا أن تكون بلاغة من ~~طراز: # دع كوم زمران كي تنجو من العلل # وتستريح أخي من كثرة الزلل! # البلاغة فن # سيداتي، سادتي # لقد حدثتكم في صدر هذا ms237 الخطاب عن عقلية فتى ناشئ لم يتهيأ له بعد أن ~~يدرك الفرق بين العلوم والفنون، ولم يكن يعرف أن الفن ابن الطبع ~~والغريزة والملكة، وإنما تدعو إلى إنشائه ومعالجته الحاجة تبعثها ضرورة أو ~~تبعث إليها مجرد الرغبة في الترفيه والتلذيذ، أما العلم فمهمه بعد ذلك ~~الملاحظة والتقييد والتسجيل. # فالبلاغة باعتبارها فنا هي أثر الملكة ومظهر قدرتها من نظم شعر رائع أو ~~إرسال نثر بديع، أما البلاغة باعتبارها علما فهي عصارة ما خرج بالاستقراء ~~للإحساس والأذواق من دواعي الحسن والقبح في فنون الكلام، وما يقال في البلاغة ~~من هذه الناحية لا شك يجري حكمه على سائر الفنون والعلوم، والعالم بالفن غير ~~المفتن على كل حال، وإنما بينهما العموم والخصوص الوجهي على تعبير أصحاب ~~المنطق، فيجوز أن يكون المرء بليغا وهو غير عالم بقواعد البلاغة، ويجوز ~~العكس، كما يجوز أن يجمع بين الخلتين معا، وهذه الشواهد ماثلة في ~~الكثيرين ممن عاصرنا ومن لم نعاصر من العلماء والكتاب والشعراء. # إذن ليس العلم أيها السادة هو الذي يخلق الفن ويطبع ملكة المرء عليه، ~~إنما الفنون كما زعمنا، وخاصة هذه الفنون الجميلة، وفن البلاغة منها - وإن ~~نازع بعضهم في هذا - إنما هي من أثر تهيؤ الفطرة، أو ما اصطلحوا على ~~تسميته بالموهبة في هذه الأيام، فإذا كان للعلم من هذه الناحية أثر، ففي توضيح ~~المناهج وهداية السبل، وتبصير من يعالج الفن بما استجادت جمهرة أصحاب ~~الأفهام والأذواق، أو ما أنكرت من آثار جماعات المفتنين، سواء من ~~السابقين أو من المعاصرين. # ومما ينبغي أن يلاحظ في هذا المقام أن أفحل من عاصرنا من الشعراء ~~لم يكن أكثرهم من العلم بقواعد البلاغة على حظ جليل ولا ضئيل، إنما هو الطبع ~~والتهيؤ، وكثرة الحفظ، وترديد النظر في آثار البلغاء المجلين! # الفن يتطور # سيداتي، سادتي # إذا كان الفن التقليدي إنما يجري في حدود العلم، أي أنه ينبغي أن يطابق ما ~~اجتمع عليه رأي أصحاب الأفهام والأذواق في الفنون الجميلة بوجه خاص، فلا ~~ينبغي أن يفوتنا أن العلم لا يستحدث ms238 في الفن جديدا، ولا يعدل به ~~من نهج إلى نهج، ولكن الفن هو الذي يغير العلم ويدخل على قضاياه بالتشكيل ~~والتلوين، ما دام يشرع ويتطور ويستحدث، إذ كل هم العلم هو كما أسلفنا ~~إلى الملاحظة والتسجيل والتدوين. # ولا شك أن أظهر ما يظهر فيه التطور بالاتساع والدقة هو الفن الجميل، لأن ~~مرده في الغاية إلى الأذواق، والأذواق كما تعلمون شديدة التأثر بالكثير من ~~أسباب الحياة، ومن أفعلها مبلغ حظ الجماعات من الحضارة والتثقيف، ولون تلكم ~~الحضارة وهذا التثقيف. # نعم، إن للفنون الجميلة عند كل أمة تقاليد تكاد تتصل جذورها بالطباع والفطر، ~~ولكن ذلك لا يمنع من أن يتناول الزمان كثيرا من مظاهرها وصورها بالتشكيل ~~والتلوين. ~~••• # أرجو أن تدعوني بعد هذا أزعم أن البلاغة العربية - باعتبارها فنا أولا، ~~وباعتبارها فنا جميلا ثانيا - مما يجوز عليه التغيير والتلوين، ومما يتقبل ~~النمو وشدة النفوذ، بحكم اطراد التقدم في أسباب الحضارة، واتساع الأفهام، ~~ورهافة الأذواق باتساع آفاق العلوم والفنون. # وإذا كان مشق البلاغة العربية هو بلا شك ما أثر إلينا عن عرب الجاهلية ~~والصدور الأولى في الإسلام، فإن مما لا مراء فيه أنه قد استحدثت بعد ~~ذلك ولا تزال تستحدث بلاغات لم تشكها علوم البلاغة المأثورة ~~بالتقييد والتدوين، ولم تعقد لها قاعدة بين قواعد البيان والتبيين. # بل إن هناك صورا مما استجاد متقدمو النقدة وواضعو علوم البلاغة، وساقوها ~~شواهد على براعة الكلام، هذه الصور مهما كان من استراحة أذواق السابقين ~~إليها، فإنها مما ينفر منه ذوق العصر الحديث، ويأباه الحس القائم كل ~~الإباء! # ومن هذا الباب ما مثلوا لحسن التعليل بقول الشاعر: # لو لم تكن نية الجوزاء خدمته # لما رأيت عليها عقد منتطق # وقول الشاعر: # لم تحك نائلك السحاب وإنما # حمت به فصبيبها الرحضاء # أو قول الشاعر: # ما به قتل أعاديه ولكن # يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب # فمن ادعى أنه يسيغ مثل هذا الكلام اليوم، وأن ذوقه يستريح به، فإني إلى ~~غيره أوجه الحديث. # هنالك شيء آخر له خطره الشديد، وله أثره البعيد: ذلكم ms239 أن تقدم الحضارة ~~واتساع آفاق العلوم، قد فطن النقدة ومتذوقي الأدب إلى ألوان من ~~البلاغة في مأثور العربية، لا أجرؤ على أن أقول إنه لم يفطن لها، وإنما أقول ~~إنه لم يحتفل لها متقدمو نقدة الكلام أي احتفال، ومن أظهر ما أغفلوا ~~الحديث عنه في هذا الباب بلاغة الصورة، وبلاغة القصص وما يتضمن من بارع الجدل ~~ورائع الحوار. # انظروا أيها السادة، كيف يجلو الله تعالى علينا بعض خلقه في كتابه الحكيم: # إن في خلق السماوات والأرض ~~واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في ~~البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء ~~من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها ~~من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر ~~بين السماء والأرض لآيات لقوم ~~يعقلون ~~. # انظروا، أيها السادة كيف يصور لنا القرآن أهل الكهف في منامهم الطويل: # وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ~~ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم ~~في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله ~~فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا ~~مرشدا * وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ~~ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم ~~باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم ~~لوليت منهم فرارا ولملئت منهم ~~رعبا ~~. # الله الله، ما شاء الله! ولا قوة إلا بالله! # حدثوني بعيشكم: أي مصور مهما فحلت عبقريته واستمكنت ~~سطوة فنه، يستطيع أن يجلو مثل هذه الصورة للعيون! فكيف وقد جلاها عليها القرآن ~~عن طريق الآذان! # حدثوني بعيشكم: إلى أية قاعدة من قواعد البلاغة «الرسمية» نرد هذه ~~«اللوحة» الفنية الرائعة لندرك بها علل كل هذا الإحسان والإبداع؟ أترى هذه ~~الصورة قد انتهت كل هذا المنتهى لأن فيها ألوانا من الطباق في اليمين ~~والشمال، وفي طلوع الشمس وغروبها، ويقظة الجماعة ورقودهم؟ # لا لا يا سادة اللهم إن الخطب لأجل من هذا بكثير وفوق الكثير! # وبعد، فلو قد ذهب ذاهب في سرد أمثال هذه الشواهد من كتاب الله تعالى وحديث ~~الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~، وما أثر عن فحول البلاغة من الخطباء ms240 والكتاب والشعراء، ~~لاستهلك في ذلك الزمن الطويل. # وهنا شيء لا أحب أن أتجاوز هذا المقام دون أن أشير إليه: ذلكم أن من علل ~~الحسن في الفنون الجميلة ما يدق حتى تعيي الترجمة عنه على اللسان والقلم ~~جميعا، وإن تعلقت به الفطن وأصابته الأذواق. # ومما يتصل بهذا الباب ما روي من أن بعض الخلفاء العباسيين قال لإسحاق ~~الموصلي ذات يوم: «صف لي جيد الغناء» فقال: «يا أمير المؤمنين إن من ~~الأشياء أشياء تصيبها المعرفة، وتعجز عن أدائها الصفة!» # 4 # ولست أستدل على هذا بأبين من صنيع عبد القادر الجرجاني في كتابه «دلائل ~~الإعجاز»، فإنا كثيرا ما نراه يحاول بكل ما أوتي من بسطة علم، ونفوذ ~~فكر، وسطوة قلم، أن يقع على إحدى دقائق الحسن في الآية من الكتاب، فلا ~~يصيب الصميم وإن أجهدته كثرة اللف والدوران، على أنه إذا عجز عن جلو الحقيقة ~~بالنص، فإنه محصلها كاملة في نفس قارئه، وواصلها بذوقه، إذا كان ممن ~~يجرون من الصناعة على عرق، وذلك بالبراعة في التنمية والتفطين. # سيداتي، سادتي # لعل من أظهر ما نحسه من ضعف النقد الأدبي - أو بعبارة أبين، من قصور ~~علوم البلاغة العربية في هذا العصر - أن سلفنا وجهوا كل عنايتهم إلى ~~النقد الجزئي، أعني نقد الكلمة في الجملة، أو نقد الجملة في العبارة، ~~فإذا كان الكلام نظما جرى النقد للبيت مستقلا، وأحيانا للبيت من حيث ~~اتصاله بما قبله أو بما بعده، أي النقد (بالقطاعي) على تعبير التجار. # أما نقد الكلام مجتمع الشمل، وتناوله من حيث استواء الصورة، واتصال ~~المعاني، واتساق الأقطار، وتلاحم الأجزاء، فذلك ما لم يكن له من نقدة ~~البلاغة حظ جليل! # وليس يغيب عنا في هذا المقام أن هذه الحضارة القائمة قد جلت علينا من صور ~~البلاغة صورتين لم تلبثا أن ساهمتا في أدبنا العربي بنصيب جليل، وأعني ~~بهما فن القصص، والتصوير البياني، على حين أننا لا نرى لهما مكانا واضحا ~~من عناية علوم البلاغة المأثورة ومضارب النقد القديم! # سيداتي، سادتي # لست ثائرا فأدعو إلى إلغاء علوم البلاغة ms241 العربية بتاتا، كما ألغتها ~~أمم في الغرب بتاتا، ولكنني أدعو إلى تليينها وتمرينها، حتى تصبح أشبه ~~بالأسلوب النقدي القائم على التفطين والتذويق بحيث تتطور مع تطور ~~الأفهام والأذواق وعلى أن يوصل تعليمها في المدارس والمعاهد بدرس الأدب ~~نفسه، فالواقع أنه ما نضجت موهبة شاعر ولا كاتب قط بدرس علوم ~~البلاغة؛ ولكن بطول ترديد النظر وتقليب الذهن في المأثور من روائع الآداب، إلى ~~الارتياض بكثرة العلاج والتمرين، فإذا انفسحت مع هذا ملكة الكاتب أو ~~الشاعر، ورهفت فطنته بترسم مذاهب النقد الفني، فقد تمت نعمة ~~الله عليه! هذا رأيي في الجملة، وأقول «في الجملة» لأن هناك أسبابا من القول ~~يضيق عن شرحها هذا المقام، وبعد فإذا أبينا إلا الحرص على بقاء هذه ~~العلوم على تلكم الصورة التي دفعها إلينا السابقون، فلا شك في أن لها في ~~دار الآثار العربية المكان الفسيح! # | في الفن والمفتنين1 # لا شك في أن الفن لا يستوي للمرء بمجرد التحصيل والتعليم والتمرين، ولكنه إنما ~~يستوي بهذه إذا كانت للمرء طبيعة، وكانت له موهبة، وعلى قدر هذه الموهبة يكون ~~حظه من الفن، ولقد تصل به، ولو كان في شباب السن، إلى النبوغ والعبقرية، وذلك ~~أن الفن - على ما يظهر لي - قائم في النفس، إنما أعني نفس المفتن، وما ~~التعليم والتحصيل إلا وسيلة إلى نفضه إلى عالم الأعيان الخارجية (على حد تعبير ~~أصحاب المنطق)، ولاختصار الطريق إليه بالاستفادة بتجاريب السابقين، وطول ما فكروا ~~وتدبروا، وتهدت إليه على الزمان أذواقهم فانتضحت به قرائحهم، وما التدريب إلا ~~لتوثيق الصلة بين ما تعتلج به النفس، وبين الفكر أو اليد أو اللسان. # وهؤلاء النابغون في الفنون، لو حققت النظر، ليسوا من جنس واحد، بل إنهم ~~ليردون إلى جنسين مختلفين، أو على الأصح إلى ثلاثة أجناس: فأحدها مبتكر ~~مخترع، يخلق الفكرة خلقا، ويبتدعها ابتداعا، ويخرجها للناس على غير سابق ~~مثال، أما الثاني فلا يبتدع ولا يبتكر؛ ولكنه صائغ ماهر يقع على فكرة غيره، ويسطو ~~ببدع سواه، فيخرجه أحسن مخرج، ويصوره أبدع تصوير، وأما الثالث فالذي ms242 اجتمعت له ~~الخلتان جميعا، وهؤلاء في أصحاب الفن هم الأندرون. # ولعلك تظن مع هذا أن المبتكرين أفضل وأجدى على الفن دائما من الصاغة الناظمين! ~~والذي لا ريب عندي فيه أنهما كليهما يتساهمان في الجدوى على الفن، أما إذا لم يكن ~~بد من فاضل فيهما ومفضول، فإن أرجح الكفتين قد يكون لهؤلاء الصاغة الماهرين، ~~وإليك البيان: # اعلم - وفقني الله ووفقك إلى السداد - أن ~~ذلك العبقري المبتكر من العدم، والمبدع على غير مثال، قد لا يكون ~~لتفكيره شيء مما يصنع، ولا لعقله دخل في شيء مما يبدع، إنما هو الطبع ~~والغريزة ينضحان بهذا، ولقد يفعلانه في سر من عقله، وفي غفلة من تقديره، ~~فشأنه في هذا شأن القمري يشدو أبدع الشدو، ويرجع أحلى الترجيع، ~~ما يريغ لحنا، ولا يعتمد تنغيما، وكالوردة ينفرج عنها كمها، ما بها أن ~~يملأ أنفك طيب شذاها، ولا أن يبهر عينيك جمال مرآها! # وإني لأزعم لك أبلغ من هذا، أن كثيرا من هؤلاء المبتدعين قل أن ~~يشعروا بما صنعوا، وقل أن يقدروا حق ما أبدعوا، إنما هم قناة ~~بين ما استودع الله تعالى من سر خلقه نفوسهم، وبين ألسنتهم أو ~~أيديهم. # نعم، إنهم إنما ينتضحون بما يخرجون بمحض الإلهام، أو بتلك الحاسة ~~السادسة التي لم يكشفها العلم إلى اليوم، تلك الحاسة التي تهتدي وحدها، ~~وفي سر من حركة العقل، إلى كثير من حقائق العلم، وإلى كثير من دقائق ~~الفن! هذه الحاسة التي تهدي طبيبا واحدا بين عشرة أطباء يختلفون في ~~تشخيص مرض واحد اشتبهت أعراضه بأعراض عشرة أدواء، فيقع هو على حقيقة ~~العلة دونهم جميعا، إذ هو نفسه لا يدري كيف اهتدى ولا كيف أصاب! # أما الصائغ الماهر، فلست أعني به بالضرورة ذلك الذي يسطو بفكرة غيره ~~فيصوغها في لفظ آخر، أو يجلبها بنفسها في صورة أخرى، واقعة من الفن حيث ~~وقعت، فهذا لص لا فضل له أبلغ من سراق الليل وعياري ~~النهار. # وفي هذا المقام يحضرني كلام قرأته من زمان بعيد في شرح الشريشي على ~~مقامات الحريري ms243 في السرقات الشعرية، وإني لأذكر أنه قسمها أو لعله ~~نقل تقسيمها عن غيره، إلى عشرين: عشر محمودة مستجادة، وعشر مذمومة ~~مستقبحة، وإني لأذكر أنه مثل لبعض الأولى بقول الشاعر: # من راقب الناس مات غما # وفاز باللذة الجسور # يسرق هذا من قول الآخر: # من راقب الناس لم يظفر بحاجته # وفاز بالطيبات الفاتك اللهج # أو ما في معنى ذلك، فلعلي نسيت بعض ألفاظ البيت، ولعله كما ~~أوردته. # على أنني لا أعني ببراعة الصياغة هذا القدر! فإن الصائغ مهما يجود ~~الصنعة ويحكم النسج، فإنما ينادي على نفسه بالسرقة، ويشهد على ~~اختلاس ما ليس له، إذ المعنى ثابت للمبتدع مهما أسف في نظمه، ~~وضعف في صياغته، بل لا أعني كذلك منزلة فوق هذه، وهي التي لا ينقل ~~الصاغة الفكرة فيها نقلا، وإنما يلحظونها من بعض جوانبها أثناء ~~صياغتهم لمعنى آخر وهذا ما يعبر عنه نقدة الشعر بقولهم: إن ~~الشاعر في هذا قد لمح قول فلان، فإن المفتن مهما كان له في هذه ~~الحال من الفضل في جودة النظم وقوة السبك، واستخدام فكرة غيره في أداء ~~غرض آخر، لا يزال عيالا ولو بقدر ما، على صاحبه المبتدع، في حين ~~لا يزال هذا النبع المستقى، والمثال المحتذى. # وإنما أعني بالبراعة في الصياغة ما هو أعلى وأدق من هذين الصنيعين، ~~فالمفتن الصنع، حتى الذي لم يؤت ملكة الابتكار، ولم يرزق ~~القوة على الإنشاء، ترى له من شدة الفطنة ودقة الحس ما يتلقط به ~~المعنى الغريب، ويصيب به النبرة الدقيقة، ويشك به الفكرة الطريفة، في شعر ~~أو نثر، أو موسيقى، أو تصوير أو نحت، أو غير أولئك من ألوان الفنون - ~~إنه ليتلقطها بذهنه الدقيق إذ قد لمح فيها سانحا من طريف بديع، لعله لم ~~يعهده من قبل ولم يعهده الناس، وإن كان شخصه لم يتبين ~~بعد كل التبين، وصورته لم تستو حق الاستواء، فلا يزال به ~~يحككه بحسه المرهف، ويمخضه في ذوقه الرحب مخضا، وكلما فعل ~~ازداد في نفسه تبينا ووضوحا، وهكذا حتى يتمثل لها خلقا سويا، ~~فسرعان ms244 ما يجلوه على الناس كما جلته عليه نفسه، ما يصل بينه وبين ~~أصله عندهم نسب، ولا يرتبطه بمنجمه الذي خرج منه أي سبب، فلا يحسبونه، ~~مهما جهد بهم من حد الذهن وترديد النظر إلا خلقا جديدا، أنشأته من ~~القدم قدرة هذا المفتن الصناع! # وكثيرا ما يعمد هذا الحاذق الصنع فيما يفطن إليه من هذه الدقائق ~~الكامنة إلى مطلعها والبسط في خلقها بالتوليد والاشتقاق، وبتداعي ~~المعاني، حتى يبلغ بها في ذلك غاية المدى، وأنت تحسبه كذلك مبتكرا ~~منشئا، وتظنه مستحدثا مبدعا، إذ هو يعلم كيف فتح عليه في كل هذا، ومن ~~الذي ألهمه إياه! # وبعد، فإذا كان قد تعاظمك بادئ الرأي ما زعمت في صدر هذا ~~الحديث من أن أرجح الكفتين قد تكون لهؤلاء الصاغة الماهرين، فلعلك الآن ~~قد تطامنت واستراح إيمانك إلى هذا الكلام بعد إذ بان لك فضل هؤلاء ~~أولا في الوقوع على تلك الدقائق المستورة المغمورة، ما يكاد يفطن ~~إليها أحد، ولا يكاد يقدرها حتى هؤلاء الذين نبغت بها في بعض ~~الأحيان سلائقهم عفوا بلا قصد ولا سابق تدبير، وثانيا في تجليتها على ~~الناس في صورة واضحة الخلق، ترهف شعورهم، وتمتع أذواقهم، وتلذذ ~~إحساسهم، وتبعث فيهم ما شاء الله من أريحية ومراح! ~~••• # ولقد كان المرحوم محمد أفندي عثمان المغني مبدعا بارعا، وكان المرحوم عبده أفندي ~~الحامولي صائغا رائعا، فكان أولهما ينشئ الصوت (الدور) إنشاء # 2 # ويلحنه على غير مثال، فيخرج قويا بديعا، ~~لأن عثمان صائغ كما هو مبتكر، ثم يتلقفه عبده فما يزال يهلهله، ويسوي من صورته، ~~ويمره على ذوقه الدقيق، فيعدل من أطرافه، ويشع فيه نفسه، ويولد فيه من النعم فنونا ~~حتى يخرج أقوى وأبدع وأفتن، ثم يقال هذا الصوت لعثمان فيه لحن، ولعبده فيه ~~لحن آخر! # ولشد ما كان ذلك يحفظ عثمان على صاحبه، ويغيظه أشد الغيظ، فيروح يغلظ له القول، ~~ويباديه بما هو أقسى من العتب، ويتهمه بالسطو بصنعته، وعبده يطامن من هياجه، ~~ويلطف من حده، ولا يزال به يدلله ويرفه عنه بالكلم الطيب حتى يسكن ms245 ويرضى، ~~وكان الحامولي، رحمه الله، من دهاة الرجال! # وليس معنى هذا أن عبده لم يكن مبتكرا ألبتة، فإن له لابتكارات عجيبة؛ ولكنه كان ~~صوغا أكثر مما كان منشئا. # وإذا كان فن التنغيم بآي القرآن الكريم قد بلغ اليوم أوجه، فلا شك في أن نهضته ~~الحاضرة مدينة للمرحوم الشيخ حنفي برعي، فهو الذي استن هذه الطريقة الحديثة، ~~فكانت جمهرة القارئين له فيها تبعا. # ولقد نشأ الشيخ أحمد ندا - أشهر القارئين اليوم - يلحن على أسلوب المرحوم الشيخ ~~حنفي برعي، ويسلك نفس طريقته، ويقلده في إيقاعه، ويحاكيه في ترتيله، فإن الشيخ ~~حنفي كان أعلى سنا وأقدم فنا، ثم ما زال الشيخ ندا يزيد بالتلوين والصياغة وقوة ~~الافتنان، إلى أن استوت له شخصية خاصة، إن هو استقل بها عن شخصية أستاذه، فما ~~برحت عليها مسحة منها إلى اليوم. # على أن واجب الإنصاف يقضي علينا في هذا المقام، أن نقرر أنه إذا كان أسلوب الترتيل ~~الحديث من ابتكار الشيخ برعي، فإن الشيخ ندا بما ولد وما افتن قد زاد ثروة ~~هذا الفن أضعافا، ولا أحسب أن تاريخ أهل التنغيم «مغنين ومنشدين وقارئين» أحصى ~~لأحد ما أحصى لأحمد ندا من سلخ أكثر من خمسين عاما مرتلا قوي الصوت، رائع ~~الإيقاع، تلوح له «الحركة» في عنان السماء، فلا ينخذل عنها، ولا يتزايل عزمه من ~~دونها، بل إنه ليجمع نفسه، ويحلق إليها بصوته القوي المرن، فلا يزال بها حتى ~~يصيدها، ويفرغها على السمع في لباقة وقوة إبداع! # ولقد فاتني أن أذكر لك أن الشيخ برعي كثيرا ما كان يرى واقفا برجل من هؤلاء ~~الذين يسألون في الطريق بقراءة القرآن، ذلك أنه تعجبه منه نغمة، أو تهزه نبرة، ~~وسرعان ما يتلقفها، فيهذبها ويصقلها، ويطلقها في سهرته سوية بديعة تضاف إلى ~~فنه الكريم. # ولقد أخذ المرحوم الشيخ أبو العلا نفسه بفن عبده الحامولي، وكان يتغنى أغانيه، ~~ويقلده في جميع تناغيمه، حتى لم يكد يرث صنعة عبده سواه، على أن أبا العلا كان ~~لبقا بارعا، واسع العلم بالفن، محيطا به من ms246 جميع أقطاره، بقدر ما يتهيأ لمصري ~~من فهم أصول الغناء العربي، وكان إلى هذا على حظ من الذوق عظيم، ولكنه لم ~~يرزق من حلاوة الصوت وكرم جوهره ما يواتي كل تلك المواهب، فلم يبرع، وإن جاد ~~في غنائه؛ ولكنه برع البراعة كلها في تلحينه. # وإذا لاحظت أن الذوق المصري لا يستريح إلا إذا انتهت النغمة بتكريش الصوت، والزر ~~على الحلق، أو ما يدعوه أصحاب الغناء (بالعفق)، قدرت براعة أبي العلاء وجراءته ~~في الإقدام على تلحين هذه القوافي الصخرية من نحو: # وحقك أنت المنى والطلب # وأنت المراد وأنت الأرب # ولي فيك يا هاجري صبوة # تحير في وصفها كل صب # ونحوه: # والله لا أستطيع صدك # ولا أطيق الحياة بعدك # ولا شك في أن الآنسة أم كلثوم تعد اليوم من أفخر المغنيات والمغنين، لا بجمال ~~الصوت وحده: بل بسلامة الذوق وجودة الصنعة أيضا، ولا أدري لو لم تقع في أول ~~نشأتها في طريق أستاذها أبي العلا، أو لم يقع هو في طريقها، كيف كان يكون شأنها ~~في الغناء؟ # فأبو العلا، رحمه الله، هو باعث فن عبده بتلحينه هذه القصائد والمقطوعات التي ~~تصلصل بها الآن حلوق أكثر المغنين، إلى أنه خدم فني الأدب والغناء ~~جميعا بما لحن كثيرا من متخير الشعر القديم والجديد، على حين لم يلحن أستاذه ~~عبده في هذا الباب غير قصيدة أبي فراس «أراك عصي الدمع شيمتك الصبر»، فإن كان له ~~سواها فما أحسبه بالشيء الكثير. # ولقد مضى صنيع الشيخ أبي العلا سنة درج عليها الأستاذ المفتن المبتدع محمد ~~عبد الوهاب في بدائع أمير الشعراء، وسيدرج عليها غيره في نهضة الأدب الحديثة إن ~~شاء الله! # تذييل عبده الحامولي # في 23 أبريل سنة 1934 نشرت مجلة «الرسالة» للكاتب مقالا طويلا ختمه ~~بحادث شهده بنفسه من عبده الحامولي، ولقد رأينا إثباته في هذا المقام: # لم يكن يتهيأ لفتى حدث مثلي أن يسمع عبده الحامولي في سهولة ~~ويسر، فلقد كان في العادة، لا يغني إلا في بيوت الطبقة ~~«الأرستقراطية»، ودون أبوابها لؤم الحجاب، وعصي الأحراس، ~~فما ms247 من سبيل إلا في الغفلة من أعينهم، أو الرشوة في أيديهم، أو في ~~التسلل أعجاز الليل بعد منصرف السادة المدعوين، وعلى بعض هذا ~~أذن الله أن أسمع ملك المغنين بضع عشرة مرة. # وبعد فعبده، وتاريخ عبده، وفن عبده، وصنعة عبده، وبدع عبده، كل أولئك غني ~~عن التعريف والتبيين، ولكنني أبادر فأقرر أن صوت هذا الرجل على جلالته ~~وحلاوته، ووفائه بكل مطالب النغم في جميع الطبقات، لم يكن بالموضع الذي ~~يتمثل لأوهام من لم يسمعوه من أهل هذا الجيل، بل إن من القائمين من ~~لعله يجهره في هذا المعنى من الجمال، ولكن لا يذهب عنك أن من وراء هذا الحس ~~المرهف، والذوق الدقيق، والفن الواسع، والكفاية الكافية، والقدرة القادرة على ~~التصرف في فنون النغم ، في يسر ولباقة وقوة ابتكار، ورعاية لوجوه المقامات ~~المختلفة، والتوفيق إلى كل ما يغمز على الكبد، ألا لقد جمع الله أحسن هذا ~~كله لعبده الحامولي، فلم ينته أحد فيه ممن سمعنا منتهاه، إذا ~~استثنيت صاحبه المرحوم محمد عثمان، على اختلاف بين فني الرجلين ~~غير قليل. # وإني لأذكر أنني سمعته مرة عند مطالع الفجر، وكان ذلك في دار المرحوم السبكي ~~بك في شارع الطرقة الشرقي، ولعله كان قد مسه طائف من الشجا، فكاد يحيل ~~العرس مناحة من كثر ما تبادر لنغمه الشجي من دموع الناس! # أما الحادثة التي أوثرها بالرواية، فلقد كانت في دار رجل من خئولتنا أولم ~~لتزويج ابنه، وداره تقع في حي الناصرية، وكان صديقا حميما للمرحومين ~~عبده أفندي الحامولي، والشيخ يوسف المنيلاوي، وكان أثيرا عندهما كريم المحل ~~منهما، وقد دعاهما كليهما ليغنيا معا في عرس ابنه، فلبيا الدعوة ~~خفيفين. # وأنت بعد خبير بأن «أفراح» أولاد البلد لا يحجب عنها الناس، ولا يدفعهم ~~من دونها شرط ولا أحراس، وكذلك اكتظ السرادق بالمئات، إن لم ~~أقل بالآلاف من أصناف خلق الله. # ويستوي عبده إلى «التخت»، ويتدلى في الميدان يحمي ظهره الشيخ يوسف وأحمد ~~حسنين، ونصر الحصاوي، عليهم رحمة الله، وشيخ المغنين الآن الأستاذ محمد ~~أفندي السبع، نعمه ms248 الله بأطيب الحياة، ومعهم السيد أحمد الليثي بعوده (أو ~~الجمركشي لا أذكر)، وأمين أفندي بزري وإبراهيم أفندي سهلون بكمانه، ومحمد ~~أفندي العقاد بقانونه، فغنوا وعزفوا ما شاء الله أن يغنوا ويعزفوا، حتى أتوا ~~على ما يدعى «بالوصلة» الأولى، ولست أذكر ما تغنوا فيه من الأصوات ~~(الأدوار)، ثم استراحوا برهة من الزمن عادوا بعدها إلى شأنهم، وما برح عبده ~~رحمة الله عليه، يضطرب بين «الليل والعين»، ثم ينقلب إلى المواليا ~~فيرجع فواصله ترجيعا، حتى إذا فعل في هذا كله الأفاعيل، وصنع ما لا ترتقي ~~إلى صفته الأقاويل، أقبل يغني، والجماعة معه، «الدور» المشهور وهو من نغمة العراق: # 3 # لسان الدمع أفصح من بياني # وأنت في الفؤاد لا بد تعلم # هويتك والهوى لجلك هواني # ولكن كل ده ما كانش يلزم # إلى آخر ما يدعى في عرف أصحاب الغناء «بالمذهب»، ثم أمسك القوم ~~لحظة خرج بعدها عبده منفردا، وقفى العقاد على أثره بقانونه، وقال الجبار: ~~«أديني صابر على ناري!» # لست بمستطيع يا معشر القراء أن أقول لكم كيف قالها الرجل ولا كيف صنع؟ لأنني ~~أنا نفسي لا أدري، ولا أحسب أحدا من الخلق درى، كيف قال الرجل ولا كيف صنع؟! ~~ولكنني أستطيع أن أقول لكم إن طائفا عنيفا جدا من الكهربا سرى في هذا ~~الحشد كله لم يسلم عليه أحد: جمد الناس جميعا، وتعلقت أنفاسهم، وشل كل مناط ~~للحركة فيهم، فما تحس منهم إلا أبصارا شاخصة، وأفواها مفغورة، لو اطلعت ~~عليهم لخلتك في متحف يجمع دمى منحوتة لا أناسي يترقرق فيها ماء ~~الحياة! حتى القائمون بالخدمة، لقد مسهم هذا الطائف فجمدوا وثبتوا! وحتى رداف # 4 # عبده، لقد جرى عليهم من هذا ما جرى على سائر الناس! # ولقد ظلت هذه الحال زهاء عشرين ثانية، أعني قرابة ثلث الدقيقة، ~~وينفجر البركان الأعظم يتطاير عنه الحمم، وترى الخلق يموج بعضهم في ~~بعض، لا يدري والله أحد أين مذهبه، ولا تسل كيف قدرت الحناجر من ~~الشهيق، ولا كيف بريت الأكف بالتصفيق، وخرج الأمر ساعة عن عرس مقام ~~إلى مستشفى ms249 مجانين، رفعت فيه الحوائل وفتحت الأبواب، ونحى عنه ~~أحراسه من الشرط والحجاب! # | تطور الموسيقى المصرية في العصر الحاضر1 # سيداتي، سادتي # لست أثقل عليكم الليلة بنحو سيبويه ولا بلغة أبي عبيدة؛ لأنني لا أحدثكم ~~هذه المرة بلسان أعرابي بشملة، بل لقد أتدلى بالحديث إلى العامية الخالصة ~~ما اقتضاها المقام، وللعامية أيضا بلاغاتها ودقة تصويرها، وخاصة في مثل بعض ~~المقامات التي سأعرض لها بالحديث اليوم. # سأتكلم في هذه الأغاني الشائعة الآن، ولا يظنن أحد أنني بهذا أنحرف عن ~~الحديث في الأدب، فالقول في الأغاني إنما هو قول في صميم الأدب، ولا تنسوا أن ~~أغزر كتاب وأجمعه وأكفاه صنف في الأدب العربي، فأتى على عصارته وعيون روائعه من ~~أول العلم ببلاغات الجاهلية إلى غاية ثلاثة قرون في الإسلام، إنما كان موضوعه ~~الأغاني، بل اسمه الأغاني! # وقبل أن أمعن في موضوعي أخير من عندهم منكم فتيات إحدى اثنتين: إما أن ~~يقفوا «الراديو» بتاتا حتى ينقضي الزمن المقسوم لحديثي، وإما أن يصرفوا عنه ~~فتياتهم، على أنكم تستطيعون أن تطمئنوا من هذه الناحية إلى ما قبيل ~~مختتم الحديث، وعلى أنني أستطيع أن أؤكد لكم جميعا أن فتياتكم جميعا قد سمعن ~~هذا الذي سأتمثل به، وسمعن ما هو أنكر منه وأكره، ولقد سمعته محسنا ~~مبهجا لآذانهن الكريمة بالتوقيع والتطريب؛ بينا أنا لا أعرض منه ما أعرض إلا في ~~مقام التقبيح والتهجين، فأنتم الآن بالخيار، وقد أعذرت، فاللهم اشهد وأنت خير ~~الشاهدين! # وبعد، فأرجو ألا يتهاون أحد منكم شأن الأغاني، على اختلاف ضروبها وألوانها، ~~فالأغاني كما هي عرض من أعراض الأمة، وترجمان صادق الأداء عن حالها وعقليتها، ~~ومبعث مواجعها وآلامها، ومتناجى آمالها في الحياة وأحلامها، فإن لها كذلك لأثرا ~~بعيدا في بناء النشء وتربيتهم، وفي تسوية الأذواق العامة، بل إن لها وراء ذلك ~~لأثرا أبعد مدى يوم تكون الجلى، ويوم تستنفر الجمهرة ~~للعظائم! # على أن أثر الأغاني، في هذا الباب، لا يحتاج مني إلى بيان، فلقد طالما قال فيه ~~أفاضل الأدباء وبينوا، وأفاضوا فأجملوا وأحسنوا، وصدق المتقدمون حين ms250 قالوا: إن ~~توضيح الواضحات من بعض المشكلات، ولله أبو الطيب المتنبي حين يقول: # وليس يصح في الأذهان شيء # إذا احتاج النهار إلى دليل! # سيداتي، سادتي # لعل من الخير أن نستعرض حال الغناء وما اعتراه من ألوان التطور من قبل ثلاثين سنة ~~خلت إلى الآن، وكيفما كانت الحال، فإن الغناء المصري قد صرف جل ~~همه، إن لم يكن صرف همه كله إلى ترديد أحاديث الصبابة والهوى، وشدة البين ~~وطول النوى، وألم الفراق وحرقة الجوى، والهتاف بالمحبوب في حالي إقباله وإعراضه، ~~وجماحه وارتياضه، وإظهار الفرح بجميل لقائه، والشكوى من صده وطول جفائه، ونحو ~~هذا من فنون المعاني التي ما برح الغناء المصري يتصرف فيها إلى الآن، أما العناية ~~بإصابة المعاني السامية التي تتصل بتربية الأخلاق، أو بتزكية الأذواق، أو بوصف ~~الحالات الاجتماعية، أو الإشارة بالوطنيات جملة، فهذه لقد ألقاها الغناء المصري ~~دبر الآذان، إذا استثنينا أنشودة وطنية ضئيلة كان يترنم بها صغار التلاميذ عند ~~منصرفهم آخر النهار من مدارسهم، والتي مطلعها: # مصر النعيم هي الوطن # وهي الحمى وهي السكن # وهي الفريدة في الزمن # فجميع ما فيها حسن # ولست أدري إن كانت أقلام الشعراء أو المتشاعرين أرسلت في ذلكم العصر غير هذه ~~الأنشودة أم لم ترسل؟ وعلى كل حال فما في شيء من مثل هذا جليل غناء! # والآن نمضي إلى استعراض حال الغناء في مصر من قبل ثلاثين سنة خلت، وما دخل ~~عليه من التطورات إلى هذه الغاية، على أن يكون هذا في إيجاز بيان: لقد كان من عادة ~~جماعات المغنين - قل من ينحرف منهم عن هذا - أن يستفتحوا «وصلاتهم» ~~بالموشحة، ثم ينفرد رئيسهم بمناداة الليل والعين، ثم يتناول بعض الموالي فيروح ~~يرجعه، ويطوف به على فنون من النغم، ثم يرده على عقبه ويفضي منه إلى «الدور»، ~~يشترك الجماعة معه في «مذهبه» وينفرد هو بالتغني في «غصنه»، إلا أن يحتاج منهم إلى ~~المعونة في الترجيع والترديد. # ولقد ينشد القصيدة في أعقاب الليل، ولقد يتغنى - وكان هذا نادرا جدا - في ~~المقطوعة التي يتكرر على ms251 جميع وحداتها نفس اللحن، وهي المعروفة الآن «بالطقطوقة»، ~~ولا يزال المغنون التقليديون يصنعون هذا كله إلى اليوم. # وإنه ليعز علي أن أنعي، أو إني أكاد أنعي إليكم فنا جليلا من فنون الغناء، ~~ألا وهو الموشحة، ولولا بقية لا تزال تستفتح بالقديم المأثور منها أبواب الغناء، ~~لأدرجت في مطاوي التاريخ، ذلكم النوع الذي يحتاج في تلحينه إلى أبرع البراعة، ~~وأحكم الفن، وأقوى الصنعة، وأين منا ما لحن عثمان # 2 # وأضرابه من نحو: # كللي يا سحب تيجا # ن الربى بالحلي # واجعلي سوارك # منعطف الجدول # أتاني زماني بما أرتضي # فبالله يا دهر لا تنقض # ملا الكاسات وسقاني # نحيل الخصر والقد # وغير ذلك كثير. # ولا والله ما أرمي ملحني العصر بالقصور عن معالجة هذا، بل لقد تهيأ لي أن أسمع ~~موشحات قيمة من تلحين بعض المعاصرين، ولكن ما كان الأمر إلى ملحن يقدر أو لا ~~يقدر، إن مرد الأمر كله إلى هوى الجمهور، وإن شئنا تعبيرا أدق، قلنا إن ذلك ~~إنما يرجع إلى هذا التطور الذي يتناول أسباب الحياة جميعا. # سيداتي، سادتي # أما نصيب «الدور» من هذا التطور، فهو على أنه ما زال ينظمه الناظمون، ~~ويلحنه الملحنون، ويغني في قديمه وحديثه المغنون، إنني أراه - على هذا ~~كله - قد أنشأ يتقلص ويذوي غصنه، ويهون خطبه، ويدبر حظه، ولقد جعل ~~«المونولوج» يدافعه شيئا فشيئا، ويحتل مكانه رويدا رويدا، ولا أحسب ~~أن الزمن سيطول حتى يصبح شأن «الدور» كشأن الموشحة، إن دخلا في الغناء والتطريب، ~~فعلى أنهما فنان تقليديان فحسب، صنع من يبني في هذا العصر داره أو بعض داره ~~على طراز عربي أو فرعوني مثلا، وأكبر الحظ في مثل هذا إنما هو التلميح ~~والأغراب! # وهذا «المونولوج» ضرب من النظم لا أحسبه كان معروفا في الغناء القديم، أو على ~~الأقل إنه لم يكن شائعا فيه، ويلحق بهذا «المونولوج» «الديالوج» وهو ما يتطارح ~~الغناء فيه اثنان، و«التريالوج» وهو ما يتعاون الغناء فيه ثلاثة، وواضح أن هذا ~~الأسلوب الغنائي مما نضح به علينا الغرب في هذا العصر الحديث. # سيداتي ms252، سادتي # هنالك ضروب أخرى من التطور في أسباب الغناء المصري ألخص أهمها تلخيصا ~~رفيقا: ~~(1) # لقد كانت «الأدوار» والموالي في الجملة، أقوى عبارة، وأدق صياغة، وأحكم ~~نسجا، وما لها لا تكون، والذي يتولى نظمها هم السابقون الأوالي من أمثال ~~الشيخ علي الليثي، وإسماعيل باشا صبري، والشيخ الدرويش، ومصطفى بك نجيب، ~~ومحمود أفندي واصف، ولداتهم من أئمة الأدب وأعيان البيان؟ # ولست بهذا أذهب - لا سمح الله - إلى القول بأن أدباءنا اليوم قاصرون عن الإتيان ~~بمثل هذا أو بما هو خير منه، بل الواقع أن هذه الفنون أصبحت في تقلصها وإدبارها، ~~فلم يبق لها من جلالة الشأن ما يستدرج أعيان البيان لمعاناتها وعلاجها! ~~(2) # شيوع المرارة والألم في أناظيم الغناء الحديثة، حتى لا نكاد نسمع منها ~~إلا الأنين والزفير، والصراخ والعويل، ولا تكاد ترى فيها - لو ~~تمثلت لك خلقا يرى - إلا الدمع السائل، واللون الحائل، ولدم ~~الصدور، وشد الشعور، والتقوض على الأعتاب، وتمريغ الخدود في التراب، ~~وغير أولئك من ألوان الذلة والهوان والعذاب! # نعم، إن حديث العشق والصبابة لا ينبغي أن يخلو من هذا، فهو جار في طبيعة العشاق، ~~ولكن موالاة الحزن ومتابعة الأسى الدهر الأطول مما يتجاوز مدى الاحتمال! # على أنه قد كان إلى جانب «الأدوار» الشاكية الباكية، ولكن في رفق وحسن تأميل مثل: ~~لسان الدمع أفصح من بياني - في البعد يا ما كنت أنوح - كادني الهوى وصبحت ~~عليل - أقول لقد كان إلى جانب هذه الأدوار أدوار يشيع فيها الفرح وتقطر منها ~~البهجة من نحو: اليوم صفا داعي الطرب - متع حياتك بالأحباب - أنسك ~~ظهر - يا وصل شرف يا جفا رح عنا - خلي الحبايب بالحياة تتهنا - ~~أفراح وصالك تدعي الناس، للائتناس، والخير على قدوم الواردين - يا طالع السعد افرح ~~لي، دا الحب رح يوفى بوصله - وغير ذلك كثير. # ولقد يكون مرجع هذا إلى ما يطوف بالعالم هذه السنين من طوائف الهم والكرب والضيق، ~~ولكن ذلك لا يعفي الناظمين على أي حال، فهم إن ترجموا بهذا عن الحال العامة، فعليهم ~~إلى جانب ذلك أن يرفهوا ms253 عن الناس بعض الشيء، ويتراءوا لهم ولو بصبابات من ~~المنى، فالناس في جهدهم هذا أحوج ما يكونون إلى الترفيه والتأميل! ~~(3) # وهو الأدخل في الموسيقى والأوصل بها، ألا وهو التطور الشديد في التلحين، ~~ولست أدعي العلم بالموسيقى، بالقدر الذي يأذن لي بأن أفيض القول ~~في هذا الباب منها، فذلك من شأن من تحرروا لهذا وحذقوه، ولكن لا أظن أنني ~~أفتئت على الفن إذا زعمت أن الغناء المصري إنما كان يتصرف في قدر ~~محدود من فنون النغم؛ على أنه كان يتصرف فيها في براعة وقوة وسلامة تكاد ~~تشعر المصري أن هذا الغناء الذي يرد على سمعه، إنما هو صدى ما ~~يجري في طبعه، وأنه لو كان خلي إلى نفسه لقال هذا الذي سمع، وهذا ~~الذي يدعونه السهل الممتنع. # أما في العهد الأخير فقد أغارت الموسيقى المصرية على الموسيقات الأخرى، فسبت ~~كثيرا من أنغامها، فاتسعت بذلك رقعتها، وكثرت دروبها، وتشعبت ~~طروقها، وإذا كانت الآذان أو بعض الآذان لم تسترح إليها إلى الآن، فلعل ذلك ~~لأنها ما برحت في طور الترويض والتذليل، ولا أفسح في جوانب القول، فإنني أكره ~~أن أذكي الفتنة بين أنصار القديم وأصحاب الجديد! # وهنالك بعض التطورات الأخرى أرجئ الكلام فيه إلى الشق الأخير، وهو المقصود في ~~الواقع من كل هذا الحديث. # سيداتي، سادتي # بقي الحديث في تلكم المقطوعات التي شاعت في هذا العصر شيوعا هائلا، وأمست ~~تردد بكثرة عظيمة حتى على ألسنة كبار المغنين والمغنيات ما مهدت لهم ~~مجالس الغناء، ولا شك في أنكم عرفتم أنني أعني بها ما يدعى في العرف العام ~~«بالطقاطيق». # واسمحوا لي أن أقول لكم إنني، من الجهة القومية، أصبحت أحتفل للكلام في «الطقاطيق» ~~أكثر من احتفالي لأي ضرب آخر من ضروب الغناء! # نعم، لقد أصبحت مني بهذا الموضع لأنها في الواقع الأغنية الشعبية التي ~~ترددها حلوق الجميع في هذه الأيام: يرددها الرجال في مجالسهم، كما ترددها ~~السيدات في خدورهن، ويرددها الشبان والشابات، والفتيان والفتيات، الأطفال والطفلات، ~~كلهم يرددها على اختلاف المنازل وتفاوت الثقافات، فاللهم إذا ms254 كان لشيء من فنون ~~الغناء أثر شديد أو ضعيف، قريب أو بعيد في تكوين الأخلاق، وتربية الأذواق، والدلالة ~~على ثقافة أمة واتجاه ميولها، فهو ولا شك لهذه «الطقطوقة» أكثر من أي شيء ~~آخر. # وإنني أرجوكم أولا أن تقبلوا النظر في هذه «الطقاطيق» التي تمطرون بها كل ~~بكرة وكل عشي، إذن فلستم واجدين في أكثرها الكثير إلا كل رذل وسمج وسخيف ~~وبارد من الكلام! # حدثوني بعيشكم: أي غرض من مثل هذا الذي تسمعون كل يوم وكل ساعة، وأي معنى ~~فيه، وأي مغزى له؟ # وهنا أرفع شارة «الخطر»، ليأخذ من شاء الحذر: اللهم إن كان يطلب بهذا ~~الهراء من القول معنى أو يستشرف به إلى مغزى، فهو تصوير عقلية هذه الأمة ~~الكريمة أقبح الصور وأنكرها، بل إن من بين هذه الأغنيات لما يسعى جاهدا إلى ~~إشاعة الفاحشة فيها! # لقد كانت «الطقاطيق» تغنى في القديم، وكان أكثر من يصطنعها ويرددها ~~جماعات «العوالم» في أعراس الطبقة الوسطى وما دونها، على أنها كانت ظريفة خفيفة ~~على السمع، عفة بريئة من فحش القول، فإن هي شذت في القليل النادر جدا، ~~فشذوذها لا يصل بها إلى هذا الذي يدعونه الأدب المكشوف على أي حال! على أن ~~أعلام المغنين كانوا يرددون في قليل من الأحيان المقطوعات التي تتسق في ألفاظها ~~ومعانيها لأخطارهم وجلالة محلهم، وإذا كان قد غنى في بعض تلك «الطقاطيق» ~~النسائية، فإن ذلك منه إنما كان على جهة التطرف والتمليح! # سيداتي، سادتي # اسمحوا لي بأن أبين الفرق بين أغاني الرجال جملة، وأغاني النساء جملة، وهذا ~~الفرق وإن دق وصغر فإن له أثره البعيد: فأغاني هؤلاء يغتفر فيها من ~~الطراوة والرخاوة ما لا يغتفر في أغاني الرجال، سواء أكانت تلك الطراوة ~~والرخاوة في اللفظ أم كانت في طريقة الأداء، ولهذا ساغ للسيدات أن يغنين جميع ~~أغاني الرجال، في حين لا يسوغ لهؤلاء أن يتغنوا بكل ما يتغنى به السيدات؛ ~~لأنه إذا جاز للمرأة أن تشتد وتعنف - ولقد يكون ذلك جميلا منها في بعض ~~الأحيان - فقبيح كل قبيح ms255 بالرجل أن يسترخي ويتكسر ويتفكك ويتزايل، ~~والعياذ بالله تعالى! # وإن أعجب لشيء في هذا البلد، فعجبي لأن الكثرة الكثيرة من مغنيات الطبقة ~~الأولى يغنين غناء قويا مستمسكا لا أثر في نبراته لتميع ولا ~~لاسترخاء، وتأبى حلوقهن إلا أن ترسل الخالص الجوهري من حر الكلام، في حين ~~نسمع رجالا، رجالا عدة مجتمعين، أعني فرقة بأسرها، من لم يشعل الشيب منهم ~~رأسه، فلا أقل من أن له أولادا مميزين، لعل فيهم من ارتقى إلى المدارس ~~الثانوية بله العالية، هؤلاء الرجال لا يتأثمون من أن يغنوا على أملاء الناس: ~~«لابسة الدواق ليلة الزفة، فرحانة بالدخلة ... وخايفة إلخ ...»، يا للفضيحة ... ويا ~~لانخذال الطباع! ... # وبعد، فهل هذا كلام يليق بالرجال؟ لا والله ولا يليق بالنساء! # ولا يكفي هذا، بل يؤبى إلا أن يطبع في «أسطوانات» تذيع في الشرق والغرب، ~~ويصيح بها «الراديو» في كل مكان! # لقد أفهم يا سيداتي وسادتي، أن تغني سيدة في السيدات: «مبروك عليك عريسك ~~الخفة، يا عروسة يا زاينة الزفة» مثلا، لكنني لا أتصور، ولا أطيق أن أتصور، أن ~~يتمثل للمذياع سبعة أو ثمانية من شبابنا الناهض، فيتغنون في تكسر صوت واسترخاء ~~نبرة، مبالغة في المحاكاة والتقليد: «مبروك عليك عريسك الحيلة ... تتهنوا وتتمتعوا ~~الليلة ...» يا ساتر! يا ساتر! يا دافع البلاء! اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا! ... ثم ~~لا يتحرج الفحل منهم أن يزغرد كما تزغرد مساعدات المغنية، وذلك منهم ~~كذلك لإحكام المحاكاة والتقليد! # سيداتي، سادتي # ليس والله أفتك بالأخلاق ولا أعصف بالآداب من شيوع مثل تلكم الأغاني ~~الخبيثة المائعة، وخاصة على ألسنة الرجال، وإنها لحقيقة بأن تشيع في فتيانكم انخذال ~~النفس، وتزايل الخلق، واسترخاء الطبع، وتدك مكان الرجولة فيهم دكا، وإنني ~~بإيراد هذه المترادفات إنما أحاول أن أؤدي ما تؤديه اللفظة المقسومة لهذا المعنى؛ ~~ولكنني أرفق بأسماعكم، وأشد إجلالا لكم من أن أحملها جناح الأثير، ~~فتسلك جميع الدور، وتقتحم الخدور على ربات الخدور! # وليست الجناية في ترجيع مثل هذه الأغاني مقصورة على فتيانكم رجال الغد، بل إنها ~~لواقعة أيضا على فتياتكم ms256 أمهات المستقبل، فتياتكم اللائي يفرض عليهن الوطن، إذا ~~ما شببن وأصبحن ربات بيوت، أن ينشئن الطفل - أعني وديعته بين ~~أيديهن - على الفضيلة، وأن لا يتعاظمهن جهد في إعداده ليكون إذا شب وكبر، رجلا ~~تام الرجولة. # سيداتي، سادتي # إن لبلادكم آمالا عراضا في جميع نواحي الحياة، وهيهات أن تنال أيسرها ~~مطلبا إلا على أيدي رجال صحاح البنى، متان الأخلاق، شداد النفوس صلاب ~~الطباع. # والأمر الآن إليك أيها الشعب، فقل كلمتك، وامض في شأنك حكمك، والله موفقك ~~وهاديك سواء السبيل. # | في الأغاني المصرية1 # لقد شاعت في هذه السنين مقاطيع الغناء المعروفة «بالطقاطيق»، وهي من فاتر القول ~~وساقط الكلام، لا يرن في أذنك فيها لفظ، ولا يتشرف على نفسك منها ~~معنى، فأما ما يجري منها على ألسنة الفتيان ، فكله خور وتكسر واستخذاء هيهات ~~أن ينتهض معها للفتى عزم، أو يشتد له طبع، وأما ما يتصلصل منها في حلوق ~~البنات، فكله خنى وعهر، وكله استرسال في الفتنة إلى آخر المدى، وكله تدريب ~~على عصيان الآباء في طاعة الهوى! «أنا لما استلطف ما يهمني بابا»! وكله ~~لا يرفع الأم عن مكان القيادة، بما يقتضيها أن تفسح في جوانب الحيل لتجمع بنتها ~~بهواها، وتبلغها أخس مناها: «هاتي لي حبي يا نينة الليلة!» # وهنالك ما هو أوصل من هذا بالتعهر وأعرق في أبواب الفحش، مما إن صنت عينك ~~عن قراءته، فلا سبيل إلى أن أصون أذنك عن استماعه في الملاهي، وفي الشوارع، ~~وفي أجواف المقاهي، وفي أكسار الدور، ترجعه بنت الشريف على نبرات «البيانو»، وتوقعه ~~بنت الوضيع على نقرات الدف. # وهذا لعمر الله شر كثير، وأي شر أبلغ من أن يطبع الأبناء على ضعف ~~الهمة، وخذلان النفس، وخنث الطبع، وأن نطالع أنفس البنات في شباب السن، بهذه ~~المعاني الخسيسة، وتستدرج أحلامهن إلى تلك الأغراض الوضيعة، إلى ما يجري على ~~ألسنتهن من تهاون لأقدار الآباء، وعبث بوقار الأمهات! # ولقد كانت دور «السينما» تعرض من حيل اللصوص والقتلة، وأسباب غدرهم ~~وفتكهم ما بعث الحكومة على مراقبة ألواحها ضنا بأحلام ms257 الفتيان، عصمة ~~لأخلاقهم من أن يشيع فيها الفساد بحكم المحاكاة والتقليد، وهي على كل حال دور ~~مقصورة لا يغشاها إلا القليل بالقياس إلى سائر الناس، إلى أنها لا تقوم إلا في ~~المدن وحواضر البلاد، فكيف بهذه الأغاني وهي تطير إلى الناس من كل جانب، وتملك ~~عليهم أقطارهم من جميع المذاهب، وتسلك الأكواخ وتقتحم القصور، ولا يسلم على ~~أذاها حتى المكفوفات في الخدور، فأنى دارت الآذان، سمعت صلصلتها من كل ~~حلق وجلجلتها على كل لسان! # وإن شططا تكليف الحكومة أن تنشر في الشوارع والدور شرطها وعسسها ~~ليقبضوا على أصحاب هذه التلاحين، كما يقبضون على المتجرين في الكوكايين، ~~ويصادروا كل ما في الأفواه من هذه «الطقاطيق»، كما يصادرون ما في الجيوب من تلك ~~المساحيق، فذلك مما لا يتسع له الذرع، والمخلص أن ينهض جماعة من أئمة ~~الأدب وأعلام الموسيقى، فيدافعوا هذا الوباء، ويداووا بالتي كانت هي الداء، ~~فينظم أولئك ما يخف على السمع من معان شريفة، في ألفاظ حلوة لطيفة، تبعث ~~الهمم، وترفع الأنوف إلى موضع الشمم، ويخرجها هؤلاء في تلاحين تثير ~~الطرب وتهز الأريحية هزا! ~~••• # وبعد، فتالله لو كان لي بعض ثروة «فلان» باشا لأجريت على هذه الجماعة من ~~مالي ما يغنيها ويتضمن لها طول الحياة، فإذا شق هذا على النفس، فحسبه أن يفتح ~~الباب، ويبدأ قائمة الاكتتاب، فإذا شق هذا على النفس أيضا، فإني أرجوه أن يدعو ~~إليه كلا من رصفائه «فلان» باشا، و«فلان» بك، والسيد «فلان»، فيقرءوا ~~«العدية»، على هذه النية، فما برحت المشروعات القومية تقوم ببركة أسمائهم، وتنجح ~~بحسن توسلهم ودعائهم، اللهم آمين! # | التجديد والمجددون1 # سيداتي، سادتي # أتحدث إليكم الليلة في التجديد والمجددين، فإننا الآن في شبه ثورة، بل في ~~ثورة بالقديم من الآداب والفنون: فهناك ثورة في البيان، منظومة ومنثورة، وهناك ثورة ~~في الموسيقى، وهناك ثورات في غيرهما من الفنون، وكل أولئك إنما يعبر عنه ~~بالتجديد، ويعبر عن المضطلعين به بالمجددين، وإني لأخشى في التعبير بكلمة ~~«الثورة» أن أكون من المتجوزين! وقبل أن أخوض في لجة ms258 الموضوع، أرجو أن تأذنوا لي ~~في أن أعرض عليكم نموذجا مما سلف لي من الرأي في هذا الباب، وأرجو أن يكون ~~كافيا في استراحة إيمانكم إلى أنني لست من الجامدين المتشبثين بلزوم القديم، بل ~~إنني لأطمع في أن يقنعكم بأنني من أشد أنصار التجديد والمجددين، ولكن على صورة ~~أحب أن يتفطن إليها بعض هؤلاء المجددين! # قلت من رسالة في الذكرى الثانية لوفاة أمير الشعراء المرحوم أحمد شوقي بك: # إذا كان من آيات الحياة في الكائنات تطورها ونموها وتجددها، ~~فالأدب ولا شك من هذه الكائنات التي لا تكتب لها الحياة إلا على ~~التطور والنمو والتجديد، وإلا كان ميتا، أو أشل على أيسر ~~الحالين! # ولكنني أحب أن ألفت النظر في هذا المقام إلى مسألة قد تدق على ~~أفهام الكثير أو القليل، وتلك أن هناك فرقا بين التربية والتجديد، ~~وبين المسخ والتغيير، ولست أجد مثلا أسوقه في هذا الباب خيرا من ~~حياة الطفل وحياة النبات: كلاهما ينمو ويربو، وكلاهما يطول ويزكو، حتى ~~يبلغ الحد المقسوم لكماله، وقد تتغير بعض معارفه، وقد تحول ~~بعض أعراضه، ولكنه في الغاية هو هو لا شيء آخر، فحسن الوليد، هو حسن ~~الطفل، وهو حسن الفتى، وحسن الشاب، وهو حسن الكهل وحسن الشيخ، ~~وتلك الفسيلة الصغيرة، هي النخلة الباسقة، كل نما وربا بما دخل عليه من ~~الغذاء، وما اختلف عليه من الشمس والهواء. # لقد أصاب كل منهما ما أصاب من أسباب التزكية والإرباء، فاحتجز منها ما ~~واءمه وما تعلقت به حاجته، ونفى عنه ما لا خير له فيه، ولا حاجة به ~~إليه، ثم أساغ ما أمسك وهضمه، فاستحال في جسم الفتى - مثلا - ~~دما يجري في عرقه، ولحما وعظما يزيدان في خلقه. # ولا شك في أن لأدبنا العربي عناصر وله مقومات، وله شخصية بارزة معينة ~~فمن شاء فيه تجديدا - وحتم الحتم على القادرين أن يجددوا - ~~فليتقدم ولكن من هذه السبيل. # سيداتي، سادتي # لعلي أطلت عليكم في دفاعي عن نفسي وإثبات براءتي من الجمود والجامدين، ولكن ~~مما يشفع لي عندكم في ms259 ذلك أن هذا الدفاع قد صرح لكم في الوقت نفسه عن رأي ~~في التجديد والمجددين، وهذا ولا شك وثيق الصلة بالموضوع الذي عقدنا له هذا ~~الحديث. # عرفتم إذن أنني لست والحمد لله، من الجامدين العاضين بالناجذ على كل ما هو ~~قديم لأنه قديم، وعرفتم كذلك أنني أرى وجوب التجديد لأن طبيعة الحياة ~~تقتضيه، بل إن التطور والتجدد من علامات الحياة، على ألا يكون هذا التطور ~~والتجديد ضربا من المسخ والتشويه! # وبعد، فالمقام ما برح محتاجا إلى شيء من البسط والتفصيل، فلنمض على اسم الله، ~~في معالجة هذا البيان بقدر ما يتسع له الوقت المقسوم. # تعلمون أيها السادة، أن العلوم على وجه عام، إنما تستمد قضاياها من العقل ~~والتجارب، أما الفنون الجميلة على وجه خاص، فإن استمدادها في الجملة من الذوق، ~~فهي من الذوق تنشأ وإلى الذوق تعود، والذوق شيء ليس في الكتب. # وإذا كانت العقول الصحيحة قل أن تختلف بإزاء الحقائق الواقعة باختلاف الأشخاص ~~أو البيئات والعصور، فإن الاثنين مثلا ضعف الواحد، وزوايا المثلث تساوي قائمتين، ~~وهذا في كل زمان وفي كل مكان، إذا كان هذا هكذا، فإن الفنون التي مردها إلى ~~الذوق - أعني الفنون الجميلة - تفترق افتراقا قد يكون يسيرا وقد يكون شديدا، ~~طوعا لاختلاف الأشخاص والعصور والبيئات، فما يعجب قوما ويلذذهم ويشيع ~~الطرب فيهم، لقد ينشز على أذواق آخرين ويدخل الضجر عليهم، بل لقد ~~يزعجهم ويغثي نفوسهم. # ذلكم بأن حاجة الأذواق ليست من آثار منطق العقل، ولا هي وليدة الحقائق الواقعة حتى ~~تشترك الخلائق على اختلاف أصنافهم وأعصرهم في تقبلها والتسليم بها، بل إنها ~~لوليدة البيئة والتاريخ، ومأثورة العادة والإلف الطويل، ولا شك في أن من عناصرها ~~المهمة كذلك حظ الأمة من العلم والثقافة، ولون هذه الثقافة، ومبلغ الأمة كذلك ~~من دقة الحس ورهافة الشعور. # من هنا كان لكل أمة أدبها، وكان لكل أمة موسيقاها، وكان لها غير هذين من ~~ألوان الزخرف والتصوير، وغير الزخرف والتصوير، من كل ما يدخل في معنى الفن ~~الجميل، فليس من حق جماعة ms260 أن تقول لأخرى: إن هذا الأدب الذي تصطنعين لا يترجم ~~حق الترجمة عن شعورك، ولا يواتي منازع عواطفك، أو إن هذا اللون الذي تتخذين من ~~الموسيقى لا يوائم ذوقك. # ولا يلذذك ويدخل الطرب عليك، ذلكم بأن مظاهر هذه الفنون إنما هي أمور ~~نسبية، لا تكاد تتصل بأحكام العقل أو الواقع خلافا لقضايا العلوم، وقد تقدم في ~~ذلك الكلام. ~~••• # لكم بعد هذا أن تسألوني عن كيفية التجديد إذن وعن مدى آثار المجددين؟ # والواقع أنه حين يعرض هذا السؤال تعرض للنفس مسألة أخرى: ترى الأذواق هي ~~التي تؤثر في الفنون؟ أم الفنون هي التي تؤثر في الأذواق؟ # لقد سبق القول في أن منشأ الفنون الجميلة إنما هو الذوق أولا، وهي إنما تصطنع ~~لتنعيم الذوق وتلذيذه آخرا، فهي منه تبدأ وإليه تعود، ولكن ليس معنى هذا أن الفنون ~~لا أثر لها ألبتة في تكييف الأذواق، بل إني لأزعم أنه قد يكون لها في بعض الأحيان ~~الأثر البعيد، إذن فهناك تفاعل من الجانبين، أعني بين الأذواق والفنون، ونحن ~~إذا عبرنا في هذا المقام بكلمة «الفنون» فمن الواضح أننا إنما نريد أثر ~~المفتنين، أو على الصحيح أثر العبقريين من جماعات المفتنين. # ومن الجلي أن العبقري هو الذي يرتفع على مجموع قومه، وأحيانا على أهل ~~عصره في صفة أو في أكثر من صفة، بحيث يتهيأ له أن يدرك في بعض الأمر ما لا ~~يدركون، ويشعر بما لا يتعلق لهم به حس ولا شعور، ولنقصر الحديث على عباقرة ~~المفتنين، ما دام الحديث في الفن والمتفننين. # المفتن الموهوب إنسان أوتي كمال الذوق، ودقة الشعور، ورهافة الحس، ~~وحدة العاطفة، والقدرة القادرة على الأداء والتصوير، وليس يشترط فيه أن يكون ~~واسع العلم غزير المادة، بل بحسبه أن يحصل من قضايا فنه صدرا لا يزل ~~معه ولا يضل. # ولقد قلنا إنه يسبق بتلك المواهب جمهرة قومه، ولقد يسبق أهل عصره؛، إذ تهديه ~~فطنته إلى أشياء لم يفطنوا لها، وتذيقه رهافة حسه ألوانا من الشعور لم ~~يتذوقوها، فينفضها بما رزق من براعة ms261 الأداء كما أحسها، ويحاول أن ~~يذوقها غيره كما تذوقها، وكذلك تزيد ثروة الفنون وتشحذ الفطن، وترهف ~~الأحاسيس على اطراد الأيام. # نعم، لقد ينصب بعض هؤلاء العباقرة للعدول بالفن عن مذهبه، وقد يقلبه رأسا على ~~عقب، وتلكم هي الثورة بعينها، والثورات كما تعلمون حالات شاذة لا ينبغي أن تجري ~~على مظاهرها الأحكام العامة. # وكيفما كان الأمر، فإن ما تجيء به الثورات إما أن يختفي ويزول جملة بعد الدعة ~~والاستقرار، وإما أن يتخلف منه صدر ترى الطبيعة أنه صالح للبقاء، وهذا القدر ~~بالنسبة إلى الفنون، مهما يكن في مبتدأ الأمر نابيا عن بعض الأذواق، فإن مما لا شك ~~فيه أنه مع طول الزمن وكثرة تقليبه على الذهن أو السمع أو البصر، وانعقاد الإلف، ~~تتكيف به الأذواق وتتلون، ولقد يكون تكيفها به وتلونها إلى حد بعيد. # بقيت مسألة دقيقة أحب أن يجيل الرأي فيها سادتنا المتصدون للتجديد ~~شعراء كانوا أم كتابا أم موسيقيين أم مصورين، وهذه المسألة أن المرء ~~مهما يكن على حظ من المواهب، وخاصة فيما يتعلق بالأذواق والعواطف، فإنه لا بد ~~متأثر بقدر غير يسير، بالبيئة التي درج فيها، وبعادات قومه، ومنازع ~~عواطفهم وما ألفوا بطول الزمن، وغير أولئكم مما انحدر إليهم من التاريخ البعيد، ~~هو متأثر بكل هذا حتى ليكاد يتصل بطبعه وغريزته، فالأصل فيه أن يحس الأشياء كما ~~يحسها قومه، وأن يذوق ألوان المعاني كما يتذوقها معشره، وذلكم بحكم ~~ضرورة الاشتراك في الجملة، في عناصر تكوين الذوق العام، فهو على هذا إذا ابتدع ~~طريفا، واستحدث في الفن جديدا، ففن قومه القائم هو ولا شك أساس ابتداعه، ~~وملاك ابتكاره واختراعه. # وهذا إلى أنه إنما يسعى في هذه السبيل سعيه ليرفه عن قومه أولا، ولينعمهم ~~ويدخل الطرب والسرور عليهم، فينبغي له بالضرورة ألا يسقط من حسابه في ~~تجديده ألوان عواطفهم، وما تستريح إليه من صور الجمال أذواقهم. # نعم لقد تفتر الأذواق في مبتدأ الأمر عن الجديد، ولكنها سرعان ما تألفه ~~وتتذوقه وتلتذه، ما دام يمت إلى فن القوم بسبب، ويدلي إليه ms262 بنسب، ~~ولا حرج على المفتن، بل إن من واجبه أنه إذا حرك عواطفه، وهز مشاعره ~~شيء من آثار فنون الأمم الأخرى، أن يبادر إلى اقتناصه، يسرع إلى معالجته بالتسوية ~~والتثقيف، حتى يتسق لفن قومه، ويطبع بطابعهم ويسوغ في مذاقهم، حتى ليترجم ~~عن بعض ما يعتلج من العواطف في نفوسهم. # أما أن يهجم على القطعة من فن غيره فينتزعها انتزاعا، ويمتلخها امتلاخا، على حين ~~لا يتذوقها هو نفسه ولا يسيغها، ولا هي مما يمكن أن يسيغه قومه ويتذوقوه، ومع ~~هذا يأبى إلا أن يستكره استكراها على فنهم باسم التجديد، فذلكم لعمري هو ~~المسخ والتشويه! # سيداتي، سادتي # ليس في هذا اللون من «التجديد» إساءة إلى الفنون، وإساءة إلى الناس بما يفوت ~~عليهم من الاستمتاع بالفنون الجميلة فحسب، بل إن من شأنه أن يبلبل أذواق الجمهرة ~~ويشتتها تشتيتا! # اللهم إن براعة المفتن هي في أن يطبع ما يسنح له بطابع فنه، وينظمه في ~~سمطه، فلا يشوه به الفن ولا يتنكر، بل يظل هو هو، على ما زيد في ثروته، ~~ووسع في آفاقه، ومد له في تلطيف العواطف وإرهاف الأحاسيس، وحسبكم ما صنع ~~المرحوم عبده الحامولي بالموسيقى المصرية، وما كان له في التجديد البارع حقا من ~~أثر بعيد. # وبعد، فإذا كان عندنا بفضل الله، نوابغ أكفاء للتجديد الصحيح في الآداب ~~والفنون، فإن فينا مع الأسف العظيم، من يعبثون أشد العبث بالآداب والفنون، ~~ليظفروا هم الآخرون بلقب «الأبطال المجددين»، وما أرخص الألقاب، إذا كانت لا تنال ~~إلا بمثل هذا الإغراب! # إن بعض هذا الذي تقع عليه أسماعنا وأبصارنا في الفنون والآداب ليس تجديدا، ~~ولكنه مسخ وتشويه، وما ظنكم بمن كل جهده هو محض الإغراب، والإتيان بكل ~~ناب عن الطباع ناشز على الأذواق، وكيف لمن لا يحس شيئا بأن يشعره ~~غيره، وقد قال الأقدمون: إن فاقد الشيء لا يعطيه؟! # هؤلاء رأوا أن فلانا ذهب له صيت وذكر لأنه أتى في الفن بما لم يكن ~~يعهد الناس، فما لهم هم أيضا لا يغربون، واقعا هذا الإغراب حيث ms263 وقع، ~~ليذهب لهم كذلك في الفن ذكر وصيت؟ ~~••• # لقد عبرت في صدر حديثي بكلمة «الثورة»، وخشيت أن أكون في هذا التعبير من ~~المتجوزين، فالثورة كما تعلمون، إنما هي الانفجار من أثر فكرة تغلي في ~~الصدر، غليان الماء في القدر، ثم إنها تضطرم وتحتدم في سبيل تحقيق ~~غاية معينة، فهل بعض هذا الذي نرى ونسمع في الأدب والفن كذلك؟ أي أن الفكرة قد ~~ملكت على هؤلاء جميع مذاهبهم، وغلت في صدورهم فثاروا بالقديم، وراحوا ~~يقيمون فنونا جديدة واضحة المعارف بينة الرسوم! أم أن الأمر كله لا يعدو ~~التلفيق من هنا ومن هنا تلفيقا كله تعسف واستكراه، حتى تبدت للفن صورة ~~متناكرة الأعضاء، متنافرة الأجزاء، وذلك في سبيل الإغراب طلبا للظفر كما قلنا بلقب ~~«البطولة في التجديد»؟! # إذا كان الأمر كذلك، فليس ما نحن فيه بثورة، ولا هو من الثورة في كثير ولا قليل، ~~إنما هو الفوضى بأجمع معاني الكلمة، فحذار أيها الإخوان حذار، وإلا لحق ~~الفنون البوار، وحقت عليها «بتجديدكم» كلمة الدمار! # | ديمقراطية الفنون! # ترى أمن الحق الواقع أن الإنسان، وأعني من الأناسي من يعالجون فن البيان، ~~قد يعيي عليه الفكر ويستصعب عليه الرأي في بعض الأحيان، فلا يرى بدا من أن ~~يعود بالقلم يستهديه ويستنديه، ويترسم آثاره، حتى يقع على الرأي، ويبلغ - ولو في ~~تقديره هو - مناط الصواب؟ # اللهم إنه ليخيل إلي أن الأمر هكذا، فلو كان هذا حقا لبلغ بادئ الرأي ~~من كل من يطالع به مبلغ العجب، إذ المقدر أن ذهن الكاتب هو الذي ~~يصرف القلم، لا أن القلم هو الذي يصرفه، وأن الذهن هو الذي يوحي إليه، ~~ويملي ما يشاء عليه، إذ كل سداد هذه القصبة إنما هو في الرسم والرقم لا أكثر ولا ~~أقل. # والآن أترقى بالدعوى فأزعم أن الواقع، في بعض الأحيان، هو كذلك، وهو إذا لم ~~يجر في طباع جميع الكاتبين، فإنه يجري في طباع بعض الكاتبين. # على أن من الخلال التي لا ينشز عليها أحد، ولا أظن أن يماري فيها أحد، أن الكاتب ms264 ~~مهما يحط بموضوعه، ويتكشف له من قضاياه، ويتمكن من ناصية الرأي فيه، ويظن ~~أن ذهنه قد استوفاه، وتقرى جميع أقسامه ومسائله، حتى يتمثل له في صورة ~~متسقة الأعضاء، متلاحمة الأجزاء، ليس بينه وبين أن يجلوها على الطرس ~~كذلك إلا أن يتفصد بها عليه اليراع في غير جهد ولا عناء، أقول إن الكاتب مهما ~~يخيل إليه ذلك، فإنه لا يكاد يجري بتدوين ما يحضره من الفكر يراعه، حتى يرى ~~هذا الفكر يزيد وينقص، ويتلون ويتشكل، وقد يتحرف ويتحول، وقد يتغير ~~ويتبدل، وقد يميل عن سياقه المقسوم، ويعدل ألبتة عن مذهبه المرسوم، فيخرج في ~~النهاية خلقا غير الذي هيأ الكاتب وقدر، في صورة غير التي سوى في ذهنه ~~وصور! # هذا هو الواقع، وما أحسب الأمر فيه حبسا على الكاتبين وحدهم، بل لعله ~~متناول سائر من يعانون مختلف الفنون. # وهنا أرجو أن يفهم من كلامي أنني إنما أريد النظم والأسلوب والسياق، وألوانا ~~من التفصيل، ونحو ذلك مما تتجلى به صور الكلام. # وتعليل ذلك ليس بالأمر العسير، فإن المفتن مهما يظن أن موضوعه قد أصبح بعد ~~جولان الفكر وطول التدبر، تام الخلق مكتمل الصورة، بحيث لا يحتاج في ~~نفضها على القرطاس إلى زيادة أو إلى تهذيب، فالواقع أن هذه الصورة مهما يبلغ ~~حظها من النصاحة والوضوح، لا تعدو أن تكون إجمالية يعوزها كثير أو قليل من دقاق ~~التفاصيل، حتى إذا اجتمع لنقلها إلى عالم الحقائق الخارجية - على تعبير أصحاب ~~المنطق - جعلت تسنح له الفكر واحدة بعد أخرى في صور جزئيات، وأحيانا في ~~صور قضايا كلية، وهذه وهذه لقد يبعثها بين يدي القلم وصل فكرة بفكرة، أو ~~التحول من غرض إلى غرض، أو الشعور بحاجة الكلام إلى البسط والتبيين، أو الاستطراد ~~بحكم تداعي المعاني، بما لم يقع للكاتب من قبل في الحسبان، أو غير أولئك مما ~~تتغير به صور المقال، ويجلوه على غير ما تمثل الذهن له من المثال. ~~••• # هذه عادة الكاتبين، ما أحسب أنه يستثنى عليها منهم أحد، وإذا كان هذا غير ~~ما زعمت ms265 في صدر هذا الحديث، وإذا كان لا ينتهض دليلا على صحته كله، فلا ريب ~~في أنه قد يهدي إلى تعليله وجه السبيل: ذلك بأن ما يصحب جولة القلم من اتساع ~~آفاق الفكر، والنفوذ إلى بعض الدقائق، وسلوك كثير من الجزئيات، والوقوع على ما لم ~~تتبسط له الفطنة من قبل، وأثر هذا في طبع الكلام، ونزوع سياقه إلى غير ~~منزعه، وتجليته في غير الصورة المقدرة له، أقول: إن ما يكون من هذا في صحبة ~~القلم - أعني ساعة تشمير الكاتب للصياغة وإجراء البيان - من شأنه - مع الزمن وكثرة ~~المعاودة - أن يدخل في وهمه أن القلم مما يرفد ويمد ويعين! # وفي هذا المقام يحسن بي أن أذكر أنني أملي المقال في بعض الحين، وإني لأقوم على ~~هذا ما دام الكلام هينا لينا، حتى إذا تعذر علي القول وتعصى الكلام، ~~أو إذا قدرت أن المقام يحتاج إلى حد الكلام وسطوة البيان، أو إلى تزيين اللفظ ~~وتبهيجه، والتأنق في صياغته ونظمه، أسرعت إلى اختطاف القلم، فاستشعرت القوة ~~وأحسست المدد، وسرعان ما يواتيني مما أبغي من هذا ما لا يواتيني به الجهد في ~~الإملاء! # هذا إلى أن الذهن، كما أسلفت، قد يعيا بالإحاطة، ويضيق عن انتظام جميع جزئيات ~~الموضوع جملة، وربما تواثب عليه من طوارق الفكر ما يشغله ويفرق شمله، ويكفه عن ~~موالاة التصفح والاسترسال، وخاصة في ساعات القلق واختلاج النفس، وقلة استراحتها ~~إلى الاطمئنان والقرار، أما إذا اجتمع الكاتب للبيان، كان مضطرا إلى أن يجمع ~~شمله ويعتنق نفسه، ويرهف ذهنه ويذكي حسه، ويصل كل الوصل ما بينه ~~وبين فكره، ويقطع كل القطع ما بينه وبين غيره، وتراه كلما اطرد في البيان ~~جليت عليه الصور، وتتابعت المعاني وتلاحقت الفكر، فتيسر له وهي متمثلة ~~بين يديه، أن يمد الذهن لتفقدها، وتقري ما عسى أن يعزب من وجوه ~~الرأي عنها، وتبين ما يأتلف منها وما يتناكر، وما يتوافق وما يتنافر، فهيأ له ~~ذلك التسوية ما شاء من خلق الفكرة، وتجليتها في صورتها الكاملة، بقدر ما يدخل في ~~طوقه ms266 ويتسع له ذرعه. # لعله قد بان لك بعد هذا، الوجه فيما زعمت من أن الكاتب قد يعيي عليه الفكر ~~ويستصعب عليه الرأي، فلا يرى بدا من أن يعود بالقلم يسترشده ويستهديه ~~مواقع الصواب! # وإذا كنت قد أطلت في هذه المقدمة، فاعلم أن هذا شأني اليوم في علاج هذا ~~المقال. # سؤال يتطلع إلى جواب # وبعد، فإن سؤالا يترجرج منذ أيام في نفسي، وكلما هممت بالارتصاد للنظر في ~~موضوعه، وإشاعة الذهن في أقطاره، والتماس جواب له تستريح إليه النفس ~~ويطمئن به صحيح المنطق، تطايرت عنه شعب هذا الذهن بما يهجم عليه ~~من طوارق الفكر، أو يغمز من أوجاع المرض، أو بما يزحم المرء من هم ~~يعز عليه في بعض الأحوال، أن يجد له مفيضا ومتنفسا، وإني لأصرف ~~هذا السؤال عني صرفا وأدعه دعا، فلا يني عن مطالعتي من أي أقطار ~~الفكر لأن له مدخله، وما برح كذلك يعتادني لا سلطان لي عليه، ولا طاقة لي ~~بكفه والخلاص من طنينه، ولا أنا - وقد عرفت شأني - بقادر على الاستراحة إليه ~~والاسترسال معه حتى أبلغ به ولو بعض ما يريد! # إذن لم يبق بد من جمع الشمل، وحد الذهن، وكف الطوارق عن النفس، ~~واستكراه الفكر على التجرد في هذا المطلب أو يبدو فيه وجه الرأي، ولا يكون ~~هذا، إذا قدر أن يكون، إلا بانتضاء القلم والتشمير للبيان، فعلى هذا نمضي ~~مجتدين القلم، وأكبر الظن أنه لن يجود بجليل! # أما السؤال المذكور بكل هذا فهو: ترى هل من الخير أن تشاع الفنون في الناس ~~وترسل بين أيديهم كافة، يتناولها منهم من شاء، وينقبض عنها من شاء؟ أو ~~أن الخير في أن تكون حبسا على طائفة خاصة، لا يجوز أن يقتحم عليهم ~~شأنهم فيفري فيها فريهم إلا لمن دلت الدلائل على كفايته وتهيئته ~~للتجويد والإحسان، أو على التعبير العصري: هل الأفضل أن تجري الفنون على ~~سنة «الديمقراطية»، أو أن تكون «أرستقراطية» لا يليها إلا طبقة معينة من ~~الناس؟ # لقد يتعاظم بعض القارئين أن ينبعث مثل هذا السؤال ms267 في هذا الزمن الذي ~~تنتشر فيه «الديمقراطية» وتتبسط بكل قواها حتى تكاد تضغط آفاق ~~العالم جميعا، لا يسلم عليها ما أقامت الأحقاب الطوال من الحدود، ولا ما ~~رفعت التقاليد العاتية من الحواجز والسدود! # واللهم إن ما يتعاظمني من شأن هؤلاء لأعظم، فما كنت لأشير على ~~الطبيعة برأي، أو أتقدم إليها بأمر، أو أسأل خلقا من الناس أن يكفوها ~~عن غايتها، أو يعدلوا بها عن مذهبها، وأين أنا والناس جميعا من ذاك؟! ~~إنما وجه السؤال إلى المفاضلة بين أن تصنع الطبيعة كيت، أو أن تعدل من ~~نفسها إلى كيت، فالأمر لا يخرج عن أفق التمني على كل حال. # على أن الإنسان مهما يكن ضعيفا بإزاء عتو الطبيعة وشدة سطوتها، فإنه لا ~~يعوزه لطف الاحتيال على التخفف من بعض أذاها، واستخراج الخير من أثناء شرورها، ~~وتوجيهها في بعض مذاهبها إلى ما يجديه ويرفه عنه بقدر غير يسير، فإذا كان ~~موضوع اليوم قد عقد للمفاضلة بين «ديمقراطية» الفنون و«أرستقراطيتها»، فما ~~كانت النية في علاجه متجاوزة هذا المقدار. # احتكار الغناء # وبعد، فما حرك هذا السؤال في نفسي ولا أثاره كل هذه الثورة بي إلا ما ~~يروعني هذه السنين من الكثرة الهائلة في عديد من يتكلفون الشعر، والشعر ~~الغنائي على وجه خاص، والكثرة الهائلة في عديد من يتكلفون الغناء للجمهرة، ومن ~~يصطنعون تلحين الأصوات! # وأكبر الظن أن أبناء هذا الجيل لا يستكثرون من ذلك ما أستكثر، ولا ~~يروعهم منه ما يروعني، فلقد شهدنا جيلا قبل هذا كان نظم ~~المقطوعات الغنائية فيه مقصورا على نفر من أعيان البيان أمثال إسماعيل باشا ~~صبري، ومصطفى بك نجيب، ومحمود أفندي واصف، والشيخ الدرويش، وقليل غير هؤلاء، ~~كما كان تلحين الأصوات يكاد يكون كذلك حكرة لعنق من الناس، فلم يكن يعالجه ~~إلا الشيخ المسلوب، ومحمد أفندي عثمان، وعبده أفندي الحامولي، وإبراهيم أفندي ~~القباني، وداود أفندي حسني، # 1 # فإذا كان وراء هؤلاء من يكابدون التلحين، فهم ولا ريب أقل من ~~القليل. # ولقد عاش المرحومون الشيخ يوسف المنيلاوي، والشيخ محمد الشنتوري، ومحمد ms268 أفندي ~~سالم، وعبد الحي أفندي حلمي ما عاشوا، لم يؤثر عن واحد منهم أنه لحن ~~طوال حياته صوتا (دورا) واحدا، إذ كلهم من الأعلام المبرزين بين أصحاب ~~الغناء! # وتعليل هذا ليس مما يحتاج إلى كد الأذهان، فإن هذا الجيل الذي شهدنا ~~أطرافه إنما قام في أعقاب عصر كانت المهن جميعا - وخاصة في أمهات المدن - ~~تقوم فيه على ضرب من ضروب الاحتكار، إذ كان لكل أصحاب مهنة عريف يدعونه ~~«شيخ الطائفة»، فلا يدخل في العادة، أحد فيها يعالج منها ما يعالج أهلها ~~إلا بإقرار هذا «شيخ الطائفة» وإجازته! # ولقد حدثني المرحوم محمد أفندي سالم، وكان من المعمرين، أنه أدرك أياما ~~لم يكن يؤذن فيها لامرئ باعتلاء منصة (تخت) الغناء رئيسا إلا إذا اجتمعت ~~مشيخة أصحاب الفن في حفل جامع، حتى إذا استمعوا لغنائه، وقدروا فيه الكفاية ~~للمهنة، قاموا إليه فحزموه، وقربوا إليه ضغثا من البقدونس فأصاب منه ما ~~شاء! وكان ذلك منهم إجازة له باحتراف المهنة، وأذانا بكفايته لغناء ~~الجماهير! ~~••• # لا أشك في أن هذا الكلام سيأخذ نظر القارئ لأول وهلة، فيبعث فيه الدهش، ~~وقد يثير سخطه واشمئزازه جميعا، فليت شعري، كيف يزم تصرف الناس في ~~أفشى المباحات، ويؤخذ بمخانقهم في أشيع ألوان الحريات بأقسى من هذا ~~وأنكر وأشنع! حتى الغناء! والغناء - لو عرفت - إنما هو أفصح تعبير ~~وأحلاه، عن أدق ما يعتلج في النفس وأخفاه، ولعمري ما كان هذا من شيمة ~~الإنسان وحده، فلقد سبقه إليه الحيوان، وإليه سبقتهما الطبيعة جميعا، ~~هذا القمري يشدو، وهذا الكروان يغرد، وهذا الحمام يسجع، وهذا العصفور ~~يسقسق، بل هذه الطبيعة التي نخليها من الحس والإرادة، وإن لها هي الأخرى ~~لترجمة عن شأنها أي ترجمة، وتعبيرا من الغناء والتصويت أي تعبير، فهذه الرياح ~~تعزف، وهذه الرعود تزمزم وتقصف، وهذه الأمواج تجرجر، وهذا النبات ألا ~~يطربك رفيفه، كلما حركه النسيم فحف حفيفه؟ # أكل أولئك له أن يغني كيفما شاء، ويترجم عن ذات نفسه بالترجيع والجلجلة ~~كلما أراد، اللهم إلا الإنسان، فما كان ليؤذن له فيه إلا ms269 بإجازة ~~وترخيص؟ # هذا من جهة الحق والنظر، أما من جهة الفعل والأثر، فلا شك في أن حصر الغناء ~~للجمهرة في طائفة قليلة العدد، يقتضي حصر الاستماع إليه، والطرب عليه في ~~طائفة قليلة العدد كذلك بالقياس إلى المجموع، وفي ذلك حرمان السواد لذة من ~~أمتع اللذات المشروعة، وحيولة بينه وبين تهذيب ذوقه، وإرهاف حسه، طوعا ~~لانقطاعه عن الاستماع إلى الغناء ألبتة، أو تروية أذنه بغناء لا يجري على أي ~~عرق من هذا الفن الجميل! # ثم إن في قصر الخاصة وأشباه الخاصة على الاستماع إلى نفر معدود من جماعات ~~المغنين، يدورون بأصواتهم في تلاحين قليلة بالضرورة، ما من شأنه إدخال الضجر ~~عليهم، وبعث الملل فيهم. # ثم لا تنس أن في هذا الصنيع خنقا للمواهب في مهودها بما يقام من ~~العواثير دون مباشرة الناجمين من أصحابها للمهنة، واستصعابهم لتكاليفها، وما ~~يتداخلهم من الخوف والرهبة إذا تقدموا لمزاولتها. # ثم إن في إجازة الغناء من جماعة معينة، لها بالضرورة فن خاص، وذوق يجري ~~في دائرة مشتركة، ما من شأنه كذلك أن يسد الطريق على كل مستحدث ~~طريف، وبذلك يظل الفن محصورا في دائرة ضيقة، لا يكاد يتسع أو يرقى على ~~الزمان! # فإذا أدهشك هذا الصنيع وفظع بك، فأنت لعمري في مقام النظر، وتقليب ~~الفكر، ونظم قضايا المنطق وترسم أقيسته حق معذور. ~~••• # فإذا نحن تحولنا من دائرة الفكر والنظر إلى أفق الواقع الذي يلامس ~~الحس ويلابس الذوق، فليت شعري ماذا نجد؟ # ألا إني لمحدث بلسان رجل أدرك العهدين، وتذوق الغنائين، فإذا ~~أخطأتني الترجمة عن الواقع، فإنني صادق الترجمة عما أحس وما أجد، وما ~~يحس معي وما يجد كثيرون. # قديم وجديد! # ذلك الغناء الذي كنا نسمع من الحامولي وعثمان وأضرابهما، وما برح يردده بعض ~~المغنين، هذا الغناء على أنه يدور في أنغام محدودة، وتلاحين قليلة العدد، ~~لقد كان يواتي أذواقنا، ويشيع الطرب فينا، ويفحص عن مطاوي نفوسنا، ويبعث ~~فينا من الأريحية ما يستخف أرسخنا نفسا وأثبتنا توقرا! # لقد كنا نجد في هذا الغناء صورة بينة مما في ms270 نفوسنا، حتى لكان يخيل ~~إلينا أنه صادر عنها لا وارد عليها، وكأننا نحن الذين لحنوه وصاغوه، فإذا ~~لم يبلغ بنا الشعور هذا الموضع، خلنا أنه لو كان أفضى إلينا بتلحينه ~~وصياغته لما أخرجناه وصورناه إلا هكذا، بل إن حسن السبك وقوة الصياغة ~~لتذهب بنا إلى الشعور بأن هذا الذي نسمع إنما هو شيء من صياغة الطبيعة لا ~~أثر فيه لصنعة الإنسان، فهو كذلك خلق وكذلك كان، وما كان لامرئ بتغيير فطرة ~~الطبيعة يدان! # يتحول الملحن بك من نغمة إلى نغمة، ويعدل بك من فن إلى فن، ما تصيب ~~أذنك عثرة، ولا تحس نبوة، بل إنك لتجد هذا التنقل مما تقضي به الطبيعة ~~أيضا، وكثيرا ما تستشرف له نفسك قبل أن يبلغه حلق المغني؛ لقد كان هذا ~~الغناء في الجملة، أشبه ما يكون بالجدول المتعطف المتأود، لا يعكر ~~تأوده من صفائه، ولا يكف تعطفه من اطراد مائه، كان غناء تحسبه ~~بسيطا ليسره وسلاسته، ومواتاته لطبيعة المصري، وفي هذا اليسر والسلاسة ~~المقدرة كلها والفن أجمعه لو كان يدري السامعون! # أما الغناء الغالب في العصر - وأعني به الجديد - فلست أكتمك أنه أكثر شعوبا، ~~وأرحب طروقا وأوسع دروبا، تنوعت أعلامه، وتعددت أنغامه، إلا أنه مطبوع ~~بالطابع الغربي، لقد تروقني أنا المصري منه النبرة، ولقد تهزني فيه النغمة، ~~على أنه سرعان ما يثب بأذني الوثبة الشديدة، ويطفر بحسي الطفرة ~~الهائلة، فيمتلخ الطرب في نفسي من أصله امتلاخا، ويطير ذوقي كل ~~مطير، ويبعثره كل مبعثر، حتى لا أراه يحتاج مني إلى جهد عنيف في ~~الجمع والتلفيق! # وقد يقال: إن نبو هذا الضرب من التصويت على الآذان إنما يرجع إلى جدته ~~وطرافته، فإذا هو دار على الزمان وتردد على الأسماع، ألفته الأذواق، ~~واستراحت إليه النفوس وطربت عليه، شأن كل جديد مستحدث، وخاصة في هذه ~~الفنون. # وأقول: إن جدته وغرابته على الأسماع قد يكون لهما، من هذه الناحية، بعض ~~الأثر، ولكن لا يكون لهما وحدهما كل الأثر، وهذا عبده أفندي الحامولي رحمة ~~الله عليه، لقد استحدث في الموسيقى ms271 المصرية جديدا، وأدخل عليها ما لا ~~عهد للأذن المصرية به من قبل، ومع هذا فلم ينب جديده على سمع، ولا ~~نشز طريفه على طبع، بل لقد تقبلته الناس، خاصتهم وعامتهم بأحسن ~~القبول، وهشت له نفوسهم أيما هشاشة، وطربت به أيما طرب! # وقد يستدرك على هذا بأن ما جاء به الحامولي ليس غريبا على الموسيقى ~~المصرية ولا هو عنها ببعيد، فإنه لم يعد فيما استعار موسيقى جيرتنا ومن كانت ~~تسلكنا معهم أوثق العلائق من السوريين، والحلبيين، والأتراك! # وإذا نحن ترخصنا في إساغة مثل هذا الكلام، كررنا بالاعتراض بما صنع ~~المرحوم الشيخ سيد درويش، فلقد تبسط في تلاحينه بالموسيقى المصرية إلى حد ~~بعيد، فاستعار لها ما شاء الله من موسيقى السوريين والعراقيين والحلبيين ~~والأتراك، وأدخل عليها صدرا جليلا من موسيقى الغربيين، فما نبت بصنيعه ~~أذن ولا التوى على طبع، بل لقد أرضى وأعجب، ولذذ وأطرب، وبعث في ~~النفوس من الأريحية ما لا يكاد يتعلق به وصف الواصفين! # وفي الحق إن جديد سيد درويش إذا كان لقي أول منحدره إلى السمع شيئا، ~~فالذي يلقى كل جديد مما يشبه القلق بحكم العجب والاستغراب، على أنه ما ~~لبث أن استراحت له الآذان، ورضيته الأذواق، وهفت إليه النفوس، وتداخلها ~~الطرب عليه من جميع الأقطار، في حين أن هذا الذي نسمع اليوم من جديد ~~الغناء، إذا صح هذا التعبير، لا يزداد على الترديد إلا نشوزا على الأذواق، ~~وتعاصيا على الطباع! # كلمة الحق # فإذا طلبت كلمة الحق قلت لك: إن سيدا كان رجلا مفتنا حق ~~مفتن، رحب الطبع، دقيق الذوق، مرهف الحس، نير النفس، تسنح له ~~النبرة من الموسيقى الأجنبية، شرقية أو غربية، فيدرك أنها مما يمكن أن يوائم ~~طبع المصري، ويتسق لذوقه، وسرعان ما يعالج بعض خلقها بالتسوية والتهذيب، ثم ~~يدمجها في تلاحينه ما تحس هي ولا تحس لها وحشة في الغناء المصري ~~ولا استغراب! # أما الغالب في هذا الذي نسمع الآن من ذلك «الجديد»، فليس أكثر من تلفيق ~~وترقيع لا يقوم على أساس من الفن، ولا ms272 يجري على عرق من الذوق، ولا يجلي على ~~النفس أية صورة من صور الجمال! # اللهم إن جهد الملحن من هؤلاء أن يتصيد النغمة الأجنبية، فيحشرها في ~~موسيقانا حشرا، ويستكرهها عليها استكراها، واقعة ما وقعت من النظم ~~الغنائي. # بل إني لست متزيدا ولا غاليا إذا زعمت أن بعض هؤلاء إذا استصعب عليه ~~الصيد من النغم الأجنبي، اعتمد حلقة فلا يزال يلويه ويعثره حتى ~~يخرج له شيئا نافرا نابيا، يصك الأسماع صكا، ويمخض النفوس مخضا، ~~لأنه لا يفهم من «التجديد» إلا أنه الإتيان بالغريب «والسلام»! # والعجيب أن أكثر هذه التلاحين إنما يبتدئ وينتهي بصياح مزعج، هل سمعت - ~~حفظك الله - نواح النائحات المصريات في أعقاب الجنائز؟! هذه أطراف الغناء، ~~أما أثناؤه فتكسر وتخاذل وتزايل، وأنين وحشرجة كحشرجة المحتضر، دع ~~التخنيث في الألفاظ والتطرية في الأناظيم، فلذلك حديث آخر إن شاء ~~الله! # ديمقراطية الفنون # قلت لك في بعض هذا الحديث إن فن التلحين وصنعة الغناء للجمهرة إنما كانا ~~محصورين في طائفة قليلة العدد، سواء من هؤلاء أو من هؤلاء، وقد وصفت لك ~~بقدر ما طاوع القلم، براعتهم وقوة تلاحينهم، وهل أدل على براعتها ~~وقوتها من ثباتها وترديدها في هذا العصر عصر «التجديد»، ما يخلق لها على ~~الترداد قديم، ولا يبلى لها على التكرار أديم! # فهل لنا بعد هذا، أن نضيف إسفاف أكثر هذه التلاحين «العصرية» وفسولتها ~~وغثاثتها، وعدم صلاحيتها للقيام، والبقاء على الأيام، إلى استباحة فن التلحين، ~~حتى أصبح يعالجه من شاء، وينتحله من الناس من أراد؟ وبحسبك أن تسكن ~~إلى «الراديو» بضعة أيام لتتعاظمك الكثرة الهائلة في عديد الملحنين في هذا ~~الزمان، فإنك لا تكاد تسمع أغنية من فتى ناشئ أو من فتاة حدثة إلا أذن ~~المذيع أنها من تلحينها أو من تلحينه، أو من تلحين فلان أو فلان أو فلان، من ~~أسماء لا عهد لك بها من قبل، ولعله لا يكون لك عهد بها بعد الآن، حتى لقد ~~تخيل إليك هذه الكثرة أن أهل مصر جميعا، رجالهم ونساءهم، سيصيرون عما ~~قليل ملحنين ms273! # أرستقراطية الفنون # وإذا صح أن العلة في كل هذه البلية التي تجني على الأذواق، وتكاد تحرمها ~~الاستمتاع بالفن الرفيع، إنما هي في إطلاق فني التلحين والغناء يردهما ~~ويعالجهما من هب ومن درج من الناس! أفترانا نذهب إلى القول بوجوب ~~تقييدهما، بحيث يقصر علاجهما على الأكفاء القادرين؟ # وبعد، فلقد تعلم أن هذا القصر والتقييد قبيح لما تقدم لك من ~~الأسباب، على أنه لا حيلة فيه، ولا سبيل إليه في عرف هذا الزمان. # ولكنني أرجو ألا يذهب عنك أن الفن نفسه أرستقراطي، لكن بالطبع لا بالجعل، ~~ذلك بأن الفن كما تعلم ابن الموهبة، والمواهب ليست من الحق المشاع لجميع ~~الناس، إنما هي حبس على أولئك الذين يصطفيهم الله لها من الأفذاذ الأندرين من ~~الناس، وهي وحدها التي تنادي على صاحبها وتدعو إليه، وتعلن في الأملاء عن ~~كفايته وسداده ووجوب استئثاره، وتنفض عن صحيح الفن الزيوف، وتدع عن بابه الواغل # 2 # والدخيل، فالفن بطبعه حبس على أوليائه مهما كثر مدعوه، ~~وعظم منتحلوه، ومهما برعت وسائلهم في التزييف والتدليس على ~~الغافلين! وكذلك سلم بالكفايات الحق لأصحابها على طول الزمان. # وإذا كان يهولنا اليوم كثرة منتحلي فن التلحين وصنعة الغناء مما لا وزن ~~لهم ولا كفاية، مع كثرة من يصغي إليهم ويطريهم، ويخلع كل فخم من ~~الألقاب عليهم، فليس ذلك من أثر «الديمقراطية» الفنية كما يظن عند ابتداء ~~النظر، بل إن ذلك واقع لأننا نعيش الآن عيشا غير طبيعي، وبعبارة أصرح؛ ~~لأننا في ثورة اجتماعية تناولت أسبابنا جميعا، فما نرى من هذا إنما هو من ~~الفوضى لا من الديمقراطية، والفوضى كما تعلم؛ هي استثناء وشذوذ ما له في ~~الحياة الطبيعية قرار. # ولقد قلت في أثناء هذا الحديث: إن الإنسان لا يد له بتغيير ظواهر ~~الطبيعة، ولكنه بلطف الحيلة يستطيع أن يخفف من أذاها، ويستخرج الخير ~~من خلال شرورها، وكذلك يستطيع النقدة بألسنتهم وأقلامهم، أن يدلوا سواد ~~الناس على مكان الحسن ومكان القبيح من هذا الذي نحن فيه، رفقا بأذواقهم ~~ورحمة بهذا الفن الجميل! # | المفتن أبو نواس1 ms274 # ترى هل بلغ أبو نواس ما بلغ في شعراء العربية، وذهب له ما ذهب من ذكر ~~وصيت لأنه قال في مدح الرشيد: # وأخفت أهل الشرك حتى إنه # لتخافك النطف التي لم تخلق؟ # أو تراه أصاب هذا الحظ كله لأنه قال في مدح ابنه الأمين: # وإذا المطي بنا بلغن محمدا # فظهورهن على الرجال حرام؟ # أو تراه حقا «ابن قوله» # 2 # في مدحته للعباس بن عبد الله بن أبي جعفر ~~المنصور: # لا تسدين إلي عارفة # حتى أقوم بشكر ما سلفا؟ # أو لعله قد دوى باسمه السهل والجبل لأنه قال كيت وكيت، فأتى في المديح ~~والهجاء والرثاء، ووصف الجياد والنجاء، بألوان من المبالغات كثيرا ما كانت سبيل ~~السيرورة، ومبعث النباهة وسطوع الصيت؟ # اللهم لا! وإذا ظن أن من متقدمي الشعراء من رفع بعض النقدة بمثل ~~هذا أقياسهم وأقدارهم، فثبت به ذكرهم على الأيام، فإن أبا نواس لم يخلد ~~به، ولا كان قط مدينا له، وإن كان قد جاء منه بما لو ينته فيه كثير من ~~أعلام البيان منتهاه! # الواقع أن أبا نواس كان من أولئك الأفذاذ الذين يشح الزمان بهم فلا ينتضح ~~بأمثالهم إلا نطافا في أثناء الحقب الطوال، ولعل كلمة «فلان نسيج وحده» التي ~~ينفضها أبناء العرب على المرء إذا عز أكفاؤه، لا تبلغ موضعها الحق من الجد ~~والصدق والإشراف قدر ما تبلغ إذا أضيفت إلى هذا الرجل العظيم! # أبو نواس شاعر فحل، يرفعه نقدة البيان إلى الذروة، ويسلكونه في نظام جميل مع ~~أشعر شعراء عصره، وقد يؤثرونه على بعضهم، ويرفعون منزلته عليهم، ما في هذا شك ~~ولا كان يوما في مطرح الحوار بين أهل البصر بمنازع الكلام. # إذن فأبو نواس شاعر من أفحل شعراء العصر العباسي الأول، وقد أحله عند كثرة ~~الناس هذا المحل أنه مدح فلم يتخلف عن أبلغ المادحين، ووصف فكان من ~~أجود الواصفين، وضرب في سائر فنون الشعر فما ونى في شيء ولا قصر، بل لقد ~~أرسل من سوابق القريض ما لا يتعلق بغباره، ولا يسهل ترسم آثاره، وما ms275 له ~~لا يبلغ هذه المنزلة في الشعراء، وهذه قصيدته في مدح محمد الأمين: «يا دار ما ~~فعلت بك الأيام». # والتي جاء فيها: # ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم # 3 # وأسمت سرح اللهو حيث أساموا # وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه # فإذا عصارة كل ذاك أثام ~~••• # وإذا المطي بنا بلغن محمدا # فظهورهن على الرجال حرام # قربننا من خير من وطئ الحصى # فلها علينا حرمة وذمام # رفع الحجاب لنا فلاح لناظر # قمر تقطع دونه الأوهام # ملك إذا علقت يداك بحبله # لا يعتريك البؤس والإعدام # وهذه قصيدته التي يمدح بها العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر المنصور، ~~وأولها: # أيها المنتاب من عفره # لست من ليلى ولا سمره # لا أذود الطير عن شجر # قد بلوت المر من ثمره # وهذه مدحته في الخصيب: # أجارة بيتينا أبوك غيور # وميسور ما يرجى لديك عسير ~~••• # تقول التي عن بيتها خف مركبي # عزيز علينا أن نراك تسير # أما دون مصر للغنى متطلب # بلى إن أسباب الغنى لكثير # فقلت لها واستعجلتها بوادر # جرت فجرى في جريهن عبير # ذريني أكثر حاسديك برحلة # إلى بلد فيه الخصيب أمير # إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا # فأي فتى بعد الخصيب تزور # فتى يشتري حسن الثناء بماله # ويعلم أن الدائرات تدور # فما جازه جود ولا حل دونه # ولكن يصير الجود حيث يصير # فلم تر عيني سؤددا مثل سؤدد # يحل أبو نصر به ويسير # وتلك طواله وقصاره في مدح الرشيد، والأمين، والعباس بن عبيد الله، والفضل بن ~~الربيع، وولديه العباس ومحمد، والخصيب بن عبد الحميد، وإبراهيم بن عبيد الله ~~الحجبي، والحسين بن عيسى، وغير هؤلاء كثير. # ثم هذه مراثيه للرشيد، والأمين، وأستاذه والبة بن الحباب وسواهم. # وهذه قصائده ومقطوعاته في العتاب، والزهد، والطرد، والغزل، والوصف، وغير أولئك مما ~~تستهلك الإلمامة به أضعاف القدر المقسوم لهذا المقال، دع أحاديث الخمر والمجون ~~الآن، فسينعطف عليها بعد الكلام. # وبعد، فقد انعقد عند جمهرة الناس هذا الحظ من الشاعرية لأبي نواس بما يجول في ~~عامة شعره من كرائم المعاني، وما تنقطع دون ms276 بعضه علائق القريض من معنى ~~مبتكر يجري في لفظ شريف، قد بهج # 4 # دبجه، وأحكمت صياغته ~~وألحم نسجه، وكذلك مضى الحكم على شاعريته كما مضى على شاعرية لداته من متقدمي ~~الشعراء في ذلك العصر. # وفي رأيي أن شاعرية أبي نواس لم تتجل في حيث يظن هؤلاء، بل لعله إذا كان قد ~~دخل عليها نقص، أو تطرق إليها شيء من الوهن، فمن هذه الناحية أصابه ما ~~أصاب! # لقد كان أبو نواس رجلا موهوبا حقا وعبقريا حقا، كذلك طبعه الله وعلى هذا ~~طواه، حتى لو جاهد نفسه على ألا يكون شاعرا ما استطاع مهما ألح في الجهاد، ~~وهيهات أن يكون لامرئ بتغيير خلق الله يدان! # أبو نواس شاعر كما هو إنسان، وإنك إذا طلبت الرجل المفتن الكامل، قد ~~ملك الفن عليه كل مذاهبه، وطالعه من جميع أقطاره، وجرى في أعراقه مجرى دمه، ~~واعتلج معتلج العواطف في نفسه، فأمسى وهو لا يكاد يشعر إلا به، ولا يتذوق ~~الأشياء إلا من حيث يذيقه، إنك إذا طلبت هذا المفتن التام، فأرجو أن تجده في ~~هذا الشاعر أبي نواس. # أبو نواس شاعر بأبلغ ما تدل عليه هذه الكلمة وأدقه وأجمعه وأكفاه، هو رجل مرهف ~~الحس، نافذ الشعور، خصب الذهن، صافي النفس، جوهري الطبع، وإن شئت قلت: إنه ~~يكاد يكون في أصل خلقه مجموعة معان لولا أن تجسد بعضها فاستحال لحما ~~وعظاما لظل سابحا بكل خلقه في مسابح الأرواح! # هو رجل يشعرك مرسل شعره بأن نظره كان ينفذ إلى صميم الأشياء، بل لقد ~~يشعرك بأن الأشياء كانت تلطف له وتشف ليتناول من صميمهما ما يشاء، ~~وسرعان ما يتنفس بهذا الذي أدرك شعرا إذا كف عنه القلم أو حبس دونه ~~اللسان! # فإذا أنت طلبت أبا نواس المفتن فإياك أن تطلبه في قوله: # وأخفت أهل الشرك حتى إنه # لتخافك النطف التي لم تخلق # ولا في قوله: # وإذا المطي بنا بلغن محمدا # فظهورهن على الرجال حرام # ولا في قوله: # لا تسدين إلي عارفة # حتى أقوم بشكر ما سلفا # لا تطلبه في ms277 هذا ولا في نظائره مما يتكثر به غيره من الشعراء، فإنني أقسم لك ~~بشاعرية أبي نواس على أنها ما جلت عليه قط مخافة نطف المشركين للرشيد! ولا كان ~~صادق الحس إذ دعا ممدوحه إلى ألا يسدي إليه العارفة، فإنه ما اجتمع لنظم القصيدة ~~كلها إلا لاستخراج الصلة، واصطياد هذه «العارفة»! ولا حرم ظهور تلك الإبل التي ~~أبلغته الأمين، ولا كانت نفسه لتطيب منها بقلوص # 5 # واحد في غير نفع مادي! ~~اللهم إنه في كل هذا الكلام لا يصدر عن طبع، ولا يعتلج له حس، ولا تترقرق به عاطفة، ~~إن هو إلا التكلف في اصطياد المعاني، والصنعة في خلق الأخيلة، مباراة لشعراء ~~العصر، واستخراجا لأموال الممدوحين، فبهذا كانت تستخرج منهم الأموال. # كان أبو نواس في جميع أسباب حياته شاعرا مفتنا إذ هو إلى ذلك رجل مستهتر، ~~خلع مثانيه، وتحلل من كل ما يأخذ الناس به نفوسهم في هذا المجتمع، أو ما ~~ندعوه نحن في عصرنا هذا «بالتقاليد»، فإذا رأيته يصف الخمر ويغلو في مدحها أشد ~~الغلو، وإذا رأيته يرسل القريض في ألوان العبث، فلا يتحرج من قول ولا يتأثم من ~~نكر، ويبتذل في هذا من نفسه للناس بما يضن به أدناهم مروءة على ذات نفسه، مهما ~~يكن في سر من الناس، إذا رأيته كذلك فاعلم أنك في شعر أبي نواس المفتن ~~حقا، والمرسل النفس حقا، والمنتضح الطبع حقا، أما إذا رأيته في ذلك الذي أغلى ~~أقدار غيره من الشعراء من المديح وغير المديح، فاعلم أن الرجل قد خرج عن طبعه، ~~واطرح شاعريته، وراح يتكلف القريض تكلفا، حتى إذا أصاب به رزقا، أقبل ~~على نفسه واعتنق شاعريته الحق، ولا يزال في شأنه هذا حتى ينفذ زاده، ويرق ~~عتاده، فلا يرى بدا من أن ينقلب إلى معالجة «المهنة»، وهكذا. # قال أبو نواس في إحدى مدائحه يصف الناقة: # ولقد تجوب بي الفلاة إذا # صام النهار وقالت العفر # 6 # شدنية رعت الحمى فأتت # ملء الحبال كأنها قصر # 7 # تثني على الحاذين ذا خصل # تعماله الشزران والخطر # 8 # أما إذا ms278 رفعته شامذة # فتقول رنق فوقها نسر # 9 # أما إذا وضعته عارضة # فتقول أرخي فوقها ستر # وتسف أحيانا فتحسبها # مترسما يقتاده إثر # فإذا قصرت لها الزمام سما # فوق المقادم ملطم حر # 10 # وقال يصف النياق التي حملته إلى ممدوحه: # إليك ابن مستن البطاح رمت بنا # مقابلة بين الجديل وشدقم # مهارى إذا أشرعن حر مفازة # كرعن جميعا في إناء مقسم # نفخن اللغام الجعد ثم ضربنه # على كل خيشوم نبيل المخطم # حدابير ما ينفك من حيث بركت # دم من أظل أم دم من مخدم # 11 # وقال غير هذا وهذا في وصف النياق، ولكم وقف في أشعاره بالديار، وبكى ~~النؤي والأحجار، فنحى في قريضه منحى العرب السابقين، وأتى بالجزل من ~~اللفظ، واستكثر من الغريب، بحيث لو أضيف أكثر هذا إلى بعض شعراء الجاهلية، ما تفطن ~~إلى مواضع الصنعة فيه من النقدة إلا قليل، ومع هذا كله فلم يكن به الشاعر ~~المفتن، وإن شئت التعبير الأدق قلت: إن أبا نواس لم يكن به أبا نواس؛ ~~لأنه فيه حاك مترسم، لا يفضي بذات نفسه، ولا يترجم عن شيء من حسه، وما لي ~~أجهد في مذاهب التدليل، وهذا قول أبي نواس نفسه في تهكمه وزرايته بهذا الضرب من ~~الشعر يعد أصدق دليل: قال: # قل لمن يبكي على رسم درس # واقفا ما ضر لو كان جلس # تصف الربع ومن كان به # مثل سلمى ولبينى وخنس # اترك الربع وسلمى جانبا # واصطبح كرخية مثل القبس # وقال: # لا تبك رسما بجانب السند # ولا تجد بالدموع للجرد # ولا تعرج على معطلة # ولا أثاف حلت ولا وتد # ومل على مجلس إلى شرف # بالكرخ بين الحديق معتمد # إلخ ... # وقال: # دع الأطلال تسفيها الجنوب # وتبكي عهد جدتها الخطوب # وخل لراكب الوجناء أرضا # تحث بها النجيبة والنجيب # إلخ ... # وقال: # عاج الشقي على رسم يسائله # وعجت أسأل عن خمارة البلد # يبكي على طلل الماضين من أسد # لا در درك قل لي من بنو أسد # ومن تميم ومن قيس ولفهما # ليس الأعاريب عند الله من أحد # لا جف دمع الذي يبكي ms279 على حجر # ولا صفا قلب من يصبو إلى وتد # فإذا شئت بعض مذهبه في الحياة خالصا، فلعله يغنيك في هذا قوله: # ترك الصبوح علامة الإدبار # فاجعل قرارك منزل الخمار # لا تطلع الشمس المنيرة ضوأها # إلا وأنت فضيحة في الدار # لعله قد خرج لنا من كل ذلك أن أبا نواس إنما كان يجتمع اجتماعا لنظم تلك ~~القصائد الفخمة التي يرفع بها كثرة النقدة شاعريته، وكان يلهب عصبه، ~~ويشب ذهنه في صنع الأخيلة واختلاق فنون المعاني، ويذكي ذاكرته في ~~التماس ما عسى أن يكون جاز به من غريب اللفظ ومجفوه، ليكتب له التقدم والتبريز ~~على شعراء عصره، فمشاكلة شعر الجاهلية في عرف بعضهم، إنما كان السبيل إلى ~~البراعة والتبريز. # ولقد يدل هذا منه ومن غيره على كفاية كافية، ولقد يدل على براعة في نظم ~~الشعر بارعة، ولكنه لا يدل قط على أن مفتنا يترجم عن حسه هو، أو بعبارة ~~أخرى، على أن عبقرية تلهم ومفتنا يستلهم، أو على أن عبقرية تأمر ~~ومفتنا لا سعي له إلا في التدوين والتسجيل! # فإذا تطلعت إلى شاعرية أبي نواس، فالتمسها في معابثه ومباذله، ~~والتمسها في كل ما يبعث شعوره من منظر بهيج، ومقام يذكي الحس ~~ويهيج. # التمس شاعرية أبي نواس الحق حيث يصف آثار مجلس شراب: # ودار ندامى عطلوها وأدلجوا # بها أثر منهم جديد ودارس # مساحب من جر الزقاق على الثرى # وأضغاث ريحان جني ويابس # حبست بها صحبي وجددت عهدهم # وإني على أمثال تلك لحابس # تدور علينا الراح في عسجدية # حبتها بأنواع التصاوير فارس # قرارتها كسرى وفي جنباتها # مها تدريها بالقسي الفوارس # فللخمر ما زرت عليه جيوبهم # وللماء ما دارت عليه القلانس # وفي قوله يصف الخمر وساقيها: # إذا عب فيها شارب القوم خلته # يقبل في داج من الليل كوكبا # ترى حيث ما كانت من البيت مشرقا # وما لم تكن فيه من البيت مغربا # يدور بها ساق أغن ترى له # على مستدار الأذن صدغا معقربا # سقاهم ومناني بعينيه منية # فكانت إلى قلبي ألذ وأطيبا # وفي قوله في ms280 مثل ذلك: # نبهت ندماني الموفي بذمته # من بعد إتعاب كاسات وأقداح # فما حسا ثانيا أو بعض ثالثة # حتى استدار ورد الراح بالراح ~~••• # وحسبي هذا القدر من الاستشهاد، وإلا هويت معه من النكر إلى قرار سحيق، أسأل الله ~~أن يغفر لي ويغفر له. # ولقد نرى عامة شعره في هذا سهلا ميسرا حتى كأنه حديث من الحديث، وهذا الذي ~~تنقطع دونه علائق القريض؛ على أئمة البيان قد عرفوا له هذا، وأجلوا به محله، ورفعوه ~~إلى الذروة بين نظام الكلام. # وبعد، فقد طال المقال وما زال في النفس كلام عن أبي نواس كثير، وما دام الحديث عن ~~مثل أبي نواس لا تستوفيه إلا الأسفار الضخام، فطول المقال وقصره لعمري في ~~ذاك بمنزلة سواء، «والغمر فيه تستوي الأعماق»! # | رجال ينبغي أن يذكروا1 # ونقتصر اليوم على ذكر اثنين من هؤلاء الرجال، وهما المرحومان: الشيخ سلامة حجازي، ~~ومحمد أفندي العقاد، ولسنا نعرض في هذا المقال للشيخ سلامة حجازي ممثلا، على ~~معنى أن نبحث عن درجة كفايته من هذه الناحية، ولا أثره في التمثيل العربي، فلهذا ~~مقام آخر، وإنما نعرض له باعتباره رجلا من رجال الموسيقى في هذا العصر الذي نعيش ~~فيه. # وقبل أن نخوض في حديث الشيخ سلامة حجازي نذكر مع الأسف العظيم، أن تاريخ الموسيقى ~~في مصر في العهد الذي انتهى بالحملة الفرنسية فولاية محمد علي مجهول تماما، فليس ~~يدري أحد فيما نعلم، كيف كانت الموسيقى عند المصريين في ذلك الزمن، وكيف كانوا ~~يؤدونها، والنغم التي كانت تتصرف فيها، ومن هم أشهر رجالها، فإن ذلك فيما نعلم، ما ~~لم يستقصه أحد ولم يتتبعه! # ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن «النوتة» لم تكن في ذلك العصر معروفة للمصريين، فلم ~~يتهيأ لهم أن يدونوا بها أغانيهم وترانيمهم ليتعرفها خلفهم، فذهبت ~~كما ذهبت مع الأسف أغاني العرب وأصواتهم، وضاعت صنعة معبد وابن سريح ومخارق ~~وابن عائشة وإبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحق وغيرهم، ولم يعد ~~يغني في معرفتها أن هذا الصوت لفلان من خفيف الرمل، وأن ms281 هذا كان لحنه من ~~ثقيله، ولا نعرف كيف كان ما يجري في مجرى البنصر، ولا ما تتظاهر عليه السبابة ~~والوسطى، إلخ. تلك المصطلحات التي تشيع في كتاب «الأغاني»، وكذلك انقطع علمنا ~~تمام الانقطاع بأغاني العرب وتلاحينهم، وسنظل كذلك حتى يعثرنا الله «بحجر رشيد» ~~آخر تحل به رموز الموسيقى العربية، كما حل شمبليون «بحجر رشيد» الأول رموز اللغة ~~الهولغريفية! # نعم، لقد ظلت الموسيقى المصرية مجهولة تماما من العصر القديم إلى الحملة ~~الفرنسية، فولاية محمد علي في جميع صورها وأشكالها وتلاحينها، برغم ما يحدثك ~~به المقريزي وغيره من أن الخليفة الفاطمي كان يخرج في يوم وفاء النيل بالطبل ~~الكبير، ويخرج في مهرجان كذا بالطبل الصغير، إلى أن كان الشيخ شهاب الدين صاحب كتاب ~~«السفينة»، وقد فرغ من تأليفه من نحو تسعين سنة خلت، فجمع فيه طائفة جليلة ~~مما كان يتغنى فيه عصره وقبيل عصره من الموشحات والموالي وغيرها، وكشف عن ~~تلاحينها، وضبط أصواتها، ومذاهب النغم التي كانت تجري فيها، على أنه وإن لم ~~يضبط شيئا منها «بالنوتة»، لأنه لم يكن يعرفها، إلا أن أكثرها معروف اليوم ~~بالسماع والتلقي لقرب العهد، ولا زالت المصطلحات الفنية التي أوردها في سفينته ~~معروفة عند كل من يجري من صنعة الغناء على عرق. # ومما لا ينبغي أن تفوت الإشارة إليه في هذا المقام أن بعض من هبطوا مصر حوالي ذلك ~~العهد من علماء الإفرنج قد عنوا بضبط بعض ما سموه من الأغاني المصرية ~~«بالنوتة»، ومنه الأذان. # ومهما يكن من شيء فإنه لا الشيخ شهاب الدين ولا هؤلاء الباحثون من الإفرنج دل ~~أحد منهم على مبدأ تلك الأغاني، ولا كشف عن أول عهد مصر بتلك التلاحين التي هي أصل ~~ما نتغنى فيه اليوم. # على أن مما لا يتقبل الشك أن الموسيقى التي انتهت إلى هذا العصر الذي نعيش فيه هي ~~مزج من موسيقى أهل العراق والشام والترك، وإذا قلت الموسيقى العراقية أدخلت ~~أثرا من الفارسية، وإذا قلت الموسيقى التركية، فقد ألممت بالرومية ~~والفارسية أيضا، بل لقد تأثرت الموسيقى ms282 المصرية في هذه الأيام بالموسيقى ~~الغربية، ولعل أكبر الفضل في اتساع موسيقانا باستعارتها كثيرا من تناغيم غيرنا في ~~هذا العصر الحديث يرجع إلى رجلين: أولهما المرحوم عبده أفندي الحامولي، فقد أدخل ~~عليها كثيرا من تلاحين أهل الشام وأهل حلب على الخصوص، كما أدخل عليها كثيرا من ~~نغم الأتراك. # أما ثاني الرجلين فهو المرحوم الشيخ سيد درويش، فلقد خطا بالموسيقى المصرية خطوة ~~موفقة نحو الموسيقى الغربية، وأقول خطوة موفقة لأنه كان حاذقا لبقا لم ~~يصك جديده الأسماع، ولم ينشز طريفه على الطباع؛ على بعد ما بين أذواقنا ~~وأذواق القوم، وشطح ما بين ما تستريح إليه آذاننا وما تستريح به آذانهم، وذلك على ~~خلاف ما بيننا وبين أهل الشرق القريب من عراقيين وسوريين، ومن ترك ففرس، فإن الفرق ~~بيننا وبينهم في هذا غير بعيد. ~~••• # وبعد هذا أعود بك إلى الشيخ سلامة حجازي، فلقد زعمت في مقال متقدم # 2 # أن أول عهد مصر بالتمثيل في اللغة العربية إنما كان ~~على أيدي الفرق التي انحدرت إلينا من بلاد الشام، ولقد كان من بينها واحدة ~~يتولاها المرحوم الشيخ أحمد أبو خليل القباني، وكان رجلا جليل القدر، واسع العلم ~~بأصول فن الغناء ومذاهبه وطروقه، وكان إلى هذا مرهف الذوق، إذا لحن صوتا جاد ~~وبرع وأطرب، ولكنه لم يكن على حظ من كرم الصوت، بل لقد كان في صوته غنة، فكان يلحن ~~للجماعة وينشد معهم، وأحيانا يناشدهم، فيبدع أيما إبداع، ويفتن بجودة ~~التنغيم وبراعة الإيقاع. # ويريد المرحوم إسكندر أفندي فرح من أرباب الفرق التمثيلية أن يباريه، وهو إذا أجاد ~~التمثيل فإنه لا حظ له من الغناء ولا من التلحين، فكيف حيلته في هذا؟ حيلته أن ~~يعمد إلى فتى ذي صوت كريم فيزج به في فرقته ليباري به القباني، ويستدرج الناس ~~إليه، فوفق إلى الشيخ سلامة حجازي، ولعله يومئذ كان يتغنى بالإنشاد على حلق ~~الأذكار، وأشرك معه أول الأمر سيدة حسنة الصوت تدعى لبيبة، فكانا ينشدان ~~معا، ثم تخلت لبيبة، وانفرد الشيخ سلامة بإنشاد القصائد التي ينظمها له مؤلفو ms283 ~~الروايات أو معربوها متصلة بوقائع القصة، أو ينشد مع الجماعة تراتيل تتصل بالقصة ~~أيضا، أو تلاحين يحيي بها في مفتتح التمثيل وفي مختتمه أولياء ~~الأمر. # وبعد دهر غير قصير انفصل عن إسكندر فرح، وأنشأ باسمه فرقة خاصة لقيت ~~نجاحا عظيما، وظل كذلك حتى أبطل الفالج نصفه في سوريا، فانقلب إلى مصر، ولم ~~يكد يحس شيئا من النهضة حتى عاود التمثيل والغناء، وإن أنس لا أنس ~~ليلة كان يمثل فيها، وهو على هذه الحال، في «تياترو» برنتانيا، وجاء الفصل الذي ~~ينشد فيه النظارة، ويقبل من خلل الستور على المسرح، ونصفه - واحسرتاه - يجرجر ~~نصفه، وينازعه على السير إلى أن يستوي لموقفه، ثم يغني ويجهد، والجمهور ~~يصفق ويلح في الاستعادة، والرجل يمتح من رمقه، ويعصر ما أبقى الفالج فيه ~~من دماء ، ويعود الجمهور إلى التصفيق والاستعادة، والرجل يحب أن يواتيه بما ~~يرضيه، ولو أتى الجهد على نفسه، فكان من ذلك منظر مرعب، لا أقول تجلت فيه ~~قسوة الكثرة من هؤلاء النظارة، ولكن أقول تجلت فيه الأنانية وإيثار نقع الغلة من ~~الشوق إلى الطرب والتزود من هذا الصوت المولي للدهر الأطول، ولعل تلك الليلة ~~كانت القاضية على حياة ذلك الشيخ المسكين! # ولقد كان الشيخ سلامة حجازي ربعة، قسم الوجه، حلو الصوت ناصعه، وكان صوته إلى ~~هذا قويا يرتفع في غير كلفة إلى أقصى ما ترتفع إليه الأصوات، لا يختل ولا ~~ينشر، ولا ينبو ولا يتسلخ، ولا يزداد على هذا إلا جلجلة وحلاوة، ولكنه إذا تدلى إلى ~~القرار تقلص وتردد دون النفوذ إلى غايته، فكرم صوته وقوته إنما كانا في وسطه ~~وأعاليه، أما أدانيه فلم يكن لها من ذاك حظ كثير. # وعلى كل حال، فإن جوهر الصوت وحده وحسن الإيقاع ليسا حقيقيين بأن يخلدا اسم ~~رجل، لأن أثر ذلك مقصور على لذة الجلسة ومتعة الساعة، إنما الذي يخلده ويديم ذكره ~~ما يستحدث في الفن ويترك فيه من الأثر، ولا شك في أن الشيخ سلامة قد استحدث في ~~فنون الغناء جديدا، وذلك هو طريقة إنشاده القصائد ms284 التي كان ينظمها له مؤلفو ~~القصص التمثيلية ومعربوها، وكانت طريقة خاصة لا هي تجري على طريقة الموشحة، ولا ~~«الدور»، ولا الموالي، ولا الإنشاد على حلق الذكر، ولا الأذان ولا ترتيل القرآن، ~~وهي إذا اتصلت ببعض هذه المذاهب التلحينية من بعض أقطارها، فإن لها لشخصيتها ~~واستقلالها، وكان منزعها الغنائي إلى تصوير الحال التي يقف فيها المنشد من أحداث ~~القصة، ويعبر عنها بتصوير النغم بأبلغ مما يعبر بنظم الكلام، وهذه عندي ~~الكفاية الفنية التي ينبغي أن تثبت في هذا الباب للشيخ سلامة حجازي. # ولقد كانت تلاحين الشيخ سلامة ترجعها حناجر الشباب في كل مكان، إلى أن قامت ~~الفرق التمثيلية الحديثة التي ترسمت آثار التمثيل الغربي، فأبطلت الغناء في ~~المسارح، إلا أن تكون الرواية من نوع «الأوبرا»، على أن هذا النوع لم يصب بعد ~~في التمثيل العربي أي حظ من النجاح، نقول حين بطل الغناء من التمثيل العربي ~~تقلصت تلاحين الشيخ سلامة، وانقبض الناس عن محاكاته شيئا فشيئا، إلى أن ~~زالت أو أطلت على الزوال، لولا أن إنشاده قد يعتري الأسماع حينا بعد حين ~~على لسان الحاكي «الفونغراف»، وكذلك قضي على فن مع أننا في حاجة إلى فنون! # محمد العقاد # أما ثاني الرجلين وهو المرحوم محمد أفندي العقاد فكان - غير مدافع ولا مشارك ~~- أقدر رجل وأبدعه، ضرب على القانون من نحو ستين سنة خلت إلى اليوم ~~الذي قبض فيه. # والعقاد كذلك قسيم الوجه، وسيم الطلعة، والعجيب أن تحضرني الآن صورته، ~~فإذا هو عظيم الشبه بالشيخ سلامة حجازي! # والعقاد نيف ولا شك على السبعين، إذا لم يكن قد أطل على الثمانين، فإذا ~~أسقطت من هذه السن عشرين أو ما دون العشرين (وهي سنو التعليم) فثق بأنه قضى ~~الباقي المستأثر بالزعامة والتقديم، والمنقطع النظير بين جميع الضاربين ~~بالقانون. # وقبل أن أعرض لفن العقاد أقدم لك أن هذا الرجل - على ما تستدرج ~~إليه مهنته من مقارفة ألوان من المعاصي بحكم السهر المتوالي، وحاجة مجالس ~~الغناء إلى ما يذكي الحس، ويشد المتن، ويثير الشجن، ويطير الخيال - لم ms285 ~~يذق الخمر قط، ولم ينقطع عن أداء حقوق العبادة قط، ولم يتنفس بالدخان في ~~مجلس القرآن قط، وهو إلى هذا شديد الأدب، جم التواضع، عظيم التوافي للناس، ~~كريم اللسان فيهم، لا ترى أنامله تجري على أوتار قانونه إلا وهو ضاحك أو مبتسم ~~مهما كرثه من أحداث الزمن! # أما العقاد في فنه فقد رزق أولا تلك الموهبة الإلهية التي يختص الله بها ~~من يشاء من عباده ما ندري لها تعليلا، ولا نفقه لمتنزلها تأويلا، وهي في ~~جماعة الضراب على آلات الطرب ما يدعونه بحلاوة الأصابع، فلقد كانت أنامل ~~العقاد بالغة من ذلك غاية الغاية. # وإنني ألفتك في هذا المقام إلى شيء حقيق بالالتفات، ذلك أنك ترى رجلين ~~يوقعان لحنا على العود أو القانون، وكلاهما بمنزلة سواء في حذقه وتجويده ، بل ~~في كل نبرة من نبراته، وغمزة من غمزاته، ومع هذا تجد لأحدهما من الحلاوة ~~والتطريب والشجا ما لا تجده لصاحبه! وتلك هي الموهبة التي حدثتك عنها، والتي ~~ظفرت بأعظم الحظوظ منها أنامل العقاد. # ويقع هذا الرجل من أول نشأته، في طريق نابغة الغناء في مصر عبده الحامولي، ~~فيتخذه ويهذبه ويطبعه على محاكاته في توقيعه وتنغيمه، فيسايره العقاد ويرضى ~~بالقانون مطمعه في مذاهب غنائه، حتى ما يستريح عبده إلى الغناء في الأعراس وفي ~~مجالس الملوك والأمراء إلا إذا كان يسنده العقاد! # ولقد كنت تجد لصوت قانون العقاد من القوة والروعة والوضوح والنصاحة والحلاوة، ~~وبراعة المطلع وسلامة المنزع وجلالة المقطع، ما لا يمكن أن تجده لقانون آخر، ~~وإنك أثناء هذا كله لا تشعر - لولا أنك تمد بصرك - أن هناك أنامل تصك الأوتار ~~صكا، ولكنك تشعر أن الأوتار تتنغم من تلقاء نفسها تنغما! # وهنا ينبغي أن تذكر لهذا الرجل مزيتان لعله لم يشركه فيهما غيره من محترفي ~~التوقيع على القانون: أولاهما أن المغني إذا مد صوته ب «يا ليل، يا عين» أو ~~بمواليه أو بمقطوعاته، فليس على صاحب القانون، إذا أمسك المغني إلا أن يطلق ~~أنامله بما يشاء، ولكن في حدود النغمة التي فيها ms286 المغني، ليستمر مذهب الطرب في ~~آذان السامعين، ولكيلا يلتوي على المغني نفسه ما كان فيه حين يعود إلى وصل ~~الغناء، أما العقاد فقد انفرد من بينهم جميعا بأن يحكي كل ما جال به صوت ~~المغني حرفا بحرف، ونبرة بنبرة، وغمزة بغمزة، مهما أطال ذلك وكثر فيه تصرفه، ~~وتردد في أبواب النغم دخوله وخروجه، فكانت ذاكرة العقاد في هذا عجبا من ~~العجب! # أما مزيته الثانية، فليس يخفى أن أوتار القانون ترتفع على السبعين، وهي إلى ~~هذا مرهفة الحس، شديدة التأثر بالجو، محتاجة في كل تصرف إلى شد أو إرخاء، ~~ولهذا كثيرا ما ترى صاحب القانون ينقطع عن الجماعة ليسوي بعض أوتاره، ~~فاخترعوا لعلاج بعض هذا ما يدعونه «بالعرب» وهي قطع معدنية في شكل القروش تقوم ~~تحت أوتار القانون، يحركها الضارب في تلك الأحوال فتغنيه عن طول الانقطاع للشد ~~والإصلاح. # ومع هذا لقد أنف العقاد أن يدخل هذه «العرب» على قانونه، واستغنى عنها «بعفق» ~~أنامل يسراه، فلا هو ينقطع وينحبس للعلاج والإصلاح، ولا هو يشد الأوتار بتلك ~~القطع المعدنية تدخل على صوت القانون شيئا تحسه الآذان السليمة المرهفة، ~~وإن غفلت عنه آذان سائر الناس. # ثم هذا العقاد الذي قضى زهرة الحياة مع سيد المغنين عبده الحامولي، لقد ~~دعته ضرورات العيش بعده إلى أن يعمل مع غيره، ومنهم من لا يستطيع أن يغني ~~إلا على حساب قانون العقاد، ومنهم من يستطيع أن يستقل بنفسه لولا أنه يريد ~~زيادة الإحسان بقانون العقاد، وارتفاع الصيت بأن يقرن اسمه إلى اسمه إلا ~~أنه لوحظ في مؤخرات سنيه أنه ما انفسح الموضع لتقسيمات العقاد، وتواثبت ~~حاجات الطرب إلى إطالتها والتبسط فيها، إلا أقصر وأوجز وختم وهو يشهد استشراف ~~الناس منه لكثير! # وعلم الله ما كان ليفعل هذا ضنا على الناس، ولا تقية جهد ونصب إنما كان ~~يفعله مصانعة للمغني، وخيفة أن يعرض الناس عنه في طلب اطراد العقاد ~~بقانونه إلى غاية المجلس. # وهذا فعل الحاجة، وقاتل الله الحاجة، فلقد طالما جنت من مفاخر الحياة ~~ومتعها على كثير ms287! # | الشيخ سيد درويش1 # سيداتي، سادتي # لقد فرضت لنفسي إجازة أستريح فيها من عناء أي عمل! على أن أعود إلى شأني في خلال ~~شهر أكتوبر، إذا أذن الله ومد في العمر وبسط في العافية، ولكنني عوجلت ~~بالدعوة إلى الحديث في هذه الليلة، ولقد كان في المعاذير مندوحة، لولا أن الحديث في ~~صديقي المرحوم الشيخ سيد درويش، وللشيخ سيد درويش عندي مقام كريم. # وإذا كنت أحدثكم الليلة عن هذا الرجل، فما كان حديثي عن رواية راو أو نقل ناقل؛ ~~إنما هو من رؤية راء وشهادة شاهد: # رجلان اثنان رأيتهما أول ما رأيتهما، فإذا كل منهما في مبدأ النظر من أصغر الناس ~~وأخفهم في الميزان، ثم ما برح كل يوم يكبر في عيني ثم يكبر حتى يضيق به مدى النظر ~~جميعا، وحتى أصبح وزنه وتقديره مما ينوء بكل وزن وكل تقدير! # هذان الرجلان الصغيران الكبيران، الدقيقان الجليلان، هما الشاب العالم الهندي ~~ضياء الدين أحمد، والشاب الموسيقار المصري سيد درويش، وضياء الدين هذا هو الذي أحرز ~~جائزة إسحق نيوتن ولما يزل في السادسة والعشرين! # ولندع ذلكم العالم الهندي الآن، ولنمض بالحديث في هذا الذي نحتفل اليوم ~~بذكره: # في إحدى سني الحرب العامة كنت أقضي شطرا من الصيف في الإسكندرية، ولي صديق ~~سري من أهل القاهرة يقضي الصيف كذلك هناك، فدعاني ذات عشية إلى داره، وأخبرني ~~أنه سمع بشاب من أهل الإسكندرية يجيد الغناء، وأنه قد وصفه له فلان، وأحسن ~~القول فيه، فأرسل في دعوته ليسمعنا شيئا، فانقبضت ووجمت، وكان لهذا مني ~~سبب قوي، فقد رمينا في عامنا ذلكم بكثير ممن يتكلفون الغناء، هواة ومحترفين، ~~وتقدمتهم ألوان المبالغات، فلم نخرج منهم إلا بصك الآذان وتعكير الأذواق، وهممت ~~أكثر من مرة بالانصراف، وصديقي يمسكني، ويعالج تبرمي بفنون التبصير ~~والتعليل! # شكله ودله # ثم أقبل علينا فلان هذا ومعه شيخ معمم، مستدير الوجه، أسمر اللون، مليح ~~العينين، في أنفه شيء من الفطس، وفي فمه قليل من الفوه، وهو يميل إلى الطول، ~~غير بادن الجسم وإن كان مكتنز اللحم ms288، نظيف الثوب، يتأنق في ثيابه برغم ما يبدو ~~عليه من رقة الحال، وهو في الجملة مقبول الخلق والشكل، لا تنقبض النفس ~~دونه، فإذا داخلته بالحديث وباسطته في السمر، تكشف لك عن عذوبة نفس، ~~وظرف طبع، وخفة روح، وحضور ذهن، وإصابة في القول، وأدب إيماءة وخطاب، ~~فسرعان ما تهفو نفسك إليه، وتحسها قد تهافتت من فورها عليه! # هذه هي الصورة التي جليت علي لسيد درويش في أول مجلس جمع بيني وبينه، ~~ولكن بقي الغناء! ... ويا ويلي مما سألقى من هذا الغناء، أو على الصحيح من ~~هذا العناء، وصدق من قال: من لسعته الحية خاف من الحبل! # سيداتي، سادتي # من حق هذا الشعور الذي جلوته عليكم، شعور الكراهية بظهر الغيب، لاستماع غناء ~~هذا الرجل أن يلفت الذهن إلى أمرين حقيقين بالنظر والتدبير: ~~(1) # أنه إذا ساغ للمرء أن يصانع في الضرورات، بل لقد يجب عليه ذلك ~~في بعض الأحيان، فإنه لا ينبغي له مطلقا أن يصانع في ~~الكماليات، فلقد تقضي عليه الضرورة بأن يتبلغ بكسرة الخبز ~~اليابس ليدفع ألم الجوع، وقد يشرب الماء الآسن ليمسك عليه ~~نفسه، أما أن يطلب الترفيه والتلذيذ فيقعد لسماع صوت ناشز على ~~السمع، في صنعة نابية عن الطبع، فذلك ما لا يسوغ، لأن تركه خير ~~من تناوله. ~~(2) # أن الإنسان متعصب بالطبع، لقد تسبق إلى نفسه كراهة الشيء، ~~لا لعلة واضحة، ولا لحجة ناصحة؛ بل لقد يدخل عليه هذا لمحض حدس ~~أو سوء تقدير، فما يزال كارها له نافرا منه، حتى ما يطيق أن ~~يسمع فيه قولا معروفا، ولو قد طرح تعصبه، وأقبل عليه مخلصا ~~صادق الوزن نزيه الحكم، فلربما تغير رأيه فيه، فأحبه ~~وآثره، وأنزله من هواه أكرم المنازل، وأغلب الظن أنه لو أخذ ~~الناس نفوسهم بهذا في تناول الأشياء وبحثها والحكم عليها، ~~لخف كثير من هذه الأحقاد المذهبية والحزبية المتفشية في ~~جميع بلاد العالم في طول الزمان! # سيداتي، سادتي # دعي للشيخ بعود فجسه وأصلحه، وجعل يعزف عليه وأنا مشغول عن الإصغاء ~~إليه بما ملكني من التبرم والتكره ms289 لما سنرجم به في ليلتنا من سمج الغناء، ~~متجه بالرغبة إلى الله تعالى في ألا يطيل مدته، إذا لم يكتب لي من هذا ~~المجلس الفرار. # ثم غنى الشيخ بصوت خشن مطلعه، إن لم يزدني بادئ الرأي يقينا بما قدرت، ~~فقد أمسك علي بعض هذا اليقين، على أنني من باب المجاملة، التي جرت بها العادة، ~~كنت أتكلف إظهار شيء من أمارات الاستجادة والاستحسان، وشهد الله ما بقلبي من ~~هذه الاستجادة وذلك الاستحسان كثير ولا قليل! # ثم لم يرعني إلا أن يبعث انتباهي ما كان يصيب الرجل في تصرفه من فنون ~~النغم، وهي على أنها طريفة جديدة، إلا أن طرافتها وجدتها لا تنبو بها عن ~~السمع، ولا تخرج بها عن آفاق الذوق، فكنت أحيل الأمر على محض المصادفة، وهذا ~~لقد يقع لكثير ممن لا كفاية لهم في صناعة الغناء ولا سداد. # ثم راح يرجع مقطوعة في تلحين يستوقف السمع بطرافته وحسن سبكه، فسألته عن ~~ملحنها، فزعم أن ذلك من صنعته، فأوقع التعصب في نفسي أن الأمر لا يعدو إحدى ~~اثنتين: فإما أن الرجل ينتحل ما ليس له، أو أنها كانت منه بيضة الديك كما ~~يقولون. # ثم تفرقنا على موعد، فلما كانت الليلة الثانية رفع لي من الرجل ~~قدر، وصح عندي أنه ممن يحسن الإقبال عليه والإصغاء إلى غنائه، ثم ~~كانت ليلة ثالثة، فرابعة فخامسة، وهو في كل ليلة يزداد عندي قدرا على ~~قدر، ويرجح وزنا على وزن، حتى لقد استطاع في بضع ليال أن يغزو كل ~~تعصبي غزوا، ويقتاد كل سمعي وكل ذوقي لفنه الجليل أسيرا. ~~••• # ولقد كنت ممن حسنوا للشيخ سيد التحول إلى القاهرة، ففيها متسع ~~لقدره، فهي عاصمة البلاد، وفيها فحول المغنين وحذاق أهل الفن، وبعد ~~لأي فعل، واتصل من فوره بنادي الموسيقى، وكان حضرة رئيسه قد سمعه من قبل ~~في الإسكندرية، فقدره وأعجب بكفايته. # وعلى كل حال، فإذا كان سيد درويش يوم مهبطه القاهرة مقدورا فيها من خمسة نفر ~~أو ستة، فلقد كان يومئذ مغمورا عند عامة أصحاب الغناء ms290 وأسبابه بوجه خاص، وعند ~~جمهرة الناس بوجه عام! # ليت شعري: كم سنة كان ينبغي أن يقضي هذا الفتى في نضال وكفاح حتى يدرك حظه، ~~ويرتفع صيته، ويسلم له مشيخة أهل الفن بمكان الإمامة، ويعقدوا له لواء ~~الزعامة؟ وأنتم أدرى بأن خلال الغيرة والحسد والحقد قل أن تجد لها مرعى ~~أخصب من صدور أصحاب الفنون، ولكن اسمعوا! اسمعوا! # لم يمض على مهبط هذا الفتى بضعة أشهر حتى رأيته يغني في «كازينو» البسفور ~~ومن حوله أحذق العازفين وأجلهم في مصر قدرا، ووقف بين يدي «تخته» أئمة ~~الفن من أقطاب نادي الموسيقى، وهو يغني صوتا (دورا) من تلحينه، ولعله كان من ~~نظمه أيضا: يغني ويتصرف، ويعلو ويهبط، ويتيامن ويتياسر، ويخرج من فن إلى فن، ~~ويتعطف من نغم إلى نغم، ويلم بالقديم، ثم يميل إلى ما أبدع من الحديث، وكل ~~أولئك يفعله في خفة ولباقة وقوة صنعة وروعة أداء، وترى القوم وقد أمسكوا كلهم ~~رهن بيانه، وطوع بنانه، وكأنه فيهم «دكتاتور» قد خلص له وجه السلطان كله، لا ~~اعتراض لقوله، ولا تعقيب لإشارته، وما شاء الله كان! # أسلوبه وصنعته # سيداتي، سادتي # لا تنتظروا مني أن أحدثكم عن نشأة الرجل، وكيف درس فن النغم، وعمن أخذ، وكيف ~~تهيأ له أن يجدد ويبتكر، وبماذا صارت له هذه العبقرية الفخمة، فذلك ما لا أعرف ~~منه كثيرا، على أن الوقت المقسوم لي الليلة، أضيق من أن يسع لهذا القليل ~~الذي أعرف، وكيفما كانت الحال، فالمواهب مغروزة في أصحابها، والعبقرية كامنة ~~في نفوسهم، لا تحتاج في ظهورها وإيتائها آثارها الضخام إلا إلى قليل من ~~التلقين والتوجيه والإرشاد، وما أحسبهم جاءوا سيدا بأقطاب أهل الفن من أعلى ~~معاهد الموسيقى في العالم، حتى تمت له كل هذه البراعة، بل لقد أخذ ~~الموسيقى عمن أخذ عنهم كثير غيره، فإذا كان هناك فرق بينه وبينهم، فإنه ~~كان أقصر منهم مدة تعليم وتمرين، وقد تقدم وتأخروا، وبرع وجمدوا، ونبه وخملوا، ~~وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم! # إذن فلنقصر الكلام على ms291 أسلوب الرجل وصنعته، وما أحدث من الأحداث في ~~الموسيقى المصرية في هذا العصر الحاضر. # كان سيد درويش، عليه رحمة الله، متمكنا من فن الموسيقى أيما تمكن، ~~واثقا من نفسه أيما ثقة، وأكبر آيات هذه الثقة بالنفس أنه تقدم إلى هذا ~~التجديد، وهو لما يزل مغمورا منكور المحل، والتجديد ابتداع ومطالعة ~~للجماهير بغير المألوف، وقل أن يعمد المرء إلى هذا قبل أن يذهب له في فنه ~~صيت وذكر يتكئ عليهما في جديده، ويصد بهما صولة التعصب للقديم. # وليس كل خطر الرجل في أن يكون متمكنا في فنه، عالما بأصوله وفروعه، وليس كل ~~خطر الموسيقى بنوع خاص، في أن تهديه كفايته وعظم مقدرته إلى أن يطلع ~~على الناس بجديد فحسب، مهما كان هذا الجديد جاريا على أحكام الفن موصولا ~~بأسبابه، بل إن الكفاية كل الكفاية، والبراعة حق البراعة أن لا ينشز جديده ~~على الآذان ولا تصطك به الأذواق، وكذلك كان جديد سيد درويش، كما كان جديد عبده ~~الحامولي من قبله، كلاهما أضاف إلى الموسيقى المصرية جديدا، وكلاهما تصرف ~~فيها تصرفا طريفا، فما نبا سمع، ولا تعثر طبع، بل لكأن ما جاءا به ~~إنما كان دسيسا في الطبع، كامنا في قرارة النفس، حتى لتحسب أن كل ما لهما ~~فيه من فضل، إنما هو في مجرد الغوص عليه واستخراجه من مطاوي الطباع، وتجليته ~~على الأسماع! # نعم لقد اتسعت الموسيقى المصرية وأثرت، وأصابت صدرا محمودا من موسيقات ~~الأمم الأخرى شرقية وغربية، ولقد تم هذا الانقلاب الخطير، وإن شئنا قلنا ~~تمت هذه الثورة الكبيرة دون أن تراق قطرة دم واحدة، تم ذلك كله بفضل ~~ذلكم الرجل العظيم الذي نحتفل بذكراه اليوم. # ذلكم بأنه عرف كيف يتبسط بموسيقى قومه، وكيف يسلس لها ما أصاب من موسيقى ~~غيرهم، فأساغته في يسر، حتى أصبح موسوما بالطابع المصري، لا نشوز فيه على سمع ~~المصري ولا التواء! # سيداتي، سادتي # وبعد، فإن فن هذا الرجل، فوق ما له من القدرة القادرة على الاقتباس ~~والابتكار، يمتاز بخلال أربع: أولاها القوة، فلا حظ في ms292 تلاحينه للتفكك ولا ~~للانخذال، وثانيتها البراعة في التصرف، فهو يتنقل بسامعه من فن إلى فن، ويتحول ~~به من نغم إلى نغم، في اتساق وانسجام، كأنه يتنزه في روضة نسقت أغصانها ~~يد بستاني صناع، وثالثهما شيوع الطرب في تلاحينه، فمهما استحدث جديدا يوجب ~~الإعجاب، فإنه بالغ الغاية، ولو عن طريق الشجا من الإطراب. # أما رابعة هذه الخلال، والحديث الآن متجه بنوع خاص إلى سادتنا الملحنين ~~والمغنين، فهي الذوق، والذوق البارع النافذ، فما إن لحن سيد درويش فكان ~~المعنى شديدا إلا قوى لحنه، ودعم ركنه، وشد بالصنعة متنه، فسمعت له ~~مثل قعقعة النبال، إذا استحر القتال، أو مثل زئير الآساد إذا تحفزت ~~للصيال، وإذا جنح الكلام إلى اللين كان لحنه أرق من نسج الطيف، وألطف من ~~النسمة في سحرة الصيف، وما كان القول في بر الحبيب بوعده، ووفائه بعد طول ~~جفائه وصده، إلا طبع الكلام، في أمرح الأنغام، حتى ليكاد الغناء يتمثل لك ~~عصفورا يثب في الروض بين أغصانه، ويستقل ما شاء من ذرى أفنانه، وقد ينع ~~بين يديه الثمر، وضحك من حوله الزهر، وما كان الحديث في التوسل والاستعطاف، ~~إلا أتى بما يلين أقسى الكبود، ويكاد يقطر الماء من الحجر الجلمود، ولا ~~كان في وصف القطيعة وما فعلت تباريح الهوى، إلا وخز الحشا، وأشاع ~~الأسى، وأذكى الشجون، فتبادرت الدموع من الجفون، وهكذا! ... # وبعد، فالفن كله ذوق، والعلم كله ذوق، والحياة كلها ذوق، فمن أخطأه الذوق ~~فقد أخطأه كل خير! ~~(وهنا أورد المحاضر بعض الأمثلة على ما يقع أحيانا من قلة الذوق سواء في ~~التلحين أو في الأداء.) # وأخيرا، فإذا كانت هناك جهود تبذل، صادقة ماضية حينا، ومهوشة ~~متعثرة أحيانا، للترجمة بالموسيقى عما يعتلج في النفس من ألوان العواطف ~~وما يتوارد على الذهن من شتى الخواطر، فإنني لم أر امرءا في عصرنا هذا ~~كتب له من التوفيق في هذا الباب ما كتب لسيد درويش. # لقد كان هذا الرجل إلى ما رزق من تمام الذوق وصدق العاطفة مرهف الحس ~~جدا، حتى تتمثل له ms293 دقائق المعاني في صور سوية تكاد ترى وتلمس فإذا هو ~~اجتمع ليجريها نغما، حاول مخلصا جاهدا أن يصورها لك كما تصورها، ~~فبلغ من ذلك في الغالب غاية ما يأذن به جهد التلحين والتنغيم. # ولست بهذا أزعم أن الموسيقى - وأعني الموسيقى المصرية التي أتذوقها - تترجم ~~عن ألوان العواطف وفنون المعاني ترجمة البيان وما يدنو من ترجمة البيان، فإن ~~إيماني ضعيف بهذا كل ضعف، وإنما أعني مجرد المشاكلة والمجانسة بين المعاني ~~وبين ما يصاغ لها من فنون التلاحين. # وكيفما كانت الحال، فإن سيد درويش قد نجح نجاحا لم يبلغ أحد مبلغه في ~~تلحين «الروايات» الاستعراضية، فقد هيأت الفرصة لبراعته في الحكاية عن حال ~~الجماعات والطوئف المختلفة بألوان التناغيم، بحيث لو أرسلت بها الأصوات ~~ساذجة باغمة لا تدل على معنى ولا تشير إلى غرض، لنمت وحدها على من تترجم ~~عنهم، وتنتحل الغناء الذي ينبغي أن تلوكه ألسنتهم وتمط به حلوقهم! # وبعد، فإنني أقدر أنه لو قد فسح لهذا الشاب في الأجل، لكان أقدر أهل ~~العصر على تلحين «الأوبرا» العربية، ولبلغنا من هذا منية لقد طالما تعلقت ~~بها الآمال، واستشرف لها الخيال! # رحمه الله رحمة واسعة، وعزانا عنه العوض الصالح الكفء، وما ذلك على الله ~~بعزيز! # ملحق في سيرة سيد درويش # يجمل بنا أن نورد هنا طرفا مما وقع للكاتب بعد ذلك عن نشأة سيد درويش ومجمل ~~تاريخه، فأثبته في محاضرة ألقاها من محطة الإذاعة أيضا في السنة التالية: # نشأ سيد في مدينة الإسكندرية، ولما ترعرع مضى به أبوه إلى ~~الكتاب، على عادة أوساط الناس، فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ ~~صدرا عظيما من القرآن الكريم، إذ لم يكن قد حفظه كله، ثم دفع ~~إلى مدرسة أهلية، وأدعوها مدرسة على سبيل التجوز، فإنها من ~~تلكم المعاهد التي لا ترتقي إلى المدارس المعتبرة، ولا تتدلى إلى ~~أفق الكتاتيب، وتلك المدرسة كانت تدعى «شمس المدارس»، وتقوم في ~~حارة الشمرلي الواقعة في دائرة قسم الجمرك، ويتولى إدارتها رجل يدعى ~~عبد القادر أفندي الأيوبي. # وكان أستاذ الرياضة في هذه المدرسة ms294 رجلا يدعى نجيب أفندي ~~عريان، وهو ممن كانوا ينشدون مع المرحوم الشيخ سلامة حجازي، فجعل ~~يلقن التلاميذ أناشيد الشيخ «وسلاماته»، فكان من أشدهم إقبالا ~~عليها ونشاطا في الترنيم بها، وأحرصهم على الدقة في أدائها هذا ~~الفتى سيد درويش، ويصح فيه المثل العامي: «الديك الفصيح، يخرج من ~~البيضة يصيح!» # وفي هذه الأثناء توفي والده فساءت حاله، وترك المدرسة، وراح ~~يعالج حرفة النجارة، على أن العيش لم يطب له فيها فلم يلبث ~~فيها طويلا، بل انصرف عنها وألف من فوره فرقة تعاونه على ~~إنشاد المولد النبوي الشريف. # ثم جعل يغني في بعض المجالس الخاصة، وتعلم ضرب العود على رجل ~~يدعى الشيخ حنفي، ثم أقبل على الغناء للجمهور فيما أسميه على ~~سبيل التجوز «قهوة»، يعاونه الشيخ حنفي هذا ضربا على العود. # ثم تحول بفرقته إلى «قهوة» لنيوناني قريبة من المحطة، ثم انتقل ~~إلى مقهى صريح يقع على البحر بالقرب من «شادر» البطيخ، وكان ذلك في ~~سنة 1916 ثم انتقل إلى مقهى آخر كان يقع على ميدان المنشية الكبرى، ~~وهو في كل تلك الأثناء يزيد عناية بالفن وتجويدا له، كما يزيد ~~إقبال الجمهور عليه وإعجابه به ... لقد دلت هذا الفتى موهبته ~~الكامنة، وهداه حسه المرهف الدقيق، إلى أن هذه الضروب التي ~~تتغاير على سمعه من الغناء، والتي تتهاتف بها الحناجر في محيطه، لا ~~تسمن ولا تغني، أو بعبارة أخرى إنها دون مطالب الفن الرفيع ~~بكثير، لقد سمع سيد كما يسمع سائر الناس ألوانا من الموسيقى ~~الغربية والتركية وغيرهما مما تتقلب فيه الحلوق في الشرق القريب ~~والبعيد، ولا بد أن نبرات في بعض هذا الذي كان يسمع قد لذت ~~لسمعه، وأصابت مدخلا بديعا إلى أطواء حسه، وحركت دفين الطرب في ~~قرارة نفسه، ولا يجد لها أشباها فيما يسمع من إخوانه المصريين، ~~وللرجل كما تعلمون أذن موسيقية، وله حس مرهف، وفيه ذوق تام ~~دقيق. # إذن لقد بان له، على الجملة، أن في الموسيقى المصرية - على الحال ~~التي شهدها - قصورا، وأنها تتخاذل عن الكثير مما ينعم الذوق، ~~وينفذ ms295 بالحس، ويترجم عن شتى العواطف التي تعتلج في ~~الصدور. # وليت شعري: كيف له بأن يواتي طلبته، ويحذق هذا الفن كما ينبغي ~~أن يحذق، ومصر أضيق من أن تتسع لهمه أو تدنيه من مطمحه. # ولقد سافر في سنة 11 إلى الشام وأقام دهرا في حلب، وهناك أخذ عن ~~أقطاب الموسيقى ما أذكى موهبته، ووسع في أقطار فنه، وقيل: إنه مضى ~~إلى الآستانة في هذه الرحلة، وهذا ما لا أقطع به. # ولقد عاد الشيخ سيد درويش إلى مصر بعد أن تزود لشأنه أكرم ~~زاد، وادرع للميدان بأمتن العدة وأحسن العتاد، وكان من أوالي ~~بدعه في جد تلاحينه «دور: ياللي قوامك يعجبني» وقد صاغه من نغمة ~~«النكريز»، وأكبر الظن أنه لم يكن لموسيقار مصري عهد بهذه النغمة من ~~قبل، وقد أجاد سيد في تلحين هذا «الدور» وخلب وراع، فوق أنه طبعه ~~على غير غرار معروف في مصر، وصاغه على غير مثال قديم فيها أو ~~جديد! # وظل رحمه الله من ذلكم العهد يبتكر ويبتدع ويجدد، ويسلك ~~بالموسيقى المصرية شعوبا، ويستحدث فيها طروقا، حتى كان لا تغيب ~~شمس أو تشرق شمس إلا أتى بجديد، وطلع على الأسماع بطريف، وكله من ~~الطراز الفاخر الثمين. # | الشيخ أحمد ندا1 # عزيز علي، وعزيز على من شهدوا من أهل مصر هذا الجيل، ومن شهدوا فيها أواسط ~~الجيل الماضي أو أعقابه، عزيز علينا جميعا أن يرسل علينا نعي المرحوم ~~المغفور له الشيخ أحمد ندا، وأنت دائما إذا ذكرت الشيخ ندا في هؤلاء، تمثلوا ~~فيه شيئا جليلا عظيما، تمثلوا فيه عنصرا كبيرا مما تتسق به الحياة في مصر، وما ~~تنتظم به ثروتها الأدبية، كذلك كان أحمد ندا، وكذلك يتمثله القائمون من هؤلاء في ~~الحياة ما داموا في هذه الحياة. # ومن عجب أن يموت أحمد ندا في نفس اليوم الذي يموت فيه حافظ إبراهيم فيضرب هذا ~~البلد في يوم واحد ضربتين قاسيتين حتى على أغنى البلاد وأحفلها بعظماء ~~الرجال! # ومن أعجب هذا العجب أن هذين الرجلين، وإن اختلفت فنونهما وتفارقت في أبواب العظمة ~~وسائلهما ms296، كانت تجمع بينهما خلة جليلة الخطر بعيدة الأثر، وهذه الخلة هي شعور كل ~~منهما أبلغ الشعور بالكرامة في فنه، وأن أحدا منهما لا يطيق أن يبرعه أحد أو ~~يسبقه إنسان، إذا استن الأقران في حلبة السباق! # نعم؛ وليرددها القارئ عني كما يشاء! ليست الموهبة وحدها هي التي ارتفعت بكلا ~~الرجلين إلى هذا المكان، فلقد كان الشعور بالكرامة، ومواتاتها بغاية ما يترامى إليه ~~العزم والقوة أثر جليل فيما بلغا من المنزلة وبعد الصيت في جمهرة ~~النابغين. # ولنكسر القول هذا اليوم على الشيخ ندا، فلصديقي حافظ بعد كلام طويل. # كان الشيخ أحمد ندا عليه رحمة الله ربعة القوام، مكتنز اللحم وإن ترهل لحمه في ~~غاية العمر بتراخي السنين، وكان وجهه أشبه بمربع متحيف من زواياه الأربع؛ على أنه ~~كان قسيما حلو العينين ، حلو الفم على فوه فيه قليل، تضرب في بياض لونه ~~صفرة لا أدري إن كانت من الخفة أو من مرض طارئ دخيل. # وكان إذا تحدث تفخم عليه اللفظ، فخرجت تاؤه بين التاء والطاء، وخرجت زايه ~~بين الزاي والظاء، وسينه بين السين والصاد، وهو بعد حسن السمت، حسن الدل، متأنق ~~الهندام، يكور عمامته على نسق خاص يترسمه فيه كثير من المعممين، وخاصة جماعة ~~القراء. # وكان، أثابه الله، كأمثاله العظماء بالحق، جم التواضع، وافر الأدب، لا يذكر ~~الناس - إن هو ذكرهم - إلا بالخير، عظيم التوافي لمن يعرفهم، طلاعا عليهم ما ~~اعتراهم المكروه. ~~••• # كان أبوه، ويدعى الشيخ أحمد ندا أيضا، مؤذنا في مسجد السيدة زينب رضي الله ~~عنها، ولم يكن صوته - على ما انتهى إلينا من خبره - على حظ من الملاحة؛ ولكنه كان ~~جهيرا قويا يبالغ من سمعوه في قوته وجهارته إلى الحد الذي لا يسيغ روايته الرجل ~~المربئ، ولقد شهدنا الشيخ أحمد ابنه وسمعناه وعرفنا ما أوتي من قوة في الصوت ~~لعلنا لم نسمع مثلها إلا من الأقل من القليل، إذن فقد زلت # 2 # له هذه الخلة بالميراث عن أبيه. # مات الشيخ أحمد ندا الكبير، وترك ولديه حامدا وأحمد فتيين، فوصل حامد وهو ms297 ~~أسنهما، بمنصب أبيه، واتكأ أحمد في عيشه على ترتيل القرآن في مهم الناس من ~~المناحات والأعراس ونحوها على سنة «الفقهاء» في هذه البلاد. # ويوم درج أحمد ندا في هذه السبيل كان المقدمون من حذاق القراء الذين طار صيتهم في ~~البلاد كل مطار، هم الأشياخ الثلاثة محمود القيسوني، وحسين الصواف، وحنفي برعي، ~~على أن أولهم لم يكن يؤجر على القراءة في أسباب الناس، لأنه كان المؤذن الخاص ~~لولي الأمر، وإن كان يجامل أحيانا بالترتيل في بيوت من يؤثرهم من العظماء ~~في مهمهم، فلم يكن في الميدان في الواقع من قراء الطبقة الأولى إلا السيد حسين ~~الصواف والشيخ حنفي برعي، وسرعان ما وصل بهما القارئ النابت الشيخ أحمد ~~ندا! # وأنت ترى من هذا أن ندا لم ينبه بعد خمول، ولم يطاوله الزمن في المواتاة ~~بارتفاع الصيت، وكان إذا اجتمع ثلاثتهم للتلاوة تقدم السيد حسين الصواف لعلو سنه، ~~ولحسبه ومنزلته في كرام الناس، ثم قفى على أثره الشيخ حنفي، ثم أحمد ندا ~~لأنه أصغر الثلاثة في عدد السنين. # على أننا لم ندرك السيد الصواف إلا وهو في أعقاب العمر، فلم يتهيأ لنا أن ننعم ~~بصوته، أو نتذوق فنه، إما لأن صوته كان قد علاه الشيب، أو لأننا نحن كنا أحداثا لا ~~ندرك في هذا الباب ما يدرك الرجل التام؟ فكان الصراع لأول عهدنا دائم الشبوب ~~بين الشيخ حنفي برعي وبين الشيخ أحمد ندا. # وكان الشيخ حنفي رحمه الله رجلا مكور الوجه، مكور الجسم، تحسبه إذا جلس إحدى ~~القدور الراسيات، وكان على هذا حلو الصوت دقيقه، أشبه ما يكون بصوت العود يتلعب ~~بأوتاره الحاذق الحسان، وكان إلى هذا على حظ من الفن عظيم، يقرأ على طريقته التي ~~ابتكرها هو ابتكارا واحتذاها بعد كثيرون. # كان الصراع كما حدثتك بين الشيخين عنيفا دائما ما اجتمعا، فيكون الغلب لهذا مرة، ~~ولهذا مرة، والسامعون هم الفائزون على كل حال، وكانت لهما مواسم يطلبها الناس من كل ~~مكان، وكان أجلها وأفخرها في بيت المرحوم داود بك العيسوي في مولد ms298 الحسين بن ~~علي رضي الله عنهما. # على أن الشيخ أحمد ندا ما زال يقوى ويشتد، ويبدع ويفتن، إذ الشيخ برعي ما ~~برح يضعف ويهزل حتى أسلم سلاحه وخرج من الميدان بسلام. ~~••• # نعود بعد هذا إلى صوت الشيخ أحمد ندا وفنه وطريقة أدائه: # لم يكن صوت الشيخ ندا حلوا بالمعنى الذي يدرك من أصوات مثل المرحومين الشيخ ~~يوسف المنيلاوي وعبد الحي أفندي حلمي، ولا من مثل صوت الآنسة أم كلثوم وصالح أفندي ~~عبد الحي، ولكن له جمالا من نوع خاص، فلقد كان قويا شديد القوة، يرتفع إلى ما ~~تتقطع دونه علائق غيره من الأصوات وكان مع هذا عريضا بعيد العرض، حتى إذا جلجل ~~وانصقل، صار أشبه في وضوحه وبعد عرضه بصفحة الأفق ساعة ينصدع عمود ~~الصباح. # وعلى أن مثل هذا الصوت ، إن كانت له مشابه، مما يتعذر معه إحكام النبرة (العفق) ~~سواء في بعض الترنيمة أو في غايتها، فإنه لم يك يلحق ندا في هذا الباب إلا ~~الأقلون ممن رزقوا رقة الأصوات ولينها، ومن هنا تدرك قدر الموهبة التي ~~أوتيها أحمد ندا في هذا الباب، فإن لم يكن الأمر فيه إلى الموهبة، فقدر ما كان ~~يلقاه ذلك الرجل في هذا من عظيم العناء! # وقبل أن نجاوز هذا الموضع من صفات الرجل، نقرر أن صوته لم يكن له حظ كبير في ~~قراراته، أو ما يسميه أهل الفن «بالأراضي»، بل كانت أرضوه واضحة الإقفار، حيث ~~كانت ثرواته كلها في أثنائه «البدنية»، وفي أعاليه، فكان لهذا دائم الاتكاء عليهما ~~في ترجيعه عامة ليله، فلا يتنزل إلى قراره إلا ليصيب راحة ضئيلة يستجم فيها، في ~~الوقت نفسه، لوثبة يرتفع فيها إلى عنان السماء! # أما فنه، وهنا ألتفت بالكلام إلى الأستاذ التفتازاني، وقد كتب عن الشيخ ندا في ~~«الأهرام» كلاما ذهب فيه، إن صدقت ذاكرتي الكليلة، إلى أنه رحمه الله كان يجري ~~على عرق عظيم من العلم بفن الموسيقى، وهذا لا يشايع الواقع في كثير ولا ~~قليل. # وقبل أن أخوض في هذه المسألة أقرر كما قررت ms299 من قبل في مناسبات كثيرة، أن الفن شيء، ~~وأن العلم بالفن شيء آخر، فليس كل مفتن عالما بالفن وأصوله وقواعده، وليس كل ~~عالم بالفن وأصوله وقواعده من المفتنين. # إنما ملكة الفن ترتكز في أصلها إلى الموهبة، أما العلم بالفن فمرجعه إلى الدرس ~~والمذاكرة وطول النظر، وشتان ما بين هذا وهذا! # بعد هذا أصارحه غير متحرج ولا متحرف عن مكان الحق، ولا متنقص لقدر هذا الرجل الذي ~~أتجرد اليوم لذكره إيثارا له وهتافا بفضله العظيم، أصارح صديقي الأستاذ بأن الشيخ ~~أحمد ندا لم يكن على حظ جليل في علم الموسيقى، بل لعل علمه به لم يزد على ~~إدراك أوليات النغم بما تلقف في صدر نشأته من لداته: هذا صبا، وهذا سيكاه، وهذا ~~عراق، وهذا جركاه إلخ، أما أنه تلقى هذا العلم وحذقه أو عني عناية جليلة به، ~~فهذا لم يقم عليه أي دليل؛ بل لقد أعلم ويعلم كثير غيري - وليس هذا لحسن ~~الحظ بغاض من قدر الرجل ولا بمتحيف من عظمته العظيمة - لقد أعلم ويعلم كثير ~~غيري غير ما تقول: فإن شئت الواقع، فالواقع أن أحمد ندا لم يكن عالما قط ~~بالموسيقى، وإنما كان فنانا حق الفنان، وكان حسانا كل الحسان، كان من أولئك ~~الأفذاذ الذين بعث الله في نفوسهم تلك الموهبة النيرة التي تشق وحدها في ~~الفن طريقها فتعبد فيه سبلا، وتمهد له طروقا، وتخلق فيه أحداثا لم ~~تكن خلقت من قبل، وهكذا كان الشيخ أحمد ندا، وهكذا أبدع في فن ترتيل القرآن ~~بدعا لا عهد للناس بها من أول الزمان، ولن يزال يترسمها القارئون إلى بعيد من ~~الزمان، فالشيخ ندا من أحد أولئك القلائل الذين لم يجد عليهم العلم بالفن وإنما ~~أجدوا هم على الفن بما رزقوا من سلامة الفطر ودقة الإحساس، وتلك المواهب ~~العظام! # وهؤلاء أشبه بالقمري إذا سجع وغرد، وبالجدول إذا تعطف في الروض وتأود، ~~وبالبدر إذا استوى فأشرق نوره، وبالورد إذا تفتح فسطع عبيره، اسأل ما شئت من هؤلاء ~~كيف صنع، وعمن أخذ وعلى يد من ms300 برع، وخبرني بعد هذا الجواب. ~~••• # أما أسلوبه وطريقة أدائه، فلقد جعل من أول نشأته يحاكي الشيخ حنفي برعي ~~ويستن سبيله، وينهج منهجه، وكذلك كان في عامة ترتيله، اللهم إلا ما كان ~~يستحدثه ذوقه الخاص، وكان هذا قليلا بالإضافة إلى سائر شأنه، ولقد أدركناه نحن وهو ~~في أسلوب أدائه على هذه الحال، وتأبى عليه كرامته الفنية إلا أن يحدث كل يوم حدثا ~~في الصنعة من مبتكره هو ومن بدع ذوقه، يطرح بإزائه شيئا مما أخذ عن أستاذه الشيخ ~~حنفي، حتى استوت شخصيته وأدركت، وتمت له صنعة جديدة فاخرة في فن القراءة ~~والترتيل. # كان الشيخ ندا رجلا صائدا لا يخطئ سهمه ما سنحت له الرمية، ولقد كانت تعتريه ~~«الحركة» في بعض ترتيله عفوا، ما اجتمع لها ولا أسلف لها تقديرا، إذ هي طريقة لم ~~تجر من قبل على مثال فما يزال يكر عليها ويرددها في مختلف الآي حتى ~~يحذقها ويضيفها إلى فنه السري الجليل! # ولقد كان يبدأ قراءته، وخاصة في نوبته الأولى، مضعوفا متخاذلا حتى ليكاد يكون ~~ترنيمه ضربا من الحشرجة؛ وحتى يحضرك قول الشاعر: # إنك لو تسمع ألحانه # تلك اللواتي ليس يعدوها # لخلت من داخل حلقومه # موسوسا يخنق معتوها # وإنه أثناء هذا ليكثر من التسعل والتنحنح، ولا يزال يدور بصوته الأجش المهزوم ~~على فنون النغم لعله يوافق في إحداها بعض الفرج، فيدركك اليأس كله من أن الرجل ~~في ليلته تيك مستور، وكلما زاد صوته علاجا ومطاولة أقبل عليه هذا الصوت بشيء من ~~المواتاة، وأحس منه سامعه بشيء من الانتعاش أشبه بما يحس العليل أحيانا في ~~مرضته الأخيرة، وربما عاوده الانتكاس فعاود هو المراجعة وشدة المطاولة، ولا يزال ~~على هذا حتى يستوي قارئا عاديا لا فضل له ولا امتياز على غيره من جمهرة القراء، ~~حتى إذا أدى قسمه أخلى الميدان لقرنه فجال فيه ما شاء الله أن يجول، وصال على ~~الشيخ ما شاء أن يصول! # فإذا جاءت نوبته الثانية واستوى في مجلس الترتيل، رأيت فيه فتاء وقوة لا عهد لك ~~بهما من ms301 قبل، وخرج صوته مرنا واضحا ليس عليه من الصدأ إلا قليل، ويقرأ ثم ~~يقرأ؛ على أنه لا يأخذ في قراءته سمتا واحدا؛ بل ما يبرح يترجح بين فنون النغم؛ ~~ولكن تحيره هذه المرة ليس في التماس النغمة التي تعيذه وتعصمه، بل في التماس ~~تلك التي تضنيه وتتعبه، إذ صوته في أثناء ذلك يقوى ويشتد، ويعلو ويصفو، حتى يصير ~~أوضح من فرند سيف خرج لساعته من الصقال، وينطلق في طلب الصيد من ها هنا ~~ومن ها هنا، ولا يريغ من النغم إلا الأوابد، فإذا ~~أصاب قنيصته راح يلون لها الافتراس ألوانا، ويشكل لها الالتهام أشكالا، فما ~~يدعها إلا «أعظما وجلودا»، وهو أثناء ذلك يقيم الناس ويقعدهم، ويطويهم وينشرهم، ~~ويذيقهم المهول الرائع من الطرب والانبهار، وما شاء الله لا قوة إلا ~~بالله ! # وهو رجل جريء جدا في بابه، لم أر من يعدله في جراءته إلا أن يكون الأستاذ ~~الشيخ علي محمود، وصل الله في عمره، فلقد كان الشيخ ندا رحمه الله يكون في أعلى ~~طبقات الصوت إلى الحد الذي يعلق له السامع النفس، ما يظن أن وراءه لصائح مدى، ~~إلا أن تتصدع الحنجرة أو ينفجر الوريد، ثم تتنظر له من جانب السماء نغمة ~~جديدة، فسرعان ما يتجمع لها، فما يزال يمط صوته القوي الجريء إليها، ولقد ~~تراوغه بادئ الرأي، فلا يبرح يتحرف لها متيامنا تارة ومتياسرا أخرى حتى إذا شكها ~~زر حنجرته عليها، فخرجت له، على هذا الجهد كله، نبرة لينة حلوة، لا عسر فيها ولا ~~كلفة، كأنما أصابها وهي تدف # 3 # على ظهر الأرض لا تحلق في ~~عنان السماء؛ ولقد أبت عليه كرامته في تلك المواقف المهولة أن تزل به قدم، أو ~~ينشز عليه ما أراغ من النغم! # ولو قد هيئ لك أن تسمعه في نوبة ثالثة، فتلك التي لا يتعلق بها وصف واصف، وسبحان ~~الخلاق العظيم! ~~••• # ولقد عاش الشيخ أحمد ندا، على هذا خمسين سنة أو تزيد قليلا أو تنقص قليلا، قضى ~~منها سنين طوالا لا يكاد يستريح من السهر ليلة ms302 واحدة، ولقد يسهر الليلة في أسيوط، ~~ويسهر التالية في المحلة الكبرى مثلا، فيجلجل في الثانية كما يصلصل في ~~الأولى، ما ترى على صوته أثرا لضعف ولا انخذال! # وإذا كان تاريخ الغناء العربي قد أحصى نفرا ممن عمروا فيه مع القوة وسلامة ~~الصوت من أمثال إسحاق الموصلي وابن جامع، فقد امتاز الشيخ ندا عن أولئك جميعا بأنه ~~أمضى جميع تنغيمه بذلك الجهد الشنيع، فهو بلا شك رجل في التاريخ عظيم ولولا أن ~~الحديث قد طال لذكرت كثيرا من مفاخره في لياليه؛ وإن من حقه على معاصريه أن ~~يثبتوها له على وجه الزمان. # وإني لأختم هذا الكلام بتصحيح واقعة أيضا رواها السيد التفتازاني عن الفقيد فيما ~~أبنه به في الأهرام، فلقد روى أن الشيخ أحمد ندا انقطع بضع سنين إلى ~~الغناء، وترك ترتيل القرآن! والواقع وأنا في هذا شاهد رؤية، أن الرجل لم ينقطع ~~قط عن ترتيل القرآن والتكسب به، ولكن أتى عليه وقت كان إذا ختم تلاوته في حفلة ~~عرس أو نحوه، جاءوه بعواد فاستوى إليه وجعل يتغنى ببعض المقطوعات، وكثيرا ما كان ~~يرجع أبياتا من الشعر أذكر أن أولها: # 4 # عمري عليك تشوقا # قضيته وعزيز صبري # على أنه كان يتغنى على طريقته في القراءة، فكان غناؤه سخيفا مضحكا، وإن غناء ~~القراء لأشبه بشعر الكتاب، كما أن تلاوة المغنين أشبه بنثر الشعراء؛ ومهما يكن من ~~شيء فإنه لم يلبث في هذه المحنة طويلا، فلقد ترك الغناء بتاتا وتوافر على ~~تلاوة القرآن الكريم. ~~••• # هذه كلمة حق أرسلها خالصة لوجه الله تعالى، وفاء لحق التاريخ أولا، ولحق ~~الصحبة الطويلة والجوار السعيد ثانيا. # وإني أسأل الله تعالى أن يثيب الفقيد العظيم بقدر حسناته، وأن يعزي هذه البلاد عنه ~~أحسن العزاء. # | غني يا ...!1 # وحيا الله ...، وحيا صوتها العذب الرخيم. # أفغناء هذا أم سجع هزار، وإنشاد هو أم ترجيع كنار، ويتردد في حلق غانية أم في ~~قصبة من مزامير داوود، نفخت فيه القدرة لتشعر أهل الأرض نعيم أهل ~~الخلود؟ # غني يا ... غني، واشتدي في غنائك أو ليني ms303، وابغمي # 2 # في شدوك أو أبيني، أو حلقي ~~بالصوت صياحا، # 3 # أو دفي به # 4 # وأسجحي إسجاحا، # 5 # ثم صولي به وتدفقي، أو تزيلي ~~فيه وترفقي، وتجلي به على الأسماع مرسلة أجزاؤه مستوية أطرافه، أو ملتوية أصلابه ~~متثنية أعطافه. # غني يا ... فهذي قلوب سامعيك طوع ترديدك وترنيمك، وهذي أحلامهم رهن ترجيعك ~~وتنغيمك، فقد طالما عبث صوتك بالألباب، وهتك عن أخفى العواطف كل حجاب! # خبريني بعيشك، كيف تصنعين يا ... بالناس؟ # أفتوة هذه ومراح، أم دعة هذه وارتياح؟ وسرور وبهجة، أم هم يصدع الكبد ويعصر ~~المهجة؟ وغضب هذا أم رضى، ونعيم ذاك أم تلك نار الغضبى؟ وآنة تيك من تبريح الجوى، ~~أم آهة تنفست بها ذكرى الصبابة والهوى؟ وسكر ما فيه الناس أم صحو، وفرح ما ~~يجدون أم شجو؟ وسكون ما ترى وفتور، أم فورة تريك جبل النار كيف يثور؟ كل هذا من ~~عبثك بالألباب يا فتنة. # غني يا ... غني، فلو تمثل صوتك إنسانا، لاستوى على عرش القلوب سلطانا! # أليس عنده الرفع والخفض، والبسط والقبض، والسعد والنحس، والوفر والبؤس، واللذة ~~والألم، والصحة والسقم، والأنس والنعيم، والهم المقعد المقيم؟ # إن صوتك يا ... لفتنة في الفتنة! أفرأيت كيف حلا للطباع، وعلمت كيف لذ للأسماع ~~ووالله لو أدرك بالأنوف لكان وردا وياسمينا، أو أدرك بالأبصار لتمثل آسا ونسرينا، # 6 # أو لو كان يحس ~~بالأفواه لصار في المذاق جلابا # 7 # مروقا، أو ~~لو كان يمس بالأيدي لاستحال ديباجا # 8 # منمقا ~~مزوقا! ~~••• # غني يا ... واسجعي، واشدي يا حمامة هذا الوادي ورجعي، وإذا لم يكن في طوقك أن ~~تسعدي هذه الحال، فحسبك أن تسعدي الذكرى وتنعمي الخيال! # | طرب!1 # قرائي الأعزاء # اللهم إن كنتم تريدونني على أن أحدثكم الليلة في العلم والأدب، أو في الصبر ~~والجزع، أو في تقدم الصناعة وتحرك التجارة، أو في غير ذلك من هذه الأسباب ~~الدائرة بين الناس، فإنني أكذبكم القول، فليس في نفسي الليلة من ذاك كثير ولا قليل، ~~فإذا أخذتكم علي موجدة فردوها على ذلك المعنى، وليأخذ كل منكم بحقه من حلقه، ~~فقد جلست أسمعه أمس، وما زلت من أمس ms304، كلما نهضت إلى القلم لأكتب لكم فيما آخذ ~~من فنون القول، طن في أذني جرسه، وملكني رنينه من جميع أقطاري، فأعود لا أرى غير ~~صورته، ولا أسمع غير صوته، ولا أفكر في شيء غيره! # إذن فلأكسر حديثي الليلة على هذا الطرب إن كنتم تريدون مني ألا أحدثكم إلا بما ~~أجد: غنانا صالح، ولست أدري أكان مغنيا يرسل الصوت فيقع حقا في الآذان، أم ~~ساحرا يتلعب بألبابنا فيخيل إلينا أنا في الجنان، نتمايل على النسيم بين الآس ~~والريحان، ونسمع من شدو القماري على أيكها أبدع الأنغام وأروع الألحان. # حدثني يا فتى! أي روض جاز به صوتك قبل أن يبلغنا؟ وكم نسمة اختلطت به ~~مما نفث فيه صب مشوق، وحمل عاشق من زفرات كبده إلى معشوق، حتى أخذ فينا كل هذا ~~الأخذ ، وفعل بقلوبنا كل هاتيك الأفاعيل؟ # آه: وفي آه لذة وألم، وفيها برء وسقم، وفي آه راحة وعناء، وفيها يأس وفيها ~~رجاء! # أشاكر أنا أم شاك، وضاحك أنا أم باك، وراض أم غضبان، وسال أم ولهان، وناعم ~~أم بائس، وراج أم آيس؟ لقد عزني أمري فسلوا صوته ونبئون! # يا ليل! ... وما عساك تبغي من الليل؟ لقد نام الخليون هنيئا لهم، وأمعنوا في ~~المنام! # نعم، إن فيك يا ليل عيونا تسيل بالدم شئونها، وإن فيك يا ليل جراحات تفيض ~~بالدمع عيونها، وكم فيك يا ليل من فؤاد تحلل نسما، وكم فيك يا ليل من أكباد تطايرت ~~حمما، هذا عان يشكوك بثه وأساه، وهذا صب يبثك وجده وجواه، وهذا مشدوه ~~لا يتخذ الرفيق إلا من بين كواكبك ونجومك، وتلك والهة لا تجد الأنس إلا في وحشتك ~~ووجومك. # إن تحت الضلوع عواطف تئن من طول احتباسها، فأطلقها «يا ليل» تمزج أنفاسك بأنفاسها، ~~أطلقها تملك الجو عليك طربا وشدوا، وتملأ هذا الهواء تحنانا وشجوا، ففي العواطف ~~بلبل وكنار، وفيها يا ليل فاخت وهزار! أطلقها بالله يا ليل، لتغني الثريا، لتغني ~~وتشكو وجدها لسهيل: # أبكي الذين أذاقوني مودتهم # حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا # واستنهضوني فلما قمت ms305 منتهضا # بثقل ما حملوني في الهوى قعدوا # لأخرجن من الدنيا وحبهم # بين الجوانح لم يشعر به أحد # يا عين، وقل يا عين حقيقة أردتها أم مجازا، ورجعها صبا غنيتها أم ~~حجازا، فإنه: # هوى بتهامة وهوى بنجد # قد اعيتني التهائم والنجود # غن يا فتى غن، فالله أكرم من أن يثير هذا كله في صدور الناس ويحرمهم غناءك ~~يا صالح! # الباب الخامس # | في المداعبات والأفاكيه # | النكتة المصرية في العصر الحديث1 # سيداتي، سادتي # لقد استهللت كلامي معكم في الأسبوع الماضي بأنني كنت عقدت النية على أن ~~أحدثكم حديثا فكها قصدا إلى ترفيهكم والتسلية عنكم، ثم انصرفت عن هذا لأنه غير ~~لائق في ليلة مولد الرسول الأكرم # صلى الله عليه وسلم ~~، وقد كان عليه الصلاة والسلام يمزح ولا ~~يقول إلا حقا، وأما نحن فنمزح وقل أن نقول في مزاحنا حقا، نسأل الله ~~السلامة، من عقبى الحساب في يوم القيامة. # أحدثكم الليلة حديثا إذا هو بعد بعدا شاسعا عما سبق لي أن تناولته من ~~الموضوعات في هذا الموقف، فهو داخل في جملته في تلكم الدائرة المرنة، التي تتسع لما ~~تضيق به أوسع دائرة مرنة في العالم، ألا وهي دائرة الأدب، ومن ينكر أن هذا لون ~~من الأدب، فهو امرؤ لا أحسبه يعرف الأدب. # موضوعي الليلة هو النكتة المصرية في العصر الحديث، فإذا فرغنا من القول في ذلك ~~ألممنا بشخصية من الشخصيات التي حذقت هذا الفن، وبرعت فيه أيما براعة، وهي ~~شخصية المرحوم إمام أفندي العبد. # وهنا أرجو أن ترخصوا لي في أن أتكلم، ما دعت الحاجة، بالعامية الخالصة، لأن ~~النكتة إذا سبكت في العربية الخالصة فقد ينضب ماؤها، ويحول بهاؤها، وإنني ~~لأذكر أنني قرأت للإمام الجاحظ شيئا في هذا المعنى، وأين نحن من إمام البيان غير ~~مدافع، وأين بياننا من بيانه، وأين تجويد أقلامنا من عفو لسانه؟ # سيداتي، سادتي # إذا أنا خصصت النكتة المصرية بالذكر، فذلك لأنني لا أعرف أمة من الأمم العربية ~~الأخرى أحسنت هذا النوع أو برعت فيه براعة المصريين، # 2 # ولست بالضرورة أعني ms306 ~~تلك النكتة البلدية القائمة على التلفيق بين صدر معنى من المعاني، وبين ألفاظ ~~ثابتة لمعان أخر، فيخرج من هذا التلفيق صورة مضحكة بحكم المفارقة بين هذين ~~الشقين، وهذا النوع يدعوه العامة «بالقافية»، ولأضرب لكم مثلا أو مثلين لتوضيح هذا ~~الكلام، ففي «قافية» الغناء مثلا يقول الرجل لمناظره: إخوانك يشوفوك على ~~المشنقة يزعقوا ويقولوا: اشمعنى؟ ~~- كده العدل! # وفي «قافية» الجرائد يقول له: أنت مسميينك في البيت. # اشمعنى؟ # البرص! وهكذا، فهذا هو التلفيق الذي عنيت. # لا أريد بالضرورة هذا اللون من النكتة، لأنه لا أثر فيه للذكاء، ولا مجال لسرعة ~~الخاطر، هذا إلى أن حظه من التصوير غير جليل، وإلى أنه ثابت مدون محفوظ؛ ~~يقال لكل من شارك فيه في كل مقام. # إنما أريد ذلك النوع الذي تلهمه دقة التفطن، وسرعة الخاطر، وحضور البديهة، ~~والقدرة القادرة على لطف التصوير والتخيل، ولقد يكون للنكتة من هذا اللون مغزى ~~بعيد قد تعيي إصابته على الرجل الحكيم، وقد يكون لها من قوة الأثر، ما لا يكون ~~لمقالة الكاتب مهما أطال وأسهب، ولا لقصيدة الشاعر مهما أضفى وأسبغ. # سيداتي، سادتي # لعلكم عرفتم من هذا، أن البراعة في النكتة على هذا، تحتاج في المرء إلى ~~خلال: منها الذكاء اللماح، وسرعة الخاطر، وقوة اللسن، وأعني بها هنا القدرة على ~~دقة التصوير والتخييل باللسان، والعلم بأحوال الزمان والبيئة والأشخاص، وشيء من ~~الجراءة، ولا أحب أن أقول: شيء من قلة الحياء، وأخيرا لا بد لها من خفة الروح، فلا ~~خير في نكتة تجيء على لسان ثقيل. # والرجل الذي أوتي هذه المواهب يلحظ الانحراف مهما دق، في خلق المرء أو في ~~خلقه، أو في بعض عمله أو حديثه، أو في أي شيء من الأشياء على جهة العموم، فسرعان ~~ما يسوي له بخياله صورة مكبرة، مهما تبعد في شكلها عن الأصل، فهي متصلة به بسبب أو ~~بأسباب، ولقد يخلق الحديث خلقا، ولكنه إنما يترجم به عن حال من يتندر ~~عليه، ولقد تجيء النكتة في صورة جواب مسكت استنادا إلى حال واقعة، أو ms307 في شكل ~~ملاحظة لطيفة، ولقد تجيء بالاشتقاق اللفظي، أو من تحريف اللفظ عن جهته، كما روي عن ~~البابلي رحمه الله أنه سمع المغني يقول: «أهل السماح الملاح دول فين أراضيهم؟» ~~فأجاب من فوره: «في البنك العقاري!» وقد تقع بالمقابلة والطباق، فقد اخترع رجل ~~طريقة سهلة لترويق الماء، وكان البابلي يستثقل ظله، فقال: بقى يا إخواننا، الراجل ~~ده يروق الميه ويعكر دمنا! # وعندي أن النكتة على العموم ضرب من التصوير «الكاريكاتوري» أو على الأصح، أن ~~التصوير «الكاريكاتوري» ضرب من النكتة، لأن صاحب هذه يملك ما لا يملك المصور من ~~الاسترسال في التصوير والتخييل، بالاشتقاق والتوليد، فلا يزال يقلب الصور ويلونها، ~~ويخرجها واحدة بعد أخرى في أشكال وأوضاع مختلفة؟ حتى يأتي على جميع المعاني التي ~~يحتملها المقام. # وهنا يجب أن يعرف أن النكتة قد تكون بارعة رائعة، حتى لتهز مجلس السمر هزا، ~~بل لقد ترج البلد كله من الإعجاب والضحك رجا، ومع هذا إذا تناولها المتناول، بعد ~~عام أو عامين أو أقل من ذلك أو أكثر، لم يجدها شيئا، ذلك بأن للظروف والأشخاص، ~~والمناسبات والملابسات، أثرا قويا في براعة النكتة، فإذا حال شيء من ذلك وتغير، ~~ضعف بقدره أثر الكلام، وإذا كان هذا مما يلحق الشعر الجيد، والنثر المصفى المتخير، ~~فإنه في باب التطرف والتندر أظهر وأبين. # ولقد كانت البيئات الراقية، مصرية ومتمصرة، تحتفل للنكتة البارعة وتكلف بها، فإذا ~~أعوزها من يتندر بين يدي المجلس، راحت تتناقل ما قال بالأمس فلان وما أعاد ~~فلان. # وإياكم أن تظنوا أن من ذهب لهم في هذا الباب صيت وذكر، كانوا من جماعات المتبطلين ~~أو الجهال، أو الذين يتعرضون بهذا لمعروف الناس - أستغفر الله - فلقد كان فيهم ~~الأديب الكبير، والكاتب العظيم، والشاعر الفحل، والسري المليء، وفيهم من برعوا في ~~أشرف المهن وأعودها بالكسب، وحسبكم أن تعرفوا أنه كان في الصدر من هؤلاء المرحومون: ~~الدكتور بكير الحكيم، وحسن بك رضا المحامي، ورشاد بك القاضي فالمحامي، ومحمد بك ~~رأفت الطبيب، والسيد محمد بك البابلي، وهو إمامهم غير مدافع ms308، والسيد محمد بك ~~المويلحي، وحافظ بك إبراهيم، وساويرس بك ميخائيل المحامي، ونعمان باشا الأعصر، ~~وخليل بك خير الدين، وكلاهما من الأعيان الموسرين. # على أنهم لم يتخذوا هذا ويصطنعوه، رغبة في إضحاك الناس، بل ليتضاحكوا هم به على ~~الناس، والويل كل الويل لمن تزل به القدم بين أيدي هؤلاء، فإنهم يتطارحونه، مهما ~~جل قدره، كما تتطارح الكرة بصوالج الجبارين من اللعباء، تولاهم الله برحمته ~~ورضوانه، وشملهم بفضله وإحسانه. # إمام العبد # سيداتي، سادتي # الآن جاء دور الكلام على المرحوم إمام أفندي العبد، وهو ولا شك ممن كتبت ~~لهم في هذا الفن البراعة والتبريز. # كان إمام «رحمه الله» زنجيا بمعنى الكلمة، (كما يقولون) لولا فصاحة لسانه، ~~ولولا أنه ولد وعاش في مصر، ففطر على أخلاق أهلها، وأخذ بعادتهم وسائر ~~أسبابهم، فلقد كان غليظ المشفرين ، أفطس الأنف، محمر الحدقتين، أملد ~~العارضين، مفلفل شعر الرأس، أما لون جلده فأشد من فحمة الدجى ~~سوادا. # وكان بعد هذا، ربعة إلى الطول، مكتنز اللحم، موفور القوة، لا أدري أين نشأ ~~ولا كيف نشأ، إنما الذي أدريه أنه عالج الأدب، وأول ما عالج من فنونه نظم ~~الزجل، فأجاد فيه أيما إجادة، ولكن طماحه دفع به إلى قرض الشعر، فمدح وهجا، ~~وتغزل وفخر، وتصرف في كثير من فنون القريض، وما أحسبه بلغ في هذا ~~جليلا. # على أنه كان جيد الإلقاء، جهير الصوت، إذا أنشد الجمهرة هز الناس ورجهم، ~~وبعث بالتصفيق أكفهم، وأطلق بالهتاف حناجرهم، حتى إذا قرأ الناقد ~~شعره من غده أنكر على نفسه، ما كان منه في أمسه، ولعل ذلك الأديب قد أصاب ~~بعض الإصابة حين وصف شعر إمام بأنك تأخذه درا، وتلقيه حجرا. # وأذكر أنني كنت جالسا ذات عشية مع صديقي المرحوم حافظ بك إبراهيم فطلع علينا ~~نفر من الشبان، فسألهم صاحبي من أين أقبلوا؟ قالوا: من حفلة المدرسة التحضيرية ~~حيث سمعنا إماما ينشد قصيدة له لم ينظم الشعراء قط مثلها بلاغة وسحر بيان، ~~قال فأنشدوني قالوا: وكيف لنا بحفظ شعر نسمعه لأول مرة؟ قال: فكيف عرفتم مبلغ ms309 ~~القصيدة من البيان؟ قالوا: لأنه نال من آيات الاستجادة ومن التصفيق ما لم ~~ينل غيره، وكانت في نفس حافظ بك ذلك اليوم لأمر ما موجدة على إمام، فقال: ~~والله ما صفق الناس لبلاغة إمام ولا لجودة شعره، وإنما هو عبد «كان لما يعمر ~~اللمبة كويس يقولوا له برافوا يا إمام!» فكيف بهم إذا رأوه ينشد شعرا؟ # سيداتي، سادتي # قلت لكم: إن إماما كان ينشد الشعر، وإني لأحفظ له بيتين جيدين في حسن ~~التعليل، تعليل ترهبه وانصرافه عن الزواج: # يا خليلا وأنت خير خليل # لا تلم راهبا بغير دليل # أنا ليل وكل حسناء شمس # فاجتماعي بها من المستحيل # وأحسبه لمح في هذا قول المعري، وإن كان قلب المعنى وعكس الآية، وذلك من ~~البراعة على كل حال: قال أبو العلاء: # هي قالت لما رأت شيب رأسي # وأرادت تنكرا وازورارا # أنا بدر وقد بدا الصبح في رأ # سك والصبح يطرد الأقمارا # لست بدرا وإنما أنت شمس # لا ترى في الدجى وتبدو نهارا # يعتذر إمام من عدم زواجه بأن الشموس - يريد النساء الحسان - لا يجتمعن والليل ~~- يريد سواد جلده. # قلت لكم: إن إماما كان زجالا من الطراز الأول، وليت الأستاذ بديع خيري أو ~~الأستاذ رمزي نظيم، وكلاهما من كبار الزجالين، يعنى أحدهما أو كلاهما بأن ~~يبعث عيون أزجال إمام وهو منهما بهذا كل حقيق. # سيداتي، سادتي # ليس من موضوعي على أي حال، البحث في شعر إمام ولا في زجله، وإنما عرضت لهذا ~~لأجلو عليكم صورة واضحة من كفايات الرجل، أما موضوعي فهو إمام المتندر، أو ~~بالعامية الصحيحة، إمام «القفاش». # كان إمام العبد رحمه الله خفيف الروح، حاضر البديهة، مرسل النكتة، لا يكاد ~~يسكن عنها أو يفتر بياض نهاره وسواد ليله، «يقفش» لكل إنسان، ولكل شيء، فإذا ~~لم يجد من «يقفش» له من الناس تحول بهذا إلى نفسه، وإلى خاصة أهله، ولقد كان ~~من ذلك الصنف الولاد، يتناول المعنى الواحد، فلا يزال يجول فيه بالنادرة بعد ~~النادرة، ويستقصيه بالنكتة بعد النكتة، في سرعة ولباقة عجيبتين ms310، حتى ليضحك ~~الثكلى على حد تعبير الأقدمين! على أنه لم يكن في تطرفه وتندره بعيد المغازي، ~~شأن بعض الذين أوردت أسماءهم عليكم، على أنه قد كانت له ميزة لا أحسب أن ~~كثيرين قد شاركوه فيها، ألا وهي خلق الأحاديث الفكاهية من العدم، لقد يتندر ~~بها على نفسه، أو يتطرف بها على غيره. # ومن المزايا التي ينبغي أن تذكر للرجل أنه كان عفا في مزاجه، لا يفحش ~~ولا يقذع، ولا يتدسس إلى المكاره، بل لعل أشد الناس كان اغتباطا وضحكا من ~~«قفش» إمام، من كان يتولاه «بالقفش» إمام! # سيداتي، سادتي # الآن أروي لكم طائفة من مجونيات إمام العبد في نوادره، لا في نكاته المختصرة، ~~سواء مما شاهدته بنفسي، أو مما رواه لي هو بنفسه، وهنا أرجو أن تأذنوا لي ~~بالتمهيد بين يدي بعض هذه النوادر بذكر بعض الأشخاص أو الملابسات التي اتصلت ~~بها حتى تأخذ النكتة سمتها، وتقع من النفوس موقعها. # قالت الجهاد الغراء: «وهنا أورد المحاضر مرتجلا طائفة مما حضره من نوادر ~~إمام المضحكة التي تدل على قدرته الفائقة على الاختراع والابتكار في ~~هذا الباب، ولم ير تدوينها لأنها إن ظرفت في الحديث، فإنها قد تفتر أشد ~~الفتور في الكتابة والتدوين.» # | آداب العراك في الجيل الماضي1 # سيداتي، سادتي # لقد أمسى من حقكم علي، بعد أن واليت الحديث في جد القول أسابيع طوالا، أن أعمد ~~هذه الليلة إلى مفاكهتكم، والتحدث إليكم بما أحسب أنه لا يملكم ولا يضجركم، ~~إلى ما لعل فيه بعض الفائدة بتجلية بعض نواحي التاريخ الحديث. # وموضوع حديثنا الليلة هو: «أدب العراك في مصر في الجيل الماضي»، والعرب كانوا ~~يطلقون كلمة «أدب» في بعض إطلاقاتها على معنى القانون، فيريدون بأدب الشيء قواعده ~~وتقاليده، وعلى هذا دعوا قانون الجدل والمحاورة، بعلم آداب البحث والمناظرة، ~~كذلك أريد بأدب العراك، فلقد كان للعراك في مصر قوانين محترمة، وتقاليد ~~مرعية! # وفن «الخناق» على تعبير أصحاب الشأن، في مصر قديم يكلف به أولاد البلد ~~ويتباهون، إذ كان يعتبر ضربا من الفروسية، والسعيد السعيد ms311 من يذهب له في ~~«الخناق» صيت وذكر في البلد، بل ربما شارك في هذا بعض أولاد «الذوات» فيشمرون ~~ليوم النزال، ويتقلدون «الشوم» للحرب والقتال. # وليس يغيب عمن قرأ التاريخ الحديث منكم أن بونابرت حين بلغ بجيوشه إمبابة في ~~طريقه إلى مصر، استنجد الأمراء المماليك بالأهلين، بعد إذ تخاذلت جنودهم، فخرج له ~~أولاد الحسنية بعصيهم، ونازلوا الجيش الفرنسي فحصدتهم مدافعه مع الأسف الشديد ~~حصدا! # وهؤلاء الأبطال يدعون «الفتوات» جمع فتوة، أو العصبجية جمع عصبجي، وكان في كل ~~حي من أحياء القاهرة فتواته، فللحسنية فتواتها، وللسيدة فتواتها، وللخليفة ~~فتواته، وهكذا، ولفتوات كل حي زعيمهم، والمتقدم في البطولة عليهم، لا يعصى ~~أمره، ولا يخالف حكمه، وهو الذي يدعوهم إلى الصراع، ويدبر لهم الخطط، ~~ويقودهم في المعارك الكبرى، فإذا كانت المعركة مما لا يرتفع إلى شأنه ، عقد لواء ~~السرية لمن يختاره ممن قبله من الفتوات! # وكان لكل فتوة «مشاديد»، جمع «مشدود»، وهم من أنصاف الأبطال الذين ينتسبون إليه ~~ويلوذون به، ويحتمون باسمه، والويل كل الويل لمن يعتدي عليهم، أو يعتريهم بالمكروه، ~~فإن الاعتداء على أحد منهم يعتبر اعتداء على الفتوة نفسه، لما في ذلك من الغض ~~من كرامته، والاستهانة بحمايته، وعلى هذا كان من أشد التحدي للفتوة أن يقال ~~لمشدوده: ينعل ... على أبو اللي يشددلك! فسرعان ما تشب لظى الحرب، ويتواثب ~~القرنان للطعن والضرب. # وكانت العداوات مستمرة بين بعض الأحياء وبين بعض، فلا يبيت الموتور منها إلا على ~~تهيؤ لشفاء الحقد، والأخذ بالثأر، ولقد يتحالف الحيان على ثالث إذا جمعهما الحقد ~~وضمهما الوتر! # وممن أدركنا عصرهم من أعلام فتوات الحسنية والعطوف: المرحومون عتريس، وحكورة، ~~وكسلة، ومن كماة الخليفة: كم العري، والملط، ويوسف بن ستهم، ومن أقطاب ~~الكبش وطيلون خاصة: بلحة، والفولي، أما أبطال السيدة فهم المرحومون: ممبوك، خليل ~~بطيخة، الإن، وإءة، وكان رحمه الله أعمى، وعلي أبو ضب، وأظن أن هذا الأخير ما ~~زال حيا، فقد رأيته من بضع سنين، وقد صلحت حاله، وهو يدير قهوة بلدية في ميدان ~~زين العابدين. # وسلاح كل فتوة ms312 وعدته للحرب عصا أو عصي من «الشوم» يداور بينها في الخناقات، ~~وترى كل واحد منهم شديد التتايه بعصاه، كثير الذكر لها والإشادة باسمها، نعم باسمها ~~فلقد كانوا يطلقون عليها الأسماء، فمن العصي الحاجة فاطمة، ومنه الحاجة بمبه، ~~وهكذا، وربما سقوها الزيت بتثبيت قمع مفتوح على طرفها الأعلى وملئه زيتا، وتركها ~~على ذلك أياما حتى يتمشى في شعوبها ويشيع فيها، فتزداد قوة وصلابة على الطعان ~~والضراب، وقد يزوق مقبضها بالحناء. # سيداتي، سادتي # لست بحاجة إلى القول بأن مظهر هذه البطولة هو، في جراءة القلب وقوة الساعد، ~~والمهارة في الإصابة، واللياقة في اتقاء الضربة بالعصا أو بالتحرف عن مذهبها، وكل ~~هذا يحتاج إلى كثير من التدريب والتمرين، ولكن الذي يحتاج إلى البيان هو لون خاص من ~~البطولة، وهو الكفاية في احتمال أشد الضرب، وطول الصبر عليه واقعا حيث وقع من ~~أعضاء الجسد، ولهذا النوع من البطولة قيمته وسداده وغناؤه إذا حمي الوطيس، فإن ~~الفتوات ليقدمون هؤلاء الأبطال بين أيديهم ليتلقوا عنهم بأجسامهم أكبر كمية ~~من الضرب، حتى يستطيعوا هم أن يصرفوا أجل همهم لإجالة العصى ذات اليمين ~~وذات الشمال. # وكان علم الأعلام في هذا النوع من البطولة من فتوات السيدة هو خليل بطيخة عليه ~~رحمة الله، فقل أن كان يخرج إلى «الخناقة» وهو يتقلد عصا، ولو تقلدها ما ~~أحسن استعمالها، ولعلها كانت «تلخمه» في ميدان القتال، وإنما سلاحه كله، سلاحه ~~الماضي هو جسمه القوي الصفيق! # ولقد رأيته بعيني وأنا غلام بعد منصرف الناس من الصلاة في جامع عمرو في يوم الجمعة ~~اليتيمة، وقد اجتمع عليه وحده نفر من فتوات الخارطة وأبي السعود، في أيديهم ~~عصيهم الغليظة، وما زالوا يتهاوون بها على جسمه بأشد ما فيهم من قوة وبأس، ~~أما هو فقد دس رأسه في صدره، وأسرع فتكور على الأرض حتى صار أشبه بلقبه ~~«بطيخة»، وجعل يتلوى تلوي الحية، حتى ظن النظارة أنه هالك لا محالة، ثم ما إن ~~أقبل البوليس بعد فترة طويلة، وفر أولئك الفتوات عند مرآه شرقا وغربا، حتى ~~بسط ms313 جسمه ووقف في أسرع من رد الطرف، وكأنه لم يكلم كلما، ولم ينله ~~كثير ولا قليل من أسباب الإيجاع والإيلام! ومضى لشأنه وهو يتحدث عن بطولته، وعما ~~يعد للأخذ بالثأر من أولئك الأعداء! ~~••• # وكانت خير الفرص لشب «الخناقات» هي في الأعراس، حيث يحتفل بإقامة «خناقة» في ~~النهار في زفة العروس، وأخرى في الليل في زفة «العريس». # أما معركة النهار فلم يكن خطبها جليلا، إذ لا يخرج لها الزعماء ولا المقدمون، بل ~~يكتفون فيها بتعبئة أوساط الفتوات، فيخرجون إليها ومعهم بعض الغلمان، ويتوارون في ~~زقاق أو منعطف، حتى إذا أقبل موكب العروس بعثوا أولا أولئك الغلمان، وفي يد كل ~~منهم ما تيسر من عصا رفيعة، أو «زعزوعة قصب»، أو قبضة من الحصا، وهؤلاء الغلمة ~~يدعون «جر الشكل»، فيقذفون المركبات بالحصى، ويتعرضون بالعصي لأحراس ~~الموكب، حتى إذا صدهم هؤلاء وضربوهم، برزت الكتيبة من مكمنها وأدارت رحى ~~القتال، بدعوى الثأر لهؤلاء الأطفال. # سيداتي، سادتي # إذا حدثتكم عن المعارك الجلى التي تدور إذا كان الليل في «زفات العرسان» فإنما ~~أحدثكم عما كان يحدث في حي السيدة زينب والأحياء المحيطة به، ولعله صورة مما كان ~~يحدث في سائر الأحياء. # كانت هذه المعارك تدبر من قبل ليلة العرس بأيام، فيعد لها الخصوم ~~عدتهم من جهة، ويتأهب لها أولياء «العريس» وصحبه من جهة أخرى، بل لقد كان ~~هؤلاء في كثير من الأحيان يدعون لها، ويغرون الخصوم بها، ويستدرجونهم إليها، لأن ~~مما يعير به أهل العرس من ذلك الصنف من الناس أن تجوز «زفة عريسهم» الشوارع فلا ~~يتعرض لها أحد بالمكروه، فذلك دليل على تهاونهم واستحقار شأنهم، وإخراجهم في ~~الاعتبار عن أفق الرجال، فضلا عن الأبطال! # وكانت «زفة العريس»، واقعة حيث وقعت داره من آفاق ذلك الحي، لا بد أن تجوز بمسجد ~~السلطان الحنفي والشيخ صالح أبي حديد، وهناك يقع الصدام والطعان، ويتهاوى «الشوم» ~~على رءوس الأقران في هذا الميدان! # ولقد زعمت لكم أن أولياء العرس قد يدعون في كثير من الأحيان إلى العراك، ~~ويستدرجون الخصوم إليه، وأكبر ms314 مظهر لهذه الدعوة هو أن يقدموا بين يدي الموكب ~~ما يدعونه «بخاتم سليمان»، وهو عبارة عن قطع خشبية متخالفة أقطارها، بحيث تتخذ ~~الشكل الهندسي الذي يطلق عليه في العرف «خاتم سليمان»، وكلها ثقوب محفورة على ~~مسافات مضبوطة، تثبت فيها كعوب الشمع المضاء، ويحمل كل واحدة من طرفيها ~~رجلان أو فتيان، وفي حمل هذه الخواتم السليمانية معنى التحدي للخصوم ودعوتهم إلى ~~العراك! # وعلى قدر الرغبة في قوة العراك وشب القتال، يكون عدد تلك الخواتم، فمن الناس من ~~يقدم الاثنين، ومنهم من يقدم الثلاثة، ومنهم من يضاعف هذا المقدار، إعلانا للسطوة ~~وإيذانا بالرغبة في استحرار القتال! أما المستضعفون من الناس، فلا يقدمون شيئا من ~~ذلك إيذانا بإيثار العافية، وطلب الدعة والأمان! # وكان نظام الموكب - موكب «زفة العريس» - يجري على الوجه الآتي، الطبل البلدي وبين ~~يديه طائفة من الغلمان والفتيان، ثم الموسيقى الأهلية، إذا كان «العريس» على شيء من ~~اليسار، ثم حملة خواتم سليمان، تضطرب من فوقها ألسنة الشموع، ثم جمهرة الفتوات ~~يلوحون بعصيهم في الهواء، ثم حملة «الشمعدانات» في صفين متقابلين، ثم «العريس» ~~يحيط به أصدق صحبه، وفي أيديهم الشموع والأزاهير، وقد تقف القافلة بين حين وآخر ~~لاستماع من يغني القوم بالأغاني البلدية، فتراهم يحسنون الإصغاء، حتى إذا فرغ ~~من نبرته عجوا بأصوات الاستحسان من نفس الطبقة التي يجري فيها الغناء، وهنا تسمع ~~الصياح من كل جانب من نحو «يا ربنا والملايكة»! و«احنا الصبوات العتر»! # فإذا بلغت «الزفة» في مسراها ذلك الموضع، أعني الرقعة الواقعة بين مسجدي الحنفي ~~والشيخ صالح، إذ الأعداء متربصون هناك، أذن المؤذن بنشوب القتال، وكانت أول عصا ~~تهوي على رءوس الزمارين المساكين، فاكتسبوا هم الآخرون بطول التدريب والتمرين مهارة ~~في اتقاء الضرب، وفي احتماله، وفي الفرار وتولية الأدبار؛ وكان أشدهم في هذا ~~عناء هم الطبالين لما يثقلهم من حملهم، وكثيرا ما تتخرق طبولهم بضربة العصا، أو ~~بقبضة يد من ضارب صناع! # ويزخر الميدان، ويتلاقى الأقران، ويستحر القتال والطعان، فلا ترى إلا ~~عصيا تتهاوى على الأبدان، فتشق الرءوس ms315 شقا، وتدق الأصلاب دقا، وتخسف ~~الأصداغ خسفا، وتقصف الأضلاع قصفا، والدماء تسيل حتى تجلل الثياب، وتفيض على ~~الأرض بما يروي من غلة التراب، وهذه الدماء هي أوسمة الشرف يتحلى بها الكماة ~~الأبطال، إذا رجعوا إلى معشرهم من معترك القتال. # ولقد تسمع الكمي وقد واجه عدوه وشرع عصاه، وتهيأ للوثاب وهو يصيح: وارايا ~~... وهو كلام قبيح لا يجوز رده على الآذان. # سيداتي، سادتي # لم يكن البوليس ليجرؤ، في غالب الأحيان، على اقتحام هذه الملاحم، أو يستطيع ضبط ~~تلك المواقع، بل لقد كان يولي عنها فرارا، وهنا ينبغي أن يذكر أن أحدا من ~~هؤلاء الفتوات أو أوليائهم لا يمكن ولو بجدع الأنف أن يتقدم بالشكوى إلى البوليس ~~أو غير البوليس، ولو كان الضرب قد أتلفه وأرداه، بل لقد كان في ذلك العار ~~ليس بعده عار، والشنار ليس وراءه شنار! # هذه كانت بعض مظاهر البطولة عند أولاد البلد في الجيل الماضي، وثم مظهر آخر ~~من مظاهرها، وأعني به الحرب الجبلية، ولا يتسع الوقت لوصفها وعرض حديثها، ولعلنا ~~نجرد لذلك محاضرة أخرى! # ومهما توصف هذه الحالة بالوحشية، أو الهمجية، أو الاحتفال للعدوان، والخروج على ~~النظام، فلقد كانت بطولة لها قيمتها على كل حال! # ولسنا الآن بسبيل العوامل التي قضت على هذه البطولة عند أولاد البلد، ولكنا نسجل ~~فقط أنها قضى عليها القضاء التام، ولم يبق من آثارها إلا مجرد ادعائها ~~والتظاهر بها، فيما تسمعه من هؤلاء أولاد البلد أثناء «الشروع في الخناقات» من ~~ألوان الوعيد والتهديد، بتهشيم الآناف، وتحطيم الأكتاف، وتكسير الرءوس، وإزهاق ~~النفوس، فليس وراء هذا النفخ «المعر» شيء أبدا. # | مشروع معركة!1 # خرجت مصبح اليوم على عادتي، أطلب مثابة عملي في الجيزة، وما إن كدت أبلغ ~~موقف «الباس»، وهو على بضع عشرات الأمتار من «كبري» عباس، حتى رأيت منظرا ~~جميلا استدرج همي، وشغل كل نفسي، فإنني لحق مشوق إليه من زمان طويل! # فتيان أو شابان من «أولاد البلد»، قد تفصدت نفساهما بالشر، واحمرت من ~~فورة الغيظ أحداقهما، وها أنذا أراهما يتواثبان للمعركة الحامية ms316، تشج فيها ~~الرءوس، أو تخلع الأكتاف، أو تدق الأصلاب وتقد المتون. # لقد أوحشني حقا هذا الضرب من «الخناق» الوطني يتهشم فيه الضارب والمضروب جميعا، ~~وناهيك بمن لا يتسلحون لمعاركهم، في النزال على وجه خاص بمسدس ولا بسكين، ولا بعصي ~~ولا بحجر، وحسب الفتى من السلاح يده ورجله ورأسه، ففي الضرب «بالروسية» غنى ~~للمقاتلين! # وتالله ما بي أي حب للشر، ولا أنا ممن يستريحون إلى شهود الأذى، وإني لأتألم أشد ~~الألم إذا رأيت حيوانا يتألم فضلا عن إنسان، ولكن هذا اللون من العراك (الخناق) ~~بين أبناء البلد، كان مظهرا من مظاهر الفتوة والبطولة في مصر، فعفي أثره من ~~زمان بعيد، وهذا مع الأسف العظيم. # وقفت إذن مغتبطا مستبشرا بشبوب المعركة، وعودة ذلك التقليد المصري ~~القديم، على أن وسطاء الخير أو وسطاء السوء من السابلة، أسرعوا فحالوا بين ~~القرنين، وأمسك أربعة منهم بواحد، وأمسك ثلاثة بالآخر، وجعل كل جماعة يجذبون ~~صاحبهم ليبعدوه عن خصمه، وهو يقاومهم أشد المقاومة، ويحاول الإفلات منهم ليثب ~~إلى صاحبه، إذ هم يدافعونه عن هذا بكل ما يملكون من القوة. # يتوسل كل منهما إلى جماعته أن يطلقوه فلا تنفع الوسيلة، ويضرع إليهم ~~فما تجدي الضراعة، يتوسل أحدهما إلى صحبه أن يطلقوه ليدغدغ رأسه، فيرجو ~~الآخر صحبه أن يدعوه ليفقأ عينيه، فيحلف الأول بأنهم لو خلوا بينهما لبقر ~~بطنه (فتح كرشه)، فيجيب الثاني حالفا أنهم لو تركوه لدق صلبه (يكسر وسطه)، ~~وهكذا من نحو: «والله لو سبتوني عليه لأخليه كفته»، و«حياة النبي، بس ~~سيبوني وأنا أخلي الدبان الأزرق ما يعرفلوش طريق جرة» إلى آخر هذا ~~الوعيد المرعب المهول. # وفي الحق، لقد اشتد غيظي، وكظ الحنق صدري على هؤلاء الوسطاء المتطفلين، حتى ~~لقد هممت بأن أزجرهم عن تطفلهم، وتعرضهم لحريات الناس على هذا الوجه ~~المقيت، أما الواقع، إذا شئت الحق فإنهم يحولون بصنيعهم بيني وبين متعة ~~تستشرف لها منى النفس كما زعمت لك من زمان بعيد. # على أنه لم يرعني، وأنا أتهيأ لهذا الزجر إلا أن يجهد بالجماعتين كلتيهما ms317، ~~ويبدو الكلال والإعياء على الجميع، فتطلق إحداهما صاحبها، وتحذو الأخرى ~~حذوها. # وتزاحف القرنان فاشتد خفقان قلبي، وتداركت أنفاسي، حتى سمعت فيها ما يشبه ~~الزحير، وهرولت إلى أقرب جدار فاستعصمت به، ودرت ببصري ألتمس المهرب ~~إذا دنا مني القرنان، أثناء الصيال في الميدان، والكر لإحكام الضرب والطعان، ~~وجمعت كل ما شرد من نفسي لأشهد المعركة الحامية، وأرقب المعمعة الدامية، وهذه ~~فرصة لا شك فيها، فما كنت من قبل جنديا، ولن أكون من بعد لإحدى الصحف مكاتبا ~~حربيا، حتى يتهيأ لي أن أشهد موقعة، أو أخوض معمعة. # مشى كل من المقاتلين إلى قرنه، والشر تبدو نواجذه الحداد، حتى إذا كان كل ~~منهما على متر من صاحبه وقف، وحلف لئن لاقاه ليصنعن به كيت وكيت! ثم استدار كل ~~منهما وولى صاحبه قفاه ومضى لطيته! مغذا في التسيار، شأن الخائف أن ~~يفوته القطار، أو كأنه على موعد من حبيب طال به الانتظار! # سلمت أمري لله، واستقبلت وجه الطريق في انتظار «الباس» ليبلغ بي مثابة ~~عملي، فلم يرعني إلا أن أرى «الكبري» يتحرك ليفرج مجازا للسفن هابطة ~~وصاعدة! # الله أكبر! إذن لقد كان مشروع هذا المعركة الهائلة مجرد «مناورة» لأسافر إلى مقر ~~عملي عن طريق رأس الرجاء الصالح، لا عن طريق قناة السويس بعد أن استحكم اليأس، من ~~المرور على «كبري» عباس! # | التطفيل والطفيليون1 # سيداتي، سادتي # بحسبنا ثلاث محاضرات متوالية، كلها في جد القول ومره، في زمت هذا الصيف ووقدة ~~حره، فلنستروح هذه المرة بشيء من التفكيه، لنجعل الراحة لذلك الجد جماما، فنحن ~~على هذا في الجد دائما، حتى إذا انحرفنا يوما إلى شيء من العبث أو ما يشبه العبث، ~~فلنرفه به أنفسنا ونسلي عنها لنعود لشأننا ممدودي الأنفاس مشدوي المتون. ~~وحديثنا الليلة مع هذا يجري في باب من أبواب الأدب العربي، ولا تعجبوا إذا كان من ~~أحاديث الأدب القول في التطفيل والطفيليين! ولست أتجوز بهذا اللفظ فأطلب به ~~المتطفلين في العلم أو في الأدب ونحو ذلك، إنما أقع باللفظة على الحقيقة، وهي تعرض ~~المرء ms318 لطعام الناس من غير أن يدعى إليه، أما الداخل في شرابهم من غير دعوة كذلك، ~~فيدعى الواغل، ومثلهما الدعي، وهو الداخل في نسب القوم وليس ~~منهم. # والطفيليون نسبة إلى رجل يدعى «طفيل العرائس»، وقد زعموا أنه أولهم، فإليه كانت ~~نسبتهم، ولكنني أحسب أن التطفيل قديم جدا قدم الشره في الإنسان وهوان ~~نفسه عليه، وتطلعه إلى ما ليس له ولو كان طعاما، وتهافته عليه مشايعة لشهوة ~~البطن، مهما ناله في ذلك من مكروه أدبي أو مادي، وربما كان عقد لواء الأولية في هذا ~~الباب لهذا «طفيل العرائس» لأنه أول من احترفه، فلقد أصبح التطفيل حرفة مقررة ~~مرسومة إلى وقت قريب، أو لأنه أول من شرع آدابه، واستفتح بلطف الحيلة أبوابه، ~~وقعد قواعده وأصل أصوله، وفرع فروعه وفصل فصوله، ومن روائع حكمه، ~~وجوامع كلمه، ما قال يوصي به صحبه: «إذا دخل أحدكم عرسا فلا يلتفت تلفت المريب ~~ويتخير المجالس، وإن كان العرس كثير الزحام فليمض ولا ينظر في عيون الناس، ليظن أهل ~~المرأة أنه من أهل الرجل، ويظن أهل الرجل أنه من أهل المرأة، فإن كان البواب غليظا ~~وقاحا، فيبدأ به ويأمره وينهاه من غير أن يعنف عليه، ولكن بين النصيحة ~~والإدلال.» # ولقد قلت لكم إن التطفيل قديم، ولكن أساليبه وطرائقه تتشكل وتتلون في كل عصر ~~وفي كل إقليم، طوعا لما يجري من العرف والعادة وغير ذلك من الأسباب. # ولا أظن أننا في حاجة إلى القول بأن من أول ما يتصف به الطفيلي، هو الشره ~~والطبع، وحدة الوجه ولؤم النفس، وهوانها على صاحبها وعلى الناس، فما يدفع إلى ~~التطفيل إلا هذه الخلال، أما الصفات الأخرى التي يحتاج إليها الطفيلي والتي ~~هي أهم وسائله، فمنها خفة الروح، فإن أعوزته فالتطرف بالقدر المستطاع، ومنها ~~سعة الحيلة ولطف المدخل، ومنها حسن السمت ونظافة الثوب، ومنها حضور الذهن وتهيؤ ~~البديهة، وقوة اللسن، وبراعة النكتة، فإذا اجتمع إلى هذا وهذا، إلمام بالأدب ~~وبالسير، وإذا ضمت إليهما القدرة على ارتجال الشعر ما دعت مناسبات الطعام، ~~فذلك والله الطفيلي ms319 التام. # سيداتي، سادتي # انظروا كيف يصنع الأدب! اللهم إني لزعيم بأن يجلو على الناس كل ما في هذا العالم ~~من جميل وبديع، مما يتصل بالصور والمعاني جميعا، فإذا عزه الجمال في ظواهر ~~الأشياء، راح يتدسس إلى بواطنها، فاحتال على استخراجه وجلاه على النفوس جلوا، ~~ولربما مال إلى القبيح في ظاهره وفي باطنه معا، فسوى منه صورا لها جمالها ~~ولطفها في باب التلميح والتفكيه، أليس البخل في الناس قبيحا جدا؟ ومع هذا يأبى ~~الأدب إلا أن يجعل من البخل والبخلاء بابا من أوسع أبوابه، وأبلغها في إعجابه ~~وإطرابه، سواء فيما صور من نوادر البخلاء وطرائفهم، أو فيما صورهم به فحول ~~البلاغة في منثورهم ومنظومهم. # والتطفيل ولا شك أقبح من البخل وأكره وأرذل، ومع هذا لقد كان قسمه من الأدب ~~كذلك. # والآن نقص عليكم طائفة من نوادر الطفيليين من المتقدمين، وما قالوا وما قيل ~~فيهم، فإذا اتسع الوقت قفينا على ذلك ببعض نوادر من شهدنا من ~~المحدثين: # مر طفيلي بالبصرة على قوم وعندهم وليمة، فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه ممن ~~دعي، فأنكره القوم وقالوا: لو تأنيت أو وقفت حتى يؤذن لك أو ~~يبعث إليك؟ فقال: إنما اتخذت البيوت ليدخل فيها، ووضعت الموائد ~~ليؤكل عليها، وما وجهت بهدية فأتوقع الدعوة، والحشمة قطيعة، وطرحها ~~صلة، وقد جاء في الأثر: صل من قطعك، وأعط من حرمك وأنشد: # كل يوم أدور في عرصة الدا # ر أشم القتار شم الذباب # فإذا ما رأيت آثار عرس # أو دخان أو دعوة الأصحاب # لم أعرج دون التقحم لا أر # هب طعنا أو لكزة البواب # مستهينا بمن دخلت عليهم # غير مستأذن ولا هياب # فتراني ألف بالرغم منهم # كل ما قدموه لف العقاب # يقال: لف الرجل في الأكل، قبح فيه وأكثر منه خالطا بين صنوفه، ولف العقاب: ~~أي كما يلف العقاب الصيد ويجعله تحت رجليه. # ومر طفيلي على قوم يأكلون، فقال ما تأكلون؟ فقالوا - من بغضهم له: ~~سما، فأدخل يده في الطعام وقال: الحياة بعدكم حرام. # ومر طفيلي بقوم من الكتبة في مشربة ms320 لهم، فسلم ثم وضع يده يأكل معهم، قالوا ~~له: أعرفت منا أحدا؟ قال: نعم، عرفت هذا، وأشار إلى الطعام. # وأظن أن من لم يقرأ منكم عن أشعب فقد سمع بصدر من نوادره، فقد ~~كان - رحمه الله - من أطبع الطفيليين وأشرهم، حتى لقد قيل له ما بلغ من ~~طمعك؟ قال: لم أنظر إلى اثنين يتساران إلا ظننتهما يأمران لي بشيء. # ووقفت مرة على رجل يعمل طبقا فقال له: أسألك بالله إلا ما زدت في ~~سعته طوقا أو طوقين! فقال له: وما معناك في ذلك؟ قال: لعل يهدى إلي ~~فيه شيء! # ومن ظريف بدائهه أنه ساوم رجلا في قوس عربية، فسأله فيها دينارا، فقال أشعب: ~~والله لو أنها إذا رمي بها طائر في جو السماء وقع مشويا بين رغيفين ما ~~أعطيتك بها دينارا! ~~••• # وقيل له يوما ما تقول في ثردة مغمورة بالزبد مشققة باللحم، قال: فأضرب كم؟ ~~قيل له: بل تأكلها من غير ضرب! قال: هذا ما لا يكون! ولكن كم الضرب فأتقدم على ~~بصيرة؟! # ومن أظرف اعتذارات الطفيليين قول شاعرهم: # نحن قوم إذا دعينا أجبنا # ومتى ننس يدعنا التطفيل # ونقل علنا دعينا فغبنا # وأتانا فلم يجدنا الرسول # وأتى طفيلي طعاما لم يدع إليه، فقيل له من دعاك؟ فأنشأ: # دعوت نفسي حين لم تدعني # فالحمد لي لا لك في الدعوة # وكان ذا أحسن من موعد # مخلفه يدعو إلى الجفوة # أفرأيتم أصقع وأصفق وجها من هذا الذي يؤثر الدخول في طعام الناس من غير دعوة ~~على أن يدعى إليه، بحجة أنه ربما تخلف عن الإجابة فوقعت الجفوة بينه وبين ~~داعيه! # ودخل طفيلي في طعام رجل فقال له من أرسل إليك فأنشأ: # أزوركم لا أكافيكم بجفوتكم # إن المحب إذا ما لم يزر زارا # ومن أحسن ما قرأته في وصف طفيلي قول الشاعر: # لو قيل في الشام مطمورة # والهند أو أقصى بلاد الثغور # وأنت في مصر لوافيتها # يا عالم الغيب بما في القدور # سيداتي، سادتي # لم تقتصر مهمة الأدب على تقييد نوادر هؤلاء الذين امتحنوا ms321 بهذا الشذوذ ~~الخلقي، وقص ما كان منهم من طرائف ونكت، وما تطرف به أصحاب البدائه عليهم، ~~بل لقد حركت هذه الخلال فيهم ملكات الشعراء والكتاب، فجاءوا في هذا برائع ~~الوصف وبارع التشبيه، مما زاد البيان ثروة، بل لقد بسطت في الأخيلة فأعظمت ~~الصغير من النوادر، وأجلت الدقيق من الحوادث، بل ربما اخترعتها اختراعا، ~~واختلقت القول فيها اختلاقا، وهذه نوادر البخلاء في كتاب الجاحظ ما أحسب كثيرا ~~منها إلا منشأ مصنوعا. # ومن أبدع ما قرأت في نوادر الطفيليين، مما لا أظنه إلا حديثا مصنوعا، هذه ~~الحكاية التي أترجمها لكم بلغتي الضعيفة، فلقد مضى على قراءتي لها دهر طويل، ~~ولما بيت النية على هذا الحديث، بحثت عنها فيما كنت أقدر لها من المظان ~~فلم أصبها مع الأسف الشديد، وهي في أصلها مكتوبة بلغة بارعة لا يتعلق بغبارها ~~هذا البيان، وسأنتهز هذه الفرصة، حين يعرض ذكر ألوان الطعام، فأبدل ما لا ~~نعلم من السكباجة والطهباجة والمضيرة، بما نعرف من الصحاف الدائرة في مصر ~~الآن: # حدث رجل من أهل الكوفة أو البصرة (لا أذكر) قال: كنت امرأ واسع النعمة عريض ~~الغنى، ثم تغير لي الدهر وألحت علي السنون، حتى لم يبق في يدي ما ~~أتجمل به بين أهلي ومعشري، فانحدرت إلى بغداد، إن لم أدرك الغنى فلا ~~يراني على هذه الحال من كان يراني في يسري وأبهتي، وبينا أنا واقف على بعض ~~مداخلها حيران لا أدري لي فيها مذهبا، إذ جاز بي رجل حسن البزة، فما إن رآني ~~حتى وقف يتأملني، ثم تقدم إلي فسلم وسلمت، فقال: لعلك غريب ~~حدرتك السنون إلى هذا البلد في طلب الرزق، ما تعرف هنا خطة ولا تعرف أحدا؟ ~~قلت: بلى قال: فهل لك في أن تأكل أزكى الطعام وتلبس أفخر الثياب، وتأخذ مالا يعود ~~بما يجتمع منه على شملك، إذا رجعت إلى أهلك؟ قلت: وأصنع ماذا، في كل ~~هذا؟ قال: حسبك أن تكون طيعا أمينا، قلت: لقد رضيت، وما لي لا أكون ~~كذلك؟ قال: الشرط أملك، فتعال معي ms322، وتبعته فما زال يخرج بي من طريق إلى ~~طريق، وينفذ من درب إلى درب، حتى أفضينا إلى دار عالية البناء رحبة الفناء ~~فدخلها وأنا وراءه، ثم أفضى بي إلى حجرة فسيحة حسنة الرياش، جلس إلى جانبيها ~~مشيخة من الناس، لهم هيئة حسنة، وجلس في الصدر شيخ أعمى عليه مطرف، وهو أكبرهم ~~عمامة، فتقدمني صاحبي إليه وأسر في أذنه كلاما، فدعا بي، فسلمت وسلم ~~القوم، وقال لي ذلك الشيخ، وعرفت أنه كبيرهم: هل علمت شرطنا ورضيت ~~به؟ قلت بلى يرحمك الله؛ قال: إذن فاعلم أنك قد توجه إلى الوليمة ~~فتقتحم على القوم طعامهم بلطف حيلتك وحسن مدخلك، فكل ما شاء الله لك ~~أن تأكل، فإذا أصبت غفلة من العيون، فدس في أطواء ثوبك كل ما ~~يتهيأ لك دسه من اللحم والحلوى، وإذا وصلك رب الصنيع بمال قل أو ~~كثر، فعليك أن تجيء بالمال وبالطعام، فيقسم هذا وهذا بين الجماعة لكل سهم، ~~وللشيخ (يعني نفسه) سهمان، وهذا شأن إخوانك جميعا، قلت: أفعل إن شاء الله ~~ولا فضل لي فيه، بل الفضل أجمعه إليكم، وقاسمتهم على هذا، فجعل الشيخ ~~يعلمني وينصح لي بما لم أجد ما أحتاج معه إلى مزيد، ثم دعا لي ~~بخير. # ولما نزلت الشمس للمغيب، أفرغوا على كل منا طيلسانا وعمموه عمامة ~~كبيرة، وزودوه بما أمسى له به هيأة وسمت، ثم جعل الشيخ يفرقنا في ولائم ~~الليلة، وألزمني رجلا من الجماعة ليعرفني الطريق، ويفرخ عني ما عسى ~~أن أجد أول الأمر من الهيبة والتحشم، وليريني كيف يكون التجمل لهذا الأمر ~~والتلطف فيه. # ومضينا لوجهنا فأصبنا من فاخر الطعام ما شاء التطفيل أن نصيب، ثم عدنا بما ~~دسسنا من الطعام وما أفدنا من الدراهم إلى الجماعة، حتى إذا عاد سائرهم ونفضوا ما ~~حملوا تقسموه، وأخذت قسمي، وادخرت فضل الطعام لغدي. # وما زلت على هذه الحال حتى عرفت خطط بغداد ودروبها، والمتبسطين على الطعام من ~~أجوادها، وتمت لي البراعة في هذا الأمر، وأصبحت لا أحتاج فيه إلى رديف، ~~فحسنت حالي، وكثر المال ms323 في يدي، فاكتريت دارا لي أنام فيها، وفيها ~~أقضي وقت فراغي. # ثم بدا لي أن أبعث في طلب أهلي وعيالي، فما مثل هذا العيش عيش، ولا وراء ما أنا ~~فيه من النعمة نعمة! # وذات عشية أذن الشيخ في القوم بأن لا ولائم الليلة في المدينة، فمن شاء قام ~~إلى بيته، فبدا لي أن أتفرج صدرا من ليلي في أرجاء بغداد، وما برحت سائرا ~~يزلقني طريق إلى طريق، ويستدرجني درب إلى درب، حتى رأيتني في ظاهر البلد، وإذا ~~عرس يرد عليه الناس زرافات وشتى، فاختلطت بهم ودخلت الدار معهم، وآكلتهم ~~وشاربتهم، ونفحني رب الصنيع بدينار، فوسوس لي الشيطان أن أستأثر به وأكتم صحبي ~~أمر هذه الوليمة، فما جاءتهم عيونهم عنها بخير. # ومضيت إلى الجماعة من غدي، فما رأوني حتى وقفوا صفا، وقد احمرت ~~أحداقهم ، ورجفت شفاههم، وقال قائل منهم: أين كنت ليلة أمس؟ قلت: طلبت ~~داري من ساعة فارقتكم ولازمتها حتى الساعة، فجذبني أولهم إليه وشم راحتي، ~~وقال بل كنت في وليمة وأكلت «ديكا روميا»، وصفعني صفعة شديدة ودفعني إلى ~~الذي يليه، فشم راحتي وقال: وأكلت بعده «بامياء مرصوصة»، وصفعني صفعة أطارت ~~صوابي، ودفعني إلى الذي يليه، فصنع صنعه، وقال: وأكلت «كستليته» مشوية، وصفعني ~~صفعة كادت والله تسل خيط نخاعي، وقال الرابع: وأكلت كيت، وهكذا ما أخطأ - والذي ~~نفسي بيده - واحد منهم قط فيما تشمم وحزر، ثم انتهيت إلى الشيخ المكفوف، ~~فشم باطن يدي وقال: وأخذت دينارا؛ وصفعني صفعة لو وزن بها كل ما نالني ~~في ليلتي لرجحت به، وما زالوا بي صفعا بالأكف، وركلا بالأرجل حتى ألقوا بي ~~في ظاهر الدار لا أعي شيئا! # سيداتي، سادتي # هذه نادرة من نوادر الطفيليين، إذا لم تكن وقعت كما رويت، وكانت من تلفيق ~~الخيال، فهي ولا شك تعطينا فكرة ولو تقريبية، عن احتراف مهنة التطفيل ذلك العصر في ~~بغداد، ومهارة أصحابه فيه. # ولولا انقضاء الوقت المقسوم لي لحدثتكم عن بعض من شهدنا من الطفيليين في العصر ~~الحديث، وأعني أولئك الذين انقرضوا بانقراض ما ms324 يدعوه المصريون «بالأفراح»، ثم ~~أخذنا بالحديث عن المتطفلين في الوقت الحاضر، أعني الطفيليين «المودرن». # ولعل لنا إلى هؤلاء وهؤلاء كرة إن شاء الله. # | التطفيل والطفيليون1 في الجيل ~~الماضي # كنت قد أذعت من محطة الراديو في شهر أغسطس من سنة 1934 حديثا عن التطفيل ~~وقدامى الطفيليين، وأوردت فيه طائفة من ملحهم ونوادرهم، وما قيل فيهم، وما ~~قالوا هم في أنفسهم، ومواتاة بدائههم في لطف احتجاجهم لاقتحامهم على الناس موائدهم، ~~وتهافتهم على طعامهم من غير دعوة إليه، وتعرضهم في هذا لألوان المكروه من الشتم ~~والسب، والطرد والضرب إلخ. # ووعدت في غاية الحديث أن أجرد «محاضرة» للطفيليين في الجيل الماضي، وقد ~~عنيت الطفيليين المحترفين، وهؤلاء قد انقرضوا وخلا وجه مصر منهم، بذهاب ~~العادة التي كانت شائعة في هذه البلاد إلى زمن قريب، وهي إقامة الأعراس (الأفراح) ~~وما إليها مما كان المصريون يتنافسون فيه، ويتكاثرون به في المناسبات المختلفة من ~~نحو العودة من الحج، وختان الولد، وولادة البكر من البنين وغير ذلك. # وكانوا يدعون بالمغنين ومشهوري قراء القرآن العظيم، ومرتلي مولد النبي ~~الأكرم # صلى الله عليه وسلم ~~، كل على قدر حاله وجهد ثروته، فمنهم من يدعون بالمرحوم عبده ~~أفندي الحامولي، أو المرحوم الشيخ يوسف المنيلاوي، أو يدعونهما معا، وهؤلاء خاصة ~~الخاصة من طبقة «الذوات»، أما المرحوم محمد أفندي عثمان فكان من قسم أوساط الناس، ~~حيث لا يقام على سرادقاتهم حرس ولا حجاب، ولا شرط يدفعون الناس عن ~~الأبواب، وبهذا كان عثمان مغني الشعب حقا، وما تقول فيه تجريه على المرحومين: ~~محمد أفندي سالم، والشيخ محمد الشنتوري، وإبراهيم أفندي القباني، وأحمد أفندي فريد، ~~والسيد أحمد صابر، كانت طبقة «أولاد البلد» القح، وأعني بهم طائفة المقدمين، ورؤساء ~~الصناع (المعلمين)، ومهرتهم لا يعدلون بالسيد أحمد صابر مغنيا آخر. # ولقد كان لهذا الرجل في غنائه أسلوب خاص به، لا يذهب به مذهب عبده ولا عثمان، ولا ~~من يقلدون هذا، ولا من يشتعبون طريق ذاك، هو أسلوب بلدي بحت، يتفخم فيه اللفظ، حتى ~~تشتبه تاؤه بطائه، وتختلط سينه بصاده، ويمتد ms325 فيه النفس ويطول الصوت، وهو في طريقه ~~ما يزال يرق في زجله وترجيعه، ويلين في ترديده وتسجيعه، ويتخافت حتى تحسبه هتاف ~~الهاتف يهمس به جانب الوادي البعيد في الليل البهيم، ثم يجلجل ويقصف كأنه النفير ~~أقبل يوقظ النيام، وينذرهم الحادث الجسام! # وكيفما كان الأمر، فإن صابرا كان أقدر المغنين على مشايعة أحاسيس هؤلاء (أولاد ~~البلد)، وتحريك الوادع المستلقي من عواطفهم، وكثرتهم - كما تعلم أو لا تعلم - ~~كانت من أرباب «الكيوف»! # وكانت الصحف السائرة في البلد قليلا، ومطالعتها تكاد تكون حبسا على الخاصة، وفوق ~~هذا فليس الناس كلهم يعلنون في الصحف عن أعراسهم ولا عمن يغني مدعويهم، ~~فكان يقوم بمهمة النشر هذه «باعة اللب»، ينتشرون من مطلع النهار في أحياء القاهرة، ~~فيؤذنون فيمن يعرفونهم من هواة الغناء والتطريب، أن الشيخ يوسف الليلة في دار فلان ~~بحي كذا، ومحمد عثمان في دار فلان بحي كذا إلخ، وسرعان ما تذيع هذه الأخبار فلا ~~يدخل الأصيل إلا وقد ملأت جميع الأسماع. # وكان الهواة إنما يطلبون هذه «الأفراح»، كل على حسب هواه وصغوه، بعد العشاء ~~الآخرة، أي بعد أن ترفع موائد الطعام وينتظم مجلس الغناء، أما قبل ذلك فلا يغشى ~~موضع الصنيع إلا المدعوون وإلا الطفيليون. # وهؤلاء الطفيليون كانوا معروفين للنقدة سواء من أصحاب الصنع # 2 # أو من ~~المدعوين، من لم يعرف منهم بحيلته ونسبه عرف بسيماه ودله: أما جماعات ~~الفراشين، فكانوا يعرفونهم جميعا، لكثرة اختلافهم إلى الموائد، وترددهم على ~~الطعام في الأعراس والمواسم، وكثيرا ما يدلون أصحاب الصنيع عليهم، ~~ويلفتونهم إلى مواضعهم. # وهنا ينبغي أن أقول لك: إن «أولاد البلد» تشيع فيهم خلة الجود بالطعام، فتراهم ~~حيثما كانوا يدعون إليه، ويتبسطون عليه، يدعون إليه (ولو تجملا) ساقط الآفاق، ~~واللائح في عرض الطريق، وقد يلحون في الدعوة وقد يعزمون. # 3 # إذا عرفت هذا، وقرنت إليه تلك الخلة التي هي مزج من الخجل والضعف، ~~أدركت أن هؤلاء الطفيليين، أو (الطبابين)، على اصطلاح «أولاد البلد» أنفسهم، ~~لم يكونوا يجدون مشقة في غشيان صنعهم، والاقتحام على موائدهم على وجه عام ms326، ولكن ~~المشقة كلها عليهم، والحرج أجمعه على أصحاب العرس، هو في أن يتسلل هؤلاء «الطبابون» ~~إلى الموائد الخاصة التي أعدت لجباه القوم وأعيانهم. # وفاتني أن أذكر لك أن الطعام كان يقرب على أخونة (صواني) متعددة، ~~يرص حول كل واحد منها من ثمانية نفر إلى اثني عشر، وتختلف ألوانها باختلاف ~~درجات المدعوين، وأفخرها ما يصدر بالحمل (القوزي)، أو «الديك الرومي»، ويسلك ~~فيه الحمام والفراريج وأطايب اللحم تطهى على أشكال، وتقرب «المسبكات» من ألوان ~~الخضر، ويستكثر فيه من صنوف الحلوى، ويخص أخيرا بالفاكهة، ودون هذا يصدر ~~بالضلع، وهكذا إلى أن تقتصر مطالع الموائد على المزعة من اللحم، لا يملؤ نصيب ~~الآكل منها الكف ولا ينتفخ به الشدق، وهذه الموائد المعدودة لعامة الناس. # وهنا يشجر الخلاف بين «الطباب» وبين صاحب الصنيع، فهذا «الطباب» لا ينحدر طرفه ولا ~~يتقاصر هم بطنه عن أفخر الطعام وأدسمه وأجزله ما عرف موضعه، ودنا محله، ~~وعليه يسيل لعابه، وله تتفتح لهوته، وإليه تهيج شهوة بطنه، فكيف الصبر ~~عنه، وكيف الرضا بما دونه؟ # أما صاحب الصنيع، فإنما احتفل للمائدة ما احتفل، وبذل في التأنق في الطعام ما ~~بذل، إيثارا لمن «شرفوه» من أصحاب الوجاهة والمنزلة في الناس بالجاه والمنصب، ~~ومبالغة في إكرامهم، واستخراج الإعجاب والثناء منهم، فهو بالضرورة يكره أن ~~يدس بينهم من لا يشاكل أقدارهم، ولا يطاول أخطارهم، فكيف بمن خلق ~~ثوبه، وشاه سمته، وهان موضعه، وكيف به فوق هذا، إذا ملكه النهم، وغلب عليه القرم، # 4 # فاطرح ~~التحشم، وجعل يقبح في أكله، ويعطو بكلتا راحتيه، ويصول في باطن ~~الصفحة بجميع يده، ويزدرد الطعام ازدرادا، ويلتقمه التقاما، حتى لا يكاد يمس ~~فكه، أو يصافح ضرسه، بل إنه ليمر مر البرق على شدقه، في مهواه إلى ~~حلقه! # ويثور ثائر رب الدار إذا رأى «الطباب» دسيسا على خاصة المدعوين، سواء أمعنوا في ~~الطعام، أم كانوا في انتظار الطعام، فسرعان ما ينصب عليه، ويجذبه بضبعيه، وربما ~~زم عنقه بكلتا يديه، ثم جعل يجره جرا، إذا الرجل قد أرسخ رجله على الأرض، ~~أو ms327 لف ساقه على رجل دكة أو نضد، # 5 # وتشبثت يداه بكرسي ثقيل أو بعضادة باب، ~~وبطنه أثناء ذلك يرتفع مع أيدي الآكلين ويهبط، وينقبض مع راحهم وينبسط، حتى إذا ~~جهد برب الدار استنفر لزحزحته الأهل والخدم والفراشين، فلا يزالون به دفعا ~~ولكزا بالأيدي، وركلا بالأرجل، وهو يقاوم ويجاهد، حتى إذا خارت قوته، وانخذل ~~متنه، ونفد جهده، حملوه فألقوه في ظاهر الباب، أو نفضوه عن ساحة العرس نفض ~~التراب. فلا يلبث أن يجمع شمله، ويتسلل في لباقة وخفة، ويرتصد للمائدة ~~نفسها، فإذا أصاب غرة من أهل الدار، عاد فانصب عليها، وإلا عدل إلى مائدة أخرى ~~تكافئها أو تقل يسيرا عنها، وربما عاوده أولياء العرس بالطرد والضرب فلا ~~يثنيه ذلك عن المعاودة وهكذا، وكأنه في شأنه هذا يتمثل بقول الشاعر بعد أن وجه ~~الكلام فيه على البطن بدل النفس: # لأبلغ عذرا أو أصيب غنيمة # ومبلغ «بطن» عذره منك منجح! # و«الطباب» - وقاك الله شر البطنة - لا يقنع بالوجبة على المائدة، بل إنه ما يكاد ~~يرفع يده عن غاية الطعام، حتى يهرول في التماس مائدة أخرى في العرس نفسه، أو في ~~عرس غيره، من حيث قدر المدخل، وغفلة الأعين وجودة الطعام، حتى لقد يوالي بين ست ~~وجبات أو سبع في ليلة واحدة، ما يثقله بشم، # 6 # ولا ترهقه كظة ولا يضيق ~~له كظم، # 7 # كأن معدته ~~نحتت من حجر أو قدت من حديد، وحق فيها: «يوم نقول لجهنم هل امتلأت ~~وتقول هل من مزيد»؟! ... # ثم إنه لا يكتفي بكل ما يدس في جوفه، ويقذف في بطنه، بل إنه لدائب جاهد، ما ~~أصاب الغرة وأمن الرقبة، في أن يدس في جيبه كل ما تيسر له من اللحمان ~~والمحاشي والحلوى والفاكهة، وقد يراه على هذا بعض مؤاكليه فلا يتعرضون له من رحمة ~~أو من حياء! ~~••• # وبعد، فهذا كان شأن عامة الطفيليين أو (الطبابين) في الجيل الماضي، على أنه كان ~~لخاصتهم شأن لعله أكرم من هذا الشأن، فإذا تحريت الدقة في التعبير قلت لعله ~~أقل هوانا، وأضعف امتهانا. # وفي ms328 «الطبابين» أيضا خاصة، كما في سائر طبقات الناس خاصة، وخاصة «الطبابين» هم ~~جباههم وعرفاؤهم وسراتهم، وناهيك بالنديم، الظريف، المحاضر السري، الوجيه، الجميل ~~السمت والفاخر البزة، المرحوم الشيخ حسن غندر، والشيخ حسن غندر حقيق بأن يؤثر ~~وحده بمقال طويل، فللرجل في مفاخر التطفيل تاريخ حفيل. # | الشيخ حسن غندر # وما أدراك ما الشيخ حسن غندر؟ لقد كان الشيخ غندر من مباهج مصر، وآية يتيه بها ~~ذلك العصر على كل عصر، نعم لقد كان المفرد العلم في «فن» التطفيل، وهيهات يجود ~~الزمان بمثله «فإن الزمان بمثله لبخيل»! # كان رحمه الله، طويل القامة، ليس بالبدين ولا بالهزيل، مستطيل الوجه، شديد حمرته، ~~لو نضا عنه عمامته لخلته من أبناء التاميز، تدور حوله لحية دقيقة بيضاء، لا ~~أثر في شعراتها لسواد، أزرق العينين، رقيق الحاجبين، مقوس الأنف، ولعلك في غير ~~حاجة إلى من يزعم لك أنه لم يكن دقيق الفم، وكيف يتصور له هذا، وفمه هو ~~سبيله إلى ذهاب صيته، وشيوع ذكره، وخلود اسمه؟! # وكان ضخم الصوت، إذا تحدث أحسست أن صوته إنما يجيء من أقصى ~~حلقه! # ثم لقد كان حسن السمت، نظيف الثوب، فاخر البزة، لا يلبس القباء إلا من صنع ~~الحمصاني، ولا يفصل الثياب إلا عند أشهر الخياطين، فإذا كان الصيف وضع عليه ~~الجبة من الحرير المتموج (موريه) المعروف عند أولاد البلد «بالألاج». # وترى في إصبعه خاتما كبيرا من الماس النقي، فإذا اقتحم به مهرجان العرس وتساقطت ~~عليه أضواء الثريات، تموجت من حوله ألوان الطيف، وبرقت من أقطاره أشعة تكاد ~~تخطف الأبصار! # وبعد، فلقد كان إلى هذا التأنق والتجمل، عذب الروح، فكه الحديث حسن المحاضرة، ~~حلو المنادمة، حاضر النكتة، عالما بأخبار الناس، محيطا بصفاتهم وأسبابهم ~~وشمائلهم، يحدثك عن أجوادهم وبخلائهم، ومن يهش للأضياف منهم، ويتبسط على طعامه ~~معهم، ومن يغلق دون الضيف بابه، ويقيم عليه إذا حضر الغداء أحراسه ~~وحجابه، ومن يخفت نشيش # 1 # اللحم حتى ~~لا يسمعه الجار، ويكتم ريح القتار # 2 # فلا تشمه القطة، ويضل ~~بلطف حيلته النمل عن موضع السكر في البيت. # وإنه ms329 ليحدث عن عادة كل عين من أعيان البلد في طعامه وشرابه، ويعرف ما يؤثر من ~~ألوان الطعام وما يكره، وكم يقرب إليه من الصحاف في غدائه وفي عشائه، ووظيفة ~~مطبخه من اللحم والطير في كل يوم، وكيف يطهي له طاهيه، وأي الألوان يحذقه ويجود ~~فيه، وما الذي يعالجه بالسمن، والذي يعالجه بالزيت أو الخل، وماذا يشوى منه وما ~~يقلى، وما تذكى له النار وما تخبى، وما يكمخ منه ويتبل، # 3 # وما يعجل بالطهي وما ينظر حتى يذبل إلخ، ~~حتى ليخيل إليك أن بصيرة هذا الرجل تقتحم كل بيت، وتنفذ إلى كل مطبخ، ~~وأن عينه تسلك كل قدر، وأنفه يجول في كل برمة! # وهو إذ يحدثك في هذا ترى شدقه دائم الاختلاج، وشفتيه لا تفتران عن ~~التحلب، شأن من ألح عليه الجوع، وهو يرى أشهى الطعام بين يديه، ولكن لا سبيل له ~~ألبتة إليه! # ولقد يجول الشيخ غندر في غير حديث الطعام، فيبدع في حديثه، ويلون في ~~سمره، ويفتن في إيراد النكتة كلما دعت مناسبات الكلام، وبهذه الخلال ~~فيه كان أثيرا عند كثرة الخاصة، محببا إلى نفوسهم، يشتهون مجالسته ~~بقدر ما يشتهي هو مؤاكلتهم والاستواء إلى موائدهم، حتى إذا انتظمهم ~~الخوان في عرس أو نحوه، لم يتبرموا بتدسسه - في سر من رب الدار - ~~بينهم، بل ربما فسحوا له وكفوا سطوة رب الدار عنه، وأنت خبير بأن هؤلاء في ~~العادة، إنما يجيبون دعوة الداعي لإرضائه، وإظهار الاحتفال لشأنه، لا ليصيبوا عنده ~~دسما، ولا ليشبعوا من طعامه نهما، فلا بأس عليهم بأن يختار هذا الطفيلي ~~الظريف الطعام دونهم، ويملكه كله عنهم، بل إن تقبيحه في طعامه، وشهودهم لافتراسه ~~والتقامه، لمما يعجبهم ويدخل السرور عليهم! # وكيفما كان الأمر، فإن هذا الرجل ما يزال إنسانا وديعا أنيس المحضر، ظريف ~~المجلس، حتى يحضر الطعام، فإذا حضر جن جنونه، وثار ثائره، وخيف بوادره، ~~وتغير خلقه، وتنكرت صورته، وأمسى منظره مفزعا مرعبا، ولو قد ~~رأيته وهو يفري الفري، ويلتهم اليابس والطري، لخلت أن كل شيء فيه قد ~~استحال فما ms330: فهو يأكل بفمه، ويأكل بعينه، ويأكل بأنفه، لا تراه يلوك لقمة أو يحرك ~~للمضغ ضرسا، بل إنه ليكورها ثم يقذف بها في حلقه، فتكاد تسمع رنينها في قرارة ~~بطنه، فإذا فرغ من شأنه - وما بيده أن يفرغ - لبث يتلمظ ساعة، ثم ارتد إنسانا ~~وادعا ظريفا يلون السمر، ويفنن الحديث تفنينا. ~~••• # وبعد، فسترى من هذا الرجل في أسباب تطفيله العجب العاجب: لقد كانت له ضيعة في ~~ضواحي القاهرة لا تقل عن مائة وسبعين فدانا، وكانت له بنيات (منازل ودكاكين) في ~~قلب المدينة يجبي ريعها، وقد أتلف هذه الثروة الضخمة، وأتى عليها تمزيقا ~~وتبديدا، حتى خرج في مؤخرات أيامه عنها كلها، كما خرج بالموت عن الدنيا ~~كلها! # لم يكن الشيخ غندر مقامرا ولا مضاربا، ولم يكن سكيرا ولا طلب نساء، ولم ~~يدخل في «مقاولة» أو يجازف في تجارة، ولم يداخل طوال حياته سببا من الأسباب ~~التي تأتي في العادة، على رءوس أموال الناس! إذن فاحزر، وما أراك بعد ~~بقادر! # لقد أتلف الرجل ثروته كلها، وأتى عليها جميعها في سبيل التطفيل وحده لا في ~~أي سبيل آخر! # أليس من أعجب العجب أن يتلف امرؤ جلائل الأموال في سبيل الإصابة من طعام الناس ~~بالمجان؟ وأي شيء يكون التطفيل غير الارتصاد لإصابة جيد الطعام بالمجان؟ # إذن فإليك السبب، وإذا عرف السبب، بطل - كما يقولون - العجب! # لقد استمكنت شهوة التطفيل من الرجل، حتى استحالت فيه طبيعة وغريزة ~~وجبلة، فأمسى يطلبها لذاتها متجردة من أي اعتبار آخر، إنه شهوان إلى طعام ~~الناس، يسقط عليه، ويقتحم له مهما يصبه في سبيله من المشقة حتى في إتلاف ~~الأموال! # ولقد كان في مصر طوائف من أولاد «الذوات» المسرفين المستهترين بألوان المنكرات، ~~ولقد تصفر أيديهم في بعض الأحيان، بضن الوالدين، أو بتعجيل الإتلاف لوظيفة الشهر ~~أو لذخيرة العام، أو بغير ذلك من أسباب العسر، فكيف لهم بالمال؟ # لقد عرفوا الشيخ غندرا، وأدركوا مدى هم البطن فيه، وهداهم الرأي إلى استغلاله ~~من هذه الناحية، فإذا أعوزوا واحتاجوا إلى المال، بعثوا في طلب ms331 حمل «قوزي» ~~أو ديك رومي، ودفعوه إلى طاهي أحدهم، وأوصوه بأن يحسن إنضاجه، وبأن يطهي ~~ألوانا أخرى من شهي الطعام وفاخر الحلوى، ثم دسوا على الشيخ حسن من يخبره ~~الخبر، ويستوصيه بألا يفشي للجماعة سره، فيهرول من فوره إليهم، حتى إذا طلع ~~عليهم تنكروا له، وربما ردوه بالقول الغليظ، وهو يستعطفهم ويتوسل إليهم، ~~وربما تركهم في إصرار وانسل إلى المطبخ، حتى إذا رأى ما رأى وشم ما ~~شم، انقلب إليهم وقد زاغ بصره، وتقلصت شفته، وجعلت أسنانه تقضقض ~~قضقضة المقرور، ثم عاد يتوسل ويتدلل، فيباديه بعض القوم بأنه حلف بكل مؤثمة ~~من الأيمان ألا يقرب الطعام إلا إذا أقرضه عشرين جنيها أو ثلاثين لغاية ~~الشهر، فيسرع إلى داره، إذا لم تكن حاضرة في جيبه، ويجيء بها ما تنقص قرشا ~~واحدا، وهو الذي يحتمل أجر المركبة إذا كانت المسافة مما يستدعي اتخاذ ~~المركبات، وربما ورطوه في ضمانة أو نحوها من وجوه الالتزامات، ففعل نزولا على ~~حكم البطن العاتي الجبار، وهكذا ...! # ولقد ترامى هذا إلى غيرهم من «أولاد البلد» فحذوا في استخراج الأموال منه ~~حذوهم، حتى أفلس الرجل وأمحل ولصقت يده بالتراب! ~~••• # هذا ما كان من أمر الشيخ حسن غندر في طعامه، أما ما كان من أمر شرابه، فلقد كان ~~لبطنه فيه كذلك عبقرية وجبروت. # وإني أبادر فأؤكد لك أنني لا أعني بالشراب الخمر، فإن الرجل لم يكن يذوقها قط، ~~فلقد كان رحمه الله، شديد التأثم، حريصا على دينه من هذه الناحية، إنما أعني ~~بالشراب ما احلولى طعمه، وساغ في الشرع حكمه، وإن كان لا يرى حرجا من ~~منادمة جماعات الشاربين. # وإني أكتفي في هذا الباب، بذكر نادرة واحدة من نوادره، نتم بها الكلام، لتكون ~~«مسك الختام»: # في ذات عشية سقط الشيخ غندر على «فلان بك»، وكان غفر الله له، من ~~أبناء «الذوات» الموسرين، المتهترين بالشراب، وهو كذلك من أولاد النكتة ~~أصحاب البدائة، وكان الشيخ غندر أثيرا عنده، يستمتع بلطف حديثه، كما ~~يستمتع برؤيته في ثورة نهمه. # وقبل أن يمضي إلى مباءات ms332 سكره وعبثه، استصحب الشيخ إلى بعض المطاعم ~~المشهورة، وحكمه فيها يشتهي، حتى إذا بلغ كفاياته من الطعام ومن ~~الحلوى والفاكهة أيضا، وناهيك بكفايات الشيخ غندر، انكفأ به إلى بعض ~~الحانات الكبيرة، ودعا لنفسه بخمر مما يشرب في الكئوس الدقاق، ودعا ~~للشيخ بكوب من «الشربات»، فجاء الغلام بكأس الخمر، وجاء معه بكوب كبير ~~جدا من «الشربات»، وما كاد صاحبنا يفرغ الخمر في حلقه في جرعة، حتى ~~رأى الشيخ يصب كوبه الضخم في بعض جرعة، ثم دعا بالغلام وسأله كأسا له ~~أخرى، وهنا تقدم الشيخ حسن وقال للغلام: أريد يا بني أن تأتيني هذه المرة ~~بشراب الورد، فإنه طيب الرائحة لذيذ الطعم، ثم طلب صاحبنا الثالثة، فأسرع ~~الشيخ وقال للغلام: أما هذه المرة فعلي بشراب اللوز (الصومادة)، فإنه ~~يصلح المعدة ويبرد من حرارة القلب، ثم دعا صاحبنا بكأس رابعة، فقال ~~الشيخ للغلام: علي هذه المرة يا بني بشراب البنفسج (الفيوليت)، فإنه ~~بديع النكهة ساحر المذاق! # ثم رأى صاحبنا - على عادة المستهترين من أصحاب الشراب - أن يتحول إلى ~~حان آخر، فدعا لنفسه بخمر، ودعا الشيخ لنفسه كذلك «بشربات»، وظلا يتحولان ~~معا من حان إلى حان، يشرب صاحبنا خمرا ويشرب الشيخ بإزائه «شربات» حتى ~~كاد ينصدع عمود الصبح، ثم انقلبا إلى الدور، فإذا هذا قد أصاب اثنين ~~وعشرين كأسا من الخمر، وإذا الشيخ غندر قد والى بإزائه بين اثنين وعشرين ~~كوبا من، «الشربات»! # | الباعة الجوالون1 ومساحو الأحذية # سيداتي، سادتي # لعلكم كنتم تتوقعون مني في اليلة أن أتم لكم حديث الأسبوع الماضي، بل لقد ~~استحثني على هذا كثير ممن لهم فتيان ما برحوا في مطلع الشباب، ولكنني، والحمد لله ~~أكره الأثرة لنفسي، ولا أحبها في غيري، وذلك الحديث فوق ما فيه من جفاف أو ما ~~يشبه الجفاف، فإنه مما يعني مباشرة طبقة خاصة من الناس، وإنني لم أنس وعدي ~~لكم أن أداول بين فنون الأحاديث، ففي التلوين والتغيير كما قلت، راحة ~~واستجمام، وأعدكم وعدا صادقا أن أتم ذلك الحديث في نوبة أخرى إن شاء ~~الله ms333. # سأحاضركم الليلة في موضوع لا يمكن أن يرد لأحد منكم على خاطر، وإني لأتحدى من ~~شاء منكم أن يحزر، فإن أصاب فله عندي عشرة جنيهات إزاء جنيه واحد إذا أخطأه الحظ، ~~وهو مخطئه لا محالة. # سيداتي، سادتي # لقد تحديتكم جميعا، وتعرضت لمخاطرة من شاء منكم، في حين لا أعهد في نفسي بعض هذه ~~الجرأة، وليس من عادتي المخاطرة أبدا، والواقع أنه لم يبعثني على هذا ويشجعني ~~عليه إلا أنني أتناول موضوعا لا يمكن أن يخطر ببال أحد، لأنه من التفه والسخف في ~~الحضيض الأوهد، وأنا واثق بأنني حين أباديكم بعنوان هذا الموضوع سيأخذكم العجب، ~~ويتملككم الدهش. # إي والله يا سادة، إني لمحدثكم الليلة عن البياعيين «السريحة»، وعن «البويجية» ~~وكنت والله أحب أن أقرن بهاتين الطائفتين ثالثة الأثافي ألا وهي طائفة سادتنا ~~الشحاذين، ولكن الوقت أضيق من أن يحتمل هذا كله، فللسادة الشحاذين وحدهم حديث ~~طويل، ولعلنا نلم به في فرصة أخرى، إذا أذنوا هم لنا بساعة من النهار أو الليل ~~واحدة، نتدبر فيها أمرهم، ونتقصى بعض سعيهم. # إذن سأحدثكم الليلة عن الباعة المترفقين بأبدانهم المضطربين في السبل ~~ببياعاتهم. # سيداتي، سادتي # أرجو ألا تتابعوا أوهامكم، فهي ولا شك، تكذبكم إذا مثلت لكم هذا الموضوع ~~بهذا المكان من التفه والسخف، وإني لأرغم أنها مسألة ذات خطر كبير، بل لقد أستطيع ~~أن أزعم أنها من مشاكلنا الاجتماعية التي ينبغي أن تتظاهر الجهود على حلها ~~وتوليها بالعلاج، كلنا يفكر في غلاء القمح، وكلنا يتدبر في هبوط أسعار القطن، ~~وكلنا يجزع إذا عرض الحديث في أزمة الديون العقارية، وكلنا مشغول بكيت وكيت من ~~المشكلات التي تستهلك تفكيرنا وجهدنا وتفيض بها الأنهار الطوال في صحفنا، مع أن تلك ~~الأزمات مهما بلغ من بعيد أثرها وعظيم ضررها، فإنها وقتية سيحلها ~~الزمان إذا لم تحلها جهود العاملين، أما هذه فالقضاء الحتم علينا أبد الآبدين، ودهر ~~الداهرين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين! # البدار البدار! النجدة النجدة! يا مفكري الأمة، يا جماعة العاملين فيها، يا ms334 معشر ~~المتحدثين عليها: هيا هيا أنقذوا البلاد، وأريحوا العباد؛، فقد بلغ السيل الزبى، ~~وجاوز الحزام الطبيين! # اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، لقد كتب على سكان المدن في هذه البلاد الحرمان ~~الأبدي السرمدي من الراحة والدعة، والأمن على الأموال والأعصاب. # أنى جلست فأذى، وأنى سعيت فكيد، وأنى اضطربت فعناء، وأنى ~~توجهت فبلاء فوقه بلاء وتحته بلاء! # تهافت مستمر، وإلحاح لا ينقطع، وشخوص متواردة متتابعة متتالية، لا يكاد ينفذ ~~بينها الهواء، وأصوات منكرة عالية لا تسكن ولا تفتر، ولا ترق ولا تهدأ، ~~وكذب لا تعتريه مذقة من الصدق أبدا، وأيمان كلها غموس، لولا حلم ~~الله وإمهاله لأعميت العيون، وصمت الآذان، وبترت السوق، وقصمت الظهور، ~~وجدعت الأنوف، وعجلت مواقع الحتوف. # ولنتكلم عن الباعة أولا، ولنبدأ من حديثهم بخراب الذمة، والغش وقلة الحياة - ~~أستغفر الله - بل انعدام الحياء، أما الغش والكذب والحلف بالباطل، فهذه خلة مشتركة ~~بينهم جميعا لم أر في حياتي من سلم منها إلى الآن، يعرض الواحد منهم ~~عليك السلعة، فتسأله عن ثمنها، فيجيبك بأنه ريال مثلا، فتعمد إلى مقابلة الكيد ~~بالكيد، فتعرض عليه فيها أربعة قروش، فيظهر لك الغيظ والسخط على هذا الوكس، فتصر ~~فيحلف بالطلاق والعتاق، وبالعين والعافية، والولد (ولا يعدمه) وينذر الحج إلى بيت ~~الله ماشيا، أنها «واقفة عليه» في الجملة بثمانية عشر قرشا صاغا، فهو يبيعها لك ~~برأس المال، لأنك «مش غريب»، وهو «لسه ما استفتحش» فتصمم، فيعرض ستة عشر، ثم يتدلى ~~إلى أربعة عشر، ثم إلى عشرة، ثم ينذرك الإنذار الأخير بأنه لن يبيعها بما دون ~~الثمانية، فتشيع عنه بوجهك، فيولي مسرعا حتى يغيب عن نظرك، ما لم تبادر فتتبعه ~~بندائك، ثم ما يلبث أن يعود فيقول لك: «وبستة ما تخدش؟» فتسكت! فيقول لك: «طيب عاوز ~~كام واحدة؟» وهكذا يأبى كل واحد منهم إلا أن يحقق في كل لحظة قول الشاعر: # وأكذب ما يكون أبو المثنى # إذا آلى يمينا بالطلاق # ثم إنه يغش غشا مفضوحا قذرا وقد يغش «زبونا من زبائنه» الثابتين الذين ~~يعاملونه فيجدون عليه كل ms335 يوم، وقد يكون هذا الغش في نوع البضاعة، كأن يبدل سلعة ~~بأخرى في أثناء غدوه بالمساومة ورواحه، أو أن يصيب الغرة من المشتري فيدس له ~~الفاسد العطب، أو أن يؤكد له أن صديقه فلانا اشترى بسعر كذا كذبا وبهتانا، وهو ~~يعلم أنه ملاقيه في غده إن لم يلقه في يومه، وقد لا يزيد الخطب كله على ~~دراهم قليلة، ثم يكون من أثر هذا الانتفاع الحقير المحرم أن يخسرك ويخسر معك كل ~~جلسائك بالاختفاء عن مجلسك الشهور الطوال، بل السنين ذات العدد. # وأنا مسمعكم نموذجا مما جرى لي من هذا القبيل، وأقول نموذجا لأن هذه أشياء لا ~~يدركها عد، ولا يحيط بها حصر (وهنا أورد المحاضر طائفة من النوادر العجيبة ~~التي وقعت له مع هؤلاء الباعة.) # أما قلة الذوق فحدث عنها ولا حرج: يراك أحدهم وأنت تتناول طعامك في أفخر مطعم، ~~وبين يديك أشهى الأطعمة، فيمد يديه من الشباك، بالبنيكة التي يحمل عليها بياعته، ~~حتى يحك بها ذقنك، ويصيح في وجهك: «البيض والجبنة والكحك الشامي»؛ آمنت بالله! وقد ~~تكون في جماعة من أصدقائك في مكان محجوز من محل عام، وقد تكونون منهمكين في أدق ~~الحديث، وقد حمي بينكم الجدل واشتد، وقد يكون معكم من يغنيكم بالصوت الكريم الحنان ~~وقد أرهفتم آذانكم وعلقتم أنفاسكم، وجمعتم كل إحساسكم للسمع، فلا يروعكم إلا ~~عتل يقتحم عليكم المجلس، ويظل يصيح: «الفستق الحموي، الفستق الطازة!» فلا يسع ~~المتحدث إلا أن يسكت، والشادي إلا أن يقطع الغناء، ولكنه هو لا ينقطع عن الصياح ~~والنداء، ويرى هذا كله فلا يمسك، ولا تخجله تلك النظرات الشزراء، ولكن ما الحيلة، ~~والعين بصيرة، والرجل قصيرة! # وثالث يراك منهمكا، في طعامك والدهن يسيل من يديك كلتيهما، فيمد يده بورقة ~~«اليانصيب» حتى تحول بينك وبين طعامك، وحتى تكاد أصبعه تفقأ العين «آدي اللي فضلت، ~~السحب النهاردة، اللي تكسب ميتين جنيه!» يا سيدي أنا عائذ بالنبي! وكيف لي بأن أدس ~~يدي في جيبي، وهي على هذه الحالة، لأستخرج الثمن؟ # وعلى ذكر «اليانصيب» أذكر لكم ms336 أنني كل يوم في مغداي ومراحي أشهد ~~عملاقا صعيديا، تكاد مساحته تقاس «بالقصبة» طولا وعرضا، يستطيع وحده أن ~~يشق مصرفا ويطهر ترعة، وقد أوتي قفا يتحير النظر في ضواحيه، ما ~~رأيته مرة إلا أحسست كفي تنازعني إليه؛ لو ألف من نفسه فقط ~~«منسرا» لقطع الطريق بين القاهرة والأقصر، وأصبحنا لا نبلغ أسوان، إلا عن طريق ~~بور سودان، ولو أن الهر هتلر استولى عليه لكفاه كل من يحذر من خصوم ~~حكمه، ووفر عليه العناء في تأليف فرق للهجوم وأخرى للدفاع، وأعفاه من ~~المئونة في القمصان الزرقاء والحمراء! # أتعرفون بماذا «يسرح» هذا الكون العظيم عامة نهاره؟ # إنه يجول كله بثلاث ورقات «يا نصيب»، إحداها «إسلام»، والثانية «رومي»، والثالثة ~~لا أدري! # أرأيتم كيدا أشد من هذا الكيد، وبلاء يعدل كل هذا البلاء؟ # سيداتي، سادتي # بحسبنا اليوم هذا القدر في جماعات الباعة المضطربين ببياعاتهم في الطرق، ~~ولنعد الآن إلى طائفة ماسحي الأحذية، وما أدراكم ما ماسحو الأحذية؟ ولا جزى ~~الله خيرا ذلكم الذي اخترع هذه الأحذية الإفرنجية، حتى أغرتنا بأن نستبدل بها ~~نعالنا البلدية، أعني «المراكيب» الحمر. # ورعى الله أيام «المراكيب» الحمر وأيام قصبة رضوان، ولو بقيت لأغنتنا عن رؤية ~~تلك الوجوه في هذا الزمان! ~~(وهنا أورد المحاضر طائفة مما وقع له من النوادر مع ماسحي الأحذية، وبها انتهت ~~المحاضرة.) # | إلحاح ...!1 # لا أحسب أن الله تعالى بعث خلقا من خلقه أشد إلحاحا من حمالي ~~(شيالي) محطة منيا القمح، ولا أشد إلحافا من ماسحي الأحذية في منيا القمح، ~~تكون في المحطة صاعدا أو هابطا، مسافرا أو مودعا أو مرتاضا، فيتهافت عليك ~~من أولئك الحمالين من لا يحصون كثرة: هذا يحمل الخريطة (الشنطة) الكبيرة، ~~وهذا يحمل الخريطة الصغيرة، وهذا ينتزع منك المعطف (البالطو)، وهذا يسل منك ~~الشمسية، فإن لم تكن فالعصا إلخ، فإن لم يكن معك شيء من ذلك تحككوا بك وجسوا ~~بأكتافهم صدرك وجانبيك معا، فعلة خفية (بوليس سري) يرتاب في أنك تدس في مطاوي ~~الثياب «كوكايين» أو هارويين، لعلهم يصيبون «محفظة جيب» فيحملوها عنك ms337 إلى القطار ~~حملا، فإذا أيسوا من هذه الناحية أيضا، سألوك أن «يقطعوا لك التذكرة»، فإذا أسعدك ~~الحظ وكانت معك «تذكرة» ذهاب وإياب، سبقك اثنان منهم ففتحا لك باب المركبة ووقفا ~~على طريقك في انتظار «الأجرة»! # أما ماسحو الأحذية هناك، فهم أشره وأطبع، وهم أنكى وأوجع، لقد تضع رجلك ~~اليمنى على سلم القطار، والقطار على جناح السير، وتتعلق يداك بمقابض الباب، ~~وتتهيأ لرفع رجلك اليسرى، وفي هذه اللحظة يلكز المساح ساقك اليمنى بصندوقه، ~~ويهيب بك «بويه»! # فإذا جرى عليك القدر بالجلوس إلى المقهى القائم بإزاء المحطة في انتظار صديق ~~مواعدك أو مركبة توافيك، فاللهم اشهد قسوة الإنسان على الإنسان: يثب إليك ~~«البويجي» إذ أنت لم تأخذ بعد قرارك، فيطوح في وجهك بصندوقه حتى يمس ~~أحيانا أرنبة أنفك، فتعتذر إليه فلا يسيغ لك عذرا، وتتشفع إليه فلا يقبل في ~~نعلك شفاعة، بل إنه ليجلس على الأرض ويجذب - برغمك - رجلك فإذا ركلته بها ~~جذب الثانية، فإذا أنت بين اثنتين لا ثالثة لهما: إما الرضا بهذه «المسحة»، وإما ~~الانتهاء إلى «المركز» في جناية أو جنحة! # وقد اتصل بي أخيرا والعهدة على الراوي، لا علي أنا، أن مساحي الأحذية في منيا ~~القمح قد ألفوا هم الآخرون من بينهم فرقا، كل فرقة ثلاثة: اثنان منهم يحملان ~~«فلقة»، فإذا وقع للمقهى إنسان، أسرعا «فمداه»، وأقبل الثالث يمسح له الحذاء، وكان ~~هذا لزائر منيا القمح نعم الجزاء! # | يا لطيف!1 # تعلم أن رمضان يقظان الليل نائم النهار، يجمد الناس وتفتر الحركة في نهاره ~~ويسهرون ليله، ويقضونه في وجوه السمر، ولهذا تؤخر الحكومة مواعيد افتتاح ~~الدواوين والمصالح والمحاكم والمدارس، ولهذا تعطل المعاهد الدينية طوال الشهر ~~المبارك، لأنه إذا كان قدر على الناس أن يسهروا عامة ليلهم في رمضان، فليس من ~~المستطاع أن ينشطوا في الصباح الباكر لقضاء مصالحهم ومعالجة أسبابهم، على أنك ~~فوق هذا، تجد سائر الأعمال جامدة راكدة في نهار رمضان، بحكم صيام الصائمين، ~~واختلال أمزجتهم، وفتور أعضائهم من جهة، وبحكم قضاء الليل في السهر، وحاجة الناس ~~إلى التزود ms338 من النوم في النهار من جهة أخرى، إلا أن إخواننا الباعة وسادتنا ~~الشحاذين لم يسلموا إلى الآن بقضاء الله، ولا بقضاء الطبيعة، ولا بقضاء ~~العادة، ولا بقضاء الحكومة، ولا بقضاء أمزجة الناس، وإنك لتقضي ليلك كله في السهر ~~إلى الساعة الثالثة بعد نصف الليل أو الرابعة أو الخامسة، ويكون من حق الطبيعة، ومن ~~حق بدنك عليك، ومن حق العمل الذي تعالجه أن تنام، على الأقل، إلى الساعة الثامنة أو ~~التاسعة أو العاشرة، وإلا انهد جسمك، واختلت أعصابك، وفسد عليك شأنك ~~كله # فتصور يا سيدي أنك نمت خلال تلك الساعات، فلم يرعك إلا النداء القوي ~~المزعج يبعثك من أحلى رقداتك في الساعة السادسة: «ونبيض النحاس، ونبيض النحاس»؛ ~~أو: «البدارى السمان»؛ أو غير ذلك مما يحمله أولئك الباعة المترفقون بأبدانهم ~~المضطربون بسلعهم، وإني لأسمع صرخة الرجل منهم فأجزم بأنه لا يعرض سلعته على أهل ~~الأرض، ولكنه إنما يعرضها على سكان الملأ الأعلى، حتى إنك لتكون في ضجعتك الهانئة ~~بعد قضاء ليلك الأطول، فإذا بك قد هببت من نومك وأنت تظن أن الحرب قد ~~نشبت، أو أن النار قد أكلت أثاث بيتك، أو أن سقوف الدار قد خرت على عيالك، ~~فإذا الخطب كله أن بائعا ينادي «البدارى السمان» أو أن شحاذا يصيح: «من فطر صايم ~~له أجر دايم هنيالك يا فاعل الخير»، والناس إنما يشترون صغار الفراريج ليطهوها ~~لإفطارهم إذا نزلت الشمس للمغيب، ولا أدري لماذا يسشترونها في فجر يومهم، اللهم إلا ~~أن يكون قد دخل في وهم أولئك الباعة أنها ستكبر عند «الزباين» وتسمن، ~~حتى إذا دخل وقت الغروب استحالت «عتاقي» وأمست «بيجاوي». ~~••• # أما أمر الشحاذين فأعجب وأغرب «من فطر صايم له أجر دايم إلخ» وذلك من منتصف الساعة ~~السادسة صباحا، أي أن على الأمة أن تسهر، بحكم طبيعة رمضان، إلى الساعة الثالثة ~~أو الرابعة أو الخامسة صباحا، ولكن عليها في الوقت نفسه أن تهب من منتصف ~~الساعة السادسة، وتشمر عن سواعدها وتنشط في «تقشير البصل»، وإنضاج «التقلية»، ~~وخرط «الملوخية»، و«تقميع ms339 البامية»، و«تحمير البطاطس»، و«فلفلة الأرز» و«دق الكفتة» ~~و«تسوية الكنافة»، و«قلي السمك البربون»، و«نقع الخشاف» للسادة الشحاذين! # نعم يجب على الأمة كلها أن تنثر أيديها من كل عمل إلا ما يجب عليها من معالجة ~~الطعام وتهيئته لسادتها الشحاذين، حتى إذا حان وقت الإفطار قربت إليهم كل ما ~~ساغ من لحوم طرية، وأطعمة شهية، وفواكه جنية! # وبعد فإن على الحكومة أن تختار بين أمرين: إما منع الشحاذين وحسم الباعة من ~~أن يصيحوا ويهتفوا في رمضان قبل الساعة التاسعة على الأقل، حتى تستطيع الأمة ~~أن تريح بدنها وتستجم لأعمالها، وإما أن تأمر بإلغاء شهر رمضان بتاتا، ~~لتوفر الأمة جهودها على الباعة والشحاذين، بحيث «تنخمد» من الساعة التاسعة ~~مساء ليتهيأ لها أن تهب من الفجر «لتشتري البدارى السمان»، أو «لتبيض النحاس»، ~~ولتهيئ أشهى الطعام وأجنى الفاكهة لسادتها «الشحاذين» وعلى الحكومة السلام، وعلى ~~الأمة هجر المنام وترك الصيام! # | الشحاذون ...!1 # لا أعرف أن الدنيا تجمع طائفة من الناس أشد أثرة، ولا أورم أنوفا، ولا أعظم ~~غرورا، ولا أبلغ تتايها على صرف الأيام من سادتنا الشحاذين المصريين! وأقول ~~سادتنا الشحاذين لا على حكم التأدب ولا على جهة التهكم، كما يتبادر إلى ذهنك ~~بادي الرأي! بل لأنه الحق الذي لا شك فيه، فهم سادتنا حقا، ونحن مواليهم ~~حقا، فإن كان ما زال يختلج في نفسك الريب، فاسمع هذه القصة: # من يوم نجمت وجرت علي تكاليف العيش، وأنا أحيي ليالي رمضان بالسهر ~~إلى السحور؛ وإلى أن ينجلي عمود الصبح، أسمع القرآن الكريم في دار أبي، وأجلس مع ~~إخوتي وزوارنا للسمر، ولقد أمضي إلى مسجد السيدة زينب قبيل الفجر لأسمع من الشيخ ~~أحمد ندا سورة طه، يرجعها صوته الفاخر ترجيعا، حتى يخيل إليك أن جبريل ~~عليه السلام إنما يتنزل بها من جديد، فإذا أذن الشيخ بعد هذا بالفجر وقمنا ~~لصلاته، جلسنا إلى حلقة أستاذنا الشيخ محمد أبي راشد فتلقينا علما طريفا ~~تنبسط له النفس، ولا يطاول فيه الفهم، من قصص الأنبياء وكرامات الأولياء ونوادر ms340 ~~الصالحين. # وإنني لأرى أنني قد أطلت عليك، وما بعثني إلا أن أثبت أن سهر ليالي ~~رمضان أصبح عندي عادة جرت مني الآن مجرى الطبع. # ولقد كنت قاضيا في الزقازيق سنة 1925، ودخل علينا رمضان المعظم ونحن في ~~صميم الشتاء، وأنا أقطن (وأنف منشورات الحقانية راغم) في القاهرة، ويبعث الله ~~السماء، في ليلة عندي في مصبحها مجلس قضاء، ويتجاوز الطين والماء الطبيين، وبخاصة ~~في أحيائنا «الوطنية»، وأنام تلك الليلة وأنا على شرف من الساعة الرابعة. # ويبعثني أهلي عند انتصاف الساعة السادسة، والجيب أصفر من أن يفيض بأجرة مركبة أو ~~سيارة إذا رضي سائقها بخوض هذا الغمر، في هذه الساعة، إلى حي «البغالة»، فلم ~~تبق هناك وسيلة إلا طلب الترام، والأمر لله! # وأتدلى من داري لم أترو من النوم بعد طول السهر إلا ساعة ونصف الساعة، فأجمع ~~بين يدي أطراف ثيابي، وأزمها مع رزمة من «دوسيهات» القضايا، وأتحامل على هد القوى ~~وتداعي النفس، فأعارك الماء، وأصاول الوحل، وأتحسس في الحلك للتحرف عن البركة، ~~واتقاء العثرة في التلعة، والذهن فوق هذا مذعور بما سألقى في اليوم الأطول من ~~ركوب الترام إلى المحطة، ومن ركوب القطار إلى الزقازيق، ثم من محطتها إلى المحكمة، ~~ثم من معالجة القضايا الكثيرة، ومن مهاترة أصحاب الدعاوى، ومن كيد بعض إخواننا ~~المحامين، وطول جدالهم فيما لا يجدي، طلبا للخروج من العهدة أمام موكليهم، ولو على ~~حساب الحق والكرامة وحرمة مجلس القضاء! # في كل هذا العذاب الذي لا يمكن أن يقدره إلا من عاناه، بلغت بسلامة الله ~~محطة الترام في ميدان السيدة زينب، وتمثلنا جماعة كثيرة في انتظار قدوم أول قطار، ~~وبينا نحن على هذا إذا يد قاسية تزم كتفي، وإذا صوت نكير يصك سمعي حتى كادت تتفرق ~~له نفسي: «فطور العواجز عليك يا رب! من فطر صايم، له أجر دايم، هنيالك يا فاعل ~~الخير!» فانثنيت إلى هذا الوحش وقلت له: أفحسبت أيها الرجل أنني ~~أنام الساعة 4 بعد نصف الليل، وأهب من نومي ~~، وأصحر لكل هذا البرد، وأشق بهذا الجسم العليل ms341 ما ~~شققت من الغمر، وأخوض ما خضت من الوحل، أفحسبت أنني أعاني كل هذا لأهيئ لك ~~فطورك؟! # ثم تعال نتحاسب: إننا الآن على اثنتي عشرة ساعة من وقت الإفطار. # فبأي حق تقتضي «الأمة» أن تهب من الساعة السادسة صباحا، وفي رمضان، لتهيئ لك ~~فطورك، لا يحين أذانه إلا في السادسة مساء! ... فكان جواب الخنزير: «واشمعنى يعني ~~الفقرا مالهمش نفس لخرين يفطروا زي الأغنياء ما يفطروا؟»، فقلت له: يا سيدي، إن ~~طهاة الأمراء، والوزراء، وكبار الحكام، وأعيان الأغنياء، لا يأخذون في عملهم، في ~~شهر رمضان، قبل الساعة الثانية بعد الظهر أفلا تحب من «الأمة» أن تنتظمك على الأقل، ~~في سلك الأمراء والوزراء وكبار الحكام، فتتفضل عليها بطلب طعام الإفطار ابتداء من ~~الساعة الثانية مثلا؟ # وهنا أقبل القطار فخالفته إليه، فراح يسبني ويشتمني بكل ما حشى أدب مثله ~~فمه! وما سألني أولا، ولا سبني ثانيا إلا لأنه يقرر ذلك الحق علي، أو على ~~الصحيح، يقرره على الجمهور. # أرأيت بعد أثرة أبلغ من هذه الأثرة، وغرورا أشد من هذا الغرور؟! # ومما يذكر في هذا الباب أن صديقنا المرحوم رفيق بك العظم كانت قد علت به السن، ~~وألحت عليه العلل، وهو من يوم نشأته مضعوف هزيل، مرهف الأعصاب، وقد امتحن ~~فوق هذا كله بالأرق، وكان في مؤخرات أيامه يسكن «عمارة البابلي» من أحياء السيدة ~~زينب، ويدخل في فراشه في الساعة التاسعة، فيظل يتطاول إلى النوم ويستدرجه بألوان ~~التكلف والتصنع إلى ما بعد الساعة الثانية صباحا. # وبينا هو ذات ليلة يستدرج النوم، والأرق يدافعه حتى دخل في ذلك البرزخ الممدود بين ~~النوم واليقظة (السنة)، تلك الرقعة التي تتراءى لك فيها الأحلام، وتعي في الوقت ~~نفسه ما يدور حولك من الكلام، بيناه على تلك الحال ينتظر الدخول في النوم التام، ~~إذا هاتف يهتف من جانب الطريق بصوت كأنه قصف الهد، أو زمزمة الرعد: «رغيف عيش وصحن ~~طبيخ لله!»، وإذا الرجل يهب من سنته على أظافره، وإذا الحدث يعجله عن اتخاذ ~~حذائه، فيجمز حافيا على السلم، حتى ms342 إذا خرج إلى الطريق أهاب «بمولانا الشحاذ»: ~~«يخرب بيتك! من اللي بيصحا دلوقت الساعة اثنين بعد نص الليل ويسخن لك الطبيخ؟ قول ~~إدوني رغيف عيش وحتة جبنة، أو شوية زيتون، أو حتة مربة، يبقى شيء معقول!» وتركه ~~وصعد ليتصيد نومه من جديد! # وإن من يغشى حي المنيرة والإنشاء ليرى سائلا أعمى لعله من أصل مغربي وهو ~~ينطلق من الصباح الباكر في رمضان هاتفا: «يا رب طالب منك رغيف عيش نفطر به»، فإذا ~~نزلت الشمس للمغيب وأفطر الصائم، استحال هتافه إلى: «يا رب طالب منك رغيف عيش نتسحر ~~به»! # ولعل الذي يبعثه في طلب السحور، في اللحظة التي يرفع فيها يده عن طعام ~~الإفطار، هو حاجته إلى معالجة التخمة، والخلاص من الكظة، بعد طول الخضم والقضم، ~~فليس أعون على هذا من الرياضة بالمشي والطواف على الدور ، ورفع الصوت بطلب رغيف ~~للسحور! # تلك بعض مظاهر الأثرة في سادتنا الشحاذين، وسأقص عليك طرفا منها في مقام آخر إن ~~شاء الله. # | ابن العم ...!1 # لي صديق مرهف الأعصاب حاضر الغضب، بقدر ما هو طيب القلب، خفيف الروح، فكه ~~الحديث، لقيته أمس فإذا هو ظاهر الحنق حتى ليكاد يتميز من الغيظ، فسألته عما به، ~~فقال اسمع يا سيدي: # لي قريب ثقيل الظل، غليظ الطبع، شره النفس، إذا عرضت له حاجة كان أشد إلحافا ~~من ذباب، صبه القدر علي أمس فقال لي: إن لي إلى فلان (من كبار الموظفين) حاجة ~~(وسماها)، ولا يشفع لي عنده غيرك، فقم بنا إليه، فأردت مطاولته فقلت: سأمضي إليه ~~إن شاء الله في أول فرصة، فقال: بل الأمر من هذا أعجل، ولا بد من ذهابك اليوم! ~~فقلت: إذن أمضي إليه اليوم بعد أن أعالج بعض العمل، قال بل تقوم الآن، لأن ~~المسألة سيبت فيها غدا، قلت إذن أمضي الآن، وتهيأت للقيام وأقبلت عليه ~~بتحية الوداع، فقال: رجلي مع رجلك! ... فانطلقنا، والأمر لله، حتى إذا صرنا إلى باب ~~ذلك الموظف، دفعت رقعة الزيارة إلى حاجبه، فقال لي صاحبي: أثبت اسمي مع اسمك ~~حتى ms343 أحضر شفاعتك! ... قلت أوتتخونني؟ قال: كلا! ولكن ليطمئن قلبي. # وأذن لكلينا، وبسطت حاجة قريبي بين يدي ذلك الموظف، وسألته أن ~~يقضيها إذا كان على حق كما يقول، فوعد الرجل أن يفعل، وتهيأت للقيام، ~~فزر قريبي على عينه وأومأ إلى أن زد في الرجاء، فعاودت صاحبي فكرر ~~الوعد في دعة واطمئنان، ولما هممت بالقيام عاد فغمز بعينيه فعاودت الإلحاح، ~~وعاود الرجل ترديد الوعد، وما زلنا على هذا حتى ظهر عليه البرم، فراح ~~يرفع طرفه إلى ساعة الحائط مرة، ويشيعه فيما احتشد بين يديه من الأوراق مرة ~~أخرى (يريد أن يقول لنا حسبكم فانصرفوا مأذونين)، فجمعت كل ما في من عزم ~~ونهضت ولم أكد، لأن عين قريبي كادت بنظرتها الحادة تثبتني في موضعي أبد ~~الآبدين ودهر الداهرين، وانطلقنا وأنا أجره جرا! # وحانت ساعة الفراق ليمضي كل منا إلى وجهه، فشد على يدي، وكرش وجهه، وزر على ~~عينيه، وقال لي، وهو يكاد ينشج بالبكاء: والنبي ...! ~~- ماذا تريد أيضا؟ ~~- والنبي ...! ~~- قل يا أخي: ماذا تريد أن أصنع؟! ~~- والنبي ...! ~~- قل يا أخي: ماذا تبغي مني بعد ذلك، فقد كدت تذهب بعقلي ...؟! ~~- والنبي ...! ~~- آه! لقد فهمت، تزيد أن أعمل عملا يكره الرجل إكراها على قضاء ~~حاجتك! ~~- نعم! # كان بعض صغار الفلاحين وأشباههم إذا وقعت على الرجل منهم مظلمة لا يجد النصفة ~~منها عند صغار الحكام، استكتب بشأنها «عرضحالا» وارتصد لصاحب الشأن الأعلى من كبار ~~الولاة، حتى إذا جاز بمركبته، ألقى بنفسه تحت سنابك الخيل، وبذلك يلفت إليه ~~الوالي، فيتلقى «عرضحاله» ويصغي إلى مظلمته، وينظر في شأنه، وليس لدينا يا ~~ابن العم إلا هذه الطريقة! فقال لي: وكيف ذلك؟ قلت: دعني اليوم أسوي في ~~مسألتك «عرضحالا»، وتجيئني من غدك في الصباح الباكر، حيث نرصد صاحبنا قرب ديوانه، ~~حتى إذا طامنت سيارته من سرعتها ألقيت بنفسي وفي يدي «العريضة» تحت عجلاتها، فلا ~~أصاب بأكثر من كسر بسيط في الساق، أو اختلاف في بعض الأضلاع يسير، أو شج لا ~~خطر له في الرأس، ولكن الأمر على كل حال، سيتعاظم ms344 الرجل ويروعه كل مروع، ~~فيجعل بقضاء حاجتك! # فقال: بارك الله فيك يا ابن العم، ولا حرمنا همتك، وهذا هو الظن بك والعشم ~~فيك! وتواعدنا على أن يجيئني من غده في الساعة السابعة صباحا. # وأقبل علي صاحبي وقال: أفتدري ماذا حدث اليوم؟ قلت: ماذا؟ قال: بينا أنا في ~~سريري متدثرا احتماء من البرد القارس إذ جاءتني الخادم تقول لي: إن ابن عمك في ~~انتظارك، وهو يتعجل نزولك إليه لتمضيا إلى الميعاد الذي اتفقتما عليه أمس! ~~••• # أرأيت يا أخي أشره من ذلك الرجل وأطبع، وأبرد وأصقع، وأسمج وأثقل، وأصفق ~~وأرزل. # فقلت له: أعانك الله! # | ظرف ...! # فلان المهندس البدين، الغليظ الوجه، المنتفخ الشدق، الأزرق الجلد، الدقيق الجبين، ~~النكير الصوت، لقد جفت فيه الأقلام وطويت الصحف، وشهد الله وملائكته والناس ~~أجمعون أنه ثقيل الظل، شديد الوطأة على النفس، وإذا طلع عليك أحسست بغمز على القلب، ~~ووخز في الحشا، وهو على هذا كثير الانصباب على الناس، شديد التهافت على مجالسهم، لا ~~يرى جماعة ممن ابتلاهم القدر بمعرفته إلا جاء بكرسي وزج بنفسه فيهم، لا يجلس بكل ~~ثقله على الأرض ولكن يجلس على أرواحهم، ثم يظل ثابتا في المجلس لا يبرح ولا ~~يتحلحل، ولا يقوم لحاجة، ولا تصرفه ضرورة، ولا يعجله أي شأن من شئون الدنيا ~~جميعها. # ثم هو لا يدع حديثا إلا خاض فيه، ولا شأنا من شئونهم إلا أمعن في تفقده وتقليبه، ~~ولا أمرا من أمورهم إلا استخرج خافيه، ونبش بالسؤال حاضره وماضيه، فإذا انتفض واحد ~~عن المجلس لبعض شأنه أقبل عليه يسائله: لماذا يمضي وأين يمضي؟ وما طريقه وما غايته؟ ~~وناقشه فيما تعود به هذه الغاية من خير وشر ونفع وضر، وإذا رأى واحدا يلبس حلة ~~جديدة «فتح» له محضر تحقيق في «قماشها» أولا، وفي لونها ثانيا، وفي تفصيلها ~~ثالثا، وفي ثمنها رابعا إلخ، وإذا رأى اثنين يتساران دس رأسه بينهما ودخل معهما ~~في نجواهما. # ومن أحدث نوادره وأطرفها أنه كان ضاغطا (كابسا) يوما على بعض أولئك الصحاب ~~المساكين، فجاء عامل البريد ودفع ms345 إلى أحدهم خطابا، وفيما كان الرجل يعالج شق ~~الغلاف عنه، كان صاحبنا يسرع في إخراج «نظارته» فيمسحها بمنديله، ثم يضعها على ~~عينيه استعدادا ... لقراءة «الجواب»! # أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله! # | إلى الحكومة # الغوث الغوث! النجدة النجدة! # ليست لي والحمد لله ضياع فأستفيد بتوافر المياه من مشروعات الري الكبرى، ولا ~~باستصلاح الأرضين بمشروعات الصرف الكبرى والصغرى. # ولسيت من صغار الفلاحين فأطمع في أن يسهم لي في توزيع أرض الحكومة في الفيوم ~~أو سخا أو في السنطة. # ولست من العمال حتى أبسط الأمل في مسكن يؤويني ويخفف عني من كراء البيت، فوق ~~أنني بفضل الله أثوي إلى منزل أملكه. # ولست أسكن الريف حتى أفرح بردم البرك والمستنقعات خلاصا من أذى البعوض، وما يجر ~~الماء الآسن من أمراض وأسقام، وعلى الجملة فإنني ما قلبت فكري في هذه ~~المشروعات، فرأيت لي بالذات حظا في شيء منها كثيرا كان أو قليلا، على أنني ~~أغتبط بالطبع كل الاغتباط بكل ما يدخل على أبناء وطني من النعمة، ويعود عليهم ~~بأسباب الرفاهية، ولكنني مع هذا إنسان أيضا، لا يمكن أن ينسيني النفع العام ~~الشعور بألم الضرر الخاص. # ذلك أنني من يوم شاعت في البلد سيارات الأجرة (التاكسات) أوثرها على مركبات الخيل، ~~لأسباب لا محل لبسطها في هذا المقام، وأهمها الاقتصاد في الوقت، وأمن الشجار، في ~~غاية «المشوار» إلخ، وعلى ذكر هذا فقد تدليت العام الماضي من الديوان في ~~يوم شديد القيظ، فلم يصادفني في طريقي إلا مركبة، فقلت في نفسي «نأخذها» ~~والسلام! واستويت إليها وأنا لقس النفس، مجهود الجسم! مرهف الأعصاب، فتدلى الحوذي ~~عن كرسيه ومشى في رفق، فانتزع المخلاة من فم أحد الجوادين، وزرها وعاد بها كذلك، ~~فألقاها في مداس قدمه من العربة، ثم عاد فألجم الجواد وسوى شكيمته، وعدل إلى الثاني ~~فصنع به ما صنع بالأول، كل هذا في تؤدة وبطء وعظيم اطمئنان، إذ أنا ترتفع حرارتي ~~ويتدارك نفسي ويسرع نبضي، ثم تمكن من كرسيه وتناول وسطه وأهوى به ms346 على الجواد ~~الأيمن فانثنى إلى الأيسر، وهذا انثنى إلى المركبة، والمركبة ثابتة في موضعها، ~~فأهوى الحوذي بالسوط على الأيسر، فانثنيا كلاهما إلى الجانب الأيمن، ولما ضاق ذرعي ~~وهممت بالنزول، وثبت الحوذي إلى الأرض، وجر الجوادين معا من خطامهما فانجرا، ولا ~~أطيل عليك أكثر مما أطلت: سارت العربة ثم سارت وسارت، فلم تكد تبلغ شيئا حتى ~~خيل إلي أنني إنما أركب ظلا يتقلص، تحسبه ثابتا وهو في الواقع متحرك، وحتى ~~خيل إلي من بطء المسير، وطول المدة، وضيق النفس، أنني قادم من الصين لا من شارع ~~الفلكي. # ووصلنا بسلامة الله إلى ميدان السيدة زينب، فحق قول العامة: «طولة العمر تبلغ ~~الأمل»، وإذا «الترام» يجوز وبيننا وبينه نحو أربعة أمتار، فلم يرعني إلا والحوذي ~~يجذب إليه أعنة الخيل ليوقفها، فعجبت من فعله وقلت له في ذلك، فقال : حتى ~~يجوز «الترام»، فأهبت به أن امض أيها الرجل، فحين نبلغ موضع القطار يكون قد ~~بلغ هو السبتية إن شاء الله! # أنا حر في أن أركب مركبة أو سيارة أو «تراما» أو حمارا مكارا (سكة)، أو أن ~~أمشي على رجلي، هذا حق ثابت لي لا ينازعني عليه أحد، ولكن «عم» الأسطى خليل لا ~~يسلم لي بهذا الحق، ولا يدع لي هذه الحرية، وإليك الحديث: # الأسطى خليل هذا كان حوذيا عندنا من أكثر من خمس وعشرين سنة، ولعله لم يلبث أكثر ~~من ستة أشهر، ثم أراحنا الله منه وابتلى به سوانا، ثم صار أمره إلى مركبة أجرة، ~~فثبت له علي بهذه الأشهر الملعونة حق! ولكنه حق غريب جدا لم يدعه أحد على ~~أحد، أتدري ما هذا الحق؟ هو أنني لا بد أن أركب مركبته متى شاء هو، وفي أي وقت شاء ~~وله في ذلك وقائع تخرج المرء عن جلده، من ذلك أنه يعلم أنني كنت أجلس في صحابي ~~ولداتي في مقهى في شارع خيرت، نقضي شطرا من الليل في الحديث والسمر، فإذا كان ~~هو «فاضي»، أسرع فجاء إلى المقهى، ووقف بمركبته بإزائي، واتكأ على يمينه، ~~ومد ms347 وجهه إلي، حتى تكاد لحيته الطويلة تصل إلى جبيني، وحدد في نظره، ~~ونطق صنيعه كله بفصيح العبارة: أن قم فاركب، وقد لا أكون استويت إلى مجلسي إلا من ~~بضع دقائق، فلا أرى لي حيلة إلا أن أقوم فأتحول إلى أحد مجالس المقهى على الشارع ~~الثاني، فيبعث خيله ويتحول هو الآخر حتى يقف بإزائي، ما يريم ولا يتحلحل، فلا ~~ينقذني منه إلا أن أسلم لله أمري، فأركب معه ليعود بي إلى الدار، لأنني ~~إن مضيت إلى مكان آخر، تبعني بمركبته وظل ثابتا بإزاء مجلسي حتى أركب أيضا، ~~وإما أن أمضي في مجلسي وأنا من الغيظ والحنق على حال لا يعلمها إلا الله ~~تعالى! # وهكذا ما لقيني في طريق إلا اعترضني، وسألني أن أركب معه، ولا رآني في ~~«الترام» إلا وقف بإزائي، ومن أحدث نوادره معي أنني في صباح يوم صفا أديمه، واعتل ~~نسيمه، رأيت أن أشخص إلى الديوان سعيا على قدمي، وفعلت مغتبطا مبتهج ~~النفس، حتى إذا كنت بإزاء وزارة الحربية، إذا بالأسطى خليل يطلع علي «بخيله ~~ورجله»، ويناديني: «آجي أوصلك للديوان؟»، فهاجني الرجل وحرك حفيظتي وخبث نفسي، ~~وكدر صفوي، وأفسد علي يومي، وقلت له وأنا أكاد أتميز من الغيظ: ~~أجئت أيها الرجل من بيتي في أقصى شارع زين العابدين إلى هنا في التماس عربة ~~تبلغني هذه الستين مترا؟ أتظن أنني طول هذا المدى لم أصب مركبة واحدة؟ ~~حقا إنك بارد، ومضيت لطيتي، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ~~••• # فإذا لم يكن إدخال هذا الحوذي المؤذي في مشروعات الردم، # 1 # فلنتوجه بالعياذ إلى قلم المرور، وإلا فقد ~~طابت الهجرة حتى يقضي فيه القضاء، ويريحني الله من كل هذا البلاء! # | عشاء! # قهوة اللواء، وإن شئت فبار اللواء، وإلا فمطعم اللواء، هو ناد أو شبه ناد لا ~~يكاد يتغشاه في النهار إلا جماعات من أرباب الأعمال، فإذا كان الليل فجماعة من أهل ~~الفضل والأدب، يجتمعون للأسمار وتبادل ألوان المفاكهات، ويتصل بهذه القهوة مطعم ~~كامل الآلة، وقد حدثني صديق يختلف إلى هذا الموضع قال: كنا ms348 ليلة أمس جلوسا مع ~~الصحب نأخذ في حديثنا وسمرنا، فإذا رجل من هؤلاء الذين يصبهم القدر على ~~رواد القهوات: منتفخ الشدق، حاد الوجه، يتأبط أداته في الحياة، وما أداته إلا ~~رزمة من الجرائد الجديدة والمجلات القديمة، يدعي بحملها العلم والأدب والفلسفة ~~والسياسة «وكل شيء»! وسلم في تظرف مكروه وأدب مبتذل، وجر له كرسيا ~~وحشر نفسه في الزمرة حشرا، ومن باب ما يدعونه «باللياقة» صفق أحدنا فجاء ~~الغلام، فأومأنا إلى «الأفندي»، وسألناه عما يطلب «سادة، أو بسكر شوية»، وقد جرت ~~العادة بأن يعتذر ضيف القهوة أولا، فإذا ألح المزور فقهوة أو شاي مثلا، فإذا ~~كانت الألفة متمكنة، «فكازوزة»، أو ما يقرب ثمنه من ثمن الكازوزة، مما لا ~~يعدو الثلاثة القروش أو الأربعة على أضفى تقدير، بعد هذا أتعرف ماذا طلب ~~صاحبنا الذي لا نعرفه؟ لقد طلب واحد ... عشاء # dinner ~~! # | قرحة البطن! # باديتك في مستهل هذه «اليوميات» بأنني لا أترحم في يومي إلا عن الخاطر الذي ~~يشغلني فيه، والإحساس الذي يملكني، ولو خرج كلاما فارغا، وعلى هذا أثبت لك ~~اليوم كلاما كما أثبته من قبل في كثير من هذه «اليوميات». # على أنني هذه المرة لم أكن أكثر من ناموس (سكرتير) يدون حديث غيره، وإليك ~~الحديث: # لي صديق من القضاة خفيف الروح، حسن المحاضرة، حاضر النكتة، جلس إلي أمس وجعلنا ~~نسمر على العادة، وفي بعض المجلس أطرق إطراقة طويلة، ثم أنغض رأسه فجاءة ~~وقال لي: اسمع يا فلان، يقول العامة إن «قرحة» البطن تظل عند العاقل أربعين سنة، ~~فكيف بالمجنون؟ فقلت له: وما الذي يحضرك هذا الآن؟ قال: نقلت من عشر سنوات ~~إلى محكمة (وسمى حاضرة أحد المراكز)، ولي في هذا المركز صديق عزيز من كبار الأعيان، ~~وله حراقة (ذهبية) لا يسكنها أحد، وهي راسية في ظاهر المدينة، وتقع من سرتها ~~على أكثر من ميل، فدعاني شكر الله له، إلى أن آوي إليها حتى أصيب لي مثوى، وكان ~~للحراقة خادم كسلان العقل، كسلان الجسم، وفي ذات عشية رماني الباب بقريب لصاحب ~~الحراقة طويل جدا ms349، عريض جدا، لا تكاد تتمثله إذا أشعت عينيك في هيولاه ~~جملة واحدة! إنما لك أن تتمثله بالمفرق (القطاعي)، فإذا دنا منك سمعت له ~~زخيرا من كثرة اكتناز الشحم! وما أحصي أنه جلس إلي قط إلا رأيته وقد ~~شرد عينيه، وأقبل يتدفق بألوان الأسئلة يصبها على سمعي صبا، حتى أراني ~~وكأنما فتحت علي خلية نحل لا أنحرف عن واحدة حتى تثور بي ثمانون، فهو يلهث ~~بالأسئلة، وأنا ألهث وراءه بالأجوبة ولكنه يجري أمامي بسرعة «رولزريس» وأنا وراءه، ~~في سرعة «عربة كارو»، حتى ليكون في السؤال الثامن والستين بعد المائة، وأنا «ملخوم» ~~في جواب السؤال الرابع عشر! «إزي صحتك؟ - بتفصل هدومك عند مين؟ - أبوك مجوز كام؟ - ~~تحب ألمانيا أكتر ولا أمريكا أكثر؟ - رياض باشا ترك كام فدان؟ - إلا ليه البن ~~اليمني الأيام دي وحش؟ - النهاردة حر ولا برد؟ - إلا الإنجليز وشهم أحمر ليه؟ - ~~الشيخ أحمد ندا أحسن ولا المزيكة الميري؟ - ما بيرقوكش ليه؟ - الحاجة السويسية ماتت ~~ولا لسه عايشة؟ - الحكومة بتشتري الورق بتاعها منين؟ - أمك لما تموت، ناوي تعمل ~~الميتم ثلاث أيام؟ - قريت المقطم النهاردة؟ - إذا ربنا غناك تشتري أوتومبيل ولا ~~لأ؟ - إيه رأيك في الحرب؟ - ناوي تجوز ابنك لما يكبر؟ - كوبري الزمالك بيفتحوه ~~إمته؟ - إلا لو واحد اتعدى عليك في الجلسة تعمل له إيه؟ - الساعة كام؟ - أم ~~سيدي أبو السعود كان اسمها إيه؟!» إلخ إلخ. ~~••• # قلت لك إن الباب رماني به في أحد الأمسية فقال لي: أتأذن لي في المبيت في ~~الحراقة الليلة؟ فقلت له تفضل، ففي غرفها متسع لنا كلينا، وقضينا السهرة في ~~الأسئلة اللازمة وما تيسر من الأجوبة، وقمنا لنومنا، حتى إذا أصبحنا استدعيت ~~الخادم ليجيئنا بفطورنا، وفي هذا الخادم كما قلت لك بلادة، حتى ليقضي في المجيء ~~بالفطور من السوق أكثر من الساعة ونصف الساعة، فسألت صاحبنا عما يشتهي، فاعتذر بأنه ~~ليس من عادته أن يفطر، فراجعته فأبى، فعزمت عليه إلا أفطر معي، فجدد العزيمة على ~~الإباء شاكرا مثنيا، لقد غلبني إذ ذاك على أمري فلم يبق لي ms350 بد من أن أطلب إلى ~~الخادم أن يجيئني بالقدر الذي يكفيني ويكفيه فضله، فمضى وغاب ما شاء الله أن ~~يغيب، ثم أذن الله أن يعود بالطعام ويقوم على إنضاجه، وكنت قمت لبعض شأني، ثم ~~عدت وإذا صاحبنا في حلته الكاملة في طريقه إلى الشاطئ، حتى إذا لقيني ~~أقبل يودعني، فدعوته (من باب التكريم) ليفطر معي، فشكر واعتذر بأن له ~~مهما يعجله عن اللبث، ومضى عني مهرولا، ولم يرعني - وقد أطلت على بهو ~~الحراقة - إلا أن أرى الصحاف قد لعقت لعقا فلم يبق فيها فضلة للغسل، ~~وإذا فتات من الخبز لا تكبر على ما يعلق بسن الخلال! فدعوت الخادم وسألته عن ~~الطعام فأجاب: لقد أتى عليه صاحبك! فقلت له: ألم يبق لي ولك شيئا؟! قال ~~كلا، لم يبق لك ولا لي شيئا! # وكان وقت الجلسة قد أفد، فمضيت أقضي على الطوى بين الناس، ولا حول ولا قوة إلا ~~بالله! # ثم أقبل علي صاحبي وقال: تعرف يا فلان أنني لست من أهل البطنة، ولا أنا ممن ~~يحتفلون للطعام أو ممن يهمهم التأنق فيه، وتعرف أنني لا أصيب منه إلا بالقدر الذي ~~يمسك النفس ويدفع إلحاح الجوع، وتعرف فوق هذا أنني مضعوف ممعود، أتجنب من ~~الطعام غليظه ما استطعت، ولا أتكثر من الدسم خوف الكظة والبشم، ~~تعرف هذا كله، ومع هذا فإنني أقسم لك أنني ما ذكرت هذه الواقعة إلا ثارت ~~نفسي واضطرمت أعصابي، وعلا الحقد في صدري، حتى لكأن تلك الحادثة وقعت لساعتها، ~~وقد مضى عليها الآن عشر سنين، وإنك لتستطيع أن تصدق قول الشاعر: «لا بد ~~للمحزون أن يسلى»، وأن تصدق قول كثير: # فقلت لها يا عز كل مصيبة # إذا وطنت يوما لها النفس ذلت # تستطيع أن تصدقهما في دعوى التسلي بالزمان عن كل بلية، والعزاء بكر السنين ~~عن كل رزية، إلا عن مثل هذه الفعلة، فهي أعصى على الزمان، وأصلب من أن يبليها ~~الجديدان! ~~••• # فاللهم يا من وصل شهوة الطعام ببعض الناس هذا الوصل، وأكدها هذا التأكيد، ارحم ~~كل شهوان ms351 بطين، من ضيافة مثل هذا الحبر السمين! # | تنمر ...؟ # لاحظت ظاهرة غريبة، لا أدري إذا كان الأطباء والباحثون في أحوال النفس قد فطنوا ~~لها أو لم يفطنوا، ولا أدري إذا كان قد تقصاها منهم أحد، وترسم عللها ~~وأسبابها، وكيف تؤثر تلك الأسباب في خلق بعض الناس هذا التأثير وتصوره ~~هذا التصوير وتنكره هذا التنكير، ثم إنني لا أدري إذا كان أحد هؤلاء الباحثين ~~المتقصين قد نشر في هذا بحثا في العربية أو في أية لغة من لغات العالم؟ ... اللهم ~~إنني لا أدري شيئا من هذا ألبتة، على أنني أنتظر من أصحاب المعرفة رأيا أتهدى ~~به إلى الصواب: # شهدت في طول حياتي ثلاثة من الناس لم أشهد غيرهم على الحال التي ~~سأذكرها لك، والعجب أن ثلاثتهم يشتركون في دعة النفس، وطيبة القلب، وارتياح ~~الأعصاب، ما يزال هذا شأن كل منهم وطبعه وجبلته حتى يستوي للطعام، وما إن يأخذ ~~فيه حتى تراه وقد تبدل خلقا غير خلقه، واتخذ صورة غير صورته، فإذا وجهه ~~قد احتقن احتقانا شديدا، وإذا أوداجه قد انتفخت انتفاخا عظيما، وإذا أجفانه قد ~~انفرجت إلى حد التقلص، وإذا حدقتاه قد اتسعتا في محجريهما حتى كادتا ~~تستهلكان بياض العينين جميعا، وقد لمعت عيناه لمعانا يخيف ويروع، ~~ودلت ملامحه على أقسى ضروب الشراسة ومحاولة الفتك والافتراس، وجعل يزحر زحيرا ~~عاليا أشبه بهمهمة الفهود، وبزئير الأسود، حتى ما تشك في أنك إنما تؤاكل ~~نمرا لا إنسانا، بل لقد يوسوس لك هذا المنظر المرعب بأنك في النهاية مأكول لا ~~آكل! # وقد توفي واحد من هؤلاء الثلاثة، وبقي اثنان، بسط الله لهما في صدور ~~الأعوام، ولقاهما أجزل الطعام، بما يواتي غريزة الافتراس والالتهام، وكتب ~~لمؤاكليهما الأمن والسلام، آمين! # | غرام ...! # صديقي «فلان» تعشق في شباب سنه إحدى بنات جيرانه، وقد غلبت عليه ~~وذهبت بقلبه كل مذهب، ولما برحت به آلامه، وفضحته في الهوى ~~أسقامه، أدركتها رقة له ورحمة به استحالتا من بعد حبا، وهو رجل ~~يتذوق الأدب، ويحفظ من مصطفى الشعر صدرا، فكان إذا ذكرها وهو ms352 فينا أقبل ~~يروي لنا أحسن ما قال قيس المجنون في ليلى، وأرق ما أرسل قيس بن ذريح من ~~الغزل في لبنى، وأحلى ما قال جميل في بثينة، وأبدع ما شبب كثير في ~~عزة، وكلما لحقه الوله عليها بكى واشتد نشيجه، فيواسيه صدقانه من جميل القول ~~بما يطامن لوعته، ويكفكف دمعته. # وقد بانت لهذا العاشق الولهان خصوصية عجيبة جدا: ذلك أنه لوحظ عليه أنه كلما ~~حدث تهاجر بينه وبين «معشوقته»، راح يلتمس السلو كله في الطعام، ~~فيلحق الأكلة بالأكلة، ويتبع الوجبة الوجبة، إلى أن تعود إلى صلته فيعود إلى ~~الإقلال والتخفيف! وعلى قدر شدة الصرم والإلحاح في الهجر يكون الدسم، وعلى ~~قدر فتوره وضعفه يكون اختيار الأرفق من الألوان! # ولقد جزت يوما بشارع خيرت في طريقي إلى الدار، وكان ذلك بعد انتصاف الليل، ~~فإذا صاحبنا مستو على منضدة في دكان الحاج عبد الرحمن (الحاتي)، وبين يديه صحفة ~~تحمل ستة أرطال أو خمسة على الأقل من اللحم السمين، وهو يفترسها افتراسا، والدمع ~~منهل على خديه، فأدركت لساعتي أن قد تمت القطيعة ولم يبق إلى اللقاء ~~سبيل! فأقبلت عليه أعزيه وأصبره، وهو ينزف من الدمع من عينه، بقدر ما ~~ينزف من اللحم في شدقه، فعذرت الرجل وانصرفت عنه وأنا أدعو الله تعالى أن يرأف ~~بحاله، ويلقيه حسن العزاء! # ويسرف المسكين على نفسه في هذا حتى كاد يكسر عيشه على القضم والخضم، إلى ~~أن بدن واسترخت كرشه، ودعا بالطبيب وأظهره على داخل شأنه، ولما ~~استصعب عليه علاجه، سأل أهله أن ينأوا به عن القاهرة (مثوى الحبيبة) ~~ويعزوه، ويختلفوا عليه بألوان السلوى، لعله ينسى فتصلح حاله، وتعود إليه نحافته ~~وهزاله! # | من خلق الله! ... # يظهر أن عند بعض الناس كثيرا أو قليلا من الشك في أنهم موجودون، أو على الأقل ~~إنهم يشكون في أنهم من ضمن الناس، فهم دائبون جاهدون كل يوم، بل كل ساعة، في جمع ~~الأدلة على إثبات وجودهم، أو على إثبات أنهم ناس من الناس، ومن هؤلاء المساكين شاب ~~حدرت له الظروف مالا ms353 جليلا يهيئ له العيش في أخفض العيش، والتقلب ~~فيما شاء من النعم، إذ كان الإنسان إنما يطلب إكرام نفسه وتنعيمها لإيتاء ~~لذائذها، لا ليثبت بمظاهر الترف وجوده، أو إنسانيته عند الناس! # هذا شاب غير بائن الطول، ولا مفرط لا البدانة، وإن كان مكتنز اللحم متوافر ~~الشحم، ركب على جسده وجه شاحب غليظ، لا ترى فيه ضاحية يستريح فيها النظر، ~~وقد ميزته الطبيعة بعينين حادتين واسعتين تملؤهما أحداقهما، على أنك تراهما ~~ثابتتين في محاجرهما، لا تنحرفان إلى اليمين، ولا تعدلان إلى الشمال، حتى لكأنهما ~~في صورة منقوشة لا في وجه إنسان، وإلى هنا لا أجد على الرجل بأسا، فإنه وإنني وإن ~~صديقي الأستاذ توفيق فرغلي، ومحمد بك رشدي غير مسئولين عن أننا خرجنا كذلك ~~للحياة! أما الباقي فصاحبنا عنه جد مسئول. # لقد أرسل سالفيه حتى حاذتا سفلى شفتيه، ورفع طرفي شاربيه حتى شارفا ~~أعلى وجنتيه، وبالغ في تزيين هذا الشارب وتنسيقه، حتى ما ترى فيه شعرة تميل عن ~~صفها، أو تنحرف عن موقفها، كأنما هو «قره قول شرف» يفتشه قائد عظيم! وقد نصب ~~على رأسه «طربوشا» طويلا استهلك أصله جبينه الدقيق، أما «زره» فقد تأنق في ~~ترجيله وإرسال خيوطه بنسب معينة تزداد كلما تدلت انفراجا، وقد ركب ~~على عينه اليسرى «مونوكل» مؤطرا بالذهب، ودس في فمه «سيجارا» طويلا غليظا، ~~ولست تراه إلا ثانيا معطفه على ذراعه اليسرى ولو نزلت درجة الحرارة عن 5 تحت ~~الصفر، وإن مما يطير نومي أحيانا أنني لم أهتد بعد إلى الوقت الذي ~~يتخذ فيه هذا المعطف كما يتخذه سائر الناس! فإذا التفت رأيته يلتفت ~~جميعا، كأن ما بين رأسه وكتفيه كتلة من الخشب لا تلين ولا تنثني، وذلك كله ~~خيفة اختلال «القيافة» باختلال شعر الشارب؛ أو اضطراب خيوط «الزر»! # وإني أؤكد لك أنني حين رأيته لأول مرة حسبته فارا من لوح «سينما»! # وقد جمعني وإياه يوما شيطان من شياطين الإنس، وما انتظمنا المجلس حتى قال لي: ~~«أقدم لك صديقي الفيلسوف الكبير فلان بك، أفلا تعرفه أو لم ms354 تسمع عنه؟ فقلت ~~تشرفنا، فقال: حسبه فخرا أنه صاحب نظرية «الانعكاسات اللافطرية» فأدركت ~~أن الخبيث يريد أن يعبث! فقلت: وهل يجرؤ أحد على أن يقول في هذا بعد الذي ~~قال أوجست كنت؟ على أنه لم يخرج له من هذه القضية كثير ولا قليل، فقال صاحبي: بل ~~اهتدى إلى ما لم يهتد إليه أوجست كنت؛ بل لقد وفق بين رأي القائلين ~~«بالإبداع التناسبي»، وبين رأي الذاهبين إلى حماية التجارة، فقلت له: إذن لقد ~~خالف رأي لامارتين، فأجاب بل لقد كسره تكسيرا، وأفضنا في هذا، وجلنا في ~~الفلسفة والعلم والآداب استظهارا لتلك النظرية، وهو يوافقنا بالإيماء، ويسرد ~~معنا أسماء لا أدري من أين حفظها، ثم جعل يتقبل منا الإعجاب بتلك العبقرية ~~الفخمة. # ثم قام في رفق وانجلى لوجهه ... وقد ذهب عني أن أقول لك إنه طوال المجلس ، لا ~~يستقر دقيقة واحدة حتى يقوم لبعض شأنه ثم يعود مستمهلا، ولقد تفقدته فإذا هو ~~يمضي إلى المرآة لإصلاح ما عسى أن تكون الكلمة قد ثنت من شعر شاربه، وما عسى ~~أن تكون الإيماءة قد خلخلت من رباط رقبته! أو حرفت من «زر» ~~طربوشه! # ولقد عرفته بعد ذلك واستقصيت أخباره، وتقريت آثاره، فاجتمع لي منها أنه ~~رجل شغف بأن يكون في أولاد «الذوات» فهو يأخذ إخذهم، ويتشبه بهم في شكلهم ~~ودلهم، وفي مشيتهم، وطعامهم، وشرابهم، ولهوهم، وعبثهم، وسائر أطوارهم، فهو ~~يسمع أن ابن فلان باشا «يفصل» الثياب عند ديليا، فيطلب ديليا ويسأله أن ~~«يفصل» له «بدلة» كالتي فصلها أخيرا لفلان، ثم يسمع أن الأمير فلانا ~~«يفصل» عند سيفاد، فيمضي من فوره إلى سيفاد، ويسأله ما سأل ديليا أمس، ثم يرى ~~في إصبع فلان بك خاتما من الزمرد، فلا يزال يتحرى ويستخبر حتى يهتدي إلى الجوهري ~~الذي باعه فيشتري مثله، ويرى فلانا بك يدخن السيجار، فيدور يبحث ويستقصي حتى ~~يهتدي إلى أغلى السيجار، فلا يفارق بعدها فمه أبدا، وما هو «بخرمان»، ولا هو ممن ~~يتذوقون الدخان! ~~••• # ثم هو رجل «شيك» فتراه يطلب جروبي القديم الساعة 10 من ms355 صباح كل يوم، فلا يزال هناك ~~حتى الساعة الواحدة، ثم يركب سيارته إلى «سان جمس» فيتغدى، ولكن ماذا يتغدى؟ ما ~~دلته تحرياته على أن فلانا طلبه أمس، ثم في تمام الساعة الخامسة يكون في ~~جروبي الجديد، وهناك شباب من أبناء «الذوات» متعلمون يخوضون أحيانا في العلم ~~والأدب والفلسفة، فهو يأخذ معهم فيأخذون معه أيضا على النحو الذي رأيت، فإذا كانت ~~الساعة الحادية عشرة، استوى في «الكازينو ديباري»، فدار يبحث عن أي الغانيات راقت ~~الليلة الماضية فلانا بك، أو التي تحدث عنها فلان بك، فأسرع فدعا بها وطلب لها ~~أغلى الشراب! وقرب إليها أفخر الألطاف. # ومن أظرف ما سمعته في هذا الباب ما حدثني به شاب ممن يغشون هذه الأماكن ~~قال: دخلت المكان الفلاني فرأيت منظرا عجيبا، رأيت أبرع الفتيات هناك جمالا، ~~مستوية على منضدة، وبين يديها أفخر الشراب وأنضر الزهر وأبدع التحف، وفلان (يعني ~~صاحبنا) جالس بجوارها وقد ولاها ظهره، أما وجهه كله فإلى الباب، فوقفت ~~وقفة طويلة لعلي أراه ينثني ناحيتها فلم يفعل، فدرت حتى وقفت ~~بإزائها، وسألتها هامسا بالتليانية عن شأنها مع هذا الرجل، فأجابت ضاحكة ساخرة: ~~إننا على هذه الحال من ساعة ونصف! ~~••• # وبعد ففي الناس كثير إذا لم يبلغوا مبلغ هذا الرجل كله، فهم على كل حال لا ~~يعيشون لأنفسهم ولكنهم يعيشون للناس؛، لأنهم شاكون في وجودهم أو في إنسانيتهم، ~~فهم جاهدون دائما في أن يثبتوا وجودهم أو يثبتوا أنهم من الناس. ~~••• # بعد كتابة هذا الكلام وجمع حروفه (على رأي المقطم الأغر)، انتهى إلي أن الرجل مع ~~الأسف، قد لحقه الفقر، وحلت به الفاقة، وركبته الديون، فباع السيارة وكل ~~ما أحرز من كرائم الجواهر ونفيس الآثار، من صنع «كريجر» في باريس وميل في لندن، ~~وسكن في الخارطة الجديدة بعد الزمالك ولم يحتفظ من آثار «العز» إلا بسيجار ~~واحد «يركبه» في فمه ليخوض به في دير الطين، بعد التخطر في شارع المناخ وشارع ~~عماد الدين! # | ما شاء الله! ... # أرى شابا لا أعرف له عملا إلا الطواف بمتون ms356 القهوات، والوقوف على من يعرف من ~~الناس، والتحدث إليهم في الأسباب الدائرة في البلد، فإذا حدث حدث في الهندسة، ~~وكان لإسماعيل سري باشا رأي فيه، وقف بك وطرح عليك الأمر، وكرش وجهه ~~ومط بوزه، وقال في استخفاف واستهزاء: «لم يبق علينا إلا أن يتكلم إسماعيل ~~سري في الهندسة!» فإذا كان الحديث في الطب، وأثر عن علي بك إبراهيم عمل ~~جراحي له خطر، قال لك في تلك الصورة: «لقد هزلت حتى إن علي إبراهيم ~~يتعرض لإجراء عملية جراحية!» فإذا كان الأمر في القانون، وكان لبدوي باشا رأي مأثور ~~قال لك: «ما شاء الله، حتى عبد الحميد بدوي هو الآخر يتكلم في القانون!» وإذا كان ~~الحديث في الأدب وكان للدكتور طه حسين فيه مقال قال لك: «لقد طابت الهجرة من هذا ~~البلد، لم يبق علينا إلا أن طه حسين يتكلم في الأدب؟!» ثم يهز كتفه ويوليك ~~قفاه، ولعله أكرم على الله وعلى الناس من وجهه، وينطلق عنك المسكين وهو يظن أنه ~~قد قضى حق العلم أولا، وحق الوطن ثانيا، وحق التعالي على هؤلاء الذين يسلكهم ~~إجماع الناس في نوابع الدنيا، وتدسى بعد ذلك في فراشه، ولا يكاد يتسع ما بين ~~الأرض والسماء لعبقريته الهائلة! # لست أجد أية غضاضة على العالم في أن يفسح لمثل هذا المسكين في سعادته تيك، ~~ما دام أذاه لا يتجاوز ذلك التصور، وخير أن يبقى في «القسم الخارجي» من أن ~~يجشم الحكومة نفقات طعامه وكسوته وملاحظته في إحدى «السرايات» القائمة في أقصى ~~العباسية! # | غرور ...!1 # إذا لم تكن رأيت عبد الحميد بدوي، أو علي إبراهيم، أو أحمد أمين، أو أحمد شوقي، ~~أو غيرهم من هؤلاء الذين يدوي بعبقرياتهم السهل والجبل، لتمثلوا لك ~~على صور غير صور سائر الناس، وحسبت لهم حديثا غير أحاديث سائر الناس، وأنهم ~~يأخذون في أسبابهم في غير ما يأخذ سائر الناس، وأن فيهم من الزهو، والذهاب بالنفس، ~~والتتايه على الخلق ما يملكهم عن مجالس الناس، إلا أن يتشرفوا عليها ~~تشرفا، فإذا أنت رأيتهم، وهيئ لك ms357 أن تعرفهم وتجلس إليهم، رأيتهم ~~مثلنا في كل شيء، لا يمتازون إلا بالتواضع، وطيب الخلق، وضبط اللسان عما لا ~~يعني من شئون الناس! # وإنك مع هذا لقد ترى شابا أخذ نفسه من الأناقة بأعظم مأخذ، وقد وضع على يسرى ~~عينيه «المونكل»، ورشق بين شفتيه طرف «سيجار» كجذع النخلة وثنى معطفه على ذراعه ~~اليسرى، وجعل يتخطر في الطريق، تكاد تتمزق من حوله الدنيا بما يضعفها من صلف ~~ومخيلة، فإذا جاز بك لا يراك كفؤا لأن يرسل عليك نظره كله، أو نصفه أو ~~ربعه! إنما هي اللمحة الخاطفة يتفضل بها عليك لتعود على معارف وجهه بآثار ~~التتايه والعجب من أن الطبيعة ترسل مثلك إلى الأرض، حتى ليخيل إليك أنه ~~موفد من قبل المريخ «ليفتش» على عالم الأرض، ثم يعود فيقدم تقريره بما ~~ينبغي لهذا العالم المسكين من ضروب الإصلاح! # وتعود إليه نفسه فلا تقع منه إلا على فتى غر جاهل مفتون، سائل الخلق، ~~متزايل الشمائل، لا أثر له في الدنيا إلا أنه مستهلك لا فضل له ألبتة في إنتاج ~~في أية ناحية من نواحي الحياة! # | رجل غريب!1 # أعرف رجلا من أولاد الأعيان أزل له الإرث ثروة جليلة، فما برحت يده تجول ~~فيه بالسفه حتى كادت تأتي على آخرها؛ ولعله بعد قليل ينقل اسمه من «جدول» ~~سادتنا الأغنياء، إلى «جدول» إخواننا الأدباء! # وإني لأخاطر على أن ذهنك يدور الآن في التماس كل أسباب السرف في الدنيا، لعله يحرز ~~أيها الذي يستهلك ثروة صاحبنا، ويقم ماله، في هذه السرعة قما. # وإني لأخاطر ثانيا على أنك لن تقع على السبب الصحيح حتى ينحدر نظرك إلى صميم هذا ~~المقال. # ولا تحسبن الرجل من أهل المكارم يتفقد العافين، ومن تغير لهم الدهر فيجري ~~عليهم الأرزاق، ويصلهم بكريم الصلات. # ولا تحسبن الرجل متبذخا في عيشه يلبس الحرير والديباج، ويركب الجياد الفارهة ~~والسيارات الفخمة، ويسكن القصور يفتحها لصدقانه، والوافدين عليه فيتبسطون على ~~طعامه، ويقلبون أعطافهم في نعمه، فما رأيته قط إلا في ثوب خلق، ولا شهدته قط ~~إلا راجلا ms358 أو «مترما» على رأي الأستاذ الخضري، ولو كره الأستاذ السكندري، ولا ~~أعلم أنه سكن في غير بير المش! أو كفر الزغاري أو درب الوطاويط! ثم هو لا يستريح ~~من الناس إلى صاحب، ولا يأنس بخليل. # ولا تحسبنه مقامرا، ولا مضاربا، ولا مستهترا بشراب، ولا ممن يتخذون ~~الخليلات فيسخون بكرائم الأموال في حليهن وأسباب زينتهن، ولو أتى هذا على كل ~~ما ملكت أيمانهم من جليل الأموال. # وأخيرا فلا تحسبنه معتوها يتغفله الشطار، فيستخرجون ماله بوجوه «النصب» ~~وأسباب الحيل، لا تحسبنه شيئا من ذلك، ولا تظنن أن ثروته تبتذل في مثل ~~هذه الوجوه المأثورة عن تعساء الوارثين ...! # كل خطب الرجل أنه يحب القضايا ويكلف بها كلفا شديدا، ولست أبالغ إذا ~~قلت لك إن غرامه بالقضايا وبالتقاضي يرجح على غرام المجنون بليلى، وابن ~~ذريح بلبنى، وروميو بجولييت. # هو مغرم بالقضايا غراما يسيل الكبد، ويمزق شغاف القلب تمزيقا، يحب القضاء ~~ويحب التقاضي، ويحب المحاكم ويحب المحامين، ويحب المنازعات ويحب الخصوم أيضا، ويا ~~ويل الأرض منه والسماء إذا لم يجد مدخلا لخصومة، ولم يصب مدرجا إلى المحكمة، ~~ولم يلف وسيلة يشاغب بها الناس أو يشاغبه بها الناس! فإذا طلع عليه نهار ~~وليس له فيه قضية فوا حر قلباه! فما الصب كشحه كاشح في هواه، ولا «المجنون» وقد ~~ملك عنه العاذل ليلاه، بأشد منه حرقة ولا أفدح وجدا. # وهو رجل لا يصبر على الأذى، ولا ينزل على الضيم، ولا يسلم نفسه لطوارق الأيام، ~~ففتق له العقل أن يتخذ ذخيرة من القضايا # stock # يكفي بها الإعواز ويتقي بها - وقاك الله ~~- شر الحاجة، فجد واجتهد حتى أجد ثمانمائة قضية دفعة واحدة، فرقها على ~~ألوان المحاكم: أهلية وشرعية ومختلطة، جزئية وكلية واستئنافا أعلى، وفرض كذلك ~~نصيبا لمحاكم الأخطاط، والمحاكم القنصلية، ولم ينس المجالس الملية، بحيث ~~يستمتع كل يوم ب 10-15 قضية إذا حسبت حساب «التأجيلات»، وبحيث إنه - لا سمح ~~الله - كلما انتهت قضية صنع بدلها قضية، حتى تظل الثمانمائة وافرة لا تكلم ~~على الأيام! # وإنك لتراه خارجا من محكمة الأزبكية، مسرعا ms359 يطلب محكمة مصر الكلية، ثم ينكفئ ~~منها إلى المحكمة الشرعية، فإذا كانت الساعة الحادية عشرة، «استقل» قطار «بورسعيد» ~~إلى محكمة بنها، فإذا يسر الله ونظرت قضيته أو قضاياه سريعا أدرك القطار ~~المفتخر ليحضر قضاياه في طنطا، «والبركة» في المحامين في حضور باقي المحاكم لتولي ~~سائر قضايا اليوم، هذا رزقه في «الماتينيه»، أما في «السواريه» فهو من الساعة ~~الثالثة بعد الظهر مغذ في طلب مكاتب المحامين: أهليين وشرعيين ومختلطين، فيظل ~~يحاورهم ويناقشهم في قضايا الغد حتى يفرغ منهم أو يفرغوا منه بانقضاء المواعيد، ثم ~~يمضي ومن خلفه غلاماه يحملان خريطتين مشحونتين بالأوراق، فيطلب أحد المقاهي ~~الهادئة، فيستوي في ركن منه إلى منضدة، ويقبل على أوراقه يهيئ دفعا فرعيا في هذه ~~القضية، وقضية استرداد لهذا الحجز، وطلب رد لهذا القاضي، وإشكالا في هذا الحكم، ~~ودفعا بعدم اختصاص تلك المحكمة إلخ إلخ إلخ. # وأنت في هذا كله لا تراه إلا طربا طرب العقاد حتى حين يسيل في «تقاسيمه» ~~فيستثير المرح والإعجاب! ~~••• # ولقد لقيته مرة في فترة العطلة القضائية، فرأيته متخاذلا لقس النفس، فقلت له: ~~كيف حالك يا فلان؟ فقال: «زي الزفت!» قلت له: ولماذا؟ فقال: «الحالة نايمة ولا فيش ~~شغل!» # وصادفته في القطار يوما في طريقي إلى «بورسعيد»، فلما جزنا محطة منيا القمح، ~~وقعت عينه على محكمتها «الجميلة» الواقعة على بحر مويس، فسألني عن ذلك البناء، ~~فقلت له: إنه المحكمة الأهلية، فتغزل في موقعها قليلا ثم قال «والله الواحد حقه ~~يشتري له هنا قد فدان ولا نصف فدان»، فقلت له: «وما حاجتك إلى هذا ولك في بلدك مئات ~~الفدادين؟» فقال: «علشان الواحد يبقى ييجي ويتسلى بكام قضية هنا!» ~~••• # هذا رجل، وهذا غرام، وتلك ثروة، فسبحان من قسم العقول، وسبحان من قسم ~~الحظوظ! # ناظر وقف جده ...! # أقسم لكم، يا معشر القراء، بالله العظيم، وبنبيه الكريم، وبحق زمزم والحطيم، ~~أن هذا الذي أرويه لكم حق يقين، لم تشبه مبالغة، ولا تداخله ~~تندر، ولا عولج من التخييل، بكثير ولا قليل! # وقعت لي أمس رقعة زيارة (كارت ms360 فيزيت)، وقد طبع عليها: # فلان الفلاني # ناظر وقف جده # وليس لدي على هذا بحمد الله أي تعليق! # | إقناع معدة ...! # أعرف شابا من ذوي البيوتات ذكيا غنيا، يضطرب دخله بين الثمانية الآلاف ~~والاثني عشر ألف جنيه في كل عام «عدا وظيفته التي يجريها عليه المنصب في كل شهر»، ~~وهو فوق هذا ظريف حاضر النكتة، وأنه ليعرف كيف يصوغها بالقلم كما يحذق إطلاقها ~~باللسان. # وإذا أنت لابسته واطلعت على دخيلة شأنه حير رأيك فيه، فما تدري أهو ~~أكرم الناس أم أبخل الناس؟ # والواقع أن مما يغلط فيه سواد الناس، ظنهم أن البخيل من لا يجود بالمال، ~~ومن تغلب عليه عادة الشح به، وشدة الحرص عليه، وأن السفيه من لا يعتد ~~بالمال، ومن يبادر إلى إتلافه ما وقع إلى يده، وقد دلت المشاهدة على أن هذا على ~~إطلاقه غير صحيح، فإنك لتجد في الناس من يحرص على الدانق، ويضن حتى في موضع ~~المروءة بالسحتوت، وتجده نفسه لا يكترث بالآلاف، ويعمد في غير حاجة، إلى السرف ~~والإتلاف، وذلك شأن صاحبنا الذي أومأنا إليه في مستهل هذا الكلام: ولقد يعلم أن ~~من عماله على ضياعه من يفتلذ من غلاتها الآلاف فلا يكرثه الأمر ~~ولا يعنيه، ولقد يولم لأصحابه، بل لمن لا ترتبطه بهم الصداقة القوية، فيقرب إليهم ~~أشهى الطعام، وأفخر الشراب، ويسمعهم أحذق المغنين، وقد يدعو لهم بفاخر الطرف ~~وغالي الألطاف، ثم تراه في غده يشح بالدرهم، ولو سئله لتغير وجهه وتقلصت ~~شفتاه، وظهر عليه من الكزازة والكيص ما لا يرضى به لنفسه أحد في الدنيا، ولقد يكون ~~في المجلس المونق، يغمره لطف الحديث أو حلو الغناء، فينتفض عنه فجاءة زاعما أنه ~~قائم لبعض شأنه «وما به من حاجة»، ولكنه إنما يطلب مرافق الدار أو المقهى ليشعل ~~سيجارة، خيفة أن يفتح في المجلس علبة سجايره، فيتورط في الميل بها على من إلى يمينه ~~أو من إلى يساره! # ومن عجيب شأنه في حسابه أنه قدر لنفقته اليومية الخاصة قدرا لا يعدوه ~~أبدا، فجعل لسجايره عشرة قروش ms361 مثلا، ولنزهته عشرين، ولعشائه خمسة عشر إلخ، ~~فإذا اختل حسابه بالزيادة في أحد هذه الأبواب، التمس القصد في غيره والتعويض من ~~سواه، وراح يجري ألوان التعديل في أبواب «الميزانية»، حتى لا يزيد الخارج في ~~النهاية درهما واحدا، فإذا ازدادت نفقة الطعام قرشين مثلا عوضها من باب ~~«البنزين»، فرد السيارة من مطلع شارع الهرم، وإذا زادت نفقة السجاير قرشا ~~مثلا، أسرع إلى «التليفون» فأمر الخدم أن يطفئوا نور الدار، ولا يطلقوا إلا ~~مصباحا واحدا، وإذا تورط في عشرين قرشا لم تدخل في حسابه، اعتل على أحد ~~الخدم فطرده ثلاثة أيام أو أربعة ثم أعاده، وهكذا. # ومن أظرف نوادره في هذا الباب أنه اعتاد العشاء في أحد المطاعم، وكان فيها «حات»، ~~وكانت وجبته في كل ليلة رطلا من الكباب، فلوحظ عليه ذات عشية أنه دعا بنصف ~~رطل فقط، وتبين بعد ذلك أنه تورط في عشرة قروش لم تكن في حسابه، فأراد أن ~~يعوضها «خصما» على «بند» العشاء، فأتى على نصف الرطل، ولكن المسكين لم ~~يشبع، لأن معدته لا تزال تتطلع إلى مزيد! # وهنا تستطيع أن تتمثل أبدع حوار جرى بين إنسان وبين معدته: هو يحاول إقناعها ~~بالحجة الكلامية، بأنها قد شبعت وهي ترد عليه بالحجة الفعلية إنها ما برحت ~~جوعى، فيكر عليها بالدليل العقلي أنها قد أخذت قسطها، واستوفت من الطعام ~~حقها، ويستشهد على دعواه بفلان وفلان ممن لهم في نصف الرطل أو في ربعه مقنع! ~~فتدمغه بتهييج الشهوة وتفتيح اللهوة، وسيلان اللعاب على ما يضطرب به الخدم ~~من صحاف «الكفتة» والكباب، فيباديها بأنها ما دامت قد انحرفت عن سبيل القناعة، ~~وتمردت على رأي الجماعة، فإنه مضطر إلى أن يردها إلى حدود الطاعة، بإنزالها على ~~المخمصة وتعذيبها بطول المجاعة! # فتجيبه في عزة واستكبار، وعزم لا يطاوله وعيد ولا إنذار: إذن أهد حيلك، ~~وأؤرق ليلك، وآخذك عن نفسك، فما تدري أفي يقظة أنت أم في منام، وحقيقة ما ~~ينتظر لك من ألوان الطعام، أم هي أضغاث أحلام! ~~••• # ولما أعنتته بطول نشوزها على رأيه ms362، وشدة تمردها على حكمه، جمع كل ~~عزمه، وشد مجامع أعصابه، وتنحنح وتسعل، ثم استمكن من كرسيه، وأعلن في ~~صراحة وحزم، أنه قد شبع والحمد لله! # ولكي يضع معدته أمام الأمر الواقع كما يقولون، دعا بفنجان قهوة «سادة» وشربه ~~ولعق ما ترسب في قراره! وجعل يتشاغل بالحديث عن المقيم المقعد من أمر تلك المعدة، ~~عليها خيبة الله! # ثم أطرق إطراقة طويلة لم يدر حاضروه ما علتها، ثم بان أنه يحاول المعدة ~~ويصاولها، ويصابرها ويطاولها، وما زالت حجتها عليه تقوى وتشتد، وسطوتها به تقسو ~~وتحتد، وما زال عزمه أمامها يضعف ويتخاذل، ويسترخي ويتزايل، ويظل على هذا قرابة ~~عشر دقائق، ثم إذا هو يهب فجاءة ويصفق، حتى إذا أقبل الخادم، عاجله بطلب ... ~~«واحد رز»! # ويحسن أن أقول لك: إن ثمن صفحة الرز في ذلك المطعم هو قرش صاغ واحد ولله في ~~خلقه شئون! # ملحق ... # ومما يتصل بهذا الباب، ويضم إلى هذا الجنس، حديث «فلان بك» رحمه الله، ~~وكان معروفا بسعة العلم، وشدة العقل، وكان شديد البخل، قاسيا في الضن على ~~النفس، وقد ألحق في شباب سنه بخدمة الحكومة ويده لاصقة بالتراب من شدة ~~الفقر، فكان يدخر وظيفته الشهرية كلها إلا ما يكفي لشراء رغيف «وطعميتين» ~~كل يوم، وأما الثياب فلا يكفي لتغييرها أن تحول، أو يلحقها النصول، أو أن ~~تبلى خيوطها، أو أن تتخرق عروضها، فهو لا يتركها بل هي التي تتركه حين ~~يدركها الفناء، فتطاير عنه تطاير الهباء، وعاش كذلك يجمع الدرهم ~~إلى الدرهم، ويضم المليم إلى المليم، حتى اجتمع له في غاية عمره نحو أربعمائة ~~فدان من أجود أطيان الدنيا، وحوالي عشرة آلاف الجنيه، أرضخها للوارث نقدا ~~وعدا. # وليس شيء من كل هذا بعجيب، إنما العجيب ما استكشف من خلاله في مؤخرات ~~سني حياته، ذلك أنه ظهر - بحكم إحدى المصادفات، وللمصادفات أبلغ الفضل ~~فيما يجري في هذا العالم من وجوه المستكشفات - أقول ظهر أن الرجل لم ~~يكن يحب المال ولا يحفل به، ولا يعنيه أن يجتمع له منه كثير ولا قليل ms363، ذلك ~~أن كل هم الرجل وكل خلته أنه لا يحب المتاع، ولا يطيق التقلب في النعمة، ~~فإذا أكل أصاب أيسر ما يمسك الحوباء، وإذا لبس ففي ستر الجسم ~~بالخلق غناء، وإذا استصبح تغنى بالزيت، وإذا أوى استغنى بالكوخ عن البيت، ~~فهو إذا جمع بعد ذلك المال، فليس يجمعه لحب فيه أو شهوة إليه، وإنما يجمعه ~~لأنه لا يجد له مفيضا عن الكفاف وهو غاية مناه! # قلت لك إن هذه الخلة قد استكشفت في أخريات سنيه، وذلك أن بعض من ~~يحملهم لاحظوا بعد طول ما أعتروا به من ضيق الحياة وشظف العيش في كنفه، أنه ~~لا يضن عليهم بشيء مما يطلبون من الأموال، بالغة ما بلغت، على شرط ~~أن يستأثروا بالمتاع بها وحدهم، فلا يشركوه في طعامهم، ولا في شرابهم، ~~ولا يفرغوا عليه مثل أرديتهم، ولا يرقدوه على مثل فرشهم، ولا ~~يدخلوا عليه شيئا من رفاهيتهم ولين عيشهم! ~~••• # بقيت هنالك مشكلة، وهي أنهم يحبون أن يستصبحوا بالكهرباء، وهو لا يطيق أن ~~يطلق النظر على ضوئها، فكيف الحيلة في هذا الإشكال؟ لقد ظلت المشادة ~~دهرا بين الطرفين، حتى عرض هو حلا معقولا: ذلك أن يستأجر لهم دارا في حي ~~المنيرة ذات غرف وأبهاء، ليزينوها بما شاءوا من ثريات الكهرباء، على أن ~~يدعوه في مثواه ببير المش، يستصبح بالزيت ويفترش القش! ~~••• # في الحق إن المؤلفين في علم الأخلاق في حاجة إلى مراجعة كتبهم لاستقصاء ~~مثل هذه الأحوال، وضبط الكلام فيما تدل عليه من الغرائز والخلال. # | اقتصاد سياسي! ... # «فلان بك»، عليه رحمة الله، قضى ولم يتشرف بعد على الخمسين، وكان يعيش في ~~هذه الدنيا فردا، فلا أم ولا أب، ولا زوج ولا ولد ولا خادم، وكان واسع ~~الغنى وافر المال، على أنه قد حبس ما في يديه من النقدين على إقراض ~~المحتاجين، ولا يقرض منهم إلا موظفي الحكومة، فيخرج الجنيه بريال يستحق في أول ~~يوم من الشهر القابل، سواء أأقرضه في أول يوم من الحاضر أم في 15 أم في 27 منه، ثم ~~هو لا يعقد ms364 السلفة إلا إذا أخذ توكيلا من الموظف المقترض بقبض راتبه عنه، فإذا فضل ~~منه بعد استيفاء القرضة شيء رده إلى صاحبه، وكان في ذلك، والحق يقال، أمينا ~~شريفا. # وأعرف موظفا مستهترا كان في وزارة «...» وألحت عليه الحاجة إلى العبث في يوم 22 ~~من الشهر، وسأل صاحبنا قرضا بخمسة جنيهات يؤدى، على العادة في أول الشهر ~~التالي ستة، فتثاقل عليه، وكلما ألح صاحب الحاجة ازداد صاحبنا تعللا، ~~وأخيرا وبعد طول مفاوضات ومساومات، عقد القرض بالشروط الآتية: # بند 1: # مبلغ القرض خمسة جنيهات مصرية تدفع ستة في أول يوم من ~~الشهر التالي من ماهية الطرف الأول بمقتضى توكيل منه للطرف ~~الثاني. # بند 2: # يشترك الطرفان في إنفاق هذا المبلغ في اللهو والعبث في ~~الأماكن التي يعينها الطرف الثاني بدون معارضة من الطرف ~~الأول. # بند 3: # للطرف الثاني الحرية المطلقة في إنفاق المبلغ كله في ليلة ~~واحدة أو أكثر. # بند 4: # أمانة الصندوق من حق الطرف الثاني. # ونفذ العقد بجميع شروطه من المتعاقدين معا. ~~••• # ولهذا «البك» رحمة الله عليه، رقعة واسعة في أحد أطراف مدينة القاهرة، ولا ~~أعينها لكيلا أعينه، ويقع في وسطها تل مرتفع يصعد إليه بدروب من جميع ~~أقطاره، وقد بنى عليه مئات من البييتات، اتخذ سكناها رعيل من النساء اللائي جرى ~~عليهن القدر باتخاذ أتعس المهن، وقد أطر هذه الرقعة الواسعة من جانبيها ~~اللذين يقعان على شارعين حافلين بما لا يحصى من الدكاكين، وأرصد كل واحدة منها ~~لصاحب مهنة خاصة. # فالدكاكين رقم كذا ورقم كذا لا يؤجرها إلا لمزينين، والدكان رقم كذا لكواء، ورقم ~~كذا لقصاب (جزار)، ورقم كذا لخضري، وأخرى لبقال، وغيرها لبدال، وغيرها لحات، ~~وسواها لطباخ، وغيرها لفوال، ولسمكري، ولحداد، ولخياط، وهكذا مما يستوفي مطالب ~~الناس في أسباب معايشهم، ولو قد خلت دكان من هذه الدكاكين، فجاء صاحب حرفة أخرى ما ~~أمكنه منها، ولو أضعف له كراءها ثلاثة أضعاف. # فإذا كان الصباح انطلق إلى دكان اللبان أو الفوال، ووقف بصاحبها وناداه: يا حج ~~أحمد، أو يا عم مصطفى: هات الأجرة «وفي لسانه لثغة ms365 تخرج الراء بين الراء والطاء»، ~~فيجيبه الرجل: «يا فتاح يا عليم، رايح أجيب لك الأجرة دلوقت منين؟ إحنا لسه ~~استفتحنا يا سعادة البيه؟»، فيحتد «البك» ويصيح في وجهه: إذن تحول «يالله ~~عزل»، فلا يزال الرجل يستعطفه ويترضاه، حتى يستدرجه إلى منضدة، ويقدم له اللبن ~~الحليب وطبق القشطة، أو الفول المدمس معالجا بالزبد، وما يبرح يبالغ في إلطافه ~~وإيناسه حتى ينطلق راضيا بتأجيل كراء الدكان أياما أخر، ثم يميل إلى صاحب ~~المقهى فيصنع معه ما صنع بالأول، وتنتهي المسألة بتأجيل الأجرة بعد تقديم «كنكة» ~~قهوة «بسكر شوية»، ونرجيلة، حتى إذا بلغ من ذلك حظه، قام فعدل إلى الحلاق فطالبه ~~بالأجرة، وانتهى المشكل بحلق رأسه أو إحفاء لحيته، وتطييبه وتعطيره! # فإذا انحرفت الشمس عن كبد السماء، انخرط إلى «الحاتي» فطالبه بكراء الدكان، فيعتذر ~~بضيق ذات اليد «ووقوف السوق» فيكرر عليه، في حدة وحزم، طلب الأجرة أو التحول ~~(العزال) من غده، والرجل يطامنه ويستعتبه حتى يرضى بالاستواء إلى إحدى المناضد، فما ~~هو إلا أن يجد بين يديه رطلا من الكباب وآخر من «النيفة»، وألوانا من الكوامخ ~~والمشهيات، فإذا أصاب من ذلك كفايته، مضى إلى الحلواني، فانتهى الأمر بقطعتين من ~~الفطير وثلاث من «الهريسة»، ثم قام إلى الفاكهاني، فأصاب ببركة تأجيل دفع الأجرة ~~ما شاء من تفاح وموز وعنب. # فإذا كان المساء أعاد الكرة، ولكن على غير من اعتراهم في نهاره، وللكواء يوم في ~~غسل الثياب وكيها، وإذا انصدعت أنابيب المياه في البيت أو فسدت صنابيرها، ~~فهناك السباك، وهناك الزجاج لما يتكسر من زجاج الشبابيك، والنجار لإصلاح ما ~~يتصدع من الأبواب، وهكذا! ... # فإذا أراد الشراب في إحدى لياليه طلب حانة أنستي أو بندلي، وهما من سكانه ~~أيضا، وصنع مع الأروام ما يصنع بأبناء البلد. # ولعله إذا كانت ليالي الجمع صعد إلى أعلى التل فاقتضى سكانه المساكين الأجرة أو ~~... «العزال» ...! # رحمه الله رحمة واسعة؛ وعزى «الاقتصاد السياسي» فيه أحسن عزاء! # | في البخل! ... # قرأت كتاب «البخلاء» للإمام الجاحظ أكثر من مرة، ومما وقع لي فيه أنه ms366 ما من رجل ~~مبخل، إلا يحتج للشح والتوفر على الجمع، بالضن بالولد على الفقر، وترك ما ~~يدفع عنهم الحاجة والابتذال في طلب القوت. # ولقد دمغ الجاحظ احتجاجهم هذا بحجة رائعة، وتلك أن الخصيان (الأغوات) جميعا يشيع ~~فيهم الشح، وتغلب عليهم شهوة الجمع والادخار، والضن على النفس بالدانق ~~والسحتوت، وليس لأحد منهم ولد، ولا يمكن أن يكون له ولد! فلمن يكنز الأموال؟ ولمن ~~يضيق على نفسه في حياته، ليوسع عليهم ويرفه عنهم بعد مماته؟ # الواقع أن شهوة الحرص وجمع المال، هي في نفسها عند البخيل لذة لا يكاد يعدلها ~~شيء من لذائذ الدنيا، هي في نفسها لذة غير موصولة بعلة، ولا ممدودة بسبب؛، لأن ~~الإنسان إنما يحب ولده لأنه يحب نفسه، وولده بعض نفسه، ولا يعقل أن يؤثر ~~الفرع على الأصل، أو يرجح البعض على الكل ! # والبخيل يقتر على نفسه وعلى ولده معا، وقد يكون عنده من جليل الأموال ما إن ~~وسع منها على نفسه وعلى عياله معا، لبقي منها بعد موته، ما يتضمن لهم العيش في ~~السعة، والتقلب في النعمة، ومع ذلك فإنه لا يفعل، بل تراه يتعمد الحرمان لنفسه ~~ولأولاده، ويثبت لحقدهم عليه، وتعجلهم لأجله، ليستمتعوا بالنعمة إذا هو اندس ~~في التراب، وأضحى أكيل الدواب! # على أنني وقعت على لون من البخل، لعلك كنت تراه غريبا، وأحسبك الآن تراه غير ~~غريب: فلقد جرت سنة البخلاء على أن يقتروا على أنفسهم وعلى عيالهم معا، ~~فإذا كان لولد أحدهم شيء من السطوة عليه استخرج منه الأموال، فأخرجها له مرغما ~~مغلوبا، لا إيثارا للولد، وبقي هو في شحه على نفسه، ارتكابا لأخف الضررين ~~«التوسيع على النفس وعلى الولد معا»! # أما النوع الذي وقعت عليه من البخل، وتحسبه غير مألوف، فلقد كان لي صاحب ~~علت به السن، ورزق الضدين (الغنى والعيلة)، فقد اجتمع له من زوجاته ~~الثلاث، ما لا يقل عن اثني عشر ولدا، ولا بد له رضي أو كره، من أن يحملهم، وكان ~~رحمه الله رجلا شديد الحرص عظيم الطمع، يجمع الدانق ms367 على الدانق، ويرص المليم على ~~المليم، ولا يكاد كيسه يتفصد إلا في بناء دار أو شراء ضيعة، ولكنه كان يخالف ~~سنة البخلاء في خلة واحدة: ذلك بأنهم، كما تعرف، يقترون على أولادهم وعلى ~~أنفسهم معا، ولكن هذا إنما كان تقتيره موجها على عياله وحدهم، أما نفسه فكان لا ~~يحقن فيها شهوة، وبخاصة شهوة الطعام، بل لقد كان يبلغها من هذا غاية مناها! # وكان رحمه الله إذا سافر ركب من القطار في الدرجة الأولى، أما أولاده فيشحنهم ~~في «الترسو» أو ما دون «الترسو» لو كان له دون! وإذا لبس فمن «تفصيل» ديليا أو ~~فستا، أما بنوه فعليه أرخص القماش، وعلى أمهاتهم «التفصيل»! وإذا نام افترش الحرير، ~~وتوسد ريش النعام، أما البنون، ففي «الكليم» متسع للجميع! # أما الطعام، وما أدراك ما الطعام! فالخبز أولا يصنع في البيت كل أسبوع، على ~~ألا ينفى من الطحين إلا النخالة، وسائره للعجين! وأما الإدام فهيهات للحم أن ~~يزور داره «العامرة»، فلقد أخذ بنيه في هذا الموضع بالورع وجلا عليهم الحكمة في ~~الحديث الشريف: «نعم الإدام الخل»، فللغداء الكوامخ (السلطات) أشكالا وألوانا، ~~و«لأم الفلافل» وأخواتها من الخوان المقام الكريم! # وأما العشاء، فله فيه صنع بديع! # يدخل وقت العشاء، فإذا صاحبنا قد سلف وأعد بعدد الأولاد ~~ملاليم. # فإذا اجتمعوا إليه مستشرفين لعشائهم، قال لهم: «اللي ياخد مليم ما يتعشاش؛ واللي ~~يتعشى ما ياخدش مليم! مين اللي ياخد مليم؟»، ويدفع أحدهم فيقول: «أنا!» وعلى حكم ~~غريزة التقليد في الغلمان، يسرعون فيتصايحون: «أنا! أنا! أنا!»، فيدفع إلى كل منهم ~~مليمه، وكفاه الله مئونة العشاء! أعني عشاء الأطفال! # وبعد، فللفطور قصة أخرى: ذلك بأنه زعم للزيات القائم على رأس الشارع، أن لديه ~~حملا يربيه ويحب أن يسمنه، ويجزل لحمه وشحمه، وليس يعقد له ذلك ~~ويسرع فيه أفضل من خلاصة # 1 ~~(تصافي) قدر الفول يطعمها في الصباح، فيحتفظ له الرجل «بخلاصة» قدر العصر، ~~ويعبث إليه بها في الصباح الباكر، والأولاد بعد نيام، فيفرغها في صحفة كبيرة، ~~ويعالجها بقدر من الخل، ويصفف حولها ms368 كسر الخبز التي أفضلها الأولاد في غداء ~~أمسهم، حتى إذا هبوا من النوم، وأحشاؤهم تتنزى من شدة الجوع، فتواثبوا إلى ~~الطعام، صاح فيهم: «اللي عاوز يفطر يجيب المليم!»، فلا يسع كلا منهم إلا أن يطرحه ~~إليه، مواتاة لإلحاح البطن، وإيثارا للعافية، فسرعان ما تعود تلك الملاليم إلى ~~عشها، وتعتصم بوكرها! ~~••• # أما هو نفسه، فإنه يخرج في الصباح من داره على الطوى، فيميل في طريقه إلى الديوان ~~على دكان لبان، فيصيب فيه ما شاء الله أن يصيب من الحليب، أو اللبن الخاثر ~~(الزبادي)، أو «القشطة»، وقد يميل إلى «حلواني»، فيصيب عنده ما شاء الله أن يصيب من ~~لبن وشاي، وفطائر مدحوة، وأخرى بالفستق والزبيب محشوة، إلخ إلخ، فإذا فرغ من عمله ~~في الديوان، عرج في مقفله إلى الدار، على الحاتي أو على غيره من المطاعم ~~الفاخرة ، فأوصى وتخير، وتبسط على الطعام، حتى إذا سد شهوته، وكظ لهوته، انكفأ ~~إلى البيت راضيا هانئا. # أما العشاء، فإنه يصيب في البيت قبل أن يتدلى إلى السهرة، وذلك أن يبعث الخادم، ~~في سر من بنيه، فيأتيه بقدر كفايته من خفيف الطعام وفاخره، ولا ينسى أن يأتي ~~معه بنصف أقة عنب، أو بزوعة (شقة) بطيخ، أو ثلاث كمثريات، أو غير ذلك من فاكهة ~~الأوان، حتى إذا دسها له في غرفته الخاصة، قام إلى الباب فأحكم رتاجه، وجلس ~~مطمئنا إلى العشاء! # ومن أظرف ما يذكر هنا أن الأولاد، وبخاصة صغارهم، كانوا يرتصدون لهذه الساعة، ~~حتى إذا اجتمع أبوهم للعشاء، تواثبوا إلى الباب «ليتفرجوا عليه» من الثقب، فترى هذا ~~يتوسل إلى أخيه أن يخلي بينه وبين الثقب، وهذا تراه يثب وثبا، ويدفع صاحب ~~النوبة دفعا، وكانت تكون جلبة وصياح وعويل، والأب ممعن في طعامه، لا يعنى ~~بأن يسأل عما وراء الباب! ~~••• # وفي يوم موته رحمه الله، لم ينتظر هؤلاء الأولاد حتى يقسموا التركة، ~~ويهتدوا إلى اسم المصرف الذي يكنز فيه «المرحوم» ماله، بل لقد كنت ترى أحدهم ~~يهرول في الطريق وعلى رأسه «شباك»، والثاني وعلى كتفه مصراع باب ms369، وثالثا يحمل ~~بين يديه طستا، ورابعا يحمل مقطفا ملئ بالصنابير (الحنفيات) وهكذا! ... # فهل هذا أيضا كان يجمع للولد ليعصمهم من الفقر، ويكف عنهم عادية ~~الدهر؟! # | أصحاب اللقط والتعويض! # تلقيت أمس الكتاب الآتي: # حضرة محرر اليوميات # أرجو إن سمحت، أن تنشر خطابي هذا وتتفضل بالإجابة عما عزب عن ~~علمي، وتحير في تعليله فهمي، ولك الأجر والثواب، من الكريم ~~الوهاب: # روى لنا التاريخ أن السلطان «سليم» كافأه الله بما يستحق، لما تم له فتح ~~مصر واعتزم القفول إلى بلاده، فيما جمع أمهر الصناع وأحذقهم، ممن لا ~~تزال آثارهم في المساجد، والأسبلة، والرباطات (التكايا)، وما حوت ~~المتاحف، ناطقة بما بلغت مصر من علو الكعب، والبراعة البارعة في ~~مختلف الفنون والصناعات، وبلغت عدة هؤلاء المفتنين ~~والصناع في رواية بعض المؤرخين عشرة آلاف، وزاد بعضهم عليها، ونقص ~~بعضهم منها، وأشد المؤرخين قصدا من قدرهم بألف، وعلى كل حال فقد ~~انحطت الصناعة على أثر ذلك في مصر واضمحل منها كثير. # على أننا، لأول عهدنا بالحياة، شاهدنا كثيرا من الصناعات البلدية ~~تعالج كلا منها طوائف من الناس، ويتخذ كل أرباب حرفة، وبخاصة في ~~القاهرة، رقعة معينة، فصناع القرب مثلا في القربية، وصناع ~~الأحذية البلدية (المراكيب) في السروجية، وصناع الشمع في السكرية، ~~وخراطو الخشب تحت الربع، والقرادون (القرداتية) في حوش بردق، ~~«والأدباتية» والحواة في «عشش الترجمان»، والشحاذون في عرب اليسار إلخ ~~إلخ. # وما برحت هذه الحرف تنقبض وتضمحل رويدا رويدا، بما يهجم عليها ~~من مصنوعات الغرب وأسبابه، فحلت «السيارة» محل البغل، ومياه ~~الصنابير (الحنفيات) محل قربة السقاء، و«السينما» محل خيال ~~الظل، وموسيقى الأروام التي يطوفون بها المقاهي، محل جوقة «ألا يا ~~بدر لم أنظر مثالك»، واللاعبون من أولئك بالكمان محل «رمز» إلخ ~~إلخ. # ولم يبق ثابتا قويا على الأيام إلا طائفة الشحاذين «والبركة ~~فيهم»! # وكل هذا لسوء الحظ معقول مقبول، ما دامت سنة الكون واحدة لا تتبدل ~~ولا تتحول، وهي بقاء الأنسب، وعدم ثبات الضعيف أمام القوي. # ولكن الذي لا يعرف سببه، ولا تفهم علته، زوال مهنتين ms370 ~~قويتين كانت تحتكر كلا منهما أسرة واحدة! والأسرتان كلتاهما ~~كانتا تسكنان حارة اليهود. # وفاتني أن أذكر لك أن هاتين المهنتين كانتا تدران الرزق على ~~أصحابهما، فكانوا يعيشون في أوسع عيش، ويتقلبون في أنضر نعمة، ألا وهما ~~طائفة «الملاقياتية»، وطائفة «التعويضجية»، وكذلك يدعون في عرف ~~العارفين. # وأفراد الطائفة الأولى، كانوا يخرجون بعيد انصداع الفجر، فيتقسمون ~~بينهم مناطق حي الأزبكية: هذا يطلب ميدان إبراهيم باشا، وهذا يطلب شارع ~~«وجه البركة»، وهذا شارع «كلوت بك» إلخ، فإذا بلغ الواحد منهم أول ~~المنطقة مشى وئيدا، وهو متكفئ يحدد نظره في الأرض، ويتفقد كل ~~دقيق على ظهرها، حتى إذا انتهى إلى آخر المنطقة، عاد في خط مواز ~~للخط الذي قدم منه، ولا يزال كذلك رائحا غاديا في خطوط متساوية، ~~فعل الحراث في الأرض، وكلما أصاب لقطة من كيس أو دينار أو درهم ~~أو حلية، أسرع فالتقطها ودسها في جيبه، ثم عاد إلى داره يعيش ~~أخفض العيش، بفضل هذا الغنم الذي لم يجشمه إلا ما رأيت! # أما «التعويضجية» وكفاك الله السوء، وعصمك من المكروه، فهم أكثر من ~~إخوانهم مالا، وأوسع نعمة، وربما رأيت فيهم من يلبس الحرير، ~~ويتختم باليواقيت، ومن يحوز السيارة، ويقتني خيل السباق، ذلك أن ~~مهنتهم الاستهداف - بقدر ما - للأخطار، والتعرض لألوان من الأذى، ليقتضي ~~المكلوم على ما حل به التعويضات، فتراه يقف على سلم الترام ~~مثلا، حتى إذا أغذ السير قفز منه إلى الجهة المعارضة فشدخ ~~رأسه، أو رض كتفه، وإذا أبصر بسيارة مقبلة تغفل سائقها فسنح ~~«لرفرفها» فخمش ساقه، وإذا أصاب جماعة يلعبون «بالبليارد» جلس خلف ~~أيسرهم حالا، وحرر عينه لكعب العصى «الأستيكة» وهي مرتدة عن ~~مضربها، وهكذا، وإما الصلح بعد هذا، وإلا فالقضاء لطلب ~~التعويض! # فما علة انقراض هاتين المهنتين؟ إنني في انتظار الجواب. # وتفضل ... (م) ~~«اليوميات» أؤكد لك يا سيدي أنني لا علم لي بشيء مما ذكرت، على أنني سأبحث ~~الأمر وأجيبك بكل ما أحصل من العلم فيما سألت، على أنني من الآن ألفت نظر ~~جمعية تنشيط الصناعات الوطنية إلى ms371 هاتين المهنتين، فلعل فيهما مرتزقا لهؤلاء ~~الذين ضاق بهم العيش فركنوا إلى التبطل، أو نشطوا إلى الاتجار في السموم الكاوية ~~من الكوكايين والهاروين، وموعدنا إن شاء الله بالبيان قريب. # | رزق ...!1 # وكان # صلى الله عليه وسلم # يمزح ولا يقول إلا حقا، وسأمزح أيضا ولا أقول إن شاء الله إلا ~~حقا، وكيف أتفرج من همي بمثل هذا؟ ولا أحسب القراء إلا أطلب مني لمثل هذا ~~الفرج! # على أنني لا أكون مصورا في هذه المرة، إنما أنا ناقل فقط، فليس لي فضل إذا ~~راقتك هذه الصورة، وليست علي تبعة إذا هي عدلت منك عن موضع الإعجاب: من ~~عشرين سنة مضت كان في مصر رجل صاحب نجوم، وعلم بالكف، وزجر الطير، والسحر، ~~والعيافة، وتسخير الجن، واستخراج كنوز الأرض، وكانت له جريدة جليلة تضرب هذه ~~المباحث، وتشق الطرق بين يدي طلاب الغنى، وأصحاب المنى، فما تترك مرضا إلا ~~تصف له علاجا، ولا تذكر من أغراض الدنيا غرضا إلا تدل فيه أحسن حيلة، ~~وتهدي إليه بأنجح وسيلة، ولكن العلم أمانة! # ولعلوم الغيب أسرار لا يضطلع بها إلا الراسخون من أصحاب الأقدام، فكيف تريدون ~~ابتذالها للدهماء من سواد القراء؟ الحق أن الخطب في هذه المسألة سهل، فإذا وصلنا ~~إلى مواطن السر أغنى الرمز والإشارة، عن التصريح بالعبارة فإذا وصفت الجريدة ~~علاج الصرع وإخراج «إخواننا»، ذكرت لك عقارا أو بضعة عقاقير معروفة تشتريها من ~~العطار بنصف قرش، على أنها لا تنجع في العلاج إلا إذا أضيف إليها نصف أوقية من ~~«السرواق»، وعليك أنت أن تطلبه ولو في جزائر واق الواق! # وإذا هي علمتك استحضار الجن وصرفها، جلت عليك آية مبينة، ودعاء واضحا ~~«وقسما مفهوما»، ولكن هيهات أن تقبل عليك الجن، وإذا هي أقبلت فهيهات أن ~~تنصرف عنك إلا إذا تلوث «القسم» الأعظم، وهو سر تقد دونه الغلاصم ~~وتقطع البلاعيم! # أما فتح مغاليق الأرض، واستخراج ما فيها من معاليق الجوهر والدر والمرجان، والجونة ~~التي تحتوي خاتم سليمان، فعليك أولا أن تتوضأ بنحي من اللبن، ثم تصلي لغير ~~القبلة، وتهمهم ms372 بكيت وكيت، ثم تحرق الجاوي بعد أن تبله بماء الورد البلدي، ثم ~~لن ينصدع بطن الأرض عن كنزك الموعود حتى 57 - 34 - 825 - يانا ... ف ... ك ... يا طانورش ~~... يا شمهورش ... يا عولص ... يا ابن بولص ... - 11 ... 345 ... وفي الناس الصرعى وفيهم ~~الزمنى، وفيهم من ركبته العفاريت الحمر، وفيهم من أعياه طلب الغنى، وفيهم ~~من ألحت على قلبه الصبابة والهوى، وهل لمثل هؤلاء صبر على مطاولة الدهر في حل ~~هذه الرموز، لتسقط ما حجبت السماء من غيب وما أجنت الأرض من ~~كنوز؟ # لا والله ودار الشيخ أقرب، وأجره أسهل وألين. # وكان في مصر فتى يعالج ما كان يعالجه بعض أصحاب الصحف الأسبوعية في ذلك الحين، ~~وطوعت له نفسه أن يشخص إلى الآستانة، لعله يفيد ببعض العبث السياسي مالا، ~~وما كاد يهم هناك بشأنه حتى تناوله المرعب الذكر فهيم باشا «السرخفية»، ~~وزج به في الطابق، فلبث في السجن بضع سنين لا يرى الشمس، لا يحس ~~النسيم، ثم تهيأت له فرصة للفرار، ففر على باخرة كان علاجه للخدمة فيها أجرة ~~سفره عليها، ودخل مصر بسلامة الله آمنا، وعاد إلى مهنته القديمة، فأخرج جريدة ~~أسبوعية، لم تكد تجدي عليه كثيرا من الرزق ولا قليلا، وجعل يتحدث فيها عن ~~«دار السعادة»، وجيش «دار السعادة»، وأسطول «دار السعادة»، والمناصب التي تقلب ~~فيها، وما له عند رجالها من جاه وصوت إلخ إلخ. # كما جعل يتصيد ضعاف الأحلام من طلاب رتب «دار السعادة»، ويدخل في نفوسهم أن ~~له فيها من الوسائل والأسباب، ما يواتيه بكل ما شاء من الأوسمة والألقاب، وأنه كان ~~وسيلة فلان إلى رتبة «الرومللي بيكلر بك»، وفلان إلى رتبة «البالا»، وفلان إلى ~~«العثماني المرصع»، ويستخرج منهم كل ما قدر على استخراجه على هذا الحساب. # وأخيرا اجتمع مع صاحبنا المنجم، وعقدا محالفة دفاعية هجومية كانت آية في اللطف ~~والإبداع، فقد اتفقا على أن يتظاهرا بالخصومة، ويتباديا بالعداوة، وأن يلون كل ~~واحد منهما لصاحبه الشتم والسب والإقذاع، ولكن على الطريقة الآتية: تخرج صحيفة ~~المنجم فإذا فيها: «إن فلانا يدعي أنه كان أقرب ms373 المقربين في دار السعادة، وأن ~~له فيها جاها لا يتسع له جاه، وسلطانا لا يعلو عليه سلطان، وأنه تقلد أرفع مناصب ~~الدولة وتولى أعلى مراكزها! ... ووالله ما عرفنا له جاها يداني جاه صاحب الدولة ~~عزت باشا العابد، ولا سمعنا بأن له كلمة نافذة إلا عند الصدر الأعظم، والسيد أبي ~~الهدى الصيادي، وتحسين باشا باشكاتب المابين، وأمثال هؤلاء، ولا علمنا أنه تقلد من ~~مناصب الدولة إلا أنه كان رئيسا لمحكمة التمييز، فمستشارا لوزارة المعارف، فعضوا ~~في مجلس شورى الدولة، فسفيرا للدولة في برلين، وأي شيء هذا كله؟ فإذا لم يرعو ~~هذا الدعي عن تبجحه، فسيكون لنا معه شأن يخزيه، إذ يندم ولات حين مندم!» # وتخرج بعد يومين جريدة صاحبنا «السياسي» فإذا فيها حملة شعواء على صاحبه المنجم من ~~الطراز الآتي: «إن جريدتنا تترفع عن مجاراة رجل منجم فلكي في بذاءته وقلة ~~حيائه، ولنفرض أننا لم نتقلد من مناصب الدولة إلا ما ذكر، فما الذي ~~تقلده هو من المناصب؟ نظن أنه تقلد علم الفلك، وصفة دوران السيارات، ومجال ~~الكواكب، واستخراج الغيوب، وقراءة الكفوف، ومداواة الأمراض المستعصية بالطرق ~~الشائنة، ونحن نمسك القلم الآن، وننذره عدم العودة إلى هذه الوقاحات، وإلا فنحن غير ~~مسئولين عن كشف مخبآته، وإظهار سوءاته، ومن أنذر فقد أعذر، والسلام!» # وتخرج صحيفة «المنجم» على رأس الأسبوع فإذا فيها «يهددنا صاحب جريدة ... بكشف ~~مخبآتنا، فليكشفها فنحن لا نخشى أمثاله، ولكن ليقل لنا هو عما يخدع به ~~الأغرار والمفتونين؟ يدعي هذا الدعي أنه يأتي للناس برتب الدولة وأوسمتها، ما ~~شاء الله؛ فهل يستطيع أن يأتي بأكثر من رتبة «بالا»، أو «رومللي بيكلر بيك»، أو ~~المجيدي الأول، أو العثماني الثاني، وأي شيء كل هذا؟ وفي استطاعة مثل ناظم باشا أو ~~عزت العابد باشا، أو باشكاتب المابين، أو حتى السيد أبي الهدى أن يأتي بمثله، فإن ~~كان يدعي في دار السعادة جاها حقا، فليجئ لأي كان برتبة الوزارة أو بنيشان ~~الامتياز المرصع، ونحن ننصح لكل من يستهويهم هذا الرجل من طلاب هذين الإنعامين ألا ms374 ~~يصدقوه، وقد أديت حق النصيحة، «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا ~~بالله».» # وتخرج صحيفة صاحبنا «السياسي» بعد يومين، فإذا هو لم يبق لصاحبه من فنون الشتم ~~ولم يذر: «مكانك أيها الرجل، وإلا بلغنا عنك النيابة، فما زلت تغش ~~المساكين وتخدعهم: تدعي أنك تبرئ من العمى، فهل لك أن تدلنا على حادثة واحدة ~~أبرأت فيها أكمه واحدا؟ # 2 # وتقول إنك تخرج ~~العفاريت، سلمنا! فهل تستطيع أن تسخر الجن أيضا؟ وإذا سخرتهم، فهل ~~تقدر على التصرف في سلطان الجن والأزرق؟ فإن أجبت بالإيجاب، فأنت غاش كذاب! ثم ~~تدعي أنك تستخرج الكنوز، فخبرنا كم كنزا فتحته في هذا الشهر؟ إن زعمت أنها ~~أكثر من أربعة، فأنت والله مزور نصاب، ثم هل تجرؤ أن تصرح بأنك فتحت كنزا لأحد ~~قبل أن تبهظه بنفقات البخور، وأجور من تستخدمهم من أعوانك في سهر الليالي ~~للقراءة والسحر، وفي مراقبة النجوم، لمعرفة الوقت المعلوم، وقد يقتضي ذلك الخمسين ~~والستين جنيها، تنحتونها من الرجل نحتا، وتأكلونها حراما وسحتا؟ # ثم لا تستحي من أن تعالج أهل الصبابة والهوى، وتبرد ما في صدورهم من نيران ~~الحب والجوى، ولا تستخذي من أن تكتب الرقى لمهجورهم، فما هي إلا لمحة حتى يذل ~~بين يديه من أرهقه بطول الصد والدلال، فإن لم يسعده سحرك بشخصه أسعده بطيف ~~الخيال! # أين الشرف أين المروءة؟ أين الدين يا حماة الدين؟ وكيف تسكتون عن هذا الوسواس ~~الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس؟ # فهنيئا لك وحدك يا رجل ما أنت فيه من ذلة وهوان، ولن تكون عاقبة فتنتك ~~للعالمين إلا الهلاك والخسران!» ا.ه. # وهنيئا بعد هذا للرجلين كليهما بمن يحتشد إليهما من طلاب الغنى والجاه ~~والعافية من السقم، والتقلب عفوا في جميع وجوه النعم! # وهل تستطيع أن تقطع عن الأرض أسباب «النصب» والاحتيال، إلا إذا أخليت وجهها من ~~المشعوذين وسواد الأغفال؟ # ولن يستطيع العالم أن يبلغ هذا ولو بعد حين، وسيبقى أبدا «رزق الهبل على ~~المجانين»! # | ولع! ... # لبعض الناس ولع غريب بهتاف الصحف ms375 بهم وترديدها لأسمائهم، فهم دائبو الجهد في ~~اختلاق المناسبات مهما تفهت، ليحملوا عليها أسماءهم إلى الجرائد، وإني لأعرف ~~رجلا أتلف ثروة ضخمة في سبيل بسط الثناء عليه، وترديد اسمه على متون الصحف، ~~كما أعرف موظفين لا شأن لمناصبهم في الحكومة ولا خطر، لقد يسافر أحدهم في غير حاجة، ~~لتنشر له الصحف خبر عودته «بالسلامة» وأنه: «ذهب توا إلى مكتبه بوزارة «كذا» أو ~~بمصلحة «كذا»»، تشبها بما يكتب عن كبار الحكام! والله يعلم أنه ما ذهب ~~«توا» إلا إلى إدارات الجرائد لتزف إلى جمهرة القراء بشرى عودته ~~الميمونة! # وأغرب ما رأيت في هذا الباب أنني مضيت في إحدى الليالي لزيارة صديق لي يتولى رياسة ~~التحرير في جريدة كبيرة فلم أجده، فاستويت إلى مكتبه لأثبت له رقعة بحضوري ~~لزيارته، وبث الأشواق التي جرت العادة ببثها، والله يعلم إن كانت مما يطوي ~~القلب أو مما ينشر اللسان! وإذا رجل في حدود الأربعين يلبس قباء أرسل عليه ~~معطفا استرسل إلى كعبه، وعلى رأسه طربوش متواضع جدا، وكان جاء لينشر في الجريدة ~~إعلانا يتعلق «بدائرة» مولاه، فلما فرغ من شأنه التمس غرفة رئيس التحرير فدلوه ~~عليها، فأقبل علي في خشوع وشدة تظرف، وجرى بيننا بحضرة بعض المحررين هذا ~~الحديث: ~~- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته! ~~- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأزكى تحياته! ~~- محسوبك فلان ناظر زراعة سعادة فلان باشا. ~~- تشرفنا! ~~- بس من فضلك ... ~~- من فضلي ماذا؟ ~~- من فضلك يعني ... ~~- من فضلك أنت، ماذا تريد من فضلي؟ ~~- بس تسمح «تنشرني» في الجرنال! ~~- أنشرك بأي مناسبة؟ ~~- يعني تقول فلان! ~~- أقول فلان ما له؟ ~~- يعني تكتب فلان! ~~- يا سيدي، فلان هذا مبتدأ، وكل مبتدأ لا بد له من خبر، فنحن إذ نذكر فلانا، لا ~~بد أن نقول شيئا جرى له أو جرى عليه، فكيف تحب أن نقول؟ ~~- تقول: فلان جاء عندنا في الإدارة. ~~- كل يوم يختلف إلى الإدارة خمسمائة رجل، فلا ينشر عن واحد منهم في الجريدة كلمة ~~واحدة! ~~- أمال إيه الطريقة عشان أنكتب؟ ~~- ذكر الناس في الصحف إنما ms376 يكون لمناسبة كوقوع حادث، أو القيام بعمل عام أو ~~خاص له بعض الشأن، كإقامة حفلة عرس، أو مأتم لا سمح الله، ونحو ذلك، فهل عزمت ~~على الزواج؟ ~~- أنا متزوج. ~~- ألك ولد أقدمت على تزويجه فننشر لك نبأ عرسه أو خطبته؟ ~~- ولدي ما يزال صغيرا. ~~- إذن فاختنه واحتفل بختانه. ~~- سبق أن ختنته من مدة طويلة! ~~- لم يبق يا صحبي إلا أن تمرض وننشر خبر مرضك وإبلالك! ~~- وحياة النبي يا بيه إن «أشيتي عيانه»! ~~- فما شكاتك؟ ~~- يعني ما فيش مروة زي زمان! ~~- إنما أريد المرض الذي يلزم الفراش، ويستدعي الطبيب، ويبعث القلق في الأهل ~~والأصدقاء! ~~- طيب وأعمل ازاي في الحكاية دي ...؟ (وقد أطلقها في قلق وحيرة وانكسار)؟ ~~- قلت لي كيف تصنع؟ وإني لأدلك على السبيل: ما عليك إلا أن تمضي من هنا قدما ~~إلى البلد، فتتقدم إلى أهلك بأن يحموا لك الفرن، فتظل قاعدا بإزائه حتى تتفصد ~~عرقا، ثم تستحم من فورك بماء بارد، ونحن ولله الحمد في صميم الشتاء، فتأخذك ~~الحمى يومين أو ثلاثة، وتبرأ بعدها فنسوق للقراء خبر مرضك، ونزف إليهم البشرى ~~بشفائك! # فبسط الرجل كلتا يديه، وأدار وجهه إلى السماء، وأقبل يدعو جاهدا: «الله يخليك، ~~الله يعمر بيتك»! # وانطلق إلى حيث يخرب بيته هو! # شفاه الله إن كان حيا، ورحمه الله إن كان في الأموات، وغفر لي في ~~الحالين. # والولع بالذكر في الصحف فنون ...! # | عبقرية! # جلست اليوم إلى جماعة من أصحابي ومعهم «فلان» من رجال التربية والتعليم، وجرى ~~الحديث في أمثل الطرق لتربية الأولاد وإعدادهم للحياة، وراح كل منهم يدلي برأيه ~~وتجاريبه في هذا الباب، وما أخذ به بنيه الكبار، وما أضمره لطفله الصغار، فقلت ~~بنوبتي: لقد ذقت الأمرين في تعليم الأولاد، حتى عزمت إذا وصل الله في ~~أجلي وأجل محمد أصغر أولادي حتى يبلغ السادسة، أن أسلكه في كلية «فكتوريا» برمل ~~الإسكندرية، فلقد نصح لي بذلك من لا أشك في صدق تجاربهم، فابتدرني هذا المر، ~~الفاضل بنصيحة غالية حقا، نافعة حقا، وهي أن ألحق طفلي في تلك الكلية ms377 بالقسم ~~الداخلي! ... # ولقد صكت هذه «النصيحة» جهاز عصبي؛ على أنني كتمت عجبي، وتظاهرت بالتطامن، ~~وتسريح الفكر الوادع، وقلت له: لقد أشرت يا سيد بالرأي، فإنني إذا لم أفعل ~~وجد الغلام بعض المشقة في الشخوص إلى الإسكندرية سحرة كل يوم، والعودة منها ~~قرابة منتصف الليل! ... فأقبل علي في ابتسامة الذاهب بجودة رأيه، الشاعر بتقدير الناس ~~له وقال: «مش كده ولا إيه؟!» # فرحت أزف إليه أبلغ الهناء، على تسعر هذا الذكاء، فتفضل بقبول الشكر، في ~~شيء من التواضع ... ولا فخر! # | مفتش عموم ...! # اعترضني اليوم في مقفلي من الديوان شاب أنيق الملبس، لعله طالب في إحدى المدارس ~~العالية، أو في السنين الأخيرة من التعليم الثانوي، وقال لي: «يا عم» كم الساعة ~~الآن؟ فطالعت ساعتي وقلت له: الساعة 2 وسبع دقائق، فحسر كمه الأيسر، ~~فانكشف عن ساعة يد ذهبية، ونظر فيها وقال: لا! لا! ساعتك مؤخرة أربع دقائق؛ ثم ~~خلى بيني وبين الطريق؛ وانطلق لطيته! ~~••• # وبعد أن أجلت ظني في شأنه، أدركت أنه ربما كان ... «مفتش عموم ~~الساعات»! # | الغرام المجاني! # هناك في ميادين العتبة الخضراء، والخازندار، والسيدة زينب، وباب الخلق، وغيرها من ~~المواطن التي يكثر فيها الصاعدون إلى مركبات الترام، والهابطون منها، في هذه ~~المواطن ترى طائفة من الشبان ماثلين دائما، وقد رجل كل منهم شعره، وأمال ~~طربوشه، وحمر شفتيه، وصقل عارضيه وحذاءه، وتأنق في سائر ثيابه، ودلى طرف منديل ~~حريري على نهده الأيسر، وراح يتمشى على الطوار «الرصيف» في لين وتكسر، حتى ما ندري ~~حقيقة شأنه: هو فتى متأنث، أم آنسة متفتية؟! ولا يزال ذلك شأنه حتى يقبل القطار، ~~فإذا انحدرت منه سيدة أو فتاة عذراء عليها مسحة من جمال، أسرع فتراءى لها وهو ~~يصف خيوط «زره» ويسوي شعر حاجبيه؛ ويضبط ربطة عنقه، وتأخذ السيدة أو الفتاة ~~سمتها، فيمشي وراءها، فإذا تيامنت تيامن، وإذا تياسرت تياسر خلفها، حتى ~~لتحسبه من بعض ظلها، وهو يتمتم بكلام غير واضح ولا مفهوم، حتى إذا أمن ~~غفلة العيون، أسرع حتى حاذاها وعرض عليها نزهة في الجزيرة، أو حدائق ms378 القبة مثلا، ~~فلا يكون شأن الحرائر دائما مع هؤلاء العشاق إلا السكوت المطلق، أو سوء الرد بالسب ~~والشتم، ومع ذلك فهيهات أن ينثني «صاحبنا» أو يتداخله شيء من الحياء أو القنوط، بل ~~ما يزال على ذلك حتى يبلغها الدار التي تطلبها، ولا يرجع إلا أن تصك مصراع ~~الباب في وجهه صكة يسمع لها دوي كهدة الهدم، ويعود إلى «الموقف» الذي اختاره ~~لهواه، وتعاهده لغزله، وفصد صبابته، وهكذا ما يزال هذا شأنه وديدنه من الساعة ~~الثامنة صباحا إلى ما بعد الساعة التاسعة مساء! # ولعله، لكيلا يضيع ساعة الهجير في الانقلاب إلى البيت للغداء، إن كان لمثل هذا ~~بيت، يدس من الصباح الباكر غداءه في جيبه فيجرد «للهوى» عامة نهاره ~~وليله! # وإنك لو فتشت نفوس هؤلاء وامتحنت عقلياتهم، لخرج لك من بحثك شيء عجيب: ~~ذلك أنك تحسب أنهم يؤمنون إيمانا وثيقا، ويعتقدون اعتقادا راسخا أن جميع ~~نساء القطر المصري وساكناته مباحات مبذولات الأعراض لهم، اللهم إلا البغايا فقط، ~~فهؤلاء وحدهن العفيفات الشريفات المصونات، اللائي ينبغي إذا طلعن عليهم أن ~~يطأطئوا رءوسهم، ويغضوا أبصارهم، ويعقدوا ألسنتهم! # وذلك الظن يخرج لك من أنك تراهم لا يتبعون إلا محتشمة في طريقها، ~~متوقرة لا تتثنى ولا تتخلع، ولا ترسل على الناس نظرا حادا، أما ~~المائعة المترجحة في مشيتها، المفتنة في إبداء زينتها، الدائمة التلفت ~~إلى يمينها ويسارها، المثبتة نظرها في كل من لقيها، فهذه يولونها ظهورهم، لأنها ~~لا مطمع لهم فيها ولا أمل! # والواقع أنك يا سيدي فيما استنتجت من شأن هؤلاء جد مخطئ، ولو أردت أن ~~تقع من أمرهم على الصواب، فاعمد إلى أي واحد منهم، وفتش بأية وسيلة جيوبه، فلن ~~تظفر فيها إلا بثلاثة قروش «تعريفة» على الأكثر، وصورة فتاة رائعة الجمال ~~استلها من علبة دخان، وكتاب خطه بيده لنفسه، على لسان فتاة تكاشفه بهواها، ~~وتصف ما لحقها عليه من الوله، «وكان الله بالسر عليما». # وهذا الخطاب وتلك الصورة هما كل أداته وعدته في مهمه، وهما كل وسيلته ~~في الإعلان عن نفسه، وأنه ملتقى ms379 الأنظار، وقبلة القلوب الولهى عند أصحابه ~~المغفلين! # لهذا لا تراه يتقدم إلى بغي! أو نصف بغي، لأنها ستجيبه إلى طلبه، ~~وهو يعلم أنه صفر الكف خالي الوفاض! ولو قد تشجعت سيدة ممن ~~يتبعهن، ويضايق أنفاسهن، فسألته أن يجيء بمركبة أو بسيارة «تكس»، ليخرجا ~~للنزهة التي يدعو إليها ويلح فيها، لرأيته قد دار على كعبه وطار على ~~جناحي نعامة! ~~••• # ولهؤلاء الغلمان صفاقة عجيبة، وفتنة بالنفس مدهشة، وهذا شيء تشهده كل يوم في ~~شوارع القاهرة وميادينها، فإن الرجل المحترم ليكون في مركبته أو سيارته مع زوجته أو ~~أخته أو بنته، وتقف بهما في بعض الطريق لأي عارض، فلا يستحي الغلام من هؤلاء أن ~~يقف في مقابلة السيدة، ويحد فيها عينا ما يختلج لها جفن إلا بالغمزات، ~~وإظهار التصابي، وترى دعوته واضحة صريحة، بحركاته الكثيرة المضحكة، إلى أن تستأذن ~~السيدة أو الفتاة زوجها أو أخاها أو أباها، في النزول إلى «حضرته» لتروي غلتها من ~~غرامها بهذا العاشق «السريح»! # ولقد شهدت بنفسي في هذا الباب حادثا ظريفا: ذلك أنني ركبت الترام يوما من ~~المحطة التي أمام المدرسة السنية، وصعدت سيدة جميلة واضحة النبل والغنى ~~والحشمة، وأخذت مجلسها في المكان المحرر للسيدات، وما إن رآها «الكمساري» حتى لجأ ~~إلى الوقوف بباب «الحريم»، وجعل يفتل شاربه، وتارة يميل طربوشه، وأخرى يسوي ~~رداءه الأصفر «الرسمي»، وحينا يثبت «النمرة» النحاسية في موضعها من عنقه، إذ عيناه ~~وحاجباه أثناء ذلك لا تفتر عن التلعب وشدة التحرك والاختلاج! # ولا يترك هذا الموقف ولا يتحول عنه إلا إذا وقف القطار، وما هو إلا أن ينفخ في ~~زمارته حتى يثبت إلى موقفه، فيصلح من ثيابه ما كرشت منها حركة النزول والصعود، ~~ثم يعود إلى شأنه مع تلك السيدة، وظل على هذا لا «يصرف لراكب تذكرة»، ولا ~~يبالي من هبط ومن صعد، حتى بلغ القطار ميدان الأزهار، فثار لهذه الحال ثائر بعض ~~الركاب، وإن سر آخرون بما وفر عليهم من قروشهم، فوثب إليه من بين الركب رجل ~~غيور من الظرفاء، وصكه على صدغه ms380 بجمع يده، وقال له: يا ابن ال ... هب هذه السيدة ~~وقعت في شرك غرامك، وسألتك النزول معها لنزهة تقضيان فيها حقوق الغرام! ~~فلمن تدفع الآن هذا الخرج المعلق في رقبتك بحمائله؟ وأي فم يقوم مقام فمك لهذه ~~الزمارة التي في يدك؟! فكان اغتباط وكان ضحك! ~~••• # فإذا بحثت بعد ذلك عما يبعث هؤلاء الفتيان على كل هذا، مع ما فيه من كد لا ~~فائدة فيه، وعناء لا رجاء وراءه، إلى ما فيه من الهوان وشدة الابتذال، والتعرض ~~للأذى بالشتم، أو الضرب، أو السجن، فلا ترى الأمر كله يعدو أن يكون هواية (غية) ~~حمقاء لا أكثر ولا أقل، أو كما قال المثل العامي: «اليد البطالة نجسة.» # وصدق من قال: «أصحاب العقول في راحة!» # | بطولة! ...1 ~~(1) # وإنها عندي، لبطولة حق لا تقل قدرا ولا خطرا عن أية بطولة في أي سبيل آخر، ~~وإن صاحبها «البطل» لحقيق من نفسه بالزهو والتتايه، وإنه لحقيق من الناس بأجل ~~الإعظام وأبعد الإعجاب! # قلت لك إنها بطولة «عندي» لأنها كذلك في الواقع، ولك أنت أن تخرجها عن دائرة ~~البطولة، ولك أن تضعها من الخلال حيث شئت، ولك أن تجري عليها ما تشاء من ~~الأحكام، ولكن الذي ليس لك، والذي لا آذن لك به أن تدخل بيني وبين رأيي ~~ومعتقدي، فتضيف إلي ما تشاء، وتنفي عني ما تشاء، وأظن أن هذا أقسى ما عرفت ~~طبائع الاستبداد من العصف بحرية الآراء! # لك أن تقول إن مذهبي في هذا فاسد، وإن رأيي قبيح، وإن سوء التفكير أزلقني في الأمر ~~إلى الضلالة، أما أن تزعم أن ذلك ليس من رأيي، وأنني أسر الخلاف له في أطواء ~~نفسي، فذلك ما لا أحسبه مما كان في الزمان، ولا أحسبه مما يكون، فليس يعلم ما ~~تسر القلوب إلا علام الغيوب! # وهؤلاء «الأبطال» أحبهم وأجلهم، وتكاد تتعلق نفسي من شدة الإعجاب بهم كلما رأيتهم، ~~وسمح لي الزمان بالجلوس إليهم، وإن الزمان بمثل هؤلاء لجد بخيل! # هؤلاء هم أبطال «الحديث»، وللحديث - لو عرفت - أبطال كما للحروب أبطال، ~~وللسياسة ms381 أبطال، وللآراء في العلم والأدب والاجتماع أبطال. # على أن هؤلاء «الأبطال» وإن اشتعبوا مذاهب البطولة، وتفرقت عبقرياتهم في ~~مناحيها، فإنه تجمعهم طائفة من الخلال الكريمة، ما تكاد ترى لأحد منهم فضلا فيها ~~على أحد، ومن هذه الخلال فرط الأدب، وشدة التواضع، ولين الجانب ومنها حسن التوافي ~~للناس، والإقبال على مجالسهم حيث كانوا ومؤانستهم، والتسلية بفاخر الحديث عنهم، ولو ~~لم تجر الصداقة بينهم وبينهم على أي عرق، فبحسبهم من كل هذا الكرم «المعرفة» ~~المجردة والسلام! # ومن هذه الخلال الظرف، فإن أعوز ففي التظرف المتسع، ولقد يكون من هذا التظرف ~~لفت الغافل عن «الحديث»، وتنبيه المشغول عنه بشأن آخر، ولقد يكون هذا اللفت ~~والتنبيه بالكلام اللين من نحو: «واخد بالك يا سيدي» و«خليك معنا من فضلك!»، ولقد ~~يكون باللكزة الرفيقة في الخاصرة أو في ثنايا الضلوع ! وكثيرا ما يمتد هذا الكرم ~~إلى جهد النفس في إنشاط المتثاقل، وإضحاك العابس، وإدخال العجب على ~~المتغافل! # وإن مدينة في مصر، وإن حاضرة من حواضرها، بل إن قرية من صميم ريفها، لا تخلو من ~~بطل من هؤلاء أو من أبطال، وأنت خبير بأن البطولة من المقولات بالتشكيك، على تعبير ~~أصحاب المنطق، فهي على ذلك مما يتفاوت في الناس كثرة وقلة، وقوة وضعفا، فلو ~~قدرت النهاية العظمى بمائة درجة مثلا، فإنك واجد من غير شك من قد أحرزها ~~وأصابها، كما تجد من تقاصر حظه إلى الثمانين، ومن تدلى إلى الستين، ~~ومن استرخى وهو دون العشرين، على أنك لا تستطيع بأي حال، إلا أن تسلكه في جماعة ~~الأبطال! # ومهما يكن من شيء، فإنك تستطيع أن تقسم على العموم هؤلاء «الأبطال» إلى قسمين: ~~إخصائيين ومطلقين، أما الإخصائيون فقد توافر كل منهم على فن هذه البطولة، ~~وترى من بين هؤلاء الإخصائيين من برعوا في بطولة الفروسة وقراع الأهوال، في ~~البحار والجبال والأدغال، وصراع كل صائل من السباع والجوارح والأغوال! # ومنهم الإخصائي في فن الغرام، واصطياد كل شاردة من الآرام، وما يمنعه؟ وله من ~~جفنيه أشراك، هيهات ما لآبدة منها ms382 فكاك، وإن له من لحظه لما يستنزل إليه ~~الأراوي العصم، من صياصي الجبال الشم، فإذا جاءك أن غادة في الأرض قد تعذرت ~~عليه في خدر، أو اعتصمت دونه وراء ستر، فإنك عنده حقيق بالرحمة والرثاء، لما ~~تجهل من حقائق أحوال النساء. # وما له يجهد في طلبهن ويسعى، وما له يكد في استدراجهن ويشقى، وها هن أولياء ~~يعترضنه كل يوم مواكب، ويتهاوين بين يديه كواكب؟ ولو كتب لك يوما أن ~~تشهد مورد بريده في الصباح وفي المساء، لتعاظمك ما ترى من أحمال ثقال، وقد ~~اجتمعت من الكتب الخفاف، وكلها موشى الحوافي منمنم الأطراف، وإن منها إلا ما ~~يضوع شذاه، حتى ليكاد يسكر بطيب رياه: هذه تخطب وده، وهذه تشكو قلاه ~~وصده، وتلك تحكي ما صنع الهوى، وأخرى تصف ما برحت بها برح الجوى، وخامسة ~~لها عند الغرام مظلمة، فهي لا تسأل إلا العدل والمرحمة، وسادسة قد عز عليها الوصال، ~~وشفها طول التجني والدلال، فأضحت لا تطمع في أكثر من نظرة إلى ذلك الجمال! # فإذا ما راجعت هذا الجبار العاتي، وسألته شيئا من الرقة لهؤلاء الوالهات ~~المتدلهات، والعطف عليهن، ولو من قبيل «جبر الخواطر»، وفيهن أغلى الدرر، من بنات ~~أعظم الأسر، ومن لم يقلبن الأعطاف إلا في النعيم، ولم يلابسن في أسباب العيش ~~إلا كل جميل وثمين وكريم، وكلهن بحمد الله أحلى من البدر، وأشهى إلى النفس من ليلة ~~القدر: لقد تراجعه في هذا فسرعان ما تثور ثوائره، وتقسو عليك بوادره، فيلقاك في ~~هياجه، بأشد حدته وأحد احتجاجه، فيقول لك مثلا: حقا لقد قست القلوب ~~وتحجرت، حتى أصبحت الرحمة لا تجد إليها سبيلا!، وهل جاءك يا سيدي أنني من ~~بعض الحجارة أو من بعض الحديد؟ وإن الحجارة لتتفتت وإن الحديد ليذوب! وكيف حيلتي ~~في كل هذه الجيوش التي لا يلحقها عدد، ولا ينقطع لها على الدهر مدد؟ وهل قلت ~~لهن أحببن وتولهن، واعشقن وتدلهن؟ وترى هل خلا وجه الأرض من الرجال، ~~فلم يبق غير «أخيك» هدفا لصبابة ربات الحجال؟ # وهنا أردت يا ms383 سيدي أم لم ترد، تحس عاطفة قوية نحو هذا «البطل»، هي عاطفة ~~الرحمة والإشفاق، حتى إنك لتفكر، إن كنت من أهل السلطان أو من المتصلين بأصحاب ~~السلطان، في السعي لدى وزارة الأشغال لتدخل في مشروعات الري والصرف الجديدة، ~~إنشاء قدر كبير من الترع والمصارف، ليتحول إليها جانب من هذا الغرام الطاغي، ~~وإلا ساءت الحال، وحق على البلاد الوبال! # ولقد تبادى صاحبك بالاستراحة إلى عذره، فسرعان ما يسجو طرفه، وتشيع حمرة الخجل في ~~وجهه، ويجيبك في لهجة تحسها مزجا من الفرح والشعور بالانتصار: «مش كده ولا ~~إيه؟» كان الله في عون هذا «البطل» المسكين، وأمده من حوله وطوله بما يستطيع ~~معه النهوض بأعبائه الجسام! # ومن هؤلاء «الأبطال» الإخصائيون أيضا في الجياد، وفي حذق فن الجياد، وفي اقتناء ~~كرائم الجياد، مما يفوق في صفته ما خلا من أخبار عاد، وما لم يركب مثله ~~عنترة بن شداد، وما لم تعهد مثله العرب ~~والأعجام، وما لم يتعلق بوصفه شعر البحتري ولا أبو تمام! وإن عنده من كرائم ~~الجياد لما يلحق البرق إذا برق، ويسبق السلك إذا خفق! ~~••• # ومنهم كذلك أبطال الطعام، ولهؤلاء من الخبرة بالطعام، وقوة تذوقه، وعظم تجويده، ~~والتأنق فيه، وحسن تخيره، وانتقاء أطايبه، ما لا ينفذ إلى مكنون سره، ~~ولا يحيط بظاهر أمره، إلا من رزق الموهبة، فلفن الطعام - لو تعلمون - ~~مواهب لقد ترفع أصحابها إلى جبابرة الأبطال! # ولربما أقبل عليك «البطل» من هؤلاء يسألك ويمتحنك، ويدلك على قدرك في هذا، أو على ~~الصحيح ليبعث فيك الحسرة على ما فاتك من أسعد حظوظ الحياة، وراح يلقي عليك درسا ~~سابغا فيما يحسن أن يزيد بقله، وما يجمل أن يكثر زيته ويقل خله، وما ~~يصهر في الشمس قبل قليه، وما يطمر في «الدمس» قبل شيه، وما يترك للندى بعد غليه، ~~وما يحشى زبيبا ولوزا، وما ترصع حواشيه صنوبرا وجوزا، وما يكمخ سكره في ~~بصله، وما يخلط عسله بخردله، إلخ، ثم جعل يقص عليك ما أصاب في غدائه، فتلا ~~عليك، بظهر الغيب، قائمة طويلة لو ms384 كتبت لعاني النظر فيها سفرا طويلا، ولو ~~تهيأ لجراح أن يبقر بطنه لساعته، لكشف المبضع عن أفخر معرض لأفخر الأطعمة ~~في العالم! ~~••• # وهناك بطولات وبطولات في غير هاتيك الفنون. # ولقد طال هذا الحديث، فحسبنا هذا القدر اليوم، على أن نتم الحديث، في «الأبطال» ~~المطلقين، وفي إيراد صدر من نوادر هؤلاء جميعا، وذلك في العدد القادم إذا ~~أحياني الله! # | بطولة (2) # رأيت في العدد الماضي من «المصور» بعض صفة سادتنا الإخصائيين هؤلاء «الأبطال»، ~~وعرفت كذلك بعض الفروع التي تخصص فيها كل منهم والآن نحدثك عن الأبطال ~~«المطلقين» أو «العموميين»، وهؤلاء الذين لا تتوافر بطولتهم على فن، ولا ~~تقتصر على فرع، ولا تنتهي من أسباب الدنيا عند حد، فهي تتناول كل شيء، ولا ينشز ~~عنها في جميع مظاهر الحياة شيء. # ولعلك رأيت أو سمعت بمحل «سلفريدج» مثلا في لندرة، ففيه مكتب للسياحة، وفيه مكان ~~لبيع جميع صحف العالم، وفيه مطعم فاخر، وبهو (صالة) لتناول الشاي، ومكان للمطالعة، ~~وآخر لبيع جميع المأكولات، ومخزن كبير لبيع الأثاث القديم، و«صالونات» فاخرة ~~للحلاقة، للرجال والسيدات، وغير ذلك كثير، فإذا أعوزك شيء مما ليس عنده، وافاك به ~~عجلا ولو كان في أقصى أطراف المعمورة، ومثل هذا المحل في بلاد الغرب ~~كثير! # أما أنا فلم أشخص طوال حياتي إلى أوروبا، ولا إلى أمريكا، ولا أستراليا، ولم ~~أشهد حتى بيت المقدس، ولا الصخرة المقدسة، ولا المبكى الشريف الذي تدور حوله كل ~~هذه المعارك بين المسلمين وبين من صبهم وعد بلفور عليهم من ~~الصهيونيين! # ولكن أرجوك يا سيدي القارئ أن تصدقني إذا زعمت لك أنني سافرت إلى بنها، ~~وأعني بنها العسل، وكان هذا السفر من نحو ثلاثين سنة خلت. # وكتب لي يومئذ أن أشهد فيها متجر المرحوم إبراهيم باشا عبده (سر) تجارها، ~~يومئذ، فإذا هو أشبه بسوق عظيمة رفعت من بين خاناتها ودكاكينها الحدود ~~والحوائل، ومن هذا المتجر تشتري الحرير، و«الباتستا»، والبياض، ومنه تشتري الفحم، ~~والجير، والإسمنت، ومنه تشتري المصوغات الذهبية والفضية، كما تشتري الحديد والخشب ~~والطوب الأحمر! # ثم ms385 إنك لواجد فيه حاجتك من الجوارب و«الفانلات»، والقفازات، كما أنت واجد فيه ~~مطالبك من النظارات، وساعات الجيوب، وساعات الحائط أيضا! ولا تنس السرر وأصناف ~~الأثاث (الموبليا) وأصص (قصاري) الزهور! # ثم هناك تجد آنية النحاس على اختلاف أشكالها وأحجامها، كما تجد أصناف العطارة ~~من أولها إلى آخرها، وهناك السمن والعسل، وهناك الزيت والخل والبصل، وهناك كل ما ~~شئت من أدوات المائدة وفراجين (فرش) الحلاقة، والحلوى، و«الشربات»، و«الكازوزة» ~~والطرابيش، والأحذية، وحلل (بدل) السيدات والرجال والأولاد! وهناك الورق والأقلام ~~والمحابر والمفكرات والكراسات والدفاتر. # هناك كل شيء، ولا شيء إلا وهو هناك! # وتسألني: أكان هذا الضرب من المتاجر في بلادنا مصر؟ # وأجيب: نعم، وكان في بنها؛ وكان، كما زعمت لك، من نحو الثلاثين من ~~الأعوام. # وموضع الشاهد في هذا أن صاحبنا «البطل» المطلق أو العمومي، لا يقل عن مثل ~~هذا المتجر الضخم العظيم كفاية ولا غنى ولا مواتاة، ولا إسعافا «للزبائن» بما ~~يريدون من جميع الطلبات! # تذكر أمامه الفروسية في الحرب، فيذكر لك ما أبلى فيها من كر وفر، وكيف سداده ~~في البراز والنزال، وكيف يحمل وحده على الجمع الكثيف من الأبطال، ولا تسل ~~كيف يصنع في هذه الحملة، من قط الرءوس وبري الرقاب «بالجملة»؟ # فإذا كان الحديث في النساء وغرام النساء، أسرع فحمد الله تعالى على أن المرحوم ~~«فالنتينو» قد مات وأكله الدود، وإلا لكان الآن في التماس النظرة على رصيف سيدي أبي ~~السعود! # وقل مثل هذا وأبلغ منه إذا كان الحديث في جياد الخيل أو في الطعام والشراب، ~~أو في الأثاث والثياب، أو في الصيد والقنص، أو في الحجل والرقص، أو في الموسيقى ~~وفنون النغم، أو في تنسيق الحدائق وتربية الطير والنعم، وادخل فيما شئت أن ~~تدخل فيه، فإنه «ببطولته» ولا شك موافيه، حتى لو عرضت لكنس الدار وغسل ~~«الحلل»، لجلى عليك من نفسه في هذا بطلا أي بطل! ~~••• # وبعد، فإنني أتشرف الآن بأن أقص عليك طائفة يسيرة من أحداث بطولات هؤلاء ~~«الأبطال»، سواء أكانوا من الإخصائيين، أم من ms386 الشائعة بطولتهم الجبارة في جميع ~~شعب الحياة. # ولعلك لم تنس أنه قد سبق لي أن وصفتهم بكرم الخلق والتواضع، وشدة التوافي ~~للناس، حتى لمن لا تربطهم بهم إلا «المعرفة» البسيطة في أضيق الحدود والآن ~~فاسمع أعانني وأعانك الله: لقد تكون جالسا في مقهى عام كالنيوبار، أو ~~الإسبلنددبار، أو بار اللواء، أو في جروبي قديمه وجديده، أو ليمونيا الحلواني في ~~القاهرة، أو في فرعه في مصر الجديدة، فلا يروعك إلا أن يطلع على مدخل ~~المقهى «بطل» من هؤلاء الأبطال، ثم تراه قد ثبت في موقفه لا يتقدم ولا يتأخر، ~~ولا يتزحزح ذات اليمين ولا ذات الشمال، ولا يتحرك منه إلا عنق كاللولب، يتجه إلى ~~هنا ثم يتجه إلى هنا، صنع مروحة الكهربا المتحركة، وقد أرسل «البطل» نظرا ~~حديدا يدور بالضرورة مع رأسه حيثما دار، فلا يزال ينقد الجالسين نقدا، ~~ويفحصهم فردا فردا، فإذا أصاب فيهم بعد طول التفقد والاختبار صديقا أو ~~شبه صديق، ولو كان جالسا فيمن لا يعرفهم - أعني البطل - ولم يرهم من قبل، ~~أسرع فأهوى إليهم «كجملود صخر حطه السيل من عل!»، وبادر فسلم على صديقه أو «بحيث» ~~صديقه في شوق ولهفة، ثم استدار فسلم على أصحابه في تأدب وتظرف، قد تزينهما بعض ~~الضحكات الناعمات! # فإن لم يصب صديقا ولا شبه صديق، «فالمعارف» بفضل الله كثير؛ ومهما يكن من أمر، ~~فإن أدبه وتواضعه ليأبيان عليه إلا أن يمد يده فيمهد له بين الجماعة ~~كرسيا، ولو غفلوا هم عن دعوته، أو تجافى بهم سوء الأدب عن أن يبادروا فيفسحوا له ~~في مجلسهم موضعا، وكذلك تكون مكارم الأخلاق! # ويهبط «الجرسون» ليسأل «البيك» حاجته، فيسرع «البطل» إلى الحلف بأنه لا يستطيع ~~أن يتناول القهوة لأنها تسهد ليله، وتطير نومه، أما «الجاتو»، وأما «الكريم ~~بالفواكه»، وأما ما يؤكل على وجه العموم فلا حظ له فيه، فقد أفرط في غدائه حتى ~~أدركه البشم، ووقاك الله غائلة التخم، فإن كان ولا بد من شيء والأمر لله، ~~فإنه يفضل «الكازوزة» لعلها تسلك من مجرى النفس، ما ms387 انسد بكثرة الطعام وما ~~احتبس. ~~••• # ولعل القوم كانوا في حديث يهمهم ويشغلهم فقطعه صاحبنا عليهم، والآن لا بأس عليهم ~~من معاودته، بعد إذ قرت الجنوب، وجاء «الجرسون» بالمشروب، على أن صاحبنا ~~أرفق بهم وأكرم من أن يدعهم حيارى في إيثاره «الكازوزة» على سائر ما ~~يطلب، مما يؤكل وما يشرب، فيصيح فيهم، وقد يهز صاحب النوبة في الحديث، وهذا ~~ليلفتهم إليه، ويعطف استماعهم عليه: تسألونني السر في إيثاري «الكازوزة» ~~على سائر ما يقدم هنا، ولكم كل الحق، وإذا عرف السبب، بطل العجب! وكل ما في ~~الأمر أن الله حباني بطاه لم يسمع في الزمان بمثله، وأين منه محمود ~~القره وغير محمود القره، # 1 # وحين زار مصر جلالة ملك إيطاليا وتغدى عندي سرا، ~~رجاني في أن يرسل إلي رئيس طهاته في رومة ليتمرن على يدي هذا «الولد» في طهي ~~بعض الأطعمة التي أعجبت جلالته، وصدقوني إذا قلت لكم إنه كان من بينها ~~«الاسباجتي»! # ويصيح الجميع في نفس واحد: «الاسباجتي؟!» # فيجيب «البطل»: نعم يا سادتي، وهذا موضع العجب، وذلك سر لا يعلمه إلا الكنت دي بليانو، # 2 # وسعيد باشا ذو الفقار، و«أخوكم» ~~بالضرورة. # ولا أحب أن أطيل عليكم، فقد جلسنا للغداء فإذا حمل «قوزي» محمر لم تقربه ~~النار، بل لقد طمره اللئيم في الرمل حتى نضج وتورد بحرارة الشمس، ووالله! وما لكم ~~علي يمين! إن شرائح لحمه ما تكاد تقترب منها الأنامل حتى تزحف هي إليها زحفا، فإذا ~~انحدر اللحم إلى الحلق تحلل فيه وسال من نفسه، ما أعوزه قضم ولا هرس، ولا جهدت في ~~علاجه سن ولا ضرس! # ويأذن الله أن ترفع أنقاض هذا الحمل، فإذا ديك رومي قد حشي بالسمان المحشو ~~بالبرغل، أما فرشه فالرز الأحمر، فيه البندق والجوز والزبيب والصنوبر. # وهنا ترى «البطل» المسكين وقد جحظت عيناه، واتسعت حدقتاه، واحتقن وجهه، ~~وانتفخت أوداجه، وسال لعابه، وأصبح شدقه كالطبل المشدود، وترى له إلى هذا اختلاجا ~~عصبيا، هل رأيت النمر وقد تهيأ للافتراس، وكشف عن الأنياب والأضراس؟! # ثم يدخل بك «البطل» في باب ms388 السمك، حتى إذا خض بك لجج البحار، وأراك القروص ~~وموسى والمرجان والبوري والوقار، عطف بك على قسم الخضر حتى أتى على جميع أسواق ~~الخضار! فإذا شاء الرحمن وبلغ الركب غاية السفر في هذه الرحلة، فوصل سالما إلى ~~صفحة الخبيزة أو الرجلة، انعطف بالجماعة إلى معرض الحلوى، فعنده للحلوى معرض ~~لا يتسع لمساحته التصور ولا يرتقي إلى حلاوته الخيال. # ثم يتحول بك إلى قسم الفاكهة، وهنا يتجلى تواضعه فلا يعرض عليك إلا عشرة ألوان أو ~~اثني عشر لونا مما صف على مائدته في غدائه، ولقد تسأل عن هذا الزهد والإقلال، ~~فيكون الجواب الحاضر: «بقي كلام في سرك! أخوك مالوش تقل على الفاكهة!» ~~••• # ولقد يعد لك خمسين أو ستين صحفة من صحاف اللحم والطير، والسمك والخصر، ~~والحلوى، وهي جملة ما تغدى به في يومه، ومع هذا لا يفوته أن يقف على رأس كل ~~صحفة، فيصف لك كيف طبخت وكيف طهيت، وكيف قليت وكيف شويت، وبماذا ~~تبلت وبماذا حشيت، وماذا عولجت به من فنون الصنع، حتى تم لها كل ~~هذا البدع! ~~- هذا أيها الإخوان، هو السر في إيثاري «الكازوزة»، ألست معذورا؟ # فيجيبه الجميع: معذور، والله ألف معذور! # ولعل خبيثا ممن لا يحبون الصدق، ولا يستريحون إلى كلمة الحق، يقول له: والله يا ~~أخي لو شربت مع هذا الخواجة «إسباتس» كله لكنت معذورا. # فيكون الرد: «مش كده ولا إيه؟ ليلتكم سعيدة لأن عندي ميعادا مهما!» ~~••• # وينصرف «البطل» لعله يلقى بعض الأقوام، فيفتح لهواتهم بالحديث فيما أصاب في غدائه ~~من ألوان الطعام! ... # | بطولة (3) # واليوم يأذن الله «بالحديث في الأبطال» المطلقين أو الأبطال العموميين وهؤلاء ~~كما عرفت، الذين ليس لهم في «البطولة» اختصاص معين، والذين تشيع عبقرياتهم ~~الجبارة في كل أسباب الحياة والموت معا، فهي تتناول كل شيء، ولا يتعاصى عليها في ~~الدنيا شيء! # ولقد أوردنا عليك في حديث الأسبوع الماضي بعض نماذج (عينات) من المحلات التجارية ~~في أوروبا وفي مصر، تكاد تسعف الإنسان بجميع حاجاته في مطالب الحياة، إن لم ~~يكن مما عندها فإنها تستدركه ms389 من غيرها، أما هؤلاء «الأبطال» فأبلغ استعدادا، وأوفر ~~عدة وعتادا، فإنك ما يكاد يجري على بالك خاطر، أو تسنح لذهنك شاردة حتى من خيال ~~ووهم، إلا كان من حاضر جراب العبقرية لها أصل وفصل، واسم ولقب، وحيلة ونسب، ~~وحديث يلذ ويشوق، وسمر يصفو ويروق! # خض فيما شئت من المعاني، واعرض لما تريد أن تعرض له من الحديث في ~~القديم والجديد، والطريف والتليد، وما روى القصاص من غرائب الأخبار، وما يزعم ~~الرحالون من عجائب البحار، فإن «البطل» لمعجلك عن إتمام حديثك بما وقع له هو ~~بذاته في هذا الشأن، مما قد يشيب لهوله الولدان، ومما لم يكن يصدق أن ~~مثله مما يقع في الزمان، فلا شيء في مفاخر الدنيا أخطأ سبله، ولا شيء من ~~عجائب الأرض والسماء إلا وقع له! # ولقد يعرض الكلام في العلم والعلماء ، فيبادر بمطالعتك بما كان منه في مؤتمر ~~«استكهلم» الذي ألقت إليه أمم الأرض جمعاء، بمن فيها من أفذاذ العلماء وقد ~~أجمعوا في غاية الأمر على الرأي في قضية (نظرية) علمية طريفة، وما كادوا يفرغون من ~~هذا، وينعمون بالاستراحة إلى نتيجة المسعى، حتى نهض هو ففند هذا الرأي تفنيدا، ~~وبدد تلك «النظرية» تبديدا، بعد ما أشبع أشياعها تهكما وتنديدا، ولا تسل ~~عما لقي «البطل» من تصفيق يصم الآذان، وهتاف تجاوبت صداه الآفاق من كل مكان، ~~ولا تسل عما عقد له بعد هذا من أكاليل الفخر، وكيف حمله العلماء ليجوزوا ~~به تحت أقواس النصر! # ولقد يلتفت المجلس إلى الحديث في الموسيقى، فسرعان ما يستدير له «كاللولب»، ويهز ~~المسكين رأسه في أناة، وقد أرسل جفنيه، وأشعرك حاله بما يزحم ذهنه من خواطر عنيفة، ~~ثم يرسل آهة شديدة، يخيل إليك أن كبده تسيل فيها على حلقه، ثم يقبل عليك ~~يحدثك بما عانى في بعض المؤتمرات الموسيقية العالمية في مسألة «الأوزان»، وما ~~كافح أقطاب الموسيقى في قضية ضبط الأوزان، وكيف تجادل الجماعة في نظريته وتحاوروا، ~~وكيف تألبوا عليه وتآمروا، ثم كيف نصره الله فردا عليهم فأطاعوا في النهاية ~~وسمعوا، وذلوا ms390 لحكمه وخضعوا! ~~••• # ولقد يجيء الكلام في الخيل، واقتناء كرائم الخيل، فسرعان ما يحدثك عن زوج من ~~الجياد أتى به من بلاد المجر بعد طول تفقد واختيار، وبعد امتحان واستخبار، ولم ~~يجشمه في ثمنه ونفقاته إلى الإسكندرية أكثر من 1978 جنيها مصريا! فقط «يا ~~بلاش» فراضه على جر «الفيتون» الكبير، ولقد حدث أنه كان يسوقه بنفسه ذات يوم، ~~فاعترضته في بعض الطريق سكة حديد حلوان، وكانت بوابة «المزلقان» مقفلة لمرور ~~القطار، فلم يرعه إلا أن يرى نفسه وخيله و(فيتونه) في العدوة الأخرى من شريط سكة ~~الحديد! فلقد عز على الجياد الانتظار، والأمر أيسر ما يكون بوثبة واحدة لا جهد فيها ~~ولا إقلاق ولا إزعاج. # ولقد بدا له يوما أن يجول به في ساحة عابدين، فلم يرعه إلا أن يسمع من التصفيق ~~ما يشبه الهمس، ورفع رأسه إلى القصر، فإذا ولي الأمر الأسبق واقف على الطنف ~~يصفق ويومئ بالتحية، ويظهر أعظم دلائل الإعجاب! # وبعد أن يقص على «البطل» هذه القصة البديعة يأتي حفظه الله، إلا أن يجلو علي ~~صورة طريفة يمثل لي بها «ترت» جياده، إذا هو شد على لجمها كي تمشي الهوينا ~~ولا تطير بين الأرض والسماء، و«الترت» هذا بضم التاء الأولى والراء، يليهما ~~تاء مشددة، هو في عرف هواة الخيل وساستها، الحركة المنظمة التي يرفع بها الجواد ~~رجله، ثم يعود فيضرب بحافره وجه الأرض. # وهنا أشعر أن وجه صاحبي قد استطال حتى أشبه وجوه الجياد، وأرى أذنيه قد تدلتا ~~حتى كادت تصيب أطرافها معقد الفكين، وأرى وجهه قد تربد، وعينيه قد احمرت ~~أحداقهما، كأنه مقبل والعياذ بالله على شر كبير، وإني لأحس فكيه تقضقضان قضقضة ~~المقرور، ثم ما هو إلا أن يثب في الغرفة فيتخطر جيئة وذهابا، وهو يثني ساقه ~~كلما رفعها عن الأرض حتى يضرب بكعب رجله أعلى فخذه، حتى إذا أتى على «شوطه» ارتد ~~إنسانا، ورأيت عليه من دلائل الفخار، ما هو جدير بأن يخلد له على وجه الأدهار، ~~ما عاقب الليل النهار! ~~••• # ولقد يدخل المجلس بالحديث ms391 في الصيد والطرد، ومعاناة الأهوال، في مقارعة الفيلة ~~والأوعال، فيسرع «البطل» أيضا، وأعني به هذا الذي كان منه كل ما مر بك من الكلام، ~~فيقول: بينا نحن في الصيد والقنص في إحدى الغابات المهولة، وهنا أرى واجبا علي أن ~~أنبهك، يا سيدي القارئ، إلى أنه ليس من اللياقة، ولا من الذوق، ولا من أدب ~~الإصغاء إلى الحديث، أن تعترضه بالسؤال عن موضع هذه الغابة، وهل يكون في الهند، أو ~~في أواسط أفريقيا، أو في جنوب أمريكا، أو في بلاد المجر، أو في حديقة الأزبكية إلخ، ~~فإنه ليس لك عليه، إلا أنها غابة مأهولة بسباع الوحش والطير، من أسود ونمور، ووعول ~~وفيلة، وأيائل وقردة، وبواشق وصقور، وبوار ونسور! ... ليس لك إلا أن تعلم أنها ~~غابة حافلة بكل أولئك، ولتقع هذه الغابة بعد ذلك من أرض الله حيث تشاء! # ويتم «البطل» الحديث، فإذا به قد انفرد ذات يوم عن الرفقة من الصادة وإذا أسد ضار ~~يخرج عليه يمشي نحوه «مترفقا من تيهه»، ويتفقد صاحبنا «المسدس» فإذا رصاصاته قد ~~نفدت كلها ما بقيت منها واحدة، فكيف العمل والأمر خطير والخطب جلل؟ # لخير أن يبادر الأسد بالوثبة، ويعاجله بالهجمة، فيتناول بيسراه أسفل ~~صدغه، أي صدغ الأسد، عند معقد الفكين، ويضغطها ضغطة شديدة ينفغر بها فمه، ولا ~~يستطيع له بعد ذلك تحريكا، ثم يسرع فيدسس يمناه في جوفه حتى تصل إلى قرارته، ثم ~~يجذبه من أسفله جذبة عنيفة حتى يخرج ذيله من فمه، أفرأيت كيف يقلب الجورب ~~بأيسر جهد اليد؟ وكذلك أضحى الأسد ظاهره باطنه، وباطنه ظاهره، كما أضحى رأسه في ~~مكان ذيله، وذيله في موضع رأسه؟! # ثم لقد يتلطف فيسأل الجماعة أن يزوروه في داره يوما ليطلعهم على هذا المنظر ~~العجيب! ~~••• # وبعد، فلو عرض الحديث لكنس الدار، أو لغسل «الحلل»، أو لجلاء «عساكر السرير»، ~~أو لتمزيق الورق، أو لكيفية تجفيف العرق، لما عزه أن يجلو عليك «بطولة» له ~~فيها، يعضدها بمختلف الشواهد، وينظم لها ألوان الغرائب عقودا وقلائد! ~~••• # أما الغرام وأحاديث الغرام، فذلك ما ms392 سارت به الأخبار، وروته عن صحفها الرهبان ~~في الأديار، ولست أطيل الحديث عليك يا سيدي القارئ، فلو قد ذهب ذاهب إلى استقصاء ~~ما وقع في هذا الباب «لبطل» واحد من هؤلاء «الأبطال»، لما وسعته الأسفار الضخام، ~~ولاستهلك تدوينه الشهور والأعوام، وعلى ذلك فقد عزمت على ألا أروي لك إلا ~~نادرة واحدة من تلك النوادر، ولك أن تقيس عليها آلاف الآلاف، مما يقع لهم في كل ليل ~~وكل نهار، على توالي الأزمان وتعاقب الأدهار: # كنت جالسا ذات عشية على حاشية أحد المقاهي، فصب علي القدر «بطلا» من ~~جبابرة هؤلاء «الأبطال»، وما كاد يستوي إلى مجلسه من المنضدة ويسترجع نفسه من ~~جهد السير، حتى قال لي: لقد حدث في ليلة أمس يا فلان شيء عجيب! # قلت: وكيف كان ذلك جعلت فداك؟ # قال: بينا أنا جالس هنا وقد انحرف عقرب الساعة عن العاشرة، إذ جاء غلام من ماسحي ~~الأحذية، وأسر إلي أن هناك من ينتظرني في منعطف الحارة، ثم تركني ومضى ~~مهرولا فتبعته، فإذا سيارة من طراز «إسبانيوسويس»، وبابها مفتوح، وقد قبض ~~على «أكرته» الفضية «جروم» فتى كأنما صيغ من خالص الجوهر، وإذا صوت كأنه صوت ~~كروان تحمله نسمة من نسمات السحر، وسمعت كلمة «ادخل»! فرفعت بصري فإذا جوف السيارة ~~يضيء ولكن من غير سراج، فأدرت بصري الحائر، فإذا مبعث الضوء وجه يتألق تألق البدر، ~~ليلة انتصاف الشهر! ~~- ادخل! ادخل سريعا! ~~- لعل في الأمر خطأ يا سيدتي؟ ~~- ليس هناك خطأ، ألست فلانا؟! ~~- نعم يا سيدتي! ~~- إذن فأنت طلبتي، ولست أنا ممن يخدع على هواه! # وما كدت أظهر التثاقل والتمنع حتى جذبتني من يدي، وجعل «الجروم» ~~والسائق يتظاهران كلاهما على دفعي من خلفي، وسرعان ما أغلق الباب، وأخذ كل ~~من السائق و(الجروم) مجلسه في أسرع من رد الطرف، وطارت بنا السيارة كل ~~مطار، حتى صارت بنا إلى غاية شارع الهرم، ثم انحرفت بنا في طريق الصحراء، ~~وتدلى السائق وصاحبه، فعصبا عيني بمنديل حريري موشى الحواشي بالذهب، فارتعت ~~وأخذ مني الذعر كل مأخذ، فأفرخت ms393 روعي، وحلفت لي بكل محرجة من ~~الأيمان أنه لا يراد بي مكروه أبدا، وما زالت بي تلاطفني وتؤانسني حتى ~~تطامنت وثابت لي نفسي. # وسرنا على هذا ساعة، ثم أحسست السيارة قد وقفت، وسمعت صرير بوابة ~~تفتح، فنجوزها ثم تغلق، وبعد دقائق جزنا على هذا ببوابة أخرى، ثم بعد ~~دقائق جزنا بثالثة، وأنا أشعر أثناء ذلك كله أننا نخوض حدائق غناء، ~~تتضوع أزهارها، وتتغنى أطيارها، وأسمع لخلجانها آذيا وهديرا، ولجداولها ~~مضمضة وخريرا، ثم وقفت السيارة وتدلى عنها الركب، وقادتني السيدة بيدها ~~الناعمة فصعدنا أولا بضع سلاليم، ثم سارت بي قليلا وتقدمت إلى ~~الخدم فرفعوا العصابة عن عيني، فإذا بي في بهو لا يتصور العقل سعة ~~جنباته. # ثم جعل يصف لي ما حلي به من دمى وتماثيل وصور وتهاويل، ومنها ما نحت ~~من المرمر، ومنها ما رصعت أطرافه بالدر والجوهر، مما لم يرد مثله عن ~~الإيوان، أو عن قصر غمدان. # ثم مضت به إلى الطابق العلوي، ولا تنس أن الخصيان والجواري (البيض طبعا) ~~وقوف صفين على طول الطريق، في أيديهم الشموع والمجامر تضوع بفتيت العنبر، ~~وبالمسك الأذفر، حتى يأذن الله وينتهي المسير بإيوان، وإذا فيه أربعمائة فتاة ~~كلهن أحلى من البدر، وأنضر من الزهر، وأبدع من الدهر إذا أقبل الدهر، وإذا ~~هتاف يصم الآذان، وتصفيق يرج الإيوان، وإذا صاحبتي تصيح صياح مؤذن جاهد في ~~الأذان: «لقد كسبت الرهان، فقد جئتكن بفلان!» # وتعزف الموسيقى وكل العازفات من الكواعب الأتراب، ولا تسل عن تهافت الفتيات ~~عليه وتباريهن فيه إذا كان الرقص، وكان هصر القدود، أو كان عصر الخدود! ~~••• # فإذا أنكرت علي، يا سيدي القارئ، إيماني بهذه «البطولة»، وإعجابي بهؤلاء ~~«الأبطال»، فأنت امرؤ لا حظ لك في تذوق الشعر ولا في تقدير قدر ~~الخيال! # | غواة؟ # فإذا أباها علينا صديقنا الأستاذ صادق عنبر قلنا هواة، وأمرنا لله! # الواقع أن بعض إخواننا الموظفين هواة، أو على الصحيح عند العامة غواة، شديدو ~~الكلف «بالغية»، وليس يقع هواهم على شيء مما يتكلفه الناس في هذا الباب، من حذق ~~تصوير ms394، أو حفر، أو تجويد ضرب على عود أو قانون، أو تربية الأزهار وتوليدها ~~وتلوينها، أو الملاعبة بالحمام، والاشتغال بنطاح الكباش، ومهارشة الديكة، أو. أو. ~~إلخ، فإن هواهم أو «غيتهم» إلى شيء آخر، أفتدري ما هذا الشيء؟ هو الكلام في ~~«الحركة». فإذا كانوا من سلك القضاء كان الكلام في «الحركة» القضائية، وإذا كانوا ~~من رجال الإدارة، فالكلام في «الحركة» الإدارية، وإنه لهوى يملك عليهم عواطفهم، ~~ويستهلك أوقاتهم، فيطغى على لذائذهم جميعا. # وإنهم ليتعاهدون مكانا من فندق، أو موضعا في مقهى، أو منظرة في دار إذا ~~كانوا في الريف. فإذا فرغوا من أعمالهم انتظم مجلسهم، وبدأ الكلام في «الحركة»، ~~وميعاد صدور «الحركة». وراح كل يروي ما اتصل به من ذلك فمن قائل إنها ~~ستصدر بعد ثلاثة أيام، ويسند هذا إلى خبر ثقة في وزارة الحقانية فيبتدره ~~ثان بأنها لا تكون إلا بعد شهر على الأقل، ويحتج لهذا ثالث بأن هناك ~~إشكالا فيمن يختار للمنصب الفلاني ... # ويدور الجدل والحوار في هذا ساعة أو ساعتين ... فإذا فرغوا منه أقبلوا يتفقدون من ~~«عليهم الدور» في الحركة المقبلة. ومن هم الذين سيقع لهم الحظ فيها، فيجري الكلام ~~في الترشيح للمناصب الخالية، وفيمن يخلف كل من يفارق منصبه إلى أعلى منه، ~~وفيمن عليهم الدور للدرجة الأولى في القضاء ثم من عليهم الدور للدرجة الأولى في ~~النيابة، ثم فيمن عليهم الدور للنقل إلى محكمة مصر. ومن ذا الذي سينقل إلى قنا. ~~ومن ذا الذي سيندب للجنة المراقبة. ولا يزال يدافع الرجم والتخمين بالرجم ~~والتخمين، وترتفع الأصواب بالتماس العلل، والاحتجاج للرأي، حتى ينتصف الليل أو ~~يكاد، وينفض المجلس وينطلق كل إلى مثواه، فإذا كان أصيل اليوم الثاني، ~~عادوا إلى مجالسهم، واستأنفوا شأنهم، وأعادوا ما بدأوه في أمسهم، لا يخوضون ~~لحظة واحدة في غير حديثهم، فإذا كان يوم عطلة، عقدوا فيه جلسة «ماتينيه» للكلام في ~~الحركة أيضا، وإنك لا تسمع أحدا منهم طول حياته يلوك بيتا من الشعر، أو ~~يقلب لسانه في سبب من أسباب الحياة، أو يتجرى عليه نادرة ms395 ظريفة، أو طرفة تنتعش ~~بها النفس، أو ملحة تملأ الشدق بالضحك! ولا تراه يوما يغشى مجلس غناء أو تمثيل، ~~أو نحو هذا مما يطلبه الناس للرياضة والتفرج من كد العمل! ... إنما لذة العيش وقرة ~~العين، ومتعة الحياة وأنسها وبهجتها، كل أولئك في الكلام على «الحركة» وحدها. ~~حتى إذا غشى واحد من هؤلاء الهواة مجلس آخرين من إخوانهم، ممن لا يكرثهم ~~أمر «الحركة»، ولا يقتلون وقتهم في الحديث عنها؛ لأنهم لا يشغلون وقت ~~فراغهم إلا بما يشغله به سائر المتعلمين، من حوار في مسألة علمية، أو حديث في ~~الأدب، أو جدال في المسائل العامة، أو رواية حادثة غريبة، أو إرسال نكتة بارعة، ~~أقول إذ غشى واحد من أولئك مجلس جماعة من هؤلاء رأيته غريبا بينهم، ~~منقبضا عن شأنهم، غافلا عن حديثهم، حتى لتحسبنه لا يعرف لغتهم ! وإنه ~~ليهم المرة بعد المرة بتوجيه مجلسهم إلى الكلام في «الحركة»، فإذا لم يسترسلوا ~~معه فيه تسلل عن المجلس بسلام! # وإن أنس لا أنس أنني وصديقا لي، دخلنا «كازينو» الشاطبي أصيل يوم من ~~أيام الصيف، فإذا الناس فيه متشرفون على الشاطئ يستقبلون الهواء، ويمتعون الأنظار ~~بجمال البحر هناك، وإذا «فلان» جالس وحده وقد ولى البحر ظهره، فمال علي ~~صاحبي (وهو من القضاة أيضا)، وقال لي: أتعرف لماذا يجلس «فلان» هكذا؟ قلت لا! ~~قال: إنه يرتصد لأي قاض ليتكلم معه في «الحركة» المقبلة! فاعدل بنا عن طريقه، ~~لا أمتعه الله بهذا الكلام! # والعجب العاجب أنك قد تسأل جمعهم عمن يرقب نصيبه منهم في تلك «الحركة»، ~~فيجيبونك كلهم «لسه ما جاش علينا الدور»! ولقد سألت واحدا من هذا الضرب مرة: ~~متى ترقى يا فلان؟ فدس يده في جيبه واستخرج كشفا طويلا فنظر فيه ~~وقال: «فاضل قدامي 73 واحدا»! # وإنك لتصيب هذا الضرب من الموظفين في كل وزارة، وفي كل مصلحة تقريبا، وبحسبك ~~أن تطوف بالأماكن العامة وقت الغروب لترى للمتحدثين في «الحركة» من ~~موظفي كل منها مجلسا معقودا. # ولعل لإخواننا هؤلاء بعض العذر أو كله، فإنهم إنما يتقرون ms396 مستقبلهم، ~~ويتعجلون الأيام لينتهوا منها إلى عليا المناصب، ولكن ما عذر هؤلاء الذين أفضي ~~إليك بحديثهم؟ # من جيراننا كان المرحوم أحمد ثابت بك، (والد صديقنا الأستاذ الدكتور محجوب ثابت)، ~~وكان أوجه من في تلك الرقعة من رجال الإدارة المحالين إلى المعاش، فكانت ~~داره مثابة إخوانه المحالين على المعاش، تنتظمهم «المنظرة» في الشتاء، وتنعقد ~~حلقتهم على باب الدار في الصيف، وفيهم من قوست السنون ظهره، وفيهم من كف ~~بصره، وفيهم من أبطل الفالج نصفه، وإنهم ليعقدون مجلسهم من الساعة ~~التاسعة صباحا حتى يقوموا لغدائهم، ثم يستأنفوا شأنه إذا جاء العصر، فلا يبرحون ~~إلا إذا تنصف الليل، وعلى صاحب الدار الإكرام لهم بالقهوة «السادة»! والقهوة ~~«بسكر شوية»، أو السوبياء والليموناده في الصيف، أو القرفة أو الخلنجان إذا كان ~~الشتاء، أما حديثهم كله في مصبحهم وممساهم، وفي غدوهم وآصالهم، فمن لون ~~واحد، هو الكلام في الحركة الإدارية، ودار ثابت بك على مذهبي في غدوي ورواحي، وما ~~جزت بهم مرة من يوم نشأت إلا سمعت قائلهم: وعبد الغني شاكر؟ فيبادره ~~آخر: في ميت غمر، وخليل نايل في قنا، وحدايه؟ في طنطا، وقطري؟ في أسيوط، وعبد ~~العزيز يحيى؟ في بلبيس، وإبراهيم نبيه؟ إلخ، إلخ لقد حفظت، في صدر سني، ~~وعلى الرغم مني، أسماء جميع المديرين، ووكلاء المديريات، والمحافظين، ~~والحكمدارين ومأموري المراكز، ومواضعهم وما كان وما يكون من تردد كل منهم بين ~~مختلف المناصب في مختلف المواطن! # ولولا أن ألوى الردى بالمرحوم ثابت بك لكان الهتاف الآن بأسماء صادق يونس، وعبد ~~السلام الشاذلي، وأحمد فهمي حسين، وأحمد زكي مصطفى إلخ ... وسبحان من أودع ~~كل قلب ما شغله! # | فن الوظيفة؟ # تدور في هذه الأيام كلمة «الفن»، تنفض نفضا على كل من له عرق في تصوير أو ~~نحت أو غناء أو تمثيل، إذ هناك «فن» أدق وأبرع، وأجدى على «الفنان» وأنفع، ~~ومع هذا لم يعرض له النقدة، ولا هتفوا به في مقالاتهم، وإن شئت أن ~~تعرفه، فهو «فن الوظيفة». # و«فن الوظيفة»هذا - شرح الله صدرك، وأطال عمرك ms397، ورفع في المناصب قدرك - ~~فن واسع الأطراف، رحب الأكناف، مؤصل الأصول، مفصل الفصول، مقعد ~~القواعد، مبسط الأمثلة والشواهد، لا يحذقه الفتى إلا بعد الجهد وشدة ~~المطاولة، وسهر الليالي في التفكير والتدبير، وتمرين الأعضاء في كيفية القعود ~~والقيام، والسكوت والكلام، والدخول والخروج، والهبوط والعروج، والتشييع والاستقبال، ~~والخنوع والاستبسال، والانقباض والتبسيط، والرضا والتسخط، وإرهاف الأنف حتى يشم ~~الريح على أميال، ويدرك مدى تحول الجو من حال إلى حال. # وهذا «الفن» الجليل لا يكفي في تحصيله والتبريز فيه كل هذا؛ بل لا بد من التهيؤ ~~والاستعداد، وأن يكون للمرء طبيعة وموهبة، شأن سائر الفنون الجميلة! # ومن أولى مزايا هذا «الفن» الجليل تخليد «الوظيفة» للفنان على الزمان، ولو ~~عصفت أحداث السياسة بلداته جميعا! ومنها الوثب في الدرجات مثنى ~~وثلاث ورباع، وخماس وسداس وسباع. # وإني لأعرف طائفة من هؤلاء «الفنانين » مهد لهم «الفن» الدرج كله، ~~فتناولوه وثابا في كل وزارات: عدلي، وثروت، ونسيم، ويحيى، وسعد، وزيور، وعدلي، ~~والنحاس، ومحمد محمود، حتى بلغوا القنة بدقة الفن وحده، ناعمين بثقة الجميع، ~~ولا إيمان لهم بواحد من الجميع! # ألا حيا الله هذه الهمم، وحيا معها تلك الذمم! # | امتحان! ...1 # أنكد أيامي في القضاء الشرعي، هي تلك الأيام التي قضيتها في محكمة «كذا» ~~الجزئية التابعة لمحكمة «كذا» الكلية، ولهذه المحكمة رئيس وافر الذكاء شديد المكر، ~~وفيها نائب وقاض لا أصفهما إلا بما جرى بيني وبينهما في هذا الحديث. # في يوم أيوم تلقيت كتابا من «الرياسة» بندبي إلى «الكلية» لتكملة «الهيئة» ~~لجلسة امتحان المأذونين، وفي اليوم «الموعود» مضيت كارها، ورأيت ألا أضيع الوقت ~~سدى، فأنشأت وأنا في الطريق أضع الأسئلة التي تطلبها لائحة المأذونين، سواء ~~في الفقه الحنفي، أم في الأحكام النظامية للزواج والطلاق، أو في الحساب، أو ~~الإملاء، أو الخط، وسويت كل سؤال على صورة حادثة مما يعرض للمأذونين في مهنتهم ~~كلما دعوا إلى زواج أو إلى طلاق. # وبلغت المحكمة فإذا حجرتها الكبرى تموج بحضرات المتقدمين للامتحان، وقد ~~كبوا على الأرض كبا، وأعني الأرض نفسها لأنها متجردة ليس عليها بساط ms398 ولا ~~حصير، وهم بين متربع، وبين مقع، وبين معتمد على كعبيه وقد تعلق سائره، وبين جالس ~~على إحدى ركبتيه، وفي يمين كل منهم قلم، وفي يساره كاغد وبين يديه دواة من فخار، ~~وفي صدر الحجرة دكة انحط عليها صاحبا الفضيلة النائب والقاضي، والجميع جاثمون في ~~انتظاري، فاتخذت لي بين الشيخين مجلسا، وأومأت إليهما فتجمعت رءوسنا نحن ~~الثلاثة، وقلت لهما هامسا: لقد هيأت أسئلة الامتحان، فإذا راقت لكما ألقيتها ~~على المشايخ، وبذلك يتهيأ لي أن أعود إلى محكمتي في الحال، ففيها عمل كثير يحتاج ~~إلى طول علاج، فقالا: هات ما أعددت؛ فتلوته عليهما؛ فهبا في نفس ~~واحد: # لا، لا! وهتف النائب عن يميني: نحن لا نوافق، فرجع القاضي عن شمالي: أبدا ~~أبدا! وهمس النائب: «إحنا ما نخرجوش عن اللائحة»، فردد القاضي، بعد أن رفع كلتا ~~يديه حتى حاذتا فوديه، وأهوى بهما على فخذيه: «لا لا، ما نقدرشي نخرج عن ~~اللائحة»، فحقنت غيظي وقلت لهما في رفق: فما حكم اللائحة في ذاك؟ فدعا ~~النائب باللائحة فجاء بها الحاجب ودفعها إليه، ففرها حتى وقع منها على الفصل ~~الذي تجري فيه أحكام الامتحان، وتلا ما معناه: يؤدي طالب المأذونية امتحانا في ~~أحكام الزواج والطلاق وما يتعلق بهما شرعا ونظاما، وفي الإملاء والحساب والخط، ثم ~~أقبل علي وقال: أرح نفسك، فقد وضعنا أسئلة تنطبق على أحكام اللائحة ~~تمام الانطباق، قلت: فهاتها. # فتلا علي ما يأتي: # السؤال الأول: # ما هو الفقه على مذهب أبي حنيفة؟ # السؤال الثاني: # ما هي الأحكام النظامية للزواج والطلاق؟ # السؤال الثالث: # ما هو الحساب؟ # السؤال الرابع: # ما هو الإملاء؟ # السؤال الخامس: # ما هو الخط؟ # وهنا لم تعد جدران صدري تقوى على حقن الغيظ، فانفجر انفجارا وصحت ~~فيهما: ما الخط؟ أجيبا أنتما عن هذا السؤال! فأجابا في نفس واحد، لا نخرج عن ~~اللائحة، لا نخرج عن اللائحة! فقلت لهما: «وإني لأول مرة أفشي سر مداولة» ~~إنني غير موافق، فصاحا: ولكن الأمر تم بالأغلبية، فقلت لهما: إذن فامضغا ~~هذه الأغلبية، وتركتهما ونهضت من فوري ms399 أطلب وزير الحقانية لأتغداهما قبل أن ~~يتعشياني، وكان صاحب الدولة المغفور له عبد الخالق ثروت باشا، وقصصت ~~عليه القصة، فضحك رحمه الله حتى انكشف ناجذه. # ولم يصارحني برأي، على أنني قد اطمأننت إلى أنني لن يمسني سوء من أثر ~~فعلي، وأحمد الله تعالى أن أحد هذين الشيخين قد خرج بالسن، ولا أدري ماذا ~~صنع الله بالآخر، وأمثالهما - لا أكثر الله من أمثالهما - في القضاء غير ~~كثير. # وهنا مسألة يجب أن تثار وأن يبت فيها بالرأي: إذا مالت أغلبية القضاة إلى ~~حكم واضح الشذوذ أو ظاهر السخف، فهل يحق للقلة أن تنسحب ضنا بكرامتها ~~على الابتذال، أو يجب عليها الخضوع لحكم الكثرة طوعا لظاهر نص القوانين؟ ~~اللهم إن كان الثاني فيا ويل الأقليات من الأكثريات! # ولعل لي عودة إلى بعض ما عانيت من هؤلاء في محنة القضاء! # | يا خسارة! ... # لي صديق شاب أحرز إحدى الشهادات العليا من بضع سنين، وظل يسعى إلى «وظيفة» حتى ~~اهتدى من نحو شهر إلى «وظيفة» لا يدركها إلا إذا جاز إليها «امتحان مسابقة»، فأكب ~~المسكين على الكتب، وما بقي عنده من «مذكرات» أساتذته، وراح يجهد نفسه في مراجعة ~~ما تلقاه من فنون العلم، ودام على هذا قرابة شهر، وكلما قابلته وسألته في ~~شأنه أدخل الطمأنينة على نفسي بما راجع من مسائل العلم وما استذكر وما حصل، ~~حتى أضحى أمله في السبق إلى «الوظيفة» معقودا والحمد لله! # ولقد لقيني أمس فإذا هو مغيظ محنق، يشكو الزمان ويلوم صرف الدهر! لماذا؟ ~~لأنه قد وفق إلى «وظيفة» أخرى سيعين فيها بغير امتحان، ففيم كان جهده ~~وتعبه في مراجعة الكتب، واستظهار ما عمي عليه من مسائل العلم، وراح يلعن ~~الدهر الذي لم يسق إليه هذه «الوظيفة» الجديدة قبل أن يصنع ما صنع! # فأجبته من فوري «يا خسارة!»، فأومأ برأسه يؤمن على توجعي لحاله في لوعة ~~وحسرة! وانطلق مشيعا بضراعتي إلى الله تعالى أن يعوض عليه ولو بجهل ما ~~علم، ونسيان ما استذكر! والله على كل شيء قدير! # | بين القاضي والمأمور ms400 # كان قد وقع خلاف في الرأي في مجلس ببا الحسبي بين القاضي الشرعي ومأمور ~~المركز أثناء نظر إحدى القضايا، ثم استحال الجدل إلى مهاترة، فمشاتمة، ~~فاشتباك بالأيدي، وقد كان الضرب الذي كاله المأمور لصاحبه قاسيا مؤلما، ~~ولولا لطف الله، ودخول الحاضرين بينهما، لكانت فيها نفس القاضي المسكين. وقد ~~كتب المؤلف هذه الكلمة عقب الحادث، ونشرها في «الأهرام» في يونية سنة ~~1916. # سبقت «الأهرام» إلى ذكر تلك الحادثة الجلية التي وقعت في مجلس ببا الحسبي بين ~~فضيلة القاضي الشرعي وحضرة مأمور المركز. # ونحن لا نجزع من تهاتر اثنين ولا من تضاربهما، فإن جرائد البوليس وجداول ~~المحاكم، تحتفل كل يوم بما لا يحصى عديده من حوادث السب والقذف، والطعن والقتل، ~~ولكن جزعنا أن قاضيا تأدب بأدب الشرع، وقرأ المنطق، ودرس آداب البحث ~~والمناظرة؛ ومأمورا أخذ القانون، وولته الحكومة القيام على الأمن، وتنفيذ ~~الأحكام، وصيانة الآداب - يجمع بينهما مجلس الحكم والولاية، ويتفرغان للنظر في شئون ~~الأيتام، ومصالح العاجزين عن تدبير أموالهم، ليقضيا فيها بحكم الله - فإذا اختلفا ~~على رأي، وافترقا في النظر إلى مصلحة، حصرا على إيراد الحجة، وعييا عن تأييد ~~الرأي بقوة الدليل، ولم يطلبا من وسائل الفلج وأساليب الإقناع إلا التلاحي ~~بالألسن، والتصافح بالأكف، والتضارب بالعصي، والترامح بالأرجل، ونعوذ بالله. # يقعد المأمور في صدر المجلس الحسبي، والقاضي عن يمينه، والأعضاء الأعيان عن يساره، ~~والجند والحجاب، آخذون مذاهب الأبواب، ولا أقل من ثلاثة نفر أو أربعة من عمد ~~البلاد ووجوهها، وفدوا لبعض شأنهم في المركز - ولو لمحض بث الشوق إلى «البك» ~~المأمور. # ولو أجلت طرفك قليلا لوقع في زاوية الغرفة على جناب مفتش البنك الزراعي، ~~وهو مقبل بالحديث على حضرة المعاون حتى يأذن الله بالفراغ من تلك الجلسة، أما ~~الصراف فمشغول بالتسلل بين الكراسي والمكاتب، وطلب الطريق إلى «سعادة» المأمور، ولو ~~من فوق رءوس الأطفال، أو من دون آباط الرجال، فلا يكاد ينفلت من مأزق إلا إلى ~~مأزق. # وفي بهرة القاعة «أم القصر»، وقد تعلق الثلاثة الأيتام بذيلها، وإلى جانبها ~~حماتها أم الفقيد ms401 وأخواه، وأمامهم شيخ البلد والشاهدان، ومن خلفهم أهل القرابة غير ~~الوارثين، ووراء الجميع جمع من الحجاب، يدفعون أصحاب القضية الثانية بالأيدي ~~والمناكب إلى ما بين يدي الباب، حتى إذا فرغ المجلس مما بين يديه أخذ ينظر في ~~شأنهم، «فلا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا». # وفي بهو «المركز» من الأيامى والأيتام، والأوصياء والقوام، وذوي القربى ومشيخة ~~البلاد وغيرهم من المعدلين، والمزكين، والشرط والعسس، والأصحاب والأتراب، عدد ~~الرمل والحصى والتراب. # في هذا المشهد الجليل، والموقف العظيم الحفيل، اختلف الشيخ والمأمور، فتحاورا ~~وتناظرا، فدل الشيخ بشرف المنصب وتاه بجلالة الموضع، واعتز بحرمة الشرع الكريم، ~~واستطال المأمور بأبهة الرياسة، وباهى ببسطة النفوذ، وكاثر بمن حوله من الحرس ~~والجند، حتى إذا نفذ ما أعداه من المكاثرة والمفاخرة وما فتح عليهما في فنون ~~المجادلة والمهاترة، وثارت الحمية في النفوس، وتوثبت الحفيظة في الصدور، ~~عقدت الألسن عن السب والشتم، وتحركت الأيدي بالضرب واللطم، وجعلت العصي ~~تتهاوى على الرءوس والمناكب، كما تتهاوى في الليل البهيم الكواكب، والناس في أمر ~~مختلط: فمن جندي يتهيأ للقتال، ويتحفز للنزال، ومن خود يطلبن الأبواب، وفتيان ~~ينظرون لمن يكون الظفر والغلاب، ومن شيخ يضج، وعجوز تعج، وطفل مذعور، وغلام يصفق من ~~الطرب والسرور. # أما حاجب المحكمة، فقد «اختفى من الأثاث في البرم»، وانتهت المعركة ببطش المأمور ~~بفضيلة القاضي الذي خر صريعا، بعد أن صدعت ساقه، وخمشت أشداقه، وكسرت ~~ذراعه، واختلفت أضلاعه، وكذلك ظهرت القوة على جلال الفضل، وعقد لها لواء ~~النصر في المعركة الأولى، ولا يدري إلا الله لمن يكون الغلب في المعركة الثانية، ~~بين يدي النيابة إن شاء الله! # تفرق الجميع، ونفر الناس إلى بلادهم قانعين بسلامة الإياب! # أما حديث الموقعة، فتسمعه مفخما مجسما من شهود الرؤية، سواء في مجامع الشيوخ ~~على المصطبة، أو الشبان في الحقل (الغيط)، أو الفتيان في البيدر (الجرن)، أو النساء ~~على المورد (الموردة)، أو الأطفال على سيف الترعة، ويا له من حديث، حديث تضارب ~~الحكام، في مجلس الولاية والأحكام. ~~••• # وبعد فإنه لا غناء للقاضي الشرعي عن حضور ms402 المجلس الحسبي كل أسبوع مرة لأنه عضو ~~فيه، بل لأنه الذي يقيم - بحكم موضعه - من يجتمع الرأي على إقامته من الأوصياء ~~والقوام، فما عسى أن يصنع القضاة بعد الآن وقد سن مجلس ببا الحسبي سنة ~~جديدة في تبادل الآراء وتداول الأفكار، وهم كما يعلم الناس قاطبة قوم نحاف ~~الأجسام، رقاق العظام، لا حيلة لهم عند الخصام، ولا سداد لهم في موقف المقارعة ~~والصدام، أما المأمورون فهم جند أو أشباه جند، صلابة عود، وقوة ساعد، وشدة منة، وقد ~~ازدادوا بطول الرياضة والتمرين بأسا عند مقارنة الأقران، وصولة في يوم الكريهة ~~والطعان! # الرأي عندي أنه ما دامت الحكومة مبقية على القضاة، وما دام يجتمع في المجلس الحسبي ~~مثل قاضي ببا ومأمورها، فلا مندوحة لها عن اختيار واحدة من ثلاث: # فإما أن تختار القضاة الشرعيين من خريجي المدرسة الحربية، حتى تتكافأ القوتان، في ~~فنون الضرب والطعان! # وإما أن تأمر بألا يعقد المجلس الحسبي إلا إذا استوثق الأعضاء من كتاف المأمور، ~~فلا يصل شره إليهم، ولا تضر صولته عليهم! # والثالثة أن تخرج للقضاة الشرعيين، بدل الأوسمة التي تطبعها لهم، دروعا تقيهم ~~بأس المأمور وأذاه، وتعصمهم من كفه وعصاه؛ وإلا فالتخلف عن الحضور، أخف من ~~كف المأمور، والدخول في مجلس التأديب، أهون من الدخول في هذا المعترك، والوقوع ~~في هذا الشرك! # | يوم ويوم! ... # جازت بي أصيل اليوم زفة لجهاز عروس، تتقدمها الموسيقى العادية، ~~فالمؤنس (موسيقى القرب)، يليهما عنق من الشبان والفتيان: هذا باسط على راحتيه ~~ديباجة مزركشة، وهذا حامل غطاء مرقشا، وثالث «صينية» نحاس مكتفة بالفضة، ورابع ~~آنية زجاج مموهة بالذهب، وخامس علبة من الجلد انتظمت ثلاثة أكواب مفضضة الكعوب، ~~وسادس شاهر حذاء حريريا ... وتاسع طاس حمام صيغ من الفضة الخالصة ... إلخ ... ~~إلخ. # ثم يلي هؤلاء قطار من عربات «الكارو» لا يكاد يدرك الطرف آخره: هذه تحمل حشية ~~(مرتبة) وغطاء سرير، وهذه تحمل طنفسة وكرسي خيزران، وثالثة بسط عليها لحاف ~~مزخرف وثلاث وسائد مدبجة الأطراف، ورابعة عليها «دولاب» يتوجه بثلاثة أبواب من ~~البللور، وخامسة تظهرها ms403 «كنبة» و«فوتيان» منجدة ثلاثتها بحرير أرجواني، وسادسة ~~تحمل سائر «الطقم» من كراسي و«كنصول» ومناضد، وهكذا حتى يأذن الله ويجيء دور آنية ~~النحاس من أباريق، وطسوت غسل الثياب، وطسوت الحمام، ومن حلل ومغارف ومصاف ... إلخ ... ~~إلخ ...! ~~••• # وهذا ما يكون من أمر يوم الجهاز عند هذا الضرب من الناس، أما ما يكون من أمر يوم ~~«العزال» فلا أكثر من عربة واحدة لحمل هذا كله، مزيدا عليه ما لا يدخل في جهاز ~~العروس من «الماجور» و«الشالية» والزير وحمالته، وطاحونة البن، وأقفاص الفراريج ~~والحمام وغير ذلك، يركم ذلك كله بعضه فوق بعض، حتى ليخيل إليك من عظم ~~ارتفاعه، أن سراته تحك قرن الشمس! # | أعوذ بالله! ... # على طريقي إلى الدار «حانوت» والعياذ بالله تعالى، نضدت فيه خشب الموتى ~~ودكك الغسل تنضيدا بديعا، وسجيت على بعضها نماذج الأكفان الزاهية الألوان ~~من «شاهي» للرجال، و(كريب جورجيت) لموتى العرائس، ولم يعد ينقص هذا «الحانوت» ~~الطريف إلا أن تقام على بابه «فترينة» تزين بأسباب الموت وحوائجه. # ويجلس على بابه كل يوم من الصباح الباكر عماله الكرام، ومن «غاسلين وحمالين، ~~ومنشدين»، وهم يتوسمون وجه كل غاد ورائح، لعل القدر يسعدهم بمرزوء في أحد بنيه، أو ~~في أمه أو في أبيه. # وجزت بهم مصبح يوم وعيناي تنتضحان بالدمع من أثر رمد، فأتلعوا إلي ~~أعناقهم، ورأيت البشر يشيع في وجوههم، وسرعان ما تحركوا جذلين للقائي، وهم يدعون ~~الله في أنفسهم أن يجعل «استفتاحي لبن!» فصحت فيهم: استريحوا يا أولاد ال ... فما ~~بي والله بكاء، ولكنه الرمد، وكلنا والحمد لله بخير وعافية، وقطع الله أرزاقكم ولا ~~أدخل النعمة عليكم أبدا ...! # | أوكازيون! # تلقيت من بعض معارفي هذا الكتاب: # حضرة ... # قرأت ما كتبته عن «الحانوت» الواقع على طريق دارك، وغيظك من نشاط ~~هذه «الطائفة»، واجتهادها في عملها، وإعلانها عن بضاعتها بعرض حوائج ~~الموت مرتبة منظمة مزينة إلخ ... # وإني مصارحك يا سيدي بأن المصريين مهما افتنوا في هذا الباب، فما ~~كانوا ببالغين فيه شأو الإفرنج، فلقد وقعت ليدي في ربيع العام الماضي ms404 ~~جريدة إفرنجية تصدر في القاهرة، وفيها الإعلان الآتية ترجمته صادرا من ~~محل «حانوتي» مشهور: # إعلان # نتشرف بأن نعلن حضرات زبائننا الكرام بأنه نظرا لقرب حلول ~~موسم الصيف، وبدء ظهور الأوبئة وانتشار الحميات، قد أجرينا ~~تخفيضا هائلا في الأسعار، فضلا عن أننا قد استحضرنا من ~~أوروبا عربات فخمة من جميع الأحجام للرجال والسيدات والأولاد، ~~وصناديق مذهبة ومفضضة، ومحلاة بأدق النقوش وأبدعها، كما ~~استحضرنا كميات وافرة من «الكورونات» وغيرها، ومن يشرف ~~ير ما يسره! # فما قولك في هذا الإعلان. # المخلص (ن) ~~«حاشية» نسخة الجريدة ما زالت تحت يدي، وإني على استعداد لإرسالها إليكم ~~إذا شئتم وتقبلوا ... ~~(ن) ~~«اليوميات» أما نسخة الجريدة فلا حاجة بي إليها يا سيدي «ن»، لأنني لم أعتزم ~~الموت إلى الآن، على أنه إذا جرى القدر على نفسي أو - لا أذن على أحد ممن أحملهم ~~- فإننا لن نعامل في هذا إلا إخواننا المصريين، ومهما يكن من شيء، فالمهم في ~~الموضوع أن نعرف أثر هذا الإعلان اللطيف المشوق في إقبال الجمهور على ذلك ~~الحانوت الشهير! ... ولعله يتم صنيعه في موسم العام القادم - إن شاء الله - فيخرج ~~لعملائه «لوترية» تعطي من يسعده الحظ منهم بالنمرة الرابحة، الحق في التجهيز والدفن ~~مجانا! # في الخدمة! ... # لقيني اليوم في الترام لحاد (تربي) مشهور أعرفه، فسلم وسلمت، ~~وأقبلت عليه أحييه، بما جرت به عادة الناس، وأسأله عن شأنه، فقال لي يرد ~~التحية في لهجة تشف عن الصدق والإخلاص: «إحنا في الخدمة!»، فقلت له: الله ~~يحفظك؛ فأجاب من فوره كذلك في إخلاص ولهفة: «ربنا لا يحرمنا منك!» ~~••• # وبعد، فما أحسب أن دعوة في هذه الدنيا محققة الإجابة قدر هذه الدعوة، ~~«فإنا لله وإنا إليه راجعون»! # | شعراؤنا والندابات!1 # الحمد لله، لقد أصبح عندنا «طقم» شعراء لا يقل استعدادا ولا سرعة إجابة في ~~المهمات عن «موسيقى حسب الله» تمشي في «الزفف» كما تمشي في «الجنائز»، وتعزف دائما ~~- على حسب الأحوال - بالمطرب والمحزن من الألحان! # أمسى «طقم» الشعراء من ضروريات الحياة عندنا، يخف للدعوة وينشط للشعر هناء لكل ~~معرس ms405، وترحيبا بكل قادم، وتكريما لكل مولع بالظهور، ورثاء لكل ميت، ولا يبعد ~~أن تتسع غدا هذه المهنة فيحل شعراؤنا محل جماعة «شوبش» في «صبيحة» العرس، و«صلوا ~~عليه سعيد» بين يدي موكب «المطاهر»! # ولعل شعراءنا المجيدين يتخذون لهم محلا مختارا حتى يكونوا تحت طلب «الزبون» في ~~كل وقت، فلا يتبعوا أصحاب «الأفراح» ولا أهل الموت في التماسهم، وطول البحث عنهم، ~~وهم مخيرون بين أن يتخذوا لهذا الغرض قهوة «الآلاتية» بشارع محمد علي، أو حانوت ~~السيد مصطفى علي بالسيدة زينب، ما داموا مطلوبين دائما للأعراس كما هم مطلوبون ~~للمآتم، على أنه سيأتي - وقد يكون قريبا جدا - ذلك الوقت الذي يكلف صاحب ~~«المهم» الفراش بإحضار «طقم» شعراء، كما يستحضر عادة «طقم» الموسيقى، و«طقم» ~~المولوية، وحملة المباخر والقماقم إلخ. # لقد مات كثير ممن لا شأن لهم ولا جليل خطر في هذه الحياة، بل لقد كان بعضهم ممن ~~تعف عنهم كل فضيلة، وتكبر عليهم أحقر المزايا، ولم تتعلق منى أهليهم ولا ~~أصدقائهم بأن يعقدوا لهم يوما للرثاء، ومع ذلك بادر «طقم» الشعراء أنفسهم فأعلنوا ~~بلسانهم الدعوة إلى يوم الأربعين لاستماع مراثي فلان وفلان، وفي بعض الأحيان اضطلع ~~هؤلاء «الشعراء» بما تقتضيه «الحفلة» من النفقات، حتى يسمعوا الناس أشعارهم، ~~ويتباروا في إعلان بلاغاتهم! # والعجب العاجب - ولا يتعاظمنك الأمر أيها القارئ - أن بعض إخواننا الشعراء ~~غلبوا جماعة «الموالدية» أمثال الشيخ الحمزاوي، والشيخ سطوحي، والشيخ الزربي، إذ ~~أصبحوا يؤجرون عددا من المرتزقة ليرفعوا الأصوات بالهتاف لهم كلما أنشدوا، ~~ويبروا أيديهم من التصفيق كلما انحطوا إلى موضع قافية، ولو كانت الحفلة حفلة ~~رثاء لميت وتفجع على راحل! # لقد أصبح وجه الشبه شديدا جدا بين طائفة من شعرائنا وطائفة «الندابات» في مصر، ~~وهل جاءك أيها القارئ العزيز نبأ السيدات: حطبة، وحنطورة، # 2 # وأم إمام، وبتبت، ودجدجة ~~...؟ # إنهن لا ينقصن عن شعرائنا بديهة ولا حضور قول، وأكثرهن كذلك تشتغل نائحة في ~~المآتم و«عالمة» في «الأفراح»، يشعن الطرب في هذه، بقدر ما يبعثن الشجن ~~والأسى، ويثرن الدمع مدرارا في تلك ms406، إنهن في عامة الشعب قد يكن أبلغ ~~تأثيرا وأعلى مكانة من بعض شعرائنا في أشباه خاصته! # لقد دعين إلى مناحة المرحومية: منبوك، وكسلة، وبلحة، وإأه، وخليل بطيخة، وغيرهم ~~وغيرهم من «عتر» البلد و«صبواتها»، ويا طالما هيجن من زفرات، وأجرين من ~~عبرات، وبعثن الأكف تشبع الخدود لطما، واستنفرن الأظافير تفري ~~الصدور لدما، وكم دققن الرءوس دقا، وشققن الجيوب شقا. # وإذا كان شعراؤنا لا يعدون في وصف كل ميت بأنه أجمل من القمر، وأعلم من الجاحظ، ~~وأشعر من زهير، وأكتب من ابن المقفع، وأبلغ فلسفة من ابن سينا، حتى لا نكاد ~~نميز ميتا عن ميت - فإن في «الندابات» قصدا في القول، وتحريا في «الندب» لما ~~هو أشكل بكل ميت! # ولقد توفي في صدر هذا الأسبوع المغفور له المعلم دقدق الجزار، فكان مما قلن فيه: # اسم الله عليك يا خويه يا خطرة الباشة # يا محلي أورطك - يا عيني - في حبكة اللاسة # اسم الله عليك يا خويه يا خطرة اليمني # يا محلي دراعك - يا شلبي - في الشاهي اللبني. # والشيء بالشيء يذكر، فلقد اتصل بنا ممن لا يشك في روايته، أن المحلات ~~التجارية الكبرى، رأت أن تتخذ من «الندابات» أحسن ركلام عند من يغشين ~~المناحات من السيدات، لذلك تراهن ينتهزن الفرصة في موت إحدى العذارى فيقلن فيما ~~يندبن مثلا: # يا للي ما لحقتيش تتهني يا حلوة يا للي ما لحقتيش ~~تتمتعي يا عروسة! يا للي ملحقش أبوك يفرح بك يا شبة، ولا يجهزك من محل ~~فلان، يا للي ما وعيتيش لما يشتريلك الطقم اللاكيه اللي على الشمال ~~والواحد داخل يا حلوة، ياللي ما ستنتيش لما يجيب لك من «الكريب دي شين» ~~الموضة اللي جه الجمعة دي بس يا ختي، يا للي خطفك الخطاف قبل «الكازيون» ~~اللي فيه الحاجة هناك بتراب الفلوس يا عروسة! # ياللي ... ياللي ... حتى تستوفي «الكتالوج»، وتستقصي أسعار «الأكازيون» عن ~~آخره. # وما يدرينا، فلعل تجارنا واصلون غدا إلى أن يأجروا بعض شعرائنا ليصنعوا لهم ~~«ركلاما» عن بضائعهم و«موداتهم» في حفلات الأربعين ms407، فينشدوا مثلا فيما ينشدون من ~~أبيات الرثاء والتأبين: # كم زرت قصرك والإعجاب يدفعني # لوصف كل طريف فيه مجلوب # رأيت فيه بساطا جل ناسجه # من خير ما يحتوي دكان شلهوب # 3 # دكان شلهوب يستهوي النفوس بما # يضم من تحف في حسن ترتيب ~~••• # رأيته في قميص الخز مزدهيا # مما يقدم «برنار» # 4 # لأمجاد # وفوقه «بدلة» من خير ما صنعت # أيدي المجيدين من صناع «سيفاد» # 5 # عند العقارى ذا تلقاه منبسطا # وذاك في الطابق العلوي بمرصاد ~~••• # ولقد تخرمك المنية قبلما # تهنا بما جلبوا إليك وأطنبوا # لجهاز عرسك كل غال قيم # جادوا به فمفضض ومذهب # من عند سمعان الشهير وبعضه # من شيكريل أعز ما يتطلب # وبهذا يخدم شعراؤنا الأوطان، بما يسبقون فيه الأمريكان، من التفنن في وسائل ~~الإعلان! ms408