######OpenITI# #META# URI: 1362MuhammadKamilHajjaj.KhawatirKhayal.Hindawi80480207 #META# Tags: literary.criticism :: literature #META# ID: 80480207 #META# Title: خواطر الخيال وإملاء الوجدان #META# AuthorID: 51425862 #META# Author: محمد كامل حجاج #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # مقدمة‏ # خواطر الخيال وإملاء الوجدان‏ # الأبحاث الفلسفية والبسيكولوجية‏ # باب النقد‏ # الروايات التمثيلية‏ # الأبحاث الموسيقية‏ # متفرقات‏ # بلاغة الغرب‏ # مقدمة‏ # خواطر الخيال وإملاء الوجدان‏ # الأبحاث الفلسفية والبسيكولوجية‏ # باب النقد‏ # الروايات التمثيلية‏ # الأبحاث الموسيقية‏ # متفرقات‏ # بلاغة الغرب‏ # | خواطر الخيال وإملاء الوجدان # | خواطر الخيال وإملاء الوجدان # تأليف # محمد كامل حجاج # | مقدمة # بسم الله الرحمن الرحيم # حمدا لمن من على الإنسان بفيوضه الربانية، ونفحاته المباركة العلوية، حتى سما إلى ~~أرفع ذرى الخيال، وأنتج في عالم البلاغة أفخم مثال، وصلاة وسلاما على من أوتي الحكمة ~~وفصل الخطاب، ومن فتن بروائع بلاغته العقول والألباب، وبعد؛ فأهدي إلى القراء بعض ما ~~جادت به القريحة وجال فيها الخيال من فنون مختلفة، وأبحاث متفاوتة وقليل من قطع معربة ~~في التمثيل وغيره عسى أن تصادف قبولا عند الجمهور الكريم، ولا أنسى الحفاوة العظيمة ~~التي تقبل بها القراء والفضلاء «بلاغة الغرب»، ولعمري إنها لتدل على كرم حاتمي وتسامح ~~كبير حيال عمل لا يستحق كل هذا الثناء، وإني أقدم لهم واجب الشكر على هذا العطف الكريم ~~وتلك السجايا النادرة، وأدعو الله أن يوفقنا جميعا لخدمة الأمة وأن يمكننا من أداء ~~الواجب؛ إنه سميع مجيب. # | خواطر الخيال وإملاء الوجدان # (1) الربيع # ذهبت بعد ظهيرة يوم طاب هواؤه، وصفت سماؤه، مع رفقة من خير الأصدقاء، وصفوة الأحباء، ~~إلى القناطر الخيرية؛ لنمتع منا النواظر، ونجلو الخواطر، ونمحو ما خط على جباهنا من ~~غضون سطرتها الهموم والشجون بجمال الربيع المتجلي بمظاهره الساحرة، فوق تلك الجنات ~~الناضرة، والمياه اللجينية الجارية، والأفياء الظليلة الوارفة. # هناك مهد الربيع وإيوانه، وبهاء الطبيعة الغض وسلطانه، ومهبط طيف الشعر والخيال، ~~ومظهر الجمال والجلال، ومهب النسيم الأريج، ومنبت الزهر الشذي البهيج. # هناك ملتقى الأنهار، وقرة الأنظار، وقبلة النعيم، وشفاء السقيم، وملاذ المحزون، ~~وسلوان المفتون. # خطت هذه الجنان الفيحاء، والغابات الغلباء بذوق سليم، إذ توخي فيها تمثيل الطبيعة ~~وحراجها وروابيها ومروجها، وخمائلها ودروبها ودوحها الشاهق، ونخلها الباسق؛ فأصبحت ~~يتيمة عقد رياض القطر فلا ترى فيها شكلا هندسيا ولا سطحا معتدلا، وقد نثرت فوق تلك ~~البسط الزمردية ms001 أشجار تفاوتت أحجامها واختلفت أبعادها واتجاهاتها. # يظن الساذج أن تلك الروضات لا نظام لها، خالية من الفن والترتيب، ولكنها في الحقيقة ~~خاضعة لنظام دقيق فني لا يدركه إلا من أوتي ذوقا رفيعا، ومارس فن النباتات وتخطيط ~~الحدائق زمنا طويلا. # سارت بنا مركبة «الترولي» فوق تلك القناطر الفخمة، وماء الترع يتدفق من فوق أبواب ~~العيون الموصدة وهو يدوي عند تدهوره كالرعد القاصف، والسيل العرمرم الجارف، ويدحرج ~~اللجج الهائجة المزبدة حتى وصلنا إلى الحديقة الأخيرة في الضفة الثانية من الترعة ~~المنوفية، وهي بيت القصيد من تلك الجنان وأحدثها عهدا. # عرجنا يسرة عند ملتقى النيل بتلك الترعة، وصعدنا إلى ربوة شائقة سائرين في ممر ~~نثرت في جانبيه شعب من أصول الأشجار العظيمة، وغطي طرف منها بالطين، غرست فيه بعض ~~النباتات الفارشة من «بلومباجو» كاس بزهره الأزرق الصافي «وجيرانيوم بلتاتوم»، وقد ~~ازدان بأزهاره من أحمر وأبيض ووردي «وروسيليا جونسيا»، وقد استرسلت فريعاتها الشعرية، ~~وتدلت عناقيدها المرجانية. # جلسنا فوق مقعد بقمة تلك الربوة وعلى كثب منا شجرة «دوتزيا كريناتا» كاسية ~~بعناقيدها البيضاء الناصعة كأنها مجللة بالجليد، وقد زرعت حولها دائرة من «البيجونيا» ~~ذات الأزهار المستمرة فلمعت أوراقها كالأطلس، وغطيت بأزهارها الرشيقة الحمراء، وعلى ~~مقربة منا دائرتان؛ إحداهما من المنثور، والثانية من الخيري، وقد تضوع المكان ~~بأرجهما الشذي. # أشرفنا من هذه الربوة الزمردية على ذلك الفردوس الفخم، وقد امتد أمامنا فرشه السندسي، ~~ونثر فوقه بديع الزهر ورشيق النور كأنه بساط من استبرق نثر عليه اللؤلؤ والياقوت ~~والزبرجد والماس. # انتقلنا إلى الجهة اليمني فشاهدنا أشجارها الباسقة من اللبخ «والبوانسيا ناريجيا» ~~وغيرها، وقد تسلقت عليها «البوجنفليا» الحمراء، «والرينكوسبرموم» الياسميني بأزهاره ~~البيضاء التي تحاكي الياسمين في رياه وشكله، «والبومونسيا» بأزهارها التي تشبه الأبواق ~~البيضاء وشذاها المنعش. # جللت هذه المتسلقات جذوع تلك الأشجار وكستها ثيابا بديعة، وصعدت فروعها إلى أفنان ~~الدوح لتعانقها وتلثمها وتحتمي بها من غائلة الرياح العنيفة التي تعبث بأغصانها ~~الرفيعة اللدنة. # نبتت تحت ظلال خمائل الأيك نباتات مختلفة تخشى الشمس والقر والقيظ مثل: كزبرة البئر ~~والسرخس والهليون ms002 الربشي «والبروميليا» «والكليفيا»، فأصبحت تمثل ركنا من أركان غابات ~~البريزيل. # تخيرنا هناك مكانا جميلا فيؤه ظليل، ونسيمه عليل، على ضفة بركة ماؤها سلسبيل، ~~وبه مقعدان كبيران تظللهما شجرة من الخلاف المتدلي. # لبثنا لحظة سكوتا نفكر في جمال الربيع، وبينا أنا مفتون بهذا الحسن الساحر، إذ عبثت ~~الصبا بغدائر الخلاف المسترسلة فمسحت وجهي كأنها تداعبني وتلاطفني، فالتفت إلى ~~الشجرة فرأيت طيف الشعر فناجاني بصوته العذب: «خذ اليراع والقرطاس ومجد الربيع بما ~~أوحيه إليك من فاتن النفحات.» # سلام زينة الكائنات، وموقظ الأرض من السبات، تحية طيبة يا كاسي العود بقشيب البرود، ~~ومرصع الأشجار برشيق الأزهار، وشذى النوار، ويانع الثمار. # تحرض جميع المخلوقات على الهيام، فتوردها موارد الجوى والآلام، وتطلق ألسنة العنادل ~~والشحارير والبلابل فتصدح بشجي الأنغام، معربة عما يخالجها من ضرام الغرام، وتغري ~~الأزهار فتنفر من براعمها، وتهرب من سجن أكمامها ناشدة عشاقها، من نحل وفراش تعانقها، ~~وترتشف معسول ثغورها. # أي ربيع العيش، ورائد النزق والطيش، ومهلك النفوس والأجسام، ومفسد الألباب والأحلام، ~~يا لك من أعمى أصم، وظالم غشوم لا يرحم، لا يردعك عقل ولا خلاق، ولا يروعك إرهاب ولا ~~إرهاق، أغرك عنفوان الشباب، فضللت محجة الصواب، وانغمست في حمأة الملذات، وشرفك ربك ~~فأبيت إلا أن تماثل العجماوات. # رباه إنك تعلم أنني زللت ربيعي بشكيمة العقل، وقضيت أيامي كلفا بنيل متفاوت ~~المعلومات، وأداء الواجبات، مولعا بمجيد الكماليات، مستبشعا كل لذة جثمانية، مستمرئا ~~الملذات الشريفة النفسية، ولكن النفس لم تبلغ مناها، ولم تؤد من واجباتها منتهاها، ~~فعساك اللهم تطيل أيام صبوتي، وتمد في نعيم صحتي، لأتم فروضي وواجباتي، وفي ذلك هناءتي ~~وسعادتي، ومطمح أملي وأمنيتي. ~~(2) الزمن # سلام أيها الخالد الفتي، سلام أيها العادل القوي، بوركت يا شيخ الحكماء، وإمام ~~الفلاسفة والعلماء! # أنت محيي الفضل ومخلده، ومعلي الحق وممجده، ومزهق الباطل ومبدده، أنكر فضلك الجهلاء، ~~ولعنك ظلما الأغبياء، وما دروا أنك مثقف الأحلام، ومصحح الأحكام، لم يفلح أبواي في ~~تأديبي، ولا أستاذتي في تهذيبي، وكنت وحدك لي خير مؤدب، وأفضل وأعظم مهذب. # كنت بالأمس ms003 أظن الجهلاء فضلاء، والوزانين شعراء، والخونة أمناء، والمنافقين أصدقاء، ~~والظالمين أبرياء، والمرائين أتقياء، فرفعت عن طرفي غشاوته، وأزلت عن قلبي غفلته، فتجلت ~~لي الحقيقة بأبهى مظاهرها، وأكمل معانيها. # أيها الزمن! علمتني القناعة فغنيت، ونعمتني بسعادة النفس فهنئت، ودرعتني بالصبر فلم ~~أجزع، وسلحتني باحتمال المكاره فلم أهلع، ورضي عني الناس فارتاح ضميري، وانشرح صدري، ~~فلست مؤملا من دنياي بعد هذا غير رضا الخالق. # لم أنس وقفتك أيها الزمن أمام المأمون وقد سولت له نفسه أن يهدم أثر الفراعنة ~~الجليل، وأنت تضحك منه وتقول له: «ذراعك قصيرة أيها الغر عن أن تنال منه نيلا، ولا ~~تستطيع جميع الأنام أن تدمر ما خلدته الأيام!» # ظهرت النوابغ في عصور كان أهلها والأنعام سواء، فرأى بعضهم أن الانتحار خير وسيلة ~~للتخلص من هذا الخلف المشئوم، والخلق المذموم، وفضل الآخرون اعتزال هاته الأنعام ~~والانزواء في بيوتهم، لتجنب ازدرائهم وسخريتهم. # زمجر الشعر في صدر «توماس شاترتون» وهو غلام، فأصبح وهو في ربيعه السابع عشر شاعرا ~~مجيدا، ولم يؤثر شعره في قومه حتى يكفوه غائلة الجوع، وكان يسخر منه محافظ لندره ~~قائلا له: إنك يا بني عائش في عالم الأوهام، سابح في بحار الخيال والأحلام، وما هذا ~~إلا باطل لا ينفعك ولا ينفع الناس، واعلم أن الله خلق إنكلترا كهيئة سفينة قائمة ~~بمراقبة القارة الأوروبية، وقد انبعث منها مئات مثلها من السفن تمثل دولتها في ~~مستعمراتها، وقد قام الملك واللوردات بجانب العلم والبوصلة والخيزرانة، وأمسكت الأمة ~~بحبالها ومدافعها فلا ترى أحدا وسط هذه المعمعة عديم الفائدة، فأنبئني إذن عما يعمله ~~الشاعر وسط الملاحين. # فأجابه «شاترتون»: «إن الشاعر ليبحث في النجوم عن طريق السفينة التي تشير إليها أصبع ~~الخالق.» # ثم ناوله اللورد ورقة وقال له: «هذه مائة جنيه ففكر في الأمر، فإن هذا المبلغ لا ~~يستهان به.» # تناول الورقة ولم يكد يتم قراءتها حتى جن من الغضب والغيظ، وهرول إلى غرفته التي ~~استأجرها بمسكن «كيتي بيل» صاحبة محل الحلوى الذي دار فيه الحديث بينه وبين المحافظ ~~وبعض رفاقهما، فشرب ms004 جرعة كبيرة من محلول الأفيون، فسمع أنينه طبيب فرنسي كان يتردد إلى ~~هذا المحل، فهرول إليه فوجده في الاحتضار وقال له: «أيها الطبيب! اشتر جثتي بديني.» ثم ~~أسلم الروح وهو في ربيعه الثامن عشر، ووجد الطبيب فوق منضدته ورقة كتب فيها: «إنني مدين ~~لرب البيت بثلاثة جنيهات مقابل سكناي عن ستة شهور، وعسى أن لا يأسف المستر «كيني بيل» ~~حينما يبلغه أن طفليه كانا يعطياني في بعض الأحيان شيئا من الحلوى، وكان ذاك قوتي ~~الوحيد.» وبجانب هذه الورقة التي ناولها له اللورد وانتحر بسببها فإذا فيها: # إنني أعرض عليك أن تكون خادمي الأول مقابل مائة جنيه في العام. # لم يجد قوم «جوت» وهو زعيم شعرائهم قولا يطرونه به غير قولهم: «إنه كان جميل الخط ~~ولم يخطئ في الإملاء.» # ولما مثلت أوبيرا «كارمين» للموسيقي الفرنسي الشهير «بيزيه» صفر له الحاضرون صفير ~~الازدراء والسخرية، فاحتم الرجل ومات مكمودا بعد بضعة أيام. # ولم ير الموسيقي الشهير «هايدين» مزية في أبي الموسيقى وأكبر نابغة فيها «بيتهوفن» ~~إلا «أنه يحسن التوقيع على الكلافسان». # اعتزل «بيتهوفن» الناس وبلغ به الأمر أن شك في نبوغه، ولبث خاملا إلى أن مات فقيرا ~~حليف الهموم والأشجان. # لم يكن للمصور الفرنسي الشهير «جيريكو» بين قومه قدر يذكر؛ إذ لم يعترفوا له إلا ~~بأنه «كان يسحق الأصباغ جيدا». # عزى الزمن هؤلاء المنكودين الذين عثر بهم الجد قائلا: «صبرا أيها الكرام، فقد ~~عجزت عن هؤلاء الأنعام، وإن لم يظهر فضلكم اليوم فغدا يملأ الخافقين ويدوي صداه في ~~المشرقين.» # اجتاحت الأيام هؤلاء الطغام، وخلف من بعدهم خلف كريم، هذبه الزمن فمجد هؤلاء النوابغ ~~وخلد ذكرهم، ونشر آثارهم حتى عمت أركان الأرض وأصبحت نموذج الكمال، ومثال الجمال ~~والجلال، وأضحت رفات هؤلاء النوابغ تقول في رموسها: «بوركت أيها الزمن الحكيم، والمنصف ~~البار الكريم!» ~~(3) الزهرة والشيطان الجميل # بعدا أيها الشيطان الجميل! بعدا أيها الفتان الخائن! بعدا أيها الممثل المائن! ~~بعدا أيتها الأفعى التي لان ملمسها وفي أنيابها العطب! بعدا أيتها الكأس التي يلذ ~~للشارب أولها ويقتله ms005 آخرها! بعدا أيها النمر الملتحف بجلد المهاة! بعدا يا من يصبغ ~~فؤاده بالرياء والسواد كما يصبغ وجهه بالحمرة والبياض! بعدا يا من كلامه كالعسل ~~وفعله كالأسل! بعدا يا خضراء الدمن ونكد الزمن! بعدا أيها السراب الغرور! ~~بعدا يا جرثومة الشرور! # بلوتك ففررت منك فرار الآبق، حاولت افتناني آونة بجمالك، وطورا بسحرك، وتارة ~~بحولك، وأخرى بحيلك، فما طلت مني طائلا، ولا نلت مني نيلا، ورجعت بصفقة المغبون! ~~وكدت تأكل سبابتك من غيظ وجنون. # لو كنت صادقا في حبك، شريفا في خلالك؛ لكنت ملكا كريما يبث الهناءة أنى سار، ~~يريح القلوب، ويزيح الكروب، وينسي المصائب، وينشط الإنسان على الكدح في دنياه بهمة ~~لا تعرف الملل، وقلب ملؤه الآمال. # هبطت من مقام الملائكة إلى حظائر الأنعام بمحض إرادتك، مفضلا الملذات البهيمية على ~~الملذات الشريفة النفسية، فتمرغت في حمأة الموبقات، بعدما كنت محلقا فوق أزاهير ~~الجنات. # اقتربي مني أيتها الزهرة البديعة فأنت عندي خير من هذا الشيطان الجميل، أنت روحي ~~وريحاني! يفتنني مرآك، وتنعشني رؤياك، أنت لي في وحدتي خير أنيس وأدنى وأخلص جليس! أنت ~~نموذج الجمال! أنت مثال اللطف والبهاء! # لا تخشي مني لمسا يذهب بنضارتك، أو هجرا يقضي على رشاقتك؛ فإنني نعم الوفي الأمين ~~والمخلص البار. # لست من غلاظ القلوب والأكباد الذين يقطعون عنقك دون رحمة ليزينوا بك صدورا قبحتها ~~الشرور، ويثبتوك بإبرهم دون شفقة لئلا تفلتي من العذاب، وسرعان ما تموتين فيطرحونك تحت ~~أقدامهم، وما حملوك حبا فيك بل طلبا للزينة ومأربة لا حفاوة. # إنني أحبك وأغار عليك من النسيم فلربما استرق من شذاك وحمله لقوم لا يستحقون إلا ~~ريح السموم، أو ساق إليك من جراثيمه ما يؤذيك فأحميك في مكنون الحجرات وأخصك بالزلال ~~البارد ولو لم يكن عندي منه غير ما ينقع الغلة، إنني أقنع بمقعد خشن وأوثرك بثمين ~~البلور المزخرف بصفائح النضار، إنني أجلب أصلك من مشارق الأرض ومغاربها بثمن غال، ~~وأخدمك بنفسي وأخصك باحترامي وإجلالي فأنت بهجة النفوس، وريحانة القلوب، ونعيم الدنيا ~~والآخرة. # أنت نعيمي وهناءتي، أنت عزائي ms006 في بلائي، أنت جليسي في وحدتي، أنت أنيسي في وحشتي، ~~أنت سلواني في همومي وأحزاني. # فسلام أيتها الزهرة وبركات تترى عليك لتحميك مدى الأزمان من قسوة الإنسان. ~~(4) حضري ريفي # قاسيت من سكنى المدينة آلاما ثقالا، وأعواما طوالا، قضيتها بين ضيق صدر وقلق، ~~ووطأة حر وأرق، لا يتسرب النوم إلى أجفاني وقت الهجير من أناشيد باعة حب العزيز ~~ودفوفهم، وأغاني بائعي الحلوى المثلجة وأبواقهم، وصخب الصبيان ولغطهم، فكنت أهرع في ~~الآصال إلى الخلوات أو ضفاف النيل لأستطيع أن أحضر مسألة أو أحرر كلمة. # أردت أن أيمم الخلوات وأتخير منها مقاما طيبا ساكنا هنيئا بين الحقول النضرة ~~والمياه الجارية والظلال الوارفة والهواء الطلق، في بقعة لا أحتاج فيها إلى سفر يلجئني ~~إلى ركوب قطار أو انتظاره، فعثرت بعد البحث والتنقيب على موطن مبارك بشبرا في أطراف ~~حديقة «شيكولاني»، وجدت فيه دارا فيحاء، يزينها حديقة صغيرة غناء، تعانقها الحقول ~~من جوانبها الأربع، وقد خيم عليها السكون، واكتنفتها الدعة، ورفرف فوقها نسيم ~~الصبا، وصفرت حولها الرياح من زعزع ورخاء، وشمأل ونكباء. # كنت ذات يوم جالسا في طنفي الشمالي أروح نفسي بنفحات النسيم العليل، مسرحا ناظري في ~~مزارع البرسيم الواسعة المزرية ببسط الإستبرق الأخضر، وقد انتثرت فيه الأنعام السائمة ~~من ضأن ومعز وبقر وإبل تجلببت بمختلف الثياب، وبجانب البرسيم حقل زرع برا أوشك أن ~~يدرك وقد افترشته شمس الأصيل فزادت لونه العسجدي توهجا، وطفق النسيم يداعب سنابله حتى ~~أمسى كأنه خضم زاخر مالت عليه الشمس وقت غروبها فجعلته كذوب النضار. # تتهافت السيدات وأبناؤهن - وغالبهم من الإفرنج - على هذه الحقول الفتانة والخلوات ~~الجذابة؛ ليمرحوا ويلعبوا ويغنوا متهللين بذاك النعيم العظيم. # قامت على كثب من هذه الحقول المباركة البقية الباقية من حديقة «شيكولاني»، وقد ~~ضرب حولها سور من حديد، وارتفع وسطها كهف بني بذوق سليم، وعلاه كوخ صنع من سوق ~~النخيل بشكل رشيق يأخذ بمجامع القلوب، تزينه شجرة من «البوجنفيليا» الحمراء، وقد احتضنت ~~أعواد الكوخ وكست جوانب الكهف بغدائرها المسترسلة، وارتفعت وراء هذا الغار أشجار عظيمة ~~من ms007 «الفيكوس» كانت له بمثابة ستار أخضر يحجب ما خلفه ويزيده رونقا وبهاء، وقامت على ~~يمينه نخل باسقات مالت عراجينها ببسرها الأحمر والأصفر كأنها غادات رشيقات مسبلات ~~شعورهن وبآذانهن أقراط من نضار وياقوت. # ما أجمل الليل في تلك المواطن وما أحيلى بدره! إذ يتجلى في تلك الفجاج المترامية ~~بسناه الناصع، ولألائه اللامع، بشكل يذهب بالأشجان يثير الشعر في القرائح الخامدة، ~~ويؤجج العواطف في القلوب الجامدة. # أجلس في المساء في طنفي لأروح النفس بنسيم عليل يحمل إلي عرف أزهار حديقتي، ~~فينعشني بأريجه العبق، وتشجيني موسيقى الطبيعة، إذ يبدأ الكروان بغنائه الشجي بعد ~~الغروب، ثم يليه عند إقبال الظلام جوق الجندب بصفيره الرنان، وعلى كثب من ذرانا ~~ساقيتان إحداهما خلفنا والأخرى أمامنا تدوران الهزيع الأول من الليل، وقد تباين صوتاهما ~~فكانت إحداهما تحكي أنين «ألفريد دوموسيه» وقد هجرته خليلته، والأخرى تمثل شكوى «ألفريد ~~دوفيني» وقد خانته حليلته. # وعلى رمية سهم من الجهة الغربية تجري الترعة البولاقية وقد نصبت عليها الشواديف، ~~وحينما يأتي دور المناوبة ويغمرها الماء يهرع إليها الضفدع ويغني بصوته الغليظ كما ~~يجأر في الأذكار سوقتنا بحلوقهم بشكل ينفر منه الدين قبل النفوس. # كثيرا ما أسمع في سكون الليل ألحانا تنبعث حولنا ترددها كواعب غربيات بنغمات توقظ ~~ما سكن من أليم الذكرى، وتثير ما كمن من تباريح الهموم؛ فيتبدل سروري نكدا، ويغرورق ~~طرفي بعبرات تحجب ما يراه من محاسن الطبيعة التي كشفها البدر، فأهرول إلى أعماق الحجر ~~هربا من ذاك الصوت الرخيم، وأستغيث بكتاب قيم ينسيني متاعبي وآلامي، ويخمد في صدري ~~ما هاج من عنيف العواطف وتأجج من مضض الذكرى. # إنني أستيقظ في الصيف عادة في الساعة الخامسة، فأنزل إلى حديقتي؛ لأنعش نفسي بأرجها ~~الشذي، وأمتع طرفي بشروق الشمس وما تفتح من بديع الزهر، ورشيق النور، وأنشط بفلاحة ~~الأرض أعضائي وأعصابي من خمودها الذي عراها من النوم والسكون في حجر مقفلة، ثم أستأنف ~~عملي على الأصيل، وأروي نباتاتي وأمنحها من العناية ما تتطلبه. # أترقب ذكاء عند غروبها لأبتهج بمنظرها الشائق وقت المغيب ms008 كأنها درة متدحرجة فوق ~~بساط من زخرف يكاد توهجه يخطف الأبصار، وكأن السماء حولها صحفة أصباغ المصور، أو كأنها ~~حريق صادف وقودا مختلفا فاندلعت منه أعلام من نار تباينت ألوانها، وكأن السحب وهي ~~تحفها أقواس نصر شامخة نصبت لوداع الشمس، وكسيت بألوية من مختلف الديباج، وزينت بورود ~~وأزهار متفاوتة الألوان. # وترى آلافا مؤلفة من الزرازير والعنادل فوق الأيك صادحة للشمس بنشيد الوداع، ~~باكية لفراق يسلمها إلى سجن الظلام بعدما كانت تمرح مغردة متنقلة من فنن إلى فنن، ~~طاعمة من يانع الأثمار وشهي الجنى، مرتوية من لذيذ ماء عناقيد الأعناب. # أيها العيش الجديد، لقد هجت مني ذكرى الطفولة الحلوة وقتما كنت أجوب المزارع والأجران ~~فرحا مرحا كالفراش المتهلل، أركب النورج، وأصيد الأسماك، وأستحم في الترع، وأنسى ~~الغداء مستعيضا عنه بالذرة المشوية في الحقل. # كنت خالي البال عائشا في ظل أبوي أسكنهما الله فراديس الجنان، فيا ليتني لبثت طفلا ~~إلى يومنا هذا وعاش لي أبواي، ولم أدر أسرار الحياة وحقيقة الدنيا ونكد العيش وسوء ~~الحظ. # تلك سنة الدهر فلنطأطئ له الرءوس خاضعين صاغرين، فلا حيلة معه تنفع، ولا حول لنا ~~نجالد به وندافع مع خصم لا يقهر، وجبار لا يشفق ولا يرحم. ~~(5) فراش وفي # تاقت النفس بعد ظهيرة يوم من الخريف، رق هواؤه، وصفت سماؤه، واعتل نسيمه، وغرد ~~طيره، أن تستملي الخيال، وتناجي الوجدان، فضن وجمد، وانطفأ توقده وجمد، فاستغثت ~~بطيف الشعر وهو أعظم رفيق، وأوفى صديق، فناجاني أن لا تطمع مني بنيل ما دمت في مكانك، ~~فإني أنفر من هذا الهواء المسموم، واللغط المشئوم، وموعدنا الأصيل على ضفاف ~~النيل. # ذهبت إلى روض الجزيرة المشرف على النيل، وتخيرت مكانا خاليا بجانب نفق جميل بني ~~بأعواد الأشجار والصخور، وجللته النباتات المتسلقة ببديع أزهارها، ونثرت فوق صخوره ~~نباتات من فصائل مختلفة فكستها ثوبا قشيبا من حسن وبهاء. # وجهت وجهي شطر المغرب لأمتع ناظري بمرأى الشفق الشائق، فانتعشت نفسي من ذاك المنظر ~~الفخم، إذ رأيت فوجا من السحب المربدة فوق الشمس عندما اصفرت من ألم ms009 الفراق، فانعكست ~~أشعتها فوق الغمام وازدان بفاتن الألوان، فكأنني أرى قوس قزح وقد عظم حتى ملأ ~~الغرب، أو يخيل إلي أنني واقف في ظلام الليل فوق أكمة من آكام «نابولي» أشاهد منها ~~بركان «فيزوف» وهو يقذف لهبا تندلع منه ألسن عديدة تلون كل منها بلون خاص، وتشكل ~~بأشكال مختلفة، كون مجموعها شكلا بهيجا يعلوه دخان كثيف رمادي اللون كأنه عهن ~~منفوش، أو إطار جميل يحف صورة في الإتقان آية، وفي الجمال نهاية. # وبينا أشاهد هذا المنظر الشائق، إذ رأيت طيف الشعر محلقا فوق رأسي، ثم أسر إلي ~~إنني سأنفحك بنفحات ترضيك فخذ اليراع وصور ما سأسوقه إليك، ثم ودعني وانصرف. # لمحت بعد هنيهة طفلة جميلة كأنها دمية جاد بها بنان «فدياس» تعدو فوق بساط العشب ~~الزمردي وهي تطارد فراشا جميلا كأنه استعار بردا من ذاك الشفق، أو كأنه قطع من ~~وريقات ورود مختلفة الألوان خيط بعضها إلى بعض، أو صفائح الجمان رصعت بزبرجد وياقوت ~~ومرجان، وما لبث أن حط هذا الفراش فوق صدري كأنه يتوسل إلي أن أنقذه من صائدته ~~الرشيقة، فمسحت الطفلة ولاطفتها قائلا: أتبيعينني هذا الفراش المسكين بصورة جميلة ~~تماثلك ولفافة شهية من «الشكولاته»؟ ~~- إنك تخدعني ريثما يفلت صيدي. # ثم منحتها الثمن فتهللت وهرولت إلى مربيتها وطفقت تفاخرها بثمن صيدها. # هدأت روع الفراش وطمأنته وقلت له: إنني أحبك حبا جما فلا أستطيع مفارقتك، فهل ~~ترافقني إلى داري لتعرف مكانها علك تزورني من آن لآخر وتتخذني صديقا وفيا؟ ~~- ذلك ما كنت أبغيه، فإنني مدين لك بحياتي. # ثم رجعت إلى داري وصديقي محلق في العلا متتبع ~~خطواتي إلى أن وافيناها فقلت: أهلا بمثال الرشاقة واللطف، أهلا بآية الجمال والظرف، ~~مرحبا بصاحب البرد المزركش، والطيلسان المرقش، دونك أزهارا نضرة من ورود ونرجس ~~وسوسن وأقحوان، فاقتعد منها ما تشاء، وارتشف ما تشتهي من رحيقها، ثم افتح لي صدرك ~~وخبرني عن سرائك وضرائك. ~~- إننا معشر الفراش خلق فتن بالأزهار والرياض، لا نأكل إلا رحيقها، ولا نشرب غير ~~نداها، نأنس بها وتأنس بنا، وتحبنا ms010 ونحبها، وحينما يرانا الإنسان متعانقين يتملكه الحسد ~~وينقض علينا ويسمر جناحينا بإبره ثم يحقننا بسموم تكون لنا قاتلة ومحنطة، ويحفظنا في ~~رموس من الزجاج، ويتخذ من رفاتنا زينة، ومن عفننا ذخيرة، إننا نحسن للإنسان وهو لا ~~يدري، ونعمل له الخير دون أن نعلنه، إذ لا نريد جزاء ولا شكورا، نحن الذين يبدعون له ~~كل يوم من مختلف الثمار ما يلذ له، ومن شائق الأزهار ما يفتنه، نحن وحدنا الذين تفتح ~~لهم عاشقاتهم الأزهار ثغورها لنلقحها من أبناء جنسها، فنحدث لهم ألوانا شتى تسر ~~الناظرين، فيا له من قاس ظالم نعامله بالإحسان ويكافئنا بالعدوان. ~~- هون عليك أيها الصديق البار فقد جبل الإنسان على الظلم والعدوان، وإن أردت أن ~~تتقي شروره فاعتزله واهرع إلى الغابات العذراء، واتخذها لك وحدك جنة تنعم بسكونها ~~وترتشف ثغور زهرها وتنتعش بنسيم صباها وشميم شذاها، وحبذا لو تفضلت وزرتني من فترة ~~لأخرى حتى أنعش النفس بحديثك الحلو، وأمتع الطرف بجمالك المتجدد، وتيقن أنك تجد عندي في ~~كل الأوقات من بديع الزهر ما تشتهي أن تقتات منه وتنعم به. # ليتني أوتيت حريتك وهناءتك! ليتني وهبت جمالك ورشاقتك، فأنتقل من الزهرات إلى ~~الثمرات، ومن العيون الجاريات إلى شائق الجنات، ومن الندى البليل إلى النسيم العليل، ~~تتخذ من ثغور الأزهار مضجعا، ومن وريقاتها المزرية ببديع الديباج غطاء، ومن أوراق ~~الأفنان عرشا وسماء. ~~- سنلتقي قريبا فلا تخش فراقا طويلا أيها الصديق الوفي، والمحسن السخي. ~~- على الطائر الميمون، تشيعك المهج والعيون! سلام يا ملك الجنات! سلام يا مبدع ~~الثمرات والزهرات! سلام يا رب الرشاقة والجمال، سلام يا حلو الشمائل والخلال! ~~(6) الأدب حليف الشقاء # يرتاح روحي ويبتهج فؤادي لقراءة سطور الشقاء وآيات البؤس والآلام ارتياح أذني لسماع ~~ألحان الأشجان، ونغمات التأوهات والأحزان، ويهدأ ثائري وينعم بالي لرؤية تمثيل الفاجعات ~~والأكدار، ومطاردة القضاء ومعاندة الأقدار. # كنت ذات يوم منفردا مهموما مكروبا أستعرض جيوش شقائي، وصور بؤسي وبلائي، لا أجد ~~بجانبي فؤادا رحيما أشكو إليه بثي فيسكن آلامي بكلمة حلوة أو عبرة مترقرقة ~~آنس منها ms011 عطفا وإشفاقا. # كبر على الزمان أن يرى بجانبي فؤادا رحيما يتوجع لبلائي، ويتهلل لسعادتي وهناءتي، ~~ويؤنسني في وحدتي، ويسليني في وحشتي، فاختطف أما حنونا بارة صالحة، فذهب بذهابها ~~آخر قلب شفيق وخاتمة العزاء والسلوان والرحمة والحنان. # وبينا أنا مطرق الرأس مسترسل العبرات، إذ شعرت بيد لطيفة تمسح رأسي المطرق، وطرفي ~~المغرورق. نظرت إلى الطارق فإذا هو طيف الشعر بوجهه المشرق وثغره الباسم يقول: ~~«بجانبك كتاب جديد لم تقرأه بعد، وهو خير عزاء، وأجل شفاء.» # أسرعت إلى الكتاب وطفقت أقرأ صحفه بشوق زائد وارتياح عظيم، فإذا هو يسطر تاريخ ~~«ديبورد فالمور» الشاعرة المجيدة الفرنسية مع نخب من قريضها، كانت آية في الجمال ~~ومثالا للرشاقة والرقة، تشجي النفوس برخامة صوتها، وتفتن القلوب ببراعة تمثيلها، وتسحر ~~الحواس برائق شعرها، ورائع بلاغتها. # لم تؤثر جميع هذه المحاسن الخلابة، والشمائل الجذابة، والمواهب العظيمة الفتانة في ~~الدهر حتى يرق لها ويشفق عليها، بل ناضلها بفاجعاته وشقائه نضالا يشيب لهوله الولدان، ~~ولم تجد في مشارق الأرض ومغاربها راحما ينتشلها من وهدة البؤس ويحميها من عدوان ~~الزمان. # فكرت طويلا علي أفهم أسرار الزمان في مطاردته لأهل الأدب وأصمائهم بنبال الشقاء، ~~والألم والبلاء، حرت في أمري فهرعت إلى طيف الشعر مسائلا: أيها الطيف الخالد، والخيال ~~الجواب! لم يعادي الزمن أبناءك الأوفياء، ويسالم الجهلاء الأغنياء؟ ~~- لولا هذا العداء لما اقتعد الأديب هذه الذروة الشماء، يطعنه الزمن بخنجره فيوقظ ~~حواسه الهاجعة؛ فينبعث منه أنين الشعر الساحر كما يطعن الموسيقار مزهره بريشته فينطلق ~~منه صوته الفتان بشجي الأنغام والألحان. # أفاض الله من نوره على بصره وقلبه وسمعه وشمه؛ فرأى جمال الطبيعة وهي عارية، وفهم ~~نظامها وانسجامها، وسمع أنغام طيرها ورياحها، وشم عرف شذاها. # أرسله ربه هاديا للضالين، ومعلما للجاهلين، ~~ومعزيا للمصابين، وملطفا لشقاء البائسين، أيحسد الأغنياء الأغبياء على ما أوتوه من ~~حطام الدنيا وما مثلهم إلا كمثل الأنعام السائمة في المروج الخضراء، لا تدري من الدنيا ~~إلا أن تملأ كرشها وتتمرغ في روثها. # خبر الشعراء أنهم إذا شاقهم تراث الدنيا هبطوا من ms012 مقام الملائكة الشريف الأعلى إلى ~~زرب الأنعام النجس الأدنى؛ فينطفئ نور حجاهم، وتغلظ قلوبهم وأكبادهم، قل لهم أن لا ~~يتركوا الشعر يرعد ويبرق في صدورهم لئلا يقضي عليهم وهم في ريعان شبابهم؛ فتحرم الخلائق ~~من برهم وخيرهم. # أنبئهم بأن لا يكظموا أنينهم المطرب، ولا يخمدوا تأوهاتهم المشجية؛ فإنها عزاء لهم ~~ولغيرهم من المنكودين، وتسبيح وتمجيد للخالق، وإن صادفت وقرا في آذان أهل الأرض ~~فسيسمعها رب رحيم عادل. ~~(7) الصداقة # كنت ذات ليلة ساهرا بغرفة مطالعتي أتمم قراءة القسم الأخير من كتاب «سان مار» لفخر ~~شعراء فرنسا وحكمائها «ألفريد دوفيني»، وقد وجدتني من شدة التأثر زائد الحرارة، سريع ~~التنفس، مستجمع الحواس هائج الأعصاب، وكأن حروف الكتاب قد تجسمت أمام عيني حتى خيل ~~إلي أني أراها من وراء منظار، وكنت لا ألبث أن أبدأ الصحيفة حتى آتي على آخرها بسرعة ~~غريبة دون أن يفوتني شيء من خفي معانيها، ودقيق مبانيها، وبعيد مراميها، وما وصلت ~~لآخر الكتاب حتى زاد اضطرابي، وغاب صوابي، واغرورقت عيناي رحمة وحنانا لخاتمة فتيين ~~جنى عليهما قلبهما الشريف الرحيم، وذكاؤهما الحاد العظيم. # ذهبت كالمحموم إلى فراشي، وطفقت أستعرض في مخيلتي صور ما تلوته من آيات البؤس وسطور ~~الشقاء وأليم العذاب ما أخر نومي وأطال سهادي، ثم أغفيت عند تباشير الفجر، وأنقذني ~~النعاس من متاعبي وآلامي فانتقلت إلى عالم الأحلام. # رأيتني سائرا في واد عظيم لم أر مثله في المقام الدنيوي يشقه نهر كبير، تحفه من ~~الجانبين سلسلتان من جبال منحدرة جللتهما رياض غناء، وغابات غلباء، أشجارها كاسية من ~~أزهارها البديعة، وبعضها مثقل بثمارها الدانية اليانعة، تصدح فوق أيكها بشجي أنغامها ~~عنادل وشحارير تجلببت بمفوف الرياش، وقد انتثرت وسط هذه الجنان قصور شائقة شاهقة بنيت ~~جميعها بذوق سليم، ونظام عجيب، وانسجام تام، فكانت لمحة من العين كافية لأن تلم بجميع ~~هذه القصور المبثوثة في سفوح الجبال الخضراء، كأنها منظر من مناظر الطبيعة نقشته ريشة ~~«كورو» وعلق فوق حائط أخضر. # رأيت النهر كالماس في صفائه، واستشف ناظراي قراره، فشاهدت فيه شعب المرجان ms013 وأصداف ~~اللؤلؤ، وأسماكا سابحة تبهر الرائي بجمالها وألوانها. # وبينا أنا مفتون بهذا النعيم، إذ شعرت بيد لطيفة مست كتفي من الوراء، فالتفت فإذا هو ~~«دوتو» فعانقني وقال: «مرحبا بذي القلب الرحيم الذي رق لبؤسنا وبكى لمصابنا الدنيوي، ~~هيا بنا إلى قصر «ماريون دلورم» فلربما نجد عندها أغلب الإخوان والأصدقاء.» # صحبته إلى قصر تجمعت فيه أسباب السعادة والهناءة، وانبعثت منه ملذات تسر النواظر ~~وتشنف الأسماع وتفتن القلوب؛ فابتهجت لرؤية «سان مار» وبجانبه خطيبته «لادوشيس ~~دومانتو»، تلك الفتاة الفتانة و«كورنيي» و«ملتون». # استقبلني الجميع بترحاب وشوق، وشكروا ما آنسوه مني من عطف وحنان، ثم أنشأت «ماريون ~~دلورم» تمازح أصدقاءها وتداعبهم برشاقتها المعهودة وجمالها الفتان وحديثها الساحر، ~~فأقبلت من وراء «سان مار» وخطيبته ومسحت خديهما الناعمين بيديها المزريتين بأيدي ~~الدمى قائلة: «الآن وقد التأم شملكما، وكفكفت عبراتكما، وزالت آلامكما، تنعمان بالحب ~~والحرية بعدما كنتما لا تتمكنان من محادثة بعد شق الأنفس في زوايا مذبح الكنيسة وهي ~~مقفرة دون أن يسبقكما عين «ريشليو»، أراكما الآن تقرآن في عيونكما آيات الحب العذري ~~«كبول وفرجيني».» # ثم انتقلت إلى «كورنيي» وقالت له: «قد ارتحت من نكد الدنيا ونسيت نعلك التي كنت ~~تنتظر الإسكاف ريثما يخصفها لك وأنت حافي القدمين، وزالت غضون وجهك وصرت تشنف ~~أسماعنا وتفتن نفوسنا بشعر أبلغ وأرق من شعرك الدنيوي.» # ثم جلست إلى «ميلتون» وقالت له: «الآن وقد نسيت ازدراء خلاني وعدم اهتمامهم بك حينما ~~كنت تقرأ لهم قصائدك في الشيطان ببهو منزلي بباريس، وكيف ألجأك الدهر لأن تكون كاتم ~~أسرار لعات جبار ألجم فاك، وكيف رسفت في أغلال العمى والشيخوخة بعد أن عضك ~~الفقر بنابه فأصبحت الآن ولا هم لك إلا أن تختال في برد شبابك القشيب، وتتنقل في ~~الرياض تنقل الفراش المفتون ببديع الأزهار وجميل النوار.» # رجعت «ماريون دولورم» إلى كرسيها واقترحت على «دوتو» أن يقوم في الجمع خطيبا ~~ويحدثهم عن الصداقة، وقالت له: «إنك صرفت شبابك في دراسة علم الاجتماع والفلسفة ~~والقوانين، وكنت أنت و«سان مار» المثال الوحيد في ms014 الدنيا للصداقة والوفاء.» فلبى الأمر ~~وأنشأ يقول: «لم يخلق الله في الدنيا نعمة أجل من الصداقة؛ إذ هي حب مقدس أنزله الله ~~على قلبين طاهرين شريفين متماثلين في الصفات والأخلاق، فأصبحا وقد استنار فؤادهما ~~بنور الله يقرأ كل منهما ضمير الآخر، ويفهم ما يرتسم على جبينه وعينيه من صور السرور أو ~~الهموم، فلا يلبث أن تنعكس هذه الصورة في نفسه، ويشعر بعين شعور صديقه فيتوجع لبلائه ~~ويتهلل لهناءته. # لا صداقة بين صغير وأمير، ولا بين شريرين؛ فما الأولى إلا تمليق، وما الثانية إلا ~~اشتراك في الجرم. # شاهدت في حياتي الأولى أن بعض الناس يتخذون الصداقة التمثيلية وسيلة لنيل مآربهم ~~وقضاء أغراضهم، وما هؤلاء إلا مداهنون منافقون. # كان يكفيني من الصديق عاطفة حنان وحب، ولكني ما كنت لأعثر عليها عند أغلب هؤلاء ~~الأصدقاء، بلوتهم فما وجدت فيهم غير مخلص وفي واحد اعتمدت عليه وشاطرته هناءتي ~~وشقائي إلى أن حز رأسينا ذاك الطاغية الجبار، وأراحنا من آلام الدنيا ~~وفاجعاتها.» # صفق له الجميع تصفيق الإعجاب قائلين: «لا فض فوك أيها الحكيم.» # وافتني «ماريون دولورم» باسمة الثغر، بادية البشر، وجلست إلى جانبي تلاطفني قائلة: ~~«أما يهدأ بالك وترفأ عبرتك مما رأيته من نعيم مقيم، وفرح عميم، فأولى لك بعد ما ~~شاهدته أن لا تتأثر مما تقرؤه من سطور شقائنا وصور بؤسنا وآلامنا، فقد أنستنا هذه ~~السعادة الدائمة جميع ماضينا التعس المنكود.» # وبينا أنا منتعش بهذا الحلم اللذيذ، إذ دوى في أذني صوت مزعج كأنه استغاثة مكروب أو ~~صراخ ملهوف: «خبازي يا ورق العنب.» فانتبهت من سباتي وأسفت لمبارحة هذا النعيم المقيم، ~~والملك الفخم العظيم. ~~(8) جمال الأزهار # تباركت مبدع الكائنات، وبارئ المخلوقات، ومجمل الغبراء بالجنات الغناء، والغابات ~~الغلباء، ومرصع النبات بشائق الأزهار، وفاتن النوار، لقد تجلت قدرتك، وظهرت عظمتك في ~~الزهرة مثال الجمال، ونموذج الحسن والجلال، وآية البهاء واللطف، ومنبع الرشاقة والظرف، ~~كيف لا وقد سقاها الندى بطله المنعش، وحملت إليها الصبا عبيرها الأريج، وأرسلت إليها ~~الشمس من أشعتها العسجدية ألوانا شتى تسر الناظرين. # إنها ms015 لنعيم الدنيا والآخرة عند أولي الألباب وفتنة الشعراء؛ إذ هي مبددة أحزانهم، ~~ومسرية أشجانهم، وطاردة وحشتهم، ومفرجة كروبهم، ومفرحة قلوبهم، وأعظم ذكرى لجليل صنع ~~الخالق. # لحا الله فظا غليظ القلب عبث بهذا الجمال، ولم يشفق على تلك الرقة وذاك اللطف، فقطع ~~أعناق الزهر وشد عليه بيد جافية قاسية، ودس أنفه فيه ليشمه فهشمه وأحرقه بأنفاسه ~~المتأججة بنار الشره، ثم يطرحه في مواطئ النعال حينما يسلم روحه إلى الصبا، وجماله ~~إلى الشمس، ونضارته إلى الندى. # مجد الأقدمون الزهر حتى قال اليونان: إن بعضا من العظماء في الميتولوجيا استحال ~~إلى أزهار، إذ رووا أن النرجس كان شابا رشيقا غض الشباب، وهب جمالا ساحرا، ~~وحسنا نادرا، يدعى «نارسيس» فافتتنت به الأرباب الأقدمون والحور، وفي ذات يوم امتد ~~فوق العشب ليشرب من ماء عين رائقة ساكنة، فأبصر نفسه على صفحات الماء، فحاول أن يتملك ~~شخصه الآخر المرتسم على الماء فلم يستطع، فطفق يتخبط من الغيظ حتى مات واستحال إلى ~~نرجسة. # كما أنهم أطلقوا اسم كثير من حسان الحور على بعض النباتات الجميلة مثل: «أماريلليس» ~~و«نيرين»، وكانتا من حاشية «ديان» ربة الصيد، واشتهرتا بحسنهما الفتان. ~~••• # رحت ذات يوم إلى داري بعد انقضاء أعمالي، وكان يوما عصيبا التهب فيه الجو فأصبح ~~كتنور أكلبه السجر وأسعده الوقود، وفرت الصبا من بطش الهاجرة، وأرسلت الغزالة ~~سهاما محترقة صائبة، فرأيت أزهار حديقتي وقد مالت أعناقها، وانقبضت وريقات تويجها، ~~وكاد يكمد زهاء ألوانها، تستغيث وهي صامتة بعبرات استعارتها من قطر الندى، واختلطت ~~برحيقها المعسول، ثم علقت بأهداب الأزهار كأنها أقراط من ماس متدلية من أذن تزري ~~بالورود، فهرولت إليها واقتطفتها بسوق طويلة ووضعتها في آنية بلورية ملئت زلالا ~~باردا، نسيت غذائي وجلست متلهفا بجانبها إلى أن انتعشت وعادت إليها نضارتها وزهاؤها ~~وتصوبت أعناقها، فناجيتها بهذا النجاء: # لبيك أيتها المخلوقات الرقيقة، سعديك أيتها الأجسام الرشيقة، لقد رجعت إليك ~~من أقصى المدينة مسرعا لأنقذك من شر القيظ، إنني أغار على جمالك الفتان فلا ~~ألمسك، ولا أقرب أنفاسي المحرقة من جسمك اللطيف ms016 ، بل أقنع بإطالة النظر إليك ~~والإعجاب بمحاسنك الخلابة، وأرضى بما ترسلينه إلي من شذاك مع نفحات الصبا ~~لأمد في حياتك، ويطول نعيمي وهناءتي، وعسى أن يقتدي بي قومي ويرأفوا بهذا ~~البهاء واللطف؛ فإن الزهر لحري بالعناية والحنان، والرحمة ~~والرضوان. ~~(9) الأمل # ألفت النفس منذ طفولتها أن تخلد إلى الدعة والسكون، وتنفر من جلبة الجماعات، ~~وتستبشع هرج الناس ومرجهم في مواسمهم وأعيادهم، وما فتئت تصبو إلى العزلة مؤثرة أن ~~تسامر كتابا قيما أو تناجي زهرة جميلة حتى أصبحت تعد الدار جنتها الفيحاء ونعيمها ~~المقيم. # يا ما أحيلى ليلا ينقذني من نصب الأعمال وقيظ النهار الموهن للقوى والمشتت ~~للخيال ... ما أشهى ليلا سعيدا يسلمني إلى الراحة وينعشني بنسيم عليل يحمل شميم ~~الأزهار، ويقربني من طيف الشعر، ويسكرني بنشوة الأماني والآمال، وينسيني آلاما تتجدد، ~~وشقاء ينتاب ويتردد. # أهرع في الليل إلى طنف اكتنفته الصبا، وامتدت أمامه الرياض والحقول، وسكن إليه ~~القمر فما برح يمر فوقه وينيره. # لاحظت بين النجوم كوكبا دريا ما انفك يطلع فوق رأسي وهو أكبر مما حوله وأشد ~~لمعانا، فصبت نفسي إليه وحسبته نجمها المسير، وطالعها الذي يكتم في صدره أسرارا ~~يتطلع إليها روحي ولا يدري إن كانت خيرا أم شرا. # أقضي هزيعا من الليل وأنا شاخص إلى نجمي المحبوب وهو يبسم لي في تلألئه، وينظر إلي ~~نظرات فاترات ملؤها العطف والحنان، ويرسل إلي من السماء تحية مباركة تكاد تنسيني ~~الوجود وتغرقني في بحار الآمال، وتقتادني إلى لذيذ الأحلام. # قرأت في بسماته الفتانة أنه يناجيني: إنني أكلؤك بعين عنايتي وأبشرك بمستقبل ~~باسم ينيلك آمالك، ويسكن آلامك، وينسيك مصائبك التي لولاها لم تعرف لذة العيش ولا هناءة ~~النعيم. # استمر كوكبي العزيز يؤرجحني بنجائه الفتان، والنسيم يسكرني بعبيره الأريج، حتى تخدرت ~~أعصابي فأغفيت. # فارقت هذه النشوة وهذا النعيم الذي أعده فخما ويراه غيري حقيرا وانتقلت إلى عالم ~~الأحلام، فتمثلت لي مسارح شقائي وصنوف أتراحي وعنائي؛ فتبدل فرحي كربا ونعيمي بؤسا، ~~وبلغت الروح التراقي، فقيض الله لي بعوضة لسعتني؛ فاستيقظت وأنا خافق القلب زائد ms017 ~~الحرارة أتصبب عرقا. # وجهت طرفي إلى نجمي وقد خالجني الشك وساورني الارتياب قائلا: أيها النجم الزاهر! يا ~~من هو مثال الحسن الساحر! حاشاك أن تغر منكودا أضناه زمانه وخذله قومه وإخوانه فلم يجد ~~راحما في الغبراء، أو مسليا في الضراء! # أجلك وأنت في عالمك العلوي الطاهر أن تخدع ذلك الكائن الواهي فيسترسل في أمانيه، ~~ويغتر بأضغاث أحلامه وسخيف أوهامه. # أنبئني بمصيري أيها النجم الخالد، فلست ممن يضيع عندهم السر، أو يأسفون على حياة تعسة ~~محوطة بضروب البلاء. # أرح فؤادي من شك يكاد ينهشه وقلق أليم يساوره ويضايقه، وإن كنت تعلم أنه قد حم القضاء ~~وجف القلم فلا تغيير ولا تبديل، فمن علي بضجعة لا يقظة بعدها تريح جسما واهيا، ~~وتغيث قلبا داميا. ~~(10) أيها البدر # هاجت الرياح وثارت السافيات مقلة سحبا مكفهرة من العجاج حجبت الشمس فاغبر وجه الأرض، ~~واستتر جمال الطبيعة ونورها، وغطت زمجرة الرياح على ألحان العنادل والشحارير، وهدير ~~الحمام، وغناء القمري، وحفيف الأشجار داعبتها الصبا، واستكنت الأوانس والأطفال في ~~مغانيها، وانكمشت الأنعام في حظائرها، وأقفرت الرياض والخلوات، ولبس الجو ثوب حداد ~~قاتم. # اعتكفت في داري ولم أتمتع بنصف هذا اليوم الذي أستريح فيه من عناء الأعمال، وطفقت ~~أرقب هذا الجو الأغبر من وراء زجاج الكوى وهو يعبث بأزهار حديقتي ويلوثها بأدرانه، ~~فساورني الضيق والسأم كالسجين المحزون. # ما لبثت السماء أن جادت بغيث هتان بدد الغبار، وغسل الأشجار، وأرجع إلى الأزهار ~~نضارتها وزهاءها، فابتسم وجه الأرض، وصفا الجو، وعاد الطير إلى غنائه متنقلا على ~~الغصون الميادة. # خرجت من سجن الحجر قبيل العشاء وكان الهواء ساكنا هادئا كليالي الربيع؛ فجلست في ~~طنفي وقد أشرق البدر بسناه الناصع المتلألئ كأنه درة وهاجة فوق بساط من إبريسم ~~لازوردي. # كشف البدر ما ستره الغبار، وأظهر جمال الطبيعة وبهاء الزهر الذي نشر عبيره الشذي ~~فأنعشني بسرور وبشر لا يوصفان، ورمى علي أشعته الوضاءة فكساني بطيلسان ~~فضي. # فتنني القمر بجماله الساحر، وخدر حواسي المضطربة من الحبس والضيق، وخيل إلي أن ~~ضوءه الذي جللني يد حسناء ms018 فتانة تشفي جريحا ببسمات تخجل وميض البروق، وتمسحه بيدها ~~الملطفة المسكنة. # لم أجد جليسا يؤنسني خيرا من البدر، فأطلت النظر إليه وناجيته بهذا النجاء: أيها ~~البدر المختال بشبابه الغض وفتوته المتجددة! ليت شعري كيف يتمادى الجاحدون في ~~طغيانهم وينكرون آيتك البينة! أمهلتهم من شهر إلى شهر حتى كرت الحقب وهم في غيهم ~~يعمهون. # أيها القمر الجائل! يقولون إن الكواكب هي التي تسير العالم وتتصرف فيه، فسلط زحل ~~على من يجأرون بجحود ران على قلوبهم ليخرس ألسنتهم، ويسلب عقولهم، ويتركهم يتخبطون في ~~البؤس والشقاء. # أيها البدر! سلط سحبك المعتمة لتكون حائلا بينك وبين من أنعم الله عليهم فكفروا ~~بأنعمه وأنكروه. # أيها القمر! حرض كواكبك لتسقط عليهم شهبا ثاقبة تطهر منهم الأرض؛ لئلا تنتشر ~~عدواهم إلى الصالحين. # أيها البدر! أصبح هؤلاء الزنادقة كالجيف تنبعث منها الروائح المنتنة فتسمم الهواء ~~والماء، فأرسل إليهم ريحا صرصرا عاتية تحملهم إلى أعماق الدأماء فلا تذر منهم ~~باقية. # أيها البدر! أشهدك يوم الدين أنني بريء من هؤلاء الشياطين، ولو استطعت أن أجازيهم بما ~~تمنيت لهم لما أحجمت، فأكتفي بصب اللعنات على رءوسهم الممقوتة إلى أن يبطش بهم الجبار، ~~ويساقوا إلى النار، وبئس المثوى والقرار. ~~(11) النور # سلام أيها المثل الأعلى، تحية طيبة يا من هو زين الكائنات، أدامك الله للنفوس بهجة، ~~وللقلوب ملذة، وللعيون مسرة. # سلام وإجلال لمثال البهاء والجمال، سلام يا فخر الكمال، وعنوان العظمة ~~والجلال. # أنت مسير الأكوان، أنت ميزان الزمان، أنت المطلب الأسمى للإنسان، أنت أعظم أمنية ~~للنبات والحيوان، أنت مفرج الكروب ومبدد الأحزان. # تهابك الأشرار، ويمقتك الفجار، وتنفر منك السباع العاتية، والهوام المؤذية. # كثيرا ما تساورني الأحزان، وتطاردني بجيوشها الأشجان، فتبعد النوم عن الأجفان، ~~ويتجافى جنبي عن الوساد، وأقضي ليلي حليف ألم وسهاد، أنشد مفرجا لكربي، ومنجيا من ~~ألمي ووصبي. # ما أطول الليل علي ما لم أنم! إذ لا تعرض علي في ظلمات الليل إلا مناظر الهموم ~~المروعة، ومسارح الآلام الفاجعة، فأظن أن ليلي أطول من دهر، ولا ينفك اليأس يصارع مني ~~الصبر، حتى ms019 يصيح الديك بنشيده الفخم، وهو سلوان المكروب، وعزاء المغلوب، والمبشر ~~باقتراب الصباح، وانتهاء نضال الأتراح. # مر هزيع آخر من الليل ولما ألمح تباشير السحر، فعاودني اليأس وقلت: لعن الله ~~الكذب وما أشنعه إذ تسربت جراثيم دائه إلى الطير وأصبح بعض الديكة يؤذن قبل ~~الفجر. # سمعت بعد هدء من الليل مؤذنا رخيم الصوت ينادي: حي على الفلاح، فقلت: أفلح من ~~صدق ولا فض فوك، ولا زال يردد في الليل البهيم صدى ألحانه التي تخفف عن القلوب ~~أثقالها، وتسكن أوصابها وآلامها، وحمدا لله على قرب انتهاء العذاب، وترنمت بقول ~~القائل: # اشتدي أزمة تنفرجي # قد آذن ليلك بالبلج # وما لبث أن بزغ الصباح وأنقذني من عذابي المستمر، فهرولت إلى الكوة ورفعت عنها ~~الأستار وفتحتها وناديت نداء المتهلل الظافر: سلام يا مفرج الكروب، سلام أيها المخلص من ~~الآلام الثقال، سلام يا روح الجمال، سلام يا سر الجلال، سلام أيها النور، ألف تحية طيبة ~~مخضلة ببليل نداك، معطرة بعرف أزهارك، تحملها الآرام الرشيقة السارحة، وتبلغكها ~~العنادل الصادحة. # إنك تتجلى فوق الأشياء فتظهر جمالها الخفي وقبحها المستور المزيف، وتبين خائنة الأعين ~~وما تخفي الصدور، فبارك الله فيك أيها النور! وخلدك مدى الأزمان والدهور! # أنت الذي تمنح النبات خضرته الزاهية، والأزهار ألوانها البديعة المونقة، وتطلق الطير ~~والحيوان من سجن الليل فتنطلق وقت تبلجك من أوكارها وحظائرها متهللة صادحة باغمة: ~~بوركت أيها النور البار. # تسل صارم سطوتك في وجوه الأشرار، فلا يظهرون وقت تجليك، وتسدد نظراتك الرائعة في ~~وجوه الفجار، فيركنون إلى الفرار؛ خشية الفضيحة والعار. # تتجنبك السباع واثقة من أنك ترشد إليها كل قناص وصياد، وتحذر الأيائل والمها من وثبات ~~الضراري وتمنحها حدة في أبصارها، تكفيها غائلتها وشرورها، وتخاف بطشك الهوام والجراثيم ~~فتستكن في جحورها، وتنكمش في بؤرها. # أنت الذي تنفذ إلى العقول حينما تستغيث بك لحل المعميات فتفيض عليها من النفحات ~~العلوية، والفيوض الربانية، ما يحل عويصها، ويظهر مكنوناتها. # أنت الذي تتجلى على الفكر فتنفحه برائع الخيال، وساحر الشعر، وبليغ القول، وجليل ~~الحكم، فتنطلق الألسنة قائلة ms020 : سلام أيها النور، سلام يا مسير الأكوان، سلام يا ميزان ~~الزمان. ~~(12) الظلام # تبت يداك أيها الكافر الباغي! ثكلتك أمك أيها الظالم الطاغي! توالت عليك اللعنات! ~~وصبت فوق رأسك المحن والآفات! # تنقض على الأبرار بدياجيرك المروعة وآلامك ومصائبك الفاجعة، فتعمي منهم الأبصار، ~~وتسد عليهم المسالك ليكفوك شدة المطاردة، ويقفوا بين يديك حيارى أذلاء كسخال وديعة ~~ترتعد أمام ذئب ضار، ثم انقض عليها يبقر بطن هذه ويشق ظهر تلك. # فمثلك كمثل الصائد الظالم يحرض بازيه على ظبية الكناس فيفقأ عينيها دون رحمة، ولو ~~كان له قلب لما استطاع أن يثبت أمام ما تسدده إليه من نبال عينيها الدعجاوين أو يسلم من ~~سحر جفونها الوطفاء؛ فتتخبط المسكينة تخبط من مسه الشيطان وعيناها غارقتان في ~~دمائهما تنشدان دون جدوى نورا يهديها إلى كناسها ويريها جمال آرامها. # ترمي شباكك السوداء على العالم وهو مطمئن فتخرجه من نهر الهناءة إلى لظى العذاب ~~والشقاء، ترسل أعوانك الأشرار إلى الطيبين الأبرار؛ فيسلبونهم نعيمهم، ويحرمونهم ~~هناءتهم، ويعكرون صفوهم. # ما عهدت أعوانك إلا كالخفافيش والبوم ينامون النهار ويقومون الليل، فترشدهم لاختلاس ~~الأموال، وقطع الطرق، وإزهاق النفوس، وهتك الأعراض. # تسلط علينا الشرور كحجر ألقي وسط خميلة أوت إليها الأفاعي فهاجها من منامها، وخرجت ~~غضابا فاغرات أفواهها تنهش كل من تصادفه. # اخترت لك الأشرار والفجار حاشية، والسباع الضارية جندا، والهوام المؤذية تبعا، ~~والجراثيم الفتاكة خولا؛ فتهدم ما بناه النور، وتفسد ما يصلحه. # قاتلك الله أيها الإنسان ما أظلمك! لو آنس منك ربك إنصافا لما أوجد الظلام، عرف منك ~~الجشع والعتو فأرسل إليك الظلام لتسكن فيه وتعطي لبدنك وعقلك نصيبا من الراحة يؤهلهما ~~لمواصلة العمل ومداومة التفكير. # تسدل أيها الظلام وشاحك الأسود على الطبيعة الجميلة المشرقة الحية الناطقة؛ فتستر ~~جمالها، وتطفئ أنوارها، وتقف حركتها، وتلجم أفواهها، وتقطع ألحانها، وتهيج أشجانها، ~~وتثير آلامها. # حنانك اللهم ورحماك! فقد صبرنا على جميع فاجعات الظلام، وتسلط على أموالنا وأرواحنا ~~وأعراضنا وآمالنا، فلا تدعه يتسرب إلى عقولنا التي بقيت لنا من حطام الدنيا فنصبح ~~كالأنعام أو أضل سبيلا ms021 ، وإن سبقت به مشيئتك فأمتنا ولا تترك هذا الكافر يشوه خلقك ~~الكريم، يا نعم المولى ونعم الرحيم. # | الأبحاث الفلسفية والبسيكولوجية # (1) الموسيقى والفلسفة ~~(1-1) مقدمة # نشأت وشبت معي عاطفة تجذبني نحو الكمال والجمال، وما فتئت هذه النفحة العلوية ~~والجذوة الربانية تتوقد في فؤادي ويثور ثائرها كلما تجلى لها الكمال والجمال بأبهى ~~مظاهرهما ومعانيهما في أي كائن كان من صنع الخالق، أو من مبتدعات فنون ~~الإنسان. # أنارت هذه الشعلة بصيرتي وباصرتي، فأصبحت العين تنفذ في أعماق ما يفتنها فترى ~~فيها جمالا ربما كان خفيا لا يدرك معناه كل من رآه، كما أنها لا تعزب عنها عيوب ~~استترت تحت جمال كاذب يغر كثيرا من الجهلاء السذج. # شغفت بالموسيقى وحلت من فؤادي المحل الأرفع، فأصبحت لي في الداء شفاء، وفي الحزن ~~سلوانا، وفي البؤس سعادة ترتاح إليها نفسي وينعم بها روحي. # رويدك أيها القارئ فلا تتهمني بالشطط والمغالاة؛ فإنك لا تلبث أن تسلم بما قلت ~~حينما أرفع لك الأستار وأكشف الحجب عن محاسن تفتن القلوب، وجمال يسلب النهى، ~~وقدرة عظيمة وأسرار مدهشة حجبها جهل فظيع ذهبت غشاوته بالأبصار، وانتقلت أعراضه إلى ~~الآذان فأصمتها، وإلي القلوب فأعمتها، وأصبح الفن عندنا كالحسناء فتك بها الداء ~~الدفين والفقر المدقع، فظلت هائمة على وجهها متسربلة بأطمار بالية سترت ما بقي فيها ~~من آثار الجمال، فنفر منها مريدوها وهجرها محبوها. # اختلجت منذ سنين في صدري فكرة إظهار آيات جمال الموسيقى الخفية وأسرارها العلوية، ~~فوجدتني عيا لا أستطيع أن أجهر بوجدان أشعر به غير كاف للتعبير، فهو وإن كان ~~جله صادقا فإنه يعوزه الدليل القاطع والحجج الدامغة. # أردت أن أستعين بالمؤلفات الإفرنجية فنقبت طويلا فلم أعثر على ضالتي المنشودة؛ ~~لأن هذا البحث لم يطرق إلا حديثا، فصبرت ردحا من الزمن إلى أن وفقني الله للعثور ~~على بعض المؤلفات الجليلة التي تبحث في الموسيقى والفلسفة وكلها لأفاضل المعاصرين، ~~فعمدت إلى دراستها جميعها لإنماء هذا الشعور وتهذيبه، وسأوافي القراء بصفوة ما ~~أحرزته بعد تبويبها حسبما يلائم مشربنا متوخيا أسلوبا جليا واضحا تفهمه العامة ms022 ~~قبل الخاصة، لعلي أكون بذلك قد أديت بعضا مما يفرضه علي الواجب ~~الاجتماعي. # ليس المقام مقام بحث في الفلسفة وتعريفها وتقسيمها، ولا مقاما يتناول الموسيقى ~~من الوجهة الفنية والعملية، بل مداره إظهار فضل الموسيقى وأسرارها وعلاقاتها ~~بالفلسفة والشعر، وتأثيرها في الأخلاق والعادات، ونفوذها وقوتها في السحر وتأثيرها ~~في الحيوان. # الموسيقى قوة عظيمة فتانة ساحرة، بل هي فن يعبر به الإنسان عن وجدانه وشعوره ~~بأنغام أفصح من النطق وأبلغ من البيان وأقرب منهما تناولا للأذهان، الفكرة ~~الموسيقية مظهر لإلهام عام عميق غامض ولكنه مفهوم لدى العالم الإنساني، الموسيقى هي ~~لغة النفس التي تنعم بصفائها وسعادتها ومقرها أرقى من الحياة الحقيقية، وقد قال ~~«لوتير»: «إنني أضع بعد الإلهيات مباشرة الموسيقى وأمنحها الشرف الثاني.» وزاد عليه ~~«بيتهوفن» نابغة الموسيقيين، إذ قال: «الموسيقى وحي أعظم وأرفع من جميع الأخلاق ~~والفلسفة، إن هي إلا رحيق ينعشنا ويؤهلنا لجديد الابتداع، بل هي الحياة الخيالية ~~منضمة إلى الحياة المادية، وهي الموصل الوحيد إلى العالم الأعلى، عالم المعرفة الذي ~~يشعر به الإنسان ولا يستطيع ولوجه، وبها ندرك العلم الكامل الإلهي.» # الموسيقى هي التي تترجم وتنشئ الحالات النفسانية العميقة، بل هي ألطف ما انبعث من ~~العقول، الموسيقى قوة رقيقة لطيفة للحياة الأدبية، إن هي إلا شعور وفكر في آن ~~واحد، الموسيقى هي لغة الحب للأفئدة، بل حلية الخيال وزينة التصور. # الموسيقى لغة غزيرة المعاني خفية الأسرار، توقظ التقوى وتخاطب الشعور مباشرة بغير ~~واسطة، وقال «فاجنر» الموسيقي الطائر الصيت: القلب هو الصوت وما الموسيقى إلا لغته ~~الفنية، بل الهوى الذي يفيض ويسيل من الأفئدة. # وقد أظهر الموسيقي الفرنسي الشهير «بيرليوز» قدرة الموسيقى على التعبير عن ~~الأحوال النفسانية، ومعظم الجزء الخاص بالانتقاد في كتابه يدور على صدق التعبير في ~~الموسيقى، فتراه بمهارته المعروفة قد ازدرى وسخر من توقيع الآلات الموسيقية في ~~الأزمان الغابرة حيث وجد جانبا منها تكملة للعدد تسد فراغا لا معنى له أو تضاعف ~~صوتا تحدثه آلة أخرى، فقال: «إن هذه الموسيقى لا تصلح إلا لترقيص القردة في ~~الأسواق ms023 وإسناد الحواة والبهالين وبالعي السيوف والثعابين في أقذر الطرق.» # الموسيقى هي الفن المتداول الذي يستقي مادته من الحياة الاجتماعية، كالنبات يمتص ~~غذاءه من المكان الذي تخترقه جذوره، لا التصوير ولا الحفر متداولان كما أن فن زخرفة ~~البناء في غاية التعقيد ومفعم بالمعلومات الفنية والأثرية وخاضع للاشتغال ~~بالزخرفة أو ضروريات أعمال خاصة ليصبح عملا وقتيا جامعا لعدة أشياء، فهذا ~~الامتياز إذن خاص بالموسيقى وأخيها الشعر. # الموسيقى لها معنيان مختلفان متحدان في شكل واحد كالروح والجسد؛ أحدهما في غاية ~~من السهولة والوضوح، والثاني يفر من الباحث فيه، فهو في الوقت نفسه تقليد لحياة ~~الحب أو الأشياء الظاهرة، ولغة ذات فكرة خاصة بها تهيمن على جميع الأشياء، فهي تشمل ~~في هذا التعبير المزدوج العبارة الشعرية التي تعززها بالحقائق الوافرة، وتكمل ~~الفكرة البليغة بنقلها إلى مستوى أرقى خيالا، وهذا مما يدل على وجود التفاوت التام ~~بين الموسيقى والشعر ... ليس الفرق بين الشاعر والموسيقار قاصرا على أنهما لا ~~يتكلمان بلغة واحدة ولا يخضعان لقانون واحد؛ بل لأنهما لا يفكران بمقدرة واحدة، ~~وهذا التضاد هو الذي يدفع الواحد نحو الآخر ليتمما بعضهما ببعض، وحينما يجتمعان ~~يعضدان اللغة الأصلية ويمنحان أصولها منتهى القدرة فيتغلبان على عواطفنا السامية، ~~ويتمكنان من أن يبثا فينا أقوى وأشرف عواطف التكافل الاجتماعي. # لا توجد أمة متمدينة أو وحشية إلا والموسيقى منتشرة بينها، وإذا تصفحنا التاريخ ~~وجدناها في العصور الخالية، وأقدم دليل هو صورة محفورة على الأحجار تمثل شخصا يوقع ~~على آلة موسيقية تسمى «هارب»، وجدت في بلاد الكلدانيين وعثر عليها المسيو «سرزيك» ~~في قصر «تلو» على الشاطئ الأيسر من قناة تربط الدجلة بالفرات، وقد قدر تاريخها ~~أفاضل العلماء مثل «بواتييه» بثلاثين قرنا قبل الميلاد، ولا مشاحة في أن ~~الموسيقى أقدم من الشعر وهي التي نفحته بقوانينه الخاضع لها. # ترتبط الموسيقى بأجمل العلوم ويتسنى طرق أبوابها من جهات مختلفة، وفضلها لا يلبث ~~أن يظهر من جميع الوجوه؛ إذ تتعلق بالطبيعي والفسيولوجي، فإن كانا مزودين بطرق ~~التحاليل والبحث العالية حددا نواميسها وكشفا لنا فيها ms024 عالما مفعما بالعجائب، ~~وترتبط بالفيلسوف الذي يستطيع أن يبين لنا أنها تسعد النفوس بشريف العواطف وجليل ~~الفكر، وتتعلق بالمؤرخ الذي يظهر لنا تقدمها وما صادفها من التقلبات وعلاقاتها ~~بالتاريخ العام للأخلاق والعادات ودورها في حركات المدنية، وترتبط بعلماء الجمال ~~فتنفحهم مقرا رفيعا غريبا يدرسون فيه آيات جمالها وأشكالها. # الموسيقى الشاملة لجميع ما سردناه من المزايا تحدث في النفوس جرحا من الملذات، ~~وتترك فيه مثل رءوس الإبر فلا تنسى هذه الآلام اللذيذة الحلوة. # أجد من العبث أن أسرد عيوب الموسيقى الشرقية وما وصلت إليه من الانحطاط، كما أنه ~~لا فائدة من وصف العلاج الناجع؛ إذ قد بينا أن الموسيقى فن متداول من لوازم ~~الهيئة الاجتماعية، وأنها ترجمان الأخلاق والعادات، فهي مرتبطة بدرجة مدنية الأمة ~~وتسير معها خطوة بخطوة، إما إلى الأمام وإما إلى الوراء، فإن حاولنا أن نرقيها ~~وحدها فمثلنا كمثل طبيب جاهل يريد أن يعالج مريضا فسد دمه وانتشرت على جسده ~~الثآليل باقتصاره على الدهان، فجهل العلة وأراد أن يداوي العرض، وهيهات أن يبرأ ~~عليله وتتحقق أمانيه، هذا والله أسأل أن ينهض بالشرق إلى أعلى الدرجات حتى يبلغ من ~~المجد والكمال غاية الغايات. ~~(1-2) الأصوات والكلام الإلهامي للانفعال النفساني # الصوت الإنساني الذي هو مصدر الكلام الشعري والموسيقى يحرز ثلاث قوى للتعبير، إذ ~~لا يتسنى له أن يكون بالتتابع أو في الوقت نفسه تمثيلا للشعور، أو تمثيلا للأشياء ~~المادية والخارجية، أو تمثيلا للفكرة. # ففي الحالة الأولى يتركب شكله من الصياح وجميع أنواعه، وفي الثانية من التمثيل ~~بالأصوات ودرجته في الإتقان، وفي الثالثة من الكلام الأصلي الذي تنقله ~~الكتابة. # تتميز هذه القوى الثلاث من مصدرها، ودرجتها في المفهومية والإلهام هو مصدرها ~~المشترك، ولكن الأولين يمكن أن يكونا من عمل الإلهام المحض، وأما الأخير فيعتمد ~~معظمه على الاتفاق والاصطلاح، وحينما يكون الصوت الإنساني نتيجة وقتية للانفعال أو ~~صدى لأصوات الأشياء الخارجية يؤثر مباشرة في الإحساس الطبيعي للسامع، وتكون طرق ~~تعبيره مفهومة لدى جميع الناس لمكانتها من الحقيقة الصريحة. # ووقتما يكون الصوت الإنساني علامة للفكرة ms025 فإنه يخاطب العقل وله معنى عظيم كامل، ~~ولطرق تعبيره مفهومية محصورة؛ لأن صفاتها اتفاقية عرفية، فلننظر الآن في الحالتين ~~الأوليين؛ أي الكلام الطبيعي الإلهامي المحض وقدرته على الترجمة عن الشعور. # كيف تتأتى هذه الترجمة إذن؟ إن بين الحياة الروحية والحياة الجثمانية مهوى عميق ~~لا تدركه البراهين الفلسفية، ولكن الطريق سهل ممهد بين هاتين الحياتين وبين ~~الطبيعة، والتجارب العامة هي التي تيسر لنا معاينة هذه العجيبة المدهشة والعادية في ~~آن واحد؛ إذ يجعل الصوت الانفعال محسوسا وللآذان مثل ما يصيره النظر مرئيا ~~للعيون. # يهتز الفؤاد من صدمة الآلام كما ترتجف أوتار الكنارة تحت أنامل الموسيقار، ويتبع ~~تنوعات الشعور الدقيقة بسهولة لا يتأتى تحديدها. # يمكننا أن نميز العناصر الآتية في الأصوات التي يتركب منها الصوت الإنساني؛ قوتها ~~وعلوها، ومدتها ورنينها وحركة تتابعها، وسنبين درجة تعبير هذه الصفات المختلفة ~~للكلام الطبيعي، وأنها ما فتئت مستعملة في الغناء وهو الحجر الأول للموسيقى ~~الآلية. # للأصوات المستعملة في الموسيقى تشابه مع الصياح وتنوعات الكلام الطبيعي، وقد قال ~~«ليسينج» الكاتب الألماني الشهير: «ليست الأصوات الموسيقية علامة لشيء ما لأنها لا ~~تعبر مطلقا، بل تتابع الأصوات وحده هو الذي يعبر أو يوقظ الأهواء.» # وهذه الفكرة تبين لنا أن الصوت يشبه النقطة الهندسية التي لا تفيد شيئا وحدها، ~~لكنها إذا انضمت إليها نقط أخرى أنشأت خطا. # وقال «داروين»: «جميع أصوات الطبيعة من طنين الحشرة إلى قصف الرعد وصوت الإنسان ~~ترتبط بنصر أو هزيمة في معترك الحياة.» # وتنطوي خلال هذا الجملة فكرة عظيمة فخمة لا حاجة لنا الآن لخوض عبابها، بل ~~يكفينا أن نقول: إن الأصوات الموسيقية لها صفات تشبه مثيلاتها في الصوت الإنساني، ~~فهي إذن عناصر التعبير. # قوة الأصوات؛ أي درجتها في الحدة أو الضخامة، تكون مناسبة لقوة الشعور المعبر ~~عنه، فإن كان الإنسان لم يحدث له انفعال فإنه لا يفكر تقريبا في الكلام، كما أن ~~البلادة يصحبها عادة الصمت، وعدم تأثر أصحاب الوساوس والشكوك يجعلهم يتكلمون بصوت ~~منخفض، وكذلك الذين يراعون آداب المعاشرة، أما الانفعال فإنه يوقد الفؤاد ms026 والصوت، ~~والألم يوجب الصياح. # علو الأصوات محدود بأسباب قوتها؛ إذ يرتفع الصوت بدرجة الانفعال فترى الآلام إذا ~~تتابعت مع ازدياد تتابع الصياح متنقلا في الزيادة من درجة إلى أخرى أحد منها، ~~وفي الموسيقى كلما ارتفع الصوت واشتد كان أكثر تعبيرا. # للأبعاد الموجودة بين الأصوات دور مهم في اللغات فإنها هي التي تمنحها أشكالها ~~وحياتها؛ لأنها تمثل درجة الانفعال، فترى السذج ذوي التأثر البطيء لا يستعملونها ~~إلا قليلا، وبالعكس يكثر استعمالها أصحاب الشعور الراقي السريعو التأثر. # الأبعاد إما أن تكون صاعدة أو هابطة فيختلف اتجاهها حسب المقام، فإن كان الشعور ~~في نمو وتحقق علا الصوت، وإن خمد الشعور هبط الصوت، ويلاحظ عادة أن الجمل تنتهي ~~بأبعاد هابطة. # الأصوات من وجهة طولها أو اتصالها إما أن تكون متقطعة أو متصلة، وذلك مرتبط بكيان ~~الشعور الذي ينتجها، فالضحك يعبر عنه في الكلام الاعتيادي بحلقات من أصوات متقطعة، ~~وبالعكس يعبر عن الأنين بأصوات متصلة، فالتعبير بهذا الشكل موجود أيضا في ~~الموسيقى. # ولرنين الأصوات أهمية عظمى في الكلام، فيختلف بالنسبة إلى المناخ والجنس والعمر ~~والذكورة والأنوثة، وصفات العواطف وطبائعها ودرجتها، وحالة الإنسان النفسانية التي ~~كان عليها وقتما انبعث منه الصوت. # أظهر البحث في رنين الصوت عنصرين؛ أحدهما نتيجة للتركيب الطبيعي ثابت لا يتغير، ~~والثاني نشأ من الظروف ويتأتى تغييره لدرجة غير محدودة، فيشمل الرنين في الوقت نفسه ~~الجزء الدائم الثابت والجزء المتحول من حياتنا الطبيعية والأدبية، فهو للكلام ~~بمثابة اللون للوجه. # إذا سمعنا شخصا يتكلم دون أن نراه فإننا نستطيع أن نحرز غالبا من لون كلامه إن ~~كان ذكرا أو أنثى، ونقدر عمره بالتقريب وعواطفه الحالية وشيئا من ~~أخلاقه. # إن الملاحظات التي تبديها دراسة تنوع رنين الكلام وعلاقته برنين العواطف قد أسعدت ~~الروائيين والممثلين بنفحات عظيمة، وجعلت الروايات الصغيرة التي يمثلها شخصان أو ~~ثلاثة سارة جذابة؛ إذ تستطيع فيها فتاة لا تجاوب على كل ما تسأل عنه إلا بكلمة ~~واحدة «يا سيدي»، ولكنها متنوعة الرنين حسبما توحيه العواطف فتدل على الاحتشام ~~والدهش والحسرة والخوف والسرور ms027 والحب وغير ذلك. # وللكلام حركة تنشئها درجة الانفعال أو طبيعته أو أسباب خارجية، فنرى أن المحادثة ~~مع شخص عديم المبالاة والاهتمام لا يشغل باله شيء تطول إلى أن تصير غير محتملة، ~~ومخاطبة الذين يختالون في برود شبابهم وهناءتهم تكون أكثر احتدادا، ولهجة الذين ~~تملكتهم العواطف الهائجة تكون محتدمة سريعة. # نستنتج مما سبق أن جميع أشكال الكلام الإلهامي توجد في الكلام الفني وهو أساس فن ~~الموسيقى. # سلمنا مبدئيا بالتعبير الموسيقي، فما هو إذن مبلغه من الصحة؟ # الأصوات الموسيقية كمثيلاتها في الكلام الطبيعي صحيحة التعبير، وهما في التشابه ~~كالألوان الصناعية التي يستعملها المصور وألوان الطبيعة، وهذا المثال في غاية ~~الموافقة لسهولته، وهو الوحيد المعقول الصريح. # ليست الألحان والأوزان بالطرق الوحيدة للتعبير، بل توجد وسائل أخرى وهي قوة ~~الأصوات ورنينها ولهما أهمية عظمى؛ إذ بواسطتهما يحصل التنويع دون تغيير شيء في ~~الجمل الموسيقية التي تتركب منها القطعة، فالمغني يجب عليه استعمالها، كما يلزم ~~المنتقد أن يدقق فيها النظر. # نشاهد في رواية «فيديليو» من مؤلفات «بيتهوفن» في فصلها الأول أن لحنا واحدا ~~يغنيه بالتتابع «مارسولين» و«لييونور» و«روكو» و«جاكوينو»، فهل يتصور إذن أن ~~«بيتهوفن» يطلب من أربعة أشخاص تعبيرا واحدا؟ # إننا نعلم أن الكلام الطبيعي الذي هو أساس الكلام الموسيقي له معنى، ولكنه أقل ~~وضوحا من كلام الفكر - أي الكتابة. # يجوز أن يعبر الصياح نفسه عن الخوف والغضب والدهش واليأس والحقد ... وأن يعبر ~~الأنين عينه عن بائس ظفر به الألم، أو شهواني منغمس في ملذاته. # يصادف أحيانا هذا الغموض في التصوير والحفر، ولنضرب مثلا المرأة التي لدغها ~~الثعبان للمصور الفرنسي الشهير «كليزينجيه»، فقد لاحظ فيها «تييوفيل جوتييه» الشاعر ~~الفرنسي المعروف أن تعبير الألم فيها أشبه بالملذات حينما تبلغ منتهاها من الشدة، ~~وأن شرذمة الجند التي تمثل العسس لنابغة المصورين «رامبران» اختلفت فيها الآراء ~~حتى ظنها بعضهم أنها مارة بالنهار لا بالليل، ويوجد بمتحف التماثيل والحفر بمدينة ~~«مونيخ» تمثال عظيم كبير القامة اختلفت فيه علماء الآثار؛ فظنه البعض رجلا، وظنه ~~الآخرون امرأة، فهل ms028 لهذه الأسباب يستنتج أن التصوير والحفر لا يحرزان صحة ~~التعبير؟ # إن كان نفس هذا الغموض غير محدود في بعض أقسام الحياة الأدبية نفسها، فكيف نتطلب ~~من الفن أن يكون أوضح من الطبيعة وأصدق من الحقيقة؟ هل جميع عواطفنا تتميز من بعضها ~~البعض؟ أليس الحب إن بلغ منتهاه من الشغف صار أشبه بالبغض؟ # وباختبارنا للاعتراضين الآتيين للمسيو «هنزليك» يتسنى لنا أن نبين قدرة التعبير ~~بطريقة أدق وأوضح: ~~(1) ~~«ليست العواطف منعزلة بل تابعة لحالات فيزيولوجية وهي والعقل شيء ~~واحد، فلا يتأتى أن يعبر عنها بفن لا يستطيع فيه التمثيل أن يمثل جميع ~~الحركات البسيكولوجية.» يمكننا أن نجاوبه بالاستعانة بالتجارب قائلين ~~له: إنني أشعر حق الشعور بفرحي وحزني وألمي ... دون أن يعتريني أقل شك في ~~حالاتها الفيزيولوجية. # والدليل القاطع أنني إذا أصغيت إلى أجنبي يتحدث بلغة أجهلها فإني لا ~~أفهم شيئا من كلامه، ولكنني أستطيع أن أعرف على الأقل إن كان المتكلم ~~مسرورا أو غضبان مهددا أو حسن المقابلة جامدا أو متحمسا ... وقد تكون ~~العواطف والفكر متضادة؛ إذ يخالف أحيانا مدلول نغمة الكلام المعنى ~~الحرفي للقول. ~~(2) ~~«حينما يتسنى للعواطف أن تبين بطريقة واضحة فذلك راجع إلى الأشياء ~~التي تنطبق عليها وتسببها، فالأمل مرتبط تمام الارتباط بصورة الشيء ~~المحبوب الذي يرجى حصوله والذي هو مخالف للحالي: فلولا «مرجريت» ~~و«ديسديمون» ما حدث الحب، فالموسيقى إذن لا تستطيع أن تعرفنا ~~«ديسديمون» ولا «مرجريت»، فإذا حذفت هذه الصورة المحسوسة التي هي سبب ~~الحب لم تبق إلا حركة غير محدودة وبالأكثر العاطفة العامة للهناءة ~~والمرض، ثم نقول: إن الموسيقى تعبر عن عواطف غير محدودة فهذا لا يفيد ~~شيئا، إذن ما هي العواطف التي لا مضمون ولا محتوى لها؟ هذا شيء لا ~~معنى له ولا يمكن أن يكون موضوعا لعمل فني.» # أرتنا التجارب أن معرفة الشعور لا تحتاج دائما إلى معرفة موضوعه، وإذا سمعت ~~صياحا شديدا فلا حاجة لي بمعرفة سببه لأعلم منه تعبير الألم لكي أشعر بالعطف على ~~الصائح، أما تمتلئ قلوبنا بالرحمة والشفقة على «فيدر» وهي ms029 في المسرح قبل أن تذكر ~~«أونون» اسم «إيبوليت»؟ هلا نقول: إن «ألفريد دوموسيه» يحتاج إلى سرد أسماء حبيباته ~~ليحدث في نفوسنا تأثيره المعروف؟ هل الحفار الذي عمل «نيوبيه» والمصور الذي صور ~~«مينيون» في حاجة لإخبارنا بحديثهما لنشعر بآلام الأولى وحزن الثانية؟ # ليست جميع العواطف واضحة أو متساوية في درجة الوضوح، مثل ذلك أنه توجد فوق رغبة ~~الحصول على نمرة رابحة بمائة ألف فرانك رغبة الغنى غير المحدودة وفوق حب المال ~~المحدود الطمع والسعي وراء العظمة بشكل ما، ويوجد ميل آخر يفوق جميع هذه الرغائب بل ~~يشملها وهو حب السعادة، يمكننا إذن أن نميز نوعين من العواطف مرتبطين ببعض فروق ~~خفيفة متوسطة بينها؛ إحداهما مصحوبة بفكرة واضحة محدودة، والثانية لا ترتبط بحكم ما ~~من أحكام العقل وهي التي تمثل العواطف البحتة، فالأولى لا تستطيع الموسيقى ولا ~~الكلام أن يعبرا عنها تعبيرا تاما، وأما الأخرى فالموسيقى يتسنى لها أن تمثلها ~~تمثيلا تاما، بل تتخذ منها كالشعر موضوعاتها الشائقة المفضلة. ~~(1-3) الصور في اللغة الموسيقية # إننا في حاجة لاستعارة صور من عالم المرئيات لنستعين بها على التعبير عن ~~الخفي. # أرسطو # العلامات المعبرة التي سبق التنويه عنها هي علامات طبيعية؛ إذ تنبعث من تلقاء ~~نفسها عقب العواطف والإدراك، وتوجد خلافها تعرف بالصور تحدث هي أيضا الإلهام ~~والملاحظات، ولكن إلهامها مثقف وملاحظاتها دقيقة معززة بالمقارنات، فليست إذن ~~بتقليد رأسي أو وقتي للطبيعة؛ إذ يهيمن عليها فن تتحكم فيه غالبا الأهواء، وقد ~~تكون أحيانا من نتائج التصور المحض ولا يرجع سبب وجودها إلا لاستعمال ~~اصطلاحي. # وبدراستها نهجر منطقة الفيزيولوجيا مع ظواهرها ونواميسها لندقق النظر في قوة ~~نفسانية يصعب إظهار طريقة عملها لتغير نتائجها؛ ألا وهي ارتباط الفكر، وسيعيننا في ~~هذا المقام الكلام البليغ على فهم اللغة الموسيقية. # إننا لا نعرف الشعور والفكرة إلا بطريقتين: دراسة تعبيرهما الفيزيولوجي ومعرفة ~~الوجدان، ولكن التعبير الفيزيولوجي ما هو إلا نتيجة الانفعال وليس بالانفعال نفسه، ~~والوجدان عمل بسيط وحيد لا يستطاع تمثيله أو تقليده. # إذن ما هي الفكرة والشعور باعتبارهما الذاتي؟ إننا ms030 لا نستطيع أن نعبر عن حقيقتهما ~~وكل بيان لهما نراه مناقضا للآخر؛ لأنها أشياء غير مادية. # يأتي التصور لإغاثتنا في حالة عجزنا هذه بأن يجعلنا نسند إلى العواطف والفكر ~~أشكال الأشياء المادية، وهذا الإسناد الإلهامي يحدث في الكلام الاعتيادي عدة صيغ ~~تضطر في الازدياد والتكاثر لدرجة لا نهاية لها في الكلام الفني - الموسيقى. # ربما استغرب القارئ أو استهجن الأوصاف الآتية التي يسندها علماء البسيكولوجيا إلى ~~الفكرة، ولكن الغاية تبرر الواسطة، وما هي إلا وسائل يستعان بها على فهم الفكر، ~~فتراهم يعيرون الفكرة وزنا فيقولون: فكرة ثقيلة وخفيفة، ويعيرونها لونا فيقولون: ~~فكرة قاتمة وسوداء وصافية، ويعيرونها أبعادا فيقولون: فكرة عريضة وضيقة ومرتفعة ~~وعميقة وسميكة ... ويعيرونها خاصية المتانة فيقولون: فكرة متينة، وينسبون إليها ~~مذاقا فيقولون: فكرة حلوة ومرة وتافهة، ويعيرون الشعور حرارة فيقولون: قلب بارد ~~وحار. # وهذا الاتفاق الإلهامي ذو التأثير العظيم في لغات الأمم هو منبع الإنشاء الشعري، ~~ولولاه لاقتصر الشعراء على تبيان أسباب العواطف ونتائجها، وأحجموا عن تصوير العواطف ~~نفسها. # يستطيع «راسين» أن يظهر لنا نتائج حب «فيدر» وجميع الحوادث التي سببها، ولكنه ~~حينما يريد أن يكشف الغطاء ويزيل الخفاء عن شعورها يستعمل هذه الصيغة: ~~«أشعل الله في أحشائي نارا لا تبقي ولا تذر.» (راجع سيرة فيدر في بلاغة ~~الغرب). # وإن تعدد الرموز المتناهي المستعملة في تمثيل الحب تكاد تضحكنا؛ إذ تظهر عجز ~~الكتاب عن تعيين شيء غير مادي مثل قول «تييوفيل جوتييه» عن المراهقين بأن «نفوسهم ~~كلون اللبن»، ولكن ذلك العجز ولو أنه لا يضر بالعمل الفني فإنه يوجد صعوبة ما يمكن ~~للناظر أن يرى فيها أصل الأسلوب الشعري وحالته، ومن هنا تظهر خصيصة الكلام الذي ~~يخاطبنا به وفضله في الابتداع وأهميته. # وحينما يجد الشاعر نفسه غير قادر على إظهار النفس يضطر لأن يبحث عن طرق غير رأسية ~~وتشبيهات ليكشف عنها الحجب، فالصور هي سر الكلام وروحه. # فلنقارن بين شاعرين مثل «شكسبير» و«راسين» دون أن نرجع إلى البراهين النظرية، ~~فكلا الشاعرين يعرف قلب الإنسان، ألم يك «شكسبير» أكثر ms031 شاعرية بالنسبة لغزارة الصيغ ~~الطلية التي وجدها للتعبير عن عالم الخيال؟ وإن نزعنا الصور من «هوميروس» و«بيندار» ~~و«إيشيل» فماذا يبقى؟ لا يبقى إلا رواة وأخلاقيون لا شعراء. # فالموسيقي يسير غالبا على النهج الذي يتبعه أهل الأدب، ولا يجري على أثره لينشئ ~~استعارة ما وينمقها كما يقع ذلك لبعض المصورين الذين لا يجيدون، وإنه ليخضع لنفس ~~ميول التصور ونزعاته في عمل مستقل في نفسه، ولو أن بينه وبين غيره صفات مشتركة به ~~فهو أيضا يريد أن يعبر عن النفس لا عن ظواهرها الخارجية كالحفار والمصور والممثل ~~بالإشارات والراقص بل عن النفس ذاتها، وحينما لا يستطيع التعبير عن شيء خفي غير ~~مادي ولا محسوس لا صوت له ولا لون يعمد إلى معادلات اصطلاحية وتشبيهات ينشئها ~~الإلهام بين الأشياء الحقيقية والفكرة، وفي بعض الأحيان لا يجد له مناصا من ~~ذلك. # مثال ذلك: أنه إذا أراد أن يعبر عن عواطف بدلا من أن تكون ظاهرة وممثلة بالصوت ~~والإشارة فإنها بالعكس لا نتيجة لها إلا السكوت والسكون وتأملات الفكر، فيجد الفتى ~~نفسه مضطرا لأن يعير الطبيعة حركة وقت سكونها ولهجة عند بكمها، ووقتما تعوزه ~~ملاحظات الكلام الطبيعي يركن إلى تصوره، ويفرض أن الحياة العقلية المبعدة في أعماق ~~النفس تجسمت في أشكال محسوسة، وينشئ من موضوع بسيكولوجي محض موضوعا وصفيا يشمل ~~الصور والألوان، والرموز التي تنتج هي من أهم المناظر التي لم تبين تماما في اللغة ~~الموسيقية. # نريد الآن أن نأتي ببعض أمثلة للصور في الشعر وأخرى في الموسيقى لنعرف وجه ~~تشابههما في التصوير. # نشاهد في رواية «فوست» أن عواطف الدكتور فوست وهو في غرفة عمله من هموم وأحزان ~~وضعف عزيمة وشقاء نفس وآلام أدبية قد مثلت بصورة مستعارة من الألوان، إذ يقال عن ~~شخص حل به السأم وزهد في الحياة: «ساورته فكر مظلمة.» كما قال «راسين» في رواية ~~«بريتانيكوس»: «حزن مظلم.» وقال «شكسبير» عن لسان «كلوديوس» عم «هملت» حينما رآه ~~كئيبا فريسة لآلام أذهلته: «ما لي أرى هذه السحب ما فتئت تحيط بك ms032 يا هملت.» وهذه ~~الكلمة استعملها «بوسويه» في حديث فخم يخاطب به قبر «كونديه»: «هلموا سراعا يا ~~عظماء الرجال، وأقبلي اليوم يا أنوار العالم وأنت متسربلة بآلامك كأنك مشتملة ~~بالسحب.» # وقد قارن «ألفريد دوموسيه» في قصيدته «ليلة من تشرين الأول» ألما خفيفا بالضباب ~~حيث قال: # أصبحت - والحمد لله - لا أتذكر مما تكبدته من الآلام فيما سلف من الأيام ~~إلا كطيف خيال أو ضباب خفيف هاجه الفجر، ثم لاحت بعده تباشير الصباح ونفحات ~~النسيم العليل بين الندى البليل. # أصبحت - والحمد لله - لا أتذكر مما تكبدته من الآلام فيما سلف من الأيام إلا كطيف ~~خيال أو ضباب خفيف هاجه الفجر، ثم لاحت بعده تباشير الصباح ونفحات النسيم العليل ~~بين الندى البليل. # ولكنه حينما يتملكه الشك وتتقاسمه الآلام العنيفة يصيح قائلا: # إنني أقعد وحيدا في ظلام فؤادي. # لنرجع الآن إلى الموسيقى فنتساءل: ماذا يصنع الموسيقيون حينما يريدون أن يعبروا ~~عن عواطف السأم وضعف العزيمة؟ # يستعملون الصور كالشعراء ويخصصون آلة «الكونترباس» أو «الفيولونسيل» للأنغام ~~الضخمة، ففي «قصاص فوست الأخروي» تأليف الموسيقي «بيرليوز» نسمع الجملة المشهورة: ~~«فوست في غرفة عمله» بأصوات مختنقة عميقة تعتبر كأنها صورة مماثلة للتعبير الشعري ~~الذي ذكرناه في موضعه، ولا فرق بينهما إلا أن هذه الصورة الموسيقية أصبحت محققة بعد ~~أن كانت خيالية في الشعر، فطريقة الموسيقي هي عين طريقة الشاعر، فيخاطب هذا الأخير ~~العقل ولكن الموسيقي يمس الآذان، وصورة الشاعر ليست إلا إدراكا، وأما صورة ~~الموسيقي فإنها إدراك محقق، فأحدهما يمنحنا فكرة الإحساس والآخر يعطينا الإحساس ~~نفسه، فمبلغ القول إذن أن اللغة الموسيقية حقيقية ولغة أهل الأدب خيالية. # الموسيقى والحب # وضع «داروين» الحب قبل ظهور الإنسان وقال: إنه معروف من القدم بين الكائنات ~~الحية التي نشأ وارتقى منها الإنسان؛ فتراه قد توخى الصدق والإخلاص وعدم التحيز ~~والتبصر في التأكيد مما جعل كتابه منبع علم يستقي منه كل طالب، وكان هذا المؤرخ ~~الطبيعي الإنجليزي رقيق الشعور بالنسبة إلى الفن يريد أن يحل هذه ~~المعميات: # لم أحرزت الموسيقى قوة عظيمة في التأثير تثير ms033 ما كمن من العواطف؟ من أين ~~أتت فضيلة هذه اللغة التي نشعر بتأثيرها الفتان دون أن نستطيع إدراك ~~كنهها؟ # يعتمد «داروين» في الجواب على هذه الأسئلة على القضايا الثلاثة ~~الآتية: ~~(1) # للموسيقى قوة في التعبير (وهذه الكلمة مستعملة في هذا الموضوع ~~بمعناها العامي المتداول) محدودة؛ إذ لا تستطيع أن تعبر عن الخوف ~~والبغض والذعر والغضب الحاد، ولكنها بالعكس تجيد في التعبير عن ~~الحب وفرح الانتصار والظفر. ~~(2) # يشاهد في فصل الإنتاج أن الحيوانات يسمع لها أصوات ~~وغناء. ~~(3) # يوجد بين الحيوان والإنسان انتقال وراثي. # هذه القضايا الثلاثة من طبيعتها أن تنير علم الجمال، فلو سلمنا أن الحيوانات ~~في زمن النزوان تكون منقادة بعامل الحب والغيرة والتنافس والنصر، وأن السلف ~~الغابر قبل تمدينه استعمل الأصوات والأوزان الموسيقية، وأن خاصية التأثير في ~~الموسيقى الذي ينفذ إلى أعماق القلوب يكون مفهوما عند حد معلوم، فتكون ~~الموسيقى بناء على مبدأ الارتباط الوراثي تجدد عندنا بطريقة مبهمة غير واضحة ~~الانفعالات الشديدة التي كانت في العصور الخالية. # إذن كل ذلك يقرب من الحقيقة الغرض القائل بأن مظاهر أصوات الحيوانات التي ~~سبقتنا لم تكن لغطا يبح الصوت، بل كانت نوعا من التخاطب مرتبطة بعواطف حب ~~الغير وطريقة فتانة خلابة للشعور، إننا لا ننكر أن استعمال هذه الطريقة كان ولم ~~يزل نتيجة مقبولة، ولكن في الحقيقة أننا إذا لم نسلم بأن الإناث لا تحفل بهذه ~~الوسيلة ولا تنقاد للافتتان بالذكور لوجب علينا أن نعترف بأن الأعضاء المتعددة ~~التي يحرزها الذكر غالبا ليصغى إليه لا فائدة فيها مطلقا، وهذا شيء ~~مستحيل. # إن «داروين» يعترف بأن الذكور لا تترك وسيلة لمظاهر الزينة إلا استباحتها، ~~فلا تقتصر على نشر ريشها المفوف المزدان بأبهى النقوش مثل الطير المسمى ~~«باراديزييه» المعروف بطير الجنة والطاووس وغيره، بل يمنحها إلهام التناسل ~~فنا فتغني. # يغرد العندليب بنغمات ملؤها الفن ليظفر بأليفته، ويعمد الطير المسمى «تيترا» ~~- وهو نوع من الديوك البرية ضخم جدا يسكن غابات أوروبا - إلى إشارات أشبه ~~«بالبانطوميم» مختلطة بغناء، إذ يقف على غصن واطئ، وينشر ريش عنقه ms034 الطويل، ~~ويخفض جناحيه، وينكت الغصن برجليه، ويردد عينيه بشكل مضحك، ثم يصيح صياحا ~~حادا أصم الصوت متقطعا بطيئا، فيزيد شيئا فشيئا في القوة والتنويع ~~والسرعة حتى تصبح أصواتا تنبو عنها الأسماع وموسيقية في الوقت نفسه، ثم ينتهي ~~بإقفال عينيه كثمل من الملذات. # فالحيوان الذي يظفر بأقرانه المنافسين يصبح مؤسسا لخلف أرقى وأعظم؛ لأنه ~~بانتصاره قد أعدم من الوجود أفرادا دونه في المزايا والصفات، وحيث إن هذا ~~الخلف خاضع لنفس هذا القتال والانتقاء، ثم يتحول بدوره شيئا فشيئا، وبمرور ~~الزمن تنتج أنواع جديدة بهذه الوسيلة. # كم من معان متضمنة في غناء الطير! إذ جميع أمانيه ومستقبله طي أغانيه وصوته، ~~فإن حرم من ورود حياض الهناءة والتمتع بأليفة يسكن إليها فذلك راجع إلى حرمانه ~~من موهبة حسن الصوت وإتقان الغناء! فالإنسان أتى متمما لأعمال الحيوان ~~الموسيقية وغيرها. # الألحان المشجية الفتانة التي جادت بها قرائح عظماء الموسيقيين ليست إلا ~~إطالة في أحسن مظاهرها وتحقيقا لخيال عمل شخصي مرتبط بأقوى العواطف وأرقها في ~~الهيئة الاجتماعية، فيفنى الإنسان وتحيا بعده عواطفه ممثلة على صفحات الأوراق، ~~وبهذه الصفة تفسر أسرار الموسيقى وعواملها المؤثرة، فهي أسرار؛ لأنها مجردة ~~اليوم من وظيفتها الأصلية، وأنها تمس أشياء اختارتها الزخارف ولغة خصصت من ~~منشئها من قديم الأزل للحب، وأنها تؤثر في أعماق النفوس؛ لأنها تمس منا الإلهام ~~الحيوي إلهام التكاثر والترقي، وتجدد فينا دون أن نشعر وبطريقة مبهمة خفية ~~ارتباط الفكر بوراثة طويلة لا تحددها الأجيال. # إننا نستحسن من «داروين» فكرة اتحاد الحب والترقي وأنهما أمر واحد، فالفردان ~~اللذان يبحثان عن بعضهما لا يكتفيان بالتكاثر واستمرار الحياة، بل يريدان أن ~~يرقيا إلى ذروة الأماني والآمال، إذن لو وجد الترقي في الحقيقة وأنه سنة ~~وناموس لوجب أن يرتبط بأصل الخليقة ومبدأ أولي يرتب تطورات الكائنات، فنرجع إذن ~~بالتعبير الموسيقي إلى دور عظيم فخم! ~~(1-4) ملاحظات على فكرة «داروين» # إن كان يزعم «داروين» أنه أتانا بنظرية عامة تامة للموسيقى فإننا نعارضه بجملة ~~اعتراضات، إذ يستحق أن يؤاخذ بأنه أفرط في تسهيل مسألة هي ms035 في الحقيقة عقدة العقد ~~حتى عدها في غاية البساطة. # إننا نرد عليه بأن غناء الطير ليس في الحقيقة موسيقيا ودليله أن كتابة غنائه من ~~أصعب الصعوبات، ولا ننكر أنه إذا اجتمعت طيور مختلفة وغنت مع بعضها في آن واحد فإن ~~أصواتها لا تمجها الآذان، ولكن الأصوات الإنسانية الصادرة في وقت واحد ولم ترتب ~~باتفاق سابق تنبو عنها الآذان وتنفر منها، ويلزم الإنسان إذا كان يريد أن يميز ~~لحنا في مظاهر أصوات بعض الحيوانات أن يكون موسيقيا ماهرا. # فلو سلمنا بالغرض الذي ينسب للغناء هذا التأثير، فلم انحرف الانتقال الوراثي ~~وغير خطة سيره حتى أصبحنا نرى أن النساء أكثر استعدادا للغناء من الرجال، وهن ~~اللاتي تحل أصواتهن محل الإعجاب لدى الرجال. # ولكن «داروين» لشدة تبصره وحكمته نسي حقيقة طبائع الأشياء التي تكلم عنها إذ أراد ~~أن يضم الموسيقى إلى التاريخ الطبيعي، فتكلم عنها بإهمال وإجمال في فقرة من بعض ~~كتبه، إذ أراد أن يفسر تأثير التخاطب بالأصوات، فلذلك يظهر أن جميع أفكاره اتجهت ~~إلى البحث في الموسيقى من الوجهة الاجتماعية. # إننا لا ننكر على الطير صناعة الغناء بعدما ذكرها الشعراء القدماء، وقد قال ~~الشاعر اللاتيني القديم «لوكريس»: «إن الإنسان كان يقلد الطيور قبل أن يتعلم ~~الكلام.» # إن لأهل «كامتشاتكا» - وهي شبه جزيرة في سيبريا الشرقية على نهر يهرنج - لحنا ~~يسمى «أناجيتش»، ومصدر اسمه وأصله راجع إلى اسم طير يسمى «أناس جلاسيالس» يظهر ~~أسرابا أسرابا في بلدهم في زمن معلوم. # وقد كتب الموسيقي الفرنسي أو البلجيكي «كليمان جانوكان» من القرن السادس عشر قطعة ~~موسيقية وصفية سماها «صوت الطير»، وقلد «هايدن» قوقأة الدجاج في الرباعية العشرين ~~من قطعه الموسيقية، كما عمل مثله «موزار» و«روسيني»، ولم يستنكف «بيتهوفن» أن يقلد ~~صوت الطير المسمى «كوكو» في قطعته المسماة «السانفوني الخلوية». # إننا أثبتنا أمرا أوليا اجتماعيا وهو التقليد المستعمل من نشأة الموسيقى، ~~فهل نستطيع أن نضيف إلى ذلك أن هذا التقليد سببه وأساسه عاطفة لا تغلب ولا تقاوم ~~ألا وهي حب الغير؟ نعم، ولكنه بتغيير ms036 قليل ندخله في فكرة «داروين». ~~(1) # لو كان الغناء وسيلة للظفر ويتسنى بها من هذه الوجهة ترقي الجنس لوجب ~~أن توجد موافقة وتوازن بين ترقي الغناء وترتيب درجات الكائنات الحية، ~~فلم لا يكون القرد أمهر في الموسيقى من العندليب، ونشاهد أن مظاهر ~~أصوات فصيلة البهائم ذات الأثداء ليست إلا لغطا ينشأ من ظاهرتين ~~بسيطتين وهما: الشهيق والزفير، فلا يكفي القرد أن يبعث صياحا شديدا ~~ليقال إنه موسيقي. ~~(2) # ولو كانت لغة للحب انتقلت بالوراثة والتطور وأنشأت الموسيقى لوجب على ~~الأمم الأولى أن تعترف باستمرار الارتقاء وكنا نعلم ذلك من صفات فنهم، ~~ووجب أن توجد بينهم موسيقى تمليها العواطف والتعبير والرقة قريبة من ~~الطبيعة وخاضعة مباشرة للوراثة، ولكنها ليست كما نظن ونفرض. # وقد روى المسيو «جروس» مشاهدة عيان رآها البرنس «دوفييد»، إذ قال عن ~~«البوتوكودو» وهي أمة من متوحشي أمريكا الجنوبية منتشرة في غابات ~~البريزيل: «إن غناء الرجال أشبه بصياح غير مميز يهتز بين صوتين أو ~~ثلاثة ويكون آونة مرتفعا وأخرى عميقا، ويتنفسون بقوة، ويضعون ذراعهم ~~اليسرى على رأسهم، وأحيانا يضعون أصابعهم في آذانهم لا سيما إذا كان ~~عندهم ناس، ويفتحون فمهم إلى آخره الذي شوهه «البوتوك» - وهي قطعة ~~مستديرة من الخشب يركبونها فوق شفتهم السفلى بعد ثقبها، وتعد عندهم من ~~أعظم الحلي والزينة - ولا نظن أن شخصا ما يرى عند هذه الأمة شيئا ~~يعجبه أو يفتنه من الفن! # إن المتوحشين لا يعرفون غير التناسل، وقد قال المسيو «لوبوك»: «إن ~~هنود أمريكا الشمالية الذين يتكلمون لغة «التينيه» لا توجد في لغتهم ~~كلمة تعبر عن لفظ «عزيز أو محبوب»، كما أنه لا توجد في لغة ~~«الألجونكان» - وهم من هنود أمريكا وقاطنون على مقربة من بحيرة ميشيجان ~~- كلمة تفيد «الحب».» # نعم، إن أغاني المتوحشين تدور عادة حول الصيد والحرب والنساء، ولكن ~~يندر جدا أن يسند إليهم غناء الحب. # ولا يوجد عند «الأوزاج» - هنود أواسط الولايات المتحدة - حتى عند ~~«الشيروكيس» - وهي أمة من هنود الولايات المتحدة مشهورة بالذكاء حتى ~~أصبحت اليوم في غاية من المدنية - تعبير ms037 واحد موسيقي أو شعري مبني على ~~عاطفة حنو بين الجنسين، ولم تسمع منهم أغان للحب.» # وكذلك لا يوجد لحن واحد للحب عند المتوحشين من «الأوستراليين» ~~و«المينكوبيس» - وهي أمة من السود منتشرة في جزيرة أندمان بأرخبيل ~~بنغال. # وقال المسيو «رينك»: إن أمة «الإسكيمو» - الذين يسكنون حول القطب ~~الشمالي - يكادون لا يعرفون عاطفة الحب. ~~(3) # إذا كان منشأ الموسيقى صادرا من الإلهام التناسلي فلم نرى أن من ~~الوظائف الأولية التي لها السبق في الموسيقى عند جميع الأمم تنحصر في ~~الدينية منها؟ من أين أتت الأغاني الحربية وهي مضادة للحب؟ كيف يتأتى ~~أن «الأوستراليين» وكثير غيرهم يغنون في معظم الأحيان حينما يكونون ~~منفردين. # وحيث إن الإلهام التناسلي عام فلم نشاهد أن بعض الأمم «كالألمان» ~~أمهر في الموسيقى من أمم أخرى من عنصرهم وأقربائهم «كالإنكليز»؟ # يعتبر الألمان ملوكا للموسيقى حيث أنتجوا فحولها مثل: باخ وهندل ~~وبيتهوفن وفيبر وموزار وشومان وغيرهم. # يصعب علينا أن نقبل نظرية «داروين» كما هي على علاتها، فإن هذا المؤرخ الطبيعي ~~العظيم يريد أن يوجد سلسلة مستمرة تربط موسيقى الأناسي المتمدينين بمظاهر الغريزة ~~التناسلية عند الحيوانات الدنيئة، ولكن توجد كما رأينا عدة حلقات تنقص هذه السلسلة ~~وتظهر باختيارنا ما سبق عن الأمم المتوحشة، وبتغيير خفيف لا يزيد عن تأخير حد يكفي ~~لأن يصير هذا المذهب مقبولا. # ومبلغ القول أن «داروين» لا يبتعد كثيرا عن علماء ما وراء المادة الألمانيين ~~الذين يسندون إلى الموسيقى امتياز التعبير الأساسي عن أعماق نفوسنا، وما أساس ~~كياننا غير الحياة والرغبة في إطالتها وتخليدها وإبلاغها إلى منتهى الكمال ~~والسعادة. # تكلم المسيو «كلوديوس مادورول» في كتابه «سياحة في غينا» عن الزنوج وشدة شغفهم ~~بالملذات والشهوات التي يؤسسون عليها موسيقاهم ورقصهم، فقال: # لا تلبث الشمس أن تغيب عن العيون إلا وترى أفريقية بأجمعها قد تحولت إلى ~~أعياد تنطلق في أرجائها أصوات الطبول. # وهذا أشبه بالحفلات الموسيقية ذات الأوزان الغريبة التي تصدع الرءوس، وتنبعث في ~~المساء عقب قيظ شديد من أنعام مختلفة سائمة في الحقول، وهذه الموسيقى الفخمة ~~الوحشية لها ms038 معنى عظيم؛ إذ بالإصغاء إليها يفهم الإنسان شيئا من روح ~~الطبيعة. # حينما يخيم الظلام ترى الناس غير قادرين على مغالبة رغبتهم في منح الحياة أبهى ~~مظاهرها وإعادتها في أشكال جديدة أعظم وأجمل من سابقها، وما هذه الرغبة إلا الحب؛ ~~إذ منه ينبعث هذا الصوت الفخم الجهوري الرنان صوت الكائنات الحية التي تريد الرقي ~~وتدعوه. # موسيقانا أشبه بموسيقى الزنوج ولا مشاحة في أنها أعظم رقيا وتهذيبا، ولكنها ~~تعبر بصيغ واضحة جلية عن ملذاتنا المتأصلة في أعماق نفوسنا، إنها تجمع وتطهر وترفع ~~دعوة الجنسين لبعضهما، فتراهم في ليالي الصيف منتشرين في الخلوات كنسيج من الفتن ~~والملذات، فيجد الحب بينهم مقاما أرفع منه في الشعر الخيالي. # وعلى هذا النمط سار نوابغ الموسيقيين؛ إذ كانوا مولعين بالحب، ومعظم تأثرات ~~وانفعالات السامعين كانت من أصداء عواطفهم الأخيرة. ~~(1-5) الموسيقى والسحر # السحر هو مجموع تمرينات يعتقد الإنسان أنه بواسطتها يجعل الطبيعة والأرواح التي ~~تعمرها خاضعة لإرادته، يعترف الدين والسحر بالأرواح، ولكن علاقة الإنسان بالأرواح ~~ليست واحدة في الدين والسحر؛ ففي الدين يبتهل الإنسان إلى رب قادر ويسأله بخشوع ~~وتوسل عنايته الربانية ورحمته التي وسعت كل شيء، ولكنها تختلف في السحر؛ لأن الساحر ~~لا يضرع ولا يرجو بل يأمر وينهى، إذن فالأعمال الدينية تستقي نفوذها الفعال من ~~العواطف والنيات وهما شعار الدين، وفي السحر يعمل الساحر حسب مقتضيات قوانين مخصوصة ~~دون أن تكون لعواطفه ونياته تأثير في أعماله، وهذه القوانين لا يستطيع الإنسان أن ~~يقاومها أو يبطل مفعولها إلا إذا كان ساحرا. # وقد وصف الشاعر اليوناني القديم «أوريبيد» في إحدى رواياته المحزنة الفن الذي ~~يجعل الآلهة تتكلم رغما عنها بواسطة عزائم معينة، وهو عبارة عن السحر في الأزمان ~~التي وجدت فيها الآلهة الميتولوجية، وهذا الفن كان يقهر هذه الآلهة حينما يكون ~~مضادا لإرادتهم الدينية. # نرى أن كتاب النصرانية يميزون بين المعجزات الحقيقية التي تحدث بفضل الدين ~~وبين مثيلاتها التي تنال بالتعزيم، ولو أنهم يحرمون الأخيرة لكنهم يعتقدون بجواز ~~حصولها. # وللسحر مذهبان: أحدهما يدوي يتركب من أشكال هندسية وصور ms039 وإحراق أشياء مختلفة ~~كالبخور وغيره، والثاني شفهي. # يستدعي المذهب اليدوي الصناعة، فهو إذن متأخر عن الشفهي؛ لأن الصوت آلة جعلتها ~~الطبيعية طوع الإنسان، ولا يستلزم استخدامها شيئا سوى الغريزة، وهذا مما يثبت أن ~~المذهب الشفهي أقدم من اليدوي. # ابتدءوا في السحر الشفهي بالغناء ومرت صيغه بوجوه التطورات الآتية: لحنوها ثم ~~رووها ثم كتبوها وحملوها في بعض الأحوال كالتمائم. # وقد اعتبر الصوت أشد تأثيرا ونفوذا من أشربة العشق حتى في الزمن الذي انتشر ~~وتقدم فيه السحر اليدوي، وقد عرف الناس واشتهر بينهم أن المذهب اليدوي كان دائما ~~في حاجة للاستعانة بالصيغ الشفهية. # الغناء السحري # يوصف الغناء السحري عند القدماء بالمسائل الآتية: ~~(1) # نظامه الذاتي: فهو متقدم عن كل القوانين الموسيقية المنتظمة، ~~وخاضع لقوانين عامة هامة في مادة السحر ألا وهي التقليد، والغناء ~~السحري بعيد عن أن يطرق فن الجمال؛ لأنه لم يعمل للسماع، بل هو ~~موجه لفرد واحد غير مرئي، يتأثر لأقل شيء من الأعمال السحرية، ~~ويغني الساحر للروح وحده الذي يريد أن يهيمن عليه. # لا نجد في الغناء السحري ما نسميه بالنظريات الموسيقية، ولكنه ~~مزود بجميع ما يلزمه وينشئ كيانه من أصول فن السحر. ~~(2) # من وجهة ارتباطه بأقوال تكون عادة غير مفهومة لدينا ولا يفهمها ~~المغنون أنفسهم. ~~(3) # عمله ودائرته التي تتناولها أبحاثه، وهو قديم في تاريخ المدنية ~~الإنسانية، وله أهمية عظمى؛ لأنه كان أمرا عاما يظهر في أغلب ~~الأوقات في أدوار الحياة العملية. ~~(4) # من الوجهة الاجتماعية، نرى للغناء السحري ارتباطا معينا ~~بالحياة الاجتماعية عند القدماء، والمثال الآتي يوضح لنا ذلك ~~جليا. # إن قبائل «أوماها» قوم من هنود الولايات المتحدة يسكنون مقاطعة ~~نبراسكا، وكانوا في الزمن الغابر مشهورين بالصيد ولكنهم أصبحوا في ~~حالة طيبة من المدنية، وتركوا عاداتهم وعقائدهم القديمة حتى صاروا ~~الآن من أعظم العاملين في الزراعة، يكثر في بلادهم الجاموس، وصيد ~~هذا الجنس خاضع لوقائع مختلفة ويمكث زمنا طويلا، وهو مرتب ~~باستعمالات محدودة وإلزامية لكل فرد، وكل مخالفة تصدر منهم تدخل ~~تحت طائلة العقاب الشديد، تخرج القبيلة من قريتها بقيادة ms040 رئيس ~~ينتخب في حفلة عظيمة، وهذا الرئيس في الوقت نفسه صياد ماهر وكاهن ~~مغن وساحر عظيم، يحمل كل تبعة؛ إذ هو المنوط بإدارة حركة الصيد ~~واختيار أعظم الأمكنة التي يعسكر فيها جنده، والتنبؤ بمكان الصيد ~~وإحضار الطعام، ويجيب عن كل ما سيحصل من تقلبات الأيام وهجوم ~~الأعداء والمشاجرات وغيرها. ~~(1-6) المطر وصفاء الجو «الغناء السحري عند المكسيكيين» # تهطل في هذه البلاد الحارة ذات الشمس المحرقة الأمطار الغزيرة؛ لأن جبالها «سييرا ~~مادرا الغربية» تبلغ 2069 مترا فوق سطح الماء، والتبخر عندهم سريع، كما أن الأرض ~~متخلخلة لا تحفظ الماء طويلا؛ فلذلك تراهم مهددين بالجدب إذا أمسك عنهم الغيث في ~~المدة المنحصرة بين شهري يونيه وأكتوبر. # غذاء هذه الأمة مترتب على نجاح زراعتها، فهم يفضلون ماء السماء على الذهب والفضة، ~~يعتقدون أن المتصرف في المطر إله يكون تارة جوادا وطورا بخيلا، ولا وسيلة لهم ~~لقهر هذا الإله إلا بالغناء السحري. # انتشر في المكسيك في الجهات الممتدة بين حوض «لاكوستر» الذي توجد في وسطه ~~«مكسيكو» وفي الوجهة الشرقية على مقربة من البحر، والقبلية بالقرب من برزخ ~~«تهويانتيبيك» المذهب القائل بوجود آلهة المطر المسماة «تلالوك»؛ أي آلهة الظواهر ~~الجوية الذين يجودون بالغيث، ويوجد في الحدود الشرقية قبيلة منهم تسمى «نونوالكاس» ~~وهو اسم من أسماء آلهة المطر القدماء «نونوالكالت». # وقد عثر على صورة تمثل «تلالوك» وهو قابض على صولجان من الخشب به السحب، وعلى ~~صدره إناء يعتبر أنه يحوي المطر، وهو مصور باللون الأخضر وله أخت أو زوجة «تسمى ~~الإزار الزمردي». # الاستغاثة بآلهة الأمطار بواسطة الغناء السحري متقدم على الضحايا الفاجعة التي ~~كانت تقترف عدة مرات في السنة؛ إذ كانوا يذبحون عددا عظيما من الأطفال في جهات ~~مختلفة على قمم الجبال تشريفا لإله المطر ليمنحهم وابلا مدرارا، كان الذين تدور ~~عليهم الدائرة ويخونهم الحظ المنكود من هؤلاء الأطفال الأبرياء يزينون بفاخر الثياب ~~ويحملون على الأكتاف في أسرة محلاة بأبهى الريش وأجمل الأزهار، يتقدمهم موكب عظيم ~~جمع بين الغناء والرقص والعزف بالآلات الموسيقية. # ولقبائل «الزونيس» رقص عظيم للمطر ms041 يعتبرونه من أقدم عقائدهم وعاداتهم، وهو متدوال ~~بين كافة طبقاتهم ومصحوب بغناء يحدث في حفلة شائقة تقام بكل اعتناء لنوال الأمطار، ~~وهاك ترتيب القسم الموسيقي للحفلة: # تضرم أولا النيران على الصخور وذرى الآكام المجاورة، ويستمر إشعالها إلى أن ~~تتقبل صلاتهم، ودليل ذلك نزول وابل هتان، وللمطر كاهن يخاطبه بخشب خاص يحدث عند ~~إحراقه دخانا كثيفا يحلق في السماء كالسحب. # ثم يرتل العزائم والأغاني السحرية الفتيان الشجعان والعذارى اللاتي يلبين دعوة ~~الكهان وينشدن بحمية وحماسة، وهن لابسات حللا بيضاء حاملات ألواحا نقشت عليها من ~~جهة سحب مربدة، ومن الأخرى صورة البرق. # يستمر الرقص والغناء ليلا ونهارا بصبر لا يستطيع العقل تصوره، والجميع مرتسم ~~على وجوههم الوثوق بنجاح أعمالهم، وتتركب الحفلة الموسيقية من الأقسام ~~الآتية: ~~(1) # طبول تؤذن برقص المطر. ~~(2) # يأمر كاهن المطر الفتيات بافتتاح الرقص (غناء). ~~(3) # يدعو الجميع المطر (لحن). ~~(4) # إشارة بالسكوت. ~~(5) # يضرب على صفائح رنانة تمثل صوت الرعد. ~~(6) # غناء العذارى للاستغاثة بإله المطر. ~~(7) # نشيد الحمد والثناء عقب سقوط المطر. ~~(1-7) الاستسقاء عند الفراعنة # اشتهرت بلاد الفراعنة من غابر الأزمان بخصبها وتقدمها في الزراعة، وكان الملك ~~مسئولا عن فصول السنة، ويعتقدون أنه قادر على منح المطر ومنعه؛ لأنه كان في الوقت ~~نفسه كاهنا وهب قوة الصوت ونفوذه السحري. # وأقدم دليل على ذلك نشيد النيل وهو أشبه بغناء سحري للاستسقاء، وقد لاحظ الناس ~~الذين ابتدءوا بعمار هذا القطر عدة ظواهر للنيل، إذ يرون أمامهم نهرا يجهلون منبعه ~~ويظنون أنه يخرج من حفرتين لا يعلم لهما قرار بين جزيرتي «الفيلة وإيليفانتين»، ~~يتغير لون هذا النهر عدة مرات في السنة، فحينما تحترق الزروع من الرياح الحارة ~~برمال الصحاري في شهر يونيه يكون لونه أزرق رائقا، ووقتما يزيد ويحمل بقايا ~~النباتات المتخلفة من مستنقعات بحر الغزال يخضر لونه، «ويعتقدون أن هذا الماء ~~الأخضر هو عبرات المعبودة إيزيس تبكي قرينها»، ~~ثم يستمر في الزيادة ويتلون ماؤه بالحمرة كأنه دم قانئ فيغمر الشواطئ، ويترك فيها ~~قبل أن يبارحها مقدارا عظيما من الطمي يخصبها ويجدد قواها. # تدل ترجمة المسيو «ماسبيرو ms042 » لنشيد النيل أن هذا النشيد مثال من النظم الشائق ~~المختلط بالعزائم السحرية، ونذكر فقرته العاشرة لنقف على نموذج من أغانيهم: # الفقرة العاشرة لنشيد النيل: «يرتفع لأجلك نشيد الأعياد موقعا على «الهارب» ~~ومسندا بالأيدي، يحبذك فتيانك وأطفالك، يعدون لك صفوف أولادهم الطويلة، أنت أفخم ~~زينة للأرض، اجعل سفينتك تتقدم أمام أعين الناس، امنح الحبالى قوة عظيمة، أحبب نمو ~~قطعان أنعامك.» ~~(1-8) الأغاني السحرية والحب # كان للفتنة فن شهي يعد من العلوم القديمة، وهو مؤسس على أصول وقواعد واضحة قبل أن ~~يصبح أمرا متداولا لأهواء زينة الحياة والابتداع الإنساني. # لم يكن هذا العلم مستعملا لمحض الزينة، بل كان يرمي لغرض حقيقي، وهو على نوعين؛ ~~أحدهما موسيقى، والثاني كلام موزون، ولكن هذا الشكل الأخير صادر من الأول، وما ~~الشعر في الحقيقة إلا موسيقى يعوزها جزء من أصولها. # وقد ترجم المسيو «ماسبيرو» أغاني للحب وجدت في البردي المحفوظ في «تورينو» ~~بإيطاليا و«هاريس» بإنجلترا، وهي أشبه بنشيد الإنشاد - باب في التوراة - والبعض ~~منها أشبه بعزائم سحرية، والمثال الآتي يدلنا عل شكلها: ~~«أيها الحبيب الجميل! مناي أن أهيمن على محاسنك وشيمك بما لي من نفوذ الحليلة بأن ~~نتريض سويا كما تريد وتهوى وأنت ممسك بذراعي، لأذكر وقتئذ توسلاتي لفؤادي الذي ~~أصبح مندمجا في أحشائك، إن غاب عني حبيبي طول ليلي ولم يأت أكون بمثابة من ووريت ~~في لحدها! ألم تكن أنت الصحة والحياة؟ أنت الذي تنعش بالصحة والمسرات فؤادي الذي ~~ينشدك؟» - كثيرا ما يصادف المسيو ماسبيرو عقبات في الترجمة ككلمات باللسان ~~الهيراطيقي المكتوب بعضه بأحرف يونانية قديمة أو محو في الكتابة أو تمزيق في البردي ~~يذهب ببعض الكلمات، وغير ذلك، مما يجعل الترجمة في بعض الأحيان غامضة. ~~(1-9) أغاني الحب عند هنود أمريكا # يشعر هنود أمريكا المتوحشون بنفس عواطف المتمدينين، فيعبرون عنها تعبيرا ناقصا ~~لكنه مناسب قليلا، وإنا ذاكرون بعضا منها لقبائل «أوماها». # يقتصر الهندي على مقابلة أقارب أمه وأبيه ونفر قليل غيرهم، وحيث إن زواج أقارب ~~الأبوين محرم عندهم فالبنت لا يسعدها الحظ بالعثور على زوج ms043 ممن حولها، فيلزم إذن أن ~~ترتبط علاقات الحب سرا بطرق غريبة خارجة عن دائرة الأسرة. # وحينما يصادف الشاب الفتاة وهي ذاهبة لطلب الماء يراقب رجوعها ليعرف خيمتها، ~~ويتربص في مكان غير بعيد ليتسنى للفتاة أن تسمع غناءه ليلفتها إليه ويحوز ~~إعجابها. # تسمع الفتاة الصوت دون أن ترى المغني، وتجهد نفسها في معرفة صاحبه وتقول: «من ~~المغني؟» وهذا السؤال هو نتيجة اللحن وفائدته، يعقب ذلك مناجاة الحبيبين مدة ليست ~~بالقصيرة، وينتهي الأمر باختطاف أو زواج أو مغازلة طويلة. # وتدل بعض أغانيهم على شكوى الفتاة من بعد حبيبها الذي لا تفكر إلا فيه وتود أن ~~يكون قريبا منها. # والغناء الآتي الصادر من هندي أميركي إلى حبيبته يدل على النفوذ السحري للصوت ~~متحدا مع تأثير سحري لشيء مادي: ~~«اصغي إلى صوت مزماري يا عين الحمامة (اسم الفتاة)، اصغي إلى ألحاني فهذا صوتي، ~~لا تدعي للاحمرار إليك سبيلا فإني عالم بأفكارك، إنني أحمل مجني السحري فلا ~~تستطيعين الفرار، إنني أجذب فؤادك إلي ولو كنت في جزيرة بعيدة عما وراء البحيرات ~~العظيمة ... لا تهربي مني فأذهب في طلبك ولو إلى السحاب، معالجتي عظيمة وهي طوع ~~بناني، إذ بها أجذب النماء سواء أكان في الأرض أو في السماء، الروح الأعظم خاضع ~~لأمري يا خطيبتي.» ~~(1-10) لم وجدت العزائم السحرية للحب؟ # نريد أن نبين بعض مسائل عامة تساعدنا على فهم استعمال آخر للعزائم السحرية في ~~أعمال العواطف. # اعتاد القدماء أن يعتقدوا أن جميع الظاهرات والحوادث مهما كان نوعها من أعمال ~~أرواح خفية، والحب معدود أيضا ضمن دائرة نفوذ هذه الأرواح، وكان الذين يصبحون ~~هدفا لسهام الحب يشعرون بتأثر قوي أو عنيف يداهمهم على حين غفلة ويغير حالتهم ~~الخلقية، فالإنسان الذي يحس لأول وهلة بهذا التحول المبهم الذي يحدث له اضطرابا ~~ويعكر صفوه يظن نفسه مملوكا لغيره، وأنه أصبح تحت مشيئة روح استحوذ عليه. # كانت العواطف التي يشعر بها هؤلاء المحبون شديدة معروفة بين الناس، وقد بلغ منهم ~~أن صوروا هذه الأرواح وجعلوا منها آلهة شديدي الحول والقوة يخشى ms044 جانبهم، وأنشئوا ~~لهم القصص الخرافية، وجعلوا لها مكانا رفيعا في «الميتولوجيا». # كانوا يعدون الحب قوة لا تغالب تسيطر على الإنسان وجميع الكائنات الحية، سواء ~~أكانت في البر أو في البحر فتقربها وتجمع بينها، وقد فخم الفلاسفة والشعراء ~~الأقدمون الحب وأظهروا قوته التي لا تقهر مثل: أفلاطون و«أوريبيد». # قد علمنا أن العزائم السحرية لها نفوذ عظيم على القوى غير المرئية المختفية حول ~~الإنسان والمستترة في الظاهرات الطبيعية، وحيث يوجد روح للحب صار بعد إلها، ~~فللعزائم والصلوات المرتلة والشعر المعبر عن العواطف دور مهم في علاقات الإنسان مع ~~هذا الروح أو الإله القوي. # وقد عد القدماء الحب المبرح من الآلام وحينما تكون العواطف شديدة غير منتظمة ولا ~~خاضعة لمراقبة العقل أو الضمير يحدث في الحياة الباطنة اضطراب أشبه بعواصف الحياة ~~الظاهرة، وينتج عوارض مرضية تختص دراستها بالأطباء؛ كاضطراب التنفس والدورة ~~الدموية، واختلال نظام الأعضاء. # وكان عندهم عزائم خاصة بشفاء الأمراض وتسكين غضب أرواح الحب، وأعظم دليل لإثبات ~~ما ذكرناه فقرتان من صفوة ما تركه لنا الأقدمون من رائع البلاغة وساحر البيان؛ ألا ~~وهي رواية «إيبوليت» التي رفعت شأن مؤلفها الشاعر اليوناني القديم ~~«أوريبيد». # نشيد: فنيت «فيدر» على فراش الآلام، واعتكفت في قصرها مختمرة بخمار شفوف يستر ~~منها رأسا ازدان بشعرها العسجدي، مر عليها ثلاثة أيام لم تذق فيها طعاما، أصيبت ~~بألم خفي فأرادت أن تجعل لحظها المنكود حدا. # أيتها المرأة الرافلة في برد شبابها! إن أحد الآلهة يطاردك وربما كان «بان أو ~~هيكات أو كوربيانت أو سيبيل» الضال في الجبال وهو غائب الرشد. # ليت شعري هل أصابك ما أصابك من جراء إهانتك لأرطميس «إلهة الصيد»، أو خطأ ارتكبته ~~في إتمام شعائر القربان؟ إنها تطوف بأطراف الأرض وتخوض البحار فلا يفلت أحد من ~~ملكها. # نشيد آخر: أمور يا إله الحب! أنت الذي يسكب من عينيه سم الرغائب والملذات في ~~القلوب التي تطاردها، لا تكن لي معاديا ولا تجعلني هدفا لسهام غضبك، ليست النيران ~~الملتهمة ولا الحراب التي ترميها الكواكب بأشد هولا وإزعاجا ms045 من حراب الزهرة «ربة ~~الحب» التي تقذفها أيدي «أمور» ابن «جوبيتير». # عبثا يضحي اليونان مئات الثيران «لجوبيتير» على شواطئ «الفيه» و«لابلون» في ~~محارب دلف. # إن كنا نهمل عبادة «أمور» الظالم الغشوم حارس ملذات «الزهرة» والمتسبب في فناء من ~~كتب عليهم الموت فليهو بهم حينما ينقض عليهم إلى دركات المصائب والإحن. ~~(2) الأغاني السحرية والطب ~~(2-1) مداواة لدغ الثعابين بواسطتها # إن أقدم أثر يعتمد عليه تاريخ الموسيقى هو الكتابات المنقوشة على هرم مصري بسقارة ~~أنشئ قبل الميلاد بآلاف من السنين. # يحتوي هذا الهرم على رمس الملك «أوناس» آخر ملوك الأسرة الخامسة، وقد اكتشفه ~~المسيو «ماسبيرو» في شهر فبراير سنة 1881. # إن الغرفة المودع بها تابوت هذا الملك مغطاة حيطانها بصيغ معظمها سحرية والبعض ~~منها دينية، بفضلها يكون الميت آمنا مطمئنا، ويستطيع أن يتم ما قدر له من ~~الحياة الجديدة. # يرى المتأمل في هذه الكتابات أنها بليغة وأسلوبها أشبه بالقصائد، ولكنها لم تعمل ~~للسماع ولا للجمهور، بل هي مركبة من صيغ تعمل وحدها من نفسها بما لها من الخواص ~~والتأثيرات. # لننظر في قطعة من هذه الصيغ دون أن نشتغل بالآثار الموسيقية التي يتسنى لنا ~~استنباطها منها، وهي تدل على ما يتمنونه وينتظرونه للملك «أوناس» ومضمونها أنه لم ~~يمت، إذ يقرأ منها هذه الجملة: أيها الملك أوناس! يد شخصك الثاني أمامك، يد شخصك ~~الثاني خلفك، رجل شخصك الثاني أمامك، رجل شخصك الثاني خلفك ... إنك موجود، صولجانك ~~«آب» بيدك، إنك تصدر أوامرك للأحياء، ومن تواروا في مساكنهم الخفية ... إنك تطهر بماء ~~الكواكب الزلال ثم تنزل على حبال من حديد ... تحبذك الأرواح النورانية ... إلخ. ثم يمر ~~ذكر عدة آلهة ويقول لكل منهم: إذا كان وجودك حقا ليس بوهم فكذلك وجود «أوناس» ~~أمر حقيقي، إذا كان ابنك «هور» حيا «فأوناس» مثله ... إلخ. تفتح أبواب الأفق وتهشم ~~مزاليجها، ها هو مقبل نحوك يا «نيت» قد أمك يا «نوازيريت» ... إلخ. # تجد من مميزات هذه العزائم أنها أشبه بدفاع للموت والفناء تلبسه روح بليغة من ~~الشعر، ولكنها في الحقيقة مخالفة للشعر ms046 من بعض الوجوه؛ لأنها لم تعمل لتلفت إليها ~~أحدا حتى الميت نفسه، إذ تخاطب بها بعض الأحيان الآلهة وهي مختفية طي حصن حصين، ~~ولا قيمة لها إلا أنها ظاهرة يعتبر مفعولها غير خاضع لأي إرادة إنسانية، وهذا هو ~~خاصية السحر. # وقد بين المسيو «ماسبيرو» أن هذه الكتابات مركبة من آيات، وكل جملة منها تشمل ~~الأنواع الآتية: (1) دعاء. (2) صيغة تسد مسد عمل حقيقي. (3) تتمة لهذه ~~الصيغة. # لم يقتصر الملك (أوناس) بعد موته على أن أصبح متمتعا بحياة جديدة بل صار إلها، ~~ولذلك وجب أن يزود وتقدم له الهدايا، والكتابة تدل دلالة صريحة على كيفية تقديم ~~الهدايا من فطير ولبن وزبد وجعة سوداء مصحوبة بالعزائم التي كانت تعمل معها، وكذلك ~~العطور والبخور الذي يحرق عند الحاجة مع بيان الإشارات التي كانت تعمل ~~وقتئذ. # وأهم ملاحظة تلفت النظر في غرفة الملك «أوناس» هي السطور المنقوشة فوق تابوته، ~~وهي حاوية لصيغ سحرية تصلح لوقاية الميت من لدغ الثعابين التي تعترضه في رحلته إلى ~~الإله «أوزيريس» حامي الموتى. # يعتقد قدماء المصريين أن الحياة الآخرة أشبه بالحياة الدنيا معمورة بنفس ~~حيواناتها وهوامها، فيستعملون للموتى ذات الصيغ التي كانوا يستعملونها لوقاية ~~أحيائهم من لدغ الثعابين وينقشونها فوق توابيتهم. ~~(2-2) الأمراض عند العائشين على الفطرة # زار سائح في أوائل القرن التاسع عشر جزائر المحيط الأعظم فقال عنهم: «إنهم ~~يعتقدون أن الموت هو الذي يحصل من إصابة تسبب الوفاة كموت الحروب.» # ليست الفكرة القائلة بأن الموت من قوانين الحياة معروفة عند القدماء؛ لأن الإنسان ~~حسب عقيدتهم لو مزقته الضواري إربا إربا أو اخترقت جسمه السهام فلا يكون ذلك ~~شيئا غريبا أو خفيا؛ لأن سببه ظاهر للعيان، ولكنهم يعدون الموت من العلل ~~والآفات أمرا من خوارق العادات ويعزونه إلى الأرواح الشريرة، فإن شكا أحد من صداع ~~أو مرض في الأمعاء أو غيره قالوا: قد لبسه جني، فمداواة هؤلاء المرضى ليست إلا طرد ~~هذه الأرواح المتسلطة عليهم. # يبدءون بمداواة مرضاهم بالعزائم السحرية ثم يصحبونها بالعمليات الجراحية ~~والمعالجات الطبية الأولية، وهم معتقدون أن ms047 الفضل في تأثيرها راجع إلى الأغاني ~~السحرية. # حينما يدعى الكاهن الوثني في الكونغو لطرد روح خبيث استحوذ على زنجي يقيم للمريض ~~حفلة غناء ورقص أمام كوخه، وتمكث يومين فيهرع إليها الناس من كل فج عميق ~~ليشاهدوا الساحر الذي يسمونه بلغتهم «ماكنجا»، يعزف العازفون بآلاتهم الموسيقية ~~ويغني الحاضرون أناشيد تصحب الموسيقى ولا يترنم الساحر إلا بمطلع النشيد، ويستمر كل ~~دور نحو ساعتين فلا ينتهي إلا حينما تنفد قوى الراقص الذي يمثل في رقصه الحروب، ~~فتراه محمر العينين كأنه ثمل من شدة الوغى، بيده رمح يمثل به هجوم ودفاع خصمين، ~~وينتهي الأمر بأن يتخيل أنه ظفر بعدوه فينشد أناشيد النصر، وتكون الموسيقى وقت هذه ~~الحرب التمثيلية بطيئة أو سريعة على نغمة واحدة أو متنوعة، وذلك وفق حركات الراقص ~~الممثل. # والطريقة المتبعة لغاية يومنا هذا عند الإسكيمو هي المعالجة بالعزائم ~~السحرية. ~~(2-3) الأغاني السحرية والطب عند الهنود # أنشأ أحد الهنود الرحالين المسمى «هوفمان» رحلة يدور بحثه فيها على غرائب قبيلة ~~«أوجيباوا» وهي من أشهر القبائل الهندية المنتشرة بين مقاطعتي «أونتاريووريد ~~ريفيراوف ذي نورث»، وقد صور صورة تمثل رجلا من الذين يعالجون بواسطة الأعشاب، ~~متربعا في كوخه يجهز خليطا من الأعشاب يحركه بيمناه في مرجل واليسرى ممسكة شيئا ~~أشبه باللعبة التي تحدث صوتا من لسانها المعترض أمام أسنان ترسها. # يغني هذا الرجل وهو يحضر دواءه معتقدا أن الغناء يصير طعم هذه العقاقير رديئا ~~فيستبشعه الشيطان المستحوذ على المريض. # بين هؤلاء الهنود جماعة تسمى «مديووبن» - ولعلها محرفة من كلمة مداوين جمع مداو ~~- ويسميهم السياح «الجماعة الكبرى الطبية»، تتركب هذه الفئة من «الشامنس» وهم في ~~الوقت نفسه أطباء يعالجون بالسحر وكهنة وعرافون وأنبياء وأساتذة للموسيقى. # وهذه الجماعة مجهولة الأصل وهي في حماية الآلهة ورعايتهم، ولا تعهد الأسرار ~~للمريد الحديث إلا شيئا فشيئا. # ليس الهندي المعدود عندهم كفؤا لشفاء المريض قاصرا على مهنة المعالجة بالأعشاب؛ ~~بل هو مغن ذو صوت حائز لنفوذ عظيم، أقر بأذنيه تابع لموسيقاه، بل يستخرج خواصه ~~الفعالة من الموسيقى. # وحينما يتعلم التلميذ الجديد التعاليم ms048 الأولية يلقنه أستاذه بعض أغان وأناشيد ~~تكون لتجارته أول مورد للارتزاق، وهذه الأغاني مؤثرة لحد معلوم، ولا يقتصر التلميذ ~~على بعض أغان محفوظة بل يتدرب على إنشاء أناشيده الخاصة. # وقد ذكرت ميس «فليتشر» في أبحاثها في موسيقى قبيلة «أوماها» الأغاني الطبية، ~~وجعلت لها قسما خاصا فقالت: «الأغاني الخاصة بمعرفة استعمال بعض الجذور أو ~~الأعشاب الطبية تنشد عند البحث عنها وجمعها وتحضيرها، ويباح لجميع الناس سمعها ولكن ~~لا يستطيع أحد أن يستعملها غير صاحبها؛ لأنها ملك وحق خاص يحترمه الكبار والصغار، ~~وهو بمثابة الصيادلة في عصرنا هذا كل منهم يملك مخترعاته ولا يجوز لغيرهم ~~تقليدها. ~~(2-4) تأثير الموسيقى في الحيوان # للموسيقى تأثير عظيم في الحيوان، فتراها تارة تشجعه كالإبل إن أعياها السير من ~~التعب أو القيظ أو الجوع حداها السائق بشجي الحداء فتطرب وتنسى النصب وتداوم سيرها ~~بنشاط وحمية، والحداء أمر معروف بين العرب لا يخلو منه قول شاعر. # ونشاهد أن بعض الحيوانات كالخيل والحمير والإبل تكون بعض الأحيان مستنفرة غير ~~مطمئنة حينما ترد الماء، فلا يهدأ روعها وتطمئن حتى يصفر لها راعيها فتشرب وهي ~~آمنة. # وأغرب من هذا وذاك تأثير الموسيقى في الثعابين والأفاعي، هذه الهوام الخبيثة التي ~~جبلت على الشر والأذى، والمثال الآتي يرينا أن للموسيقى وحدها دون أن تستعين ~~بالسحر نفوذا عظيما على هذه الهوام، نرى الهندي يعزف بألحان خاصة فتهرع إليه ~~الثعابين من جحورها وتقف بين يديه ذليلة صاغرة وديعة متجردة من ميولها الخبيثة، ~~فيأخذها الطرب وتلعب وترقص على نغمة مزماره. # روى الرحالة «روسليه» ما شاهده في الهند من استحضار الثعابين وترقصيها فقال: ~~حينما كنا في الهند دعانا اثنان من السحرة المشتغلين باستخراج الثعابين والاتجار ~~بها، وقدما لنا بعضا منها ومن أندرها نوع يسمى «جولابي» أو ثعبان الورد؛ لأن ثوبه ~~منقوش باللون المرجاني، ونوعا آخر يشبه رأسه ذنبه حتى يصعب التمييز بينهما، ~~رددت ناظري في الثعابين فلم أجد بينهما النوع المسمى «كوبرا كابللو» فقلت لهما: «ما ~~الفائدة من جميع هذه الأنواع إذا لم يكن فيها «الكوبرا» الذي نريده ms049 ؟» فأجابا: «إن ~~هذا النوع نجده بسهولة، بل نستطيع أن نعثر عليه في فناء داركم.» # أخذني العجب ولم أصدق أنهما يعثران عليه في وقت قصير، فقام أحدهما وتجرد من ثيابه ~~ولم يترك إلا سرواله وأخذ المزمار المعروف عندهم باسم «تومريل» وهو خاص بالثعابين ~~ودعاني لاقتفائه، فذهبنا خلف البيت إلى خلاء مغطى بالحجارة والعوسج، وأخذ يعزف ~~بمزماره فينبعث منه أصوات حادة يتخللها تنويعات في الصوت ألطف من التي ابتدأ بها، ~~وما هي إلا هنيهة حتى أشار إلي أن أنظر إلى نقطة عينها فرأيت ثعبانا مطلا ~~برأسه من جحره أسفل حجر، فرمى الرجل مزماره وانقض عليه كالبرق وقذف به في الهواء ثم ~~أمسك بذنبه حينما وقع على الأرض، وبعد فحصه وجده حية غير سامة فعاد إلى عزفه، وما ~~هي إلا لحظة كلمح البصر حتى شاهدنا ثعبانا يثب في الهواء ثم وقع على الأرض فهجم ~~عليه الرجل وأمسك به فإذا هو من النوع الذي أنشده أسود هائل يربو طوله على متر، طفق ~~الثعبان يختبط ويحاول الإفلات، فأسرع الرجل وأمسك به من خلف رأسه وفتح فمه وأرانا ~~أنيابا حدادا يقطر منها الموت الزؤام؛ فتحققنا صدق عمله؛ لأن معظم هذه الفئة ~~يستخدمون الثعابين بعد تجريدها من أنيابها، وعندما يكلفهم أحد باستخراج ثعبان يطلق ~~أحدها خفية ويوهم الناس أنه استخرجه من المكان المرغوب، ثم أخذ الرجل يخلع أنياب ~~الثعبان ليمنعه من الأذى، وقد فاجأه أثناء عمله بلدغة في إصبعه فسال الدم منه وأسرع ~~يمتصه بفمه بقوة ثم وضع عليه حجرا صغير أسود مخرما، وقدمه لي أخيرا قائلا: إنه ~~دواء ناجع للدغ «الكوبرا» فاشتريته منه، وبعد تحليله وجدته قطعة من العظم مكلسة ~~رقيقة الأنسجة. # وبعد هذا الصيد أنشأ الهنديان يريانا من أنواع ألعاب الثعابين ما أدهشنا، ~~فنفحناهما برنيتين بعدما قضينا أكثر من ساعتين في الصيد والألعاب، فكان هذا العطاء ~~الحقير أجرا عظيما لهما وخرجا لاهجين بالشكر والثناء. ~~(2-5) الموسيقى والتربية # إذا كان الغناء كفؤا للتسلط على الجن وتسكين غضبها وطرد الشياطين والتنبؤ ~~بالمصائب أو منعها، فيكون من باب أولى ms050 أهلا لأن يؤثر في قلوب الناس ويهيمن نفوذه ~~النافع على عقول الأمة أو شبانها، ومبلغ القول أنه يكون خير وسيلة يستعملها الحاكم ~~أو المهذب للتربية. # وقد قال الكتاب القدماء: إن العادة التي كانت متبعة عند الفرس أن يعهد بالأمراء ~~وهم في الرابعة عشرة إلى أساتذة أكفاء، ويختص بكل واحد منهم ثلاثة مهذبين ممن كملت ~~أخلاقهم وآدابهم، ويكون أحدهم قاصرا على تعليم سحر «زورواستر»، فهل كان هذا السحر ~~موسيقيا؟ إننا لا نستطيع أن نجيب على هذا السؤال بالضبط، ولكننا نقدر أن نصل ~~بالاستدلال إلى ما يقربنا من الحقيقة. # وقد روى المؤرخ الصيني الشهير «سيماتسبين»: «أن ملوك الصين الأقدمين حينما سنوا ~~قوانينهم الخاصة بالسحر والموسيقى لم يقصدوا منها تشنيف الأسماع ومسرة العيون، بل ~~أرادوا أن يعلموا الشعب أن يكون عادلا في حبه وبغضه وأن يهدوه إلى الصراط ~~المستقيم، ولما رتبوا الموسيقى جعلوا ضمن مبادئها تلطيف الأخلاق الإنسانية.» فمن ~~الموسيقى ما يريح النفوس، ومنها ما يحثها على الخير، وترى في الحفلات الموسيقية ~~سواء أكانت عامة أو خاصة أن الموسيقى تحدث في القلوب احتراما وطاعة وحبا؛ إذ ~~تصير الناس طائعين لشجي الألحان والأنغام. # تجد في الكتاب الصيني القديم المسمى «يوكي» ترجمة المسيو «شافان» العبارة الآتية: # ولما كانت الموسيقى تؤثر في أعماق النفوس، وتحدث تغيرا في الطباع، ~~وتحولا في العادات؛ فلذلك اتخذها الملوك الأقدمون وسيلة للتربية. # وقد رأى جميع المفكرين حتى من عهد فيثاغورس أن الموسيقى من أنجع الطرق للتربية، ~~وقال أفلاطون: «إن أعظم فن مهذب هو الذي ينفذ إلى النفوس بواسطة الأنغام فيهيئها ~~للفضيلة، وقد أطلق عليه اسم الموسيقى.» وقال أيضا: «جميع حياتنا محتاجة إلى ~~النظام والانسجام.» ومن هذا نعلم التأثير الطيب النافع للموسيقى، وقال «أريستوكسين» ~~الفيلسوف والموسيقي اليوناني القديم: «لقد أصاب قدماء اليونان في كونهم أعاروا كل ~~اهتمامهم للتهذيب بالموسيقى؛ لأنهم استحسنوا أن يهذبوا نفوس الأطفال بواسطة ~~الموسيقى لتنقاد إلى الجمال والشرف.» # إن هذه الفكر لا تستغرب؛ لأنها نتيجة طبيعية معقولة للاعتقاد بأن الموسيقى قوة ~~فتانة ساحرة، وإذا كان الغناء يؤثر في آلهتهم ms051 فكيف لا يؤثر في نفوس الأطفال؟ # يسمح لنا السحر أن نفسر مسألة غريبة تمس ما كانوا يسمونه في مادة التربية التهذيب ~~الراقي، وفيه الكفاية لإقناعنا بأننا نكون مخطئين إن ظننا أن الفن كان في منشأ أمره ~~من دواعي الزينة. # يدهش كل من كان مولعا بالموسيقى مداوما على سماعها حينما يعلم أنها كانت معدودة ~~ضمن العلوم الأربعة العالية عند القدماء، وهي: الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، ~~فماذا كان يعمل هذا الفن الرقيق الذي ملئ بالمحاسن والحرية وسط هذه العلوم؟ يخيل ~~إلى العصري أن هذا التوفيق به تناقض وتنافر عظيم. # ما كان الساحر القديم الفطري ليعمل في أركان بيته بل كان يعمل في الخلاء أمام ~~الطبيعة، ويستعين بالعالم المادي وجميع الكائنات الحية والكواكب، فكان في الوقت ~~نفسه طبيعيا كيماويا فلكيا. # أختم الآن بهذا الباب حلقة أبحاثي مؤقتا وربما عدت إليها فيما بعد إن صادفت ~~أبحاثا جديدة يكتشفها أحد العلماء الغربيين المعاصرين، ولدي الآن شيء كبير مما ~~يتعلق بالموسيقى من الوجهة الفلسفية ولكنه مشحون بالمواد الفنية مما يجعله غير ~~مفهوم بالمرة إلا لمن له إلمام بفن الموسيقى الغربية، ويسمع شيئا كثيرا من مختلف ~~المؤلفات القديمة والحديثة ليفهم ما يسرد منها للاستشهاد، وقد توخيت في عملي أن لا ~~أنشر إلا الأبواب التي لا يشوبها شيء من المواد الفنية؛ لتكون سهلة التناول ~~والإدراك لكل قارئ، سواء كان مشتغلا بالفن أو غير مشتغل به لتكون الفائدة أجزل ~~وأعم. ~~(3) الشرف # لو أنعمنا النظر في جميع مكارم الأخلاق لوجدنا الشرف أفضلها بل جماعها، ولا نكون ~~مغالين إن قلنا: إنه هو السبيل الوحيد لسعادة الدارين، فلو كنا جميعا شرفاء بالمعنى ~~الصحيح لأصبحنا في مصاف الملائكة الأبرار، نرتع في جنة أرضية لا نعرف للشقاء معنى ولا ~~للشرور لفظا. # الشرف هو شعور تحدثه عزة النفس والرغبة في اعتبار الغير، وهو الذي يحرضنا على القيام ~~بأشرف الأعمال وأصدقها. # وللشرف ثلاثة فروض؛ يقضي الأول منها بحفظ كرامة المرء وعزة نفسه، والثاني بأن يحب ~~للغير ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لها، والثالث بطاعة ms052 الخالق وأداء فروض ~~العبودية. # وقصارى القول أننا لو بحثنا في معجم الشرف لوجدنا أنه هو والعدل والخير والمروءة ~~والكرم والإخلاص والتقوى مترادفات. # وإن وجدت تلك الشروط جمعاء في فلاح حافي القدمين مرتد جلبابا أزرق فهو أشرف ممن جمع ~~الأموال والألقاب وتجرد من معنى الشرف، ولعمري إن من يحتقر الأول ويحترم الثاني لأحط من ~~الحيوان الضار. # لم يحرم الله علينا السعي وراء المنافع والملذات، ولكن هناك غرض أرقى وهو الخير أو ~~العدل أو الشرف. # خلق الإنسان من نفس وجسم، فالأولى عالية رفيعة، والثاني سافل منحط. # وللجسم عوامل محرضة على التدهور إلى مصاف العجماوات كالحواس والشهوات والإلهام، فإن ~~لم تتغلب النفس على هذه العوامل كان الإنسان في عداد الأنعام وفقد كل معنى ~~للشرف. # وقد عبر أفلاطون عن هذه الفكرة أحسن تعبير، إذ قال في «فيدر»: ~~«نفس الإنسان أشبه بجوادين يجران عجلة حوذيها العقل؛ أحدهما من كرام الخيل والآخر ~~نقيضه، وقد تجمعت فيه العيوب والنقائص؛ فترى الأول جميل المنظر متناسب الأعضاء مرتفع ~~الرأس بعرنينه انحناء قليل، أبيض اللون أسود العينين، يحب المجد برزانة واعتدال، ويلبي ~~نداء حوذيه وإشارته دون أن يضرب. # والثاني غليظ الأعضاء معوجها كبير الرأس، قصير العنق أفطس الأنف، أسود اللون أخضر ~~العينين مشربهما بالحمرة، ولا يميل لغير الإعجاب والنفور والهياج، أذناه مغطيتان بشعر ~~كثيف لا تسمعان نداء السائق، ولا يطيع هذا الصعب إلا إذا ألهبه السوط ووخزته ~~الإبر. # وهذا الجواد الرديء هو صورة للجزء الأول من النفس؛ أي أصل الإحساس والرغبة والخوف ~~والغضب الأعمى والحب الدنيء السافل الذي يجرؤ على كل شيء ويفسد كل من صادفه. # والجواد الآخر هو الشجاعة؛ أي أصل الغضب الشريف والعواطف النبيلة والحب الطاهر ~~والحماسة. # وأما السائق فهو العقل، وهو القوة المميزة التي نعرف بها من الأشياء ما كان حقا ~~خالصا دائما، وهو يصعد إلى الخالق نفسه؛ أي علة العلل.» # إن الإنسانية لأشبه بجمع عظيم من المجرمين، وكل من يلقي نظرة إلى ما يظهر منهم يهلع ~~فؤاده ويتقهقر من الفزع، إذ كلما عرف الإنسان الإنسان كلما ms053 كبرت الهاوية في عينيه ولا ~~يشاهد المرء إلا منظرا رهيبا حيثما ردد طرفه؛ لأن الإنسان أينما سار يترك أثره، ويا ~~له من أثر مزعج مرعب. # انقاد الإنسان لأمارته بالسوء، واستبشع الحلال وهو هنيء، واستمرأ الحرام وهو غاص ~~قاتل، واستحل الشرور إرضاء لرغائبه وشهواته حتى أصبح كالنمر يلهو بسفك الدماء فيفترس ~~ولو كان بشما، وباع شرفه وقدره واعتباره فأصبح ممقوتا كالوحش الضاري. # إن الأنفة هي مدار الشرف فإن أعوزت الإنسان أعوزه الشرف مهما حاول، فلنبثها في عقول ~~أطفالنا حتى تنمو معهم وتجري في عروقهم، ولنعدل فكرة الإرهاب أو الترغيب في الجزاء ~~حينما يبلغون السادسة؛ فإنها عقيمة ضارة لا تهذب النفوس ولا تقوم الأخلاق. ~~(4) أين السعادة؟ # السعادة عقدة العقد وكبرى المعضلات التي ضل في تيهها الفلاسفة والحكماء والشعراء؛ ~~فتشعبت فيها أفكارهم، وتضاربت آراؤهم. # لا تخش أيها القارئ أن أضايقك بسرد أقوال أفلاطون وأرسطو وغيرهما من فلاسفة اليونان ~~الأقدمين وشرحها وتحليلها، أو البحث في آراء المتأخرين من حكماء الغربيين. # دعنا من الفلسفة ونظرياتها والمنطق وقضاياه واصبر إلى النهاية ولا تسأم حتى أسمعك ما ~~علمتنيه الأيام والليالي، فلربما كان أصدق من خواطر الخيال، وأقرب منالا وأسهل ~~تحققا. # ظن البعض أن السعادة في كثرة الأموال والأولاد والحرث والقصور الشامخات والخيل ~~المطهمة والجواري والغلمان؛ فتكالبوا على جمع المال ولو بأخس الطرق وأدنى الوسائل؛ ~~فأمات حب المال ضمائرهم وجعلهم غلاظ القلوب والأكباد، فلم يجدوا لهم ضميرا يحاسبهم، أو ~~وازعا من الدين يزجرهم، حتى أصبحوا مكروهين ممقوتين عند الله والناس. # نرى كثيرا من الناس لا يعرفون معنى الحياة وكيف يقضونها، حتى بلغ من شدة عجزهم وضعف ~~إرادتهم وسفاهة رأيهم أنهم ينتحرون خوفا من الكد في سبيل الحياة، فهم في الحقيقة أحط ~~من أحقر الحشرات، إذ نرى النمال متحدة متضامنة مجتهدة في الحصول على أقواتها بهمة لا ~~تعرف الملل، فتقضي الربيع والصيف والخريف في ادخار القوت لتستريح في الشتاء وتستكن في ~~مساكنها، ومن نباهة النمال أنها تقرض طرفي الحبة من القمح أو الشعير لئلا تنبت من رطوبة ~~الأرض. # لج ms054 القصور الشائقة واختبر أهلها تجد فيها ألوفا من مصائب متوارية وكروب خفية وآلام ~~نفسانية ومتاعب جثمانية، ترى رب القصر وقد أوقعه التفاخر بمظاهر الغنى ومنافسته لجيرانه ~~الأغنياء في هاوية الخراب والدمار، وهذه عقيلته التي لم يحسن اختيارها تريه كل يوم من ~~صنوف الرزايا والخراب ما يثقل كاهله، وهؤلاء أولاده الأشقياء الذين لم يحسن تربيتهم ~~يزيدون في آلامه ومتاعبه، يكاد يقطع هذا المنكود سبابته من الحسرة والندامة قائلا: لو ~~اقتنعت بما لدي من المال وأحسنت اختيار عقيلتي وربيت أولادي تربية طيبة لكنت الآن ناعم ~~البال مرتاح الضمير. # كل من في الوجود من إنسان وحيوان يكد ويعمل طلبا للسعادة، ترى الحيوان حينما تكمل ~~قوته يصبو إلى أليفة يسكن إليها فتراه ينسى الجوع والظمأ، ويداوم البحث عنها، وكثيرا ~~ما يصادفه مزاحم عنيد فيشهر عليه حربا عوانا ربما كانت عليه القاضية. # نريد أن نستدل على طريق السعادة وحينما نجتازه نصل إليها ونعرفها حق المعرفة، وهذه ~~السبيل لها أربعة أبواب والسعادة وراء الباب الرابع، فمفتاح الأول بيد الأقدار وهو أن ~~تولد سليما عن العاهات والآفات، فربما كان أبواك سليمين قويين ويعاندك القضاء، والثاني ~~بيد أبيك الذي بذر بذارك، فإن كان البذر جيدا والتربة خصبة سليمة نما غرسك وأينع ثمرك، ~~والثالث بيد أبيك أيضا وهو التربية الصحيحة الراقية بجميع فروعها العلمية والدينية ~~والأخلاقية والبدنية، والرابع الحكمة ومفتاحها بيدك. # أتدري ما هي السعادة الحقيقة التي ضلت في مفاوزها العقول؟ إنها لا توجد في وسط القصور ~~الفخمة والجنان الفيحاء والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والكواعب الحسان، ولا تألف ~~هذا الوسط المضطرب، وإنما هي منزوية في أعماق فؤادك. # السعادة أن تكون صحيح الجسم والعقل، مهذبا عالما متحليا بمكارم الأخلاق، نقيا ~~طيبا قانعا بما أوتيت، صبورا على الملمات، مؤديا ما يفرضه عليك الواجب نحو ربك ~~ونفسك وأهلك ووطنك، محبوبا عند الله والناس، تحاسب ضميرك قبل نومك فتجد نفسك لا عليك ~~ولا لك. # آتاك الله ووالداك هذه السعادة، والواجب يقضي أن تكلأها بعين عنايتك وتورثها لأبنائك، ~~وتعاهدهم على أن يحذوا حذوك ms055 ويحافظوا عليها حتى يتوارثها عقبهم أبد الآباد، ويرشدوا ~~الناس إلى منهاجها القويم. # خير لشقي تعس منكود جنى على نفسه أو جنى عليه أبوه بمرض عضال ورثه منه أو أهمل ~~تربيته حتى أصبح عالة على أمته أن لا ينقل شقاءه إلى غيره، ويتزوج ويجني هذا الإثم ~~العظيم، فإن امتنع فتلك مروءة نادرة وطيبة عظيمة. # أيها الشقي المسكين الذي جنى عليه أبوه وسدت في وجهه أبواب السعادة، وحرمه طالعه ~~المنكود من راحة الجسم وهناءة البال؛ تدرع بصبر أيوب، وفرج كروبك وبدد همومك بمواساة ~~البائسين وإغاثة الملهوفين وعيادة المرضى وبرهم بقدر ما تستطيع ولو بكلمة حلوة، فإن ذلك ~~سعادة عظمى لا يفهمها إلا الكيس الحكيم، وتعز في وحدتك بقول أبي العلاء: # هذا جناه أبي علي # وما جنيت على أحد # | باب النقد # (1) الأدب في القرن التاسع عشر # فشا بيننا معشر المصريين داء عضال لم يجد أمامه من الأساة من يقاومه ويستأصل شأفته، ~~حتى طال به العهد وأصبح كأنه غريزة في النفوس، اعتدنا أن نعتقد العجز في أنفسنا مهما ~~بلغت قدرتنا وكفاءتنا فلا نحكم عقولنا في أي أمر مهما كان سهلا لا يستدعي للحكم عليه ~~إجهاد الفكر أو الاستعانة بأولي النظر؛ ظانين أن هذا من التواضع والنفور من الغرور، ~~لعمرك ما هذا إلا الضعف والخذلان والجمود وقتل النبوغ حينما تبدو بوادره، والحيلولة دون ~~الترقي والفلاح، فترانا إن اختلفنا في قيمة عمل ما لم نجد أمامنا حكما غير الرأي العام ~~الذي نجله ونمجده وننصاع إليه، كلنا نعلم أن العامة مهما فاقوا الخاصة في العدد أضعافا ~~مضاعفة لا يعتد برأيهم ذوو الرأي الثاقب؛ لتجردهم من المقدرة التي تؤهلهم للحكم. # لست بذلك أبغي من كل فرد أن يسلك سبيل الغرور ويركب متن الشطط فيضل في بيداء أوهامه، ~~ويحكم نفسه في كل شيء سواء كان من ميسوره أو فوق مقدوره، بل ينبغي له أن يعرف قدره ~~وفضله ويضع نفسه بعدل في موضعها اللائق بها، فلا يتناول حكمه أمرا لا يستطيع القضاء ~~عليه، فبذلك يستمر في رقيه لبعده عن الغرور ms056 ويكون عادلا في قضائه. # ومن الناس من يستعين في حكمه بمعلوماته ومحفوظاته دون أن يكون له رأي ذاتي ويظن أنه ~~هو الذي أصدر هذا الحكم، كلا فإنه واهم؛ إذ الحقيقة أنه صادر من فئة من العلماء الذين ~~حفظ أقوالهم وآراءهم، فيجب عليه إذن أن يتجرد من معلوماته ومحفوظاته عند الحكم لئلا ~~تؤثر في فكره ويستملي عقله وشعوره ليصل إلى الحقيقة، ولا مانع من الرجوع إلى المعلومات ~~بعد إصدار الحكم علنا نجد فيها ما يعزز رأينا ويؤيد حكمنا. # ومن أدوائنا القتالة حب الشهرة التي لا تتفق مع الرقي؛ إذ هما ضدان لا يجتمعان، ~~وللمتفانين في حب الشهرة الكاذبة أساليب متنوعة؛ فمنهم من يستعين بأقلام غيره، ومنهم من ~~يسرق خطبة من الكتب المتفرقة، ويا ليته عرف كيف يجمعها ويجعلها موضوعا مفهوما، أو ~~يترجم قطعة ينتحلها لنفسه ثم يذهب إلى المدارس الساقطة ويلقيها بتشدق عجيب وإشارات ~~ملؤها الخيلاء على مجمع من تلاميذ المدرسة وخليط من عامة جيرانها فيصفقون له التصفيق ~~الحاد، فيتمايل حضرة الخطيب المصقع تيها وإعجابا، ومنهم من يستأجر الكتاب لتحرير ~~مجلة أو جريدة ينسبها لنفسه ويستمر في إصدارها ولو كانت سائرة في سبيل الخراب، وكفاه ~~فوزا بأمنيته أن يلقبه صغار التلاميذ بالكاتب الفاضل صاحب جريدة أو مجلة كذا ومنشئها، ~~ومنهم من يسعى في تأليف ما يسمونه بالجمعيات الأدبية وينفق عليها من ماله الخاص تسهيلا ~~لتأسيسها؛ ليكون لها رئيسا وخطيبا وينقش على بطاقة زيارته اسمه بخط الثلث ~~ويزيله برئيس جمعية كذا، ومنهم من يريد أن يمهر ابنته فضلا إن أعوزها المال ~~والجمال وأصبحت عانسا فيستأجر من يكتب لها كل أسبوع مقالا يملأ بها أعمدة الجرائد، ~~وقد فاته أن المال أعظم شفيع للجهل والدمامة وسوء الخلق والسمعة، وأن شبابنا لا يهمهم ~~أن تكون لهم عروس أديبة فاضلة كريمة الأخلاق ... حياة الشهرة الكاذبة قصيرة؛ إذ لا تلبث ~~أن تبددها شمس الحقيقة ويعقبها السقوط الأبدي والافتضاح والحسرة على ضياع عمر طويل ~~جريا وراءها، وكان الأجدر به أن يصرفه في الرقي حتى يصل لدرجة تؤهله لإخراج ms057 ما ينفع ~~الناس من جليل الأعمال، وما يكسبه شهرة صحيحة يتناقلها الخلف عن السلف. # ليس من الحزم أن نجاري السلف في أحكامهم ونطبقها على عصرنا دون إعادة النظر فيها ~~وتمحيصها؛ لأن الأزمان تختلف في درجات مدنيتها ومعارفها، ولقد تمادينا في تمجيد الشهرة ~~القديمة حتى كادت تغطي على نوابغ العصر، وما فتئ كثير منا ينقب على مؤلفاتهم ويشتريها ~~بأثمان باهظة ويدخرها كأنفس الأعلاق أو المخلفات المقدسة. # ابتدأت اللغة في عهد محمد علي باشا وخلفائه أن تدب فيها الحياة بعد موتها، فنبغ في ~~مصر فئة كانوا نجوم عصرهم فاهتدت بهم الأمة في ديجور الجهل، وكانت لهم اليد الطولى في ~~تلك النهضة العلمية، مثل: «عبد الله باشا فكري، وقدري باشا، ورفاعة بك رافع، وعبد الله ~~أفندي أبي السعود، ومحمد أفندي عبد الرازق، ومحمد بك عثمان جلال، وعبد الله أفندي نديم، ~~ومحمود أفندي صفوت الساعاتي، والشيخ علي أبي النصر، والشيخ أحمد عبد الرحيم»، فمنهم من ~~خدم الشعر والنثر، ومنهم من عني بالتعريب، ومنهم من اختص بالصحافة، ومنهم من نفع ~~القضاء، ونريد الآن أن ننظر في أعمالهم ونختبرها لا قصد الازدراء؛ بل لنعلم إن كانت ~~تنفعنا في عصرنا أم لا، فننشرها من رموسها أو ندعها نائمة مطمئنة محترمين رفاتها كأنها ~~آثار تاريخية نستعين بها على درس أطوار اللغة والأدب في مصر. ~~(1-1) عبد الله باشا فكري # نبدأ بأميرهم في الصناعتين ألا وهو الشاعر الناثر عبد الله باشا فكري ناظر ~~المعارف، من كانت قدمه راسخة في العلوم العربية رقيقا في النثر والنظم، ولئن جارى ~~زمنه في التسجيع فإن سجعه كان مقبولا سلسلا متينا تزينه سلامة الذوق قليل ~~التكلف، ومن أرق ما كتبه نثرا رسالته التي كتبها لأحد أصدقائه يصف بها الأزهريين ~~في ذاك الزمان، وقد حوت من رقيق الفكاهات ودقيق الوصف ومزايا العربية وفضلها وطباع ~~أهل الأزهر وأخلاقهم، وأولها: # كتبت والذهن فاتر من وهن الدفاتر. # ومن جيد شعره قصيدته الرائية التي نظمها عقب الإفراج عنه بعد اتهامه إبان ~~الثورة العرابية، وقد توجه إلى سراي عابدين فأعرض عنه ms058 الخديو توفيق باشا ولم يسمح ~~له بمقابلته، وأولها: # كتابي توجه وجهة الساحة الكبرى # وكبر إذا وافيت واجتنب الكبرا # ومنها: # أيجمل في دين المروءة أنني # أكابد في أيامك البؤس والعسرا # وأحرم من تقبيل كفك بعدما # ترامت بي الآمال مستأنسا برا # ولي فيك آمال ضميني بنجحها # وفاؤك لا أرجو سواك لها ذخرا # وقد مر لي فوق الثلاثين حجة # بخدمة هذا الملك لم آلها صبرا # أرى الصدق فرضا والعفاف عزيمة # ونصح الورى دينا وغشهم كفرا # وجاوزتها لا لي عقار يفيدني # كفافا ولا في الكف قد أبتغي وفرا # ولو شئت كانت لي زروع وأنعم # ومال به الآمال أقتادها قسرا # ولكنها نفس فدتك أبية # تعاف الدنايا أن تمر بها مرا # وقد كانت هذه القصيدة أعظم شفيع له، فسمح له الخديو بالمثول بين يديه وحظي بصفوه ~~ورضاه وأعيد إليه معاشه، فقال في هذا المقام قصيدته المشهورة ومطلعها: # لي الله من عاني الفؤاد متيم # ولوع بمغرى بالدلال منعم # ومن أحاسن شعره قصيدته التي هنأ بها توفيق باشا حينما جلس على عرش الأريكة ~~الخديوية، وأولها: # اليوم يستقبل الآمال راجيها # وينجلي عن سماء العز داجيها # نشأ عبد الله باشا فكري في أواخر حكم محمد علي باشا يتيما فتكفله بعض أقاربه، ~~ولم يعن بإدخاله إحدى المدارس بل اقتصر على تعليمه القرآن، ثم أرسله إلى الأزهر ~~فأتقن العلوم العربية المتداولة فيه واللغة التركية، ولو كان يعرف الفرنسية لكان ~~أطول باعا وأعظم شأنا. ~~(1-2) محمد قدري باشا # كان عالما فاضلا، متبحرا في العربية والفرنسية، بارعا في فقه أبي حنفية، ~~شاعرا رقيقا، ذا إلمام تام بالجغرافية والتاريخ، يحسن التركية والفارسية، ومن ~~مآثره «كتاب الأحوال الشخصية» وبعض كتب مدرسية، وكان أعظم العاملين في ترجمة قانون ~~المحاكم، وله كتاب جغرافية باللغة الفرنسية طبع في النمسا، ومن رقيق نظمه قصيدته ~~التي مدح بها الخديو إسماعيل باشا ومطلعها: # حيا الصفا مصر مسرورا بواديها # وزارها الغيث فاخضلت بواديها # ومنها: # وتيمتهم بها سكرا وما عرفوا # السكر من راحها أم من لمى فيها # ووجها البدر قد تمت محاسنه # أستغفر الله ما ms059 أنصفت تشبيها # فالشمس منها استعارت نور طلعتها # والبدر أدنى فكيف البدر يحكيها # ومنها: # ورحلتي عن دياري أمرها عجب # لولا الإطالة كنت الآن أحكيها # كانت حدائق بالعرفان يانعة # كما هي الآن يا محيي معاليها # وكعبة لبني الآمال يقصدها # للفضل والأنبيا كانت توافيها ~~«سولون» «أودوكس» «أفلاطون» قد درسوا # في «عين شمس» وكانوا من مواليها # ومنها: # وفضل مصر عظيم الشأن قد شهدت # به الممالك قاصيها ودانيها # لكنها أصبحت من بعد عاطلة # من العلوم التي كانت تحليها # أسباب ذلك لا تخفى على فطن # له وقوف على أحوال ماضيها # إن الممالك كالأفراد في شبه # فالجهل يخفضها والعلم يعليها # وأنت أدرى بذا مني ومطلع # على التواريخ لا تحتاج تنبيها ~~«لا يعرف الشوق إلا من يكابده # ولا الصبابة إلا من يعانيها» # وله من قصيدة أخرى: # رجوت علاه أن يشنف مسمعي # فغنى من الفتيان دورا وقسما # أغن إذا ما جس أوتار عوده # يكاد حنين العود أن يتكلما # ومنها: # ويا كفه هل أنت أو غيث ديمة # أجبني فإني خلته لك توأما # رضيعا لبان أنتما لكما الوفا # ويكفيكما فخرا رضا مصر عنكما # وكان أخوك الغيث لا يعرف الندا # وعلمته أنت الندا فتعلما ~~(1-3) رفاعة بك # لا نبالغ إن قلنا: إن هذا الرجل أعظم من نفع البلاد، وهو الذي أسس مدرسة الألسن ~~وعين ناظرا لها، وقد هذب مئات من خيرة الرجال، وكانت عزيمته لا تعرف الملل، ~~يقطع نهاره في التدريس ويحيي ليله في ترجمة الكتب النافعة، وقد ألف وترجم وحده عدة ~~كتب، هذا بخلاف ما ترجمه قلم الترجمة بمراقبته، مثل: «كتاب لمونتسكيو» لم أتحقق من ~~اسمه، «ووقائع تليماك»، وثلاثة أجزاء من «جغرافية مالت برون»، ونبذة من «تاريخ ~~الإسكندر»، و«أصول المعادن»، و«تقويم سنة 1244»، و«مقدمة جغرافية طبيعية»، وثلاث ~~مقالات في «الهندسة»، ونبذة في علم «الهيئة»، وقطعة من «علميات رؤساء ضباط ~~العسكرية»، و«أصول الحقوق الطبيعية»، ونبذة في «الميتولوجيا»، ونبذة في «علم سياسات ~~الصحة» (تقويم الصحة)، ومما ألفه «أنوار توفيق الجليل في تاريخ مصر وتوثيق بني ~~إسماعيل»، و«نهاية الإيجاز في سيرة ms060 ساكن الحجاز»، وكتاب «المرشد الأمين في تربية ~~البنات والبنين»، وكتاب «مناهج الألباب»، وكتاب «قلائد المفاخر في غريب عوائد ~~الأوائل والأواخر»، ورحلته المسماة «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» وغيرها، وله ~~قصائد عديدة مدح بها سعيد باشا وإسماعيل وغيرها قالها في مناسبات مختلفة وأعظمها ~~التي نظمها وهو في السودان، وقد عين هناك ناظرا لمدرسة الخرطوم فأرسل هذه ~~القصيدة إلى حسن باشا كتخدا مصر متوسلا إليه أن ينتشله من السودان بعد أن مات نصف ~~من بصحبته من الأساتذة، والقصيدة تشير إلى أحوال السودان وعوائد أهلها، ويشكو فيها ~~ما ناله من الظلم إثر سعاية أهل الفساد، فسمحوا له بالعودة إلى مصر بعد أن مكث هناك ~~أربع سنين، ومطلع القصيدة: # ألا فادع الذي ترجو وناد # يجبك وإن تكن في أي ناد # ومنها: # رعى الحنان عهد زمان مصر # وأمطر ريعها صوب العهاد # رحلت بصفقة المغبون عنها # وفضلي في سواها في المزاد # وما السودان قط مقام مثلي # ولا سلماي فيه ولا سعادي # بها ريح السموم يشم منها # زفير لظى فلا يطفيه وادي # عواصفها صباحا أو مساء # دواما في اضطراب واضطراد # ونصف القوم أكثره وحوش # وبعض القوم أشبه بالجماد # ومنها: # خدمت بموطني زمنا طويلا # ولي وصف الوفاء والاعتماد # فكنت بمنحة الإكرام أولى # بقدر للتعيش مستفاد # وغاية مطلبي عودي لأهلي # ولو من دون راحلة وزاد # وله تخميس لقصيدة من نظم الشيخ عبد الرحيم البرعي وهي متوسطة في الجودة وهو ~~معذور؛ لأن الأصل من شعر الفقهاء، ومطلعها: # تبدي الغرام وأهل العشق تكتمه # وتدعيه جدالا من يسلمه # ما هكذا العشق يا من ليس يفهمه # خل الغرام لصب دمعه دمه # حيران توجده الذكرى وتعدمه # نريد أن نلقي نظرة عامة على نثره، فلذلك نورد طرفا من رحلته إلى باريس قال في ~~أول مقدمته: الباب الأول في ذكر ما يظهر لي من سبب ارتحالنا إلى هذه البلاد التي هي ~~دار كفر وعناد (كذا) وبعيدة عنا غاية الابتعاد، وكثيرة المصاريف لشدة غلو الأسعار ~~غاية الاشتداد، ومنها: «ويتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس وكأنه نوع من ms061 العياقة ~~(كذا) والشلبنة (كذا) لا من الفسق، فلذلك كان دائما غير خارج عن قوانين الحياء، ~~بخلاف الرقص في أرض مصر فإنه من خصوصيات النساء؛ لأنه لتهيج (كذا) الشهوات، وأما في ~~باريس فإنه نط (كذا) مخصوص لا يشم منه رائحة العهر أبدا، وكل إنسان يغرم امرأة ~~(كذا) يرقص معها، فإذا فرغ الرقص عزمها (كذا) آخر للرقصة الثانية ...» إلى أن قال: ~~«وبالجملة؛ فمس المرأة أيا ما كانت في الجهة العليا من البدن غير عيب عند ~~هؤلاء النصارى (كذا)، وكلما حسن خطاب الرجل مع النساء ومدحهن عد هذا من الأدب.» ~~ومنها: «وقرأت كثيرا في كازيطات العلوم اليومية والشهرية التي تصل كل يوم ما يصل ~~خبره من الأخبار الداخلية والخارجية المسماة البوليتيقية، وكنت متولعا بها غاية ~~التولع (كذا)، وبها استعنت على فهم اللغة الفرنساوية، وربما كنت أترجم منها مسائل ~~علمية وسياسية خصوصا وقت حرابة الدولة العثمانية مع الدولة المسقوبية.» (وقد تكررت ~~لفظة حرابة بعد هذه الجملة مرارا في الصحيفة التي تليها.) # ولنذكر شيئا من «وقائع تليماك» وهي من أشهر ما ترجمه، فمنها: # وقد استقام برهة من الزمان يقاوم الأعداء المتكاثرة، ويصادم بشجاعته ~~وصموله (كذا) جموعهم الوافرة، ثم انتهى به الحال أن تثاقلت عليه الأحمال ~~فكنت شاهد هلاكه ومشاهد استهلاكه، وذلك أن أحد عساكر صور طعنه برمح في صدره ~~فأصاب أشد الصدور، فانفلت زمام مطيته من كفه، ووقع تحت أرجل الخيل يهوي إلى ~~حتفه، فبادر نفر من العساكر القبرصية فجر ناصيته الدنية بعد أن كانت قصية ~~وقبضها (كذا) من شعورها المرخية لتتفرج عليها البرية، ولتكون علامة على ~~النصرة الذهبية البهية. # ومنها قوله في أول المقالة الرابعة: # والى هذا الوقت كالبسة باهتة متحيرة ممتلئة من الحظ والسرور من هذه القصة ~~المبينة حال تليماك وعن صفاته مخبرة، فقطعت بكلامها كلامه الفصيح حتى إنه ~~من التعب يستريح قائلة له: قد حان لك أن تتمتع بلذيذ المنام بعد النصب ~~الكامل من حكاية هذا الكلام، لا خوف عليك هنا بل كل شيء يلائم مزاجك، فأطلق ~~عنان هواك في ميدان الهنا ms062 ، وذق طعم الراحة فالدهر لك مسالم، وكل الخيرات ~~المخلوقة تفيض عليك من عندنا فاغتنمها فأنت أسلم غانم وأغنم سالم. # يتبين للقارئ من أول وهلة أن هذا النثر لا يليق إلا بالأطفال، ولولا هذا السجع ~~السمج المرذول لاستقام إنشاؤه وانتظم، وما السجع إلا عقبات وقيود تضل الكاتب وتجعله ~~يترك الخيال والفكر وينصرف إلى البحث عن ألفاظ يحشرها تذهب بطلاوة كلامه وتكون ~~لغوا باطلا وتنميقا ممقوتا عاطلا من المعاني وآيات البلاغة، وهو الذي هوى ~~بالسلف إلى دركات الانحطاط في الإنشاء، بل سرى داؤه إلى الشعراء فأصبحوا لا يعتنون ~~إلا بالألفاظ وتزيينها بالمحسنات البديعية، ويظن الشاعر منهم أنه إن نظم بيتا ~~موزونا وزخرفه بنوع أو أكثر من البديع ملك أعنة الشعر وهرولت إليه البلاغة ~~طائعة خاضعة، ولو كان كلامه ألفاظا مرصوصة وتركيبه خاليا من المعاني. # كان رفاعة بك ينقصه الذوق السليم وهو روح الإنشاء وملاك البيان، وكثيرا ما يلحن ~~في تصريف الأفعال أو يأتي بألفاظ عامية أو يكرر اللفظ مرارا دون أن يغيره بمرادف ~~ويتصرف في ترجمته، وقد انتقده «البارون سيلفسز دوساسي» المستشرق الفرنسي الشهير ~~الذي ترجم المقامات الحريرية وكليلة ودمنة إلى الفرنسية، إذ قال في خطاب أرسله إلى ~~المسيو جومار في شهر فبراير سنة 1831: # ولكنه يشتمل على بعض أوهام إسلامية. # وأظن أنه يشير بذلك إلى ألفاظ التعصب الديني الذميم المودعة في رحلته إلى باريس، ~~إذ ليس من الأدب واللياقة أن يستضيف قوما يأخذ عنهم العلم ويسبهم في رحلته التي ~~قدمها إلى مشاهير مستشرقيهم ملتمسا منهم إبداء رأيهم فيها. # وقال في نقده أيضا: «وليست عبارته دائما صحيحة بالنسبة لقواعد العربية، ولعل ~~سبب ذلك أنه استعجل في تسويده وأنه سيصلحه عند تبييضه، وفي التكلم على علم الشعر ~~ذكر استطراد بعض أشعار عربية تخرج عن موضوع الكتاب، وربما أعجب ذلك إخوانه من أهل ~~بلاده.» # وتكلمت بعض الجرائد أو المجلات عن نتيجة امتحان الإرسالية المصرية، فقالت عن ~~رفاعة بك: # وقد اعترض عليه في الامتحان بأنه بعض الأحيان قد لا يكون في ترجمته ~~مطابقة تامة بين المترجم ms063 والمترجم وعنه، وأنه ربما كرر وربما ترجم الجملة ~~بجمل والكلمة بجملة. # وقد ترقى في نثره قليلا في كتبه: مناهج الألباب، وأنوار توفيق الجليل، والإيجاز ~~في سيرة ساكن الحجاز، ولا سيما حينما يترك التسجيع في عرض كلامه. ~~(1-4) عبد الله أفندي أبو السعود # نابغة من نوابغ عصره، نشأ بناحية دهشور ~~وحفظ القرآن ثم انتقل إلى مدرسة البدرشين، وكان أبوه ناظرها، ثم انتخبه رفاعة بك ~~فيمن انتخب لمدرسة الألسن فالتحق بها وسنه إذ ذاك أربع عشرة سنة، فبرع على أمثاله ~~سيما في اللغة العربية، ثم درس العربية بدلا من أستاذه الشيخ حسين القمري، ~~ودرس لإخوانه «كتاب مغني اللبيب»، ثم عهد إليه تدريس الفرنسية وتصحيح تراجم ~~الكتب الرياضية بالمهندسخانة، وكان متضلعا في الفقه، إذ حضر «ملتقى الأبحر» بمدرسة ~~الألسن على الشيخ خليل الرشيدي المفتي، ومع قيامه بوظيفة التدريس كان مواظبا على ~~الحضور بالأزهر فقرأ به عدة كتب نفيسة منها «الدر المختار»، وتنقل في عدة وظائف ~~أخرى منها تدريس الجغرافية والتاريخ بمدرسة دار العلوم، ورياسة قلم الترجمة إلى أن ~~عين في أواخر أيامه عضوا في مجلس الاستئناف، وله عدة مؤلفات منها: «تاريخ مصر» ~~وجانب من «التاريخ العام»، وقد ترجم «نظم اللآلئ في السلوك فيمن تولى فرنسا ومصر من ~~الملوك»، و«قانون المرافعات المدنية والتجارية»، وكتاب «تاريخ مصر القديم» وكتاب ~~«الأنتيكخانة الخديوية»، و«تاريخ محمد علي»، وكتاب في «علم الجغرافية»، وآخر في ~~«الكيمياء الزراعية»، وطرفا من رواية «جيلبلاس»، وقد اشتغل بالشعر أيضا وله بعض ~~قصائد لم أعثر إلا على ثلاثة أبيات من ضمن قصيدة طويلة له: # ومن قال إن الدولة اليوم وحدها # تصفق منها الكف كي يصلح الأمر # وماذا عسى يجدي اجتهاد لدولة # وليس من الآحاد شد لها أزر # أما يقتضي أن نبذل الجهد كي يرى # لها الشطر في إصلاحنا ولنا شطر # وهو الذي أنشأ صحيفة «وادي النيل» سنة 1284، ثم أنشأ نجله محمد أنسي بك جريدة ~~«روضة الأخبار» فكان هو محررها. ~~(1-5) محمد أفندي عبد الرازق # كان من أقران أبي السعود أفندي، تعلم في مدرسة الألسن وبرع ms064 في العربية والفرنسية، ~~وكان أعظم العاملين في قلم الترجمة، يضارع في ~~قوته أبا السعود، ولم أر أحدا من أقرانه وأساتذته بلغ مبلغه في النثر المتين ~~البليغ الذي لا يفترق عن كتابة العصر الحاضر، وله قاموس في المواليد الثلاثة ~~بالفرنسية والعربية محفوظ بالكتبخانة ولم يطبع وينقصه بعض حروف، ومما ترجمه «خلاصة ~~تاريخ العرب لسيدبو» وقد مات قبل إتمام ترجمته، فكلف علي باشا مبارك من أتم الجزء ~~الصغير الذي كان باقيا منه وطبعه. # وإني لمورد طرفا من كتابته في هذه الترجمة ليقف القراء على متانة أسلوبه العربي ~~وذوقه السليم في التعبير، قال في أول المبحث التاسع: # كان بين الإسماعيلية والقحطانية تنافس المعاصرة المؤدي إلى اختلاف ~~الكلمة، ثم مالوا إلى الوحدة السياسية لتوفر أسبابها من إغارة الحبشة عليهم ~~بمكة واتحادهم في الأخلاق والعادات، وإن سائرهم تمسك بأوهام العبادة ~~الوثنية والعادات الجاهلية؛ كمعاملة النساء معاملة الرقيق، ووأد البنات مع ~~التكبر الوحشي وحب الانتقام والمقاصة، وإجازة النهب بعد الانتصار، وإقامة ~~القوة مقام الحق، وقرى الضيف مع حرمان النفس تشوقا إلى السمعة بين ~~القبائل، وحب شرف النفس الموجب للبسالة والحماسة والمحاماة عن المظلوم، ~~وتقديم الوفاء بالوعد على الحياة، ونزيد على ذلك شهواتهم النفسية فإنها ~~أكبر تلك الخصال غلبة وظهورا، ومن ذلك يعلم أنه متى اتجهت عقولهم الهائجة ~~المخاطرة إلى شيء وثبوا إليه وثبة واحدة وذلك يوجب الوحدة في اللغة المتيسر ~~بعضها بواسطة اختلاف القبائل. ~~(1-6) عبد الله أفندي نديم # صحافي شهير وكاتب أخلاقي اجتماعي طويل الباع في الخطابة، وكان إذا اقترح عليه ~~أي موضوع في محفل من المحافل قام بين الناس خطيبا مرتجلا، طلق اللسان، فصيح ~~الإلقاء، سريع الخاطر، مستمرا في خطابته ساعتين أو ثلاثة دون أن يتلعثم لسانه، ~~وهو الذي أنشأ مجلة «الأستاذ» و«الطائف» و«التنكيت والتبكيت»، وفضلا عن نبوغه في ~~النثر فإنه مهر في المجون والأزجال والمواليات، وصحيفته الأخيرة حافلة بهذا النوع، ~~وكان يعقب الموضوع الهزلي بالتبكيت والموعظة الحسنة. # ومن جيد مقالاته التي أمكنني العثور عليها: «بمن أقتدي إذا اختلفت الآراء؟» و«هذه ~~يدي ms065 في يد من أضعها؟» و«حرب الأقلام بجيوش الأوهام»، ولنذكر قطعة من مقالته ~~الأولى لنقف على أسلوبه: # اقتد بمن إذا أسبغت عليكم النعم كان مهنئا معك، وإذا نزلت بك مصيبة ~~كان لك معزيا، فإن إخلاص النصح من غيره لا يتأتى إلا إذا عاد لبطن أمه ~~وولد مرة ثانية في أرض مس ترابها جسمك وليدا، وخدمت في إصلاحها شابا، ~~ودبرت شأنها شيخا، وكيف يقتدي العاقل بنازح عن دياره وقد لطفت هواء وعذبت ~~ماء وطابت مقرا وكثرت خصبا؛ فلم يرض بما رضي به آباؤه، واستهجن ما ~~استحسنه أجداده، وقطع رحما يجب صلتها عليه. # وله رسالة ضمن غالبها بالآيات القرآنية أولها: # لا حول ولا قوة إلا بالله، اشتبه المراقب باللاه، واستبدل الحلو بالمر، ~~وبيع الدر بالخزف، والخز بالخسف، وأظهر كل لئيم كبره، إن في ذلك ~~لعبرة. ~~(1-7) محمود أفندي صفوت الساعاتي # ولد هذا الشاعر المجيد بالقاهرة سنة 1241 وانتقل إلى الإسكندرية مع أبيه وهو في ~~الثانية عشرة، ثم عن له حينما بلغ العشرين أن يحج البيت الحرام، وهناك التحق ~~بأمير مكة الشريف محمد بن عون فكان له سميرا وشاعرا لا يفارقه في حله وترحاله ~~وغزواته، ولما عزل الشريف هاجر معه إلى مصر ثم سافر إلى الآستانة بمعيته، وفي عام ~~1268 آب إلى القاهرة وانتظم في سلك المعية الكتخدائية زمنا ما، ثم تعين بمعية ~~الخديو سعيد باشا، ثم تقلب في عدة وظائف إلى أن عين أخيرا عضوا في مجلس ~~أحكام الجيزة والقليوبية، وتوفي سنة 1298. # كان من فحول الشعراء المطبوعين، رقيقا حسن الذوق، غزير المادة، متوقد الذكاء، ~~نبغ في عصر كاد الشعر فيه يندرس فهذبه وأعلى شأنه في مصر والحجاز، وبزغ في سماء ~~القريض شمسا مشرقة استنار بها كل من عالج هذه الصناعة من مواطنيه. # ومن آيات بلاغته قصيدته الهمزية وبها نفحات عظيمة في الفخر، وأولها: # رقت لرقة حالتي الأهواء # وحنت علي البانة الهيفاء # وبكى الغمام علي من أسف وقد # كادت تمزق طوقها الورقاء # ماذا تريد الحادثات من امرئ # من جنده الشعراء والأمراء # دعها تمد كما تريد شباكها ms066 # فلربما علقت بها العنقاء # أنا ذلك الصل الذي عن نابه # تلوي المنون وتلتوي الرقطاء # وفمي هو القوس الأرن ومقولي ال # وتر الشديد وأسهمي الإنشاء # فكر ينظم في البديع فرائدا # من دونها ما تلفظ الدأماء # وله من قصيدة دالية مطلعها: # دعيني فما في الأمر غير التوعد # فحتى متى إدمان هذا التهدد # ومنها: # ألا في سبيل المجد نفس عزيزة # يعز عليها أن تذل لمعتد # فما لك لا تأوين لي من صبابة # رويدك إن الحسن غير مخلد # فكوني كما شاء الوشاة وصدقي # زخارفهم واصغي لقول المفند # فليست يد الهجران قاتلة امرئ # يهز من السلوان كل مجرد # ومنها: # فلا فضحت نظم الجمان قصائدي # ولا بلغت بي رقتي كل مقصدي # إذا لم أطوق مجده بقلائد # بغير حلاها الدهر لم يتقلد # فرائد مدح في سلوك مناقب # لمنفرد بالمكرمات مسود # وإن لم أسير بالقوافي ركائبا # فلا قيدت شعري محابر منشد ~~(1-8) محمد بك عثمان جلال # كان مولعا بالآداب العربية والإفرنجية، ~~وقد تقلب في عدة وظائف إلى أن عين قاضيا بمحكمة مصر المختلطة، وترجم في أوائل ~~أيامه حينما كان بنظارة الحربية بعض كتب عسكرية كما أشار بذلك قدري باشا في تقريظه ~~كتاب «الأماني والمنة في حديث قبول وورد جنة»، ثم عكف على تعريب طائفة من مؤلفات ~~بعض من مشاهير الشعراء والكتاب الفرنسيين، فمما ترجمه عن «كورنيي» رواية «أوراس» ~~لم تطبع وهي محفوظة عند ورثته، ومما عربه عن «راسين» رواية «أتالي» ولم تطبع أيضا، ~~ورواية «أستير، وإيفيجيني، وإسكندر الأكبر» وهذه الروايات الثلاثة مطبوعة في مجموعة ~~واحدة باسم «الروايات المفيدة في علم التراجيده»، ومما ترجمه عن «موليير» رواية ~~«ترتوف، والنساء العالمات، ومدرسة الأزواج، ومدرسة النساء» وهي مطبوعة في مجموعة ~~سماها «الأربع روايات في فن التياترات»، وعرب «بول وفرجيني» للكاتب الفرنسي ~~الشهير «بيرناردان دوسان بيير»، وأغلب حكايات «لافونتين» وسماها «العيون اليواقظ في ~~الأمثال والمواعظ»، وقد امتاز في الأزجال هو وعبد الله أفندي نديم والشيخ محمد ~~النجار، وكانت له ملكة راقية فيها تزينها فكاهات لطيفة ونكات ظريفة وبها كتب معظم ~~معرباته، وله عدة ms067 أزجال متفرقة منها: «رواية المخدمين» وهي من وضعه، ونبذة في ~~«تاريخ ولاة مصر» ابتداء من عهد محمد علي باشا إلى عصرنا هذا، وآخر في «المأكولات» ~~وغيره في «الأزهار»، وقبل أن نفحص هذه التراجم نورد كلمة نعرف بها مزايا «راسين» ~~و«موليير» ولو أنها لا تخفى على معظم القراء. # كان «راسين» من فحول الشعر الكلاسيك المحزن، وتختلف رواياته المحزنة «تراجيدي» عن ~~روايات «كورنيي» برقتها وقربها من الحقيقة، مع سهولة مبنى الموضوع وبعده عن تعقد ~~الحوادث، ويزين شعره فن رقيق وذوق سليم وروح مؤثرة تأخذ بمجامع القلوب، وغير خاف ~~أن الشعر الكلاسيك عند الغربيين هو بمثابة الشعر الجاهلي عندنا، فاتت المعرب جميع ~~هذه المزايا فلذلك عمد إلى تعريبه باللغة العامية مع تصرف عظيم، فجعله زجلا مضحكا ~~ملؤه النكات والفكاهات المصرية المتداولة بين العامة. # أصبحت الترجمة لا تنفع مريد التمثيل، ولا محب الأدب، ولا كلفا بالحوادث ~~والوقائع، ولا مغرما بالأزجال؛ لأنه خلط بين الجد والهزل والحزن والمزاح حتى صارت ~~عاطلة من مزاياها الأدبية والنظمية والتمثيلية، ومن فكاهاته في رواية ~~«إيفيجيني»: # لو كنت يوم دافعت عنها بهمتك # ماكنتش انذليت وصغرت عمتك # لا أب فيك رحمة ولا جوز تنشكر # إلا أنت واحد بربري مخك عكر # ويعد «موليير» أول من رقي التمثيل المضحك في فرنسا، ولم يباره في هذا الفن ~~مبار لغاية عصرنا هذا، ولم تزل رواياته خالدة على جميع المسارح الأجنبية، كان يمثل ~~الطباع والسجايا والعادات تمثيلا لا يفترق عن الحقيقة بشكل وحيد في بابه، تزين ~~إنشاءه بلاغة نادرة وذوق رفيع، وقد أسعد اللغة العالية والمتداولة الاستعمال بأشعار ~~وكلمات واصطلاحات ذهبت مذهب الأمثال. # فإن بحثنا عن شيء واحد من هذه المحاسن طي ترجمته لم نجده، وحاشا أن نعتبر أن هذه ~~الأزجال تمثل لنا آيات «موليير» الباهرة، بل هو بريء منها؛ إذ في نسبتها إليه حطة ~~وازدراء. # كلنا نعلم أن رواية «تارتوف» هي صفوة ما ألفه «موليير»، بل أحسن رواية مضحكة في ~~جميع التمثيل الفرنسي، فمسخها المترجم وقلب موضوعها وسماها «الشيخ متلوف» ونقل ~~الحادثة إلى مصر ms068 بين هذا الفقيه وكعب الخير وأم النيل وبهانه وغيرها، فإن اعتبرناها ~~زجلا من أزجاله يقطع به العامي وقته وجدناها أضعف من أزجاله الأخرى، وإني مورد ~~طرفا منها لنقارنه بغيره. # الفصل الأول # أم النيل ~~: # يا الله بنا نروح قوام يا كعب خير # دولا جماعه الكل مافيهمش خير # كعب خير ~~: # هو جرى حاجه هنا يا ستنا # حتى نروح برا ونترك بيتنا # أم النيل ~~: # كتر الكلام مالوش نفع يا الله بنا # راح اقعد اتلفت هناك والا هنا # كعب خير ~~: # بس الخروج دا ليه وانا شايفه الجميع # من تحت أمرك كلهم سميع ومطيع # والكل تحت اليد فللي تأمريه # تقدمي اللي تقدميه وتأخريه # وقال في رواية المخدمين: # وتغسل الحوض الكبير وتبخره # وفي الكنيف الإبريق دائما تحضره # وعندنا القربه وعندنا الحمير # تملا لنا القربه من البحر الكبير # وتروح للجامع تجيب ستين رغيف # لكن تنقيهم من العيش النضيف # وكل يوم تبيع لنا العيش القديم # ويكون معك في السوق عبد الشيخ سليم # وكل شيء تسلمه لي بالعدد # أوعى يغشك حد في السوق يا ولد # طهق من الخدمة وكتر المرمطه # والشيخ دا لاخر يحب المظرطه # قوم يا ولد هات الجرايه وعدها # ونضف البغلة قوام وشدها # ويطخخه مشوار لتمن السيده # من شان عزومه وكل يوم على كده # حتى انبرى عظمه وجسمه انتحل # كأنه اتولد لا شك في طالع زحل # ترى الفرق شاسعا بين الاثنين وأن السهولة والانسجام يطاوعانه في الأخير، ليت ~~شعري ما الذي حداه إلى تعريب هذه الروايات التمثيلية؟ أيريد أن يقدم بها ~~التمثيل في عصره، أم ينفح القراء بمعجزات «راسين وموليير»، أم يهدي إليهم من ~~الحوادث والوقائع ما يتفكهون به في أوقات فراغهم؟ وايم الحق إنها لا تصلح لهذا ~~ولا لذاك، حتى إن اعتبرناها الاعتبار الأخير سئم منها القارئ وفضل عليها ~~«روكامبول» و«اللص الشريف» وأمثالهما من الروايات المحشوة بالحوادث الغريبة ~~والوقائع المدهشة. # تطاول قلم المعرب أيضا إلى الروايات القصصية التي تعد من أمهات كتب النثر ~~الفرنسي فترجم رواية «بول وفرجيني» وسماها «الأماني والمنة في حديث قبول وورد ms069 ~~جنة»، وكلنا نعلم أن هذه الرواية تعد في نوعها درة يتيمة لم يوفق أحد قبل ~~مؤلفها ولا بعده أن يأتي بمثالها أو ينسج على منوالها، فكأنه دخل في قلب هذين ~~الطفلين البائسين وقرأ ما خط فيهما من آيات الهوى العذري الطاهر وأخرجه للناس ~~في قالب رقيق ساحر كأنه أنغام شجية تستهوي الأفئدة رقة وعذوبة. # عمد المترجم في تعريبه إلى السجع فمسخ هذه الآيات البينات وأقبر محاسنها ~~وكساها ثوبا من الركاكة تنفر منه القلوب قبل الأسماع، وإني لمورد منها بعض جمل ~~ليحكم القراء عليها، قال في أول الكتاب: قال الناقل لهذا الخبر الصحيح والقول ~~الفصيح: بينما أنا في سياحتي على كفي تعبي وراحتي وإذا بجزيرة من جزر بحار ~~أفريقية، فنزلت فيها على الجهة الشرقية، فرأيت تحت سفح الجبل من هذا المحل ~~بمينا يقال لها: مينا الواس أرضا أفلحت لبعض الناس، ورأيت بها أثر عشتين ~~صغيرتين في وسط حوض كائنتين. # ومنها: إني لا أطمع في هذا الفخر إلا لأنشره على ورد جنة، وأجعل ذكرها به يرن ~~أعظم رنة، حتى تسير بذكرها الركبان وتصير به سيدة البنات والنسوان، وأنت يا ~~أبتي، بالله عليك وحق خضوعي بين يديك إن كنت تعلم طرفا من الغيوب وأنه سيجتمع ~~المحب بالمحبوب، فحدثني بالخبر الصحيح، وأدخل علي التفريح. # وقبل التكلم على «العيون اليواقظ» نذكر كلمة على «لافونتين» لنعرف درجته في ~~الفضل. # اشتهر هذا الشاعر الفرنسي بقصصه وحكاياته التي ذاع صيتها في الآفاق وترجمت ~~إلى جميع اللغات، ولم ير في جميع الأمم شاعر تفنن مثله في أسلوبه الذي جمع ~~بين شائق القريض وبدائع التعريب وسلاسة التركيب ورائق الوصف ولذيذ الفكاهات ~~وطلى الملح. # كان قادرا على تصوير النبات والجماد والحيوان قدرته على تمثيل أشخاصه ~~تمثيلا لا يشوبه التقصير ولا المغالاة، حتى أصبحت حكاياته نافعة لتهذيب ~~الفتيان قبل الصبيان، ومهما كنت قادرا لا أستطيع أن أوفي هذا النابغة حقه في ~~المجد الأثيل والفضل الجزيل، وما على القارئ إلا أن يرجع إلى الأصل الفرنسي ~~ويتمعن فيه ليتجلى له خفي معانيه ودقائق مبانيه ms070 . # سلك المعرب سبيل التصرف المخل، وكان مسوقا إليه لركونه إلى النظم في ~~التعريب؛ إذ لا يتيسر لأشعر الشعراء أن ينقل إلى الشعر شيئا دون تصرف، حتى ~~المترجمين من الإفرنج لا يترجمون النظم إلا نثرا، ولو كانت الترجمة والأصل من ~~لغتين مصدرهما لاتيني؛ ليحافظوا على روح الشاعر وأسلوبه ومعانيه الدقيقة، حتى ~~يكون الأصل والترجمة صنوين أو توأمين. # توخى المعرب في كتابته الأزجال والأدوار والأراجيز وشيئا قليلا يعد على ~~أصابع اليد من بحور العروض، وغير خاف أن الرجز ممقوت ولا يعتد به الشعراء؛ ~~لأنه من خصائص «الفقهاء»، إذ ينظمون به متونهم، وعبر عنه بعض الفضلاء بحمار ~~الشعراء. # فبعمله هذا ذهب بطلاوة هذا النظم البديع والمحاسن الرائقة، وضاعت الفكرة ~~المنشودة، وأصبحت الترجمة لا تليق أن تعزى بشكلها هذا إلى عطارد الزمان في ~~القصص والحكايات ... ومن أنعم النظر في قريضه بهذا الكتاب وجده لا يفترق تقريبا ~~عن نثره الذي أوردنا طرفا منه، وما على القارئ إلا أن يراجعه ليتبين صدق ما ~~قلناه. ~~(1-9) الشيخ أحمد عبد الرحيم # ولد بطهطا عام 1233، وتلقى العلوم العقلية والنقلية بالأزهر، ثم عين مدرسا ~~للنحو والصرف بمدرسة التجهيزية فالمهندسخانة فالحربية، ثم أسندت إليه أخيرا رئاسة ~~تحرير الوقائع المصرية، اشتغل بالآداب والنظم والنثر، وله مؤلفات منها: «منظومة في ~~الصرف»، و«نهاية القصد والتوسل في فهم قولة الدور والتسلسل»، ورسالة في «علمي ~~العروض والقوافي»، وجملة رسائل نحوية أحضرها «النقطة الذهبية في علم العربية»، ~~وديوان مدائح نبوية لم يطبع مرتب على حروف المعجم سماه «در الشرف المنظم في مدح ~~النبي الأعظم» وكل قصيدة منه زهاء خمسين بيتا، وقصائد ومقطعات عديدة جيدة منه ما ~~كتبه لأحمد أفندي فارس صاحب الجوائب بالآستانة في ذيل رسالة: # يا أيها البحر قد أهديتني دررا # فليت شعري ماذا اليوم أهديكا # أخلاقك الغر مثل الشمس ظاهرة # فأنت في غنية عن وصف مطريكا # أجمال مدحك لا أرضى به وإذا # فصلت أخشى قصورا ليس يرضيكا # فإنما هو راح لست آمن من # إكثاره نشوة تنسي معاليكا # أنت الخضم لعلم لا مراء به # فكنه للحلم ms071 وامنحني تغاضيكا # وقال: يقول محرر الوقائع: لما رأيت اللآلئ من البحر وقلادتها لا تليق إلا بذلك ~~النحر زاوجت قصيدة مؤلف الجوائب فيه محافظا فيها على غر قوافيه، فانصرف معناها ~~إليه وصار مقصورا عليه، فحق لها أن تختال به في حليتها ولو كانت بنت ليلتها تجد ~~إليه السرى وهذا كما ترى: # علم الهوى لم يبق في بقية # فأرادني بأبي وقال هدية # أهدي إلى عبد الرحيم تحية # غراء يصحبها الثناء الطيب # كم لي تقول امدحه مدحا باهرا # وارصد لحلبته النجوم مساهرا # هبني أجيد المدح لكن زاهرا # ت صفاته كالزهر ليست تحسب # والقصيدة تبلغ ثمانية وثلاثين بيتا. ~~(1-10) الشيخ علي أبو النصر # كان حبرا فاضلا في الكتاب والسنة، متضلعا في العلوم العربية، أديبا شاعرا ~~ناثرا، لطيف المعاشرة، متقربا من الملوك والأمراء، طيب المنادمة والمفاكهة، حاد ~~الذهن لا يغالب في المناظرة، وله مواليات وأزجال لطيفة عبثت بها يد الإهمال والشتات ~~فلم يعثر عليها وقت طبع ديوانه، وقد سافر مرتين إلى الآستانة؛ الأولى في زمن عزيز ~~مصر علي باشا حينما احتفل السلطان عبد المجيد بختان أنجاله، طلب من الخديو أن يبعث ~~إلى الآستانة بعض العلماء والأمراء من مصر لحضورهم الوليمة الملوكية، فانتخب من ~~العلماء الشيخ التميمي مفتي الديار المصرية والمترجم له، والثانية كانت مع الخديو ~~إسماعيل باشا في زمن السلطان عبد العزيز. هذا جل ما عثرت عليه من ترجمته في رثاء ~~أحمد خيري باشا ناظر المعارف له، ومن لطيف شعره قصيدته التي قالها وهو في الآستانة ~~يمدح بها سلطان باشا، ومطلعها: # حيي وفي كفه كأس الطلا فبدت # في خده من شعاع الكأس هالات # ظبي من الترك ما أحلى شمائله # شقائق الورد في خديه شامات # وقصيدته الدالية ومطلعها: # كتب المشيب بأبيض في أسود # صحفا أشار بها لقرب الموعد # وروى بها عني حديثا يقتضي # بفضاء ما بيني وبين الخرد # وقصيدته الغزلية وأولها: # زارت معطرة الإزار # من بعد ما شط المزار # هيفاء تفعل بالنهى # ألحاظها فعل العقار # وقصيدته التي قالها في ليلة أصابه توعك أقلقه: # خيالات يصورها الغرور # وأوهام ms072 يضل بها الغرور # وأوقات زخارفها زيوف # وديدنها التصرم والمرور # وقصيدته الحكمية ومطلعها: # إلام تصوب الأوهام غيا # وتنشر ما طواه الرشد طيا # وفيم تقودنا الأطماع طوعا # إلى ما يغضب الحر الأبيا # وقصيدته التي يمدح بها الخديو إسماعيل باشا ومطلعها: # سفرت فكاد البدر أن يتلثما # ورأى الشقيق خدودها فتبسما # وخمريته المشهورة وأولها: # بنت كرم دونها بنت الكرام # وهي بكر زفها ساقي المدام # ومنها: # آنس الندمان نارا إذ بدت # فأتوها لاقتباس واقتسام # فرأوها محض نور تزدري # بالنجوم الزهر في وقت الظلام # إن في هذه العجالة لكفاية للقارئ؛ إذ بها يستطيع أن يقف على ما كانت عليه اللغة ~~في عصرهم، ويستنتج مما قدمناه أن عيوب ذاك الزمن تنحصر في السجع والاعتناء بالألفاظ ~~والمحسنات البديعية دون المعاني والخيال، وعدم توفر سلامة الذوق عندهم وهي ملاك ~~البيان، كما أنهم لا يتوخون في ترجمتهم مراعاة الأصل ويتصرفون تصرفا مخلا، غير ~~بعيدي النظر حتى إنهم كثيرا ما تفوتهم في الترجمة المعاني الدقيقة، وكان أغلب ~~شعرائهم ينسجون على منوال بعض القدماء الذين لا يعدون من الشعراء ويأتون بنفس ~~معانيهم مع تغيير طفيف في الألفاظ والوزن دون أن يعبروا عن وجدانهم وشعورهم، وقد ~~لاحظت أن كثيرا منهم يتوخى في مقدمات قصائده معنى من الغزل أو الوصف أو المدح يكاد ~~لا يغيره في أغلب شعره، فإن تغزل لا يتعدى ذكر الأيك وغصون البان والحمام ينشد ~~إلفه وبكاء الغمام والفتيان وعذارهم والفتيات ورضابهن المعسول وقامتهن الهيفاء، ~~وإن مدح لم يتجاوز البشرى من إقبال العز واستنارة الأكوان بطلعة الممدوح المشرقة، ~~وموافاة المجد والفخار والعلو إلى السماك وغير ذلك، هذا وإني أكرر القول بأن ~~هؤلاء مهما وصموا بالعيوب فإننا نجلهم ونمجدهم؛ إذ كانوا زعماء تلك النهضة ~~العلمية في عصر كادت تنطمس فيه معالم اللغة والأدب، ولولاهم لقضي عليهما القضاء ~~الأخير. ~~(2) منصور # تاريخ فتى من أبناء مصر «كتبه بالفرنسية الدكتور أحمد ضيف والمسيو ~~بونجان» # عثرت منذ ثلاثة شهور تقريبا على هذا الكتاب بمكتبة «الأجانس» فقرأت منه باشتياق، ثم ~~حالت أعمالي دون الاستمرار فيه فطويته في ms073 ركن إلى أن سنحت لي الفرص بالعودة إليه ~~فأتممته بين لذة وإعجاب. # رأيت أن الواجب يقضي علي ألا أغفل هذا العمل الجليل الذي حاز الإعجاب في فرنسا ~~وباريس؛ بدليل أن الطبعة التي وقعت في يدي هي الرابعة ولم يمض على ظهور الكتاب أكثر من ~~سنة أو أقل. # ليس الدكتور ضيف محتاجا لتعريف بيد أنه من الأفراد القلائل الذين يعدون على أصابع ~~اليد الواحدة، والذين تملصوا من جمود التربية الأزهرية وأخذوا يخطون صوب الرقي خطوات ~~واسعات تتناسب مع المدنية العالمية. # عرفت الدكتور مذ كان طالبا بمدرسة دار العلوم، فكان يؤم متنزه الجزيرة بجوار الكوبري ~~في بعض الأحيان وقت الأصيل، وصادف أنه جلس بجانبي فحصل التعارف. # وجدته وقتئذ رقيقا تواقا لمعرفة كل نافع، سليم الذوق، دقيق الملاحظة، صائب الأفكار، ~~ولقد قلت في نفسي: سيأتي يوم يغبطه الناس فيه على فضله. # فرقت بيننا الأيام وسافر في العام التالي مع بعثة الجامعة، ولما آب من سفره انتظم ~~في سلك أساتذتها وأنشأ يكتب في مجلة السفور قطعا باهرة، أذكر منها رواية بعنوان «هي» ~~كتب منها نحو سبع قطع ولم يتمها، كان فيها الوصف بالغا حده من الدقة وحسن التصوير، ~~والعواطف تلتهب التهابا بأسلوب ظريف لا يشوبه تكلف، تزينه رشاقة جذابة ورقة ~~فتانة. # أما المسيو بونجان فكان أحد الأساتذة الفرنسيين بوزارة المعارف، وكان درس آداب اللغة ~~والإنشاء بمدرسة المعلمين العليا، وقد أخذ مكافأته وسافر في العام الماضي، ويعد أعظم ~~كاتب فرنسي بين أساتذة الوزارة، وله مؤلف آخر كتبه وحده بعنوان: «أخبار الساعة الثانية ~~عشرة»، وقد كتب مقدمته الكاتب الذائع الصيت رومان رولان وهو الآن رئيس تحرير مجلة ~~«لانوفيل ليتيرير»، وهي من المجلات الأدبية الشهيرة. # يضطرنا البحث لمعرفة نصيب كل من الكاتبين في هذا العمل لنسند إلى كليهما ما يستحقه من ~~الملاحظات والنقد، ومن البديهي أن المسيو بونجان لا يدري أسرار الطبائع والعادات ~~المصرية بالتفصيل، ولا يعرف تلك الحوادث، فتكون إذن مهمته في هذا العمل تنقيح الإنشاء ~~والترتيب الفني لسرد الحديث، ويكون الدكتور ضيف هو صاحب الفكرة ms074 ومؤلف الكتاب. # الكتاب يشمل تاريخ حياة «منصور»، وهو ابن طالب بمعاهد الإسكندرية الدينية، وشيخ طريقة ~~يعرف بالشيخ الصغير، وجده شيخ طريقة أيضا ويعرف بالشيخ الكبير، وهذا الأخير كان أعظم ~~نفوذا واعتبارا واحتراما. # أمضى أهل منصور شطرا من حياتهم بالقاهرة حدثنا في خلالها منصور عن حضرات الذكر ~~وشعوذة المشعوذين من أرباب الطرق وحفلات المحمل والموالد والزار، وصور لنا طبائع ~~وعادات كثير من أقاربه ومريدي والده وجده، وسرد لنا كثيرا من الخرافات السائدة بين ~~العوام والتي كان يسمعها من أفواه أهله ومعارفهم، ومن ألطف ما صوره لنا صورة الكتاب ~~بمصر وفقيهه، وهي من ألذ الفكاهات الواقعية التي تمثل بؤس هؤلاء الصبية وما يقاسونه من ~~شظف العيش وسوء الحال، وإني أترجمها للقراء بنصها وفصها: # كان والدي يعرف الشيخ الذي يدير كتاب حينا، وأوصاه علي، فكان يأتي كل ~~يوم لمنزلنا بعد طلوع الشمس بقليل زميل أكبر مني سنا ليصطحبني إلى الكتاب، ~~وكنت أسمعه يناديني في السلم: يا منصور! يا منصور. # كانت رنة هذا النداء تزعجني، وكثر ما هونت علي أمي وطأة الهم بإعطائي ~~مليما، وفي بعض الأحيان قطعة جبن أو كعك فأضعها في مخلاتي التي تشمل عادة ~~رغيفا ملفوفا بمنديل وبعض أوراق من المصحف واللوح. # ولقد أوقظت في الصباح على غير ما يرام فكنت كئيبا ولم أهتم بشيء في طريقي، ~~وحينما قاربنا المسجد سمعت دوي الأصوات فزاد انقباضي، ثم صعدت الدرجات الثلاث ~~وبلمحة عين ألفيت ما كنت أمقته، إذ شاهدت سرب الزملاء متربعين يحفظون دروسهم ~~بأصوات عالية في ألواحهم وقد أمسكوا بها باليدين، وكان اهتزازهم المستمر يطبع ~~على ظهورهم حركة الوزن الموسيقي، وفي هذه الجلبة التي تصم الآذان ووسط هذا ~~الاضطراب تربع سيدنا على جلد شاة وهو ثابت في مكانه دون حراك، فتوجهت إليه ~~وقبلت يده. ~~- اجلس هناك، وأشار إلى قطعة من حصير بال. # أمعنت النظر في هذا الكتاب فإذا هو بهو كبير مرتفع السقف مزخرفه، له ثلاثة ~~جدران عاطلة، وبمكان الرابع مدخل واسع تمر منه الشمس فتملأ المكان رغم الستار ~~المسدل، وفي أحد ms075 الأركان زير قذر وكوب علاه الصدأ، وقد ركب على أحد الجدران ~~رفان أو ثلاثة ليضع عليها التلاميذ مخاليهم وخبزهم. # ورغما من كون سيدنا من أصدقاء والدي وقد تعطف علي وجعلني أجلس على كثب ~~منه ما كنت لأميل إليه، وكل ما كان يصدر منه يظهر لي قاسيا وظالما، وكنت أشعر ~~في حضرته بتضاؤلي وقد ضل فكري حتى أصبحت لا أكيف وجودي وعملي وكأنني ضللت بين ~~الجموع، وكنت أجد هناك شيئا جديدا لا أحتمله. # كنت أشعر وأنا في الطريق أو بجانب والدي أو عمي مصطفى أنني أمتاز عن باقي ~~الصبيان، وكأنني قبلة أنظار إخواننا في الطريقة، إذ تتجه إلي أبصار تشف عن ~~الحنان والعطف. # ما كنت أستطيع أن أوجه طرفي لغير المعلم، وما كنت أرى غير لحيته التي أشعلها ~~الشيب وهيئته التي تدل على عدم الاكتراث، وكانت له وسادتان إحداهما يضعها تحت ~~جلد الشاة والثانية خلف ظهره، وكان يرى طابع ظهره فوق الحائط. # تربع على تلك الحال أمامنا بين مقرعته الطويلة وصندوقه الصغير الذي يضم ~~أقلامه؛ حتى أضحى يخيل إلي أنه هو وقاعة الكتاب المرتفعة العارية ~~الكئيبة وحدة لا تتجزأ، حتى إن ضوء الشمس الذي كان يفترش الجدار أمام المدخل ~~ظهر لي كأنه يخالف مثيله في الطريق، وقد ساد الانسجام بين هذه الشمس الباردة ~~المحزنة المحدودة الشكل والتي لا يتأتى تجنبها وبين شخص سيدنا. # بلغ عدد الصبيان الأربعين على الأقل، وكل منا يحفظ درسا مخالفا للآخر، وكنت ~~لا أفهم شيئا من السور المقدسة تقريبا، وفي ظرف ساعة كان سيدنا يدعونا مشيرا ~~إلينا بطرف مقرعته لنسمع دروسنا، وكنا نذهب إليه كل بدوره ولوحه تحت إبطه، فمن ~~حفظ درسه أمره سيدنا بمحوه وكتابة درس جديد غيره، ومن لم يحفظه عاد إلى مذاكرته ~~ويفوته الدرس. # وكان يعهد بصغار الصبية إلى من هو أكبر منهم سنا ليراقب نسخ القرآن في ~~الألواح، وكان هذا العمل يشغل التلاميذ لغاية الظهر. # وكان أغلب التلاميذ لا يتناولون غذاءهم في بيوتهم، وكنا نأكل خبزنا وجبننا ~~على درجات سلم المسجد، وكانت بائعة ms076 عجوز تبيع لنا قصب السكر والفجل والحمص ~~الأخضر «الملانة»، وكانت رائحة الطعمية فوق المقلاة تعم الطريق وتحرض شهوة ~~الطعام، كان من المتيسر شراء أنواع الفطائر والكعك والحلوى الملونة بمختلف ~~الألوان، ولكن الغلمان فقراء، إذ كانوا يؤمون الكتاب حفاة ممزقي الثياب ~~وعلى رءوسهم قلانس قذرة، وكثير منهم يقنع بخبزه بغير إدام. # كانت فكرة العود إلى الكتاب كافية لتنغيص ساعة الحرية هذه، فكنت أنظر بحزن ~~إلى الموضع الصغير الذي كانت تهب فيه الرياح السافيات، وكان الجزء الذي كسته ~~الشمس لا يمر به إلا ظل الحدأ المتقطع والتي كانت تحلق في الجو فوق ~~رءوسنا. # وفي بعض الأيام كان القيظ يلفح وجوهنا كالنيران، فكنت أشعر أنني في حاجة إلى ~~السكوت والسكون وتبديل مكاني كل خمس دقائق، وكان يخيل إلي أن النهار شديد ~~أبيض يعمي الأبصار؛ لأن الحرارة كانت عمودية شديدة كأنها القضاء الساحق، وكانت ~~الغرفة بشكل واحد لا يتغير تنقبض منه النفوس والأبدان. # عدنا إلى الكتاب ملبين نداء العريف، وأول تأثير يجول بخاطري ما أجده في ~~الكتاب من الظل والنسيم البارد المحبوب، ولكن سرعان ما يتبدل؛ إذ كنت بعد ~~خمس دقائق آسف على الهواء المحرق الخارجي. # صاح سيدنا قائلا: أحذركم من القراءة بأصوات منخفضة. # فلا تلبث الظهور أن تعود إلى حركتها من الاهتزاز وتعود الحياة إلى الكتاب ~~فيضحي كأنه آلة عظيمة الجلبة، وكانت تميز وسط هذا اللغط المزعج أصوات ~~متباينة. # ولما يجد سيدنا أن الحركة الميكانيكية تحسنت وانتظمت ليتغذى بدوره ويشرب ~~الحساء في طبق يضعه أمامه على الأرض، ولقد شاهدت خيوط الملوخية يكثر عددها ~~شيئا فشيئا وهي معلقة بين لحيته وطبقه، ثم يأخذ القلة ويجرع منها بهذا ~~الشكل. # كنا نرصد حركاته واثقين من أنه سينام بعد الطعام، وحينما نرزح تحت وطأة الحر ~~ينتهي الأمر بأن ننام أيضا، وكان العرق يتصبب من جباهنا ويسيل فوق ألواحنا ~~فيلوث وجوهنا، وكان الزير دوما محاصرا بسرب من الصبيان ينتظر كل منهم الكوب ~~بدوره، خفتت الأصوات شيئا فشيئا فاستيقظ سيدنا صائحا: إياكم والقراءة بأصوات ~~خافتة! هاج الكتاب وماج كآلة ms077 بخارية ضخمة، ونام سيدنا ثانية إلى قبيل تسميع ~~درس بعد الظهر، وكنا في الساعة التي يقيل فيها كل أهل المدينة نستمر دون انقطاع ~~في القراءة بصوت عال. # وأخيرا حوالي الساعة الرابعة يرن صوت المؤذن لصلاة العصر، وكان هذا الأذان ~~علامة الانصراف التي لاحظتها من زمن، فنستعد للرواح ويرفع سيدنا مقرعته ~~مؤذنا بالسكوت، ثم ننشد بصوت عال: # اللهم يا سميع، يا من لا ييأس من عونك السائلون، انصر مولانا السلطان على ~~الكافرين، ربنا تقبل دعاءنا يا من هو قادر على كل شيء. # ثم ألثم يد الشيخ وأرجع إلى البيت مع دليلي وأنا مهموم في الرواح كهمي في ~~الغدو، وما فتئ لغط الكتاب يدوي في أذني فيغطي صوت نفسي، كنت أعلم أنه ينبغي ~~علي أن أقضي عامة النهار من طلوع الشمس إلى غروبها وأنا سجين هذا الفقيه ~~البارد المتعنت، وكانت الساعات والأيام حتى التلامذة في نظره كالبسلة في سلة، ~~وقد سئمت نفسي من وطأة حياة كريهة على وتيرة واحدة، وكنت أشعر أنني كضغث من ~~العشب الأخضر وقع من حمل بعير فتلوث بالأوحال وداسته الأقدام. # وفي صبيحة يوم أردت أن يبري العريف قلمي فلكمني بقبضة يده، وكان سيدنا مستاء ~~من سلوك هذا التلميذ فأشار إلى عريفين بأن يقبضا عليه، ثم نزع بنفسه الفلقة ~~المعلقة بالحائط وأمسك العريفان كل منهما برجل ليتمكن الشيخ من وضعهما في ~~الفلقة، ثم ألهب سيدنا رجلي هذا المسكين بجريدة رفيعة، فصاح هذا التعس: عفوا! ~~عفوا! بحياة النبي! بربك! # كنت أرتعد وأقشعر عند كل ضربة، وكان صياحه يخترق جسمي، ولقد ظهر لي سيدنا ~~كالوحش الضاري وطفقت أتنفس بألم وأمقت الكتاب والدنيا والحياة. # ثم رحل أهل منصور إلى الإسكندرية وأدخلوا منصورا في كتاب الشيخ خضر، وكان أرقى ~~كتاب في الثغر، ولكن هذا الشيخ كان مثالا للقسوة البربرية والوحشية، وكانت خاتمته ~~سيئة؛ إذ اتهم بتزوير عقد، ولما عرف أنه سيقبض عليه فضل الانتحار وألقى بنفسه في ~~ترعة المحمودية فغرق. # سئم منصور من الكتاتيب، فأشار على والده أحد أصدقائه من الموظفين بأن يأخذه ms078 إلى ~~باشكاتب إحدى محاكم الإسكندرية الموظف بها وأوصاه به خيرا، فقبله ليقضي زمن التمرين ~~إلى أن تتاح له الفرص ويعينه كاتبا، ومن ألطف الفكاهات أنهم ألزموا منصورا بأن ~~يحضر معه كرسيا من بيته ليجلس عليه، فركب منصور حمارا وحمل له الحمار الكرسي وسار ~~وراءه بعدما رفض في أول الأمر حمله، وقال له: ضعه أمامك على الحمار، ثم وعده بزيادة ~~درهم على أجره فقبل في نهاية الأمر ... شاهد منصور صورة جهنمية في قلم المحضرين، إذ رأى ~~نساء مولولات من المساكين يستغثن بالمحضرين الذين حجزوا على ما بقي لهن من حطام الدنيا ~~وبجانبهن العقبان والرخم، وهم كتبة العرائض يسدون على المتقاضين المسالك ليمتصوا ما بقي ~~من دمائهم ويسلبوا درهمهم الأخير، وبجانبهم باعة الأطعمة الحقيرة كالطعمية والخبز ~~والسلطة والباذنجان يبيعون بضاعتهم للمتاقضين والموظفين، والكل في هرج ومرج أشبه بأسواق ~~الريف. # قضى منصور بضعة أيام والقلق يساوره والكرب يغالبه، فتوسل إلى والده لينتشله من هذه ~~البؤرة الممقوتة، وفضل أن يلتحق في سلك طلبة المعاهد الدينية ليصبح أديبا ~~شاعرا. # ولما أصبح الصباح لبس منصور العمامة من جديد وارتدى جبته وقفطانه وطرح البذلة جانبا، ~~وأخذه والده إلى الشيخ يوسف إمام مسجد حيهم وأوصاه به خيرا، وطلب منه أن يصطحبه إلى ~~مسجد أبي العباس المرسي ويقدمه إلى أساتذته. # كان الشيخ يوسف ضريرا، ركب فيه اللؤم والخسة، يتشدق في مجالس العامة ليوهم أنه من ~~كبار العلماء والشعراء المفلقين، وكانت العامة تؤمه لينظم لهم تاريخ ميلاد أو تهنئة ~~بزفاف أو غيرها وينقدونه بضعة دراهم، وفي بعض الأحيان لا تتجاوز العشرين، وكان يتعرف ~~بالأسر ويتشدق عندهم بفكاهات محفوظة معدودة ليحظى بالغداء أو العشاء، وكان يفضل أن ~~يسامر نساء من يتعرف بهم ثم يسلقهم بألسنة حداد، وقع منصور في مخالب هذا الذئب، فأراد ~~أن يستغل سذاجته فأوهمه بأنه سيعلمه النحو والصرف وعلوم البلاغة والعروض، فيصبح بعد ~~قليل من الزمن أديبا شاعرا، وأنه سيسحب ذيل النسيان على زملائه من الطلبة. صدق ~~منصور هذه الأوهام واستمثل له، فجعل يسخره ليل نهار في شراء ms079 الجبن والفجل والفول ~~المدمس، ولم يكتف بذلك بل أرجعه إلى السوق في يوم مطير ليزيد له البائع ما باعه من ~~الطعام، وكان يقوده من المسجد إلى البيت والسوق. # تعرف منصور في حلقة الدرس بشاب يدعى إبراهيم، فقال له: إنك مغرور بهذا الشيخ وهو ~~من الأبالسة، ولقد تعرف بنا وأضفناه وأكرمنا وفادته ولكنه أساءنا، وسأريك ما أنا فاعل ~~به. # وبعد صلاة العصر نادى إبراهيم: لا تبرحوا مكانكم أيها المؤمنون، أيليق بالإمام أن ~~يذكر أحاديث الفسق والفجور أمام السيدات والبنات، فاحمر الشيخ يوسف خجلا وثار ~~قائلا: أخرجوا هذا الحشاش من المسجد. # كان منصور تحدثه نفسه أن التعليم في معاهد الإسكندرية ليس راقيا كالأزهر، فطمحت نفسه ~~إلى الالتحاق به وحدث والده بذلك، وصادف في هذه الأنباء ورود خطاب من عمه مصطفى إلى ~~أبيه ينبئه بأن ابنه هرب إلى الأزهر والتحق به، ويعرض على منصور أن يذهب إلى الأزهر على ~~نفقته ليراقب ابن عمه، وإلى هنا انتهى الشطر الأول من حياة منصور وتعليمه الأولي، ~~وللكتاب جزء ثان تحت الطبع وسنعود إليه عند ظهوره ونخصص له بحثا آخر. # الكتاب صورة ناطقة للطبقة السفلى، لم يترك كبيرة ولا صغيرة من طباعهم وعوائدهم ~~وعاداتهم إلا حللها تحليلا دقيقا بسيكولوجيا، ولقد كتب بأسلوب رشيق لا يشوبه ~~تكليف، تزينه النكات والفكاهات، وحوى من الوصف الدقيق ما يكاد يجسم لك الحوادث والعادات ~~والأشخاص ليسيرها أمام القارئ صورا حية متحركة، فهو في مجموعه عمل عظيم جليل بليغ، وما ~~هو في الحقيقة إلا تاريخ حياة الدكتور ضيف ومذكرات له عن صباه وأدوار تربيته وما مر ~~عليها من التقلبات. # لقد سطت على هذا الجمال النادر ثآليل شوهته ونفرت منه النفوس، تعرض الأستاذ للدين ~~في كثير من المواضع بمناسبة وبغير مناسبة، وطفق يتهكم على الشعائر الدينية. # وإن كانت الشعائر عند الأستاذ بدعة من البدع أو خرافة من الخرافات، فلم لم يكتب لنا ~~بحثا عربيا يدون فيه نقده وملاحظاته على الدين وينشره بين قومه الذين انتقدهم؟ ما ~~الفائدة العائدة من نشر هذا التهكم وتلك السخرية ms080 على الدين الإسلامي عند الفرنسيين؟ ~~وأظن القارئ إن فكر معي قليلا في هذه المعميات والطلاسم عرف أن الذي حدا الأستاذ إلى ~~هذا السلوك الشائن ليس إلا فكرة ترويج الكتاب بنشر هذه الأسرار الدينية التي يتطلع ~~إليها الأجانب وخصوصا الفرنسيين ليتخذوها ملحا وفكاهات يهزءون بها في مجالسهم، ~~وإني أحكم القراء بيني وبينه وأسرد لهم بعض جمل من الكتاب بكل أمانة دون أن أغير ~~شيئا في التعريب. # قال في صفحة 16: # ها هو الحاج قد نزل عن مقعده الخشبي «الدكة» وذهب ليأخذ حصيره المطوي بجوار ~~الحائط، وكان باليا تخرم في مواضع القدمين والكعبين والجبهة، فرشه في اتجاه ~~القبلة بجانب البئر ثم نزع جلبابه واحتذى نعله الخشبي «القبقاب»، فأصبح عاري ~~الجذع والساقين ولم تستره غير سراويله، ثم ذهب إلى البئر وملأ منها الدلو ووضعه ~~على الأرض، وطفق يغترف الماء بيديه ليتوضأ ويغسل وجهه وذراعيه وقدميه، ثم يقف ~~على حصيره والماء يقطر من أعضائه ويرفع يديه إلى رأسه وهو ناظر أمامه دون ~~انحراف كأنه ينظر شيئا وراء الجدران التي تحد نظري، وسمعته يقول: الله أكبر! ~~الله أكبر! # ثم يضع ذراعيه إلى الأمام ويده فوق الأخرى، ويخفض رأسه غاضا الطرف ويتمتم ~~بكلمات لا تفهم ويعمل حركات أخرى اعتدت عليها؛ لأن هذا المنظر يتكرر خمس مرات ~~في اليوم، فيركع تارة ممسكا بركبتيه، ويسجد طورا مستندا إلى يديه بينا يمس ~~جبينه المتجعد الحصير، وإني أعلم أنه في هذه الآونة لا يتأتى لفت نظره إلى شيء ~~ما، إذ يصبح ما حوله كأنه لا وجود له، ولا يتسنى لأحد مقاطعته سواء أكان من ~~أقاربه أو زائريه، بل كان الكل ينتظرونه وهم سكوت بعيدون عنه إلى أن يجلس على ~~ركبتيه جلسته الأخيرة ويلتفت إلى كتفيه اليمنى واليسرى مسلما على الملكين ~~الحارسين. # وأظن أنه لو كان أحد الأجانب الذين يدينون بغير الإسلام أراد أن يعتنق هذا ~~الدين وقرأ صورة هذا المصلي لعافت نفسه هذا الدين، ونفر من هذا الرجل المضحك ~~القذر الذي يصلي وهو عريان لا تستره غير سراويله كأنه «علي كاكا ms081 » يمثل فصوله ~~المضحكة في أقذر أركان سوق العصر. # وقال في صفحة 66: # ولقد مرت في مخيلتي بعض أخبار أبي كما يجري الدم في شراييني، فتذكرت سيدنا ~~جبريل الذي أملى القرآن على محمد # صلى الله عليه وسلم ~~، والذي اصطحبه في ليلة المعراج حينما ~~اخترق النبي # صلى الله عليه وسلم # السموات حتى اقترب من القلم واللوح المحفوظ، الذي أعلم أن ~~حظي أنا الغلام الصغير مخطوط فيه كجميع من يحيطون بي، وكان يخيل إلي أني أرى ~~الملك ميكائيل الذي يرفرف بجناحيه حينما يأمر السحب والرياح بأن تبرق وترعد، ~~والملك إسرافيل وهو واقف بالمرصاد أمام صوره وهو متهيئ لينفخ فيه يوم القيامة ~~ليقوض أركان العالم. # ولقد طردت من خيالي بسرعة الصورة البشعة للملك الرابع من الملائكة المقربين ~~وهو عزرائيل ملك الموت بأن حدقت إلى المركب الصغير المحفوف بالأسرار (هو المعلق ~~على قبة الإمام الشافعي؛ لأنه كان هناك وقتئذ) فتذكرت سفينة نوح وهي ماخرة تقل ~~جميع الحياة فوق ماء هاجه غضب الخالق. # وقال في صفحة 144: # وحينما تتلقى ملائكة السماء السابعة أوامر الله يبلغونها لجميع الملائكة في ~~جميع السموات إلى أن تصل لسماء الأرض فتتحدث الملائكة بما علموه، فتظن الجن أن ~~إرادة جديدة صدرت فيتسلقون فوق بعضهم إلى أن يبلغوا السماء ليسترقوا السمع من ~~الملائكة، ثم يهبطون إلى الأرض ويذهبون إلى السحرة ليفشوا لهم أسرار الخالق؛ ~~ولهذا السبب يعلم السحرة أسرار المستقبل، ولمنعهم وردعهم عن هذه الأعمال سلط ~~الله عليهم الشهب الثواقب تحرقهم وتهلكهم. # وقال في صفحة 231: # ها هو أستاذك في فقه أبي حنيفة قال ذلك همسا في أذني، فأسرع إذن لسماع ~~درسه. # ظهر لي الشيخ لأول لمحة ثقيلا؛ إذ كان هرما، وكانت فكرتي الثابتة أن أتلقى ~~علومي على أساتذة من الشبان وسأجلس مع المستمعين وكتابي بين يدي دون أن أنبس ~~ببنت شفة، نظرت إلى عينيه الكبيرتين اللتين لا تتحركان ولا تعبران عن شيء، ~~ولحيته الطويلة البيضاء، وشاربيه المستأصلين، وأنفه الكبير القذر، وعلبة سعوطه ~~وهي في حجره فوق منديل مثقوب ... وهذا هو النموذج الذي كنت أخشاه، وكان ms082 يتكلم وهو ~~يهتز وكان شرحه ميكانيكيا، وفي كل ثلاث أو أربع دقائق يحشو أنفه بسعوطه ويمخط ~~بجلبة قوية ... وفي آخر الدرس أردت أن أسلم عليه فدلت هيئته على أنه لا يراني، ثم ~~همس في أذني طالب إنه ضرير. # إن هذا المنكود ليستحق الرحمة والحنان لسوء حظه وفقد بصره، والإعجاب لانقطاعه لتلقي ~~العلوم، ونيله شهادة العالمية، والقيام بمهمة التدريس، فلم يسخر منه الأستاذ ~~ويعيره بفقد بصره وضخامة أنفه وسعوطه، والعاهات الطبيعية لا يتأتى تجنبها؟ كما أن ~~السعوط ليس مزريا لهذا الحد، فقد كان الإمبراطور نابوليون بونابرت وهو أبعد عظماء ~~الرجال صيتا لا يفارقه سعوطه، وما فتئ منتشرا في أركان المعمورة لا سيما أوروبا، ~~لنكتف بهذا القدر من أمثلة الكتاب ولو أن به كثيرا من هذا النوع، ولنلق نظرة إلى وضع ~~الكتاب. # تورط الكاتبان في وضع الكتاب وجعلاه على شكل أخبار متسلسلة بطلها منصور، وطفق يحدثنا ~~مذ كان صبيا إلى أن ترعرع وأصبح فتى، وجدناه وهو صبي يحلل الأشخاص تحليلا ~~بسيكولوجيا، ويلاحظ ملاحظات دقيقة لا يراها إلا الحكماء، ويصور تصويرا يقف دونه كبار ~~المصورين من الكتاب. # ولو كان عند أحدهما فكرة الوضع الروائي لما وقع الاثنان في هذه الورطة، وكان للكاتبين ~~الحرية التامة في تحليل الأشخاص وسرد الملاحظات والحكم وغيرها على لسان الكاتب مهما ~~اختلفت أعمارهم. # ومن المستغرب أيضا أنه قال في وسط حديثه وهو يصف كتاب الشيخ خضر حينما أدخلوا فيه ~~أمين أفندي لتعليم الحساب: # وا أسفاه على الشيخ عبد اللطيف، فإني رأيت بعد خمس عشرة سنة من هذا التاريخ رجلا ~~يقترب مني في الطريق ثم قال لي: يا بك! رعاك الله! انظر إلي بعين الرحمة وأعطني ثمن ~~رغيف! # نظرت إلى هذا الشحاذ فإذ هو أستاذي «في كتاب الشيخ خضر»، فما الذي اضطره ليحدث عن ~~شيء قبل أن يحصل بخمسة عشر عاما؟ ولم لم ينتظر حتى يأتي زمنه وموضعه من الحديث ~~فيسرده؟ # ومن الأحاديث التي تفوق في الغرابة قصص ألف ليلة خبر إحدى أميرات الإسكندرية التي ~~اشترت فتاة تركية من الآستانة ms083 وكانت آية في الجمال، وعند قدومها اصطف الخصيان والجواري ~~السود على جانب السلم واصطفت في الجهة الأخرى الجركسيات إلى آخر درجات السلم، ولما مرت ~~بينهم نثروا عليها الذهب، ثم قادتها زينب هانم إلى غرفتها وكانت من الحرير الوردي ~~وسريرها من الفضة المموهة بالذهب، وقد خصص لها معلمان أحدهما للفرنسية والثاني ~~للموسيقى حتى فاقت سيدتها الأميرة. # ومن المستغربات أيضا أن إبراهيم الذي تعرف به منصور في المسجد دعاه إلى منزله لأول ~~مرة، وحينما دخلاه نادى إبراهيم أخته زكية وكانت في سن الزواج وعرفها بصديقه، وقال: ~~هيئي له القهوة ثم الغداء، وفي الزورة الثانية لم يجد إبراهيم وفتحت له زكية الباب، ~~وبمجرد دخوله احتضنته وقالت له: قبلني، فخجل وقال لها: دعيني، فقالت له: لا تخف فنحن ~~وحدنا، فعانقها منصور وقبل خديها، وقالت له: إنني أحبك وأريد أن أتزوج منك. # وبعد حين سافر منصور إلى مصر، وبعد خمس سنين ذهب منصور إلى الإسكندرية وزار صديقه ~~إبراهيم وزكية وكانت وحدها في البيت فعانقته كعادتها وجلست على ركبتيه، وأخبرته أنها ~~تزوجت من رجل وما لبثت معه إلا قليلا وطلقت، فسألها عن السبب، فأجابت: إني رأيته أجمل ~~مني ولا أرغب أن أعيش مع امرأة، وإني ما زلت أحبك وأريد أن أتزوج منك، فقال لها: إني ~~طالب فقير، فقالت له: خذ هذه الخمسين دينارا وقدمها إلى أخي مهرا، وبعد قليل أقبل ~~أخوها وتردد منصور في الطلب، وأشارت إليه زكية خفية من الغرفة الأخرى ليخطبها من أخيها، ~~فتردد وانصرف دون أن يفاتحه، وانتهى الجزء الأول على هذا. # هذا الخبر من أوله إلى آخره خيالي لا يقبله العقل؛ إذ كيف يعقل أن فتاة بكرا تهجم ~~على فتى وتنهشه عناقا وتقبيلا بمجرد المقابلة الثانية، مع أن الخليلة بها بعض من ~~الحياء يجعلها متهيبة من عشيقها الجديد زمنا ما إلى أن تتواتر المعاشرة، ومن وجهة أخرى ~~ترى منصورا شديد السمرة فقيرا لا يملك شيئا مع أن زكية تملك بيتا كبيرا وحقولا، ~~كما أن سبب الطلاق غير معقول، وإذا كان لكونه أجمل ms084 منها فلماذا قبلته زوجا؟ وأنها لا ~~بد أن رأته مرة أو مرات ولو من خلال النافذة حينما كان يزور أخاها وربما جالسته كما ~~جالست منصور قبله. # وإن هذا الموقف الذي ختم به الجزء الأول لشائن مزر؛ لأنه قبض المهر من الفتاة ~~وانصرف دون أن يفاتح أخاها، وكان من حسن الذوق أن يفاتحه قبل انصرافه حتى لا يثير ~~الظنون ضد منصور بهذا الموقف الرديء، وسنعود - إن شاء الله - لإتمام البحث عندما يظهر ~~الجزء الثاني. ~~(3) كيف تصورنا شاعرة فرنسية؟ # قد تحتمل النفوس ما ينفثه الجاهلون من سم التعصب الذميم، وما توحيه إليهم عقولهم ~~الصغيرة من تهكم قارس وبذاءة جارحة؛ فتمر عليها مر الكرام، ونناجي أنفسنا بكلمة واحدة ~~لا يلبث أن يفوه بها اللسان بنغمة إشفاق على هؤلاء المساكين وهي «شفاهم الله». # ولكننا نحار في مفاوز التيه حينما نرى تلكم السخافات والترهات صادرة من إحدى الشهيرات ~~من كاتبات وشاعرات فرنسا؛ ألا وهي «مدام لوسي دولارو ماردروس»، والأدهى من ذلك أنها ~~ألقت محاضرتها التي تسخر فيها من المصريين بل من جميع أهل الشرق في 17 مارس الماضي، ~~ونشرت بمجلة محاضرات جامعة «ليزانال» في أول أغسطس سنة 1923، وهذه الجامعة خاصة بالبنات ~~بباريس، وتلقي فيها محاضرات من آن لآخر يحضرها كثير من الكتاب والشعراء وأعضاء المجمع ~~العلمي وغيرهم من أهل الأدب ومريديه، وكان التصفيق والضحك يدويان في أركان المكان عقب ~~كل جملة مما يدل على الإعجاب بهذا الخلط الممقوت والتعصب الفاضح، لم يكفها ذلك بل ~~انتقلت إلى اللغة العربية وقالت بأنها نشأت من تقليد الإبل والخيل والضأن والكلاب ~~والأسود. # والأعجب من هذا أن زوجها المصري مولدا والمعجب بآداب العربية والذي ساح في أغلب ~~البلاد الشرقية التي تنطق بالضاد، وعرج على الهند لجمع نفائس من الكتب القديمة ~~المخطوطة، ومن ترجم ألف ليلة وليلة والقرآن وملكة سبأ ترجمة سحبت ذيل النسيان على جميع ~~التراجم قديمها وحديثها، لم يراجع زوجه في شيء من هذه الخرافات، فكأن مصر الذي ولد ~~وتربى فيها هو وأبوه وعمه وباقي أسرته التي قضت قرنا تقريبا ms085 في مصر وما فتئوا ينعمون ~~بنيلها العذب وشمسها المتألقة وبركاتها الوافرة لم يكن لها عنده ذمام ولا عهد ولا واجب ~~ولا وفاء ولا حب لوطن، ولا للغة فتن بها وقضى عمره في ترجمة شيء عظيم من معجزاتها إلى ~~الفرنسية. # إنني كنت أعجب بهذه الشاعرة هي وزوجها وقد قرأت مقتطفات من شعرها وإحدى رواياتها ~~القصصية المسماة # rex-Voto # أي: «النذر»، وهي من أبدع ما ~~كتب في نوعها؛ إذ تمثل حياة أهل «هونفلور» مسقط رأس شاعرتنا، وهي واقعة في مصب نهر ~~السين وغالب أهلها صيادو أسماك تمثيلا شائقا، وبطلة الرواية تدعى «لوديفين بوكاي» ~~وهي ابنة صياد سكير عربيد لا يقوم بحاجيات بيته، فكانت هذه الفتاة التي مضت طفولتها في ~~التشرد في الطرق أو الهرولة وراء طير أو لتسلق الأسوار لسرقة فاكهة دانية أعظم مؤدب ~~لوالدها السكير، بل لجميع أهل البيت الذي أصبحت مديرته، وقد لعبت أدوارها الشيطانية ~~حينما أجبرها أبوها بأن تتزوج من رجل غني صاحب قهوة وسفن؛ لأنه كان ينفق على أسرتها ~~بكرم حاتمي، وكانوا في فقر مدقع، فأظهرت القبول وأصرت أن تتخلص منه ولو قبل الزفاف؛ ~~لأنها كانت تحب فتى يتيما تربى معها في بيت أبيها ولم تظهر له قط الحب، بل كانت دائما ~~تتهكم عليه بقارس النكات ولا تخاطبه إلا بلهجة الآمر الناهي، وكانت مسيطرة عليه كباقي ~~أفراد الأسرة، وانتهى الأمر بأن تزوجت منه وتخلصت من الأول قبيل الزفاف. وإنها لرواية ~~ذات مغزى عظيم تمثل قوة الإرادة والذكاء وحسن التدبير لفتاة تربت في الطرق ولم تتعلم ~~إلا شيئا يسيرا في طفولتها الأولى، وكان مهذبها الفقر وسوء الحال أو بعبارة أخرى: ~~«الزمن». # ولشاعرتنا سبعة دواوين بأسماء مختلفة وسبع عشرة رواية قصصية، وقد ظهر أول ديوان لها ~~سنة 1901 بعنوان «الغرب»، وكانت حينذاك في ربيعها العشرين؛ لأنها ولدت سنة 1881. # أما زوجها فهو أرمني الجنس واستوطن أسلافه في حلب حتى نسوا لغتهم الأصلية وأصبحوا لا ~~يتكلمون إلا العربية والفرنسية التي تعلموها في المدارس، وانتقل والده إلى مصر هو وأخوه ~~منذ قرن تقريبا، وكان والده وكيلا ms086 لشريف مكة السابق عون الرفيق بمصر، ورزق ثلاثا من ~~الأولاد الذكور، أكبرهم زميلنا وصديقنا جان أفندي ماردروس الذي كان مترجما بمحكمة مصر ~~المختلطة، وأحيل إلى المعاش منذ ثمانية أعوام، وهو لطيف المعشر متواضع، والثاني زوج ~~الشاعرة، والثالث طبيب ببورسعيد، وقد ولد الأديب بمصر سنة 1868 ثم سافر إلى باريس ~~لدراسة الطب ونال لقب «دكتور» بعد أن قدم رسالة بعنوان: «بحث في ضيق مجرى البول» سنة ~~1894، ومن هذا الحين انقطع إلى الأدب وساح في أغلب بلاد الشرق، ومن غريب أطواره أنه ~~قاطع أخاه الأكبر منذ عشرين سنة أو أكثر؛ لأنه اعترض على تغيير لقبه وحذف حرف ال # O # من # Mardrous ~~. # ذهب إعجابي واحترامي لهذين الزوجين حينما قرأت هذه المحاضرة التي يغر عنوانها وهو ~~«الموسيقى الشرقية»، والحقيقة أنها لا تنطوي إلا على سخافات ممقوتة وتعصب مرذول، وليس ~~فيها شيء عن الموسيقى، وها هي بنصها وفصها: # الموسيقى الشرقية # سيداتي وآنساتي وسادتي # ها أنا ذي أقف أمامكم لأحدثكم عن الموسيقى الشرقية وسأتكلم عنها حالا. أما ~~الشرق الذي أعرفه فهي البلاد الشرقية التي يحتضنها البحر الأبيض المتوسط، وهي ~~الجزائر وتونس ومراكش ومصر والشام وفلسطين وتركية أوروبا والأناضول، وسأترك ~~الكلام عن اللغة التركية المدهشة وما هي إلا أنغام موسيقية لا سيما حين ~~تسمعونها من أفواه النساء. # إني افتتحت قولي بأن العربي موسيقي؛ لأني أفكر في الوزن، وهو نصف الموسيقى ~~على ما أظن. # إن الذين سمعوا المراكشيين أو الجزائريين وهم يتكلمون ليقولون لك وهم يأسفون: ~~إن لغتهم قبل كل شيء حلقية ولهم الحق في ذلك، وإن كلامهم لا يخلو من الوزن الذي ~~هو روح الشرق. # وسأحدثكم عن منشأ اللغة العربية تخمينا واحتمالا، ولكني أبتدئ القول بأن ~~العربية التي تظهر للآذان أنها تختلف حسب البلاد ما هي إلا واحدة في ~~الكتابة. # إن النطق العربي لأقرب إلى الوحشية والرطانة، فالمصري لا يفهم النطق المراكشي ~~ولكن لا يصدق العكس، فإن المراكشي يفهم النطق المصري من أول وهلة بل ويعجب به، ~~وكلما اتجه الإنسان إلى الغرب؛ أي كلما ابتعد عن مكة لاحظ أن العربية ms087 تفقد ~~نقاءها وذلك راجع إلى طرق النطق، وفي مراكش أو بلاد الغرب تجد أن اللغة عندهم ~~كلها سواكن بدون متحركات، وبالعكس في بلاد العرب فإنها تقرب من اللغة الفصحى ~~التي تنتهي بمقاطعها الغنائية، والقرآن هو أعظم مثال لها. # ولا مراء في أن البلاد التي يسود فيها الغناء في كلامها هي مصر وأهلها كسالى، ~~فتراهم بعكس المراكشيين يحذفون السواكن الجامدة ليطيلوا مد المتحركات. # أما أصل العربية فهو على ما أظن - ولا أقول ذلك بقصد أن أضحككم - ناشئ عن ~~تقليد الإبل والخيل والشاء والكلاب والأسود، فنرى زئير الأسد ظاهرا في غضب ~~العربي، ويعرف ذلك الذين سمعوا العرب وهم يتشاتمون. # وحرف العين واضح في هدير البعير وهو صعب النطق على الحلق الإفرنجي، وحرف ~~القاف يمثل سعال الخيل ولا يتسنى للأوروبيين أن يلفظوه. # والصاد والضاد كثغاء النعاج، والواو في نباح الكلاب، أما الحاء والخاء ~~فيمثلان تنخم السباع الهائجة في الصحراء (ضحك وتصفيق). # لقد حدثتكم بأن مصر أكثر البلاد غناء في كلامها؛ لأن المصريين استطاعوا أن ~~يجعلوا من هذه اللغة الخشنة كلاما تسود عليه نغمة الحزن والشكوى متقطعا بسبب ~~الإغراق في إطالة المتحركات وحذف بعض الحروف الجامدة، ولذلك استبدلوا حرف القاف ~~المزعجة بسكون، وهذا السكون هو الذي يكسب غناء ضفاف النيل شكلا ممتازا، وفي ~~مصر لا يقولون «قلبي» بل «ألبي»، ولا يقولون «قومي» بل «أومي»، ولا يقولون ~~«القمر» بل «الأمر»، أما المتحركات فيحسن أن تصغوا إلى النساء وهن يتحدثن في ~~خدورهن بمصر: # بتعمل إيه، تعالي هنا يا بت، أنا حبيبك يا عيني. # أما الغضب الذي حدثتكم عنه فأؤكد لكم أن اللغة العربية وحدها بما لها من ~~الوزن والموسيقى قادرة على تلطيفه، وتيقنوا أن الإنسان يهدأ ثائره حينما يقول ~~للآخر: «ينعل دينك يا معرص يا عكروت، وينعل أبوك وأمك وأختك يا ابن تلتمية ~~وخمسين خنزير، وانشالله تموت بالموت الأحمر ضحك.» # وأؤمل أن تكونوا سمعتم الوزن في هذه الجمل الهادئة أو القوية، وقد نوهت لكم ~~أن الوزن هو الأصل المشترك في الموسيقى والشعر، وأكرر لكم أن كل ms088 الشرق وزن، ولا ~~حاجة بنا لأن نشط كثيرا يا آنساتي فإن عندكن فكرة ضئيلة من «الجازبند» وهي من ~~اختراع الزنوج، والتي ترقصن على نغماتها هذه «الهامبولا» التي تسمى هنا «فوكس ~~ثروت» و«شمي» وغيرها، وأظنكم لا تشكون قط في أنكم مهما حاولتم ومهما تلقيتم من ~~دروس الدنيا فإنكم لا تستطيعون أن تقلدوا ولو عن بعد الرشاقة الوحشية في أنواع ~~هذا الرقص الإفريقي. # إن الشرقيين لا يعدون خطواتهم ولكنكم تعدونها أيها السادة الراقصون ~~والراقصات، ومهما حاولتم فإنكم لا تصلون أن تكونوا زنوجا (ضحك عام). # ولنعد إلى العرب فنقول: إن الوزن عندهم من الضروريات كالتنفس، والمرأة التي ~~تندب ولدها تبكيه بأوزان وأنغام كما حققته في رحلي وأسفاري. # وأظن أنه قد سبق لي أن حدثتكم في نفس هذا المكان عن البدوية التي صادفتها في ~~طريق قفر في «خروميري» ولم تدر أني أنظر إليها وهي مارة، وكانت تتقدم في رياح ~~الخريف بين أوراق الخريف المتناثرة وعصاها بيدها، وهي تقطع ألحان الشكوى التي ~~كانت تبتكرها وهي سائرة يخنقها البكاء والتنهدات، وحينما استعلمت عنها قيل لي: ~~إنها تقطع وحدها أوزان الآلام؛ لأنها شاهدت المحضر الإفرنجي وهو يبيع أمتعتها ~~الحقيرة. # وقد رأيت في مصر نساء مسلمات مستخدمات في محلات إفرنجية يسرن في الطريق ~~حاملات آلات خياطة؛ ليمشين بين قطارات الترام والسيارات والسابلة من الإفرنج، ~~ولا ينقلن قدما أمام الأخرى دون أن يغنين لحنا يساعدهن على نفض كسلهن ~~الطبيعي. # وقد تحققت عندما كنت بالأقصر اضطرار المصريين إلى إسناد أعمالهم إلى الأغاني ~~المقطعة، إذ رأيت رجالا وغلمانا يرفعون الأحجار عن هياكل أسلافهم ولا يجودون ~~بأي مجهود إلا إذا أسندوه إلى لحن يغنونه جميعا. # وقد فاجأت في مقبرة إسلامية بالصعيد جمعا محتشدا من العمال المسافرين إلى ~~السودان ينشدون ويرقصون بنظام كالرقص الروسي ليتشجعوا على ملاقاة النفي ~~البعيد. # وكان يتشجع مثل هؤلاء العمال الموكلين بوضع قضبان الترام في القاهرة، إذ ~~كانوا يرفعون معاولهم مع بعضهم ويتركونها تهوي مع بعضها إلى الأرض لتضرب نقرة ~~واحدة تسير مع وزن اللحن المنشود من الجميع ms089 ، وليس المسلمون وحدهم هم الذين ~~يعملون هذه الأعمال، وقد شاهدت منظرا مماثلا بمقبرة المسيحين في الإسكندرية ~~في عيد الأموات. # رأيت سيدة مصرية عجوزا مرتدية ملابس تماثل أزياء عجائزنا من قماش أسود دقيق ~~من نوع «الكابوت»، وكانت تتعهد نباتات زرعت حول قبر ابنتها، ولما نظمت المكان ~~نشرت مظلتها؛ لأن شمس مصر قوية حتى في شهر نوفمبر، ثم جلست بجانب القبر وأخذت ~~تنتحب وتعوي كذئبة تبكي ابنتها بوزن موسيقي أوحاه إليها إلهامها. # ويوجد بمصر خلاف هذه المظاهرات الشخصية حفلة دينية تسمى الذكر، وهو يتم ~~بأنواع الاجتماعات تشريفا للموتى أو الأولياء أو لتمجيد الله، وهو يختلف على ~~حسب الطرق، ويتكون من ترتيل يزداد شيئا فشيئا إلى أن يبلغ الصراخ، ويرقصون ~~سويا في بعض الأحيان، والذكر يكون مزعجا حينما تشتد وتعلو أصوات ~~الذاكرين. # وأظنكم سمعتم أخبار «العيسويين» (نسبة إلى محمد بن عيسى وهو مرابط مراكشي أسس ~~هذه الطريقة بمكناس، وقد مضى عليه ثلاثة قرون وانتشرت طريقته في جميع بلاد ~~الغرب)، وهم يدعون أن الأفاعي والسلاح والمسامير والزجاج لا تؤثر في أجسامهم، ~~وهم يماثلون المشعوذين المصريين المعروفين بالرفاعية في أفريقية الشمالية الذين ~~يسمرون المسامير في خدودهم وقت بحرانهم، ويقلعون أعينهم من محاجرهم ويطرحونها ~~أرضا حتى يسمع صوت وقعها، وفي الصباح لا يرى أي أثر من ذلك في وجوههم، وقد ~~شاهدت ما يماثل ذلك في الغرابة بمصر بلد الاعتدال الباسم. # ولقد حضرت الستة عشر يوما بأجمعها التي يقام فيها مولد النبي # صلى الله عليه وسلم # بسراي ~~السيد توفيق البكري نقيب الأشراف، وشاهدت المرتلين الرافضين والذاكرين في ضوء ~~المشاعل تخفق فوق رءوسهم أعلام موشاة بأبدع الألوان. # وأذكر خاصة حزب الزنوج ذي الجلابيب والعمم الزرقاء الفيروزية يذكرون ويرقصون ~~وهم مصطفون حتى يهيجوا وتعلو أصواتهم لحد الجنون المزبد، وكان هناك حزب آخر من ~~الشبان المصريين الشاحبي اللون يرمون بأنفسهم في النار على صوت الدفوف ويأكلون ~~القبس، ثم يتمرغون على الصعيد بحالة صرع فيحنو عليهم رفاقهم ويواسونهم بأقوال ~~حكيمة، وبعد قليل يأتي دور الآخرين من اشتداد قرع الدفوف ويرتمون مثلهم ms090 في ~~النار، ثم يصرعون ويتخبطون على الأرض ورؤالتهم تسيل من أفواههم وهم حمر ~~العيون. # وقد تبعت العجم في عيدهم المسمى عاشوراء، وقد مر موكبهم في طرق القاهرة ليلا ~~وهم لابسون أثوابا بيضاء ووراءهم سيدات يبكين، وكان وزنهم الوحشي مسندا إلى ~~ضربات السيوف ذات الحدين في رءوسهم، وكل منشد منهم يضرب نفسه ليظهر الوحدة ~~الموسيقية. # وكانت أصوات هذه الجموع تولول صائحة حسين! ... علي! ... ولكل اسم من هذين الاسمين ~~المقدسين تقطع السيوف في جماجمهم الدامية. # وقد تمكنت بفضل زوجي الذي يملك المفتاح الذهبي للأسرار الشرقية أن أتسلل وراء ~~هؤلاء المتعصبين وأتبعهم إلى مسجدهم الصغير الذي يتممون فيه حفلتهم، والذي لم ~~تطأه قط أقدام الإفرنج. # اصطف هؤلاء المنشدون الجرحى حول شيخهم، وهو مرتد طيلسانا أبيض فضفاضا شعره ~~مسترسل على كتفيه برأس يشبه رأس المسيح، أسمر الوجه، تدور عيناه في أم رأسه وهو ~~يرتل لهم بصوت جهوري، وليسند إلى كل جملة كان أتباعه ذوو الرءوس الدامية عارين ~~إلى أوساطهم وبأيديهم سلاسل يضربون بها ظهورهم، متبعين في ضرباتهم الوزن ~~الموسيقي. # ولقد دفعنا تطلعنا إلى زيارة بعض هؤلاء المتعصبين المرعبين؛ فذهبنا إليهم في ~~الغد إلى سوق العجم «خان الخليل» فوجدتهم من صغار التجار الذين يبيعون نعال ~~المنازل والبضائع الحقيرة، وهم جالسون بكل لطف في حوانيتهم يعرضون سلعهم بصوت ~~هادئ. # فسألناهم عما فعلوا أمس، فكشفوا رءوسهم المغطاة بقلانس (استراخان) وأرونا ~~جراحهم المكمدة بتفل القهوة، وقالوا لنا وهم يأسفون: ستزول هذه الأثار غدا، ~~ولم يبق عندهم شيء من المس الشيطاني الذي أصابهم أمس، وغاية الأمر أنهم يعرفون ~~أنهم يصابون في كل عام في نفس هذا التاريخ بتلك النوبة التي تملكهم دون أن ~~يستطيعوا الفرار منها. # النوبة العصبية هي الكلمة الملائمة، وكل شيء في الشرق نوبة عصبية صاعقة لا ~~يمكن التنبؤ بما سيحصل قبلها ولا كشف أسرار ما سيقع بعدها. # وكل ما سردناه في الحقيقة هو من تأثير الوزن (تصفيق). # ولا أريد أن أتوغل في الجنون الديني الذي حدثتكم عنه، بل أكتفي بسرد الحادثة ~~الآتية التي شاهدتها في تونس ms091 وهي غريبة في نوعها: # كانت طفلة زنجية تسمى «زهرة» لم تبلغ بعد السادسة وقد ذاع صيتها في حيها ~~لمهارتها في رقص البطن، فقلت لمن حولها من شبان العرب: ادعوها للرقص، فلم تقبل ~~الرجاء، وطفقت تقضم في قطعة من الخبز محشوة بالحلوى الطحينية وتتفرس في بعين ~~بيضاء ملئت خبثا، ولن أنسى شكلها وهي مرتدية سروالها الضيق الطويل و«الفوطة» ~~المخططة التي اتزرت بها ورأسها المربوط بمنديلها المفوف. # رجوا منها أن ترقص فعاندت، فقعد الجميع القرفصاء وضربوا بدرائرة حولها وجعلوا ~~ينقرون دفوفهم ويغنون لها. سجنت زهرة وسط الحلقة فبكت من الغيظ وأخذت ترقص ~~رغما عنها وبدون إرادة منها، كانت تقضم الخبز من الحرد وترويها بدمعها، وطفق ~~روقاها الصغيران يتموجان من تأثير الموسيقى. # وما تلك بحالة خاصة فإننا إذا ولجنا الدائرة الصوفية المحضة «للمولوية» فإنني ~~أقص عليكم بأنني رأيت الشيخ «صلاح الدين دده» يرقص ويدور؛ لأنه سمع أحد ~~الجالسين معه في بهو إسلامي يعزف على «الفيولونسيل». # وقد قال هؤلاء الدراويش: «كل من لا يرقص فهو مجرد من الروح.» ولهم الحق فإن ~~رقصهم الذي يشبه دوران الكواكب لهو أكمل مظهر للنشوة الدينية التي تليق ~~مشاهدتها، والموسيقى التي تحمسهم مركبة من نايات وطبول صغيرة وعيدان، ويخيل ~~إلى سامعها أنها آتية من وراء البحار. # وإن أردنا أن نتكلم على الموسيقى الحقيقية فأحدثكم عن المغنين والمغنيات ~~و«تختهم» الذي يشمل الناي والطار والدربكة والعود والكمنجة والقانون. # وسأجرب أن أقفكم على فكرة ضئيلة من الأوزان النائمة في هذا الجلد المشدود ~~«للطار» وقد أحضرت واحدا لهذا السبب، وستطلعون على السلم الموسيقى الحقيقي ~~لهذه الآلة، وهذه التي تشاهدونها جلبتها من دمشق (ثم أنشأت مدام ماردروس تنقر ~~أوزانا مختلفة شائقة على الطار فصفق لها الحاضرون تصفيقا شديدا). # ولقد حدثتكم كثيرا عن الست وسيلة (وهي العوادة الشهيرة التي كانت عند ~~المرحومة الأميرة نازلي فاضل، ثم انتقلت بعد وفاتها إلى سراي المرحوم السلطان ~~حسين كامل)، والست بمبه (هي بمبه كشر العالمة الشهيرة)، وهما المفضلتان في ~~مقاصير الخدور الكبيرة بالقاهرة وتونس، وإني أقص عليكم ms092 الأهواء الغريبة ~~للمغنيين العرب: # إن الشيخ يوسف - الذي توفي الآن ومن ~~تعرفت به بمصر - رجي منه مرة أن يغني في احتفال عند كبير من الأمراء، وإن كلمة ~~رجاء منه لمخففة؛ لأنه نقد مقدما أجره الذي يقدر بآلاف من الفرنكات، وفي أعظم ~~وقت الاحتفال اختفى الشيخ يوسف، فأخذوا يبحثون عنه، فعلموا أنه قد غادر القصر ~~وكان له عدة بيوت، فأرسلوا إليه من يبحثون عنه فلم يعثروا عليه، ومضى وقت طويل ~~والأمير ومدعووه ينتظرون، وانتهت الليلة باكتشافه في إحدى الطرق الصغيرة في مصر ~~القديمة يسير وحده بغير قصد في ضوء القمر، فأجاب الرسول بأنه لا يستطيع العودة ~~إلى القصر؛ لأنه لا ميل له الليلة للغناء ولا للموسيقى، فخضعوا لرغبته، وإن ~~كبار المغنين في بلادنا لا يجرءون أن يعملوا مثله. # وفي حفلة زفاف ابن أحد التجار - وكانت الحفلة في الطريق كما جرت العادة في ~~القاهرة - رأيت عبد الحي المغني الآخر الشهير وقد أخذ مبلغا ضخما، وكان تحت ~~قدميه ثلاثمائة مستمع تقريبا ينتظرونه من ساعات، وكان جالسا على مقعد عال ~~وبيده عود وقد وقع نحو عشرين مرة فاتحة موسيقية ثم وضعه بجانبه ولم يغن كلمة ~~واحدة، ولم أر في حياتي مثل هذه الألاعيب المماثلة لسنور يعذب فأرة قبل ~~افتراسها (ضحك). # ومن أغرب الأمور التي نفاجأ بها أن في البلاد العربية كل الناس بدون استثناء ~~مفتونون بالموسيقى، وهي عند العرب قوة قاهرة، ويمكن سوقهم إلى الحرب المقدسة ~~بعود ورق وصوت جميل، وإني أريد أن أقص عليكم المشاهدة الآتية: # توجد بمصر شركة من السوريين المسيحيين تمثل بالعربية وبأزياء إفرنجية روايات ~~أوروبية أمام جمهور عربي صميم، وبعض هذه الروايات من مؤلفات «شكسبير»، ولقد ~~حضرت منها تمثيل «روميو وجولييت»، وكانت الطرابيش والعمم تشغل المقاعد كلها ~~والألواج، ولا تظنوا أن هذا الجمهور من المسلمين كانوا ينظرون إلى المسرح، بل ~~كانوا يدخنون ويشربون والجميع ناظر إلى السقف أو إلى أرجلهم، أو ينظرون وراءهم ~~بأعين كبيرة وهم يفكرون في أمور أخرى. # وفي وقت من الأوقات أراد الراهب أن يغمد خنجر «روميو ms093 » في قرابه؛ لأنه كان ~~يريد أن ينتحر، فوقع من يده الخنجر فرفعه الراهب، فوقع ثانية فرفعه ~~روميو. # وقد حاول الاثنان أن يغمداه في قرابه فلم يستطيعا، وبعد عشر دقائق خرجت بغتة ~~من وراء المسرح عجوز لا شأن لها في الرواية، وطفقت تعالج الخنجر بصبر ولسانها ~~متدل حتى وفقت أخيرا ووضعته في منطقة «روميو»، ثم خرجت بكل سكون كما ~~دخلت، وعادوا إلى التمثيل بعدما قطع، فأغرقت في القهقهة وحدي دون أن يشاركني ~~أحد من هذه الجموع. # وعندما جاء منظر القبر انطلق الضحك من الجميع ليحيوا أنين «جولييت». وفي ~~مواقف الحب كان المثل السوري يستبدل شعر «شكسبير» الوجداني بالغناء العربي وقد ~~هاج الجمهور من التحمس والفرح، إذ عرفوا منها روح جنسهم فوجدوا أنفسهم سعداء ~~(نريد الحب العذري عند العرب). # كل شرقي يحب الموسيقى حتى خيلهم، وقد شاهدت في «خرومري» برذونا بلغ من الكبر ~~عتيا يجر عربة وهو كئيب كأنه محتضر، وكان في زمن فتوته من خيول البرجاس ~~المشهورة، وبمجرد ما يسمع أحدا يصفر له لحنا يرقص طربا. # كل شيء في الشرق موسيقي من نداء الباعة إلى أذان الصلاة، يسمع المؤذن من ~~أعلى منارته خمس مرات كل يوم فينطلق غناؤه بدلا من نواقيسنا، وسأجتهد أن ~~أسمعكم غناء المؤذن (ثم أخذت مدام ماردروس تغني غناء المؤذن فاحتد التصفيق وعلا ~~الصياح: أعيدي أعيدي). # أراكم تستغربون هذا مع أن غناءنا نشأ من الغناء العربي السوري، وها كم ~~الكلمات الأولى من القرآن كما يرتلونها هناك، وأظنكم تلاحظون فيها نغمة صلواتنا ~~الكاثوليكية (ثم طفقت تغني: بسم الله الرحمن الرحيم). # إننا في الوقت الحاضر لا نكتفي بأن نفكر في أن غناء أسلافنا أتى من الشرق ~~البعيد، إن موسيقانا العصرية بدافع التأثر الذي حصل «لكلود دوبوسي» قد سارت إلى ~~آسيا لتبحث عن نغمات جديدة. # ولقد قال لي «دوبوسي» بأنه فضلا عن التأثير المباشر الذي نفحته به الروس ~~أبناء المغول، فإنه وجد في الموسيقى التي كانت ترقص عليها الفتيات الجاويات في ~~معرض 1889 كنزا مدهشا من النفحات الجديدة. ~~(3-1) كلمتنا على المحاضرة # تنحصر ms094 محاضرة الكاتبة في التهكم اللاذع على أهل مصر والشرق وبعض افتراءات سندحضها ~~بالدليل القاطع والتشنيع باللغة العربية وأنها لغة غنائية، وفي تصوير بعض البدع ~~المرذولة المتفشية بين بعض العوام وسلوك مغنينا. # عيرت الأمة المصرية جمعاء بعادات شاذة لا تتعدى فئة صغيرة من الطبقات السفلى ~~والغوغاء السوقة، وضل طرفها عن المدنية المصرية وأخلاق المصريين وكرمهم وتسامحهم ~~ونهضتهم الأدبية والسياسية التي أسمعت الخافقين ودوت بين المشرقين. # أمت هذه الكاتبة ديارنا منذ 22 سنة تقريبا ومن خجلها لم تذكر في أي موضع من ~~محاضراتها تاريخ رحلتها؛ لأنه من المضحكات أن يحدث المحاضر عن قوم شاهدهم قبل 22 ~~سنة، ولقد دققت البحث عن هذا التاريخ حتى عثرت عليه من عدة مصادر، ومما يؤيد ذلك أن ~~السيد توفيق البكري الذي شاهدت عنده مولد النبي # صلى الله عليه وسلم # مضى عليه نحو 20 سنة وهو ~~مريض ومقيم في الشام. # تعرفت بكثير من الأمراء والأعيان مثل ساكنة الجنان الأميرة نازلي فاضل والسيد ~~توفيق البكري وكثير غيرهما، فأكرموا وفادتها فلم تنظر عند هذه الطبقة الراقية حسنة ~~واحدة أو مثالا للنهضة والرقي. # وأول ما رمتنا به أننا قوم كسالى، وهذا وهم أو افتراء؛ لأن الكسلان لا يستطيع أن ~~يعيش أو يكسب قوته، ولا ننكر أن عندنا بعض شواذ كباقي الأمم، وإن نظرنا إلى الطبقة ~~السفلى عندنا والعمال رأيناهم متقنين لصناعاتهم من نجارة وحدادة ونقش وحياكة ~~وغيرها، وقد استعانت فرنسا نفسها بآلاف من عمالنا وأعجبت بمهارتهم، وغالب العمال في ~~بحبوحة من العيش يلبسون الجلاليب الحرير والمعاطف والأحذية والطرابيش الجميلة، ~~وكثير منهم يعرف مبادئ القراءة والكتابة، وبعضهم من الذين يشتغلون مع رئيس أجنبي ~~يتكلمون بلغة رئيسهم بعد سنة واحدة. # قضت الكاتبة ردحا من الزمن بين تونس والجزائر ومراكش، وتعودت لهجة المغاربة ~~الذين يسكنون كل حرف ويحذفون كل متحرك؛ فظهر لها أن المصريين في لهجتهم ~~يطيلون مد المتحركات حتى أصبح كلامهم غناء. # ثم انتقلت إلى اللغة دون أن تدري منها شيئا أو تطالع ما كتبه المستشرقون عنها من ~~غالب الإفرنج وأولهم الفرنسيون مثل: «رينان وسيلفستر ms095 دوساسي وهويار» وغيرهم من ~~الإعجاب بالعربية وفصاحتها وبلاغتها، ولا شك أنها لم تدر من ذلك شيئا حتى قالت: ~~إنها تقليد للإبل والخيل والشاء والكلاب والأسود. وهذا الكلام أشبه ببحران محموم أو ~~خلط مصروع، ومن الغريب أنها قالت: إن الصاد والضاد موجودتان في ثغاء النعاج، والحال ~~أن الطفل عندنا حينما يبلغ الثالثة يقلد أصوات الحيوانات ويقول: «ماء» حاكيا صوت ~~الشاة، وليس في هذا الصوت صاد ولا ضاد، فالكاتبة إذن أقل من الطفل فهما. # وقالت: إن القاف المزعجة التي تشبه سعال الخيل لا يتأتى للحلق الإفرنجي أن ينطق ~~بها، وهذا افتراء أيضا؛ لأن مالطة التي هي جزيرة إفرنجية يتكلم أهلها بقاف أضخم من ~~قافنا، وعندهم العين والحاء والخاء التي قالت عن أولاها أنها مأخوذة من هدير ~~البعير، وعن الأخيرتين أنهما من تنخم السباع الهائجة في الصحراء، والخاء أيضا ~~موجودة في اللغات الألمانية والنمسوية والإسبانية. # بنت الكاتبة على توهمها أن المصريين يطيلون من المتحركات أنهم يتكلمون بالغناء، ~~وأن كلامهم موزون ملحن، وعلى هذا الوهم أنشأت محاضرتها واستنتجت أن جميع الشرق وزن، ~~وأن هذا الوزن يضطرهم كالقضاء المحتوم إلى اقتراف أعمال التوحش من أكل النار ~~والزجاج والوقوف على اللهيب عند المصريين، وضرب الجباه بالسيوف والظهور بالسلاسل ~~عند العجم. # رأت خادمة أو فقيرة تحمل على رأسها آلة خياطة لتصلحها أو توصلها إلى منزلها ~~فتوهمت أنها مستخدمة ككثير من أمثالها في المحلات الإفرنجية، وموكلة بتوزيع هذه ~~الآلات، وهذا لا وجود له عندنا بالمرة. # وقالت: إنها رأت في مقبرة المسيحيين بالإسكندرية عجوزا مصرية في زي العجائز في ~~بلادها وبرأسها قبعة من نوع «الكابوت» وهذا وهم فاسد؛ لأنه لا توجد بمصر مسيحيات ~~مصريات غير الأقباط، وهن لا يلبسن القبعات ويستثنى عندهن التلميذات، فلا بد أن تكون ~~هذه السيدة سورية مسيحية، ومن آداب الكاتبة أنها شبهت هذه السيدة التي تبكي ابنتها ~~بالذئاب العاوية. # ثم انتقلت إلى الذكر وقالت عنه إنه مزعج، وفي الحقيقة إنه يزعجنا أكثر منها، وما ~~هو إلا بدعة دينية لا تتعدى الرعاع والبسطاء من القرويين، وإن ms096 الدين ليبرأ من هذه ~~العادات الممقوتة التي ابتدعها هؤلاء الرعاع. # أما الشعوذة التي يعملونها في الذكر فما هي إلا أعمال سيماوية ويازرجية يتعلمها ~~بعضهم عن بعض ليراءوا بها، ويظهروا بمظهر التقوى والكرامات؛ فتقبل أيديهم، وتنهال ~~عليهم من أمثالهم صنوف البر والخير، ويعدونهم من الأولياء أصحاب الكرامات. # كما أن حفلة عاشوراء بدعة من عوام العجم، وقد حققت ذلك الكاتبة حينما زارتهم في ~~صباح الحفلة بخان الخليلي فوجدتهم من فقراء التجار الذين يتجرون بالسلع ~~الحقيرة. # ثم قالت الكاتبة: «النوبة العصبية هي الكلمة الملائمة، وكل شيء في الشرق نوبة ~~عصبية صاعقة لا يمكن التنبؤ بما سيحصل قبلها ولا كشف أسرار ما سيقع بعدها.» فلو كان ~~عند الكاتبة شيء من التفكير والتروي وصدق الحكم لما حكمت على جميع الشرقيين بهذا ~~الحكم القاسي المضحك، وهل تؤخذ أمم عديدة بجريرة شاذة يقترفها بعض السفلة؟! # ثم سردت لنا نادرة للشيخ يوسف المنيلاوي تماثل نوادر عبد الحي، مع أننا لم نسمع ~~في حياتنا أنه أخلف وعده واستخف بالجموع التي تنتظره. # ومن تعصبها الجسيم الملموس حادثة المسرح الذي شاهدت فيه تمثيل روميو وجولييت ~~وقالت: إنه لشركة سورية مسيحية، وإن الذي كان يغني وله الدور المهم سوري مسيحي، وإن ~~اثنين من الممثلين قطعا التمثيل نحو عشر دقائق ليحاولا أن يغمدا الخنجر فلم يفلحا، ~~ثم خرجت عجوز من المسرح وبعد اللتيا والتي وقفت لإغماده، وإن كل المشاهدين ~~كانوا ينظرون إلى السقف أو إلى أرجلهم أو وراءهم بأعين كبيرة لأغراض أخرى، وإن ~~الحاضرين كانوا يحيون أنين «جولييت» بالضحك؛ كل هذا الهراء ملفق؛ لأن هذه الرواية ~~كانت تمثل قديما عند الشيخ سلامة حجازي ثم انتقلت بعد موته إلى مسرح ~~عكاشة. # ومعروف أن الشيخ سلامة ترك شركة إسكندر فرح وإخوته من ثلاثين سنة تقريبا؛ أي قبل ~~مجيء الكاتبة إلى مصر بثمان سنوات، وفي عهد زيارتها لمصر كان الشيخ سلامة وحده صاحب ~~المسرح، فأين إذن هذه الشركة السورية المسيحية الموهومة والممثل السوري الأول؟ وهل ~~يعقل الصبيان أن كل هذه الجموع لم يوجد فيها فرد ينظر ms097 إلى المسرح، فلم إذن جشموا ~~أنفسهم السهر والانتقال من أنحاء القاهرة وضواحيها البعيدة وأنفقوا ثمن التذاكر ~~وأجر الانتقال؟ # ولنفرض جدلا أن في هذا الافتراء أثر من الحقيقة يصدق على بعض أفراد يعدون على ~~أصابع اليد، فهل هذا خير أم ما يقترفه الباريسيون في أكبر التياترات، والذي وصفه ~~«فكتور مارجيريت» في رواية «المتفتية # la Garconne ~~» ~~أو «الغلامية» إن أردت مما أخجل أن أذكره للقراء. # نسائل أنفسنا: ما الذي استفاده هذا الجمع المحتشد من هذه المحاضرة السخيفة؟ وما ~~الذي استفادته الكاتبة من هذه السياحات والرحل في بلاد الشرق؟ وهل أنفقت الآن ~~الدنانير لتشتري بها بعض الفكاهات، وتنظر إلى عادات العامة من السوقة لتسجل عليهم ~~بعض نكات تضحك منها من يستمعونها؟ إنها إذن لصفقة خاسرة. # لقد كانت هذه المحاضرة البذيئة كمبرد سطا على شهرة هذه الكاتبة المموهة بالعسجد ~~الخلاب، فقضى على هذه القشرة وأظهر للعقلاء ما اختبأ تحتها من حديد أسود، وهذا شأن ~~المرأة في العالم لا تنبغ في شيء، وإن حصلت على بعض شيء من الفضل بالممارسة وطول ~~المزاولة، فلا يزال عقلها ضيقا لا يتعدى الدائرة التي اشتغلت بها. # ولو كان عندها شيء من الكياسة وحسن التفكير لشغلتها عيوب أمتها عن عيوب غيرها من ~~الأمم، وإن هذا الشرق الذي تعيره بالكسل والنوبة العصبية والوحشية وغيرها لأرقى ~~أخلاقا وأشرف عواطف، كما أنه يبرأ من المدنية الأوروبية المزيفة! # هل جهلت أن أمتها فاقت في الشهوات والملذات الحيوانية والتفنن في الموبقات عهد ~~الرومان؟ أما قرأت ما كتبه «إيميل زولا» و«بربو» و«فكتور مارجريت» والدكتور «بلز» ~~في المجلد الثالث من كتاب المعالجة الطبيعية صحيفة 752 مما تقشعر له أبدان ~~الشياطين؟ # أتناست أن لغتنا العامية التي حكمت عليها حكمين متناقضين في وقت واحد من أنها ~~وحشية وموسيقية أرق وأفصح من لغات أمتها العامية مثل: «الشارابيا» و«الجاسكون» ~~و«البروفنسال» وغيرها، مما لو قورنت برطانة زنوج أفريقيا وحمر أمريكا لفضلنا هذه ~~الأخيرة وعددناها أرقى وألطف منها؟ أتجاهلت أهل بريطانيا الفرنسية المتاخمة لبلدها ~~«هونفلور» وما هم عليه من الخرافات والسذاجة التي ms098 لم تفارقهم إلى الآن ولا تتفق مع ~~القرن العشرين؟ # أضحكت الكاتبة علينا سامعيها بنكاتها السمجة التي لفقتها، ولكني سأضحك القراء ~~بحادثة حقيقية حصلت بباريس تدلنا على ما بها من الآلاف المؤلفة من السخفاء ~~والأغبياء، وذلك بين طبقات الفنيين أنفسهم، وهي من الحوادث التي سجلت عليهم العار ~~والخزي. # نشرت مجلة «الألوستراسيون» الفرنسية في سنة 1910 مقالة ضافية بقلم الكاتب الكبير ~~«هنري لافدان» أحد أعضاء المجمع العلمي، وصف فيها معرض الصور الذي أقامه المصورون ~~«الأحرار» فقال: # شاهدت فيه ثمانين ألف قيأة لا صورة، وحاولت أن أفهم منها شيئا فما ~~استطعت، شاهدتها من الجهة اليمنى واليسرى فلم أفقه لها معنى، فسولت لي نفسي ~~أن أشاهدها من بين ساقي لأرى الصور معكوسة، وبهذه الطريقة فهمت بعضا من ~~معانيها التافهة. # حرض هذا القول بعضا من محرري مجلة «فانتازيو» الباريسية فتفننوا في إلقاء درس ~~زاجر فاضح لهؤلاء المغرورين. # رأى أحد هؤلاء المحررين جحشا لصاحب فندق حقير يحب السكر، فاذا أكله حرك ذيله ~~طربا وفرحا، فاستصحب هو ورفاقه محضرا من محكمة «السين» وذهبوا إلى الفندق ومعهم ~~لوحة من نسيج التصوير وأصباغ وريشة كبيرة وطلبوا من المحضر أن يدون بمحضره ما ~~سيعاينه، ثم علقوا اللوحة البيضاء في الحائط على ارتفاع يماثل قامة جحشنا، وربطوا ~~الريشة بذيله وكلفوا أحدهم بغمسها في الأصباغ كلما جفت، ثم أنشأ الآخر يلقم الجحش ~~قطع السكر، وطفق ذلك المصور الماهر ينقش صورته بذيله، وكلما أتم قطعة من اللوحة ~~حركوها فصور بحرا خضما تغرب فيه الشمس، وكتبوا عنوان الصورة «اضطجعت الشمس على ~~الأدرياتيك» وبقيت إمضاء المصور فاختاروا لها مرادفها الأدبي «اليبورون» فقسموه ~~شطرين، وقدموا الشطر الأخير فصار «بورونالي» ثم أرسلوا الصورة إلى المعرض، وقالوا ~~للقائمين بأمره: إنها لأحد الأحرار، فأعجبوا بها أيما إعجاب، ووضعوها في أرفع مكان ~~بصدر المعرض. # وبعد يومين من عرض الصورة فاجأتهم مجلة «الألوستراسيون» بمقالة شرحت فيها كيفية ~~تصوير هذه الصورة، وشفعتها بصورتين فوتوغرافيتين؛ إحداهما لمصورنا الفني حينما كان ~~مشتغلا بتصويرها، وأخرى لمحضر المعاينة الرسمي حتى لا يخالج القارئ شك في حقيقتها؛ ~~فكان ms099 هذا الدرس داعية لإقفال معرضهم وهربهم من الخزي والعار. ~~(4) رقص الأموات # عنوان لكتاب ظهر حديثا في عالم الأدب نمقته باللغة الفرنسية يراعة الكاتبة الفاضلة ~~إنشراح هانم شوقي، ولقد ابتهجت أفئدتنا أن رأينا كاتبة ثالثة تحسن الإنشاء الفرنسي، ~~فأصبحت تفتخر بها البلاد هي والسيدتان حرم محمد عارف باشا وأحمد خلوصي بك. # وقبل أن نخوض في تحليل هذا الكتاب يحسن بنا أن نسرد كلمة عن منشأ رقص الأموات. # ابتدأت الفكرة الخرافية لرقص الأموات في القرن الرابع عشر، وانتشرت في جميع بلاد ~~أوروبا تقريبا، إذ يعتقدون أن جميع الأموات ملك وصعلوك وشيخ وطفل وكاعب وحيزبون ~~يشتركون في رقص يرأسه الموت وبيده كنارة «كمنجة» من هيكل عظمي وقوسها قطعة من العظام، ~~ومغزاه أن القضاء يحتم الفناء على جميع الأحياء. # وتوجد أعظم الصور التي تمثل رقص الأموات بمدينة «بال» وهي من رسم «هولبن»، ومن الصور ~~المشهورة أيضا صورة «سان ماكلو». # وقد نظم كثير من الشعراء عدة قصائد لرقص الأموات، ووضع له مشاهير الموسيقيين ألحانا ~~عديدة أحسنها الذي ألفه «كاميل سان صانس» الموسيقي الفرنسي الذائع الصيت، ولحن به قصيدة ~~الشاعر الفرنسي «هنري كازاليس»، وإني أترجم منها فقرة توضح لنا فكرة رقص الأموات: # زيجه زيجه زيج، الموت يرقص ضاربا بعقبه رمسا، يوقع المنون على كنارته في ~~منتصف الليل لحن رقص، زيجه زيجه زاج، تزمجر ريح الشتاء والليل معتم والزيزفون ~~يئن، وقد انتشرت خلال الظلام الهياكل العظمية البيضاء، تعدو وتقفز تحت أكفانها ~~الكبيرة، زيجه زيجه زيج، كل مضطرب هائج، إذ تسمع طقطقة عظام الراقصين، ولكن ~~انفض الراقصون على حين غفلة وركنوا إلى الفرار، يدفع بعضهم بعضا حينما سمعوا ~~صياح الديك. # يتركب كتاب رقص الأموات من مقدمة وخمسة أقسام ونتيجة؛ فالأول لقدماء المصريين، ~~والثاني لليونان، والثالث للرومان، والرابع للعرب، والخامس للمعاصرين والحديثين. # نرى أن مقدمة الكتاب لا يمكننا أن نعتبرها مقدمة بمعنى الكلمة؛ لأنها لا تبلغ صحيفة ~~واحدة قالت فيها: # ليت شعري إلى أين تقودنا المدنية الحديثة؟ # هذا هو الغرض من ذلك الكتاب الأدبي والذي وضحناه في القسم الخامس ms100 حيث تحتد فيه ~~المناقشات بين خيالات المعاصرين والحديثين للوصول إلى المطلب الأسمى للإنسانية، وأنها ~~تأمل أن هذا الكتاب الوحيد في بابه الشامل لصفحات من الفلسفة والتاريخ يصادف قبولا ~~حسنا لدى الجمهور، وأنها تلتمس المعذرة لطائفة من أفكارها الشخصية. # بينت لنا الكاتبة الفاضلة أن كتابها أدبي فلسفي تاريخي، ولكننا نعترف للكتاب بقيمته ~~الأدبية الثمينة، وننكر عليه الفلسفة والتاريخ. # تنم سطور الكتاب على أدب وافر، وبيان ساحر، وعواطف متأججة وخيالات راقية، وشعور شريف ~~حي يئن ويرثي لآلام ترزح تحتها الإنسانية، وسهام طائشة تخرج من كنانة القضاء فتصيب ~~الكرام وتنبو عن اللئام. # إن ذاك الإنشاء ليس إلا شعرا منثورا من الشعر الوجداني الذي يمثل فيه الشاعر شعوره ~~وعواطفه، وهو من نوع القريض «رومانتيك» ومصداقا لقولنا نترجم للقراء جزءا من نتيجة الكتاب: # أيها النيل المحبوب! يا من هو سميري في آلامي، وسلواني في وحدتي، إنني أجد صدى ~~روحي حينما أنصت إلى صوتك، تنفحني أحيانا نغمات لججك الشجية بالسعادة والأمل، ~~ويخيل إلي وقت اضطراب أمواجك الهائجة المزبدة وتكسرها على الشواطئ أنها تبكي ~~ماضيا لن يعود إلى الأبد، أو أنها تحتج على مظالم الناس واستبدادهم. # ليت شعري! أتنسب هذه المظالم إلى الإنسان أم إلى الحروب؟ # إلى أي حظ تقودنا؟ ترى تلك الأيام حدادا دائما؟ # أو أنك لتنتقم من هذه الأعوام القاسية تريد أن نحقق صورته التي تموج في ~~فكرنا؟ # إذا نظرنا إلى شكل الكتاب وموضوعه وجدناه مجردا من الصبغة التاريخية؛ لأنه عبارة عن ~~سرد جمل صغيرة من معلومات تاريخية عامة حوت الغث والثمين والأوهام. # نرى المؤلفة تبكي على البرامكة وتستهجن عمل الرشيد، ولو أنعمت النظر في تاريخهم ~~ودرسته درسا دقيقا لعكست فكرتها، ولقد فاتها أن يحيى بن خالد البرمكي وولديه جعفرا ~~والفضل كانت بأيديهم جميع سلطة الخلافة وصيروا البلاد الإسلامية أشبه بمستعمرة فارسية، ~~واستولى البرامكة على جميع وظائف الخلافة الكبيرة وتملكوا أغلب أراضيها وضياعها ~~وقصورها، وامتصوا كنوز البلاد، ولو طال لهم الوقت بضع سنين لاغتصبوا الملك من الدولة ~~العباسية، كانوا يغدقون جزيل العطاء على الشعراء ليخفوا ms101 أعمالهم الشيطانية ويترنموا ~~بمديحهم ذرا للرماد في عيون السذج. # نجدها تمجد معاوية ولو عرفت حقيقته لصبت عليه أسوأ اللعنات، غرتها فتوحاته وما درت ~~أنه ما فتحها إلا جشعا وحرصا على الملذات والشهوات وحبا في الملك، كان واليا ~~بسيطا فاختلس الملك من الإمام علي وهو أقرب الناس إلى رسول الله # صلى الله عليه وسلم # وأعظم ~~المسلمين علما ودينا وورعا وزهدا، اتهمه بأنه قتل سيدنا عثمان بن عفان، وأشعل نار ~~الفتنة، وخرج يحارب جيوش الإمام علي وطفق المسلمون يتقاتلون ومات منهم الألوف، وكان ~~معاوية يتنعم في القصور الشامخة ويأكل الأطعمة الفاخرة ويلبس الديباج الموشى، والإمام ~~علي يلبس المسوح البالية ويأكل خبز الشعير من غير إدام. # ولقد صادفت أغلاطا عديدة في الأسماء العربية مثل: المعاوية، والجفر، والمهاوندي، ~~وأمية بن أبي الصلت بفتح الهمزة وكسر الميم، وأسحاق بفتح الهمزة، والبرمكي بفتح الراء، ~~ومالك بن أنس بضم الهمزة وسكون النون، والموطاي بدلا من الموطأ وهو كتاب الإمام مالك، ~~وابن بحذف الهمزة وكسر الباء كما يلفظها المغاربة، وغير ذلك. # وإذا بحثنا في الكتاب من الوجهة الفلسفية كما تدعي الكاتبة وجدناه عاطلا عنها ~~مطلقا؛ لأن سرد أعمال العظماء من الرجال على لسان الموتى لا يعد من الفلسفة. # ترى أن النتيجة التي ترجمنا للقراء نصفها لا ترتبط بالكتاب ولا يستنتج منها شيء يدل ~~على مرمى الكتاب، بل هي في حد نفسها قطعة شعرية بديعة منثورة، وكذلك اسم رقص الأموات لا ~~ينطبق على الكتاب، ويستنتج مما سردناه أن الكتاب أدبي محض، سلس العبارة، مكتوب بذوق ~~سليم يشهد ببراعة الكاتبة، وللكاتبة عدة مؤلفات غيره لم تطبع وهي: أولا: روح الإنسان ~~هي مقدار من كهرباء ومغناطيس الطبيعة المكتشفة. ثانيا: وحدة الدين واللغة والمنشأ. ~~ثالثا: تولد المركبات من الاختلاط أو النمو التدريجي للطبيعة. رابعا: مدة وجود روح ~~الإنسان، أو تأثير استدعاء الأرواح والتنويم المغناطيسي. ~~(5) كيف ننهض بالبيان؟ # قرأت منذ أيام بجريدة السياسة الغراء ما دار من المناقشات حول «أسلوب في العتب» ~~و«الجمال والحب»، ومقارنة الأستاذ الفاضل الدكتور طه حسين بين الرسالتين ms102 ، وما سرده من ~~طلي التحليل وصريح الحكم دون محاباة وخدمة للأدب، وقد ختم الموضوع بنداء للكتاب ~~لإبداء آرائهم في علاج ما انتاب أساليبنا الإنشائية من الأدواء، فلبيت نداءه مبديا ~~رأيي الضعيف فلربما صادف قليلا من الفائدة المنشودة. # يحسن بنا قبل وصف الدواء أن نشرح الداء ونستعرض بعضا من أنواع الكتابة الممقوتة في ~~وقتنا الحاضر، وهي تشمل نوعين: أحدهما للجامدين المحافظين على القديم، والثاني للحديثين ~~المحمومين. # دار الفلك آلافا من دوراته وتغير وجه الأرض وما تقله من كائنات ومعالم وآثار سائرة ~~كل يوم في سبيل الاستحالة والتجدد والارتقاء إلا الجامدون لم يتزعزعوا عن ~~عقيدتهم. # درس هؤلاء على أساتذة من شاكلتهم؛ فسمموا عقولهم بحب القديم، وقتلوا خيالهم وعواطفهم، ~~وأرشدوهم إلى الكتب القديمة التي تماثل مشاربهم، فأغرقوا لهم في مدحها، وصحبوهم إلى ~~مجالس الجامدين من أمثالهم فاتخذوهم أصدقاء، وظلوا يأتمرون ليل نهار إلى عبادة القديم ~~والاستهزاء بكل حديث، وسرى هذا الداء في دمهم فلا سبيل إلى شفائهم وانتشالهم من ~~الضلال. # نلاحظ في الجامدين أنهم إذا أرادوا أن يكتبوا شيئا استملوا محفوظاتهم من الرسائل ~~والمقامات والأشعار السخيفة التي حفظوها عن ظهر قلب، أو قلدوها بتغيير طفيف دون أن ~~يعرفوا لهم خيالا يناجونه، أو وجدانا ينصتون إليه. # ومن هؤلاء فئة حفظوا كثيرا من السجعات الموسيقية التركيب الخالية من المعنى والمبنى، ~~مثل: «نسيم الصبا»، و«لوعة الشاكي ودمعة الباكي» وما شاكلهما، فيرتبونها بشيء من الحذق، ~~وهؤلاء لا يخدعون إلا السذج من الجامدين، وما فتئوا معروفين بجمودهم عند الأفاضل من ~~الكتاب. # أما الفريق الثاني وهم الحديثون المحمومون فكثير منهم يرصون الجملة فوق الجملة وكل ~~منها في سطر على نمط الشعر، وهي على انفرادها أو في مجموعها كأنها بحران مصروع أو هذيان ~~محموم. # ابتدأ ظهور هذا النوع منذ بضع سنين في مجلة السفور، ثم انتشرت جراثيمه وانتقلت إلى ~~بعض المجلات الأخرى انتشار الطاعون، ويا ليته اقتصر على الصحافة بل طبعت منه كتب ~~وأهدي إلي اثنان منها على كره. # ومن هذا الهذيان نوع آخر لا يتعدى الحب والألم والفراق ms103 والروض والندى والشفق يتخلله ~~شيء من المداعبة الباردة والفكاهات السمجة، وإن فتشت فيه لم تجد جملتين مرتبطتين بعضهما ~~ببعض، أو معنى مسلسلا، أو خيالا مفهوما. # تلك أمثلة عرفنا بها أدواء بياننا القتالة، ولا أرى سبيلا لاستئصال شأفتها إلا إذا ~~راعينا الأمور الآتية: # إتقان اللغة العربية وإحراز جميع ما يحتاجه الكاتب من الألفاظ التي تفي في التعبير عن ~~كل معنى يريده، مع تجنب المتنافر منها ونبذ المبتذل المتداول عند العامة؛ بشرط معرفة ~~مدلول كل لفظ بالضبط والفروق بين المترادفات، وبذلك تضع كل كلمة في الموضع اللائق ~~بها. # وإني أرى رأي الدكتور طه حسين في التوسط بين القديم والحديث حتى تحيا لغتنا، وبذلك ~~نلم بطرفيها ولا نبتعد عن أحدهما، ويسهل علينا فهم أسرارهما. # والاعتناء بصوغ التراكيب صوغا عربيا متينا، وخير الأساليب القرآن والحديث والشعر ~~في الجاهلية وصدر الإسلام. # ومراعاة الدقة في الموضوع فلا يكون الكلام إلا بمقدار؛ لأن الثرثرة واللغط والحشو ~~الذي لا معنى له، كل ذلك من الأمور التي تهوش على القارئ وتبعده عن فهم الموضوع، وتكون ~~كضباب كثيف أمام النواظر يحول بينها وبين حقيقة المرئيات. # وتجنب المحسنات البديعة؛ إذ هي تزويق للألفاظ، وتشويه للمعاني، وتقيد للفكر ~~والخيال. # والابتعاد عن السجع إلا ما جاء عفوا دون تكلف في بعض الأحيان، ومراعاة انسجام الجمل ~~ووزنها الموسيقي ليلذ وقعها للآذان. # وإن أحرز الكاتب جميع ما سردناه ولم يوهب ذوقا سليما وحسا مرهفا وعقلا كيسا ~~يراقب شعوره ويراجعه ويرشده إلى السداد والصدق؛ لا يوفق إلى إجادة البيان. # والذوق الوهبي وحده لا يبلغ أوج الرفعة إلا إذا ضم إليه الذوق الكسبي، وهذا الأخير ~~يكتسب بإحراز نصيب يفي بالحاجة من كل علم، وكذلك فهم أسرار الفنون الجميلة من كثرة ~~الاطلاع على منشآتها، وقراءة ما كتب فيها من التحاليل والنقد، ولا ننسى أن علم النفس هو ~~من ألزم العلوم للكاتب. # إن طيف الشعر ينفر من الجلبة والجماعات والهموم والتعب وانحراف الصحة وامتلاء البطن، ~~فإن أردت مناجاته فلتكن في البكور قبل استيقاظ من حولك وأنت منتعش ناس كل ms104 شيء من ~~أعمالك، ولتتفرغ عن كل حائل يحول بينك وبين نفسك، وعندها امتشق يراعك وتجرد من محفوظاتك ~~ومعلوماتك واستمل خيالك وناج وجدانك، ودون ما يوحيانه إليك دون أن تفكر في إتقان ~~إنشائك حتى تنتهي من موضوعك، ثم راجع ما كتبته لتنقح كلمة أو تقدم أو تؤخر غيرها، ~~وتيقن أن ما أوحي إليك في المرة الأولى خير مما تتكلفه في الثانية. # ومن أهم أركان الإنشاء دقة الملاحظة والاستنتاج، وبهما يصل الكاتب إلى إتقان الوصف ~~وتصوير الأشياء للقارئ تصويرا يقربها من ذهنه كأنه يراها رأي العين، كما أنه يتوصل ~~بهما وبمعلوماته البسيكولوجية إلى فهم طباع الإنسان وأخلاقه وذوقه ومعلوماته بملاحظة أي ~~شيء من آثاره ككتابته وتصويره ونحته ومقتنياته وأحاديثه ومعاملاته. # ويجب على الكاتب أن يرتب الفكرة ويوضح المغزى الذي يرمي إليه، وأن يكون الموضوع ~~متماسك الأطراف، متصل الفكرة، يسود الانسجام على جميع أجزائه. # هذا ما عن لي من الملاحظات، وحبذا لو عالج الكتاب هذه الأدواء وحاربوا تلك البدع ~~السخيفة حتى ترتقي عندنا ملكة البيان ونحيي لغتنا ونرجع إليها مجدها القديم. ~~(6) بين القديم والحديث «جواب على استفتاء الكاتب الكبير ~~الأستاذ عبد العزيز البشري» # مضى ردح من الزمن لم نتمتع فيه بمطالعة درر أستاذنا الأعظم الذي كان ينشرها في ~~السياسة الأسبوعية بعنوان «في المرآة»، ولقد نغصني ما قرأته من شكواه من مرض انتابه، ~~وإني أدعو الله أن يمتعه بالصحة والعافية واطمئنان البال والرفاهية؛ ليزيد في إنتاجه ~~ويستمر في السلسلة الظريفة الرشيقة التي طالما شنفت أسماعنا ورنحت أعطافنا من ~~الإعجاب والطرب؛ لدعابتها اللذيذة وفكاهاتها الممتعة، ورشاقة أسلوبها الموسيقي ~~الساحر. # تساءل الأستاذ في مقاله الذي نشره في ملحق السياسة الأخير عن ماهية القديم والحديث ~~ومميزاتهما وفوارقهما، ولا أشك في أن ذلك من تجاهل العارف، وتحريض ظاهر لمعركة قلمية ~~يثيرها الكتاب ثم يبسم لهم الأستاذ من بعيد بسمة حافلة بمختلف المعاني. # ولربما انعكست الآية واستفز الأستاذ رد لم يرق له، واحتدم الجدال فكتب بدل الرد ~~ردودا، فهي إذن مباركة من الوجهتين ومفيدة في الفرضين. # ليت شعري! هل ms105 أنا أول من دفعه لجاجه واستحثه تطلعه حتى استهدف لنكتة لاذعة أو لتهكم ~~قارس؟ وقد يكون الدافع لي استدراج الأستاذ إلى الخروج إلى الميدان بعد عزلته الطويلة ~~وحرماننا من شيق درره وظريف عباراته ورشيق إشاراته. # ولا يخفى على سيدي العزيز أن الحديث الشائع في الشرق كله مستمد من الأدب الغربي ~~الحديث، ولكن هناك فريقا أساء استعماله لضعفه في العربية وركاكة تعبيره وسوء ~~تراكيبه، وإنتاج هؤلاء هجين أقرب في الشكل والهيئة إلى الأسلوب الإفرنجي. # وأما الفريق الآخر ذو القدم الراسخة في العربية والذوق السليم فإنه استعان بطرق ~~التفكير الحديث فقط، ولكنه ما فتئ محافظا على أسلوبه العربي المتين الصميم، فترى ~~تعبيره حديثا في التفكير قديما في الصوغ ومتانة التراكيب، وإني لا أغلو إن قلت: إن ~~الدكتور هيكل بك هو حامل لواء الإنشاء الحديث في القطر المصري؛ بل في جميع الأقطار ~~الناطقة بالضاد. # بقي علينا أن نقول كلمة في طريقة التفكير في الأدب الحديث وقانون الكتابة الذي يجب أن ~~تراعى حرمته بكل دقة حتى لا يشط الإنسان ويخرج من منطقته أو يغير طابعه الذي وسم ~~به. # يجب على الكاتب قبل كل شيء أن يعلم أن الإنشاء لا بد أن يكون في الوقت نفسه واصفا ~~معبرا؛ بمعنى أنه يكون دقيق الوصف صادقه ومعبرا عن جميع أنواع الشعور التي يظهر أثرها ~~في نفس الكاتب حينما يطرق موضوعه، كما يصور المصور الماهر صورة جميلة لشخص دقيقة الشبه ~~صادقة الملامح تقرأ على محياها جميع العواطف التي كانت بادية عليه وقت التصوير. # ويلزم الكاتب مراعاة الحقيقة والابتعاد عن الغلو، وأن يكون دقيق الملاحظة ليتمكن من ~~إصدار حكم صادق، ويجب عليه أن لا يعرقله في إنشائه تقيده بتنميق لفظ أو افتتانه بشيء من ~~المحسنات البديعية السخيفة أو السجع المرذول واستملاء الذاكرة لتقليد شيء من محفوظاته ~~التافهة. # وهذه القوانين التي سردناها يراعيها الموسيقيون والمصورون والمثالون؛ لأنهم كلهم ~~فنانون ويسعون لغاية واحدة ولو اختلفت طرق التعبير عند كل منهم، فذاك يعبر بنثره ~~وقريضه، والآخر يعبر بريشته وأصباغه، وغيره بنغمه وألحانه ms106 ، والمثال بأزميله ~~ومطرقته. # نرى بيتهوفن عطارد الموسيقى يدوس على بعض القواعد إن كانت في طريقه حجر عثرة أو نبا ~~ذوقه عنها، فهو يستمر في تعبيره القوي ووصفه الشائق دون أن يتقيد بتنميق سخيف؛ فلذلك ~~نرى موسيقاه تصل إلى الأفئدة قبل غيرها وتذكي ما خمد من عواطفها الهاجعة. # ونشاهد في تصوير رمبران نفس هذه المحاسن؛ لأننا حينما نلقي نظرة على صورة «درس ~~التشريح» مثلا نرى أستاذ التشريح وأمامه ميت شق ذراعه ثم ابتدأ يحاضر الأطباء ويشرح ~~لهم دقائق العلم، فكأنك تسمع نبرات صوته وترى إشارته والكل مرتسم على وجهه الإصغاء ~~التام، وهذه الصورة من أفخم الصور الناطقة. # أما القديم فلا يراعي شيئا مما سردناه، بل يستعين بالذاكرة فيستعرض ما قاله ~~الكتاب في الموضوع، وينتخب منه شيئا يحوره بعض التحوير، ثم يزوقه بشيء من ~~المحسنات البديعية الممقوتة أو يقفيه بسجعات مرذولة، ونراه يغلو في تشبيهه غلوا ~~سخيفا، ويقول: إنه علا السماك، وإن لمس الحرير يدمي بنان محبوبه، وخطرات النسيم تجرح ~~خديه، أو يدخل في قافية الهندسة، ويقول: هب أنك مركز الدائرة أو ضلع المثلث، ثم ينتقل ~~من هاته القافية إلى غيرها من قوافي العلوم والفنون كما ينتقل الحاج سيد قشطة من قافية ~~الترامواي إلى قافية الوابور، وزعيم القديم معروف وأخلاقه معروفة ومسجلة في بطون الصحف ~~فلذلك لا أذكر اسمه، ومن نوادره الغريبة أنه كتب إلي فيما مضى خطابا كله بذاءة وسوء ~~أدب بإمضاء يوسف قندلفت طالب بالمدارس الثانوية. # هذا رأيي القاصر، وعسى أن يتفضل الأستاذ ويكون قد خرج من صمته الطويل، وأن يمن عليه ~~الله بالعافية ليمتعنا بلآلئه الفريدة وأسلوبه الموسيقي الفتان. ~~(6-1) رد الأستاذ البشري # اطلع الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري على هذا المقال فبعث إلى الأستاذ حجاج ~~بالرد الآتي: # حلمية الزيتون في 22 نوفمبر سنة 1933 # سيدي الأستاذ الأديب العظيم # أحمد الله تعالى إليك، ولقد وفد علي كتابك الكريم، وأنا في بعض الصحوة ~~من الحمى التي تغشاني من بضعة أيام، فاهتبلت هذه الفرصة وتلوت مقالك تلاوة ~~إمعان وجد فكر، ووالذي بيده نفسي، ما ms107 عدوت في هذا الباب ما في نفسي، وإن ~~كنت أنت أنور بيانا، وأدق في الفروق تعبيرا، فنحن إذن يا سيدي متفقان حق ~~الاتفاق، ولعل سيدي يذكر أنني قلت في ملحق السياسة ما معناه: «إن الأدب ~~الذي لا يترجم عن البيئة التي يخرج فيها ليس أدبا، وإن الأديب الذي لا ~~يؤدي ما يختلج في نفسه هو وما يتنزى عن عواطفه هو ليس أديبا.» # بقي أن ألقي على سيدي الأستاذ هذا السؤال: هل بقي في مصر ممن يقدر الناس ~~لهم في الأدب قدرا من يفكر ويصور على ذلك الأسلوب الذي عابه الأستاذ وهجنه ~~بحق؟ # أبقي من مشيخة أهل الأدب من لا ينظر إلى الحياة إلا بعيني بدوي، ومن لا ~~يفكر إلا برأس أموي، ومن يعمى عن كل ما يحيط به من أسباب الحياة؟ # هل بقي في مصر من تزدهيه طائفة من ~~الجمل وشتى الأسجاع فيجعل كل همه في تلفيقها من هنا وهناك ويستكرهها كلها ~~في سلك واحد وتخرج موضوعا والسلام؟ لا أظن يا سيدي، فإن وجد فرد أو أفراد ~~فهم على شرف الفناء. # وإني يا سيدي أشكرك أجل الشكر على ما نحلتنيه من فضل لا أعرفه لشخصي، ~~وأسامحك على ما قدرت في من إيجاع وإقذاع، والسلام عليك ورحمة ~~الله. # المخلص # عبد العزيز البشري ~~(7) تطور الأدب العربي وموضعه في مصر اليوم «ملاحظات وآراء» # لقد شاقني المقال القيم الذي ألقاه صديقنا وأستاذنا الكبير الشيخ عبد العزيز البشري ~~على زملائه حضرات أعضاء «نادي القلم المصري»، ولقد سرد لنا في لمحته تطور الأدب في مصر ~~في مختلف العصور، ووصف سيره وخطاه، وكيف تدرج إلى الرقي، ولا يسعنا إلى أن أسدي إليه ~~آيات الشكر والثناء على اهتمامه بالأدب وما يبذله من العناية في تشخيص أدوائه ووصف ~~العلاج الناجع لشفائه، غير أنني لاحظت عليه بعض أحكام قاسية ينقضها في نفس المقال، وإني ~~أذكر تلك المواضع بنصها لنشرك القراء معنا في الرأي: # أدركت مصر في عصر إسماعيل حظا محمودا من الحضارة؛ فشاعت فيها العلوم، ~~واستوثق الاتصال بينها وبين بلاد ms108 الغرب التي كثر روادها من المصريين، وانحدر ~~العديد الأكبر من الغربيين إلى هذه البلاد سياحا ومتوطنين، كما نزحت إليها ~~طائفة من أعيان الأدباء والكتاب السوريين. # لهذا وبذلك جعلت الثقافة العامة تتلون بلون جديد، وجعلت الأقلام تستشرف بقدر ~~إلى أسباب الحضارة الحديثة، ولا يفوتكم أن المطالب العسكرية في ذلك الحين لم ~~تصبح مما يستغرق هم القائم، بل لقد انبسط منه فضل كثير للآداب والفنون، وكان ~~أول ما انبعث في هذين البابين الصحافة الشعبية والتمثيل. # اعترف أستاذنا في هذه الجملة اعترافا صريحا لا يخالجه أدنى شك بأن الفضل في نهضة ~~الأدب راجع إلى اختلاط المصريين بالغربيين والاستنارة بحضارتهم وآدابهم وفنونهم ~~وعلومهم، فما باله في موضع آخر لا يعترف لشعراء الغرب بفضل، وأخذ يقدح فيما عرب من ~~الأدب الغربي بلا استثناء، إذ قال: «وقام بإزاء هؤلاء جماعة من شبابنا قد استهلكهم ~~الأدب الغربي، فلا يرون أدبا إلا ما قاله شكسبير وبيرون وأضرابهما، وأدوا إلينا طريفا ~~من هذا النظم في لغة ليس منها عربي إلا مفردات الألفاظ، ألفاظ يكاد المرء يشهد ما بينها ~~وبين ما قسرت عليه من المعاني من التصافع بالأيدي والتراكل بالأرجل، ولولا ما يرتبطها ~~من مثل قيد الحديد لطار كل منها إلى عشه؛ فخرج لنا من ألوان التعبير ما لا يؤاتي الذوق ~~الشرقي ولا يستريح إليه الطبع العربي، وجعل كذلك جماعة ممن تعلموا في بلاد الغرب ~~يعالجون في العربية إصابة المعاني الظريفة التي لامسها حسهم وهدتهم إليها أسباب تفكيرهم ~~فعجزت اللغة، أو على الصحيح عجز علمهم باللغة عن حق أدائها؛ فخرج لهم الكلام إما غامضا ~~مبهما وإما عاميا أو ما يدنو إلى العامي.» هل فاتك يا أستاذي العزيز أنك قد خانتك ~~الذاكرة وكتبت مطلع مقالك على النمط الفرنسي، إذ قلت: # وأخيرا فهذا نادي القلم. # أنسيت أن مقالاتك الشائقة «في المرآة» ليست إلا نوعا من الأدب الأوروبي المسمى # Humoristique ~~، وهو نوع من الإنشاء الفكاهي ~~الكاريكاتوري الذي يفيض بالتهكم الظريف والسخرية اللطيفة، ألا يتملك شعورك وينسيك آلامك ~~الدكتور هيكل بك حينما تقرأ تعريبه «للبوذية ms109 » للكاتب والفيلسوف الفرنسي إيبوليت تين؟ ~~ألا تتهلل بنشوة الإعجاب وتنتقل إلى عالم الخيال والأحلام حينما تقرأ القضاء والقدر ~~وروايات شكسبير لشاعر القطرين خليل بك مطران أو البؤساء لحافظ بك إبراهيم؟ # وأظنك لا تجهل أن المرحوم شوقي بك درس الآداب الفرنسية في باريس ولولاها لم يتوج في ~~دولة القريض، ألا تهتز طربا واستحسانا حينما تقرأ مذكرات مسافر للأستاذ الجليل الشيخ ~~مصطفى عبد الرازق؟ وهو الرقة المجسمة ومثال الرشاقة والظرف، وهو مدين بمواهبه هذه إلى ~~اللغة الفرنسية والأعوام التي قضاها بين أبنائها ورحله العديدة بعد أوبته. # إنني أشد منك تعصبا للعرب والعربية ولكنني لا أجرؤ أن أقول: إن الأدب العربي يفوق ~~الأوروبي، وإن في شعراء العرب من يفضل على جوت وشلروهين ولا مارتين وهوجو ودوفني ~~وشكسبير وملتون ولييوباردي وتاسو وغيرهم. # لا أنكر أن شعرنا العربي يفوق شكلا ووزنا الأوروبي ببحوره الموسيقية الوزن وقافيته ~~المتحدة في القصيدة من أولها لآخرها، أما الأوروبي فلا يقيد بوزن موسيقي بل بعدد ~~المقاطع واتحاد القافية في كل شطرين. # لقد لمح سيدي الفاضل بأن النهضة الأدبية ابتدأت في عصر خديو مصر إسماعيل باشا، ~~ولكنها في الحقيقة ابتدأت قبله بزمن بعيد في عصر المماليك لظهور السيد إسماعيل الخشاب ~~والشيخ حسن العطار، وكان أولهما لا يقل عن شعراء الطبقة الأولى من عصرنا، وقد ظهر في ~~عهد محمد علي باشا الشيخ شهاب الشاعر الموسيقي صاحب السفينة وله ديوان كبير، والسيد علي ~~أفندي الدرويش، وظهر في عهد الخديو سعيد باشا الشاعر العبقري محمود أفندي صفوت ~~الساعاتي، وكل من ذكرناهم يعدون طلائع النهضة الأدبية في مصر، ويحق لهم كل فخار وكل ~~مجد لكونهم وجدوا في زمان مظلم حالك ساد فيه الجهل وسوء الخلق. # ولقد وجه أستاذنا الكبير نداء إلى الأمة لتستخلص لها أدبا خاصا عليه طابعه ~~المصري، أو توجد له أسلوبا يميزه عن غيره من آداب الأمم الناطقة بالضاد، ولكنني أرى ~~صعابا جمة تعترض أمانيه. # إن الحضارة الأوروبية قد اكتسح تيارها العالم حتى انضوى تحت لوائها طائعا مختارا ~~حينما تذوق مناهل علومها وآدابها ms110 وفنونها وصناعاتها، وتحقق أنه في حاجة ماسة إليها ~~وعليها قوام حياته الراقية، درس كثير من شبابنا في إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ~~وأمريكا، وتشبع كل فريق بآداب اللغة التي درسها، وأصبح تفكيره وليد تربيته فلا يستطيع ~~أن يحيد عما نشأ عليه، فإن أهمل لغته العربية ولم يحرز منها نصيبا وافرا كان أجنبي ~~التفكير أجنبي الأسلوب، وهناك الطامة الكبرى. # إن طريقة تعليم اللغة العربية في مدارسنا غير مجدية وينقصها أشياء كثيرة، ولو أجاد ~~الطالب دراسة لغته لما تورط في الأسلوب الإفرنجي ولما عرب الآداب الأوروبية كلمة كلمة ~~حتى يشوهها بتراكيب غثة ركيكة، ولو صرف الطلبة قليلا من أوقات فراغهم في مطالعة كتب ~~الأدب القيمة وتفهم ما يستعصي عليهم فهمه بدلا من مطالعة الروايات السخيفة الركيكة ~~والمجلات التجارية المنحطة لما تدهور مستوى ثقافتهم اللغوية إلى هذا الدرك ~~المخجل. # وعسى أن يحقق الله آمال أستاذنا في الأدب المصري حتى يرقى ويطوف بالبلاد الأجنبية بعد ~~ترجمته كما ترجم شعر تاجور إلى أغلب اللغات الأجنبية وطبع نحو العشرين، وكان له المحل ~~الأرفع في كل مجتمع وناد، وكما سبقه إلى ذلك شعراء الفرس مثل: حافظ والفردوسي وابن ~~الخيام. ~~(7-1) رد الأستاذ البشري # تعقبني صديقي الأستاذ الجليل القدير محمد كامل حجاج في الخطاب الذي ألقيته في أول ~~اجتماع «لنادي القلم»، فأخذني أولا بالتناقض بين قولي في بعض هذا الخطاب: # أدركت مصر في عهد إسماعيل حظا محمودا من الحضارة فشاعت فيها العلوم، ~~واستوثق الاتصال بينها وبين بلاد الغرب التي كثر روادها من المصريين، ~~وانحدر العديد الأكبر من الغربيين إلى هذه البلاد سياحا ومستوطنين، كما ~~نزحت إليها طائفة من أعيان الأدباء والكتاب السوريين. ~~«بهذا وبهذا وبذلك جعلت الثقافة العامة تتلون بلون جديد، وجعلت الأقلام تستشرف ~~بقدر إلى أسباب الحضارة الحديثة، ولا يفوتكم أن المطالب العسكرية في ذلك الحين لم ~~تصبح مما يستغرق هم القائل، بل لقد انبسط منه فضل كبير للآداب والفنون، وكان أول ما ~~انبعث في هذين البابين الصحافة الشعبية والتمثيل.» # ثم قولي في مقام آخر من الخطاب: # وقام بإزاء ms111 هؤلاء جماعة من شبابنا قد استهلكهم الأدب الغربي، فلا يرون ~~أدبا إلا ما قال شكسبير وبيرون وأضرابهما، وأدوا إلينا طريفا من هذا ~~النظم في لغة ليس منها عربي إلا مفردات الألفاظ، ألفاظ يكاد المرء يشهد ما ~~بينها وبين ما قسرت عليه من المعاني من التصافع بالأيدي والتراكل بالأرجل، ~~ولولا ما يرتبطها من مثل قيد الحديد لطار كل منها إلى عشه، فخرج لنا من ~~ألوان التعابير ما لا يؤاتي الذوق الشرقي، ولا يستريح إليه الطبع ~~الغربي. # ووجه التناقض بين هذين الكلامين عند صديقي الأستاذ حجاج أنني اعترفت في الأول ~~اعترافا صريحا لا يخالطه شك بأن الفضل في نهضة الأدب - في العصر الحديث طبعا - ~~راجع إلى اختلاط المصريين بالغربيين والاستنارة بحضارتهم وأدبهم وفنونهم وعلومهم، ~~بينا أنا في الكلام الآخر لا أعترف لشعراء الغرب بفضل واحد ... إلخ. # وبعد فما بي إلا أن أرجو صديقي الأستاذ حجاجا أن يعيد النظر ويثبت التفكير في ~~كلامي ليخرج له - إن شاء الله - متسقا متواردا لا أثر فيه لتناقض ولا لتهافت ولا ~~لاختلاف، ذلك بأنني لم أعرض البتة لشعر الغرب ولا لشعرائه حتى أشيد بذكرهم أو أنتقص ~~أقدارهم، غير أنني زعمت أن دخول الحضارة الحديثة وشيوع أسبابها في عصر إسماعيل، كان ~~لذلك أثره في تهذيب الأقلام والالتفات إلى المعاني الحديثة التي تلابس حاجات العصر ~~... إلخ. # أما أن يفهم صديقي الأستاذ أنني أغض من شعراء الغرب، وأنتقص من قدر شعرائه لمجرد ~~عرضي لطور من الأطوار التي جاز بها تاريخ الأدب في العصر الحديث، فذلك من التعسف ~~الذي لا أرتضيه لمن كان له مثل فضل الأستاذ حجاج، وكان له في الأدب خطره. # يا لله! ما ذنب شعراء الغرب إذا تهالك على أشعارهم في فترة من الزمن فأدوا إلينا ~~من معانيهم في صور لا ترضي الذوق الغربي ولا يستريح إليها الطبع الشرقي؟ # وإنني أؤكد لك يا سيدي، وأنت سيد العارفين، أن ابن المقفع لو كان ترجم حقيقة ~~كليلة ودمنة عن إحدى اللغات الهندية ثم ترجمها على هذا النحو الذي هتفت به ms112 في ~~خطابي؛ أي إنه ترجم لفظا بلفظ، وفسر عصي المعاني الهندية على عصي الألفاظ العربية ~~لما أدرك شأو هذا الكتاب في سخفه وإسفافه كتاب آخر! # وأخيرا، فلقد أحسن إلي الأستاذ حجاج، إذ هيأ لي الفرصة لأقرر أنه كان من ~~النواظير الأوائل الذين جلوا على أبناء العربية صدرا جليلا من بلاغات الغرب في ~~يسر وفي إحسان. # بقي أن صديقي الأستاذ حجاج يخالفني في أن نهضة الأدب في العصر الحديث إنما ابتدأت ~~من أواسط عصر إسماعيل، ويحاجني بأسماء شعراء وكتاب نجبوا من عهد الحملة الفرنسية ~~إلى عصر إسماعيل، وإني ما برحت مصرا على رأيي من أن من ذكر وغيرهم إنما كانوا ~~خاتمة للعصر التركي لا طلائع للعصر الجديد. # وما كنت بهذا لأغمطهم فضلا ولا لأترهم حقا، فحسبهم أنهم أدوا رسالة الأدب ~~وأحسنوا بقدر ما يتهيأ الإحسان لمن عاش في عصرهم، وليس يطلب منهم أكثر من ذلك، ومن ~~العسف الشديد أن نقارنهم بأمثال صبري وشوقي وحافظ والمطران وغيرهم ممن أدركوا هذه ~~الحضارة الواسعة التي ألهمتهم ما كتمته عمن تقدمهم من الغابرين. # أسأل الله تعالى أن يلهمنا الصواب ويهدينا جميعا سواء السبيل. # عبد العزيز البشري ~~(8) رواية عائدة # السبب في وضعها، واضع الملخص ومنشئ الموضوع وناظمه بالإيطالية وملحنها، أول مسرح ~~مثلت فيه، موضوع الرواية، موسيقاها، احتفاء إيطاليا وفرنسا وغيرهما بملحنها، إساءة ~~مريت باشا إلى مصر وتحقيره المصريين أمام ملوك أوروبا. # شاع خطأ بين الناس أنه لما أتم خديو مصر إسماعيل باشا حفر قناة السويس دعا ملوك ~~أوروبا وملكاتها وأمراءها لحضور الاحتفال الفخم بافتتاح القناة، وأراد إتماما لمظاهر ~~الإجلال وأسباب السرور أن يفتح الأوبرا الخديوية التي كانت وقتئذ تامة البناء والأثاث ~~والمعدات ليزيد مدعويه سرورا وإعجابا، وكان ذلك في 17 نوفمبر سنة 1869. # والحقيقة الخالصة أن الأوبيرا التي مثلت في حفلات افتتاح القناة هي ريجوليتو، وأما ~~عائدة فقد مثلت بعد هذا الاحتفال؛ أي في 24 ديسمبر سنة 1871. # فأشار على مريت باشا مدير الآثار المصرية بإنشاء موضوع مصري فأنشأ له موضوعا ~~خياليا ملخصا، وأرسله إلى «فيردي» الموسيقي الإيطالي الشهير، فطلب ms113 من الخديو مائة ~~ألف فرنك فنقدها. # وكان بالمصادفة المسيو «كاميل دولوكل» مدير مسرح الأوبرا كوميك سابقا في مدينة ~~«بوسينو» التي كان فيها وقتئذ «فيردي»، فكلفه هذا الموسيقي الشهير بأن يكتب له الموضوع ~~طبقا لملخص مريت باشا فكتبه نثرا، ثم عهد بترجمته ونظمه إلى الإيطالية إلى المسيو ~~«جيسلانسوني» ثم لحنها فيردي، وقد ترجمت إلى الفرنسية حينما مثلت بباريس. # مثلت هذه الرواية لأول مرة بمسرح الأوبرا الخديوية في 24 ديسمبر سنة 1871، ويعد ~~النقاد هذه الأوبيرا هي وريجوليتو وفلستاف أعظم ما كتبه المؤلف، وقد حازت هذه الرواية ~~ليلتئذ إعجابا عظيما وحماسة شديدة، وأجاد تمثيلها وغناءها نخبة من الممثلين مثل: ~~ستيلير وكرستا وميديني ومونجيني وشهيرات الممثلات مثل: بوتسوني أناستازي وجروسي. # وحينما ابتدئ بتمثيلها في ميلانو بإيطاليا بمسرح «لاسكالا» في 7 فبراير سنة 1872 ~~صادفت نجاحا عظيما وإقبالا باهرا، واستدعى الحضور فيردي على المسرح اثنين وثلاثين ~~مرة، وقدمت الأسر الميلانية هدية شائقة لفيردي وهي صولجان من العاج ووسام على شكل نجمي ~~من الماس وبوسطه اسم عائدة بالياقوت وفيردي بالأحجار الكريمة. # وقد ابتدئ بتمثيلها بباريس في المسرح الإيطالي باللغة الإيطالية في 22 أبريل سنة ~~1776، وأول تمثيل لها باللغة الفرنسية كان في هذا المسرح في أول أغسطس سنة 1878، ~~وابتدءوا بتمثيلها في أوبرا باريس في 22 مارس سنة 1880، وقد دعي «فيردي» ليقود بنفسه ~~الموسيقى فلبى الدعوة بارتياح، ولم ينقطع تمثيل هذه الرواية من أوبرا باريس لغاية يومنا ~~هذا. # نذكر كلمة موجزة عن الموضوع ليكون القارئ على بينة مما سنورده من الأبحاث. # كانت الحرب قائمة بين فرعون مصر وأمونصرو ملك الحبشة، وقد وقعت ابنته عائدة في أسر ~~المصريين وألحقت بحاشية «أمنيريس» ابنة الملك، وكانت الفتاتان تحترقان بشعلة حب واحدة ~~وتهيمان براداميس رئيس الحرس، وفي ذات يوم جاء رمفيس رئيس الكهنة وأنبأ الملك بتقدم ~~الأحباش، فعين الملك راداميس قائدا للجيوش المسافرة لرد الأعداء وهو لا يدري أنه ~~سيحارب والد عائدة التي شغفته حبا. # ثم تقام الصلاة بمعبد فتاح وتنشد فيه الراهبات الأناشيد الدينية ويرقصون الرقص المقدس ~~لينصرهم ربهم في هذه الحرب. # احتالت يوما «أمنيريس» على ms114 عائدة حتى عرفت سرها، وتحققت أنها تحب راداميس حبا ~~جما، أبغضتها ابنة الملك حينما برح الخفاء وعلمت أنها تزاحمها في حب راداميس، ولم ~~تستطع تلك الأميرة أن تنزع البغض من فؤاد أميرتها. # رجع راداميس ظافرا منصورا واحتفل بمقدمه احتفال فخم شائق، وقد أحضر معه ضمن الأسرى ~~أمونصرو أبا عائدة، فسمح الملك لراداميس بزواج ابنته جزاء لأعماله المجيدة وما أحرزه من ~~النصر العظيم. # عرض أمونصرو على ابنته أن تسأل راداميس عن أسرار التجهيزات الحربية والمعدات التي ~~يعدونها ليقضوا بها القضاء الأخير على الأحباش، فأبت الفتاة فنهرها وثار عليها ودفعها ~~دفعة طرحتها أرضا وقال لها: إني أتبرأ منك ولست ابنتي، فرأت أن لا مناص لها من الرضوخ ~~لإرادته، وكانت أماني أبيها حائمة حول استرجاع بلاده وتخليص ابنته من هذا الأسر الممقوت ~~وتزويجها لراداميس. # أقبل بعد هنيهة راداميس وأخذ يسامر حبيبته بين خمائل أشجار الحديقة وهو مفتون بحديثها ~~الحلو، ثم سألته عن أسرار الحملة التي يعدونها لمواصلة الحرب ووسائل الهجوم وغيرها ~~فأبى، فألحت عليه فباح لها بكل شيء، وكان أمونصرو كامنا وراء الأشجار على مقربة منهم ~~وسمع الحديث كلمة كلمة، ثم ظهر أمام راداميس بهيئة الظافر الشامت فدهش وقال: ما أصابني؛ ~~أجنون أم ذهول؟ أنت على مسمع مني يا أمونصرو؟ ماذا دهاني؟ # وكانت أمنيريس ساهرة في هذه الساعة المتأخرة فباغتت راداميس وسمعت ما فاه به، فقبض ~~عليه الكهنة واقتفى الحرس آثار عائدة وأبيها حتى لحق بهما، زج الجميع في غياهب السجن ~~ريثما يحاكمون. # دخلت ابنة الملك السجن على راداميس وعرضت عليه النجاة إن أحبها وقبل أن يقترن بها ~~فأبى، فخرجت يائسة خائبة الرجاء، وقد أظلمت الدنيا وضاقت في وجهها. # قضي على المجرمين بدفنهم أحياء، فتسربت عائدة وذهبت إلى سجن حبيبها ولبثت معه حتى ~~وافاهما الأجل المحتوم. # اتبع «فيردي» في تلحين موسيقى عائدة النسق الحديث الراقي، وكتبها مترجما عما نفحه به ~~خياله وشعوره دون أن يقلد أحدا، وهي من أعظم ما كتب في الموسيقى الحديثة الجدية، ~~وتعد هي وريجوليتو (الملك يلهو) صفوة مؤلفات فيردي ms115 ، وقد جمعت بين فخم الحماسة ورقيق ~~العواطف وشائق الوصف وظريف الرقص وغريبه، ومطرب الأناشيد وساحر الغرام وشجي الألحان ~~ومذيب القلوب من الشكوى، وإني أكتفى بهذه الكلمة القصيرة في وصف موسيقاها؛ تجنبا ~~لتفصيل يستلزم سرد اصطلاحات كثيرة فنية لا يعرفها إلا المشتغلون بالموسيقى الإفرنجية، ~~أو المواظبون على سماعها وفهم أنواعها. # ليت شعري ما الذي حدا مريت باشا أن يسند إلى قواد الجيوش المصرية مثل هذه الفضائح، ~~ويصور المصري أمام ملوك أوروبا على أشنع صورة، إذ جعله مثالا لضعف الإرادة وخور ~~العزيمة والخيانة ببيع وطنه لأجل حب أسيرة حبشية، ويرفض لأجلها زواج ابنة الملك، ثم أبى ~~بعد إجرامه وسجنه أن يجيب طلبها حينما وافته في السجن ووعدته بالخلاص إن قبل زواجها، ~~فأصر على عناده إلى أن مات في رمسه الذي أعد له تحت أطباق الثرى؟ # إذا التمسنا له عذرا لجهله اللغة الهيروغليفية واستعانته بالمسيو «ماسبيرو» وكان ~~وقتئذ مدرسا في كلية فرنسا بباريس في ترجمة ما كان يصادفه من الأساطير البربائية ~~والهيروغليفية المنقوشة على الآثار، فلا يعدم أن يتخيل خيالا شريفا أو يستعين ~~بالملخصات التي وضعها بعض المؤرخين في ذاك الوقت، مثل شامبوليون فيجاك وأخيه شامبوليون ~~الصغير، وهو أول من فك رموز اللغة الهيروغليفية. # إن فكرنا في عمله هذا عزوناه إلى أحد أمرين؛ إما سوء القصد، وإما الغفلة المتناهية ~~وغلظة الذوق، وكلاهما لا يغتفران لرجل مثل هذا أسندت إليه وظيفة فخمة فنية ومنح أسمى ~~الألقاب والمرتبات. # ولا ينسى المصريون بل العالم المتمدين أجمع هذه النقطة السوداء التي شابت تاريخ هذا ~~الرجل بل سودته؛ لأن شهرة موسيقى الرواية تضمن لها البقاء أبد الآباد، ولا يزال هذا ~~التذكار الممقوت خالدا خلال الدهور يمثل المصري القديم أقبح تمثيل ظلما وعدوانا، وهو ~~مثال الشرف والشمم ومكارم الأخلاق، وأول من تمدين على ظهر الأرض، ومن استنار بنور ~~عرفانه المشرقان، وهذه آثاره باقية ناطقة بجليل أعماله ومجيد فعاله. # تلك آثارنا تدل علينا # فانظروا بعدنا إلى الآثار ~~(9) كيف نكتب؟ # نهضت أمتنا نهضة تحمد عليها في اللغة، وابتدأت شبيبتنا أن تأنس ms116 في دراستها لذة ~~وإعجابا وسبيلا حسنة للمفاخرة بلغة كانت سببا في مجد أسلافهم وعلو شأنهم وبعد ~~صيتهم، وتبارى من شبابنا مئات في النثر والنظم والتأليف والترجمة. # ولكننا لو بحثنا في هذا الجم الغفير عن المجيدين منهم لم نجد إلا عددا قليلا في كل ~~فن من الفنون السالفة، ولو قارنا بينهم وبين أواسط الأمم الراقية لرجحت كفة ~~الآخرين. # ضلت ناشئتنا في ديجور الجهل باللغة، وظلت تنشد نورا ينتشلها من تيهها فلم تجد غير ~~نور ضئيل يحمله أستاذ المدرسة، فانبعثت في قلوبهم روح الأمل، ولكن خاب ظنهم إذ رأوا أن ~~هذا النبراس الضعيف لا يكشف أمامهم الظلام، ولا يهديهم محجة الصواب. إن أستاذهم نفسه ~~لفي حاجة إلى مرشد، وإنا نلتمس لتلاميذه العذر ما داموا تحت سيطرته، ولكنا نطالبهم بعد ~~إتمام دراستهم أن يتفرغوا للغة بنظام وترتيب مفيد؛ حتى يحرزوا قسطا وافرا منها يرفع ~~قدرهم وتعود آثاره على بلادهم بالفائدة الجزيلة. إن الأمم لا تحيا إلا بلغتها، والتاريخ ~~أعظم شاهد؛ فقد تشتتت أمم عديدة فرطت في لغتها وفقدت شخصيتها وتفرقت كلمتها، ثم تمزقت ~~كل ممزق واحتست كئوس الذل والهوان. # إننا لا نكاد نجد في شعرائنا وكتابنا من بلغ الإجادة وخلا من العيوب وداء حب الشهرة ~~الكاذبة. استفحل هذا الداء بالأخص في الأدعياء والمتوسطين في العلم، وأصبح الفرد منهم ~~يقرأ فاضح نقده ويعلم أنه مضغة في الأفواه وأضحوكة في كل ناد ومثال للسخرية في كل مجلس ~~ولا يقلع عن غيه أو يحمر وجهه خجلا. يطبع البعض منهم كل بضعة شهور كتابا وينفق عليه ~~بسخاء، حتى أصبح بعد للبعض عشرات من المؤلفات، وضايقوا أرباب المكاتب؛ إذ لم يتركوا ~~فيها فراغا لجليل الكتب، ولم ينتفع منها مؤلفوها ولا بائعوها، ولله در المؤلف؛ فإنه لم ~~يشعر بسأم الكتب، ولم يحزن على ماله الضائع، ولم يشعر بما سببه له مؤلفه من السخرية ~~والذم، وبلغ من الأدعياء والمخادعين أن يطبع أحدهم ألفا من كتابه، ويعمل لكل مائة نسخة ~~غلافا، فيكتب على المائة الأولى الطبعة الأولى وهكذا إلى المائة العاشرة ms117 ، فيكتب عليها ~~الطبعة العاشرة ليغرر بصغار التلاميذ الذين هم تحت هيمنته ومن اشتروا كتابه خشية غضبه، ~~ولقد تمثل بسخافته أحد الأدباء في مقالة «خداع العناوين»، وإني أسرد للقراء نادرة ~~حقيقية لذاك العلامة مؤلف هذا الكتاب تنعشهم وتذهب ما يصيبهم من الملل من قراءة هذا ~~الموضوع الطويل. كتب هذا النابغة تقريظا لنفسه، وجعله بشكل خطاب مرسل إليه، ولم يدع ~~معنى في المديح ولا لفظا للتقريظ حتى أودعه فيه، وكال لنفسه من ضخم الألقاب ما سولت له ~~به نفسه، ثم أمضى الرسالة باسم مستعار، وهرول إلى إحدى الجرائد التي احتجبت لتنشر له ~~هذا التقريظ، فتقاسم الموظف المنوط بالإعلانات عاملان: شرف الضمير، والخوف من إفلات أجر ~~عظيم، وصمم نابغتنا على نشر تقريظه بشكله دون أقل تغيير، فأقسم له حتى اطمأن فؤاده، ~~ونقده الأجر. وبر مأمور الجريدة بقسمه، وأراح ضميره من التبكيت والوخز، ونشر الرسالة ~~حرفا حرفا، ووضع لها عنوانا شائقا بليغا لا يزيد على كلمتين أظهرتا خباياها وهما: ~~«إعلان مأجور». # إن أنعمنا النظر في قريض شعرائنا وجدنا فيه عيوبا كثيرة، ولم نر غير أبيات قليلة في ~~القصيدة تعد من الشعر الجيد. نرى التكلف والصناعة ظاهرين مجسمين، والصوغ ضعيفا ~~والتركيب غير متين، يكاد شعرهم يكون خلوا من جليل الابتكار، يسطون على المعاني ~~القديمة من أطرافها، أو يجعلون عاليها سافلها، لا يستملون خيالهم وشعورهم ولا يعرفون أن ~~يصوروا ما يقع تحت أعينهم تصويرا متقنا، فإن عبروا عن معنى لا يحتاج إلى أكثر من شطر ~~نظموه في بيتين أو أكثر، ولو وفقوا لكتابته في أقل من بيت أضافوا جملة لإتمام البيت ~~والقافية بمثابة لفظ لا معنى له. نرى القصيدة مفككة السياق غير مرتبة المعاني، كأنها ~~ثوب خلق مرقع بمختلف الألوان، وإن بحثنا عن سبب وقوعهم في هذا العيب الشائن وجدناه ~~راجعا إلى كونهم ينظمون القصيدة دون ترتيب كحاطب ليل، ويضعون أمامهم قصيدة قديمة من ~~البحر والقافية التي يريدونهما، وكلما نظموا بيتا وفقوا له قافية من قوافي هاته ~~القصيدة، وبعد إتمام العدد المرغوب يرتبون القصيدة، ويا لها ms118 من قصيدة كالحلقة المفرغة ~~لا يدرى أين طرفاها، وكيف ينتظرون من قريض مثل هذا أن يكون فيه خيال وشعور وفكرة مفصلة ~~مرتبة وصوغ متين؟ # نرى الشباب منا حينما يميل إلى الشعر ويبتدئ في معالجته يقرأ دواوين البهاء زهير وابن ~~معتوق والخفاجي والشبراوي وابن الفارض وأمثالهم، وهم أبعد عن الشعر بعد الأرض عن ~~السماء، ليسوا إلا وزانين. يتركون الشعر الجاهلي وفيه آيات البلاغة البينات الساحرات، ~~وعنوان الفصاحة، ونموذج القريض، والتراكيب العربية الصحيحة، ولا تشوبه كلفة، ولا تظهر ~~عليه صناعة، ومثال لجوامع الكلم كان حروفه من نار وكلماته من سحر تستفز الهمم الخامدة، ~~وتحمس القلوب الجامدة، وترقق الأكباد الغليظة، وقد مني نثرنا العصري بأدواء تفوق أدواء ~~الشعر، وأصبح الكاتب يحشو الصحيفة تلو الصحيفة بلغط باطل مزوق بسجعات باردة سخيفة، ~~ويحليه بسجوف من المحسنات البديعية تواري عجره وبجره في أعين السذج، يضيع ~~الكاتب من هؤلاء وقته الثمين ويقطع متواصل فكره في البحث والتنقيب عن سجعات تافهة يغل ~~نفسه بقيودها ويسد بها المسالك أمام نفحات خياله، يطارد السجع في بلدنا هذا الإنسان من ~~المهد إلى اللحد، فكانت مرضعه تنومه وتداعبه بالسجعات قائلة له: «يا بت ياللي فوق ~~السطوح قولي لي أجي ولا أروح، ياللي ما راح باسوس وبو الغيط يا حلاوه على السقيط.» يسمع ~~الراقي يسجع ولا سجع الكهان قائلا: «يا ملح يا مليح، يا جوهر يا فصيح، بخور الفراخ ~~يمنع الدواخ، وبخور الجاموس يمنع الكابوس.» يسمع الأطفال أقرانه مغنين في رمضان بمختلف ~~الأغاني المسجعة كقولهم: «احدفوا العاده لبه وقلاده ... إلخ.» فلا ينقطع عن أذنيه رنين ~~السجعات أنى سار، ويجد في نفسه منذ صغره ميلا شديدا إلى التسجيع يشب معه ويسري في دمه ~~وعروقه. # إن ألقينا نظرة في إنشاء أعظم كتابنا وجدنا أنه لا يستطيع تجنب اللغط والثرثرة، ~~ويرتب فكرته ويتخيل الخيال الفخم الراقي، ويصوغ القول صوغا عربيا بليغا، ويراعي ~~انسجام الجمل ووزنها، ويحسن اختيار الألفاظ ويترك السجع إلا ما جاء عفوا، ويستملي ~~شعوره وخياله، ويعود نفسه دقة الملاحظة، إذ عليها المعول في تصوير ms119 الأشياء تصويرا ~~دقيقا، وبها يكون الاستدلال والحكم صادقين، وأن يضرب في اللغة العربية بسهم وافر ~~ملما بطرف صغير من كل علم، مطلعا على نظم العرب ونثرهم. # ينقصنا معشر المصريين الذوق السليم وهو ملاك الإنشاء وروح البيان، ولا يتأتى نيله إلا ~~بالتهذيب الصحيح وترقية الفكر بالعلوم الفلسفية، كما أن للفنون الجميلة نصيبا وافرا ~~في تقويم الأذواق، فإن هذبت الموسيقى أسماعنا عرفنا الشعر المكسور دون أن نعلم شيئا من ~~العروض، وميزنا رنة القافية وانتقينا أجمل الأبحر وزنا، وإن أحرزنا قسطا وافرا من ~~التصوير فهمنا معنى الجمال في كل شيء، ولم يخطئ تصويرنا الفكري، وقويت فينا الملاحظة ~~الدقيقة، وصدق استدلالنا وحكمنا. # إننا نسأم من قراءة الأبحاث العقلية والفلسفية، ولا نود أن نجهد فكرنا أقل إجهاد، ~~وبينا نرى الكتب الفلسفية في كساد نرى الروايات العديمة الفائدة في رواج، ولا تتعدى ~~مطالعتنا الكتب الأدبية السهلة. سرحت ناظري يمنة ويسرة علي أجد ثانيا لذاك ~~الأستاذ النابغة الذي تفتخر به البلاد في الكتابة فلم أعثر على أحد يماثله في فخامة ~~الموضوع، وحسن الصوغ، وجمال التصوير، وشدة التأثير، وغزارة المعاني مع قلة الألفاظ، ~~يكتب جملة قصيرة ويضمنها من الاجتماعيات أحسنها، ومن الحكم أفخمها، ومن العواطف أشرفها، ~~ومن الخيال رائعه، ومن الشعر المنثور بدائعه، يكتب والصدق رائده، والإخلاص مذهبه، ~~والتواضع والنفور من حيث الشهرة دينه، ولولا وثوقي من ذلك لنشرت اسمه. # إنني أحب الصراحة وأقول الحق ولو كان مرا عند من تكتنفه العزة أو الشهرة الكاذبة، ~~وأنصح لأكبر كاتب أن ينحو نحوه ويتوخى أسلوبه الذي جمع كل المحاسن التي سردناها، وكان ~~لا يزال يمضي بحرف واحد «م» لشدة تواضعه. # إن القارئ ليسلم معي بأنه لا يوجد في الدنيا من هو أضعف عقلا من عجوز شمطاء منفردة ~~في بادية قفراء، فكيف يظن الفرد أنه أكتب قومه إذا كان دون هذه العجوز مقدرة في ~~التعبير؟! # مر النبي # صلى الله عليه وسلم # هو وأصحابه بالبادية فأصابهم الظمأ، فلم يجدوا غير بيت حقير من ~~الشعر به عجوز تسمى أم معبد، فاستقوها فلم يجدوا ms120 عندها ماء، وطلبوا أن تسمح لهم ~~بحلب عنزها، فقالت: دونكم العنز فاحلبوها إن كان بها لبن، وقد جف لبنها من الكبر، فمسح ~~النبي # صلى الله عليه وسلم # ضرعها بيده فدر لبنها وشرب هو وأصحابه، فتفرست فيه العجوز ووصفته ~~وصفا دقيقا بليغا، إذ قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم ~~تعبه تجلة، # 1 # ولم تزر به صقلة، # 2 # وسيما قسيما في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، # 3 # وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أحور أكحل أزج # 4 # أفرن، إن ضحك فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، فهو أجمل الناس ~~وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه ~~خريزات نظم يتحدرن، وربعة لا تشنؤه من طول ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، ~~فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدا، له رفقاء يحفون به إن قال أنصتوا لقوله، وإن ~~أمر تبادروا إلى أمره، محفود # 5 # محشود # 6 # لا عابس ولا مفند. # 7 # ولو تمعنا في هذه الجملة لوجدناها آية في البلاغة وحسن الصوغ وجزالة ~~المعاني ورقة الوصف وقد جمعت ثماني وثلاثين صفة؛ منها خمس وعشرون لوجهه وقامته والباقي ~~لشمائله. # وأختم قولي بإبداء شعوري وإعجابي نحو فئة عظيمة من إخواننا الأقباط تتبارى في المنظوم ~~والمنثور يزيد عددهم يوما فيوما، وإني أشكر لسعادة الأستاذ وهبي بك الذي بث فيهم ~~الروح وأحسن تهذيبهم، وعرفهم بأن لغتهم هي التي يتخاطبون بها، فتنافسوا في تحصيلها ~~تنافسا يغبطون عليه ويعود عليهم بالثناء الجميل. ~~(10) تصوير العواطف والوجدان # ما فتئ كثير من الكتاب والشعراء يعنون بالأسلوب واختيار الألفاظ وسرد المترادفات ~~دون أن يهتموا بالتعبير عما يجول في نفوسهم، فتراهم لا يستطيعون أن يصوروا حالاتهم ~~النفسية تصويرا صادقا يجسم لك ما تضطرب به عواطفهم، ويجيش في نفوسهم من عنيف ~~العواطف التي تتملك شعور القارئ وتهز أعصابه حتى لا يحس بما حوله. # مثل الإنشاء الوجداني كمثل غانية فتانة كفاها جمالها مؤنة الحلي والحلل والتزويق، وإن ~~أعوزته متانة الأسلوب وحسن اختيار الألفاظ فهو بحالته هذه ms121 أفضل من غيره المنمق ~~الأجوف. # ولقد حداني إلى الخوض في هذا الموضوع قطعتان تعدان بحق باكورة المثل العليا وبشائر ~~النهضة المباركة والقدوة الحسنة التي يسترشد بها للوصول إلى الكمال؛ أولاهما: «بيت ~~الإبرة» للأستاذ الجليل والكاتب الوجداني القدير الدكتور عبد الوهاب عزام، والثانية: ~~«قصة في رسالة» للكاتبة الفاضلة «فتاة الفرات». # أخذ كاتبنا المفضال مجلسه في مكتبه في إحدى الليالي المباركة، وقد أسدل الليل سكونه ~~وحلق طيف الشعر في غرفته وتجلت له البصيرة؛ فهبت نفسه ثائرة تملي عليه ما خط في أعماق ~~فؤاده بلسان فصيح فتن به طيفه المحلق فوق رأسه، ثم زاغ بصره فيما حوله عله يجد ~~موضوعا يطرز عليه تلك النفحات النادرة فوقع على بيت الإبرة، فأعجب بإخلاصه وشدة أمانته ~~للشمال رغم توالي القرون والدهور لا يحيد عنه ولا يتزعزع، ولو وجهته بعنف وجهة أخرى، ~~وما فتئت تلك الإبرة المباركة مرشدة للإنسان في البر والبحر والهواء، ثم عطف على إبرة ~~مماثلة بين جوانح الإنسان ترشده إذا ضل، وتهديه إذا غوى، اللهم إذا استثنينا من في ~~قلوبهم مرض وعلى أبصارهم غشاوة، فقد حاولت أن تهديهم فما وجدت لهم إلى الهدى ~~سبيلا. # ولا تأخذنكم العزة أو تعروكم غضاضة أن تأخذوا أدبكم من فتاة، فإن كاتب هذه السطور ~~الضعيف يعترف أول الناس بأنه لا يستطيع أن يدرك شأوها في هذا المضمار، ولو أسعدتني ~~يوما تلك النفحات لما استطعت أن أكبح جماح الزهو والخيلاء. # ولقد خالجني الشك بعد قراءة هذه الرسالة في الإمضاء، فإن عبارتها تنم عن لهجة فتاة ~~النيل لا فتاة الفرات، ويظهر أنها أمضت هذه الإمضاء تغاليا في الاختفاء وتضليلا ~~للقارئ، قصت علينا الكاتبة حادثتها بأسلوب فني لا يجاريها فيها مجار، وصورت حالاتها ~~النفسية وعواطف جارها الملتهبة تصويرا دقيقا صادقا، والفضل في ذلك لجرأتها البريئة ~~وصراحتها الساذجة، فأخذت ترخي لنفسها العنان وتستسلم لأهوائها فتتبع خطواتها الضمير ~~الحي، وأخذ يناضل مع هذه النزعات الثائرة حتى تغلب عليها وانتصر سلطان العقل الراجح ~~والضمير الحي على الأمارة بالسوء، ثم هدت جارها إلى الصراط السوي وردته ms122 إلى عشه حيث ~~تنتظره السعادة، وشفت فؤاده من مرض النفور من أولاده وعدم الاهتمام بزوجه الوديعة ~~الصابرة، وانتهت القصة بدرس قيم في الأخلاق سادت فيه الفضيلة على الرذيلة. ~~(11) ألف ليلة وليلة «بحث تاريخي ونقد وتحليل» # لا جدال في أن هذا الكتاب يعد أول وأعظم سفر حوى القصص والحكايات الفنية في الشرق ~~والغرب، ولقد عني به الغربيون وترجموه إلى أغلب لغاتهم، وما فتئوا يعتبرونه كنزا ~~عظيما يستنبطون منه روايات قصصية وتمثيلية وغنائية وسينماتوغرافية. # لم يظهر لغاية عصرنا هذا مؤلف هذا الكتاب ولا تاريخ وضعه بالضبط، ولم يحاول العلماء ~~المستشرقون البحث عن منشئه إلا في القرن التاسع عشر، وأول من طرق هذا البحث المستشرق ~~الفرنسي الشهير «سلفستر دوساسي» في «مجال العلماء» سنة 1817، ثم أعقبه ببحث آخر سنة ~~1829، ثم ثالث سنة 1833. # ولم يكتف بإنكار العناصر الهندية والفارسية فيه، بل تغالى في غلوائه حتى عد خبر ألف ~~ليلة الوارد في مروج الذهب للمسعودي من الأخبار المشكوك فيها. # قال المسعودي في صفحة 90 جزء رابع طبعة المطبعة الأميرية بباريس: # مثل كتاب: هزار افسانه، وتفسير ذلك من الفارسية إلى العربية: ألف خرافة، ~~والخرافة بالفارسية يقال لها: افسانه، والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة وليلة، ~~وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتها وهما شهرزادر ودينارزاد، ومثل كتاب فرزه ~~وسيماس وما فيه من أخبار ملوك الهند والوزراء، ومثل كتاب السندباد، ~~وغيرها. # وقد خالف المسيو هامر بورجستال المسيو سلفستر دوساسي وأكد صحة قول المسعودي ونشر ~~بحثا مستفيضا في «المجلة الآسيوية» سنة 1918. # ولقد ظن المستر «ويليام لين» الذي ترجم قسما من ألف ليلة أن الكتاب كله تأليف شخص ~~واحد، ومنشؤه في المدة الواقعة بين سنة 1475 وسنة 1525، وذكر هذه الفكرة في المقدمة ~~التي وضعها لترجمته سنة 1839-1847. # وفي سنة 1886 عاد المستشرق الألماني «جوبي» إلى هذا البحث مستشهدا بما جاء في كتاب ~~فهرست ابن النديم الذي فصل الخبر تفصيلا لا يجعل للشك مجالا. # قال محمد بن إسحاق: «أول من صنف الخرافات وجعل لها كتبا وأودعها الخزائن، وجعل بعض ~~ذلك على ألسنة الحيوان؛ الفرس الأول، ثم ms123 أغرق في ذلك ملوك الأشفانية وهم الطبقة ~~الثالثة من ملوك الفرس، ثم زاد ذلك واتسع في أيام ملوك الساسانية ونقلته العرب إلى ~~اللغة العربية، وتناوله الفصحاء والبلغاء فهذبوه ونمقوه وصنعوا في معناه ما يشبهه، ~~فأول كتاب عمل في هذا المعنى كتاب هزار افسانه ومعناه ألف خرافة، وكان السبب في ذلك أن ~~ملكا من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة قتلها من الغد، فتزوج بجارية من ~~أولاد الملوك ممن لها عقل ودراية يقال لها: شهرزاد، فلما حصلت معه ابتدأت تخرفه وتصل ~~الحديث عند انقضاء الليل مما يحمل الملك على استبقائها ويسألها في الليلة الثانية من ~~تمام الحديث إلى أن أتى عليها ألف ليلة وهو مع ذلك يطؤها إلى أن رزقت منه ولدا أظهرته ~~وأوقفته على حيلتها عليه، فاستعقلها ومال إليها واستبقاها، وكان للملك قهرمانة يقال ~~لها: دينارزاد فكانت موافقة لها على ذلك، وقد قيل: إن هذا الكتاب ألف لجماني ابنة ~~بهمن وجاءوا فيه بخبر غير هذا.» # قال محمد بن إسحاق: «والصحيح - إن شاء الله - أن أول من سمر باليل الإسكندر، وكان له ~~قوم يضحكونه ويخرفونه، لا يريد بذلك اللذة وإنما كان يريد الحفظ والحرس، واستعمل لذلك ~~بعده الملوك كتاب هزار فسانه ويحتوي على ألف ليلة وعلى دون المائتي سمر؛ لأن السمر ربما ~~حدث به عدة ليال، وقد رأيته بتمامه دفعات، وهو في الحقيقة كتاب غث بارد ~~الحديث.» # قال محمد بن إسحاق: «ابتدأ عبد الله محمد بن عيسى الجهشياري صاحب كتاب الوزراء بتأليف ~~كتاب اختار فيه ألف سمر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم، وكل جزء قائم بذاته لا ~~يعلق بغيره، وأحضر المسامرين فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واختار من الكتب ~~المصنفة في الأسمار والخرافات ما يحلو بنفسه وكان فاضلا، فاجتمع له أربعمائة ليلة ~~وثمانون ليلة، كل ليلة سمر تام يحتوي على خمسين ورقة وأقل وأكثر، ثم عاجلته المنية قبل ~~استيفاء ما في نفسه من تنميقه ألف سمر، ورأيت من ذلك عدة أجزاء بخط أبي الطيب أخي ~~الشافعي، وكان ms124 قبل ذلك ممن يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم، ~~جماعة منهم عبد الله بن المقفع، وسهل بن هارون، وعلي بن داود كاتب زبيدة ~~وغيرهم.» # وقد قرأت في آخر كتاب ابن النديم أنه فرغ من كتابته في شعبان سنة 377، وهذا مما يدلنا ~~على أن ألف ليلة كان معروفا قبل ألف سنة، ولو كان المسيو سلفستر دوساسي ممن يقدرون ~~قيمة الكتب لما فاته الاطلاع على هذا الكتاب الجليل، ولما تورط في هذا الشك ~~المخجل. # ثم جارى «مولر» المسيو «جوبي» في هذه الفكرة، وكتب بدوره بحثا طليا عن ألف ~~ليلة. # مخطوطات ألف ليلة الموجودة الآن، كما حققها الأستاذ «بروكلمان» ثلاثة أنواع؛ أحدها ~~آسيوي وهو أقدمها وناقص، ويشمل الجزء الأول من المجموعة، والاثنان الآخران مصريان ~~تامان، ولكن تاريخهما أحدث من الأول، والبون شاسع بين الآسيوية والمصريتين. # ومصر، لسوء حظها، مجردة من مخطوطات ألف ليلة، ولا يوجد شيء منها في دار الكتب، ومن ~~أغرب الغرائب أن النسخة المخطوطة التي طبعت منها الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية سنة ~~1250 لا يوجد لها أثر. # طبع ألف ليلة عدة طبعات في مصر وأوروبا والهند، وأهم الطبعات المصرية الطبعة الأولى ~~الأميرية سنة 1250 هجرية في عهد الخديو محمد علي باشا في مجلدين من القطع الكبير، ثم ~~أعيد طبعه في نفس المطبعة في أربعة مجلدات، والطبعتان متفقتان بالحرف الواحد، وقد طبع ~~طبعة أزهرية بالمطبعة العثمانية عدة طبعات وكلها منقولة عن الطبعة الأميرية ومطابقة ~~لها. # والطبعة الهندية مطبوعة سنة 1839 وتولى طبعها وتصحيحها المستر «وليم مكناتن» سكرتير ~~إنجلترا في الهند، وهي منقولة من نسخة مخطوطة كتبت بمصر أحضرها الميجر «تورنر مكان» وهو ~~الذي طبع الشاهنامة للشاعر الفارسي الشهير الفردوسي، وهذه النسخة مطابقة تقريبا ~~للطبعات المصرية ولا تختلف إلا في بعض نقط في الإنشاء، وهي في أربعة مجلدات. # والطبعة الألمانية مضى عليها أكثر من قرن، إذ طبعت في سنة 1825 ببرسلاو، وتولى طبعها ~~وتصحيحها «مكسيميليان هابخت» مدرس اللغة العربية بالمدرسة الملكية ببرسلاو، وهي في اثني ~~عشر جزءا ومغايرة للطبعات المصرية والهندية، وفيها نحو الثلث من ms125 قصص ألف ليلة، ~~والثلثان الباقيان قصص غريبة لا توجد في الطبعات الأخرى. # وهذه الطبعة منقولة عن نسخة مخطوطة في عشرة أجزاء مؤرخة سنة 1731، وأحضرها للطابع أحد ~~أهالي تونس المسمى م نجار، وقد سبق أن تقابلا في باريس فأوصاه على نسخة من مخطوطات ألف ~~ليلة فعثر على تلك النسخة حين عودته إلى تونس. # ومن النسخ المغايرة النسخة التي ترجم عنها إلى الفرنسية «جلان» وهي تخالف الجميع ولا ~~سيما الجزء الثالث وهو الأخير به قصص غريبة لا وجود لها في الطبعات الأخرى، نذكر منها ~~علاء الدين والمصباح المسحور، وقصة علي بابا والأربعين لصا، وقد رآهما أغلب القراء في ~~السينماتوغراف. # ولقد أجمع أغلب المستشرقين على أن طبعة بولاق هي أصح وأدق من كل ما سردناه. # وأشهر التراجم ثلاث: ترجمة «جلان» سنة 1715، وقد مضى عليها أكثر من قرنين، وهي رشيقة ~~الإنشاء ولكنها لم يراع فيها المترجم الدقة والأمانة وتصرف فيها بكل حرية. # وقد افتتح المسيو «سلفستر دوساسي» هذه الترجمة بمقدمة عن ألف ليلة ومنشئه، ولكنه لم ~~يخبرنا هو ولا المترجم عن منشأ المخطوط الذي ترجم عنه. # وترجمة «الكابتن بورتون» الإنجليزية وهي مثال للدقة والتحقيق، ولجهلي اللغة ~~الإنجليزية لم أكلف نفسي البحث عن نسخة منها لأقارن بينها وبين النسخ الأخرى، ولا أدري ~~إن كان أصلها مماثلا للأصل الذي ترجم منه «جلان» أم لا؟ # ولقد ترجم الدكتور ماردروس المصري مولدا ونشأة والمستوطن بباريس كتاب ألف ليلة ترجمة ~~جمعت بين دفتيها الدقة والبلاغة سنة 1900، وهي تقع في ستة عشر مجلدا، ثم طبعت طبعة ~~ثانية في ثمانية مجلدات كبيرة مجلدة تجليدا فنيا ومحلاة بصور ملونة تمثل الصور ~~المزدان بها بعض المخطوطات الهندية والفارسية الشهيرة، وقد اشترك في هاتين الطبعتين ~~مكتبتا «لوفاسور» و«فاسكيل» بباريس. # ولقد ترجم المسيو ماردروس أغلب سور القرآن ترجمة سحبت ذيل النسيان على جميع التراجم ~~القديمة، وطبعتها مكتبة «فاسكيل» السالفة. # ولقد نقل المسيو ماردروس ترجمته عن طبعة بولاق وقال بدوره: إنها أضبط ما وجد من نسخ ~~ألف ليلة. # نريد أن ننتقل بالقارئ إلى نظرة نحلل ms126 فيها ألف ليلة علنا نستنبط من بين سطوره شيئا ~~يفيدنا في هذا البحث العويص، وسيكون مدار تحليلنا الموضوع من الوجهة الفنية والإنشاء ~~ونفسية الكاتب وجنسيته، وهل هو فرد أو أفراد، والعصر الذي وضعت فيه الترجمة التي بين ~~أيدينا اليوم. # لا مراء في أن الكاتب كان خصب الخيال غزير المادة، ولقد أجاد في وضع الأساس على شكل ~~فني ظريف وهو خبر شهرزاد مع شهريار وتفننها في سرد لذيذ القصص والحكايات، ووقوفها كل ~~ليلة عند نقطة من الحديث هامة حتى استبقاها الملك، وقد سبق ذكر ذلك في موضعه. # فالمجموع عظيم ولكن التفاصيل فيها عيوب جمة؛ منها الإسراف والمغالاة في المبالغة ~~كقوله: إن الرخ يحجب الشمس حينما يطير وبيضته أعظم من القبة، وقوله عن أغلب أبناء ~~الملوك: فما أتم حوله الخامس عشر حتى صار فارسا صنديدا لا يلبث أمامه الفرسان ~~الأشداء، وكوصفه لقصور الجن بأنها من الذهب والفضة والياقوت والزمرد، وكزواج أشخاصه ~~ببنات الجن وظهورهن بين الناس، وكقوله: إن سيف الملوك لما سافر أخذ معه أربعين مركبا ~~وعشرين ألف مملوك، إذ لا يعقل أن أربعين مركبا في العصور القديمة تكفي لحمل الأمتعة ~~والمئونة وعشرين ألف مملوك، ولا يعقل وجود جيش جرار من المماليك في أي بلاط! وسرد هذا ~~الخبر في حد نفسه لا يبهر القارئ ولا يدهشه بل يضحكه سخرية. # ويلاحظ القارئ أن طريقته في سرد الحوادث مفككة الأوصال لا يربطها ترتيب في الزمان ولا ~~في المكان، فتراه في قصة الملك شهرمان وولده قمر الزمان وحفيديه الأسعد والأمجد، أن ~~هذين الغلامين لما أمر والدهما وزيره بقتلهما عقب اتهام والدة كل منهما لابن ضرتها بأنه ~~راودها، ورفض الوزير قتلهما وتركهما ليهربا، وسفرهما من بلد لآخر دون أن يعلم أبوهما ~~وجدهما من أمرهما شيئا. # ولما أراد أن يختم هذه القصة الطويلة حضر قمر الزمان وعسكره، وبعد لحظة حضرت الملكة ~~مرجانة وجيشها، وبعد آونة حضر الملك الغيور صهره وجنوده ثم تلاه الملك شهرمان ~~وعساكره. # حضر الجميع في وقت واحد من أقطار مختلفة متنائية عن بعضها ومن ms127 غير سابقة علم بهذا ~~المكان. # ومن الحوادث المنكرة التي لا يقبلها العقل هيام حياة النفوس وبدور بابني زوجهما، ولو ~~اقتصر على واحدة لقلنا: شذوذ محتمل الوقوع، وهذا مما يدل على تجرده من كل ذوق ~~سليم. # ومما ينتقد عليه تشابه بعض القصص ببعضها وتكرار الحوادث فيها مثل: قصص حسن البصري ~~وسيف الملوك وحاسب كريم الدين، إذ نرى في كل منها أن بطل القصة لم يسمع النصح وفتح باب ~~القصر الذي حذر من فتحه، ثم رأى البستان الجميل وبركة الماء والطيور التي حطت في ~~البستان وخلعت ريشها، وظهرت منه فتيات فاتنات وهيام كل بطل بأجمل الفتيات، وهن من بنات ~~ملوك الجن ومواطنهن وراء جبال قاف، ومجازفة المحبين باقتحام الأهوال والسير بين طوائف ~~الجن المختلفة، وخبر اليهودي الذي كان يضع الحسن البصري وسيف الملوك في جلد بغل ويخيط ~~عليه، ثم يأتي الرخ فيحمله ويضعه في قمة جبل الماس، ثم يشق الجلد بسكين ويخرج منه ويقذف ~~الماس لليهودي، وغير ذلك مما هو مكرر بنصه في القصص الثلاث. # ومن هناته ومستهجناته وصفه دخول أبطال قصصه بزوجاتهم بشكل فاحش مخجل كهراء الحشاشين ~~في أقذر المواخير. # ومن أقبح وأبرد حكاياته اثنتان بجانب بعضهما؛ إحداهما امرأة ولعت بقرد والثانية ~~أحبت دبا، وهما من الخيال السمج الوقح، ولولا ضيق المقام لأتينا بشيء كثير من هذه ~~الملاحظات التي لا تخفى على كل من له شيء من الذوق في الفن القصصي. # إنشاء ألف ليلة غث حقير، وفيه جانب عظيم من التعبيرات والألفاظ العامية والسجعات ~~الباردة التي يرصها رصا في كل موضع بالحرف الواحد، وهي تكاد تماثل سجعات «صندوق ~~الدنيا»، وكذلك شعره فإن أغلبه من الشعر الموزون الخلي من المعنى والجمال، وسنعود إليه ~~حينما نصور نفسية الكاتب وشخصيته. # إن ألف ليلة أصله فارسي، وكان صغير الحجم لا يشمل غير القسم الفارسي والهندي والصيني؛ ~~لأن الأقسام الأخرى العربية والمصرية وغيرها أصيفت متأخرة، وهذا رأي كثير من المستشرقين ~~ويثبته تاريخ الحوادث. # ولقد ورد في القسم المصري ذكر الفرمان السلطاني وأبي طبق والجامكية ومصر القديمة ms128 ~~وبولاق وباب الشعرية وباب الخرق - الذي أبدل الآن بالخلق - وباب الفتوح، وهذا مما يدل ~~على أن القسم المصري حديث لا يتعدى زمن المماليك. # سلمنا بأن واضع هذا الكتاب أفراد، وأن القسم الأول وضع قبل ألف سنة بكثير؛ لأن ابن ~~النديم حينما تكلم عنه منذ ألف سنة لم يقف على اسم واضعه ولا على التاريخ الذي كتب ~~فيه، وهذا مما يدل أيضا على أنه كتب قبل زمن ابن النديم بزمن بعيد، فالقارئ يدهش ~~حينما يرى أن الكتاب من دفته إلى دفته مكتوب بقلم واحد وأسلوب واحد، وأن القسم القديم ~~نفسه محشو بشعر سخيف حديث العهد. # ولكنني أرجح أن الترجمة وضعت في زمن المماليك، واشترك فيها اثنان: تركي يجيد الفارسية ~~وضعيف في العربية وكانت مهمته الترجمة، والثاني مصري فقيه ومهمته التنميق والتزويق بتلك ~~السجعات السخيفة والأشعار المرذولة وتصنيف القسم العربي الشامل لأخبار الرشيد وغيره ~~والقسم المصري. # وغير خاف أن عصر المماليك كانت تتخبط فيه مصر في دياجير الجهل والانحطاط وفساد ~~الأخلاق، وربما كان إنشاء ألف ليلة يعد في زمانه من رائع بيان العصر، ولا يبعد أيضا ~~أن واضعه كان يعتبره قومه من الذين يشار إليهم بالبنان في ميدان النظيم ~~والنثير. # ويظهر أن هذا الفقيه درس في الأزهر بضع سنين ثم انقطع للأدب وتفرغ للكتابة والشعر، ~~وقرأ بعض الكتب الغثة المسجعة والدواوين السخيفة كالبهاء زهير والوأواء الدمشقي وابن ~~سهل ومن شاكلهم، وحفظ العروض لتعليم الوزن، وقرأ جانبا من الكتب الخرافية المرذولة مثل ~~خريدة العجائب وبدائع الزهور، وعددا من كتب المواعظ والحكم الدينية السخيفة التي يبرأ ~~منها الدين والتي يحفظها الشباحون والطفيليون ليتشدقوا بها في مجالس العامة. # وقد استدللت على أنه فقيه بل من فقهاء المقابر من محاوراته العلمية في قصة تودد ~~الجارية وهي من أرذل ما سمع. # سألها العلماء: ما ربك؟ وما نبيك؟ وما إمامك؟ وما قبلتك؟ فأجابت: الله ربي، ومحمد # صلى الله عليه وسلم # نبيي، والقرآن إمامي، والكعبة قبلتي ... إلخ، ولا يخفى على القارئ أن هذا القول ~~يلقنه فقهاء المقابر للأموات وقت ms129 دفنهم، وفي قصص أخرى يقول: صلى ركعتي الاستخارة، وفي ~~قصة علاء الدين أبي الشامات يقول: إنهم اتخذوه مستحلا لبنت أحد الأغنياء. # ومن بروده وسماجته سؤال العلماء لتودد الجارية وهم في حضرة الرشيد أسئلة تماثل ما جاء ~~في رجوع الشيخ إلى صباه! # وتلك الكلمة فيها الكفاية للاطلاع على مبلغ معلومات منمق ألف ليلة، وقد بقي علينا أن ~~نأتي بصورة تمثل نفسيته: # هذا الرجل على شاكلة «تارتوف» أو الشيخ متلوف على رأي عثمان بك جلال، شيخ معربد فاجر ~~مستهتر، مجرد من الذوق والأدب ومكارم الأخلاق، وهو من الفئة الذين يهرولون وراء فتوى ~~كاذبة لرجل طلق امرأته ستين مرة، أو عقد زواج جديد مع وجود المرأة على ذمة الزوج الأول، ~~والذين يتطفلون في المآتم والأفراح فيكون واعظا إن كان المجلس يبحث في الوعظ، وشاعرا ~~في الأفراح يرص القصيدة ويخطب الخطبة لتهنئة العروسين، وتارة في مواخير الحشيش، وطورا ~~في الحانات ينادم ويضحك الشبان المعربدين الوارثين، وترى جيوبه محشوة بأحقاق العنبر ~~والمنزول يبيعها للمعربدين بعدما يسهب في منافعها وخواصها. # كل هذه الصفات تقرأها طي ألف ليلة، حتى نسخ المنزول تراها في الصحيفة الأولى من قصة ~~علاء الدين أبى الشامات، وقبل تركيبها ببضعة سطور تجد حوارا بين والد علاء الدين وزوجه ~~من أقبح ما سمع، وفيه من أخبار النساء والولدان ما يدل دلالة صريحة على أن هذا الرجل ~~كان حشاشا كبيرا. # ولولا الإطالة لسردت شيئا كثيرا من المواقف التي تصور هذا الكاتب، وما على المستزيد ~~إلا أن يطالع الكتاب كله ليرى فيه أضعاف أضعاف ما ذكرناه، وأظن أن النسخ الآسيوية ~~القديمة ليست بهذه القحة ولا هذا البرود وتلك السماجة. # هذا ما وصل إليه جهد استطاعتي، وعسى أن لا يضن الأستاذان الكبيران صاحبا السعادة أحمد ~~زكي باشا وأحمد تيمور باشا بموافاة القراء بمعلوماتهما عن هذا الكتاب توصلا للحقيقة ~~وخدمة للعلم. ~~(12) رابند رافات تاجور # حاولت أن أجد بين الأحياء صورة تماثل هذا الفيلسوف العظيم والشاعر العبقري فلم أوفق، ~~فشحذت الذاكرة وأرهفت اليراع واستنجدت بطيف الشعر، فهمس بعد قليل ms130 في أذني: عبثا تؤمل ~~أن تظفر بأمنيتك بين الأحياء ودونك صورة صادقة خلدها الفن؛ وهي تمثال موسى عليه السلام ~~من صنع المثال العظيم ميكيل أنج. # إن كانت عندك أيها القارئ هذه الصورة في دائرة معارف أو كتاب في الفن، فافتح كتابك ~~وتأمل معي فيها وانظر إلى الهيبة والعظمة اللتين يملكان عليك مشاعرك، والعين البراقة ~~والنظرة الحادة المهيبة التي تملي عليك إرادتها دون أن تمتعض أو تستنكف أو يأخذك الزهو ~~والكبرياء، وشعره المتدلي على أكتافه ولحيته البيضاء المسترسلة إلى صدره كلبد ~~الضياغم. # شاهدته حينما زار مصر بالمصادفة في الطريق وهو راكب عربة، وقد وقع نظره علي دون ~~قصد، فراعتني تلك الطلعة المهيبة والجلال النادر وتلك النظرات الحادة، وقد خيل إلي ~~أنها اخترمت أحشائي ووصلت إلى سويداء قلبي، فقرأت ما خط فيه من سر مكنون، وقد تضاءلت ~~أمامي وقتئذ جميع الشخصيات البارزة، وأيقنت بعدما قرأت نحو خمسة عشر مجلدا من مؤلفاته ~~التي ترجمت إلى الفرنسية أنه عطارد الشعر الذي لا يدرك له غبار، ولا يجاريه فيه ~~مجار. # ومن مزاياه النادرة التي لم يبلغ شأوها غيره من الشعراء الأقدمين والمعاصرين: الرقة ~~الفتانة، والرشاقة النادرة الساحرة، وسلامة الذوق المتناهية، والعواطف المتأججة، ~~والمعاني العظيمة العميقة التي جمعت بين الشعر والفلسفة فزادت قوة على قوة، وقريضه ~~الخالي من التكلف والذي لا يشاهد فيه أثر للصناعة والإجهاد. # وحينما ترجم ديوانه «بستاني الحب» إلى الفرنسية وظهر في عالم المطبوعات أخذت منه ~~نسخة ولم أتمكن من قراءتها في أول يوم، وفي الغد انتابني مغص الكليتين واشتد علي حتى ~~جعلني أئن وأتلوى كالطير المذبوح، ولما سكنت قليلا شدة الألم أخذت هذا الديوان وأنا ~~راقد، ولم آت على آخر القصيدة الثانية حتى انتقلت إلى عالم آخر ونسيت الألم وتفتحت ~~عيناي واشتدت عضلات جفوني بعد ارتخائها، وتنبهت أعصابي بعد خمودها، ولهوت عن كل شيء، ~~ولم أقطع هذه اللذة النادرة التي سكنت آلامي بشيء آخر من طعام أو شراب أو دواء، وما ~~غربت الشمس حتى أتممت قراءة ما بين دفتي الديوان وأنا مدثر ms131 في فراشي. # إذا أمعنا النظر في شعر كبير وهو أحد زعماء الصوفية في الهند في القرن الخامس عشر ~~وجدنا بينه وبين شعر تاجور شبها كبيرا؛ إذ كلاهما يبحث عن الخالق ويتغزل فيه، وهذا ما ~~يدلنا على تأثر تاجور من كبير، ولكن الفرق بينهما أن تاجور أرقى بكثير من كبير، وقصائده ~~أطول، ومعانيه أعمق وأفخم، وإتماما للفائدة نسرد كلمة عن كبير وبعض مقطوعات من نظمه ~~لنقارن بينها وبين شعر تاجور. # وقد نقل تاجور شعر كبير من البنغالية إلى الإنجليزية بنفسه، وهذا مما يدل على ولعه ~~بقريض هذا الشاعر وإعجابه به. # ولد كبير من أبوين مسلمين بمدينة بيناريس حوالي سنة 1440، وانضم منذ صغره إلى تلاميذ ~~الناسك الهندوكي الشهير رامانندا، وكان هذا الأخير متبحرا في العلوم الدينية وعاش في ~~عصر تأثر فيه الشعر الوجداني والفلسفة العميقة بكبار الصوفية من الفرس تأثرا عظيما في ~~الفكرة الدينية بالهند، وقد أمل أن يوفق بين التصوف الإسلامي والبرهمي المتواتر. # ويعد كبير من عظماء المصلحين الدينيين، وله حزب باق إلى الآن يبلغ المليون، وفضلا ~~عن ذلك فقد بلغ في القريض مكانة لم يسبقه إليها غيره من أسلافه، وشعره حافل بجميع أنواع ~~العواطف من أدقها إلى أشدها، وتعد معانيه من السهل الممتنع الخالي من التعقيد ~~والتكلف. # نراه في نظمه لم يفرق بين العقائد البرهمية والدين الإسلامي، بل كان قريضه يتناول ~~الاثنين، وكان فضلا عن تصوفه وشهرته في القريض موسيقيا ماهرا. # لم ينقطع للتنسك وإماتة الجسم والعزلة والتأملات؛ بل كان حائكا يعيش من صناعته، ~~والغريب أن جميع الأساطير أجمعت على أنه كان أميا رغما مما بلغه من أعلى شأو في ~~القريض، وكان متزوجا ورزق بأولاد، وكان يحتقر التنسك والعزلة والزهد والتقشف وتجنب ~~الحب والابتعاد عن السرور والجمال المنتشر في العالم من الوحدة اللانهائية. # أما من جهة العقيدة فلا نستطيع أن نعتبره مسلما ولا هندوكيا؛ لأنه كان ملحدا، ~~وكان يمقت العقائد الدينية، وجميع الأوساط الدينية كانت تعده رجلا خطيرا، والإله الذي ~~كان يبحث عنه لم يكن في الهياكل ولا في المساجد ms132 ، وكان يعتقد أنه موجود بجانب كل من ~~ينشده. # كان نفوذ الكهان والبراهمة عظيما في بيناريس فاضطهدوا كبيرا، وقيل إنهم أرادوا ~~إغواءه فأرسلوا إليه بغيا حسناء فلم تنل منه نيلا، بل هداها حتى تابت وأصبحت طاهرة ~~صالحة. # أتى عليه عام 1518 وهو هرم سقيم ضعيف الذراعين، فتوفي في هذا التاريخ بمدينة مجهر ~~على مقربة من جور أكنور. # ومن الأساطير اللذيذة التي قيلت عن وفاته أنه لما مات تخاصم تلاميذه المسلمون ~~والهندوكيون على جثته، فأراد الأولون أن يدفنوه، وأراد الآخرون أن يحرقوه، فظهر لهم ~~كبير وقال: «انزعوا الأكفان وانظروا إلى ما تحتها.» فأطاعوا ووجدوا تحتها باقة من ~~الأزهار النضرة، فاقتسموها بينهم، ودفن المسلمون نصيبهم في مجهر، وأخذ الهندوكيون ~~نصيبهم وأحرقوه في بيناريس. # وهاكم خمس مقطوعات من شعر كبير: # 1 # أين تبحث عني يا خادمي؟ انظر ترني على كثب منك! لست في الهيكل ولا في ~~المسجد ولا في محراب الحرم المكي ولا في مقام آلهة الهند، ما أنا في المذاهب ~~ولا في الحفلات الدينية ولا في التنسك وتقشفه وزهده. # إن كنت تبحث عني حقا فستراني قريبا، وستأتي الساعة التي تحظى فيها ~~بمقابلتي. # ويقول كبير: «أيها الولي، إن الله هو نفس كل من يتنفس من الأحياء.» # 11 # كنت فيما مضى ألعب مع رفاقي ليل نهار ولكن الخوف يساورني الآن. # قصر سيدي شاهق يناطح السحاب وقلبي يخفق من الهلع، إن حاولت الصعود إليه بيد ~~أنه لا ينبغي لي أن أكون هيابا، إن أردت التمتع بحبه يجب أن يرتبط قلبي بأعز ~~حبيب، وأن أزيح نقابي وأجمع بين كياني وذاته، وستكون عيناي مقرا لمصابيح ~~الحب. # ويقول كبير: «سماع أيتها الحبيبة، إنه يفهم من يحبه، فإن لم يضنك حب ~~المحبوب فلا فائدة من تزيين جسمك وتجميل أجفانك بالكحل.» # 12 # خبريني أيتها البجعة عن تاريخك القديم، ومن أي البلاد أتيت؟ لأي شاطئ تطيرين؟ ~~أين تستريحين أيتها البجعة وعم تبحثين؟ استيقظي أيتها البجعة في هذا الصباح ~~وانهضي لتتبعيني، إنها لبلاد لا يدخلها الشك ولا الحزن والكآبة، ولا يتسرب ~~إليها الخوف من المنون، هناك ترى ms133 الغاب، وقد جلله الربيع بأزهاره، ويقول عرفه ~~الشذي: «أنا هو.» وتحمله ريح الصبا. # وهناك تغوص نحلة القلب في قاع الزهرة ولا تريد غير هذه المسرة. # 27 # إن رحمة سيدي الحق هي التي علمتني ما خفي، ولقد تعلمت منه أن أسير بغير ~~قدمين، وأن أنظر بلا عينين، وأن أسمع من غير أذنين، وأن أشرب بدون شفتين، وأن ~~أطير بغير جناحين. # وفي البلاد التي لا تنعم بشمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار، قد أحببت وتأملت، ~~لقد تذوقت حلاوة الرحيق دون أكل، وقد ارتويت بغير ماء. # إن السرور المتقاسم لهو أعظم المسرات. # أمام من نستطيع أن نعبر عنه؟ # ويقول كبير: «سيدي أعظم من العوالم، وما أعظم ثروة تلميذه.» # 30 # في هذه الشجرة طير يرقص في فرح الحياة، ولا يستطيع أحد أن يعرف مقره أو يعيد ~~مرد أغنيته. # هل رأيت موضع الظل الكثيف الذي يسقط من فروع الشجر المتكاثفة، فهناك عشه، إذ ~~يجيء في المساء ويطير في الصباح، وإني لا أعرف له كنها، ولا يتيسر لأحد أن ~~ينبئني عن هذا الطائر الذي يغرد في نفسي، وما ريشه بملون ولا غير ملون، وليس له ~~شكل ولا حد، وهو يستقر في ظلال الحب. # إنه ينام في باطن من لا يدركه العقل الدائم الذي لا نهاية له، ولا يعلم أحد ~~متى يطير ولا متى يعود، ويقول كبير: «أيها الأخ الصالح الورع! إن هذا السر عميق ~~فدع الحكماء يبحثون عن مقر هذا الطائر.» # لنعد بالقراء إلى تاجور والحديث ذو شجون، ولد المترجم في عام 1860 بكلكتا، وقد منحه ~~مجمع ستوكهلم العلمي جائزة «نوبل» في الآداب في 13 نوفمبر سنة 1913، وقال: إن شعره يشمل ~~جميع مطامح النفس، وهو عريق في النسب من أسرة بنغالية تضم كثيرا من عظماء الرجال، وقد ~~نال جده الأمير «دوراكانات تاجور» شرف المثول أمام الملكة فكتوريا، واشتهر والده ~~المهرشي - أي الحكيم - دبندارانات تاجور بأنه مفكر ديني. # والمترجم نفسه معروف بتأملاته وتصوفه؛ إذ يشاهد كل يوم غارقا مدة ساعتين في بحار ~~عميقة من التأملات، وهذا لا يمنعه من تكريس ms134 نشاط منتظم لتهذيب كثير من النفوس، إذ أسس ~~بمدينة بوليبور بجوار كلكتا مدرسة يديرها في الهواء الطلق يعد فيها أكثر من مائتي طالب، ~~وهو وطني عظيم، درس المدنية الإنكليزية وآدابها ومشهور في إنكلترا أكثر منه في فرنسا، ~~وقد حضر مؤتمر الأديان بباريس سنة 1913. # عرف الناس هذا الشاعر منذ ربيعه الثامن عشر، إذ أخرج لهم رواية تمثيلية موسيقية ثم ~~أعقبها برواية قصصية، وقد ذاع شعره في جميع أقطار الهند حتى أصبح بعد زعيم شعراء الهند ~~قاطبة، وأصبحوا يؤرخون به عصرا جديدا في الآداب الهندية يسمونه ~~«الرابندراناتي». # وقد برع في الموسيقى كما برع في الشعر، وألف ألحانا يدل شكل نغماتها على تعبيرات ~~عالية، ولحن قصائد تلحينا يدل على غزارة المادة ودقة الشكل، وترجم بنفسه ديوانه ~~المسمى «القربان الشعري» من البنغالية إلى الإنجليزية، وكتب له الشاعر الأرلندي «يتس» ~~مقدمة قال فيها: # إن بيتا مع قريض رابندرانات لينسي آلام الدنيا. # يعد المترجم من الشعراء المتصوفين ذوي النظم الجلي المعبر عن عنيف العواطف والآلام، ~~وما فتئ يتطلب تجلي الخالق ويشعر بوجوده في جميع العالم، ولو أنه هندوكي صميم لكنه لا ~~يغفل وهو ثمل بنشوة التأملات والخيالات عن الاتصال بالناس وشغفه بالطبيعة. # إنه يتهلل لجمال الطبيعة وقد جللها النور وكستها أزهار الربيع بشائق حللها، ويشجيه ~~تغريد الطير فوق الدوح والخمائل، ويبسم لقوس قزح، ويفتنه جمال الزهر ويثمله أرجه العبق، ~~ويصغي بفرح إلى خرير الأمواج ومداعبتها للسفن الماخرة، وقد عبر عن هذا الشغف في كثير من ~~المواقف؛ كقوله في عرض قريضه: «قد دعيت إلى عيد الدنيا وبورك لي في حياتي.» وهذا ما يدل ~~على أنه بعيد عن التشاؤم العظيم الذي اتصف به المفكرون من الهندوكيين. # إنه لا يخشى الموت ويرغب في الخلود الذي يجمعه مع الله، ولكنه يحب الحياة وجمال ~~الدنيا. # نرى شاعرنا يتهلل فرحا أمام منظر الحياة العامة، ولكنه يرى الحياة في العمل ~~والإجهاد، ويرى في الموت الدعة والسكون، فهو يطمح إلى النعيم المقيم ليتفانى في التقرب ~~من الله، إذ يقول: ~~«لقد تمكنت من الوصول إلى ms135 ضفاف الأبدية التي لا يخفى فيها شيء. أغمس حياتي المجوفة في ~~هذا القاموس، أغمرها وسط هذا التمام حتى أشعر في ذاك العالم الكامل بتلك الملاطفة التي ~~فقدتها في الحياة الدنيا.» # وهذا التمام والكمال بابه الموت الذي لا يخشاه تاجور، إذ يعتبر أن في المنون تمام ~~الحياة والمسلك الموصل للقاء ربه، وأن الموت والحياة هما وجها الدنيا، فإن أحب أحدهما ~~فلم لا يحب الآخر. ومن أبلغ ابتكاراته الشائقة السهلة قوله: «يئن الطفل حينما تنزع ~~أمه ثديها الأيمن من فمه مع أنها لا تلبث أن تناوله الأيسر الذي يجد فيه عزاءه ~~وسلوانه.» # طرق تاجور أغلب نواحي الأدب من فلسفة وشعر وروايات قصصية وتمثيلية وأقاصيص وحكايات ~~وقطع فكاهية وغيرها، ولقد أجاد كل الإجادة في كل هذه الأنواع. # إن أمعنا النظر في روايات تاجور الأولى التي ظهرت من سنة 1877 إلى سنة 1890 وجدنا ~~فيها تأثرا ظاهرا من الكاتب البنغالي الكبير «بنكيم شندراشاترجي» الذي نشرت كتبه سنة ~~1864. # ولكنه تحرر من هذا التأثير في سلسلة الحكايات التي نشرها من سنة 1890 إلى سنة 1900، ~~وكان يصور فيها حياة الريفيين والأسر المتوسطة البنغالية. # ثم ظهرت بعد ذلك رواياته الاجتماعية العظيمة: # حزن العيون سنة 1904-1905. # جورا سنة 1908-1910. # البيت والعالم سنة 1913-1914. # الأربعة الأصوات سنة 1914-1915. # وأما كتابته الفكاهية فلم تترجم لغاية الآن من البنغالية، ويعد تاجور أعظم كاتب ~~فكاهي في الهند. # وأعظم رواياته وأكبرها «جورا» وهي صورة غنية وجريئة أغضبت كثيرا من الأحزاب لتهكمه ~~الشيطاني اللطيف الذي يشوق القارئ لاكتشاف بطل الرواية وزعيم الوطنيين وهو من دم أرلندي ~~وقد التقطته أسرة من الهندوكيين الطيبين. # وتلي هذه الرواية في الشهرة رواية البيت والعالم، وهي من حيث البلاغة والعواطف والرقة ~~والرشاقة تقرب من الشعر كثيرا. # وقد قال عنه «رومان رولان» في عرض كلامه: لقد تفرد مؤلف «البجعة» باختلاج الطبيعة ~~العنيفة الذي يغمر به حديثه فيسمع تحت كلام المحدث الرقيق غناء الروح بدون كلام، وهو ~~يختلج تحت الحجاب وما هو إلا موسيقى السكون. # ولنكتف بهذه الكلمة لنعرض للقراء نماذج من ديوانه «القربان الشعري» و«بستاني الحب» ~~وهما ms136 أشهر دواوينه. ~~(12-1) القربان الشعري # 5 # أسالك أن تمن علي أن أستريح بجانبك لحظة أتم فيها ما شرعت فيه من ~~الأعمال، حرمت من رؤية وجهك الكريم فأصبح فؤادي لا يعرف للراحة معنى ولا ~~أمدا، وظل اجتهادي عناء دائما في مفازة النصب المترامية الأطراف، أقبل ~~الصيف اليوم إلى كوتي هو وأنينه، وهرول النحل إلى الرياض المزهرة ليرتشف ~~ثغور نوارها. # أقبلت ساعة الدعة الهنيئة لأنشد معك وجها لوجه ولا نذر، وأكرس لك حياتي ~~في صمت هذا الفراغ العظيم. # 6 # اقطف هذه الزهرة الضئيلة وعجل بأخذها لئلا تذبل وتتناثر فوق ~~التراب. # وإن لم يكن لها محل في باقتك فشرفها بلمس يدك واجنها، فإني أخشى أن لا ~~يتم اليوم قبل أن يخالجني الشك ويفوتني وقت الإهداء. # خذ هذه الزهرة لنفسك وإن تكن كامدة اللون حيية العرف، اقتطفها فقد آن ~~الوقت. # 12 # إن الزمن الذي يتطلبه رحيلي لطويل والطريق بعيدة، لقد خرجت راكبا عجلة ~~أشعة النور الأولى، وقطعت رحلتي خلال وحدة الدنيا تاركا أثري فوق نجوم ~~عدة، إن أبعد ظعن هو الذي يقربني إليك، وإن ترجيع الصوت وتنويعه لهو يوصل ~~إلى انسجام الأصوات التام. # ويلزم الراحل أن يطرق جميع الأبواب قبل أن يصل إلى بابك، كما ينبغي له أن ~~يضل خلال جميع العوالم الظاهرة ليصل في النهاية إلى تابوت العهد. # لقد تركت عيني تضلان في بعيد الفجاج قبل أن أقفلهما وأقول: ها أنت هنا، ~~وهذا السؤال وذاك الانتظار يذوبان في عبرات ألف من الأنهار، ويغمران الدنيا ~~تحت لجج هذه الحقيقة أنا. # 21 # أما حان الوقت لأطلق عنان سفينتي؟ تنهار الساعات الدنفة فوق العراء، فوا ~~أسفاه! # جاء الربيع بأزهاره ونواره ثم ولى تاركا أزهارا حقيرة ذابلة بينا أنا ~~منتظر مستبطئ. # هاجت الأمواج بعيدا عن الضفاف وتساقطت الأوراق المصفرة في الدرب ~~الظليل. # ليت شعري! ما الذي غاب عنك وتفكر فيه؟ أما شعرت باختلاج يتخلل الهواء مع ~~اللحن القصي الذي يصعد ثم يهرب وراء الشاطئ الآخر؟ # 27 # أيها النور! أين ذاك النور؟ نعشت وأسعدت بنار الرغبة المتوهجة. # ها هو المصباح ولكنه لا يختلج كالشعلة ms137 ، أهناك مصيرك يا قلبي؟ وإن المنون ~~لخير لك. # إن البؤس يطرق بابك ومهمته أن سيدك يقظ، وضرب لك موعدا للحب خلال جنح ~~الظلام. # السماء متلبدة بالغمام وما فتئ المطر منهملا، ولكني لا أدري ماذا يجيش ~~في نفسي ولا أدرك له معنى. # إن لمعان البرق الفجائي جلب إلى عيني ظلاما حالكا، وإن فؤادي ليبحث وسط ~~هذه الحنادس عن السبيل الموصلة إلى الألحان التي تدعوني. # أيها النور! أين ذاك النور؟ نعشت وأسعدت بنار الرغبة المتوهجة. # يقصف الرعد وتهب الريح مزمجرة خلال الفضاء والليل معتم «كالاردواز» فلا ~~تترك الساعات تمر في الظلام، وأنعش مصباح الحب بحياتك. # 57 # أيها النور! أي ضوئي الذي يملأ الدنيا، يا من هو لثمة العيون وهناءة ~~القلوب. # يرقص النور وسط حياتي! أيها المحبوب العزيز! إن هواي يرن من وقع ضربة ~~النور، تنفتح السموات، وتهب الرياح، وجاب ضحك الأرض. # حلق الفراش فوق خضم النور الذي أحبه، وفجر الضوء من رءوس اللحج زنبقا ~~وياسمينا. # أيها النور العزيز! انقش السحب بأصباغك العسجدية لتنتثر منها الجواهر ~~الشائقة، انتشر الفرح من ورقة لأخرى يا هواي، وسادت الهناءة ~~العميمة. # طغى نهر السماء فغمر ضفافه، وظلت أمواج الفرح خارجه. # 82 # إلهي! لا نهاية للزمن الذي بين يديك، ولا أحد هناك ليعد دقائقك، تكر ~~الأيام والليالي، وتتفتح الأعمار ثم تذبل كالأزهار، وتعرف أنت كيف ~~تنتظر. # تتعاقب قرونك لتتم زهرة ضئيلة من أزهار الحقول، لا زمن لنا نضيعه، إذ ~~ينقصنا الوقت كما أنه يلزمنا أن نتحمل المشاق في سبيل حظوظنا. إننا مساكين ~~ولا يتسنى لنا أن نتأخر. # وهكذا يمر الزمن بينا أهجره لجميع الشاكين الذين يريدون أن يستردوه، ~~وحينئذ يبقى محرابك خاليا من القرابين عاطلا. # وعند انتهاء النهار تساورني العجلة خشية أن لا تكون الأبواب موصدة، ~~وفضلا عن هذا أرى أن الوقت لم يفتني بعد. ~~(12-2) منتخبات من البستاني # 1 # الخادم ~~: # أيتها المليكة رحمة بخادمك. # الملكة ~~: # لقد انفض الاجتماع وانصرف أتباعي، ولم أتيت في هذه الساعة ~~المتأخرة؟ # الخادم ~~: # تحين ساعتي حينما تمر ساعات الآخرين، خبريني أي عمل بقي لآخر ~~خدمك؟ # الملكة ~~: # ماذا ms138 تؤمل بعد فوات الأوان؟ # الخادم ~~: # اجعليني بستانيا لحديقة أزهارك. # الملكة ~~: # ما هذا الجنون؟ # الخادم ~~: # إنني أرفض أي عمل آخر، وسأطرح رماحي وسيوفي في التراب، لا ترسليني إلى أي ~~بلاط ملكي بعيد، ولا تكلفيني بفتوحات جديدة، بل اجعليني بستانيا لحديقة ~~أزهارك. # الملكة ~~: # وماذا يكون عملك؟ # الخادم ~~: # سيكون عملي قاصرا على أوقات فراغك وسأرعى الكلأ بعنايتي حتى تستمر نضرته ~~في الدرب الذي تسيرين فيه في الصباح، حيث تتمنى الأزهار الموت وتتعطش لأن ~~تموت تحت قدميك مباركة القدم التي سحقتها. # وسأؤرجحك بين أغصان «السبتبرنا» بينما يطلع القمر مبكرا في السماء ~~محاولا أن يقبل طيلسانك من خلال أوراق الأشجار. # وسأملأ السراج الذي يشتعل بجانب سريرك بالزيت العطر، وسأزين كرسيك ~~بالصندل والزعفران. # الملكة ~~: # أي جزاء تبتغي؟ # الخادم ~~: # أن تسمحي لي أن أمسك بين يدي بيديك الغضتين المماثلتين لأزرار ~~النيلوفر، وأن أطوي حول ذراعيك عقود الأزهار، وسأخضب قدميك بعصارة أزهار ~~«الأشوكا» الحمراء، وسأقتطف بقبلة ما علق عليهما من الغبار. # الملكة ~~: # قد قبلت توسلاتك يا خادمي وستكون بستاني حديقة أزهاري. # 2 # أيها الشاعر! اقترب المساء، واشتعل رأسك شيبا. # أتسمع وأنت غارق في تأملات عزلتك رسالة ما وراء الوجود؟ # قال الشاعر: ها هو المساء، إنني مصغ: فلربما نادى أحد من القرية رغما ~~من هذه الساعة المتأخرة. # إنني ساهر، وعاشقان يبحث أحدهما عن الآخر، فهلا يقودهما قلباهما؟ وهلا ~~يتقابل قلبان ضالان لعاشقين في شرخ الشباب؟ وإن عيونهم البراقة لتنشد وهي ~~متسولة حبا منسجما يقطع السكوت ويتكلم بدلا عنهما. # من ينسج لحمة غنائهما المؤثر الشجي، إذا داومت الجلوس على شاطئ الحياة ~~أشاهد الموت وما وراء الوجود؟ # لقد اختفى نجم المساء الأول، وطفقت نار أتون الأموات تخبو ببطء بعد ~~سعيرها المتوهج على مقربة من الغدير الصامت، وكان يسمع من فناء المنزل ~~المقفر في ضوء القمر الكامد عواء أبناء آوى، وإذا مر ظاعن، وقد ضل عن مأواه ~~ضلالا بعيدا ثم أقبل ليشاهد الليل وينصت وهو منكس الرأس إلى نشيد ~~الظلمات، فمن يكون هنا ليسر إليه أسرار الحياة إذا أنا أقفلت بابي وأخليت ~~نفسي ms139 من كل قيد يربط البشر بعضهم ببعض؟ # لا يهمني إن اشتعل الرأس شيبا، فإني ما زلت فتيا مثل أصغر أهل القرية، ~~وهرما مثل أكبر رجل فيها. # البعض لهم بسمات بسيطة لطيفة، والآخرون تلمع أعينهم من المكر ~~والخبث. # وهؤلاء لهم عبرات تنفجر في ضوء النهار، والآخرون لهم دموع تختفي في ~~الظلمات، جميعهم محتاجون إلي وليس عندي من الوقت ما يسمح لي بالتأمل في ~~الحياة القادمة. # إنني في كل سن فلا يهمني أن يشتعل الرأس شيبا. # 7 # أماه، سيمر الأمير الشاب ببابنا، فكيف أستطيع العمل في هذا ~~الصباح؟ # لم تنظرين إلي نظرة الدهش يا أماه؟ # إنني متيقنة أنه لا يلتفت إلى كوتي، وأعلم أنه سيختفي عن الأنظار بعد ~~لمحة عين وستقبل زفرات نايه القصي وحدها لتموت في أذني. # سيمر الأمير الشاب أمام بابنا وأريد أن ألبس أفخر ما عندي لهذه اللحظة ~~أماه، لقد مر الأمير الشاب أمام بابنا وكانت أشعة الشمس تتلألأ فوق مركبته، ~~لقد سفرت ونزعت من جيدي عقد الياقوت ورميته تحت قدميه. # لم تنظرين إلي يا أماه نظرة الاستغراب؟ # إنني أعلم أنه لم يلتقط عقدي وأعرف أنه قد سحق تحت عجلات مركبته بعدما ~~ترك بقعة حمراء فوق التراب، ولم يفكر أحد أنه كان هديتي ولا لمن أهدي، ~~ولكن الأمير الشاب قد مر أمام بابنا وقد نثرت في طريقه جواهر قلبي. # 15 # أعدو كظبي المسك وقد ثمل شذى عطره فظل يجري في ظلام الغاب، وكانت ليلة من ~~ليالي أيار وقد هب النسيم من الجنوب، ضللت الطريق وتهت وظللت أبحث عما لا ~~أستطيع أن أجده وأعثر على ما لا أبحث عنه. # وصعدت من قلبي صورة رغائبي فرأيتها ترقص أمام عيني. # لقد طار الجمال المتوهج وسولت لي نفسي أن أمسك به ففر وضللت الطريق، إنني ~~أبحث عما لا أستطيع أن أجده وأعثر على ما لا أبحث عنه. # 28 # إن نظرك لحائر حزين يحاول أن يقف على ما يدور بخلدي. # إن القمر يريد أيضا أن يخترق اليم. # إنك تعلمين أسرار حياتي ولم أخف عنك شيئا، فلم تجهلين ms140 كل شيء؟ # لو كانت حياتي حجرا ثمينا لسحقته مائة قطعة وعملت من هذه القطع عقدا ~~أقلد به جيدك. # ولو لم تكن حياتي إلا زهرة صغيرة فإنني أقتطفها من ساقها لأزين بها شعرك، ~~ولكنها أيتها الحبيبة قلب وأين يوجد أطرافه؟ إنك تجهلين حدود هذه المملكة ~~بيد أنك ملكتها. # ولو لم يكن قلبي إلا لذة لرأيته يزهر ابتساما سعيدا ولاخترقته في ~~لحظة. # ولو لم يكن إلا ألما لذاب وتحول إلى عبرات رائقة ينعكس فيها بصمت ~~أسراره، ولكنه هيام يا حبيبتي العزيزة، ملذاته وأتعابه لا تحد، وفقره ~~وغناه دائمان. # إنه لأقرب إليك من حياتك ولكن هيهات أن تعرفيه حق المعرفة. # 29 # تكلمي أيتها الحبيبة! أعيدي إلي الكلمات التي تترنمين بها. # الليل مظلم وقد غابت النجوم في السحب، والريح تتنهد خلال الأوراق. # سأحل شعري وستغمرني عباءتي الزرقاء بليلها، وسأضم رأسك إلى صدري، وهناك ~~في هذه العزلة اللطيفة أناجي فؤادك، وسأغمض عيني وأنا مصغ دون أن أنظر إلى ~~وجهك. # وحينما ينتهي كلامك نبقى سكوتا في اطمئنان ودعة، والأشجار وحدها تهمس ~~بنجواها في حنادس الظلمات. # سيكمد لون الليل وسيولد النهار ونحن ننظر في عيني بعضنا البعض وسنتم ~~طريقينا المختلفين. # تكلمي أيتها الحبيبة وأعيدي لي الكلمات التي تترنمين بها. # 36 # تمتم قائلا: ارفعي ناظريك يا حبيبتي. # فزجرته مجيبة: اذهب لشأنك! ولكنه لم يبرح مكانه. # جلس أمامي وأخذ يدي بين يديه، فقلت له: دعني وشأني! ولكنه لم يذهب، قرب ~~وجهه من وجهي، فنظرت إليه قائلا: وا خجلاه! ولكنه لم يبد أية ~~حركة. # مست شفتاه خدي فارتعدت وقلت: لقد غلوت في جرأتك! ولكنه لم يخجل. # وضع زهرة في شعري، فقلت له: هيهات هيهات لما تبغي! ولكنه لم يغضب. # أخذ عقد الزهر من عنقي ثم ذهب، بكيت وسألت قلبي: هلا يعود؟! # 63 # هل أنت مضطر لمواصلة سفرك الآن أيها السائح؟ # الليل ساكن وقد أرخى الظلام سدوله على الغاب. # تتلألأ المصابيح فوق شرفتنا والأزهار نضرة ولم تكد تستيقظ عيون الشباب، ~~هل أزف وقت رحيلك؟ هل أنت مضطر لمواصلة سفرك الآن أيها السائح؟ # لم نحط ms141 قدميك بأذرعنا متوسلين والأبواب مفتوحة، وجوادك مسرج ينتظرك بجانب ~~السياج. # لم تسول لنا النفس أن نحجزك إلا بأغانينا، وقد حاولت أنظارنا وحدها ~~أن تؤخر سفرك. # أيها الراحل، إننا عاجزون عن أن نبقيك بجانبنا، إذ ليس لنا غير ~~عبراتنا. # أية نار مقدسة تلمع في عينيك؟ وأية حمى اضطراب تجري في دمك؟ وأي نداء من ~~الظلمات يحرضك؟ # ما الذي قرأته في صفحة نجوم السماء من عزائم السحر الهائلة حتى يتسرب ~~الليل خفية إلى فؤادك وهو الرسول الصامت الغريب؟ # وإن كنت تحتقر الاجتماعات المتهللة، وترغب أن تخلد إلى الدعة والسكون ~~أيها القلب المتعب، فإننا نطفئ مصابيحنا ونسكت كناراتنا. # وسنجلس هادئين ساكتين في الليل تحت حفيف أوراق الأشجار، وسيرمي القمر ~~أشعته الضئيلة على كوتك. # أيها السائح، أي شيطان من شياطين الأرق سلطه عليك قلب الليل حتى ~~مسك؟ ~~(12-3) أقاصيص تاجور # نبغ تاجور في الأقاصيص حتى أصبح يضارع أكبر الكتاب في هذا النوع مثل: «دوديه ~~وجي دو موباسان» إن لم يفقهما، ولقد جمع في كتاباته بين رشيق الأسلوب وظريف ~~النكات والفكاهات وبلاغة التعبير وسمو الأفكار وفخامة المغزى الاجتماعي ~~والأدبي. # إنه يهتم كل الاهتمام بما أوتي من بلاغة وشعر وفلسفة بالمرأة الهندية ولا سيما ~~الأيامى؛ إذ هن أتعس وأشقى نساء العالم؛ لأنه لا يجوز لهن أن يتزوجن ثانية، وليس ~~لهن بيت ولا ملك. # وقد خصص إحدى رواياته المسماة «الأصدقاء» للمرأة، إذ عليها يدور محور الرواية، ~~وسيرى القراء في إحدى الأقصوصتين اللتين اخترناهما وعنوانها «جارتي الجميلة» كيف ~~صور الأرملة وكيف رفعها إلى أعلى ذروة، وأسبغ عليها من آيات الجمال والرشاقة بأسلوب ~~ساحر وقدرة نادرة. # جارتي الجميلة # إن الشعور الذي نفحتني به الأرملة الفتية التي كانت متوطنة بجواري ما كان إلا ~~شعور إجلال واحترام، وهذا ما كنت أؤكده لأصحابي وأعيده لهم، حتى إن صديقي ~~الحميم «نابان» كان يجهل حقيقة حالتي النفسية. # كنت أشعر بشيء من الكبرياء؛ لأنني استطعت أن أحفظ أهوائي نقية طاهرة بأن ~~دفنتها في سويداء قلبي. # كانت جارتي أشبه بزهرة «السفالي» بللها قطر الندى ثم سقطت قبل ms142 الأوان، كانت ~~متناهية في الطهر والنقاء وضاءة الجمال؛ فلذلك ما كانت تليق للزواج بل كانت ~~حرية بأن تكرس للقاء الخالق. # عاودني هواي العنيف كسيل جارف دوى من شاهق بدلا من أن يستكن ويخمد، وطفق ~~يبحث له عن مخرج يشقه. # فلذلك بذلت الجهد في التعبير عن تأثري وعواطفي بالقريض، ولكن خانني القلم ~~ورفض أن يدنس حبي. # شاءت المصادفات في الوقت نفسه أن مني صديقي «نابان» بهوس القريض، إذ فاجأه ~~بعنف كزلزال الأرض. # ولما كانت هذه هي النوبة الأولى التي أصابت هذا الشاب المسكين لم يجد عنده ~~استعدادا لمعالجة النظم والقوافي، ولم يستطع أن يثبت أمام هذه الصدمة، وخضع ~~لهذا السحر خضوع الأرمل لزوجه الثانية، وفكر نابان في الاستعانة بي لإغاثته، ~~وعالج الموضوع القديم الأبدي الذي يظن دائما جديدا وهو إهداء قصائده لحبيبته، ~~فسألته بعدما صفعته بلطف على كتفه: «من تكون إذن أيها البطل؟» # فأجابني مبتسما: «إنني لا أعرفها.» # وقد وجب علي أن أعترف بأنني وجدت سلوانا عظيما لمجيئي لعون صديقي، وكنت ~~أشبه بدجاجة أفرخت بيضة بطة، واستنفدت كل هواي المتأجج خدمة لنزعات «نابان» ~~الشعرية، ونقحت نظمه الرث وأشعلت معانيه حتى أصبح أغلب كل قصيدة من قصائده من ~~عملي الخاص. # فصاح «نابان» وقد تملكه الدهش: هذا بالضبط ما كنت أريده وما لا أستطيع أن ~~أعبر عنه، وكيف توصلت أيها الشيطان للتعبير عن جميع هذه العواطف اللطيفة؟ ~~فأجبته إجابة شاعر: «يكفي لذلك خيالي، وإنك لا تجهل أن الحقيقة صامتة، وأن ~~الخيال وحده يفجر الفصاحة، والحقيقة هي الصخرة التي تقف سيل العواطف، ولكن ~~الخيال يعرف كيف يشق له في هذه الصفاة دربا يمر منه.» # تلعثم نابان المسكين من الحيرة وأجاب: «نعم نعم، لقد فهمت»، ثم تمتم بعد أن ~~فكر لحظة: «نعم نعم، لقد صدق ظنك.» # وقد بينت فيما سردته أن حبي كان به عاطفة إجلال واحترام تمنعني عن التعبير ~~عنه بألفاظ، ولما أصبح نابان بمثابة ستر لي لم أجد عائقا أمامي لنزعات قلمي، ~~وتأجج لهيب صادق من هذه القصائد التي نظمت بتفويض من صديقي ms143 . # قال «نابان» في آونة كان فيها مطمئن البال مرهف الذهن: «إن هذا القريض ~~مما جادت به قريحتك، فدعني أنشره باسمك.» ~~- يا للحماقة! إنه يخصك يا صديقي العزيز ولم يتجاوز عملي غير التنقيح. # وبهذه الوسيلة أعتقد شيئا فشيئا حتى صدق ما قلته، ولا أنكر أن شعوري كان ~~أقرب إلى شعور الفلكي الذي يقلب طرفيه في السماء، إذ طفقت أوجه ناظري مثله صوب ~~كوة بيت جارتي، ولقد وافقت نظرتي المختلسة جزاءها اللطيف من مشاهدة من كانت ~~تتطلع إليها، وكان أقل شعاع يصدر من هذا الضوء النقي يهدئ ويطهر في لحظة ما ~~كان يكنه تأثري مما يعكر أو يشين. # وفي ذات يوم تملكني الدهش، فهل أستطيع أن أصدق عيني؟ إذ هاجت بعد ظهر يوم حار ~~من أيام الصيف ريح الشمال الغربية وهي عنيفة لا نظام لها وظهرت مهددة، تبعتها ~~سحب مكفهرة تكاثفت في الأفق، فنهضت جارتي الجميلة تحدق في هذا الجو المضيء ~~الغريب المزعج، وتقلب ناظريها في هذا الفضاء المقفر. # وفي هذا التعبير البعيد المنبعث من عينيها اللامعتين السوداوين فقد استنطبت ~~عالما عظيما من الانتظار اليائس! فيا لبركان ثائر تحت سكون الأشعة المتلألئة ~~من هذا الكوكب! وا أسفاه إن هذا النظر المشبع بأماني غير محدودة، ومن يخيل أنه ~~يحاول أن يطير خلال السحب بعنفوان الطير وخفته، وما كان في الحقيقة ليبحث عن ~~السماء، بل كأنه يبحث له عن ملجأ لبعض القلوب الإنسانية. # ولما قرأت الأهواء المبهمة المتصاعدة من هذه النظرات كظمت عواطفي بكل جهد، ~~وأصبحت لا يقنعني أن أصحح رديء القريض، وطمحت نفسي إلى الظهور بأعمال عظيمة ~~جلية، وصممت في النهاية أن أكرس نفسي لتشجيع الزواج الثاني للأرامل، ولا أكتفي ~~بنشر أفكاري هذه بالكلام والقلم، بل بنفوذ المال أيضا، وقد ناقشني نابان في ~~هذه الفكرة قائلا: ~~«إن العزوبة الدائمة تشمل في نفسها فكرة طهر وسلام لا حد لهما، ورواء ودعة ~~تماثل الأماكن الصامتة التي ينيرها بأشعته المحتضرة ضوء القمر الضئيل في ليلته ~~الحادية عشرة، وهلا يكفي الزواج الثاني لتدمير هذا الجمال الرباني؟ ويجب ms144 أن ~~أعترف بأن هذا الشكل من سرعة التأثر كثيرا ما ضايقني، وفي أيام القحط كان رجل ~~سمين ضخم يتمشدق بمسائل الغذاء بلهجة احتقار وازدراء ناصحا من يموت جوعا بأن ~~يتغذى بأريج الزهر وغناء الطير، فماذا تقول في رجل مثل هذا؟» فسبقته بالجواب ~~بعنف: «اصغ لي يا نابان، فقد تكون البيوت المتهدمة للفنان شيئا يثير إعجابه، ~~ولكن المنازل لم تشيد لأسباب الجمال، ويجب أن تستمر عامرة بأهلها وتدوم فيها ~~يد الإصلاح والعناية دون اهتمام بسرعة تأثر الفنانين.» # ومنذ هنيهة كنت تحبذ الترمل وتجعله شيئا خياليا ومثلا أعلى، ولكن يلزمك ~~أن تفهم أن تحت هذا الترمل يختبئ إحساس القلب الإنساني الذي يئن ويصعد الزفرات ~~من الألم والرغبة. # كنت واثقا بأني سأقنع نابان بصعوبة، فأفعمت مناقشتي بالأهواء والعواطف، ثم ~~دهشت حينما لمحت نابان وهو يزفر زفرة ذاهل في أمانيه، وانتهى الأمر به بأن ~~وافقني على آرائي بعد حديثي القصير، ورأيت أن أستغني عن النتيجة المفحمة التي ~~كنت أريد أن ألقيها عليه! # مضى على حوارنا أسبوع، فأقبل نابان ليراني وينبئني بأنني إذا شددت أزره يكون ~~في طليعة الحركة بأن يبني على أرملة. # طرت فرحا وعانقت نابان بحنو عنيف ووعدته بأن أمده بما يلزمه من النقود ~~الكافية لمشروعه ثم سرد لي وقائعه. # ولقد علمت أن المرأة التي أحبها نابان لم تكن شيئا خياليا، وأنه فتن ~~أيضا من زمن بأرملة دون أن يفضي بسره لأي إنسان. # ولقد وقعت المجلات التي نشرت قصائد نابان - وبالأصح قصائدي - في يد الحسناء، ~~ولم يكن الشعر عديم الجدوى. # وقد وضح لي نابان خبره بالتفصيل، وقال لي: إنه سولت له نفسه لأبعد شأو ~~حتى إنه لم يبحث عما إذا كانت الأرملة تجيد القراءة، وأرسل المجلات لأخي ~~الحبيبة وأخفى اسم المرسل، وكان ذلك منه استرسالا لأهوائه دون أمل. # وحينما يضع العابد عقود الزهر فوق أقدام ربة فليس من شأنه أن يعرف أنها كانت ~~تعلم أو تجهل قربانه، أو كانت تقبله أو ترفضه. # وقد أفهمني نابان أنه ما كان يتتبع شيئا محدودا، وبحث عن ms145 أخي الأرملة وتوصل ~~لأن يتعرف به، وكل ذي صلة بالمحبوبة يملك نفعا خاصا للعاشق. # ثم أعقب ذلك خبر مرض الأخ الذي طال وانتهى بالزيارة الأولى، وحينما حضر ~~صاحبنا تناولت المناقشة بالطبع قصائده، ولم ينتج من ذلك اقتصار الجدل على ~~الموضوع الذي خرج منه. # وفي اليوم الجديد الذي اقتنع فيه نابان ببراهيني استجمع كل قواه لخطبة ~~الأرملة، ولقد رفضت في أول الأمر، ولما استعان ببلاغتي وأسعدتها دمعتان من ~~عينيه سلمت الحسناء دون قيد ولا شرط، ولم ينقص الآن إلا مبلغ من المال يستعين ~~به ولي أمرها لقضاء ما يلزم. # فقلت لنابان: «إن ثروتي رهن إشارتك.» # فأجاب نابان: «ولكني مضطر لأن أعترف إليك بأنه ستمر بضعة شهور قبل أن أتوصل ~~لتهدئة أبي والحصول منه على نفقة، وطالما كان أمر النفقة معلقا فماذا نعمل ~~لنعيش؟» # فحررت له حوالة بما يلزمه من المال، وقلت له: خبرني الآن عن اسمها ولا ~~تعتبرني مزاحما، وإني أقسم لك أنني لا أنظم شيئا عنها، ولو فرضنا وكتبت ~~شيئا من الشعر فتيقن أنني لا أرسله لأخيها بل أوجهه إليك وحدك. # فأجاب نابان: لا تكن غبيا، فإني ما أخفيت عنك اسمها خشية من مزاحمتك، ~~والحقيقة أن فكرة الركون إلى طرق غير مألوفة أثارت اضطرابها، والآن وقد تم كل ~~شيء كما تشتهي وتتمنى فقد برح الخفاء، وما هي إلا جارتك المتوطنة في المنزل رقم ~~19. # فثار قلبي كمرجل من نحاس يوشك أن ينفجر، واكتفيت بأن قلت له: «ألم تبد ~~اعتراضا على زوج ثان؟» # فقال نابان مبتسما: ليس هذا وقته الآن. ~~- إذن فالفضل في هذا الانقلاب الغريب راجع إلى القصائد وحدها. # فأجاب نابان: «هلا كانت قصائدي رديئة لهذا الحد؟» # فأقسمت له كذبا. # ولكن على من تقع تبعة هذا الحنث؟ عليه أم على نفسي أم على الحكمة الإلهية؟ ~~وهذا لا يهمني فقد حلفت رغما من هذه الاعتبارات. # على ضفاف الكنج # إن كنت تحب العصور السالفة فاجلس بنا فوق درجة سلم الشاطئ هذه وأعر أذنيك ~~لتلاطم اللجج. # إننا نقترب من شهر أيلول وقد بلغ النهر ms146 غاية فيضانه، ولم يبق من درجات سلم ~~الشاطئ غير أربع تظهر من سطح الماء. # بلغ البساط السائل حافة الشواطئ في المواضع المنخفضة، وقد نمت هناك خمائل ~~«الكاشو» المتكاثفة محتمية بظلال المنجة، وقد كون التيار العنيف في هذا المكان ~~زاوية وكشف عن ثلاثة أكوام من آجر طال عليه العهد في أماكنه، وقد رست سفن ~~الصيد وربطت في جذوع «البابلاس»، وطفقت تؤرجحها الأمواج وقت الصباح، وكانت ~~المقصبة التي كست الكثيب تجتذب أشعة الشمس حتى أزهرت قبل أن تدرك. # وكانت السفن تمخر عباب النهر المشمس وهي منتفخة القلوع، والكاهن البرهمي ~~يحمل آنيته المقدسة ويتهيأ للاستحمام، وقد أقبلت النساء مثنى وثلاث يطلبن ~~الماء، واعتادت «كزم» أن تظهر في هذه الساعة على درجات السلم لتستحم، ولكني لم ~~أرها في الصباح، وقد أقبلت «بوبان وسوارنو» تتساءلان عن صديقتهما قائلين: ~~«يظهر أنها أخذت إلى دار زوجها في موطن يبعد عن هذا النهر ويمتاز بغرابة سكانه ~~وتفاوت منازله واختلاف طرقه.» ثم عفت رسوم كزم من ذاكرتي، مر العام والنساء ~~اللاتي يأتين للاستحمام لا يذكرنها إلا قليلا، وفي مساء يوم انتفضت من التأثر، ~~إذ عرفت قدمين طالما شاهدتهما، ولكن وا أسفاه قد أصبحتا عاطلتين من الخلخال ~~وفقدتا رنتهما الموسيقية. # ترملت الفتاة، وقيل: إن زوجها دعي إلى بلد بعيد وإنها لم تره إلا مرة أو ~~اثنتين، ثم حمل البريد نعيه ففقدته وهي في ربيعها الثامن عشر، وامحت من ~~جبينها علامة الزواج الحمراء، وتجردت ذراعاها من أساورهما ثم ذهبت إلى بيت ~~أهلها على ضفة الكنج، ولم تجد غير قليل من صويحباتها القديمات، وقد تزوجت ~~«نوبان وسوارنو وامالا» ثم سافرت ولم تبق غير «سرات» التي تثبت أنها ستتزوج ~~للمرة الثانية في شهر ديسمبر. # وفي وقت هطول الأمطار وازدياد مياه الكنج كان جمال «كزم» يزدهي يوما فيوما ~~حتى أشرق، ولكن ثيابها السوداء ووجهها الكئيب وحالتها الهادئة قد ضربت بحجاب ~~على نضرة شبابها وأخفته كما يحجب الضباب نظر الناس. # وقد مر على هذا العهد عشر سنين دون أن يلحظ أحد نمو «كزم»، وفي صبيحة ms147 يوم بعد ~~هذه الأعوام الطويلة، وفي نفس هذا المناخ من أواخر شهر أيلول حضر كاهن فتي عظيم ~~رائق اللون من جهة لا تعلم ليلنجي لمعبد «سيفا» أمام داري، وانتشر خبره بسرعة ~~في نفس القرية، فتركت النساء جرارهن وذهبن ليحيين القديس، ازدادت الجماعات ~~يوما عن يوم، وذاعت شهرة الكاهن بسرعة بين النساء. # وكان الكاهن يقرأ تارة «الهاجبات»، وطورا يشرح كتاب «جيتا»، أو يعظ في ~~المعبد مستقيا مواعظه من الكتب المقدسة، وكان البعض يستمد نصائحه والآخر سحره ~~أو طبه. # مرت الشهور وأقبل نيسان وجاء أوان كسوف الشمس، وكثر المستحمون في الكنج، ~~وأنشئت سوق تحت خمائل «البابلاس»، وشوهد بين الحجاج القادمين لتحية الكاهن ~~سرب من نساء القرية التي تزوجت فيها «كزم». # كان الكاهن في صباح يوم جالسا على إحدى درجات سلم الشاطئ وهو يدير سبحته في ~~يده، وكان ضمن الحجاج امرأة تشير إلى صاحباتها قائلة: «إن هذا الكاهن لهو زوج ~~صاحبتنا كزم.» ثم أزاحت التي بجانبها قناعها قليلا قائلة: «إنه هو بذاته وهو ~~أصغر أولاد أسرة «شياترجو» التي تقطن قريتنا.» وقالت ثالثة وهي تنظم قناعها: ~~«إن جبينه كجبينه، وأنفه كأنفه، وعينيه كعينيه.» وقالت أخرى دون أن تلقي نظرة ~~على الكاهن وقد حركت جرتها في الماء وهي تتنهد: «وا أسفاه! إن هذا الفتى لن ~~يعود أبدا، ووا حسرتاه على كزم!» # ولاحظت أخرى قائلة: «إنه لم يكن طويل اللحية مثله.» وقالت غيرها: «لم يكن ~~هزيلا مثله.» وقالت أخرى: «يظهر أنه كان أصغر سنا.» واستمرت المناقشة بهذا ~~الشكل ثم انقطعت. # وفي ليلة تم البدر أقبلت «كزم» وجلست على مقربة من الماء فوق الدرجة العليا ~~من سلم الشاطئ، فوقع ظلها علي وكنا وحدنا على حافة موضع الاستحمام، وقد صدح ~~حولنا الجندب وسكتت نواقيس المعبد وخفتت أصوات الأمواج عن ذي قبل متهيئة ~~للاختفاء في الخمائل التي لا يحققها النظر من الضفة المقابلة كذكرى الصوت، ~~ولمعت أشعة القمر فوق مياه الكنج السوداء، ومالت في اتجاه منبع النهر ظلال ~~خيالية هائلة على السياج والخمائل، كما مالت على باب المعبد وحوض ms148 الماء ~~والنخيل، وكانت الخفافيش تتأرجح فوق أغصان «الشتيم» بينا ينتشر على مقربة من ~~المنازل عواء أبناء آوى، ثم لا يلبث أن يستحوذ عليه السكون. # خرج الكاهن من المعبد بخطوات متثاقلة، ونزل بعض درجات من مكان الاستحمام، ~~فلحظ امرأة وحدها وتهيأ للابتعاد حينما رفعت كزم رأسها وأدارته فتزحزح قناعها ~~وأضاء القمر وجهها. # حلقت بومة فوق رأسها ثم صاحت فاقشعرت، ولما اطمأن بالها نظمت قناعها ثم وقفت ~~وقفة احترام وخشوع أمام الكاهن، فبارك عليها، ثم قال لها: من أنت؟ فأجابته: ~~إن اسمي كزم، وفي هذه الليلة لم يتبادلا كلاما غير هذا، ثم سارت ببطء إلى ~~منزلها وكان على مقربة من هذا المكان، ولكن الكاهن لبث مكانه فوق السلم دون ~~حراك ساعات طوالا، وفي النهاية حينما غرب القمر وسقط ظل الكاهن أمامه هب ودخل ~~المعبد. # ومن هذه الآونة رأيت كزم آتية كل يوم وماثلة بين يديه بإجلال وخضوع، وكانت ~~تجلس في ركن لتستمع منه شرح الكتب المقدسة، وكان يدعوها إليه بعد الانتهاء من ~~صلاة الصباح ويحادثها في مسائل الدين، ولكنها ما كانت تستطيع أن تفهم كل ما ~~يقوله، بل كانت تصغي إليه بكل دقة، وكانت تساعد في خدمة المعبد وتسارع في ~~العبادة، وتقتطف الأزهار لتزين بها «بوجا» وتحمل الماء من الكنج لغسل أرض ~~المعبد. # أصبح الشتاء على وشك الرحيل واستمر الهواء باردا، وفي بعض الأحيان قبيل ~~المساء يهب نسيم الربيع الحار فجأة من الجنوب، وتفارق السماء شكلها الشتوي، ~~وكان يسمع من جديد صوت المزامير والموسيقى من القرية بعد السكوت الطويل، وسرح ~~الملاحون سفنهم ماخرة الماء، وكانوا يقفون التجديف لينشدوا أغاني «كريشنا»، ~~وقصارى القول: كان كل شيء يبشر بمظاهر الربيع وإقباله. # وفي هذه الأثناء لم أشاهد «كزم» وقد اختفت من أيام ولم تظهر في المعبد، ولا ~~في مكان الاستحمام، ولا أمام الكاهن. # ولقد جهلت ما مر وقتئذ، وبعد قليل التقى الاثنان فوق سلم الشاطئ. # سألته «كزم» وقد نكست رأسها غاضة طرفها: هل دعوتني يا سيدي؟ ~~- نعم، لم انقطعت ولأي سبب أهملت منذ أيام خدمة ms149 أربابك؟ فالتزمت ~~الصمت. # خبريني عن فكرتك دون أن تكتمي شيئا. ثم أدارت وجهها قليلا وأجابت: «إنني ~~خاطئة يا سيدي، وقد أهملت واجب العبادة.» فأجابها الكاهن: «إنني أعلم يا «كزم» ~~أن نفسك فريسة الاضطراب والحيرة.» فأخذتها هزة خفيفة ثم كشفت وجهها وجلست تحت ~~قدمي الكاهن وانهمرت عبراتها كالوابل، فتقهقر الكاهن قليلا ثم قال لها: ~~«أنبئيني عما يجول في فؤادك أرشدك سبيل السلام.» فأجابت بلهجة ذات عقيدة ثابتة ~~وكلمات منقطعة: «إن سمحت تكلمت، ولكني أخشى ألا أجيد التعبير بوضوح، وإنك بلا ~~ريب يا سيدي قد حزرت كل شيء. إنني أحببت إنسانا حبا يقرب من العبادة، وكنت ~~أجله وأحترمه، ولقد فاض قلبي بالسعادة والهناءة حينما انقطعت لإتمام هذه ~~الشعائر. # ولقد رأيت في منامي معبود نفسي جالسا في بستان قابضا بشدة بيسراه على يمناي ~~متمتما لي في أذني بكلمات ملؤها الحب، ولم أجد غرابة في هذا المنظر، زال الحلم ~~واستمر تأثيره، وفي الغد حينما وقعت عيناي عليه ظهر لي بحالة غير التي كنت ~~أعهدها فيه، واستمرت صورة الرؤيا في مطاردتي واستحوذ علي الرعب، وسولت لي ~~نفسي الهرب إلى مكان قصي، ولكن الصورة ما فتئت مرتسمة في ذهني، ومن هذا الوقت ~~لم تعرف نفسي السلام، وأصبح كل شيء من نفسي غامضا مبهما.» # وبينما هي تمسح الدموع من عينيها شاهدت الكاهن يدق حجر السلم برجله اليمنى ~~بعنف، وحينما انتهت من حديثها سألها: حدثيني عمن رأيته في حلمك، فأجابت إجابة ~~توسل ويداها مضمومتان: «لا أستطيع.» # فألح عليها قائلا: «يجب عليك أن تعترفي لي بكل شيء.» ثم لوت يديها وقالت له: ~~«أتريد ذلك؟» فأجاب: «هذا واجب عليك.» فصاحت قائلة: «ما كان إلا أنت سيدي.» ~~وهوت على الحجر تصعد الزفرات، ولما عادت إلى وعيها واستطاعت الجلوس أجابها ~~الكاهن برفق وصوت عذب: «سأبارح هذه المواطن الليلة ولن تريني عوض، واعلمي ~~أنني كاهن ولا أخص هذا العالم ويجب عليك أن تنسيني.» فأجابت بصوت خافت: «سيتم ~~ما تريد يا سيدي.» ثم قال لها الكاهن: «أستودعك الله.» ثم انحنت كزم دون أن ~~تنبس ms150 ببنت شفة، ونفضت غبار قدميه ومسحت به رأسها، ثم غادر القرية هذا الرجل ~~الصالح. # طلع القمر وأعتم الليل فسمعت ارتطام الأمواج، وهاجت الرياح العنيفة في ~~الظلمات كأنها تريد أن تطرد الكواكب من سمائها. ~~(13) الخشاب الشاعر # هذا النابغة الذي سأحدثك عنه كان ثاني النيرين وأحد الفرقدين في عصره، إذ ~~لم يكن لهما ثالث يجاريهما في حلبة القريض، أو يدانيهما في مضمار الأدب، ولقد خان الحظ ~~شاعرنا في عصرنا هذا حتى أصبح نسيا منسيا لدى الجمهور، ولو أنه معروف بين الخاصة ~~من الطبقة الراقية في الأدب، ولقد جنت عليه المطابع المصرية؛ إذ لم تنشر ديوانه، وطبعته ~~مطبعة الجوائب بالآستانة مع مجموعة كبيرة أصبحت نادرة جدا. # خدم الحظ البهاء زهير فطبع ديوانه في أوروبا ومصر عدة طبعات، بيع بعضها بقرشين حتى ~~انتشر وحفظ منه الفقهاء والمنشدون والمغنون كثيرا، وغنوه في الحفلات حتى شاع وملأ ~~الأصقاع مع أنه لا يذكر بجانب شاعرنا المترجم به. # وكان ثاني النيرين العالم العلامة والشاعر المجيد الذي ضرب بسهم في مختلف العلوم ~~والفنون الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر، وقد ارتحل عن مصر وقت هجوم الفرنسيين ~~عليها وتجول بين ربوع الشام وأشقودره، ولما آب من رحلته مازج المترجم به وخالطه، ورافقه ~~ووافقه، فكانا كثيرا ما يبيتان معا ويقطعان الليل بأحاديث أرق من نسيم السحر، وكثيرا ~~ما كانا يتنادمان في دار صديقهما الحميم الوفي الشيخ الجبرتي، ويطرحان التكلف ثم ~~يتجاذبان أطراف الكلام فيجولان في كل فن جولة، وكانت تجري بينهما منادمات أرق من زهر ~~الرياض، وأفتك بالعقول من الحدق المراض، وهما حينئذ فريدا عصرهما، ووحيدا مصرهما، لم ~~يعززا بثالث في ذلك الوقت. # كان والد المترجم به نجارا، ولما راجت صناعته فتح مخزنا لبيع الأخشاب بجانب تكية ~~الكلشني بالقرب من باب زويلة، وأرسل ابنه إلى الكتاب فحفظ القرآن، ثم طمحت نفسه إلى ~~طلب العلم فذهب إلى الأزهر، ولازم حضور السيد علي المقدسي وغيره من أفاضل الوقت، فأنجب ~~في فقه الشافعية والمعقول بقدر الحاجة، وشغف بمطالعة الأدب والتاريخ والتصوف حتى أصبح ~~نادرة ms151 عصره في المحاضرات والمحاورات واستحضار المناسبات. # ولدماثة أخلاقه، ولطف سجاياه، وكرم شمائله، وخفة روحه، صحبه كثير من أرباب المظاهر ~~والرؤساء والكتاب والأمراء وكبار التجار. # يقول لنا الجبرتي: إن شاعرنا السيد الشريف أبا الحسن إسماعيل بن سعد بن إسماعيل ~~الوهبي الحسيني الشافعي كانت له قوة استحضار في إبداء المناسبات حسبما تقتضيه حال ~~المجلس، فكان يجانس ويشاكل كل جليس بما يدخل عليه السرور، ويأسر لبه بلطف سمره ومنادمته ~~الجذابة الخلابة. # ولما دخل الفرنسيون مصر عين المترجم به محررا لتاريخ حوادث الديوان، وقرر له ~~الجنرال جاك منو في كل شهر سبعة آلاف نصف فضة. # علق المترجم به شابا من رؤساء كتاب الفرنسيين وكان جميل الصورة لطيف الطبع عالما ~~ببعض العلوم العربية ويحفظ كثيرا من الشعر، فلتلك المجانسة في الميول مال كل منهما إلى ~~الآخر حتى كان لا يقدر أحدهما على مفارقة صاحبه، فكان المترجم به تارة يذهب إلى داره ~~وطورا يزوره هو، ويقع بينهما من لطيف المحاورة ما يتعجب منه، وهو الذي نفح الشاعر ~~بهذه النفحات العظيمة والغزل الفائق. # ولم يزل المترجم به على حالته ورقته ولطافته، مع ما كان عليه من كرم النفس والعفة ~~والنزاهة والولع بمعالي الأمور والتكسب وكثرة الإنفاق، وسكنى الدور الواسعة، وكان له ~~صديق يسمى أحمد العطار بباب الفتوح توفي فتزوج شاعرنا امرأته وهي نصف، وأقام معها نحو ~~ثلاثين سنة ولها ولد صغير من زوجها المتوفى، فتبناه ورباه ورفهه بالملابس وأشفق عليه ~~إشفاق والد بولده، ولما ترعرع زوجه وأقام له مهرجانا فخما، وبعد سنة من زواجه مرض ~~أشهرا أنفق فيها كثيرا من المال عليه، ثم قضى الغلام نحبه فجزع عليه جزعا شديدا ~~وأقام له مأتما عظيما، واختارت أمه دفنه بجامع الكردي بالحسينية ورتبت له رواتب ~~وقراء، واتخذت مسكنا ملاصقا لقبره أقامت به نحو الثلاثين سنة، وهي مداومة على عمل ~~الشريك والكعك بالعجمية والسكر وطبخ الأطعمة للمقرئين والزائرين كل جمعة على الدوام، ~~وشاعرنا طوع أمرها في كل ما طلبته، وكان كل ما وصل إليه من مال أو كسب ينفقه عليها ms152 وعلى ~~أقاربها وخدمها لا لذة له في ذلك حسية ولا معنوية؛ لأنها في ذاتها عجوز شوهاء وهو نحيف ~~ضعيف الحركة جدا، ومرض بحصر البول مع الحرقة والتألم وطال عليه حتى لزم الفراش ~~أياما، ثم توفي في يوم السبت ثاني الحجة سنة 1230 بمنزله الذي استأجره بدرب قرمز، ~~وصلي عليه في الأزهر في مشهد حافل، ودفن عند ابنه المذكور بجامع الكردي. # وقد اهتم الشيخ حسن العطار بجمع ديوان الخشاب في حياته سنة 1227 لإعجابه الشديد برقته ~~وبلاغته وسمو خياله؛ أي قبل موته بثلاث سنين، ويؤيد ذلك التاريخ الذي وضعه ناسخ الديوان ~~محمد صالح الفضالي الواقعي المصري، إذ انتهى من نسخه في يوم الأحد 11 شوال سنة 1227، ~~وقد عاش المترجم بعد جمع ديوانه ثلاث سنين، ولا يبعد أنه نظم فيها شيئا ليس بالقليل، ~~ولأنه لم يترك عقبا امتدت يد الشتات إلى نظمه الأخير. # لا نعرف بالضبط التاريخ الذي بدأ فيه بمعالجة القريض، وأقدم تاريخ في ديوانه سنة 1201 ~~يؤرخ به ميلاد ابن أبي الأنوار السادات، ومن ذلك يعلم أنه مكث يقرض الشعر أكثر من ~~ثلاثين سنة. # طرق الشاعر عدة أنواع من الشعر وهي: الغزل، والخمريات، والمدح، والرثاء، والتهاني، ~~والوصف، والموشحات، والأدوار، وإن ألقينا نظرة عامة في شعره وجدناه صادق الوصف، منسجم ~~السياق، رشيق الأسلوب، يحسن اختيار الألفاظ وموسيقى الأوزان، خفيف الروح فخم التراكيب، ~~مسلسل المعاني متصلها، ولم نر في جميع ديوانه شيئا من الهجو، وهذا مما يدل على سمو ~~أخلاقه. # ولغزله المكانة الأولى ولا سيما ما قاله في صديقه الفرنسي الذي سبق الكلام عنه، فإنه ~~يتأجج بعنيف العواطف والصراحة في القول ورقة التعبير ورشاقة الوصف، ومن أرق قوله ~~فيه: # أدرها على زهر الكواكب والزهر # وإشراق ضوء البدر في صفحة النهر # وهات على نغم المثاني فعاطني # على خدك المحمر حمراء كالجمر # وموه لجين الكأس من ذهب الطلا # وخضب بناني من سنا الراح بالتبر # وهاك عقودا من لآلي حبابها # فم الكأس عنها قد تبسم بالبشر # إلى أن قال في آخر القصيدة: # وفوق سنا ذاك الجبين غياهب # من الشعر ms153 تبدو دونها طلعة البدر # ولما وقفنا للوداع عشية # وأمسى بروحي حين جد السرى يسري # تباكى لتوديعي فأبدى شقائقا # مكللة من لؤلؤ الطل بالقطر # وقال فيه أيضا: # علقته لؤلئي الثغر باسمه # فيه خلعت عذاري بل حلا نسكي # ملكته الروح طوعا ثم قلت له # متى ازديارك لي أفديك من ملك # فقال لي وحميا الراح قد عقلت # لسانه وهو يثني الجيد من ضحك # إذا غزا الفجر جيش الليل وانهزمت # منه عساكر ذاك الأسود الحلك # فجاءني وجبين الصبح مشرقة # عليه من شغف آثار معترك # في حلة من أديم الليل رصعها # بمثل أنجمه في قبة الفلك # فخلت بدرا به حفت نجوم دجى # في حندس من ظلام الليل محتبك # وافى وولى بعقل غير مختبل # من الشراب وستر غير منهتك # ومن أروع ما قال فيه موشحه الذي عارض فيه موشح الشيخ حسن العطار الذي مطلعه: # أما فؤادي فعنك ما انتقلا # فلم تخيرت في الهوى بدلا «فاعجب» # وهذا الموشح الذي يسيل رقة ورشاقة مخمس ومرفل، قال رحمه الله: # يهتز كالغصن ماس معتدلا # أطلع بدرا عليه قد سدلا «غيهب» # ريم يصيد الأسود بالدعج # يسطو بسيف اللحاظ في المهج # يزهو لعيني بمظهر بهج # فكيف أبغي بحبه بدلا # وليس لي عنه جار أو عدلا «مهرب» # وضاح نور الجبين أبلجه # وردي خد زها توهجه # إليه شوقي يزيد لاعجه # فلست أصغي لعاذل عذلا # وعنه والله لا أتوب ولا «أرغب» # ألمى شهي الرضاب واللمس # يزري غصون الرياض بالميس # يختطف اللب خطف مختلس # نويحل الخصر ينثني أسلا # من رام يوما إليه أن يصلا «يحجب» # قطع قلبي بحبه إربا # وصد عني فلم أنل أربا # أواه أواه منه وا حربا! # أصلى فؤادي بخده وقلا # وذبت وجدا به ولي قتلا «فاعجب» # مجوهر الثغر يلفظ الدررا # يدمي فؤادي وخده نظرا # علم عيني البكاء والسهرا # فأنهل دمعي كالوبل وانهملا # بالدم خدي عندما هطلا «خضب» # مولاي رفقا بصبك الدنف # قد كدت أقضي عليك من أسف # تلاف روحي فقد دنا تلفي # من ريقك العذب أروني نهلا # وهات كأسي وطف بها ثملا «واشرب ms154 » # راحا سناها يضيء كاللهب # تبسم عن رطب لؤلؤ الحبب # عطر مازح ثغرك الشنب # بين رياض ومسمع غزلا # على المثاني إذا شدا رملا «أطرب» # والورق من حسن صوتها الغرد # تميل قضب الرياض بالميد # وتوج الدوح لؤلؤ البرد # تاجا من الدر نظمه كملا # فكن من اللهو سالكا سبلا «وادأب» # ومن درر نظمه خمريته: # أدر السلاف على صدى الألحان # ودع العذول بجهله يلحاني # واستجل بكر الراح في ظل الربى # بين الرياض تزف والعيدان # شمس لها من فوق خد مديرها # شفق الصباح إذا بدا الفجران # نور ولكن من سنا لألائها # في الخد نار فؤادها الولهان # نار لها في وجنتيه وكفه # لهب به أعشو إلى النيران # من كف معتدل القوام كأنه # قمر يلوح على غصين البان # نشوان من سكر الشباب يهزه # من خمر فيه وراحه سكران # ومهفهف ماء الحياء بوجهه # يزري بهي شقائق النعمان # إلى أن قال: # ليث العرين له تلفت جؤذر # يفتر عن در على مرجان # متلألئ تحت الشعور جبينه # كحسامه في غيهب الميدان # عربي لفظ أعجمي المنتمى # هندي لحظ صائل بيمان # غصب النجوم فصاغهن أسنة # وبفيه نظمها عقود جمان # والقصيدة طويلة والجزء الغزلي فيها يرجع إلى صديقه الفرنسي، ومن ألطف قوله قصيدته ~~التي يمدح بها السادات: # وصلتك واضحة الجبين المسفر # من بعد طول تمنع وتستر # قامت فخالست ازديارك قومها # وتربصت سحرا هجوع السمر # وأتت ترنح كالغصين أماله # نفس الصبا وتجر فضل المئزر # هيفاء يخجل لحظها وقوامها # بيض الصفاح وكل لدن أسمر # ما أنس لا أنسى ليالي وصلها # بين الرياض وحسن نغم المزهر # إلى أن قال: # من سادة ورثوا النبي وجاهدوا # في دينه حق الجهاد الأكبر # من خير بيت من ذؤابة هاشم # من معشر أكرم به من معشر # والقصيدة طويلة. # ومن أروع شعره قصيدة فقد مسودتها وراجعه فيها الشيخ حسن العطار، فذكر له منها أحد عشر ~~بيتا من وسطها ونسي الشاعر مطلعها وآخرها: # ولرب ليل قد أبيت بجنحه # أطوي هضاب فدافد ووهاد # بأغر أجرد ضامر لكنه # جلد العزائم عند كل جلاد # متعود وطء الأسنة ms155 في الوغى # متجشما في الروع هول طراد # ظن السيوف جداولا وعوامل # المران أغصان النقا المياد # إلى أن قال: # متقلدا عوض السيوف عزائمي # متسربلا بدل الدروع فؤادي # حتى بلغت أخا السماحة والندى # وابن السراة السادة الأجواد # لقد فات الجبرتي أن يخبرنا عن ارتباط شاعرنا بعصر المماليك قبل دخول الفرنسيين، وفترة ~~الأربع السنين التي تولى الحكم فيها ولاة الأتراك، والعصر الذي عاشه في عهد ساكن الجنان ~~محمد علي باشا. # للمترجم به من النثر بعض مراسلات وتقاريظ مسجعة كعادة أهل عصره، رحمه الله رحمة ~~واسعة، وألهم المصريين تخليد ذكره وإعلاء شأنه. ~~(14) الأميرة نازلي فاضل # أصبحت أيها القصر الشامخ قاعا صفصفا وقد خيمت عليك الوحشة والكآبة، وكتمت أنفاس ~~نسيم صباك بعدما كان مروحا فوقك يعبث بأفنان أيك احتضنك وأظلك. # أكمد الحزن عنادل كانت تصدح متهللة فوق الأغصان لا تفارقها؛ إذ كانت تجد أمامها ~~أقواتها في كوى القصر فتطعم منها وهي آمنة مطمئنة، وربة القصر تنظر إليها وهي مفترة ~~الثغر مستبشرة تماثل الزهرة في جمالها ورشاقتها. # ما أقسى فؤادك أيها المنون! وما أغلظ كبدك! أما راعتك هذه المحاسن الفتانة والمواهب ~~النادرة والذكاء الغريب؟ ألم تأخذك الشفقة والرحمة على مئات من بائسات وأيتام لم يكن ~~لهم عائل غيرها؟ # لم ير الشرق سيدة تضارعها جمالا وكمالا وأنفة وذكاء ورقة وكرما، وعلما بأحوال ~~الممالك وسياستها وعاداتها، تحسن أغلب اللغات الإفرنجية. # ابنة ذاك الأمير الجليل مصطفى باشا فاضل، وهو أول من سعى وراء الدستور قبل مدحت باشا ~~بعدة سنين، وكان من وزراء السلطان عبد المجيد، وقد نفي في باريس بسبب بحثه وراء ~~الحرية، وقد أنبتها نباتا حسنا، وكلف المعلمين الأكفاء بتربيتها وتهذيبها منذ ~~صغرها، فدرست العربية والتركية والفارسية والفرنسية والإنجليزية والطليانية والألمانية ~~والبيانو والأشغال اليدوية. # الأميرة نازلي فاضل. # تزوجت من صغرها من خليل باشا شريف أخي علي باشا شريف، وقد خدم زوجها الدولة العلية ~~فكان وزيرا للنافعة وسفيرا لها في لندرة وفينا وباريس وبرلين، وكانت تعيش معه في هذه ~~العواصم، وهي موضع الإعجاب والإجلال عند الغربيين لجمالها وتربيتها وآدابها ms156 السامية ~~وفصاحة لسانها. # ولقد دهش البرنس بسمارك من مواهبها النادرة، ومما يؤثر عن المركيز سالسبوري أنه ~~حينما أرسل إلى الآستانة السير دروموند ولف أوصاه بأن لا يعمل شيئا بخصوص مصر قبل ~~استشارة الأميرة نازلي فاضل. # كان السلطان عبد الحميد يجلها ويحترمها ويعطيها من الحرية في القول والحكم أمامه في ~~محادثته ما لو نطق به أعظم عظيم لكان جزاؤه النفي. # وكان يمنحها كل شهر مائة وخمسين جنيها لما لها من المكانة عنده، ولسابق خدمات أبيها ~~وزوجها للدولة العلية. # كانت تميل كل الميل إلى محاثة كبار العقول وعظماء الأمة ومنافستهم في الأحوال ~~الاجتماعية والسياسية، كما أنه ما من كاتب من كبار كتاب الغربيين والسياسيين ~~ومشاهيرهم وأمرائهم يعرج على مصر إلا ويقابلها ويستمد رأيها. # يرى الداخل في بهوها الذي رتب على أجمل شكل وأحسن نسق أن جدرانه تكاد تستره صور عظماء ~~الدولة ومشاهير الرجال وكثير من الأسرة الخديوية، وشائق الصور الزيتية اليدوية والأثاث ~~الثمين، وقد وضع على أجمل ذوق، والنباتات الجميلة وقد زادته بهاء ورونقا، وكان لها ~~غرام عظيم بالأزهار، وكانت مدام إيجيرت ترسل لها كل يوم جميل الأزهار وأندرها فترتبه في ~~الآنية البديعة الصنع، حتى بلغ من فرط شغفها بها أنها حينما تستيقظ في الصباح تهرول ~~إليها وتغير ماء آنيتها، وترمي ما ذبل من الأزهار، ولا تدع واحدة من أتباعها تمد يدها ~~إليها، وكانت تحب الموسيقى وتعد من أمهر الموقعات على البيانو. # زارها المسيو دوجير فيل الكاتب الشهير في أوائل سنة 1905 ليستمد بسديد آرائها، ~~ويستطلع فكرها لتكون نموذجا في كتابه عن المرأة المصرية، وكان في حضرتها المرحوم الشيخ ~~محمد عبده مفتي الديار المصرية، وابن أخيها الأمير حيدر باشا فاضل وهو أعظم شاعر في ~~اللغة الفرنسية بمصر، وقد نشر كثيرا من شعره في «الجورنال دوكير» وألقى بعضا من ~~قصائده في نادي المدارس العليا. # بهت الكاتب حينما رأى هذا النظام البديع وتلك الصور والأثاث الفاخر والذوق السليم ~~الذي نسقها، والأريج المنعش الذي يتضوع من الأزهار المبثوثة فوق المناضد ~~والكوى، زاد دهشه حينما سمع منها ms157 قولا فصيحا وإلقاء يسحر السامع وذكاء متناهيا ~~وآدابا سامية. # دار بينهما الحديث على كثير من الأمور وعظماء الرجال والتربية والأحوال الحاضرة، وجاء ~~في الحديث ذكر اليابان فتكلمت عنها الأميرة وأسهبت في وصفها ورجالها حتى قال عنها ~~الكاتب الشهير: إنها تعرفها أحسن مني. وقد قالت في عرض كلامها: لو كان عندنا رجل مثل ~~أوياما الذي أجله كل الإجلال لما وصلنا إلى هذا الحد. وانتقل الحديث إلى الموسيقى ~~وغيرها والتعليم، فقالت الأميرة: كل الناس من كبير وحقير يتهافت على التعليم، ولو أصبح ~~الكل ذوي ألقاب وشهادات فأين يجد الناس لهم خدما وأتباعا، فخير للفتى أن يتبع صناعة ~~أبيه ويرثها منه، ولولا ضيق المكان لسردنا المحادثة بنصها وفصها. # توفي زوجها من أعوام طوال وعاشت بعده أكثر من عشرين سنة دون أن تتزوج، ثم ساقتها ~~المقادير إلى الاقتران بالسيد خليل بوحاجب من موظفي الحكومة التونسية، وابن الشيخ سالم ~~بوحاجب مفتي ديارها وشيخ جامع الزيتونة وهو مدرسة إسلامية. # لم ترزق بعقب لا من زوجها الأول ولا الثاني إلى أن توفيت وهي في العقد السادس، ولم ~~تقهر السنون لها جمالا، وقد كانت مثالا للبر ومواساة البائسين، وكانت تنفق كل شهر ~~مائتي جنيه لنحو مائة أسرة أخنى عليها الدهر، والبعض منهم كان ينتمي لأبيها أو والدتها، ~~وقصارى القول أنها كانت فخر نساء الشرق وموضع إعجاب الغرب. # اللهم ارحم أم المحسنين وأسكنها أرفع مكان من فراديس الجنان مع المتقين الأبرار ~~والصالحين الأخيار. ~~(15) إنشراح هانم شوقي # لم تكد ترقأ عبراتنا وتسكن زفراتنا على باحثة البادية حتى داهمنا مصاب أليم بموت ~~كاتبة من فضليات المفكرات اللاتي كرسن حياتهن لترقية عالمنا النسائي، والأخذ بناصر ~~أمهات رزحن طويلا تحت كلكل الجهل، وتخبطن في غياهب الخزعبلات والترهات؛ ~~فقضين بالتعس والشقاء على أنفسهن وأولادهن وبعولتهن. # اختطفت المنية يوم الإثنين 28 أكتوبر سنة 1918 السيدة إنشراح هانم شوقي وهي في ~~ريعان شبابها، إذ لم تتجاوز السابعة والعشرين بعدما عانت آلام المرض شهورا طوالا، ~~وقاست نكد الزمان وعناده أعواما. # أنبتها والدها المرحوم مصطفى بك شوقي - وكان مستشارا في ms158 محكمة الاستئناف - نباتا ~~حسنا، وهذب نفسها تهذيبا راقيا، فأتمت دراستها في مدرسة «الراعي الصالح» ~~الفرنسية. # توفي والدها وهي صغيرة، ولما بلغت العشرين زوجها إخوتها رجلا جاهلا غير كفؤ ~~لها، فلم تطق أن تعاشره أكثر من بضعة شهور، رزقت منه في أثنائها غلاما يبلغ الآن ~~السادسة، تلوح عليه مخائل ذكاء أمه. # فاجأتها المنية ولم تنل من دهرها أملا من آمالها التي كانت تجيش في نفسها ~~الكبيرة. # انقطعت للعلم بعد التخلص من بعلها، فكانت تقضي نصف النهار في دار الكتب السلطانية، ~~والنصف الآخر في بيتها للكتابة والتأليف. # لم تكن كأترابها من الكاتبات مقتصرة على البحث السطحي في النسائيات، بل كانت ملمة ~~بجانب عظيم من الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والتاريخ والتاريخ الطبيعي والآداب ~~الغربية، وكانت كاتبة قديرة مجيدة في اللغة الفرنسية، وقد صنفت خمسة مؤلفات باللغة ~~الفرنسية وهي: (1) رقص الأموات - مطبوع. (2) روح الإنسان هو مقدار من كهرباء ومغناطيس ~~الطبيعة المكتشفة. (3) وحدة الدين واللغة والمنشأ. (4) تولد المركبات من الاختلاط أو ~~النمو التدريجي للطبيعة. (5) مدة وجود روح الإنسان وتأثير استدعاء الأرواح والتنويم ~~المغناطيسي. # ومن محاسن الفقيدة أنها لم تر في حياتها متبرجة أو متعطرة أو لابسة زيا يخالف ~~الآداب، بل كانت كالزاهدة، وكانت تقول لمن يعترض عليها من صديقاتها ما معناه: # أحمل رأسا قد سئمت حمله # وقد مللت دهنه وغسله # ألا فتى يحمل عني ثقله # حاولت المبكية أن تنشئ مجلة تنشر فيها مبادئها وأفكارها، ولم تترك وسيلة حتى عملتها ~~ولكن لم يسمح لها. # إن من يلقي نظرة على كتابها رقص الأموات يراه منطويا على أدب جم وعواطف من نار ~~وخيالات سامية وشعور نبيل يئن ويشفق لآلام الإنسانية. # وإنا نسرد للقراء جزءا من نتيجة الكتاب ليكونوا على بينة مما وضحناه: # أيها النيل المحبوب! يا من هو سميري في آلامي وسلواني في وحدتي، إنني أجد صدى ~~روحي حينما أنصت إلى صوتك، تنفحني أحيانا نغمات لججك الشجية بالسعادة ~~والأمل، ويخيل إلي وقت اضطراب أمواجك الهائجة المزبدة وتكسرها على ~~الشواطئ أنها تبكي ماضيا لن يعود إلى الأبد، أو أنها ms159 تحتج على مظالم الناس ~~واستبدادهم. # ليت شعري! أتنسب هذه المظالم إلى الإنسان أم إلى الحروب؟ # أيها المستقبل الغامض الذي لا يسبر له غور! # إلى أي حظ تقودنا؟ ترى تلك أيام حداد دائم، أو إنك لتنتقم من هذه الأعوام ~~القاسية تريد أن تحقق صورته التي تموج في فكرنا؟ # نستودعك ربا عادلا يجزي همتك بالرحمة والرضوان، وينيلك أضعاف ما أملت في ~~الدنيا من فسيح الجنان، وإن أمتك لن تنسى شبابا ذهب ضحية الإخلاص، ولم يكافأ ~~في دنياه بلحظة من الهناءة تنسيه آلامه أو تنيله بعض آماله. ~~(16) نابغة شرقي مجهول # زرت ذات ليلة صديقا من الزملاء فتبادلنا الحديث ثم تنقلنا في السمر، فقال لي في عرض ~~حديثه: إنك لسعيد الحظ بهذه الزيارة؛ إذ سيفد علينا بعد قليل أستاذي في البيانو وهو ~~نابغة شرقي مجهول، ثابر على العمل بما أوتيه من حول وطول دون أن يطنطن أو يعلن عن نفسه ~~بأساليب حب الشهرة الكاذبة المعروفة، وستبتهج حينما تنجلي لك حقيقته، ويشنف سمعك بآيات ~~سحره ونفحات خياله الفتانة. # وبعد قليل طرق الباب فهرع رب البيت لملاقاة الطارق، فوقفت وعنقي مشرئب نحو الباب، ~~فشاهدت رجلا طويل القامة نحيلا أسمر اللون قد وخطه الشيب يتوقد الفن من عينيه، ~~وديع هادئ متواضع، لا تمر الأنانية على لسانه. # أكبرت الرجل وأفعم فؤادي هيبة ووقارا، وطفقت أتفرس فيه لأقرأ ما ارتسم على وجهه من ~~مخائل النجابة ودلائل النبوغ، وتهلل قلبي فرحا وابتهاجا؛ إذ تحققت بعض أماني وعثرت ~~على حين غفلة على شيء مما كنت أنشده فلا أجده. # وبعد التعارف وتبادل التحيات تجاذبنا أطراف الحديث، ثم تفضل علينا ووقع لنا بعض قطع ~~من تأليفه مثل: النشيد الوطني العثماني، وسنفصل للقراء خبره عند موضعه، وقطعة أخرى ~~اسمها «خمسة عشر تنويعا على لحن مصري»، وهذه القطعة عبارة عن المذهب في أغنية «حود ~~من هنا تعال عندنا» وقد نسج عليه خمسة عشر تنويعا مع ما يستدعيه من الحليات ~~«والأرموني» بشكل فني تعجب به الأذنان الشرقية والغربية، وذوق سليم ورشاقة ساحرة، فغرقت ~~في هذه الآونة ms160 في لجة من الملذات غمرت نفسي وجثماني وجعلتني كالذاهل من عجائب حلم من ~~الأحلام اللذيذة التي لم تتحقق. # ثم رجونا منه أن يتكرم بتوقيع شيء من الموسيقى الغربية فوقع «الفالز كروماتيك» لجو ~~دار الموسيقي الفرنسي، وهو من القطع السريعة العويصة، وأعقبه «بسونات» البدر ليلة تمه ~~لبيتهوفن، فأطربنا وأشجانا بفنه ورشاقة توقيعه. # شاب صفائي وبشري شيء من الكدر والخجل من نفسي، إذ صدر بحثي «الموسيقى الشرقية ماضيها ~~وحاضرها ونموها في المستقبل» والذي طبعته جماعة أصدقاء الموسيقى بالإسكندرية خلوا من ~~هذا النابغة، فقلت لنفسي: لقد علمت شيئا وغابت عنك أشياء، وماذا يقول القراء الذين ~~يعرفون هذا النابغة، ولي بعض العذر إذا جهلته؛ لأن قومنا لم يرغبوا أن يقدروه حق قدره ~~ويساعدوه على إتمام مشروعاته النافعة، وينتفعوا بعلمه ويستعينوا به على ترقية موسيقانا ~~الشرقية. # طمحت نفسي لصداقة هذا النابغة فدعوته لتشريفي بمنزلي حتى أجرؤ على زيارته وأطمع في ~~استماع مؤلفاته ومشاهدة اختراعاته التي سمعت عنها أخيرا، ثم ضرب لي موعدا لزيارته ~~بمنزله، وفي هذه الأثناء زفت إلينا الجرائد خبر إنعام الحكومة الفرنسية على نابغتنا هذا ~~بوسام التعليم العام من درجة «أوفسييه» اعترافا بفضله في الموسيقى، وقد سبق أن أنعمت ~~عليه من بضع سنين بوسام الأكاديمية الفرنسية من درجة أوفسييه. # تهللت لهذا النبأ وعظم الرجل في عيني، وطفقت أعد الموعد بالساعات لأتملى بمشاهدته ~~واستماع شائق مؤلفاته وبدائع نفحاته، وأبتهج بالإصغاء لتاريخ حياته الفنية. # ذهبت مع صديقي في الليلة التي حددها لنا فقابلنا بالبشر والإيناس، وبعد تبادل التحية ~~وتناول الشاي رجوت منه أن يشنف أسماعنا بشيء من مؤلفاته، فذهب إلى غرفة مجاورة ثم ~~أقبل يحمل كراسات ضخمة هاجت تطلعي فحملقت إليها حينما وضعها بين يدي، وتفرست في عنوانها ~~فإذا هي «كنعان جوبانلري» أي رعاة كنعان، ثم قرأت تحت العنوان أوبه ره - أوج برده؛ أي ~~أوبرا ذات ثلاثة فصول، فزاد دهشي وابتهاجي وإجلالي لذاته، وتصورت أنني في حضرة فاجنر أو ~~بيتهوفن، ثم تشجعت والتمست منه أن يسمعنا فاتحتها الموسيقية وقطعة من موسيقاها ~~السانفونية وأخرى من أغانيها ms161 وأناشيدها ورقصها، فوقعها وكلنا آذان صاغية، فما أحيلى ~~ما سمعناه! وما أحسن ما حوت من بدائع الفن ورشاقة الأسلوب ورقيق العواطف وحماسي ~~الأناشيد. # ولقد أثار في نفسي أماني أخرى وهي أن أرى هذه الأوبرا تمثل أمامي وأسمع ألحانها من ~~أوركستر كبير تام. # ثم قدم لي نسخة من متن الأوبرا، فإذا به مما جادت به قريحة الكاتبة التركية العظيمة ~~«خالدة أديب» وزيرة المعارف التركية السابقة، فغبطته على عطف وحفاوة كاتبة الشرق الكبرى ~~ومؤلفة «قميص من نار»، والموضوع يشمل قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع إخوته وعزيز مصر ~~وامرأته. # رجوت من نابغتنا أن يحدثني عن تاريخ حياته الفنية وتأليفه ومشروعاته، فقام وأحضر لي ~~عدة شهادات من جميع أساتذة الكونسرفاتوار، وفي طليعتهم المسيو لافنياك مدير ~~الكونسرفاتوار بباريس، وكان من أعظم المعجبين به، وقد أهداه صورته الفوتوغرافية ثم ~~انبرى يحدثنا عما طلبناه. # ولد في عام 1876 وسافر إلى باريس لأول مرة في سنة 1892، ثم انتظم في سلك طلبة ~~الكونسرفاتوار سنة 1893 فتلقى علم الأرموني على المسيو لافنياك كبير أساتذة ~~الكونسرفاتوار، وفن الأركستر على المسيو فيدال، وفن التأليف والتلحين على المسيو ~~لوتوفو، والغناء على المسيو جيروديه والمسيو أوجيز، والبيانو على المسيو رونان، وتاريخ ~~الموسيقى على المسيو بورجوا دوكودريه، والأرغن على المسيو جيمار. # ولقد مكث في المعهد الموسيقي لغاية سنة 1902 حتى انتخبته كنيسة سانت إيسبري موقعا ~~للأرغن، واستمر في هذه الوظيفة حتى عام 1910، إذ قدم استقالته وسافر إلى الآستانة ~~ليقدم نشيده الوطني العثماني إلى مجلس المبعوثان، فصادق عليه بأغلبية الأصوات، وأعطوا ~~له صورة من محضر الجلسة بتوقيع الأعضاء، وأرسل إليه جلالة السلطان محمد رشاد خطاب ~~تهنئة، واستدعاه رئيس مجلس المبعوثان أحمد رضا بك وهنأه باسم جميع أعضاء المجلس، وفي ~~هذه السنة نفسها أقامت البحرية التركية احتفالا فخما لمساعدة الأسطول العثماني حضره ~~أكثر من ستة آلاف من طلبة المدارس والقوى البرية والبحرية في الآستانة، فأنشدت كل هذه ~~الجموع النشيد الوطني الذي لحنه نابغتنا، وكانت أصواتهم المصحوبة بالموسيقات البرية ~~والبحرية تشق الجو كالرعد القاصف، وقد قدر المشاهدون بنحو ثلاثين ألفا ms162 ، ونشر هذا ~~النشيد في سنة 1910 بملحق الأنسيكلوبيدي لاروس الشهري عند الكلام على كلمة ~~«تركيا». # ذهب الأستاذ إلى سوريا سنة 1911 وأسس بها دار الموسيقى، وقد خصص لها محل «بلييل» ~~الشهير بباريس جائزة سنوية؛ وهي بيانو من صنعه تمنح إلى أنجب التلاميذ الذي يحرز قصب ~~السبق في مضمار الامتحان. # وفي عام 1917 طلبت أستاذنا حكومة الآستانة لإنشاء مدرسة موسيقية في وزارة ~~البحرية. # وفي سنة 1919 ذهب الأستاذ إلى باريس ليبحث مع مدير مصنع «بلييل» في مسألة تركيب السلم ~~الموسيقي وإنشاء آلة للأصوات الشرقية، وكان من رأي المسيو جوستاف لييون مدير المصنع أن ~~تربط ثلاثة بيانات بمعزف (توش) واحد بواسطة الأسلاك الكهربائية لدرس الأصوات ~~الزائدة. # وفي عام 1920 رجع إلى سوريا وطفق يفكر في اختراع آلة تعطي الأصوات الشرقية حتى ~~أوجدها، وجعل يدخل فيها من التحسينات كل ما يخطر بباله. # وفي سنة 1922 ذهب إلى باريس وأخذ معه هذه الآلة، فعمل مثلها آلة أخرى تدار بالكهرباء ~~بواسطة أنابيب هوائية ومنافيخ من الكاوتشوك، ولكن أصواتها لم تحرز من النقاء والضبط ما ~~أحرزته الآلة التي صنعها في سوريا. # ثم أنشأ يفكر في صنع بيانو مناسب للأصوات الشرقية يشمل المقامات الكاملة والأنصاف ~~والأرباع، فتوصل باجتهاده إلى تنفيذ فكرته بشكل أفضل من الأنواع التي ظهرت أخيرا بمصر؛ ~~إذ جعل فوق التوش السوداء توشا جوزي اللون بارزا قليلا عن الأسود للأرباع مطارقها ~~الوترية موضوعة في صف واحد فوق المطارق المعتادة بمسافة، ولكن ظهرت عقبة صغيرة وهي ضبط ~~الأصوات، وستذلل قريبا؛ لأن العمال الإفرنج لم تتعود آذانهم بعد على الأصوات الشرقية ~~وأرباعها. # في نفس هذا العام أرسل له الجنرال جورو خطاب تهنئة لإيجاد البيانو الشرقي، وبعث إليه ~~المجلس النيابي خطابا مماثلا. # طرق نابغتنا عدة أنواع من التآليف الموسيقية ونجح فيها وبهر، وأهم مؤلفاته الآتية: ~~النشيد الوطني العثماني، 30 لحنا وتنويعا شرقيا، 12 ترتيلا دينيا من الصولو طبعت ~~بباريس، نشيد موسى، ترتيل، فالزللكونسير، جافوت من مقام الري مينور، رعاة كنعان أوبيرا ~~تركية ذات ثلاثة فصول كتبت موضوعها الكاتبة التركية الكبيرة خالدة أديب هانم. # لنعد إلى وصف ms163 الآلة التي اخترعها أستاذنا، وهي عبارة عن صندوق بشكل المكتب الأمريكاني ~~بجانبها الأيمن محرك يدار بالرجل فيدير عجلة بها سير يدير ترسا صغيرا من الخشب له ~~مضارب متحركة بشكل أبي رياح، وهذه المضارب مغطاة باللبد، وعلى سطح الآلة وتر من السلك ~~واحد، وبجانبي الوتر أكتافان من التوش مثل البيانو، وحينما يوقع عليها تعفق الوتر ~~بمقصات من الحديد وتخرج أصواتا نقية مضبوطة، والأرباع لها توش ثالث فوق السود وناتئة ~~عنها، ولقد أنفق الأستاذ أكثر من خمسة آلاف من الجنيهات على هذه الآلة وأختها والأخرى ~~التي تدور بالكهرباء. # ليس نابغتنا من الأغنياء، ولكن شغفه بالفن وتفانيه في خدمة الموسيقى الشرقية جعلاه ~~يضحي كل ما أوتي من مال ونشب دون تردد. # ولا شك في أن القارئ فرغ منه الصبر وزاد به الشوق لمعرفة اسم هذا النابغة، ولكني أردت ~~أن أستدرج بعض القراء الذين لا يقرءون إلا العناوين أو بضعة سطور من رأس الموضوع، ولا ~~يقدرون الأبحاث قدرها، فليفخر الشرق بنابغته الأستاذ وديع صبرا، وليوله الزعامة من ~~النهوض بموسيقاه، ولتطأطأ له الرءوس إجلالا، وليقل القراء معي للمتشدقين والجامدين ~~المحافظين على القديم: أطرق كرى إن النعامة في القرى. # | الروايات التمثيلية # (1) برليوز «رواية تمثيلية جديدة ذات أربعة فصول وتسعة عشر منظرا للكاتب الشهير شارل ~~ميريه» # مثلت لأول مرة بمسرح بورت سان مرتان في 22 يناير سنة 1927. # بزغ «الرومانتيسم» في أفق فرنسا في أوائل القرن التاسع عشر على يد ثلاثة من كبار ~~الزعماء، فتملك فكتور هوجو دولة الشعر، وهكتور برليوز دولة الموسيقى، وأوجين دولاكروا ~~دولة التصوير، وقد جعل التاريخ برليوز مساويا تقريبا لفكتور هوجو في الشهرة، وما زال ~~ليومنا هذا صاحب التاج والصولجان للموسيقى الفرنسية، ولقد عبر عنه بعض النقاد بأنه ~~«الرومانتيسم» المجسم، وصوره آخر بأنه «روسو» المستيئس الذي يقوده إلهام عنيف صوب ~~المدركات الموسيقية، وكان عنده الخيال أقوى من روح النقد، وحماسة الخيال الشعري أجود من ~~السيادة الفنية. # ترى في برليوز أن الفن والرجل ليسا إلا وحدة لا تتجزأ، لا تختلف ولا تتنافر، إذ كانت ~~حياته النفسية ms164 في اشتعال وتوهج وخياله معذبا وحساسيته مرهفة، وكانت له مزية خاصة، إذ ~~يشعر ويتألم في الموسيقى، له ذوق يميل دائما للعظمة، وفؤاد عميق قلق مضطرب يعرف منتهى ~~الحنان وأقصى الشقاء، ولقد ذاقت نفسه الأمرين بصبر جميل وشمم عظيم. # ومن مميزات برليوز أنه أنشأ فن توزيع الموسيقى على الآلات ونظم له قواعد وأصولا، وقد ~~وضع فيه كتابا عظيما سماه: «كتاب الفن العصري لتوزيع الموسيقى على الآلات». # وقد ذاعت شهرة برليوز في النقد وكان من أقدر كتاب عصره، وما فتئت مؤلفاته في النقد ~~والتحليل تشهد له بالفضل الخالد، وكان يحرر في عدة جرائد منها: «جازيت موزيكال» ~~و«جورنال دي ديبا» وغيرهما، وكان ظريف الأسلوب خفيف الروح، وتقع مؤلفاته في عشرة مجلدات ~~تقريبا منها رسائله ومذكراته و«خلال الغناء» و«الموسيقى والموسيقيون» و«ليالي ~~الأوركستر» و«سخفاء الموسيقى» وغيرها. # كان لبرليوز كثير من الأصدقاء وأغلبهم من نوابغ عصره، مثل: فكتورهوجو، والكونت ألفريد ~~دوفيني، وليزت، وشوبان، وباجانيني، وإيميل، وأنتوني ديشان، ولوجوفيه، وبريزو، وأوجين سو ~~وغيرهم، وكان له أعداء يمقتونه مثل: كيروبيني، وكان مديرا لكونسرفاتوار باريس، وكان ~~يتصنع له صداقة ملؤها اللؤم والخسة، وفيتيس الذي كان وقتئذ مدرسا بالكونسرفاتوار ثم ~~عين في سنة 1832 مديرا للكونسرفاتوار ببروكسيل ورئيسا لكنيسة ملك بلجيكا لم يكن أقل ~~عداء له من كيروبيني. # لا ينكر أحد أن فتيس كان عالما نحريرا في الموسيقى، ولكنه لم يفلح في التلحين ~~رغما من كثرة مؤلفاته من أوبيرات وقطع متنوعة، وقد قضي على جميع مؤلفاته في وقتها، ~~ولو أن هذا الرجل كان بلجيكيا لكنه تلقى دروسه الموسيقية في كونسرفاتوار باريس وحاول ~~أن ينال جائزة روما الأولى فلم يفلح، إذ دخل في المسابقة سنة 1806 فأخذ الجائزة الثانية ~~من الدرجة الثانية، وفي سنة 1907 أعاد الكرة فلم يفلح أيضا وأخذ نفس الجائزة؛ أي ~~الثانية من الدرجة الثانية. # أما برليوز فإنه أخذ سنة 1828 الجائزة الثانية من الدرجة الأولى، ولكنه دخل في مسابقة ~~سنة 1830 فنال جائزة روما الأولى التي تعطي الحق لحاملها في أخذ مرتب مدى أربعة أعوام، ~~كما أنه ms165 يعطى مصاريف السفر إلى روما ذهابا وإيابا، أكل الحسد صدر فيتيس، إذ رأى ~~برليوز سائرا في سبيل الرقي والشهرة بخطوات واسعات، فأخذ يحمل عليه حملات عنيفة ملؤها ~~الحقد والجبن حتى إنه انتقد السانفوني «فانتاستيك» في جريدة الطان بعنوان يدل على ~~سخافته وهو: «ليس برليوز بموسيقي». # ولكن هذا الهراء قوبل بالسخرية من أغلب القراء بعدما سحرتهم القطعة بنغماتها الشجية ~~وتعبيرها البليغ. # ومن المدهش أنه حضر الحفلة الأولى التي وقعت فيها السانفوني فافتتن وطفق يصفق بكل ~~قوته حتى أنساه الشجو حسدا وضغنا طالما نهشاه في فؤاده. # والذي يثبت لنا ذلك خطاب برليوز لوالده، وقد أرسله إليه في 6 ديسمبر سنة 1830؛ أي في ~~اليوم التالي للحفلة التي وقعت فيها السانفوني، إذ قال في عرض خطابه: # إن بيكسيس وسبونتيني ومييربير وفيتيس كانوا يصفقون بكل عنف كالهائجين، وصاح ~~سبونتيني عندما سمع «الذهاب إلى العذاب» وهي من ضمن السانفوني المذكورة: «لا ~~يستطيع أن يعمل أحد مثل هذه القطعة إلا إذا كان في منتهى القدرة، فإن هذا شيء ~~خارق للعادة.» ثم عانقني بيكسيس بعد الانتهاء هو وخمسون غيره، ولقد أكرهني ليزت ~~الشهير على تناول الغداء معه ولم يترك تعبيرا للثناء والإطراء إلا غمرني ~~به. # نذكر على سبيل التفكهة حكما من أحكام فيتيس يدل على منتهى السخافة والغباوة، إذ قال ~~في كتابه «تراجم الموسيقيين» عن جان سباستيان باخ إنه أعظم الموسيقيين الألمان على ~~الإطلاق، ثم قال في موضع آخر حينما تكلم عن مميزاته: «له أرموني جريئة لكنها ليست ~~دائما صحيحة.» فكيف به يرفعه إلى أعلى عليين ثم يخفضه إلى أسفل سافلين، وكيف يكون أعظم ~~موسيقيي الألمان ويلحن في الأرموني! # الحديث ذو شجون ولو استرسلنا في سخافات فيتيس لخرجنا عن الموضوع، ولكن سكوتنا أمام ~~هذه المسألة الدقيقة يترك القارئ في شيء من الشك والريب، فإتماما للفائدة نقول كلمة ~~مختصرة تصور لنا حقيقة باخ وتحلل لنا نفسيته. # مضى على باخ أكثر من قرنين تطورت فيهما الموسيقى والأذواق والنقد، فبذلك تغيرت أكثر ~~الأحكام القديمة وظهر خطؤها جليا. # لا يختلف اثنان في أن ms166 باخ يعد أعظم علماء الموسيقى في ألمانيا بل في جميع أقطار ~~العالم، وكان في عصره يقدرون الموسيقيين بدرجة تعمقهم في العلم وأصوله وقواعده، ولكن ~~أصبحت هذه المزية لا قيمة لها الآن في عصرنا الحاضر. # يتطلب عصرنا الحاضر أن يكون الموسيقي شاعرا مبدعا بمعنى الكلمة، يعبر عن عواطفه ~~ومشاعره بأصوات، ويصف ويصور ما حوله من جمال الطبيعة تصويرا صادقا، ويكفيه من القواعد ~~ما يعصمه من الخطأ في التلحين. # عاش باخ طول حياته موظفا عند بعض أمراء الألمان، وكان همه أن يكون قدوة حسنة ~~للموظفين، وأن يحافظ على وظيفته بالمواظبة وإرضاء رؤسائه، وكان يلحن قطعا من موسيقى ~~الغرف أو القطع الدينية، ولم تحدثه نفسه أن يكتب شيئا للجمهور أو يسافر وينتقل كغيره ~~من الموسيقيين لتسعده الأسفار بشيء من النفحات الشعرية، ولم يتجشم حتى الذهاب إلى غابات ~~ألمانيا البديعة القريبة منه ليرى فيها آيات الجمال من أشجار باسقة وخمائل ملتفة وطيور ~~مغردة وأيائل راتعة. # لم يحب قط طول حياته ولم ينكب بفادحة، وكان ضخما قوي البنية رزق عشرين ولدا وبنتا؛ ~~منهم عشرة من زوجه الأولى وعشرة من الثانية، ولم يعرف شيئا من الآلام ومتاعب النفس ولم ~~يعضه الفقر بنابه، ينام ملء جفنيه على جنب واحد، وقد أجمع الثقات من النقاد العصريين ~~على أن باخ لم يكن مفكرا في موسيقاه قبل كل شيء كمن خلف من بعده من كبار الموسيقيين ~~مثل: بيتهوفن وفاجنر وبرليوز، لم يعبر في موسيقاه عن مسراته وهمومه وآلامه في حياته ~~الخاصة، ولذلك كان الرجل لا يمتاز عن غيره إذا أخرجنا منه الفن حتى شبهه أحد النقاد ~~الظرفاء بكاهن القرية. # لنرجع إلى شاتنا كما يقول الفرنسيون، ونعود إلى برليوز ونذكر شيئا من مؤلفاته وعدتها ~~28 «أوبوس» مؤلف من فاتحات وسانفوني وقطع دينية وأناشيد وأوبيرات وغيرها، ونكتفي بذكر ~~صفوة مؤلفاته الخالدة مثل: «روميو وجولييت» وهي سانفوني دراماتيك كبيرة وبها «كور» ~~و«سولو» للغناء و«برولوج» بشكل «كور»، وقد أثنى عليها «فاجنر» ثناء عظيما وانتقد منها ~~بعض مواضع، قال: إنها ليست في مستوى القطعة ms167 ، وقال عنها كاميل سان صانس الشهير: «إنها ~~أرقى ما كتبه برليوز، ولم يترك تعبيرا في الإطراء إلا ذكره.» # وهي في الحقيقة معجزة فنية تلتهب بالعواطف والنفحات الشعرية وأبلغ التعبيرات الصادقة ~~الصادرة من أعماق النفس، وهذه الموهبة لم يبلغ أعظم شأو فيها غير بيتهوفن وبرليوز، وإن ~~فاجنر نفسه لم يلحق غبار برليوز من هذه الوجهة، ولا ننكر أن فاجنر صاحب مذهب عظيم، وأنه ~~رقى بالتمثيل الغنائي ونهض بفن الأوركستراسيون، وعمل انقلابا عظيما في ~~الموسيقى. # كلنا نعرف باجاتيني وهو عطارد الكمنجة وملحن قدير لم يأت قبله ولا بعده من استطاع ~~تقليده، ومن قال عنه ليزت: «من المستحيل أن يخلف باجاتيني أحد، إذ كل من حاول ذلك، ولو ~~أوتي جميع الوسائل المؤهلة فإنه يفتضح أمره ويظهر بمظهر المقلد الكاذب.» وكان باجاتيني ~~هذا حاضر في إحدى حفلات برليوز الموسيقية وبعد الانتهاء ركع أمام برليوز وقال له: «إنك ~~أعظم من بيتهوفن.» ثم أهداه بمبلغ 25000 فرنك. ~~«وطفولة المسيح» وهي من أعظم مؤلفاته الدينية، «وخلود فوست في العذاب» وقد مثلت ~~كثيرا بالأوبرا المصرية، و«أهل طروادة»، ولم تمثل بمصر مع أنها من المعجزات، ~~و«السانفوني فانتاستيك» وهي من أروع ما أخرجته الموسيقى الفرنسية، وهو الذي هذب نشيد ~~المرسلييز والنشيد المجري ووضع لهما الأوركستراسيون الحاضر. # وقد عين مديرا لمكتبة الكونسرفاتوار، وانتخب عضوا في المجمع العلمي الموسيقي، ~~ومنح وسام اللجيون دونور من درجة أوفيسيه، ونال عدة أوسمة من الممالك الكبيرة، وكان ~~ميلاده في سنة 1803 ووفاته سنة 1869، ولنكتف بهذه الكلمة والرواية فيها الكفاية لتاريخ ~~حياة برليوز. ~~(1-1) الرواية # لا مراء في أن شارل ميريه مؤلف «اللهب» و«الدوار» و«الأميرجان» و«الإغواء» و«سرير ~~العرس» يعد من أقدر كتاب المسارح الفرنسيين، وهو يعرف جيدا كيف تركب الرواية ~~التمثيلية، ويعرف كيف ينفذ إلى قلوب الجمهور ويهيمن عليهم، وقد وهب نفحات نادرة في ~~فن المسرح ومناظره اللائقة به. # ابتدأ روايته في عام 1827، وكان برليوز في ذاك الوقت طالبا في الكونسرفاتوار ~~وعمره أربع وعشرون سنة، واختتمها في سنة 1869 بموت برليوز، فتكون المدة التي تدور ms168 ~~فيها الرواية اثنين وأربعين سنة، وإنها لقدرة نادرة أن يسرد لك في بضع ساعات حياة ~~نصف قرن تقريبا تشعبت فيه الحوادث وتطورت فيه الأحوال وتغير فيه الزمان، وأظهر لك ~~كل طور في جوه الطبيعي دون أن تشعر بتفكك في أجزاء الرواية أو تناقض تشمئز منه، ~~ولقد وضح لنا حياة برليوز وكفاحه مع البؤس ونضاله مع معاصريه الذين ما فتئوا ~~يتحدونه في كل فرصة حسدا وبغيا، وهرولته الدائمة حول خيال الحب، ومن المناظر التي ~~تلفت النظر وتستهوي النفوس؛ منظر القصر الملكي «اللوفر» سنة 1830، والكونسرفاتوار ~~سنة 1835، وقهوة كاردينال، وقد أظهرت تلك المناظر نوابغ الكتاب والروائيين ~~والموسيقيين مثل: بلزاك، وإسكندر دوماس، وتييوفيل جوتييه، وألفونس كار، وجانان، ~~وفاجنر، وليزت، وأدولف أدان. # ومن ظرفه وسلامة ذوقه أن ربط العصر الماضي بالحاضر، إذ نشاهد برليوز وهو على سرير ~~الموت محاطا بسان صانس وربير، وقد مات الأول منذ بضع سنين والثاني سنة 1909 وكان ~~عضوا في المجمع العلمي الموسيقي مع سان صانس. # ومما زاد في طلاوة الرواية أن أوركستر بادولو الشهير وقع بين فصول الرواية نخبة ~~عظيمة من مؤلفات برليوز حتى تحمس الجمهور من السرور والإعجاب، وكانت الحفلة غاية في ~~البهجة والرواء. # الفصل الأول # نشاهد حينما يرفع الستار في الفصل الأول غرفة برليوز سنة 1827 بالمنزل رقم ~~96 بشارع ريشليو، وكانت حقيرة بها بعض أثاث قديم وسرير وبيانو ومائدة مكدسة ~~بأوراق الموسيقى وبجانبها مصباح، وفي ركن آخر «كومود» وعليه قيثارة، ويشاهد ~~أمام المدفأ كانون وبعض آنية للطبخ، وكل ما في الغرفة غير مرتب ولا منظم كعادة ~~أغلب الطلاب، وكان الوقت بعد الظهيرة، وقبل فتح الستار تعزف الموسيقى جزءا من ~~القطعة الكنائسية المسماة «سان روك». # وكان يقطن مع برليوز في غرفة ثانية في نفس المسكن الطالب شاربونيل وكان يدرس ~~الصيدلة، وهو صديق برليوز ومن البلد التي ولد فيها، وقد حضر دورتيج المحرر في ~~جريدة «لاكوتيديين» وصديق برليوز لزيارته فلم يجده فانتظر قليلا، فحضر ~~شاربونيل قبل برليوز وجلس يحادث ضيف صديقه وأخبره في سياق الحديث أن الدكتور ~~برليوز أراد أن يكون ابنه ms169 طبيبا، وأرسله إلى مدرسة الطب ولكنه لم يستطع أن ~~يستمر في مادة لا يميل إليها، وعكف على دراسة الموسيقى، ودخل الكونسرفاتوار، ~~ولما تقدم لجائزة روما لأول مرة رفضت اللجنة أن تمنحها له؛ لأنهم كانوا يعبدون ~~القديم ويكرهون كل حديث، فلذلك حرمه أبوه من المرتب الذي كان يعيش به، فاضطر أن ~~يعطي دروسا موسيقية بفرنك واحد للدرس ليستطيع أن يعيش، وما كان هذا البؤس ~~ليثني عزيمته أو يفل من شجاعته فاستمر بصبره المعهود ونضاله حتى تغلب على جميع ~~الصعاب، فقال له دورتيج: # إنني أريد أن أكتب عنه مقالة في ~~«الكوتيديين» وقد أخبرني رفيقه في الكونسرفاتوار المسيو مونفور بأنه يكتب ~~أوبيرا اسمها «القضاة الأحرار»، فدهش من قوله وقال له: إن برليوز قد اعتراه في ~~هذه الأيام قلق واضطراب كبر كان يريد أن ينفجر، وقد حصل له هذا الانقلاب ليلة ~~أن شاهد الممثلة الأرلندية التي تمثل مع الجوق الإنكليزي بمسرح ~~الأودييون. # دورتيج ~~: # هي هاريت سمتسون ويقال: إنها خليلته. # شاربونيل ~~: # خليلته؟ ... إنها لا تعرفه ولم تخاطبه قط، وغاية الأمر أنه رآها ومن ~~تلك اللحظة وهو في شيء من الذهول والارتباك، وطفق يجوب المدينة ~~كالمجنون ثم سكن هذه الدار؛ لأنها مواجهة للمنزل الذي تسكنه هذه ~~الممثلة ونافذته مطلة على نافذتها، وقد تمر عليه ساعات وهو مترقب في ~~النافذة ويرسل إليها رسائل خالية من المعنى، وإني أخشى أن يصيبه ~~مس. # دورتيج ~~: # أواه! # شاربونيل ~~: # إنه لا يشتغل أبدا! ... وقد تحدثت عن القضاة الأحرار؟ ... وا أسفاه! ... ~~أتعرف كيف يقضي وقته في غيبتي؟ ... إنه يقطع وقته في الغناء، وقد سمعته ~~عدة مرات قبل الدخول إلى الغرفة يغني قطعا من أغاني الفودفيل السخيفة! ~~فجاء برليوز المعجب بجلوك وفيبر! ثم فتش في أوراقه وأخرج منها عدة قطع ~~أراها لدورتيج. # دورتيج ~~: # ولكنها قطع من الأناشيد «كور». # شاربونيل ~~: # صه فقد أقبل. ~~(دخل برليوز وجلس على كرسي مسندا رأسه إلى يده دون أن ~~يشاهد شاربونيل ودورتيج، ثم لمح أمامه موسيقى القطع السابقة وطفق يغني ~~ويعمل إشارات التمثيل، ثم اكفهر وجهه وقال: إن هذا سيجعلك ms170 غبيا سخيفا! ... ~~وفي هذا الوقت كان شاربونيل ودورتيج صامتين منصتين لغنائه وإشاراته، ولما ~~انتهى أقبلا على أطراف أصابع أرجلهما وقدم دورتيج قائلا: إنه محرر في ~~«الكوتديين» فصافحه برليوز.) # برليوز ~~: # هل سمعت غنائي؟ أما قلت في نفسك إنه معتوه؟ ~~(ثم وقف برليوز على كرسي وأطل من النافذة ليرى الطريق ... ~~وفي هذه الأثناء قال): # شاربونيل ~~: # منذ ما شاهد هملت أصبح ... # برليوز ~~(وهو على الكرسي) ~~: # أتحسبني أيها الفتى مجنونا؟ من هو المجنون؟ هو رجل تختلف طريقة ~~نظره وإحساسه عن سائر الناس، ~~(ثم نزل عن ~~الكرسي وأمسك بيدي دورتيج قائلا) ~~: لست مجنونا وإنما أنا ~~أتعس بائس! فتأثر دورتيج ثم قال: حاشا يا مسيو برليوز. # برليوز ~~: # لقد نسي شاربونيل أن يقدمني إليك ولكنه يجهل ذلك، إنني هكتور برليوز ~~منشد «كوريست» في مسرح النوفوتيه ~~(فدهش ~~الرجلان عند سماعه) ~~، ولكن ما العمل ويلزمني أن أعيش وقد ~~عملت مسابقة في النوفوتيه لكوريست وكان يزاحمني نساج وحداد، وكان ~~المسرح محتاجا لمنشد له صوت «باس» وصوتي باريتون، ولكني فزت عليهما ~~ولي خمسون فرنكا في الشهر، ~~(ثم أخذ يقهقه ~~وغنى قطعة من الفودفيل، وكان شاربونيل ودورتيج يبتسمان في أول ~~الأمر ثم أغرقا في الضحك، فلما رآهما برليوز على تلك الحال كف فجأة ~~عن الغناء ثم قال) ~~: هل رأيتما هارييت سمتسون في هملت؟ هل ~~رأيتماها وفي «أوفيلي»؟ لقد صعقني شكسبير حينما سقط علي فجأة هو ~~وهارييت! وفي ذاك المساء عرفت العظمة الحقيقية والجمال الحق والحقيقة ~~الروائية، وفي نفس هذا المساء عرفت الحب! إنها لم ترني ولم أخاطبها ~~ولكني أحبها! اذكر هذا يا مسيو دورتيج وانشره وقل إنها ستكون لي ~~زوجا! # شاربونيل ~~: # أنت أحمق. # برليوز ~~: # ستكون عقيلتي وأنا موقن بذلك وأشعر به! ~~(ثم دخل عليهم مونفور وحيا دورتيج ثم دار الحديث ~~بينهم على غرام برليوز، وبعد لحظة غنى برليوز وهو بجانب النافذة قطعته ~~المسماة «مرثية» واصطحبه على البيانو مونفور ثم سكت فجأة، إذ لمح من ~~النافذة هارييت سمتسون.) # برليوز ~~: # هي هي! ... وهذه العربة التي وقفت لأجلها ~~(ثم ~~هرول إلى عباءته ولبسها وبحث عن ms171 قبعته فلم يجدها) ~~. # شاربونيل ~~: # هل نويت الخروج؟ # برليوز ~~: # نعم. # شاربونيل ~~: # والغداء؟ # برليوز ~~: # لا أشعر بجوع. # مونفور وشاربونيل ~~: # هكتور! ~~(وأرادا أن يسدا الطريق أمامه.) # برليوز ~~(وقد كاد يطرحهما أرضا) ~~: # مكانكما! # دورتيج ~~: # يا مسيو برليوز! ... # برليوز ~~: # معذرة ... إنني ... هي ... # أستودعكما الله ~~(ثم خرج حاسر الرأس ~~كالمعتوه، ووقف الرجال الثلاثة هنيهة يشيعونه بنظرهم وهم ~~باهتون) ~~. # شاربونيل لدورتيج ~~: # وهذا كما ترى! ... ~~(تقابل في يوم آخر دورتيج وبرليوز ومونفور في قهوة ~~كاردينال ودار بينهما الحديث.) # مونفور ~~: # روسيني. # برليوز ~~(وقد قاطعه) ~~: # فيجاروبوني! ... أحبته! ... يتهكم على أوبيرا حلاق إشبيلية. # مونفور ~~: # يزعم روسيني أن موسيقى فيبر تحدث له مغصا. # برليوز ~~(يضرب المائدة بقبضة يده) ~~: # آه! إني أريد أن أقعده على خازوق من حديد مصهور! إن الروسينيين ~~لبغضهم لجلوك وسبونتيني قد تمادوا في طغيانهم حتى قالوا: إن الموسيقى ~~لا قصد منها غير تشنيف الآذان وهي عاجزة عن التعبير عن العواطف ~~والآلام! ... ~~(فظهرت على مونفور ودورتيج بوادر ~~الغيظ والاشمئزاز) # يا لهم من مجرمين، ~~(يتكلم بصوت خافت بلهجة الآمر) # يجب أن ~~ينسف المسرح الإيطالي بمن فيه من الروسينيين في إحدى ليالي ~~التمثيل! # مونفور لدورتيج ~~: # وماذا حصل للمقالة التي تريد نشرها في «الكوتيديين»؟ # دورتيج ~~: # إن ميشو يخشى عاقبة نشرها. # مونفور لبرليوز ~~: # إن هذه المقالة تصيرهم لك أعداء. # برليوز ~~: # ليس لي إلا أعداء! ... وجميع أعضاء المجمع العلمي الموسيقي مثل: ~~كيروييني وباير وبوالديو وكاتل أغبياء، إذ علنوا أن «الكانتات» التي ~~كتبتها أخيرا لا يمكن توقيعها، وقد قال لي يوما بروتون: يا صديقي لا ~~يوجد شيء جديد في الموسيقى. # مونفور ~~: # إنه مصاب بالنقرس. # دزرتيج ~~: # ومن عباد الأوهام العتيقة. # برليوز ~~: # أتعرف ماذا أجاب كروتزر حينما أوصاه على لوسويور: «ليس عندنا وقت ~~لفحص التلحين الجديد! وماذا يصير مآلنا إذا ساعدنا هؤلاء ~~الشبان؟!» ~~(ثم قام برليوز قائلا) ~~: كم ~~الساعة؟ # دورتيج ~~: # الساعة الثانية. # برليوز ~~: # سأذهب إلى مسرح الأوبيرا كوميك لآمرن الموسيقيين على تحضير فاتحتي ~~الموسيقية «فافرلي»، وستكون الحفلة في اليوم الخامس من ديسمبر لمساعدة ~~هوييه وستشترك في هذه الحفلة هارييت سمتسون وتمثل فصلين من روميو ~~وجولييت لآخر مرة بباريس ms172 . # دورتيج ~~: # هلا نلت منها موعدا أو استقبلتك؟ # برليوز ~~: # كلا! إني أكتب إليها دون أن ترد علي، وقد حظرت على خادمها أن تستلم ~~شيئا من خطاباتي، وعلى كل حال سأراها في الحفلة، ثم انصرف الجميع ووعد ~~دورتيج أن يحضر الحفلة. # ننتقل بالقارئ إلى مسرح الأوبرا كوميك لنشاهد تحضير الحفلة التي سبق الكلام ~~عليها فنرى الممثلين الإنكليز مع هارييت سمتسون يتمرنون على تحضير الحفلة، ونرى ~~برليوز مع مونفور ودورتيج على مقربة منهم، وعندما تموت جولييت ويرفعها روميو ~~بين ذراعيه يصيح برليوز: ماتت! هل هي التي ماتت! وكان يريد أن يرتمي عليها ~~فمنعه مونفور ودورتيج، ثم حصل هرج بين الممثلين وأومأ «أبوت» الذي كان يمثل دور ~~روميو إلى برليوز وقال: إنه مجنون ... ثم قال مونفور لبرليوز: ماذا دهاك؟ قال له ~~دورتيج: ألم تشهد تمثيل روميو وجولييت؟ فأجابه برليوز: حينما رأيتها بثيابها ~~العادية ظننت أنه أغمي عليها وماتت. # وبعد لحظة ذهب نحو هارييت وقال لها: مدموازيل هارييت سمتسون! إنني ... فتقهقرت ~~مذعورة وقالت له: هل توجه إلي الخطاب من هذا الشاب؟ # برليوز ~~: # أنا هكتور برليوز! وقد كتبت إليك مرارا! وإنك تعرفينني. # هارييت ~~(وهي متقهقرة) ~~: # لا لا! إنني لا أريد أن أعرفك ودعني بسلام! # برليوز ~~: # أنبئيني أين تقابلينني وتسمعين حديثي. # هارييت ~~: # كلا كلا! اغرب أيها القبيح! # برليوز ~~: # حذار أيتها الآنسة. # هارييت ~~: # أغيثوني! أغيثوني! # ثم أقبل منظم المسرح وأبوت الممثل وأبعدا برليوز بعنف، وقال الأخير مشيرا ~~إلى برليوز: اطردوه. # ثم أخذ يتهكم منه صاحباه بعد هذا الخذلان، وبعد قليل اتجه صوب الموسيقيين ~~وابتدءوا يوقعون فاتحته «فافرلي»، فأبدى لهم بعض ملاحظات. # ثم أقبل إليه المستر ترفر وقال له: إنني متعهد تمثيل مس هارييت سمتسون، وهي ~~تقول: إنها ستسافر مع والدتها إلى أمستردام، وترجو منك أن تتركها بسلام إذا كنت ~~حقيقة تحبها، فاضطرب من هذا الخبر وشحب لونه؛ فأقبل إليه صاحباه وقال له ~~مونفور: لست في حالتك العادية، ويجب عليك بعد انتهاء مسابقة المجمع العلمي أن ~~تسافر وتذهب إلى بلدك لتغيير الهواء والاستراحة. # ملاحظة: لقد صور الكاتب المقابلة الأولى ms173 لبرليوز بهذا الشكل السمج المرذول ~~حتى جعله أضحوكة بين الجميع، مع أن الحقيقة التاريخية تخالف ذلك، ولو كان ~~المؤلف قرأ رسائل برليوز لعثر على خطاب يصور لنا المقابلة الأولى بكل احتشام ~~وأدب وظرف، وكان موقفهما مما يضرب به الأمثال في التأثير والعطف، وهذه الرسالة ~~كانت موجهة إلى المسيو ا. دوبو في 5 يناير سنة 1833، قال في عرض خطابه: # حضرت هارييت سمتسون إلى حفلتي جاهلة أنني سأقود الموسيقى، وقد سمعت ~~الفاتحة التي هي موضوعها وسببها الأصلي فبكت، وقد شاهدت بعينيها نجاحي ~~الباهر، ونفذ هذا إلى فؤادها مباشرة ودلتني على ذلك حماستها بعد ~~الحفلة، وقد قدموني إليها فأصغت إلي ودمعها ينحدر من مآقيها، وقد ~~سردت عليها مثل عطيل جميع التقلبات التي انتابتني من يوم ما شغفت، ~~فسألتني الصفح عنها لما سببته لي من آلام ومتاعب كانت تجهلها حق الجهل، ~~وأخيرا في 18 ديسمبر سنة 1830 في حضرة أختها سمعت منها هاته الكلمات: ~~«إنني أحبك يا برليوز.» # ومن هذا الوقت انحصرت جهودي في إطفاء بركان رأسي؛ لأني خيل إلي أني ~~فقدت صوابي، إنها تحبني ولها قلب كقلب جولييت أو هي أوفيلي، وإذ لم ~~أستطع مشاهدتها كنت أكتب لها كل يوم ثلاث رسائل، وكانت تكتب إلي ~~بالإنجليزية وأرد عليها بالفرنسية، وهذا ما يدل على وجود العدل في ~~السماء مع أني كنت لا أعتقد بوجوده، وإني مدين في ذلك لفني وفكري، وأما ~~سانفونيتي العزيزة فإني أريد أن أضعها فوق مذبح ثم أحرق لها العطور. # وهذه السانفوني هي «حوادث حياة فني» وهي تشمل «الفانتاستيك» وملحقها ~~«العودة إلى الحياة» مع تنقيح وإضافات من «كور» و«سولي»؛ أي أناشيد ~~وقطع يغنيها فرد أو يوقعها فرد على آلة واحدة. # بعد أن تمت المسابقة الأولى وأخذ الجائزة الثانية من الدرجة الأولى ~~ذهب إلى ميلان «فرنسا» في سبتمبر سنة 1828 وهي بلد عائلته، وقد قابل ~~هناك أخته ومدموازيل إيستيل صديقة طفولته، وقد أخبرته أخته «نانسي» أن ~~أباه سر جدا حينما انتشر خبر نيله الجائزة الثانية، وقد عزم على ~~الاستمرار على إعطائه مرتبه، ثم أقبلت إيستيل ms174 وجلست هنيهة مع برليوز ~~وصارا يتجاذبان ذكريات الطفولة الحلوة وأخبرته في آخر الأمر أنها خطبت ~~منذ عامين، فكان لهذا الخبر وقع أليم في نفسه. # ننتقل بالقارئ إلى قصر اللوفر في سنة 1830 والتاسع والعشرين من يوليه وكانت ~~الساعة الخامسة بعد الظهر في إبان الثورة، إذ هجم الثوار على قصر اللوفر ~~بعدما أصلوه نارا حامية، وكانت باريس تموج بالجموع المحتشدة من فلاحين وجنود ~~وعمال وطلبة والجميع ينشدون الأناشيد الحماسية والثورية، وقد اصطدم وقت الزحام ~~بالمصادفة دورتيج مع برليوز فسأله عما فعل في المسابقة لجائزة روما، فقال له: ~~لقد نجحت وأتممت «الكانتات» «حريق سردينال»، وحينما كنت في المجمع العالي أثناء ~~المسابقة رأيت الحرب منتشبة في اللوفر، وقد نجوت بنفسي بأعجوبة، فهناه دورتيج ~~وأخبره بأن اللوفر قد وقع في أيدي الثوار. # وبينما هما سائران إذ سمع برليوز جمعا يغني نشيد «مور» من تأليف برليوز، ~~فأسكت المنشدين وقال لهم: ليست السرعة بهذا الشكل، فسكتوا ونظر رئيس المحتشدين ~~إلى برليوز شزرا وقال له: وماذا يعنيك؟ # برليوز ~~: # إنني أقول إن هذه السرعة ليست بسرعة القطعة. # الرئيس ~~: # هل أنت موسيقي؟ # دورتيج ~~(وهو يضحك) ~~: # من؟ هو؟ إنه ... فأسكته برليوز. # الحرس الوطني ~~(موجها خطابه إلى المنشدين ومشيرا إلى ~~برليوز) ~~: # اتبعوا ما يقوله لكم هذا الشاب. # برليوز ~~(يغني أولا القطعة ثم يضرب الوزن) ~~: # أنشدوا معي أيها الرفاق! # ثم قال أحد الجنود وهو يحمل العلم الفرنسي: أنشدوا المرسييز. # الجميع ~~: # هيا أنشدوا المرسييز. # الجندي ~~(مشيرا إلى برليوز) ~~: # هيا أيها الصغير واصعد على الكرسي واضرب الوزن. # برليوز ~~(يصعد على الكرسي) ~~: # المرسييز، ~~(ثم يقول لدورتيج) # سترى ~~التهذيب الذي سأدخله على المرسييز ~~(ثم قال ~~للجمهور) # أنشدوا معي أيها الوطنيون، ولينشد كل من له صوت ~~وقلب ودم يجري في شرايينه ~~(ثم ~~يغني) ~~. # هلموا أبناء الوطن! # الفصل الثاني # ننتقل إلى نزل «كونجريه» حيث تقيم هارييت في غرفة مؤثثة بأثاث ليس بالفاخر في ~~أغسطس سنة 1833، وكانت مستلقاة على كرسي طويل «شيزلونج» وقد أصيبت رجلها بكسر، ~~وكانت معها أمها وأختها تتمشيان في الغرفة وتتحادثان معها بلهجة الآمر الحانق ~~وتتوعدان برليوز ms175 لو حضر إليها، فكانت الأم تقول: إنها ما دامت على قيد الحياة ~~فلا يستطيع برليوز أن يضع قدميه في غرفتهن، وقالت الأخت: لو كنت مفتولة ~~الذراعين لقذفت به من النافذة، فأجابتهما: إن منعتماه يأتي ولا يهاب شيئا، ~~فلما احتدم الجدال دار الحوار بينهما. # والدتها ~~: # هل تحبينه؟ # هارييت ~~: # إنكما تضايقاني أكثر منه! # والدتها ~~: # هل سبك أحد طول حياتك؟ # أختها ~~: # ولقد اتهمك في هذه السانفوني الممقوتة في الحفلة التي شاهدتيها وكنت ~~وقتئذ مضغة في الأفواه ووصفك بهذه الأوصاف ... أوفيلي، البنت الخليعة! ... ~~المرأة الساقطة! ... وكانت الجموع يرمقونك بأنظارهم وهم ضاحكون! حتى كدت ~~تختنقين من الخجل في ذاك اليوم. # أمها ~~: # وبعد الحفلة بثمانية أيام تريدين مقابلته وأنت أنت التي كنت تحتقرينه ~~منذ ست سنين، وقصارى القول: ماذا يريد منك؟ # هارييت ~~: # يريد أن يتزوج مني. # أمها ~~: # ولكني أرفض زواجه. # أختها ~~: # وكذلك أهله يرفضون! # أمها ~~: # إنه فقير ولا يملك غير مائتي فرنك في الشهر وهي مرتبه عن جائزة ~~روما. # هارييت ~~: # وإني مدينة بأربعة عشر ألف فرنك! # أختها ~~: # أتعرفين مع كم من النساء لعب نفس هذا الدور؟ # هارييت ~~: # هذا لا يهمني. # وبينما هن في جدالهن العنيف، إذ حملت إليهن الخادم رسالة، وقبل أن تقعد ~~هارييت أخذت أمها الخطاب وقالت: هذا خطه، وفتحته فقالت لها هارييت: إنني أمنعك ~~عن الاطلاع عليه، فلم تلتفت إليها وطفقت تقرأ هذه السطور: # إذا كنت لا تريدين موتي ولو بدافع الرحمة؛ لأني لا أستطيع أن أقول ~~بدافع الحب ... أنبئيني متى أراك، إنني أسألك الصفح وأنا راكع باك، ~~وإني أنتظر جوابك كما أنتظر الحكم من القاضي. # فضحكت أمها بتهكم وقالت للخادم: من أحضر هذا الخطاب؟ فقالت: شاب أشقر، ~~فقالت أختها: هو هو! ثم قالت الأم للخادم: قولي له: إن مس سمتسون لا تستطيع أن ~~تقابلك، فاحتجت هارييت على والدتها وصرفت أمها الخادم بإشارة، ثم سمع صوت ~~برليوز صائحا هائجا: «هل هي هنا؟ سأراها، اذهبي إلى الشيطان!» ثم فتح الباب ~~ودخل برليوز وهو هائج، وقال لأمها وأختها: «إنكما لا تستطيعان أن تمنعاني من ~~مشاهدتها، اغربا ms176 من أمامي وإلا أقتلكما.» وهجم عليهما ففرتا مذعورتين ودخل على ~~هارييت وارتمى على قدميها. # برليوز ~~: # هارييت، يا من هي هواي وآلامي في الحياة. # هارييت ~~: # إن أهواءك لتقودك كالمجنون. # برليوز ~~: # نعم جننت من الفرح! اقرئي رسالة أبي فإنه وافق على زواجنا يا هارييت، ~~يا عقيلتي ~~(وحينما جلس احتك برجل هارييت ~~دون قصد) ~~. # هارييت ~~: # آه يا هكتور، قد آلمت رجلي. # برليوز ~~: # ماذا؟! أما طرت فرحا من هذا النبأ؟ # هارييت ~~: # إنك ترعبني مثل المرة الأولى التي رأيتك فيها في حفلة مساعدة هوييه ~~من ست سنين. # برليوز ~~: # أرعبك؟ إذا استطعت أن تفهمي درجة حبي لارتميت بين ذراعي. # هارييت ~~: # ولكن لم تصيح وتعلن ذلك في كل مكان؟ ولقد أصبحنا أضحوكة الشارع، ~~وأصبحنا مضغة الأفواه، إذ لا يتحدث الناس في جرائدهم ومقاهيهم ومسارحهم ~~إلا بحبك الجهنمي! # برليوز ~~: # بل هو المجد! # هارييت ~~: # إنك تقسم أنك ستموت وقد آثرت بذلك سخرية أصدقائك، وقد شاهدت أوجين سو ~~ولوجوفيه وجول جانان يضحكون منك، فسكن ما بك وفكر قليلا. # برليوز ~~: # فيم أفكر؟ # هارييت ~~: # في حالتي السيئة! إنني مثقلة الديون ومريضة. # برليوز ~~: # إن هجرتك السماء والأرض فإني سأستمر على حبي وأكون خاضعا للهوى مثل ~~روميو أمام جولييت. # هارييت ~~(تمد إليه يدها وهي متأثرة) ~~: # هكتور! # برليوز ~~: # متى نتزوج؟ # هارييت ~~: # أمهلني حتى أفكر. # برليوز ~~: # خبريني عن الميعاد ~~(ثم قعد ثانية فلمس ~~رجلها) ~~. # هارييت ~~: # آه! رجلي! # برليوز ~~(ينهض غاضبا) ~~: # وأنا فؤادي يؤلمني، وإن هذا الألم العنيف لم ينهش فؤاد أحد بهذه ~~الدرجة، وأنت التي لا تحبينني. # هارييت ~~: # لا يا هكتور ولكنني مترددة. # برليوز ~~(وهو هائج) ~~: # إنك مترددة، ولكني لا أتردد، لقد انتهى الألم، وانتهت الحياة ~~(ثم أخرج من جيبه زجاجة وشرب ما فيها فانقضت عليه ~~هارييت وانتزعتها من يده) ~~. # هارييت ~~(وقد كادت تجن) ~~: # ماذا فعلت؟ أي هكتور! ~~(ثم نظرت إلى الورقة ~~الملصقة بالزجاجة) # أفيون! آه يا رباه! إنك تريد الانتحار! ~~هكتور ~~(ثم وقع على الأرض مغشيا ~~عليه) # أفق! إنني أحبك، يا لك من مجنون إنني أحبك! يجب أن ~~تعيش لمؤلفاتك الخالدة ومجدك العظيم. # برليوز ~~(يحرك ms177 رأسه) ~~: # بل لأجلك يا هارييت. # هارييت ~~: # وا أسفاه! إنك تشتريني بثمن غال، وآلام قاسية، لقد فاتني الوقت، ~~وإني متعبة جدا. # برليوز ~~: # هارييت. # هارييت ~~: # سأعمل كل ما تريده. # برليوز ~~(يعانقها) ~~: # أنت لي وحدي. ~~••• # ننتقل بالقارئ إلى ضاحية مونمارتر في سبتمبر سنة 1834 وهناك نرى بيت برليوز ~~الصغير وبه حديقة جميلة، ونشاهد برليوز مع زوجته هارييت يتنعمان بالحب ~~ويتناجيان في أسرار هواهما، وقد رزقا غلاما اسمه لويس، وقد لبى ليزت ودورتيج ~~دعوة الغداء وأخذوا يتسامرون وقت الطعام بأطيب السمر، ولما شاهد صديقاه اشتغال ~~باله بطفله في كل آونة، قال ليزت لدورتيج سرا: أصبح النسر أسيرا في حظيرة ~~الدجاج. ~~••• # وفي 24 نوفمبر سنة 1839 أقام برليوز حفلة كبيرة في الكونسرفاتوار لتوقيع ~~سانفوني «روميو وجولييت» وقد غص البهو بالأمراء وعظماء الرجال. # دورتيج ~~: # هذا نصر مبين! فقد حضر الأمير دومال والأمير مونبانسييه ~~(وكان يتكلم بصوت منخفض فأقبل ألفونس كار وهو ~~محاط بجمع من الناس) ~~. # ألفونس كار ~~: # أتريدون معرفة رأيي في موسيقى برليوز؟ إن موسيقى برليوز الخالية من ~~الأغاني ليست بالموسيقى التي أحبها، وموسيقاه هي نتيجة تقدير غير صحيح، ~~فإنه يريد أن يصور بالموسيقى كما يصور الكلام! وليس في ذلك نجاح، إنما ~~هو تأخر وتقهقر أحد الموسيقيين، إن الفضل في شهرة برليوز راجع ~~للأصدقاء، وكما أن برليوز ملحن ونقاد فلذلك نرى جميع أصدقائه من ~~الصحفيين يتملقون إليه. # أدولف آدم ~~: # شهرة مبنية على ادعاء وقح ولا ترتكز على عمل مستحسن. # دورتيج ~~: # أدولف آدم مؤلف أوبيرا «البيت السويسري». # بلزاك ~~: # إن هذا لمن أعجب العجب! إنني أبحث عن برليوز، ها هو! ~~(ثم يظهر برليوز على اليمين وأصدقاؤه ملتفون حوله ويسمع ~~التصفيق الحاد والصياح «مرحى مرحى» ثم يعانق بلزاك برليوز.) # إسكندر دوماس الكبير ~~: # لقد أحرزت مجدا كبيرا! # برليوز ~~: # أهلا بعزيزي دوماس. # دوماس ~~: # ما أرق وأعظم ما سمعناه! إنك لعظيم مثل شكسبير! # تييوفيل جوتييه ~~: # أعانقك يا برليوز. # برليوز ~~: # أهلا بعزيزي تييو! # تييوفيل جوتييه ~~(متجها نحو جول جانان) ~~: # عم صباحا يا جانان، هل أنت مبتهج مسرور؟ # جول جانان ~~: # إن رأيي لم يتغير قط في برليوز ms178 ، إنني أحبه وأعجب به أيما ~~إعجاب! # لوجوفيه ~~(موجها القول لبرليوز) ~~: # إنني أنا وجميع أصدقائك متهللون بعد هذا الفوز العظيم! ولقد عبرت ~~لزوجك اللطيفة عن شعوري العميق نحوك. # برليوز ~~: # إنك صديق مخلص، هل رأيت زوجي؟ # لوجوفيه ~~: # رأيتها هي وطفلها ذا الشعر العسجدي المماثل لشعر أبيه ... كم يبلغ من ~~العمر؟ # برليوز ~~: # خمس سنين. # ماري ريتشو ~~(وهي فتاة جميلة إسبانية وقد اقتربت من برليوز ~~ووجهت القول لدورتيج) ~~: # قدمني من فضلك إلى المسيو برليوز. # دورتيج ~~: # أقدم لك مدموازيل ماري ريتشو المغنية الشهيرة. # ماري ريتشو ~~: # آه أيها الأستاذ الكبير ... لقد هجت قلوبنا وأثرت في رءوسنا، وإن مؤلفك ~~هذا لمتأجج متوهج مؤثر عظيم ~~(ثم أخذت يده ~~وقبلتها) ~~، إنني أقبل هذه اليد التي سطرت هذه الموسيقى ~~الخالدة. # برليوز ~~(فينحني شاكرا) ~~: # هل تغنين يا مدموازيل؟ # ماري ريتشو ~~: # إنني أتلقى الغناء على المسيو بنديرالي ~~(ثم ~~تقدم والدتها) ~~، أقدم لك مدام سوتيرا دوفيلاس ~~والدتي. # مدام سوتيرا ~~: # لقد فتنتنا أيها الأستاذ ... # ماري ريتشو ~~: # إن والدتي إسبانية ولكن أبي كان فرنسيا وضابطا في الجيش، آه! لو ~~تفضلت أيها الأستاذ بمقابلتي واستماعي ... إني أكون سعيدة إذا كنت بجانبك ~~... ~~(ثم هاجته بنظراتها) ~~. # برليوز ~~(وهو مضطرب) ~~: # بكل ارتياح أيتها الآنسة ... تفضلي بمقابلتي في جريدة الديبا أو في ~~مكتبة الكونسرفاتوار. # ماري وأمها ~~: # شكرا لك أيها الأستاذ العظيم! # ماري ريتشو ~~: # إنني مسرورة جدا ... إني أقبلك! ~~(ثم ~~قبلته وخرجت مسرعة مع والدتها) ~~. # برليوز ~~(مخاطبا دورتيج) ~~: # إنها جميلة وفتانة! ~~(وقد دخلت هارييت هي وابنها منذ هنيهة من الجهة اليسرى ~~وكانت ممسكة بيد ابنها.) # دورتيج ~~(يلمحها فينبه برليوز بصوت خافت) ~~: # زوجك! # هارييت ~~(وقد شحب لونها واكفر وجهها) ~~: # من هذه الفتاة؟ # برليوز ~~: # من؟ # هارييت ~~: # التي قبلتك. # برليوز ~~: # لا أعرف ... وهل هذا كل ما عندك لتفاتحيني به بعد هذا اليوم العظيم ~~المشهور؟ # هارييت ~~: # إن المعجبات بك قد عبرن لك عن كل ما يخالج قلوبهن. # برليوز ~~(بصوت تعلوه الشفقة) ~~: # هارييت! ... # هارييت ~~: # أواه! إنني أختنق من الخجل، لقد حضرت كتائب خليلاتك! حتى هذه الفتاة ~~التي اجترأت على تقبيلها أمامي! ... # برليوز ~~: # لقد شردت عن الموضوع ms179 . # هارييت ~~: # لقد تحرشت بي بعينيها وهي ضاحكة! # برليوز ~~(وقد خاف أن يسمعها أحد) ~~: # أرجو منك أن تكفي. # هارييت ~~(وقد سحبت ولدها وهي هائجة) ~~: # هيا يا لويس فإننا نضايق أباك! ~~(ثم خرجت مع ~~ابنها) ~~. # دورتيج ~~(وقد لمح الماريشال دولوبو ووراءه ضابطان ~~ياوران) ~~: # المريشال دولوبو ~~(ثم حصلت حركة كبيرة في ~~المجموع وطفقوا يتهامسون) ~~«الماريشال الماريشال». # الماريشال ~~(مادا يده لبرليوز) ~~: # آه يا مسيو برليوز إنني أهنئك! # برليوز ~~(وهو منحن تعظيما) ~~: # أشكر لك يا جناب الماريشال! # الماريشال ~~(بحماسة) ~~: # عظيم جدا ... إن ما أحبه على الأخص في مؤلفك هي ... ~~(ثم يفكر هنيهة) # هي الطبول ~~(ثم يصافح برليوز ويخرج) ~~. # دورتيج ~~(وهو باسم) ~~: # هذا فخم. # برليوز ~~(وهو يهز رأسه) ~~: # وا أسفاه! ~~(وفي هذه الأثناء يدخل ملاحظ الحفلات ويعطي ~~لبرليوز ورقة فيشكر له وينظر فيها) # هل رأيت يا دورتيج، ~~هذا نجاح باهر عظيم. # أتعرف ما الذي أكسبه من دخل روميو وجولييت إذا أقمت ثلاث حفلات غير ~~هذه؟ ألف ومائة فرنك. # دورتيج ~~(وقد رفع ذراعيه) ~~: # اكتب إذن شيئا من الفن الجدي. # برليوز ~~: # إن الفنيين لا يحق لهم أن يعيشوا. # الفصل الثالث # كانت هارييت بعد زواجها تساورها الغيرة على زوجها وتظن به الظنون؛ فكان ذلك ~~مدعاة لاستمرار المشاحنة بينهما وسوء الظن به، وطفقت تدمن في الخمور حتى ساءت ~~صحتها وتجهم وجهها وفقدت جمالها بعد ثمانية أعوام من زواجها فأصبحت معاشرتها لا ~~تطاق، واضطر برليوز أن يخادن ماري ريتشو خفية ويصطحبها في أسفاره، وبلغ من ~~شراسة هارييت أنها كانت تذهب إلى زوجها في مكتبة الكونسرفاتوار وتضايقه ~~بمشاحنتها الصارخة. # وفي ذات يوم ذهبت إليه ماري ريتشو وكانت بالمصادفة هارييت وابنها هناك، ~~فاضطرم الشجار بينهما بشكل مريع. # ومن كثرة إدمان هارييت على الخمر أصابها شلل واحتقان في الدماغ فكانت تتكلم ~~بصعوبة، ثم عانت المرض والآلام أعواما طوالا إلى أن ماتت في 3 مارس سنة ~~1854. # وفي شهر يونيه سنة 1855 دعا المسيو سانتون العازف على الكمنجة الفرنسي الشهير ~~وكان مقيما بلندرة برليوز وفاجنر، فلبيا دعوته، وكان بجانب سانتون صحفي يكتب ~~مذكرات أثناء حديثه. # سانتون ~~: # إنه لمن ms180 العجب العجاب أن أكون بلندرة وأنا من تولوز، وأن يكون على ~~مائدتي أكبر موسيقيي فرنسا برليوز وأكبر موسيقيي ألمانيا فاجنر. # الصحفي ~~: # الاثنان المتنافسان. # سانتون ~~: # وسيقود كل منهما أوركسترا، ويا لوقع هذا الخبر إذا نشر في ~~التيمس! # الصحفي ~~: # هل يعرف بعضهما بعضا؟ # سانتون ~~: # تمام المعرفة. # الصحفي ~~: # وهل هما عدوان متباغضان؟ # سانتون ~~: # ولكنهما يخفيان في قرارة نفسهما إعجاب كل منهما بالآخر! وسأفاجئهما ~~ببعضهما. # الصحفي ~~: # وكيف ذلك؟ # سانتون ~~: # بكل سهولة، ولكن ما العمل مع مدام برليوز؟ # الصحفي ~~: # هارييت سمتسون؟ # سانتون ~~: # كلا، فقد ماتت منذ سنة ونصف، ولكن برليوز تزوج ثانية من مغنية شهيرة ~~تدعى ماري ريتشو، وهذه هي زوجه الجديدة، إنها كالصل تمقت فاجنر وتبغض ~~كل ما يصدر من غير برليوز، ولم أدعها ولكنها دعت نفسها. # الخادم ~~(يدخل ويعلن) ~~: # المسيو برليوز وزوجه. # سانتون ~~: # هي! لقد أفسدت حيلتنا! ~~(ثم يوجه كلامه ~~للخادم) # إذا حضر المسيو فاجنر فأدخله في البهو الصغير، ~~(ثم يقول للصحفي) # هل تتفضل يا ~~عزيزي بانتظاره هناك وتسليته قليلا؟ ~~(فيذهب ~~الصحفي) # شكرا لك ~~(ثم يشير إلى ~~الخادم ليدخلهما) ~~. # برليوز ~~: # عم صباحا سانتون ~~(ثم يوجه خطابه ~~لزوجه) # هل تعرفين المسيو سانتون عازف الكمنجة الشهير؟ ~~(ثم يخاطب سانتون) # أقدم لك مدام ~~برليوز. # سانتون ~~(ينحني احتراما) ~~: # مدام ... ~~(ثم يجلس برليوز) # هل أنت ~~تعب يا أستاذ؟ # برليوز ~~: # نعم ... ومريض أنا وزوجي، إنني أشكو من أعصاب أمعائي وهي من نوبات ~~القلب ... # سانتون ~~: # لقد حضرت لك عشاء تولوزيا. # ماري ريتشو ~~(وهي قائمة) ~~: # حذار يا هكتور من الإفراط في أكله! # سانتون ~~: # أتعلمان أنني التزمت أن أدعو أيضا فاجنر؟ # ماري ريتشو ~~(وقد نهضت هائجة) ~~: # فاجنر فاجنر! إننا نبارح البيت. # برليوز ~~(بلهجة المتجاهل) ~~: # ولم؟ # ماري ريتشو ~~: # هذا الخبيث الذي يسخر منك في كتابه الأخير وينكرك ... # برليوز ~~: # إنها لرصاصات صغيرة وقد صوبت منها كثيرا إلى سيقان الغير لئلا أجد ~~غرابة فيها حينما تصوب إلي بدوري ... # ماري ريتشو ~~: # نبئنا برأيك في فاجنر، تكلم بصوت جمهوري وعبر عن فكرك. # برليوز ~~: # إن فاجنر فيه شيء جذاب. # ماري ريتشو ~~: # وهل هذا كل شيء. # برليوز ~~: # كلانا عندنا ms181 شيء من الخشونة، ومن الممكن أن تزول وتعتدل ~~أخلاقنا. ~~(وبعد قليل استأذنت مدام برليوز وانصرفت إلى الفندق ~~الذي نزلت فيه هي وزوجها، ورجت من زوجها أن لا يأكل من الأطعمة التولوزية ~~لئلا تتعبه، فلا يستطيع أن يقود الأوركستر في المساء.) # سانتون ~~: # إن الخوف يخالج صدري يا أستاذي العزيز! ... قد حضر فاجنر. # برليوز ~~: # أصحيح ما تقول؟ # سانتون ~~: # أتريد أن تراه؟ # برليوز ~~(وقد قطب حاجبيه) ~~: # هل أنبئ بحضوري؟ # سانتون ~~(وهو يبتسم ابتسام المكر) ~~: # نعم عنده علم. # برليوز ~~: # لا شيء يمنعني من مقابلته ~~(فخرج سانتون من ~~الجهة اليمني ونهض برليوز وتقدم بضع خطوات، ثم وقف وفكر قليلا ثم ~~نادى فاجنر، فدخل فاجنر من الجهة اليمنى فصافحه ~~برليوز) ~~. # فاجنر ~~: # أهلا وسهلا بالمسيو برليوز. # برليوز ~~: # عم صباحا يا فاجنر، أما تراني قد شخت؟ إننا لم نتقابل منذ اثنتي ~~عشرة سنة؛ أي حينما كنت في درسد. # فاجنر ~~: # منذ درسد! إنني لسعيد ومتأثر! # برليوز ~~: # إنك أصغر مني سنا بعشر سنين، وهذه المدة الأخيرة من عمري كأنها ~~مضاعفة ~~(ثم جلس وهو متعب) ~~. # فاجنر ~~(وقد جلس أمامه) ~~: # إنني أعلم بأن ليزت قال لي بأنه هو الذي حرض على هذه المحادثة، ~~معذرة؛ فإني لا أتكلم جيدا بالفرنسية، وإني أحبك حبا جما يا مسيو ~~برليوز رغما عن سوء الظن الذي يقصيك عني. # برليوز ~~(يشير إشارة غامضة للاحتجاج) ~~: # عجبا! ... # فاجنر ~~: # إنك لا تعرفني ولكنني أعرفك جيدا. # برليوز ~~: # لقد سمعت ثلاث فصول من رينزي وخيال السفينة. # فاجنر ~~(باحتقار) ~~: # عجبا! هذا بعيد! نعم إنك لا تحب موسيقاي. # برليوز ~~: # ولكني معجب بقوتك وإرادتك. # فاجنر ~~: # وإني معجب بقطعتك السانفوني فونيبر، وإنها لعظيمة من أول نوتة لآخر ~~نوتة. # برليوز ~~(وقد ابتسم) ~~: # ولكنك قلت إن موسيقى فوست حقيرة ~~(ثم ~~ضحك) ~~. # فاجنر ~~(يضحك بدوره) ~~: # وأنت قلت إن إنشائي الحر يجعلك ترقص فوق الحبل المرخي. ~~(ثم ضحك الاثنان.) # برليوز ~~(ثم وقف فجأة وجعل يتفرس فيه) ~~: # ومع ذلك، فستكون أستاذ المسارح بعد خمسين سنة. # فاجنر ~~(وقد نهض واحمر وجهه من الزهو والسرور من هذا ~~الإطراء) ~~: # عجبا! وأنا إذا كنت بيتهوفن لقلت ms182 : «لو لم أكن بيتهوفن ولو كنت ~~فرنسيا لأردت أن أكون برليوز»؛ لأنك يا مسيو برليوز الموسيقي الوحيد ~~في فرنسا الذي لم يقبل أن يحقر فنه ليكسب المال. # برليوز ~~(يمد إليه يده) ~~: # وأنت أيضا. # فاجنر ~~(يجلس ثانية) ~~: # يا مسيو برليوز إن أصدقاءك في ألمانيا وليزت وأنا وغيري تنتظر منك ~~مؤلفا كبيرا، درام. # برليوز ~~: # هل تشتغل بتلحين شيء؟ # فاجنر ~~: # نعم بحلقة نيبيلونجين ... ألا تعرف تانهوزر ولوهنجرين، سأرسل إليك ~~موسيقاهما، وماذا تعمل أنت الآن؟ # برليوز ~~: # إنني أفكر في تلحين قصيدة كبيرة موسيقية وهي أهل طروادة، ليت شعري هل ~~أعيش طويلا حتى أتمها؟ وهل تعلم أية مهنة أزاولها لأعيش؟ ~~(ثم نهض قائما) # منذ ثلاث سنين سمعت في ~~أحلامي نغمات سنفوني، كنت أحلم أني أكتبها، وفي الصباح استيقظت وتذكرت ~~الجزء الأول، وأردت أن أشرع في كتابتها ثم قلت في نفسي: لو كتبت هذا ~~الجزء لاضطررت أن أكتب الباقي ويستمر العمل مدى ثلاثة أو أربعة شهور ... ~~وأضطر لترك تحرير القسم الموسيقي في الجرائد؛ فيقل دخلي، وحينما تنتهي ~~السنفوني أطبعها بألف أو ألف ومائتي فرنك ثم أقيم حفلة لتوقيعها، فيغطي ~~الإيراد نصف المصاريف فأقصر في عمل الواجب نحو زوجتي المريضة ودفع ~~مصاريف مدرسة ولدي، فرميت القلم قائلا: «سأنسى غدا السانفوني.» وفي ~~الليلة التالية عادت تطن في دماغي، فاستيقظت وكانت تأملات أمس تعاودني ~~ثم نمت ثانية، ولما استيقظت في الصباح اختفت من مخيلتي كل ذكرى إلى ~~الأبد! # فاجنر ~~: # وا أسفاه! إن هذا شيء مؤلم كالانتحار أو الموت ~~(فسالت الدموع من مآقي فاجنر وطفق يجفف نظارته ~~المبللة بالعبرات) ~~. # برليوز ~~: # نعم، نعم، هذه بلادة مني ورخاوة، ولكن حينما تكون عندي زوج لا هي حية ~~فترجى ولا هي ميتة فتنعى ويلزمها ثلاث نساء لخدمتها ويعودها الطبيب كل ~~يوم وينقد أجره، وإذا كنت واثقا تمام الثقة بأني لا أجد بباريس بعد ~~انتهاء أي مشروع موسيقي إلا نتيجة مشئومة فإنني لست الآن بليدا رخوا ~~حينما تركت التلحين، بل كان عملي هذا إنسانية ومروءة. # فاجنر ~~(باحترام) ~~: # لقد تكشفت لي يا مسيو برليوز في ضوء ms183 يختلف عن الضوء الذي رأيتك فيه ~~فيما سلف، وما زلت أشاهدك مشرقا كأبطال الملاحم على رأس الأجواق ~~الموسيقية التي تقودها في الحفلات كقيصر الأساطير! # برليوز ~~: # برليوز الأساطير! وهناك الآخر فاجنر رجل فقير، وإن التحيز والخصومة ~~اللذين صادفاك قد اصطدمت في جدارهما بدون جدوى منذ ثلاثين سنة حتى ~~تهشمت يداي وأصابعي، ولنعيش ويعجب بنا الجمهور ونكون محبوبين يلزمنا ~~أنا وأنت أن نكتب في الموسيقى مثل ما كتب مييربير وهاليفي اللذان ~~شوها الموسيقى. # فاجنر ~~: # إنني أفضل أن أكون المسيو برليوز. # برليوز ~~: # إنك أسعد مني حظا. # فاجنر ~~: # إنني في بلادي كمن هدر دمه ... # برليوز ~~: # توجد مواطن للنفي أقسى من غيرها. # برليوز ~~: # لقد هرولت طول حياتي مثل هملت وراء طيف الحب، وحينما تصورت أني ملكته ~~وضممته إلى صدري أفلت مني واختفى ... والخراب والموت، وآلام ~~الوحدة؟ # فاجنر ~~: # ولذلك أردت أن نتفاهم وحدنا، ~~وعلى كل حال توجد بين بعض الناس الذين لم يفهمهم الجمهور والذين تساووا ~~في الضراء قرابة متينة ~~(فنهض برليوز وجعل ~~يتفرس في فاجنر بأثر) ~~، وهذه السلسلة الخفية التي تربط ~~أحدنا بالآخر في أخوة المحن والألم. # برليوز ~~(يفتح ذراعيه) ~~: # فاجنر! ~~(ثم يتعانق الاثنان.) # الفصل الرابع ~~(ماتت ماري ريتشو زوجه الثانية في 13 ~~يونيه سنة 1862، وعاش برليوز وحده مع والدتها مدام سوتيرا دوفيلاس، وكان يفد ~~إليه ابنه لويس وقت إجازته، وفي شهر يوليه من هذه السنة كان ابنه يتحادث معه ~~ويسأله عما حل بالأوبيرا المشهورة «أهل طروادة»، فقال له: إنها تئن في محافظ ~~الأوبيرا ولا أعلم متى يحضرونها، وبينما هما يتحادثان إذ دخلت عليهما الخادم ~~وأعلنت قدوم فتاة، فسأل عن اسمها، فقالت: إنها رفضت أن تعلنه.) # برليوز ~~: # لقد عرفتها ~~(ثم ينهض لويس) # سنتعشى ~~سويا هذا المساء يا لويس ~~(فقبل) # في الساعة السابعة! لقد أعطيت ميعادا لهذه الفتاة، وهي تريد أن تغني ~~في المسرح ولكن ليس لها صوت، أتعرف كيف تعرفت بها؟ في ذات يوم كنت ~~بمقبرة مونمارتز وهذه رياضتي المحبوبة، وكنت جالسا على مقعد هناك ~~وبكيت فاقتربت هذه الفتاة مني وظنتني متألما، فتأبطت ذراعي لأخرج من ms184 ~~المقبرة، وهي من عمرك ولها ست وعشرون سنة، ثم صافحه ابنه وخرج، ثم أشار ~~على الخادم بإدخال الفتاة، فدخلت وهي مرتدية ثياب الحداد وكانت عسجدية ~~الشعر جميلة رشيقة القامة والهندام. # برليوز ~~: # ادخلي بنيتي. # إميلي ~~: # أستاذي العزيز ... # برليوز ~~: # لا يليق بي هذا التعبير فقد شخت! # إميلي ~~: # كلا بلا! # برليوز ~~: # إنك ظريفة ~~(ثم أشار إلى ابنه وهو ~~خارج) ~~، إنه ولدي، تفضلي بالجلوس. # إميلي ~~: # شكرا لك أيها الأستاذ. # برليوز ~~: # خبريني أولا ماذا كنت تعلمين يوم الجمعة في المقبرة، وإنها ليست ~~نزهة شائقة لفتاة من سنك؟ # إميلي ~~: # لقد فقدت والدي منذ عام وأصبحت يتيمة أعيش مع عمتي. # برليوز ~~: # إن هذا لمن الغرابة بمكان! إنني أتفرس فيك؛ لأنك تشبهين تمام الشبه ~~فتاة كانت قرينة صباي، وكنت أحبها وكانت تماثلك في القامة والوجه ~~والعينين، ولا تختلف عنك إلا في لون الشعر، إذ كان شعرها أسود وشعرك ~~ذهبي، وكانت تسمى إيستيل وأنت إميلي! آه! لو كنت تعرفين كيف يوقظ ويهيج ~~حضورك عندي تلك الذكريات اللطيفة والتأثر الشديد. # إميلي ~~: # وأنا قد عرفتك مباشرة. # برليوز ~~: # هل تعرفينني؟ # إميلي ~~: # لقد شاهدت صورتك مرارا ولذلك قد عرفتك وقلت في نفسي: «إنه هو، هو، ~~وإن الفنيين الذين أحبهم وأعجب بهم لهم أصدقائي، وهذا ما جرأني على ~~الاقتراب منك فخاطبتك، كنت تبكي! وقد اضطربت لمشاهدة عبراتك السائلة، ~~وما كنت أتصور أن رجلا مثلك يتأتى له أن يكون سيئ الحظ! وأنت مسيو ~~برليوز العظيم بنبوغه وقلبه، أنت الذي تلتهب موسيقاك كالشعلة والضوء ~~المشرق، كنت هناك وحيدا على المقعد متألما حزينا! # برليوز ~~: # لقد استحوذت عليك الشفقة لأجلي. # إميلي ~~: # ليست الشفقة هي الكلمة التي تؤدي المعنى، ولست أستطيع التعبير لقد ~~أردت سلوا لتخفيف ما بك، فقل لي يا مسيو برليوز إنك اليوم أحسن حالا ~~من ذي قبل. # برليوز ~~(وهو باسم) ~~: # نعم لوجودك، ~~(ثم أمسك بيديها) # أيها الشباب! أيها الشباب المحبوب، يا سحر الربيع! إيستيل، إميلي، أيها ~~السراب الذي يحييني ولكن سأموت. # إميلي ~~: # ماذا تقول؟ # برليوز ~~(يهز رأسه) ~~: # لقد بلغت الستين ~~(ثم ينهض ويمشي في الغرفة بضع ms185 خطوات ~~فتتبعه) ~~. # إميلي ~~: # ليس هذا صحيحا، فإن موسيقاك فتية كما أن قلبك فتي. # برليوز ~~: # إنك لتتأثرين وتتألمين إن قرأت يوما في الجرائد: «موت هكتور ~~برليوز»؟ # إميلي ~~(تتألم) ~~: # أواه! # برليوز ~~(يجذبها إليه وهو متأثر) ~~: # بنيتي! ثم يقبلها في جبينها ~~فتستسلم، فهلا يقبلها في فمها؟ ثم ينهض بغتة كمن عاد إليه شبابه، ثم ~~طفق يمشي في البهو بخطوات نشطة ثم فرك شعره وتكلم بلهجة حادة سارة: ~~يا لله! وا خسارتاه؛ لأني لم أعرفك إلا بعد فوات الوقت! ولو جئت في ~~الوقت المناسب لصيرتك فتية عظيمة، هل تريدين أن تغني في المسرح؟ يلزم ~~لذلك صحة من حديد، ويظهر لي أنك رقيقة يا إميلي، وفضلا عن ذلك فإن ~~صوتك رخيم، ولو عرفتك من سنة واحدة لعلمتك غناء دور بياتريس لتغنيه ~~بمدينة باد. ~~••• # في شهر أكتوبر سنة 1862 كان برليوز جالسا على مقعد في منتزه مونسو فمر عليه ~~لوجوفيه الكاتب الشهير، فجلس بجانبه يتجاذبان أطراف الحديث، ثم أخرج برليوز ~~خطابا من جيبه ناوله للوجوفيه. # برليوز ~~: # اقرأ ~~(يقرأ السطر الأول ثم ~~يقف) ~~. # لوجوفيه ~~: # إنه خطاب غرام؟ مرسل إلي ...؟ # برليوز ~~: # لا تضحك، إنه مرسل إلي. # لوجوفيه ~~: # إنني لا أضحك ~~(ثم قرأ الإمضاء) # إميلي. # برليوز ~~: # إميلي، إنه حب أتاني دون أن أبحث عنه وقد قاومته، ثم استسلمت له، ثم ~~اشتد معي. # لوجوفيه ~~: # هل هي فتية؟ # برليوز ~~: # إنها فتاة في مقتبل العمر. # لوجوفيه ~~: # هل هي جميلة؟ ~~(فأشار برليوز برأسه ~~نعم) # وهل هي تحبك؟ فمم تشكو وماذا جرى لك؟ # برليوز ~~: # جرى لي أنني بلغت الستين. # لوجوفيه ~~: # وإذا كانت لا ترى فيك إلا شابا في عقده الثالث. # برليوز ~~: # ألم تر خدي الغائرين وشعري الأبيض وجبيني المجعد، وهذه الفكرة ~~المشئومة ما لبثت تساورني، وكانت تأخذ رأسي بين يديها، وكنت أشعر ~~بدمعها المنحدر على عنقي. # لوجوفيه ~~(يرد إليه الرسالة) ~~: # هذه الرسالة صادرة من فتاة عظيمة ذات قلب مفعم بالحنان والحب. # برليوز ~~: # لقد وصلتني هذه الرسالة منذ ثلاثة أسابيع ثم انقطعت أخبارها، ولقد ~~كتبت لها أخيرا أنني أنتظرها في هذه الحديقة هذا الصباح ... ليت شعري ms186 هل ~~تقبل؟ جس قلبي. # لوجوفيه ~~: # إنك ابن عشرين كما قلت لك وسأتركك أيها العاشق العزيز ~~(ثم يصافحه ويخرج فتأتي إميلي وهي شاحبة اللون ~~نحيفة) ~~. # برليوز ~~: # هل أنت بنفسك؟ # إميلي ~~: # صديقي العظيم ~~(ثم أجلسها بجانبه على ~~المقعد) ~~. # برليوز ~~(يقبل يديها) ~~: # بنيتي العزيزة، لقد رأيتك بعدما نفذ مني الصبر وكنت متألما تعسا، ~~لم لم تأتي يوم الإثنين والجمعة؟ وقد انتظرتك طويلا، وما أشد ~~عذابي ولم يأتني منك خبر ولا رسالة. # إميلي ~~: # لقد فكرت فيك، معذرة فإنني لم أستطع المجيء ولا الكتابة ~~(ثم أطرقت رأسها) ~~. # برليوز ~~(ينظر إليها وقد دهش من شحوبها) ~~: # انظري إلي ما أشد شحوبك! هل كنت مريضة؟ # إميلي ~~(وما فتئت مطرقة الرأس) ~~: # كلا. # برليوز ~~: # يداك الصغيرتان حارتان ~~(ثم تسعل) ~~، ~~هل أنت محمومة؟ # إميلي ~~: # كلا، ولا أشعر بشيء. # برليوز ~~: # إميلي ~~(فبكت) # لم تبكين، أخبريني ~~ماذا دهاك؟ # إميلي ~~: # سأترك باريس مدة طويلة وربما على الدوام. # برليوز ~~(وقد صعقه الخبر) ~~: # أواه! # إميلي ~~: # يجب أن أتبع عمتي إلى الجنوب. # برليوز ~~: # وماذا العمل؟ # إميلي ~~: # لن نتمكن من المقابلة ~~(ثم هزت ~~رأسها) # لا، وهذا أفضل شيء ... # برليوز ~~(وهو متألم كاسف البال) ~~: # إني بلغت الستين؟ # إميلي ~~: # كلا! فإن السبب لا يرجع إليك بل يرجع إلي وحدي، والآن تستطيع أن ~~تنساني؛ لأن الفراق بعد فوات الوقت مؤلم قاس. # برليوز ~~: # إنك تتكلمين بالمعميات والألغاز، ولا أفهم لك قولا. # إميلي ~~: # لا ينبغي أن تحاول الفهم، يجب علينا أن نفترق الآن بدون توان ~~(ثم تسعل أيضا) ~~، ومن الحكمة أن ~~نفترق بإرادتنا. # برليوز ~~: # وبدون تعويض كالموت؟ # إميلي ~~(بشدة) ~~: # نعم كالموت ~~(ثم نهضت ولبث برليوز جالسا ~~كالمصعوق) ~~. # إميلي ~~(بتألم) ~~: # وأنا الذي أحببتك، وما زلت أحبك، وأقسم أنني لن أحب أحدا مثلك، فهل ~~تصدقني وتثق بي؟ # برليوز ~~(يقبل يديها) ~~: # بنيتي؟ # إميلي ~~(تخلص يديها منه) ~~: # واعلم أنني حينما أودعك فإنما أودع كل شيء. # برليوز ~~(وهو قائم) ~~: # إميلي. # إميلي ~~: # الوداع ~~(ثم هربت مهرولة) ~~. # ننتقل بالقارئ إلى مقبرة مونمارلتر في صيف سنة 1864 وقد كسا الربيع المقبرة ~~بحلله القشيبة السندسية المزهرة حتى أصبحت كالحديقة الغناء، وكان الحارس ~~واللحاد ms187 يتحادثان، وفي هذه الآونة أقبل برليوز وهو مرتد ثيابا سوداء يمشي ~~بخطوات ثقيلة كأنه طيف خيال، فحياه الرجلان بإجلال فرد عليهما التحية، ثم ذهب ~~إلى قبر ووقف أمامه. # الحارس ~~(يخاطب اللحاد) ~~: # أتعلم من هذا؟ # اللحاد ~~: # كلا. # الحارس ~~: # المسيو برليوز. # اللحاد ~~: # ومن هو؟ هل هو من أمراء البحار؟ # الحارس ~~: # لا بل هو ~~(يبحث في ذاكرته) # يلحن ~~أوبيرات وهو يأتي كل يوم شتاء وصيفا ويقطن قريبا من هنا في شارع ~~كاليه، وفي أوقات المطر التي لا تخرج فيها الكلاب من المنازل تراه يجول ~~في المقبرة وحده. # اللحاد ~~: # وما يفعل؟ # الحارس ~~: # إن سيره لا يتغير، وتراه يقف أمام القبر هناك وقد دفنت فيه زوجه ~~الثانية منذ عامين، وكان متزوجا قبلها من ممثلة ماتت منذ عشر سنين، ~~وقد دفنت في أول الأمر في مقبرة سان فانسان ثم نقلت رفاتها في فبراير ~~الماضي إلى هذا الرمس، وهما الآن يغنيان مع بعضهما مع أنهما كانتا ~~عدوتين لدودتين. ~~(سار برليوز في طريق آخر فلمح مقعدا فجلس فوقع نظره على رمس جديد، فسأل ~~الحارس: لمن هذا الرمس الذي لم أره قبل اليوم؛ لأني أمر نادرا في هذا ~~الممر؟) # الحارس ~~: # هذا لحد فتاة ماتت بالسل منذ ستة شهور. # برليوز ~~: # كم لها من العمر؟ # الحارس ~~(وقد قرأ التاريخ فوق القبر) ~~: # ولدت في مايو سنة 1827 ~~(ثم حسب) # سبع وعشرون سنة. # برليوز ~~(وهو يهز رأسه) ~~: # سبع وعشرون سنة! ~~(ثم نهض واقترب من القبر ~~وقرأ ما كتب عليه فصاح) # أواه! إميلي! إنها هي. ~~(وكاد يقع لولا أنه استند إلى شجرة) # إميلي! # الحارس ~~: # هل تعرفها؟ # برليوز ~~: # إنني أعرفها ~~(ثم وقع قاعدا على المقعد ~~وأخذ يحدث نفسه) # قد ماتت منذ ستة شهور ولم ترض تخبرني ~~بأنها في انتظار الموت العاجل، وكان لها من العمر ست وعشرون سنة، جميلة ~~رقيقة تكتب كأنها ملك السماء، واتفقنا على الفراق وقطع المكاتبة، وقد ~~رأيتها من بعيد في المسرح فأشارت برأسها، وكانت تعالج الموت، ولم أعلم ~~حقيقتها ثم ماتت بعد ستة أسابيع ولم أدر بموتها أواه! رحمة وحنانا ~~وكفاني اللهم ms188 عذابا وألما. # ننتقل إلى منزل برليوز في 8 مارس سنة 1869 وكانت مدام سوتيرا دوفيلاس حماة ~~برليوز تهيئ مخدات على كرسي (فوتيل)، فأدخلت الخادم المسيو ريير الملحن ~~الشهير. # مدام دوفيلاس ~~: # أهلا بعزيزي المسيو ريير. # ريير ~~(وكان في الخامسة والأربعين من عمره) ~~: # عمي مساء سيدتي، كيف قضى ~~ليلته؟ # دوفيلاس ~~: # على أسوأ حال، وقد أيقظني في الساعة الثانية صباحا ليسألني إن كان ~~وصل خطاب من لويس، وفي بعض الأحيان ينسى أن ابنه فارق الوجود. # ريير ~~: # يحسن أن يترك جاهلا موت ابنه. # دوفيلاس ~~: # وماذا العمل؟ وقد خانني الدمع وانقطعت رسائله ... وفي ذات يوم كنت ~~أتحدث بصوت خافت مع الخادمة في غرفة مجاورة لغرفته، فاقترب منا هكتور ~~وسمع كلمة «الحمى الصفراء» ثم خرج فقابل في الطريق أحد أصدقاء ابنه ~~فقدم له واجب العزاء، فرجع إلى البيت وصار يتمرغ في أرض الغرفة ويصيح: ~~«كان الموت أولى لي.» # ريير ~~: # هل هو نائم؟ هل يمكنني مشاهدته؟ # دوفيلاس ~~: # سيستيقظ، ولقد حاول البارحة أن يذهب إلى المجمع العلمي. # ريير ~~: # نعم ليعطي صوته لشار بلان؛ لأن برليوز مخلص ووفي لأصدقائه. # دوفيلاس ~~: # إنه يحبك يا مسيو ريير كولده، ومنذ وفاة المسيو دورتيج أصبحت أنت ~~والمسيو سان صانس أعز أصدقائه ~~(ثم تسمع ~~حركة) ~~، انتظر فإني أظن أنه استيقظ ~~(ثم أقبل برليوز مستندا إلى خادمه، ثم تقدمت ~~إليه دوفيلاس وأجلسته على الكرسي (الفوتيل) وأسندت ظهره إلى وسادة ~~فعانقه ريير) ~~. # برليوز ~~(وكان كالأموات خافت الصوت) ~~: # أشكرك يا ريير. # ريير ~~: # لقد لاحظت أنك لم تكتب الإهداء على نسختي بينفينوتر، وإني أكون ~~مسرورا إن وقعته. # برليوز ~~: # نعم يا صديقي العزيز ~~(ثم ناولته دوفيلاس ~~القلم فكتب) # إلى صديقي العزيز ... ~~(ثم وقف وتفرس في ريير) # آه لقد نسيت اسمك. # ريير ~~: # ريير. ~~(برليوز كتب أرنست ريير، ثم دخلت ~~الخادم وأعلنت حضور المسيو كاميل سان صانس) ~~. # سان صانس ~~(وكان في الثالثة والثلاثين) ~~: # كيف نمت يا أستاذي العزيز؟ # برليوز ~~: # لم أنم ~~(ثم أشار إلى سان صانس) # إنه موسيقي عظيم يعرف جلوك كما أعرفه ~~(ثم ~~يميل إلى الوراء) # لقد أقبلوا ... ولكنني سأذهب ~~(يتألم ويشكو ms189 ) # آه. # سان صانس ~~: # هل أنت متألم؟ # برليوز ~~: # نعم. # ريير ~~(مخاطبا دوفيلاس بصوت خافت) ~~: # ألم يكتب له الطبيب دواء مسكنا؟ # دوفيلاس ~~: # لقد كتب ولكنه لا يريد أن يشربه. # سان صانس ~~: # ماذا نعمل يا إلهي لنخفف آلامه؟ # برليوز ~~(وقد فتح عينيه حينما سمع القول) ~~: # هذا عندي على حد سواء ~~(ثم سكت) # إنني أريد أن أموت في الشمس وأمام البحر. # سان صانس ~~: # إن شهر مارس لفظيع مرعب! وستمطر ثلجا، انظر كيف أظلم الجو. # برليوز ~~: # لا تتحادثوا وإن استمررتم فإنني أحب أن لا أموت ~~(عم سكوت وأغمض برليوز) ~~. # سان صانس ~~(بعد لحظة) ~~: # هل نام؟ # دوفيلاس ~~: # لقد نام. # سان صانس ~~: # فلنتركه ليستريح. # ريير ~~(مخاطبا سان صانس) ~~: # لقد عانقته البارحة! أتعلم ماذا قال لي؟ آه! كلمة مؤلمة عظيمة! ~~«وقصارى القول: هل سيوقعون موسيقاي؟» ~~(ثم خرجوا على أطراف أصابعهم وأقبل الليل وقد رمى ضوء الموقد شعاعا على ~~وجه برليوز، وكان يظهر عليه أنه نائم، وكأن نداء أتاه من العلا في الليل ~~البهيم ثم يسمع توقيع دعاء الأموات من وراء الستار موقعا على الأرض، ~~ويغنيه المنشدون وتمتلئ الغرفة بأشباح الموتى، وتظهر إيستيل وإميلي وهارييت ~~سمتسون ونانسي وآديل وماري ريتشو ولويس برليوز فيفتح برليوز عينيه.) # برليوز ~~: # دعاء الأموات، هل حضر الجميع لسماع دعائي للأموات؛ هارييت، نانسي، ~~أديك، ماري، إميكس، لويس الصغير؟ ~~(ثم اعتدل على كرسيه ورفع ذراعه، وطفق يضرب الوزن، ~~فاقتربت منه الأموات وأحاطوا به ثم مالت ذراع برليوز وفارق الوجود.) ~~(2) عنترة «مأساة شعرية في خمسة فصول لفخر الشرق المرحوم ~~شكري غانم» # ينتمي هذ الشاعر العبقري إلى أسرة عظيمة لبنانية، وقد نبغ في الشعر الفرنسي، وله ~~ديوان فرنسي ظهر حوالي سنة 1900، وروايتان مثلتا بالأودييون سنة 1905 في فصل واحد ~~وهما «وردة» أو «زهرة الحب» و«ربع ساعة من ألف ليلة وليلة»، ورواية قصصية كبيرة تسمى ~~«دعد»، وأهم رواياته التمثيلية عنترة، وقد أبت عليه قوميته إلا أن يبتدئ بتمثيلها على ~~مسرح شرقي فاختار الأوبرا الملكية المصرية، ولحسن حظه كانت فرقة الكوميدي الفرنسية في ~~ذلك الوقت مؤلفة من أعظم الممثلين الذين يسود ms190 على مجموعهم الانسجام والتوافق وفي ~~مقدمتهم الممثلة القديرة مرجريت مورينو، وقد تقدمت بها السن إلى أن أصبحت تمثل دور ~~العجائز، وقد قامت بدور عبلة، وداراجون وقد توفي بالأنفلوينزا منذ بضع سنين وقد قام ~~بدور عنترة، ومونتو وقد مثل دور وزر المعروف بالأسد الرهيص. # ومن الغريب المدهش أنهم حفظوا الرواية وأخرجوها وأعدوا مناظرها في خمسة عشر يوما، ~~وقد سحروا الجمهور بإبداعهم النادر، وكانت الرواية موفقة من جميع الوجوه. # اشتهر مورينو بحسن إلقائها ونبرات صوتها الموسيقي، وكانت تلقي الشعر بسهولة وهي تقلد ~~سارة برنار وتضيف إلى ذلك قدرا كبيرا من شخصيتها الخاصة وعواطفها المتأججة وحركاتها ~~الخالية من كل تكلف، ورشاقتها النادرة وظرفها في الحديث، وقد مثلت دور ابن نابليون في ~~النسر الصغير وروكسان في سيرانو دوبرجيراك، وقد فتنت النظارة في هذه الروايات الثلاث ~~ولم يستطع أحد من الأجواق أن يحرز هذا النجاح من سنة 1909 إلى الآن. # مثلت رواية عنترة للمرة الأولى بمسرح الأوبرا الملكية، ثم مثلها مسرح الأودييون ~~بباريس في 12 فبراير سنة 1910، فلاقت إعجابا شديدا ونجاحا باهرا، وقرظتها أغلب ~~الجرائد الفرنسية الشهيرة مثل الفيجارو والجولوا والأكلير والدييا والطان والليبرتيه ~~ومجلة التياتر المصورة والأوبنيون، كما قرظتها وذكرت ملخصها دائرة معارف لاروس في ~~ملحقها الشهري سنة 1910، وهي تستحق أكثر من هذا لبلاغتها النادرة، وتفكيرها العميق، ~~وتحليلها الأخلاقي، ومناقشتها الطلية، وعواطفها المشتعلة، ورقتها ومواقفها الفنية ~~الرائعة. # ومن سمو أخلاق شاعرنا النابغة ونبل عواطفه أنه أنبأ في القطعة التي أوردناها عن ~~اقتراب ظهور النبي # صلى الله عليه وسلم # وما سيكون له من شأن خطير، كما نوه بإعجابه الشديد ببلاغة ~~القرآن بعبارة تستعصي بلاغتها على أي شاعر مع أنه مسيحي، فجزاه الله خيرا ورحمه رحمة ~~واسعة. # المنظر الثالث «من الفصل الرابع» ~~(عنترة، ثم شيبوب ووزر بن جابر الملقب بالأسد الرهيص يدخل عنترة في ~~الحال.) # عنترة ~~: # هل هو عربي؟ لا ... كان الخائن مختبئا في الظلام وراء هذه الصفاة كالذئب، ~~ولا بد أن يكون أجنبيا. ~~(يسمع صوت شيبوب من بعيد.) # ها هو ذا شيبوب، هل يقوده؛ لأني أرى شبحين ms191 # شيبوب ~~(يتكلم بصوت مرتفع) ~~: # تقدم. ~~(ثم ينظر شيبوب وهو يجر وزرا من يده.) # لقد قطع الخوف ساقيك! وعز عليك البقاء فودع إذن الحياة. ~~(مخاطبا عنترة الذي يقترب منهم.) # لا جدال ولا ريب! فإنه يستر وجهه! وعيناه لا تخترقان حجب الظلام إلا لرمي ~~السهام، وسيطفئ الموت شعلتيهما بعد قليل. ~~(يجره بجانب عنترة وهو جالس على صخرة، وكان شيبوب يتكلم ~~وهو سائر حتى يصل إلى عنترة.) # لا تبصران الصخور ولا الخمائل ولا الجحور حتى إنني كدت أن أحمله. # عنترة ~~: # لكنه يحسن الهرب! # شيبوب ~~: # لا، إنه لم يهرب وكان جالسا على مقربة من صفاة، وقد طعن نفسه بسهم عندما ~~اقتربت منه، وترى هنا قليلا من الوضوح فانظر. ~~(ثم يزيح شيبوب اللثام عن وجهه ويحدق فيه.) # آه! وزر! # عنترة ~~: # وزر؟ أتحلم؟ كلا! # شيبوب ~~: # هو بعينه. # عنترة ~~: # الفارس المختال الذي عرفته من قبل؟ ~~(ثم يحدق به ~~هنيهة) # نعم نعم، كيف تكون خائنا؟ أقبلت في الليل الدامس ~~لتقترف إثما ملؤه النذالة والصغار، ولم ير مثله في البلاد العربية! هل ~~بلغت بك السفالة أن تفعل فعلتك هذه؟ ماذا عملت بقناتك وحسامك؟ لقد أحسنت ~~بستر وجه دمغ بميسم النذالة والجبن، ما أبشع هذا الوجه الدميم، أتنهض ~~وترفع عينين باردتين ملؤهما الخجل والخزي؟ أم يتلهفان لاقتراب جرم آخر؟ ~~تكلم. # وزر ~~: # عيناي فارغتان وقد استعضت عنهما بقلب ملئ حقدا! # عنترة ~~: # ولم؟ وعلى من تحقد؟ # وزر ~~: # لا تتجاهل وما هو إلا عليك. # شيبوب ~~: # ماذا تقول؟ # عنترة ~~: # دعه! ويلزم أن يوضح هذا الرجل، أجب. # وزر ~~: # انظر إذن، ها هو جوابي، هاتان العينان الخامدتان المفقوءتان كأنهما جحران ~~أسودان كئيبان، آه! إنك تسميني النذل يا عنترة وما النذل إلا أنت. # شيبوب ~~: # قد بلغ السيل الزبى. # عنترة ~~(وهو يزيح شيبوب عن وزر) ~~: # إنني أجهل أمرك، ولقد أسرتك من قبل وأنا راع صغير الشأن وأنت فارس مدجج ~~بسلاحك، ثم سافرت في مساء ذلك اليوم وسلمتك إلى غيري ولا أعلم ما فعلوا بك ~~في غيبتي وأنت أسير. # وزر ~~: # ألم تك أنت الذي أمرت أن يفقئوا عيني؟ # عنترة ms192 ~~(وقد غير لهجته شيئا فشيئا) ~~: # كلا، فإني لا أعرف أن أسيء إلى ضعيف، أما كنت أستغرب ما حصل لك منذ ~~هنيهة؟ وكيف لي وأنا الذي ما زلت أحارب ورائدي الشرف ومبدئي النبل أن تعزو ~~إلي هذا الجرم الفظيع دون عذر أو مبرر، أو يتهمني به عدو مقهور موتور نهش ~~صدره الحسد؟ إنني فتنت بالحروب وهي صناعة كثير من الملوك ذوي الحول ~~والطول وغيرهم من السادة الأمجاد الذين لا يستطيعون أن يشقوا لهم طريقا ~~إلى الأفئدة ويعتقدون أنهم بالغوها بظبا البيض الصفاح، وهذا خطأ ظاهر وما ~~فتئ الإنسان عرضة للخطأ. # أيترك الإنسان حنقه ليبطش بالمقهورين ويخفي أرواحهم من أعماق جفونهم ~~ويسلبهم حقهم في هذا النور حتى يجعلهم أمواتا وهم أحياء؟ كلا، ثم كلا، ~~وأقسم بهذا الهلال الصدفي الذي بزغ في السماء، إنني لا أستطيع أن أقترف مثل ~~هذا الإثم، إنهم يريدون أن يلوثوا اسمي بمثل هذه الريبة ويجردوني من الخير ~~الوحيد الذي يقود إلى المجد والفخار وهو الطيبة ... فهل تثق بي إذن؟ # وزر ~~: # أثق؟ نعم، أود أن لا أثق، إنني أبحث في قلبي وأفتش في ذاكرتي؛ لأن عندي ~~أسبابا أخرى أهم وأقوى تبرر بغضك، مهلا ~~(يناجي ~~وزر نفسه على مسمع من عنترة) # إن كان ترك لك عينيك ولم يكن لك ~~جلادا فهل كف أن يكون خائنا لكل عربي يحب حريته واستقلاله، إنه يريد أن ~~يبيع ويسلم بلاده إلى الفرس. ~~(ثم يوجه الكلام إلى عنترة) # وهذا ما ~~أعرفه منذ أكثر من عامين، لقد كبر وعظم جرمك حتى برر كل اعتداء واغتيال ~~وسحب ذيل النسيان على الجريمة التي كنت ضحيتها، والعربي لا يحفل بفقد عينيه ~~وموته في سبيل إنقاذ بلاد العرب. # عنترة ~~: # هل نصبت نفسك حكما؟ # وزر ~~(وقد اطمأن شيئا فشيئا) ~~: # لقد حكمت نفسي بكل الوسائل من سلاح وقول وكل ما يصلح للقتل والانتقام، ~~أما تراني إذن جريئا سفاحا؟ # عنترة ~~: # عجبا لك! كيف يعرفون أن يشوهوا الحقيقة الحسناء! يخفون صورة الجمال تحت ~~كثيف البراقع والأصباغ كالعجائز ينقشن وجوههن بالوشم ويتكحلن ويصبغن خدودهن ~~بالحمرة ms193 ، يرون أن يزيدوا الجمال حسنا فيشوهونه، يجب أن تغمره الشمس وهو في ~~صحة عريه فيتركونه في بساطته ووداعته ويزيلون هذه الصبغة الدميمة التي ~~تحجبه. # اصغ لي يا وزر: فإني سأجعل جمال الحقيقة ولونها الوضاح يخترقان جسمك إلى ~~أن يبلغا نفسك السوداء، وسوف أقتل فيك الريب والشك بكلمة: أما كنت فيما مضى ~~صديقا للملك المنذر؟ # وزر ~~: # أنا؟ # عنترة ~~: # نعم أنت! وتعلم جيدا مقاصد هذا الملك. # وزر ~~(بلهجة مرة) ~~: # بلى، وهي وحدة العرب في يد ملك فرد، وهذا صحيح، ولكن ذلك لم يكن إلا ~~حلما لذيذا. # عنترة ~~: # ما هو الآن بحلم. # وزر ~~: # وكيف؟ # عنترة ~~: # لقد تخلص وتحرر من نير الفرس وسأنضم إليه الآن ... # وزر ~~: # تنضم إليه؟ # عنترة ~~: # وستظهر حكمة فرد آخر كطلوع الفجر ويؤيده الله بقوته فينشر قوله الأبدي، ~~ألا تشعر بالأرض وهي تميد قبل انتشار هذا القول الذي سيميله على الناس رب ~~قوي عظيم، لقد زلزلت الأرض زلزالها، واهتز النخل في الصحراء من عبث رياح ~~السماء اللواقح، وأصبحت آمال الإنسان تتتابع مسوقة بنسيم الصبا كأسراب ~~هائلة من بنات الهديل تنشد أيكا تحط عليه لتريح أجنحتها المتعبة فلا تعثر ~~عليه، تسير تلك الأسراب حيارى مترددة لا رائد لها إلا المصادفات، ولكن ~~المغرب سيتوهج شفقة بزخرفه وقد اقترب الزمن الذي ستتصل فيه الأرض بالسماء ~~حتى يسمع أهل الدنيا كلام الله الكريم، كلاما ذهبيا في إطار الألفاظ ~~اللجينية، وستهب قبائل العرب من كل فج عميق من فيافيهم المترامية ~~الأطراف وقت طلوع هلالهم الفضي المتألق. ~~(ينوه في هذه الفقرة عن اقتراب ظهور النبي # صلى الله عليه وسلم # ونزول القرآن.) # وزر ~~: # أواه! إنني لأشعر باستنارة أمارتي بالسوء باحمرار الفجر وضوء اللهب، صبت ~~عليكم اللعنات يا من خدعتموني! لقد قطع سهمي خيط حياته الذي تتعلق به آمال ~~أسلافنا، وهذا الخيط الذي انتظمت فيه حبات المستقبل! يا لكم من خونة ~~مجرمين! وإن قبره ستدفن فيه بلادي، عفوا وغفرانا! # عنترة ~~: # لقد عفوت عنك وسامحتك ولكن هذا الجرم سيقع على من حللوه، وإن إثمك قد خط ~~فوق الرمال وسرعان ما ms194 تمحوه الرياح، ولكن المجرم المحرض سيلاقي جزاءه في ~~القريب العاجل إن امتد الأجل، وإني أحمد الله وأمجده وآمل أن يكون الجرح ~~خفيفا. # وزر ~~(بلهجة قوية وأنفاس مضطربة) ~~: # ماذا تقول! هل أصابت طعنتي؟ # عنترة ~~: # لقد أصابت ذراعي وليس لها أقل تأثير. # وزر ~~(وهو هائج) ~~: # إنها لعظيمة خطيرة! فاسحقني بحجر من هذه الأحجار كما تسحق العقارب ~~والأفاعي، ادفعني بقدمك بكل ازدراء واحتقار فإنني لا أستحق أية رحمة ولا ~~شفقة، إنني لتعس شقي، وإن جرمي لعظيم لم يخط فوق الرمال، لقد نقش نقشا ~~عميقا فوق جسمك الكبير الذي يماثل النحاس بصلابته بآلة الحقد والحفيظة، ~~فاسحقني سحقا. # عنترة ~~: # ولم هذا اليأس؟ # شيبوب ~~: # إنني خائف! # وزر ~~: # هل اسود الجرح؟ # شيبوب ~~(وهو يزيح الثوب عن الجرح) ~~: # نعم قد اسود. # وزر ~~(وقد كشف عن صدره لشيبوب) ~~: # انظر هل اسود جرحي مثله؟ # شيبوب ~~: # لا يفترق عنه. # وزر ~~(وهو خائر القوى) ~~: # هذا هو المنتظر، ولا يغني حذر من قدر، أي عنترة، قد اشتريت جرمي بحياتي، ~~وإني أريد نجاتك ولا أستطيعها؛ لأن سهمي يحمل السم الزعاف بين ~~أسنانه. # شيبوب ~~: # ويل لك من شقي! ألا تجد له دواء؟ # وزر ~~: # هيهات هيهات. # شيبوب ~~: # ولو يقف سير السم. # وزر ~~: # لا ينجع فيه دواء. # شيبوب ~~: # ولكن الأدوية كثيرة جدا. # وزر ~~: # كلا، إن سمي لا دواء له وهو يندفع كالسيل، وهو هو الذي يقتلني، إنني ~~أعالج سكرات الموت يا عنترة فاصفح عني وسامحني. # عنترة ~~: # مت بسلام واطمئنان. # وزر ~~: # ما العمل الآن؟ ويل لي من شقي! لقد نسيت، أسرع عنترة وفوت مالك وزوجك ~~ورجالك من هذا المضيق، فإن عمارة الوغد الذي قادني إلى هذه المكان يتربص ~~لقتلك، ومعه مائتان، وسيمرون من هنا. # عنترة ~~: # إنني ما زلت قويا قائما على رجلي، فقل لي أين هم؟ # وزر ~~: # كلا، فلات ساعة لحاق يا عنترة والأفضل الهرب. # عنترة ~~: # الهرب. # وزر ~~: # ليس لك، فلا فائدة لك منه ترتجى، ولكن الآخرين فهربهم وإن ساعدك لكفيل ~~بتهريب زوجك وعشيرتك؛ فعجل دون أن تنتظر أن يكفر موتي عن حياتي. # شيبوب ~~: # أواه! إنك لن تموت ms195 . # عنترة ~~: # لم يرد الموت أن يدركني في الحروب. # شيبوب ~~(مهددا جثة وزر) ~~: # ويل لك أيها الخائن! # عنترة ~~(يمنعه) ~~: # ولم هذه الإساءة للموتى؟ فلينم بدعة وسلام، وإن موتي لن يختلف ~~عنه في الأجل والشكل، وسيموت كلب ضال وهو في عنفوان قوته دون أن يثب الوثبة ~~الهائلة ليصل إلى الماء وينهل الحياة، ولما شحب لونه وأسلم روحه الصغير ومن ~~يعلم لأي جلاد؟ مات من غلته أمام خرير الماء، كلا فإني سأثب هذه الوثبة ~~مهما حل وحصل، وسأحيا، وسأحيا، إذ لا بد أن أحيا، أوقد النار يا شيبوب ~~واصهر حد السيف أو الرمح، فإن السهم مهما بلغ أمره فلا يقوى على الحرق إذا ~~ما تعدى الجرح، وإن مت فسأموت مختالا فخورا، ويخيل إلي وقتئذ أنني ~~قتلت بالحديد. ~~(وقد أسرع شيبوب في إيقاد النار بقطع من الخشب ثم وقعت ~~عيناه على جثة وزر.) # ولكن الآخر مات بنفس الجرح وقد سرى السم في جسمه وأصبحت جثة بمثابة نذير، ~~إلهي إنما أنا عبدك وخادمك، إنني أسعى وأعمل لك فلا تمتني هذ الميتة بل على ~~الأقل في الموضع الذي ينتظرني فيه الحصاد، يا لهذه الجثة! إنني وجل، ~~وعيناي تطرفان أمام الموت كما تطرف أجفان المولود الجديد من الضوء، ما ~~انتابني قط الخوف فكيف حل بي الآن، وإذا كان الإنسان في الحروب مقداما ~~جريئا فهل يكونه دائما في كل المواقف؟ ~~(ثم يسوق الكلام إلى شيبوب) # هل تمكنت ~~من مشاهدة عبلة وتطمينها؟ # شيبوب ~~: # إنها نائمة وتنتظرك وهي واهية القوى من وعثاء الرحيل والتأثر، والفضل ~~لسلمى في تهدئتها. # عنترة ~~: # ما أعزك علي يا عبلة! # شيبوب ~~: # لقد احمر النصل. # عنترة ~~: # يجب أن تضع النصل المصهور في الجرح دون اضطراب وارتعاش فإن حياتي معلقة ~~به. # شيبوب ~~: # وا أسفاه! ستتألم كثيرا. # عنترة ~~: # كلا، احرق، احرق فإني لا أحب أن أموت ~~(ثم يعري ~~عنترة كتفه فيكوي شيبوب الجرح) ~~. ~~(ثم ينزل الستار.) # الفصل الخامس ~~(عنترة - شيبوب) ~~(يأتيان من المعسكر والوهن باد على عنترة وهو متوكئ على كتف ~~شيبوب.) # شيبوب ~~: # نعم، لقد بدد صوتك الشك عندهم ms196 ، والباقون سيستعدون لموالاة سيرهم. # عنترة ~~: # ولكن هذا يوم الراحة الذي وعدوا به. # شيبوب ~~: # لم أقل عنه شيئا البارحة، وقد أرجأت البت فيه إلى هذا الصباح. # عنترة ~~: # ألا يدهش أحد من هذا السفر السريع؟ # شيبوب ~~: # كلا، وفضلا عن هذا فلا يعلم القريبون منا ولا البعيدون بمصابك، هل تشعر ~~بتحسن؟ # عنترة ~~: # إن نسيم الصباح يطفئ قليلا الحمى، والكي وحده الذي يؤلمني، هل دفن ميت ~~البارحة؟ # شيبوب ~~: # أجل، هناك بجانب تلك الخميلة. # عنترة ~~: # إن الموتى مهما بلغ أمرهم لهم الحق في الراحة، ولننتخب الآن المكان ~~الملائم لمشروعي، هناك، لا، بل بجانب تلك الهاوية فإنها مكان مكشوف قليلا، ~~ويجب أن يتمكن العدو حينما يصل من رؤية عنترة حيا أو ميتا، والآن أيها ~~الرفيق والأخ يجب أن نفترق في هذا المكان ولنرجع من هذا الطريق الذي كان ~~بالأمس طريق الأمل، أما أنا فسأتمم حياتي وواجبي. # شيبوب ~~: # ألا تريد إذن أن أنوب عنك؟ # عنترة ~~: # ولم يا شيبوب يحدث موتي ارتباكا في سير الأمور؟ وتصبح عبلة وسط هذا ~~الاضطراب دون أنت تتمكن من الوصول إلى الملك؟ لا، بل يجب أن ينفع حتفي ~~رجالي وعشيرتي ومجدي ويترك نقطا من الإبريز الوهاج في صفحات ~~تاريخي. # شيبوب ~~: # ولكنني سمعت أن لدى المنذر كثير من علماء الطب فتعال، تعال، ومن ~~يدري؟ # عنترة ~~: # لقد فات الوقت، إذ بيننا وبين المنذر ثلاثة أيام، ولقد مات وزر بسرعة ولا ~~مرد للقضاء. # شيبوب ~~: # نستطيع أن نؤخره بجهد عظيم! # عنترة ~~: # لا يمكن تأخير ساعة الموت، ولم هذا الجشع الذي ينقص الكرامة ويسقط ~~الاعتبار؟ وصباح حافل بالحوادث خير من يوم عظيم خال ... # أتبكي؟ ومتى كانوا يبكون فارسا سقط عن جواده في ميدان المجد ~~والفخار؟ # شيبوب ~~: # إنني أبكي قومنا جميعا، أبكي بلادك وأمتك وكل ما سيموت بموتك، عفوك ~~اللهم وغفرانك! # عنترة ~~: # إن مستقبل الأمة والبلاد لا يتوقف على فرد ولو كان فارس الزمان، أو كان ~~ملكا دانت له الدنيا من أقصاها إلى أقصاها، ولا شيء يوقف تقدم أمة، إنني ~~أراها ترقى وتتقدم من المشرق إلى المغرب في ازدهاء ms197 كسف الكوكب الذهبي في ~~فلكه، ولا يهم النسور المختالة حتى الخطاطيف ريشة تزيد أو تنقص من أجنحتها ~~القوية! # شيبوب ~~: # كلا يا عنترة! فإن هذه الفكرة لا تنطبق على ذويك. # عنترة ~~: # حتى ذوي، إذ سيكون ألمهم شديدا ينفذ إلى سويداء قلوبهم، وكل شيء في ~~الدنيا يتألم حينما يولد أو يخلق حتى الحبة تتعفن قليلا قبل أن تنبت، وما ~~الحياة إلا ثمرة شجرة الموت، اذهب وارحل فلربما رأيتني في يوم قريب، وسأظهر ~~لك مرة ثانية في الخيط الأسود الذي يخطه موتي في الموضع الذي مر فيه ~~الزارع، وستنبت تحت قدميه الحبة التي بذرها، سافر واسهر عليها واحرسها أيها ~~الصديق والحارس الأمين، ومن يدري ماذا سيكون شأن المولود الذي ~~ستلده. # شيبوب ~~(وهو ناظر إلى جهة المعسكر) ~~: # اذهب وكن على رأس الجند ومر من ~~المضيق. # عبلة ~~(آتية من المعسكر وهي تعدو وشيبوب وراءها) ~~: # أواه عنترتي، لقد فهمت كل شيء وحدثني به قلبي، لا تمكر علي فإن قلبي ~~لقلب بطلة، ولو أنه تألم كثيرا ولكنه يستطيع أن يستمر في ألمه ~~(ثم تقع على قدميه) # إنني لا أتألم إذا ~~شاطرتك حظك، أما أنا ظل ارتبط بظلك؟ # عنترة ~~(وقد غالب آلامه) ~~: # هذه زهرتي المسكينة قد أضجعها إعصار وهي مثقلة بماء السماء، انهضي فإن ~~الشمس ستشرب وهي منحنية عليك عبرات حبك، لقد بدد الحديد المصهور كل خوف، ~~وإني لأشعر بخفة وطأة الموت وأكاد أفلت من مخالبه، وإنك تستطيعين يا عبلة ~~أن تذهبي وأنت مطمئنة مرتاحة البال، ~~(ثم يقول ~~بلهجة حنان وتأثر) # هذا واجب عليك، وإن لك غرضا يجب أن يكون ~~نصب عينيك، ستبتهج له نفسك وهو أمل عظيم يتوج المرأة ويولد الغد من ~~أسراره الخفية، وحبذا لو نضجت ثمرة حبنا يا عبلة، وإن مت وجب عليك أن ~~تضاعفي حبك لهذا المخلوق الصغير ~~(ثم ~~يبتسم) ~~، ولكن ما العمل؟ وكأني أحزنك وأقطب جبينك وأسعد ~~عبراتك، ولكن كل شاعر حزين الفؤاد ولو من غير ما داع ولا سبب. # عبلة ~~(تنهض وهي منهوكة القوى مصعدة الزفرات) ~~: # سأرحل ولكنك لا تخدعني، وأعلم أن ms198 كل لحظة أو خطوة تبعدني إلى الأبد عن ~~وجهك ونظرك المملوء بالعطف والحنان، ولا تقل عنك شجاعتي وسأذهب طائعة، ~~وأتمنى أن ألد ولدا يثأر وينتقم لأبيه، وإني أحب الحياة لأجلكما، وهل ~~يساعدني الحظ على نيل هذه الأمنية؟ # عنترة! إنني كالسكرى من هذه الضحية وذلك الألم، فالوداع الوداع! وآمل أن ~~لا تلين عبراتي من قناتك، ثم يتعانقان. # عنترة ~~: # الوداع الوداع يا بنت الأمير النبيل سلالة الأبطال الأماجد الذين يقابلون ~~الأهوال بعيون كعيون النسور القشاعم، إن دم أسلافك لا يكذب كما يصدق دم ~~راعيهم القديم الذي نال الشرف اليوم ~~(ثم يصطحب ~~شيبوب عبلة) ~~. # اذهبي ولن ترحلي وحدك يا عبلة، إن نفسي لتشيع خطواتك وسأجعل نصب عيني ~~الساعات والأيام التي نسجت منذ طفولتنا خيوط حبنا، وسأبذرها في الهواء ~~لتكون ذرات حياتي هذه بمثابة حرس عظيم، ثم أحرسكم جميعا فيما بعد من أعالي ~~السماء. ~~(ثم يعود إليه شيبوب.) # شيبوب ~~: # يا لك من مسكين! يجب أن تلحق بها في أقرب وقت، هيا بنا فإنني تام العدة ~~والسلاح، وهذه آخر واقعة أخوض غمارها ويلزمني أن أستعد لها كالفوارس ~~البواسل وأتلقى الطعنات إلى أن أقع مضرجا بالدماء. # عنترة ~~: # شيبوب! يا أخي وزميلي في الحروب لنتعانق دون ضعف أو أسف لا يجدي ولا ~~ينفع، وعيون جامدة لا تعرف أن تدمع. ~~(ثم يطيع شيبوب إشارة عنترة وهو يكظم زفراته ~~ويذهب.) # سأموت الآن بغير شهود ونعم ما فعلت، إنني أستطيع الآن أن أعبر عن آلامي ~~ويتسنى لعيني أن تبكيا دون أن تسيل عبرات الآخرين، لقد خارت قواي ولكني ~~ضاعفت قواكم ولن يرى أحد منكم ضعفي وآلامي ~~(ثم ~~يخترف شعاع من الشمس المشرقة سحب الضباب المربد وينير وجه ~~عنترة) ~~. # والشمس لا تفترق عنا، إذ تولد ثم يراها الناس وهي تموت، أيتها الشمس ~~اذهبي إلى ذوي وانضمي إلى موكبهم وقولي لهم بأني أحميهم في الحياة وفي ~~الممات، الوداع يا أماني الحب والمستقبل الزاهر، أواه! إنني أشعر أن البرد ~~يغير علي شيئا فشيئا، وقد اضطربت عيناي، ماذا دهاني؟! هل هذه وطأتك ~~أيها الموت ms199 ؟ مهلا مهلا، فإني أنا الذي أهاجمك وأشد عليك دون وجل، ~~لأمتط الجواد والرمح في يدي كما كنت من قبل، وسأجبرك أن تخضع لأمري وسيقود ~~ذراعي سيرك الأعمى الأحمق. ~~(ثم يعلو جواده وهو في الرمق الأخير) # والآن تفتح روحي جناحيك فطر وحلق، يخيل إلي أني أنام نوما هادئا وأرى ~~سربا من الطير آتيا من المشرق، يقترب مني ويحيط بي ثم يذهب ويعود، ولكنه ~~حياتي بأجمعها التي تضمني كأكفان نسجتها الأيام التي عشتها أيام الأمل ~~والحب والحرب، إن الماضي يعرض أمامي وأرى أول الكفن، أي أيام الطفولة، إن ~~خيوطك لمن خز وعسجد وأنت وحدك اللامعة الزاهية، إننا ننسج بأيدينا أكفاننا، ~~وهذا كفني يطويه الموت بأصابعه وهو يدفنني في طيات حياتي، لا تتحرك ~~يا عنترة، يجب أن يراك العدو حينما يقبل مستعدا للكفاح. ~~(ثم يسلم النفس الأخير ويميل برأسه ويبقى جسمه منتصبا ~~معتدلا مستندا ذات اليمين إلى رمحه وذات اليسار إلى الصخور القائمة، وفي هذه ~~الآونة يأتي الرجال شاهرين رماحهم وسيوفهم وعلى رأسهم عمارة بن زياد فيلمح على ~~حين غفلة عنترة وقد أضاء وجهه شعاع الشمس المشرقة، فلمع سلاحه وهو راكب ~~جواده.) # عمارة ~~: # آه! إنه لحي لم يمت. # الباقون ~~(وهم يولون الأدبار مذعورين) ~~: # حي. ~~(ينزل الستار.) ~~(3) الغادة ذات الكامليا ~~(3-1) تحليل ونقد # ألكسندر دوما الصغير، علاقته بماري دوبليسي، فضله ومكانته في التأليف التمثيلي، ~~الغادة ذات الكامليا، لاترافياتا، ترجمتها إلى العربية، تمثيلها بمسرح رمسيس، يوسف ~~بك وهبي والسيدة روزاليوسف وعزيز أفندي عيد. # ولد هذا الكاتب الشهير بباريس سنة 1824 وتوفي سنة 1895، وكان ابنا دعيا ~~للروائي الشهير دوما الكبير، وكان جده الجنرال دوما هجينا دعيا أيضا، إذ حملت به ~~أمه وهي إحدى زنجيات جزيرة هاييتي من المركيز لابايتري بلا عقد بمدينة جيريمي ~~بهاييتي وهي إحدى جزر الأنتيل، وما أردت سرد هذه الأسرار إلا لأبين نفحاتها على ~~المؤلف وتأثيرها العظيم في رواية الغادة ذات الكامليا ودفاعه عن النساء الساقطات؛ ~~لأن هذه المسألة هي «قضيته الشخصية». # يعد المترجم له من أقدر الكتاب في الروايات القصصية والتمثيلية في القرن ~~التاسع ms200 عشر، ومن مزاياه أن يهيمن احترامه على الجمهور في المسرح ويواجهه بصدماته ~~ويسيطر عليه ويخضعه، تمثيله ذو نشاط وعمل وسرعة حماسية وروح جذابة في التعبير، لغته ~~تنم عن القوة والثبات، ومحادثاته المسرحية ملأى بالحماسة وتبهر بنكاتها ~~الأدبية. # ولع دوما بالنظام والظرف، واشتهر بطلاوة أسلوبه في المحادثة والقصص، كما أنه كان ~~من المولعين بالفنون الجميلة، وكان رقيق الشعور يتألم من الرذائل والمساوئ ويحاربها ~~بعزيمة ماضية لا تعرف الملل، وقد أعطى لغته شكلا اجتماعيا وأخلاقيا عظيما، ~~وكان غرضه الذي يرمي إليه تعضيد المجتمع الإنساني بإصلاح الأسرة التي يجب أن تؤسس ~~على الحب لا على المال، وحينما كان يحارب الأوهام الفاسدة يشتبك مع الجمهور في حرب ~~عوان، ولكنه لمهارته وجرأته وشدة عارضته وقوة أحكامه المنطقية وما وهب من الاستعداد ~~أصبح واثقا من الانتصار عليه والظفر به، حتى أصبح من أنبغ الروائيين في القرن ~~التاسع عشر. ~~(3-2) ماري دوبليسي # كانت تعرف أيضا باسم الغادة ذات الكامليا؛ لأنها كانت مفتونة بأزهار الكامليا ~~وتزين بها صدرها وآنيتها، واشتهرت بجمالها وعيشة البذخ والترف، وقد ولدت بمدينة ~~«فوان» بمقاطعة «أرون» سنة 1824، وماتت بالسل بباريس سنة 1847 وهي في ربيعها الثالث ~~والعشرين، وقد هام بها دوما الصغير واتخذها صاحبته وخلد ذكرها بروايته القصصية ~~والتمثيلية. ~~(3-3) الروايتان القصصية والتمثيلية للغادة ذات الكامليا # كتب المؤلف روايته القصصية سنة 1848، ولا حاجة لذكر الموضوع فقد سبقني كثيرون ~~وذكروه في تقاريرهم بل أكتفي الآن بتحليلها. # يتساءل الناس: لم حازت هذه الرواية هذا القبول والنجاح وأبكت السامعين مع أنها ~~ليست بأعظم ما كتب المؤلف؟ فنجيب بأن هذه الرواية هي تاريخ حقيقي للمؤلف مع صاحبته ~~ماري دوبليسي، ودفاع مجيد عن قضيته الشخصية وعن حبيبته، فهي تفتن بسرعة ارتباط ~~الحوادث ببعضها، وإنشائه السهل الذي لا يشوبه تكلف، وعواطفه المتأججة. # وقد انتقد البعض المؤلف ولاموه على تعضيد نظرية فاسدة ضارة بالنظام الاجتماعي، ~~وهي تجديد شرف الساقطات بحب الشريف من الرجال، ولكنه ليس بأول كاتب اتبع هذه ~~النظرية وقد سبقه كثيرون من زمن مديد، ولم يعد دوما هذه النظرية بشكلها القديم ~~ولكنه ms201 أتانا بشكل حديث مؤثر حتى استطاع أن يبكي العيون الجامدة، وما وسع الناس ~~بعدئذ إلا أن يهنئوه ويفخروا به. # ثم استخرج روائينا من تلك الرواية رواية تمثيلية مثلت لأول مرة بمسرح الفودفيل ~~في 2 فبراير سنة 1852 وقد أحدثت انقلابا عظيما في فن التمثيل، ولم تك هذه ~~الرواية جديدة بالنسبة لموضوعها أو فكرتها أو لأن الكاتب اختار موضوعا جديدا في ~~مذهب «الرومانتسم» وهو استرداد اعتبار البغي وأعاد «ماريون دولورم»؛ بل لأنه أتي ~~بشكل جديد وأظهر على المسرح مناظر وملابس الحياة الحاضرة، وأسس كوميديا الأخلاق ~~الحديثة التي تشمل أخلاق العصر الحاضر في دائرتها وشكلها الحقيقي؛ ولذلك اقتفى أثره ~~أغلب كتاب الروايات التمثيلية الذين انضموا في سلك مذهب «الريياليسم»؛ أي مذهب ~~الحقائق. # كل هذه الظروف والاعتبارات التي شملت هذه الرواية جعلتها أكثر تداولا من جميع ~~روايات المؤلف ولو لم تكن أهمها؛ لأن روايته الأخيرة «فرنسيون» التي مثلت لأول ~~مرة سنة 1897 تعد صفوة مؤلفاته التمثيلية، وقد مثلها الممثل الشهير «ألوبارجي» ~~بالأوبرا الملكية من خمس عشرة سنة تقريبا. # وكانت بعض روايات «دوما» يشوبها شيء طفيف من العيوب لتقليده للروائي الفرنسي ~~«سكريب»، والخشونة في بعض المواضيع، والتكلف، والأحكام المنطقية التي تبعد من ~~المعقول أحيانا، ولكن هذه الشوائب تبررت بظهور «فرنسيون» ودلت على نفحات جديدة أتت ~~من فج عميق وأسعدت كاتبنا بهذا الرقي الباهر. ~~(3-4) لاترافياتا # استخرج فردي من رواية الغادة ذات الكامليا الأوبيرا المسماة «لاترافياتا» وهي من ~~أحقر مؤلفاته، وقد سقطت سقوطا أبديا من أول يوم مثلت فيه في «البندقية»، وقد ~~قطعت جهيزة قول كل خطيب، إذ اعترف فردي نفسه بسقوطها، ونكتفي بسرد خطاب له كتبه في ~~9 مارس سنة 1853. # عزيزي لوكاردي # لم أكتب إليك بعد التمثيل الأول «للاترافياتا»، وإني أكتب إليك الآن بعد ~~التمثيل الثاني، ولقد كانت النتيجة سقوطا بل سقوطا تاما ولا أدري على ~~من يقع الخطأ؟ وأفضل الأمور السكوت، كما أني لا أريد أن أقول شيئا عن ~~الموسيقى ولا أتكلم عمن ساعدوني. # فردي ~~(3-5) ترجمة الرواية # ليت شعري! هل يجد الإنسان ما سردناه من المزايا النادرة من ms202 تلك البلاغة الساحرة، ~~والتحاليل البسيكولوجية والأخلاقية، والفكاهات الرقيقة، والروح اللطيفة، والأبحاث ~~الاجتماعية، والعواطف الملتهبة، والفن التمثيلي الذي يهيمن على السامعين بتأثيره ~~ونظامه في الترجمة العربية؟ # كلا ثم كلا، إذ لم يقدر المترجم شيئا من تلك المزايا بل أبرز لنا شكلا لا يزيد ~~عن الهيكل العظمي للرواية بعبارة ركيكة. ~~(3-6) تمثيل الرواية بمسرح رمسيس # أول شيء لفت نظري حينما فتحت برنامج الحفلة هذه الجملة: «تفتتح الحفلة بمارش ~~رمسيس تأليف وتلحين يوسف بك وهبي»، فقلت: هذا فضل جديد كنت أجهله وانتظرت على جمر ~~الغضا توقيعه، ولكن سمعنا لحنا غريبا ضئيلا مريضا واستغرب منه صديقي أيضا الذي ~~كان بجانبي، وهو من المولعين بالموسيقى والتمثيل وله ذوق عظيم فيهما. # رفع الستار في الليلة الأولى في الساعة التاسعة والنصف، وانتهى التمثيل في الساعة ~~الثانية صباحا، وهذا حالنا دوما نحن معشر المصريين لا نظام لنا ولا ترتيب. # رأيت المناظر والملابس جميلة ولكن ينقصها كثير من الذوق السليم لا سيما ملابس ~~النساء وترتيب شعورهن، إذ كان يسود عليهن الشكل «البلدي» ونسين أنهن يمثلن نساء ~~باريسيات! # إن ما رأيته في تمثيل هذا الجوق لا يمتاز بشيء محسوس عن الأجواق الأخرى التي ~~تفككت أو الباقية إلا بالملابس والمناظر، ومن العيوب السائدة فيه عدم حفظ الأدوار ~~والاستعانة بالملقن، كما أن الإشارات والحركات رديئة خصوصا عند السيدات، وكانت ~~السيدة فاطمة رشدي ذات حركات «بلدية»، وقد لفتت الأنظار بالضحك وقتما كانت تشرح كيف ~~خسر زوجها المحامي قضيته، وحكم على الذي دافع عنه بالأشغال الشاقة، إذ كانت تحرك ~~كتفيها ويديها وتضرب على كفيها، وكان على مقربة مني أحد الشبان الراقين من ~~المشتركين في الأوبرا الملكية، فقال: «أظن أن القضية كانت أمام محكمة الأزبكية.» ~~فأغرق الحضور في الضحك لهذه النكتة الظريفة التي تناسب المقام. # أهم أدوار الرواية ثلاثة وهي: دور أرمان ليوسف بك وهبي، ومرجريت لروزاليوسف، ~~ووالد أرمان لعزيز أفندي عيد، دخلت المسرح وكلي آمال واشتياق، ولكن ما لبثت أن خابت ~~كل الظنون وشككت في أنه درس دراسة تامة ونال بعدها دبلوما، رأيت فيه جمودا ms203 في ~~الجسم، إلقاؤه يكاد يكون على وتيرة واحدة خال من العواطف، حتى إن تمثيله وسحنته لا ~~يدلان على شيء منها، وربما كان أليق قليلا في نوع آخر كالحزن أو الكلاسيك أو غيره، ~~وهذا ما لا أستطيع الحكم به قبل مشاهدته. # وإذا قارنا بينه وبين عبد الرحمن أفندي رشدي وجدنا الأخير أميز بمراحل، ولو أنه ~~لم يتلق التمثيل على أحد بل درسه من كثرة مشاهدة الأجواق الأجنبية المشهورة التي ~~كانت تؤم البلاد، كانت روزاليوسف أمهر من باقي الممثلين في عدم التكلف في حركاتها ~~وإشاراتها، وقد أبكت كثيرا من الحاضرين واغرورقت عيني ولو أني لم أعجب بتمثيل ~~الرواية بعدما شاهدتها من كثير من مشاهير فحول الكوميدي فرنسيز ممن زاروا ~~مصر. # والذي ينقص الآن هذه الممثلة نشاط الحركات وقوة الصوت وسرعة الإلقاء، وقد سمعتها ~~منذ اثنتي عشرة سنة في نادي الألعاب الرياضية هي وعزيز أفندي عيد تمثل «يا ست ما ~~تمشيش كده عريانه»، وكانت وقتئذ نشيطة في الحركات رشيقتها رنانة الصوت، أما عزيز ~~أفندي عيد فلا يليق إلا للنوع المضحك، وكان دوره في والد أرمان رديئا جدا بعيدا ~~عن مهابة الآباء وحنوهم ورزانتهم بصوت خشن أبح وحركات مضحكة، وقد ترحمت على أبي ~~العدل أفندي وقلت: حبذا لو كان حيا ومثل لنا هذا الدور الذي لا يحسنه ~~غيره. # وأملنا أن يعطي وهبي بك لهذه الملاحظات عناية تامة ويحسن اختيار الروايات ~~وتعربيها. # | الأبحاث الموسيقية # (1) الموسيقى في مصر # لا ريب أن الموسيقى من أعظم الفنون الجميلة التي أصبحت من الضروريات عند كل الطبقات، ~~وقد بلغت أوجها عند الأمم الراقية، وتمشت مع التمدن حتى أصبحت معيار المدنية ~~والرقي. # الموسيقى الراقية كالشعر بل هي متممة له؛ لأن كثيرا من الحالات النفسية العميقة لا ~~يستطيع الكلام أن يعبر عنها، وإني أضرب لك مثلا سهلا: # إذا قرأت أمام أمي جاهل مرثية من أروع الشعر الجاهلي فهل يظهر عليه أي تأثر؟ أعد ~~الكرة أمام الرجل نفسه وأسمعه مرثية موسيقية راقية فلا ريب أنها تهزه وتحزنه حتى تقرأ ~~علامات الحزن على وجهه ms204 ، ولربما لا يقوى على ضبط نفسه فيتأوه أو يخونه الدمع إن كان رقيق ~~الشعور. # إن لم تكن الموسيقى واصفة ومصورة لكل ما تقع عليه العين من محاسن الطبيعة، ومعبرة ~~كالشعر عن أسمى العواطف وأرق الشعور والوجدان أولى بها أن تسمى لغطا وجلبة تصدع الرءوس ~~وتسئم النفوس. # لقد اهتمت مصر بالعلوم والآداب والفنون وأحرزت نصيبا يقارب الضروريات، ولكنها ~~متقهقرة في الموسيقى، ولم نر واحدا من أبناء الأغنياء أولع بهذا الفن وحاول أن يدرسه ~~دراسة تامة تؤهله لخدمة الموسيقى والنهوض بها إلى أوج الكمال، ولا يتأتى بلوغ هذه ~~الغاية إلا بدراسة الموسيقى الإفرنجية، ثم العربية مع نصيب كاف من الثقافة العامة ولا ~~سيما الآداب وتاريخ الفنون الجميلة؛ لأنهما يثقفان الذوق ويشحذان الخيال ويرهفان ~~العواطف. # إننا بدراسة الموسيقى الإفرنجية بفروعها من سولفيج وأرموني وكونتربوان، وتوزيع ~~الموسيقى على الآلات؛ نتمكن من إتقان الإملاء الموسيقي بأن نكتب موسيقى الدور أو القطعة ~~بمجرد سماعها، ونرقى في التلحين إذا نبغنا في الأرموني واستطعنا أن نسترشد بها لوضع ~~أرموني تتناسب مع موسيقانا العربية، أما الكونتربوان فإنها تتمشى مع موسيقانا ولا ~~تتنافر معها ولا تحدث فيها أية شائبة. # إن موسيقانا لا تتعدى على الجملة: الضروب والمقامات، وهي لا تؤهل الإنسان للتلحين ما ~~لم يكن الموسيقار قد وهب استعدادا طبيعيا وموهبة فنية وذوقا سليما كالشيخ سلامة ~~حجازي وعبده الحمولي ومحمد عثمان، وبهم استرشد ومنهم اقتبس جميع ملحنينا ~~العصريين. # المشتغلون بالموسيقى في مصر هم المحترفون والهواة وصبية رياض الأطفال وصبيات السنتين ~~الأولى والثانية من مدارس البنات الابتدائية والجيش والبوليس والملاجئ، وسنتكلم عن كل ~~طائفة منهم. # إن المحترفين من عازفين ومغنين ومنشدين وملحنين يقنعون بالوصول إلى درجة متوسطة أو ~~دونها، وليس عند أغلبهم ميل إلى الفن، والغاية التي ينشدونها هي كسب العيش بدرجة ~~يغبطون عليها من القناعة. # والهواة من الشبان يكتفون بحفظ بعض البشارف والسماعيات وجانب من المارشات والأدوار ~~دون أن يهتموا بقواعد الفن وأصوله. # وأما الفتيات فأغلبهن يتعلمن منهاج المرحومة ماتيلده على البيانو ويقلقن به الجيران ~~إلى ما بعد منتصف الليل ms205 ، ولا يعزفن نوتة واحدة. # ويستثنى منهم أفراد قلائل من الشبان والفتيات بلغن غاية عظيمة ويقولون دائما: هل من ~~مزيد؟ ولكن لا يتجاوز عددهم أصابع اليد. # اغتبطنا حين رأينا مدة انعقاد المؤتمر الموسيقي أطفال رياض الأطفال ومدارس البنات ~~الابتدائية يمثلون قطعا استعراضية تمثيلية غنائية في غاية من الرواء والإتقان، ويمثلون ~~أدوارهم برشاقة واسترسال، ويغنون ألحانها غناء صحيحا شجيا، وقد أعجب بهم أعضاء ~~المؤتمر أيما إعجاب، ويسرنا أن نرى وزارة المعارف مهتمة بتنفيذ قرارات المؤتمر الذي ~~أوصى بنشر التعليم الموسيقي في المدارس الابتدائية والتجهيزية، إذ قررت الوزارة في هذا ~~العام تعليم بنات السنة الثانية من المدارس الابتدائية. # أما موسيقى الجيش والبوليس والملاجئ فقد ترقت ~~كثيرا في السنوات العشر الأخيرة ولا سيما موسيقى البوليس فإنها تعزف كثيرا من القطع ~~الإفرنجية ومنتخبات الأوبرات المشهورة، فضلا عن القطع العربية الراقية، كما أنهم ~~اهتموا بتوحيد طراز آلاتهم حتى يكون فيها انسجام، وهم يعزفون عليها بلباقة وحسن تعبير ~~ورقة لم تكن موجودة فيما مضى. # وإني أورد مثالين يظهران شدة الاهتمام بالموسيقى والتضحية العظيمة في سبيلها: # كلنا نعرف هكتور برليوز أعظم موسيقي أنجبته فرنسا، وكان في أول أمره طالبا في مدرسة ~~الطب، وكان أبوه طبيبا فلم يجد الولد في نفسه ميلا إلى الطب ورجا والده أن يدخله في ~~معهد الموسيقى فرفض وهدده بقطع مرتبه، ولم يستطع الابن أن يستمر في الطب فدخل ~~الكونسرفاتوار، فما كان من والده إلا أن قطع مرتبه، فاضطر أن يعطي دروسا موسيقية بفرنك ~~واحد للدرس، واستمر في دراسته وهو يغالب الزمن للحصول على قوته حتى نبغ، وهو الذي ابتدع ~~الرومانتيسم في الموسيقى في فرنسا، والمثال الثاني يبين لنا اهتمام الهمج بالموسيقى ~~بدرجة لا تجدها في المصريين. # كنت في صغري أقضي عطلة المدارس في قريتنا بين أهلي، وكان منزلنا في ربوة عالية تشرف ~~على جميع القرية، وكان في الحي الذي يلينا بيت تسكنه فئة من العبيد يحيون الليل جمعيه ~~في الغناء والعزف والرقص إلى أن تطلع الشمس، ثم يذهبون إلى عملهم وهو التجوال في القرى ms206 ~~لجمع «البجم» من أشجار الأثل بقصبة طويلة بطرفها شص كبير وهو يستعمل في الصباغة. # كنت في الصغر طلعة أحب الوقوف على كل شيء، وكنت ~~أرقب هذا البيت الصادح الباغم من الأصيل بمنظار، فكنت أرى النساء يكنسن فناء الدار ثم ~~يرشونه ويفرشون الحصر ويصفون الآلات الموسيقية من دلوكات وطبول مختلفة الأنواع ~~والكسيلوفون الفطري المصنوع من قطع الخشب الرنانة المختلفة الأحجام والكيزان الصفيح ~~المحشوة بالحصى الصغير يحملونها في أيديهم ويهزونها لتحدث «دوكة» مخصوصة وقت التوقيع، ~~وحينما يقبل رجالهن بعد الغروب يهيئن لهم ثريد العدس، ثم نصف أقداح البوظة، ثم يدخنون ~~ويتسامرون ساعة إلى أن يأتي وقت الموسيقى فينشطون لها ويأخذ كل منهم آلته الموسيقية ~~ويتهيأ الباقون للرقص والغناء، ويستمرون في لهوهم إلى مطلع الشمس دون أن يناموا، ثم ~~يذهبون إلى عملهم ويقنعون بأن يقيلوا ساعتين بعد الغداء في ظل شجرة. # إن الموسيقى الشرقية كنز زاخر بالجواهر واللآلئ واليواقيت، ولكننا لا نعرف كيف ~~نستخرجها ونبريها بذوق سليم حتى تليق لأن تزين بها تيجان الملوك. # إن للموسيقى العربية مائة نغمة (مقام) أو أكثر من مائة وزن (الضروب)، ولكن أين ~~النابغة المثقف الذي يحسن التأليف والتلحين. # إن بعض الملحنين ينزعون في تلحينهم إلى اختطاف ألحانهم من الألحان القديمة ثم ~~يخلطونها بشيء من الموسيقى الإفرنجية المنحطة التي نسمعها في أفقر المقاهي الإفرنجية، ~~ويظنون لسذاجتهم أنهم جددوا الفن ونهضوا به، وما دروا أنهم شوهوه وفضحوه، وهذا جرم كبير ~~لا يغتفر، عيرنا به كثير من المستشرقين. # كانت الموسيقى المسرحية قد خطت أول خطوة في سبيل النجاح، ولكن القائمين بأمرها لم ~~يحسنوا إدارتها، وكان ينقصهم الحزم والتدبير والذوق الفني؛ فلذلك فشل المشروع في عامه ~~الثاني واستمرت الموسيقى المسرحية في التمثيل الهزلي، والحمد لله قد نشطت هذه المسارح ~~وسارت في سبيل الرقي لولا ما يصادفها من عقبة لم تذلل وهي ندورة المطربين والمطربات ~~الحائزين للأصوات الجميلة القوية الرنانة والثقافة الموسيقية الصحيحة. # إننا معشر المصريين مقصرون في تجميل بيوتنا وإنعاشها بالفنون الجميلة حتى نسكن إليها ~~بعد عناء العمل، ونجد فيها من ms207 وسائل السرور والأنس ما ينسينا آلامنا وينعشنا ويجدد ~~قوانا. # نجد الأسر الإفرنجية تهتم بتعليم أبنائها الموسيقى، وتعنى ربة الدار بنظام الحديقة ~~وتنسيقها حتى تصبح جنة مصغرة ترتاح إليها النفوس المتعبة، وفي المساء تجتمع الأسرة ~~فتحيي حفلات موسيقية ترقص لها القلوب وتنسى فيها الهموم والآلام. # أما بيوتنا التي تجردت من جميع مظاهر الجمال والأنس حتى نفرت منها النفوس، ولم يطق ~~الأبناء أن يطيلوا المكث فيها فينصرفون إلى المفاسد من تجوالهم ومعاشرة ذوي الأخلاق ~~الضعيفة، فلا يلبثون أن تتسرب إليهم عدوى الرذائل ويصبحون في عداد الحشرات ~~المؤذية. # إن الموسيقى لغة القلوب، ومهذبة الأخلاق، ومرققة الطباع، ومبددة الهموم والأشجان، ~~وخير لنا أن نهتم بها في أوقات فراغنا ونسعى في رقيها حتى نعيد عصر زرياب وإسحاق ~~الموصلي. ~~(2) بيتهوفن «للفيلسوف العظيم والكاتب الكبير إيبوليت تين» # يلزمك يا ولهلم أن توقع لي الآن السونات التي من مقام السول مينور، ألا تعرف ~~المؤلف؟ # إن الموسيقى لها هذا التأثير الفتان؛ لأنها لا توقظ فينا أشكالا مثل المناظر ~~الطبيعية وسحن الناس والوقائع والمواقف الممتازة، بل تثير حالات النفس كأنواع الفرح ~~والكآبة ودرجات الانقباض والانتعاش ومنتهى البشاشة أو البث القاتل الذي تضمحل أمامه ~~القوى، تطرد جميع الفكر فلا يبقى إلا أعماق النفس والقوة التي لا نهاية لها؛ وهي اللذة ~~والألم وهياج وهدوء الخلقية العصبية الحساسة والاختلافات والانسجامات التي لا تحصى في ~~اضطرابها وسكونها، كما لو نزع من بلاد أهلها وطمست معالمها ومحي حرثها فلم يبق ~~إلا الثرى وأغواره وأطواده وصرير الرياح وخرير الأنهار والشعر الأبدي المتباين للنهار والليل. # لم أكن مصغيا لك ومسايرا؛ لأني كنت أفكر، فأرجو منك أن تعيد القطعة الثانية ~~التي من المقام الكبير (الماجور). # بيتهوفن. # فأعاد هذه القطعة الثانية وهي مشجية مؤثرة، فكان الغناء ذو الأصوات الرائقة البلورية ~~تزحف فوق الأصوات المؤتلفة فيختفي ثم يظهر وينشر التفافه المتموج، كجدول ينساب وسط ~~المروج فيخيل إليك في بعض الأحيان أنه أنين الناي، وفي الغالب تكون كصوت رخيم شجي ~~لعاشقة حزينة، وتارة ينقطع هذا اللطف وتلك الرقة وتظهر ثانية النفس ms208 الهائجة وتثب ~~أنغامها ثم تهوي كماء يتحدر بين الجنادل أو كأهواء نفس رقيقة أو كأصوات رنانة لها ~~انسجام غريب، ثم تسقط كل هذه الأصوات وتختفي ثم تصعد جموع من أصوات صغيرة خفيفة الحركة ~~ثم تهبط وتتابع كأنها ارتجاف أو اضطراب أو خرير ماء شجي. # ولتقود اللحن إلى مجراه الأول كانت الأنغام ترجع إلى سيرها الموزون، وكانت لججها ~~الرائقة تجري للمرة الأخيرة وهي أكثر تعرجا وأعظم مما رئيت في موكب من أصوات رنانة ~~فضية، اضرب دائما من بيتهوفن يا ولهلم ولكن أطل في هذه المرة واضرب كل ما يخطر ببالك، ~~فاستمر أكثر من ساعة، ولم أنظر ساعة الحائط، وكنت في هذا اليوم مفتونا بالسماع ومكبا ~~عليه أكثر منه. # وقد ضرب في بادئ الأمر اثنتين أو ثلاثا من السوناتات بأكملها ثم أعقبها بقطع من ~~السانفوني والسوناتات المخصصة للبيانو، والكمنجة ولحن من فيدليو وقطعا أخرى لا أعرف ~~أسماءها. # وكان يصل هذه القطع المتفاوتة ببعض أصوات متوافقة منسجمة، وبعض سكتات كقارئ فتح ديوان ~~شاعره المحبوب، فتارة يقرأ في وسطه وطورا يقرأ في آخره، فينتخب أحيانا فقرة ثم يبحث ~~عن غيرها حسب تأثره الوقتي. # لبثت مصغيا لا أتحرك وما فتئت عيناي تحدقان بالمدفأ فتنبعث حركات هذه النفس العظيمة ~~التي انطفأت كما يتفرس الإنسان في سحنة حية ليقرأ ما ارتسم عليها من العواطف، إنها لم ~~تخمد إلا في ذاتها ولكنها ما زالت أمامنا حية خالدة في بطون هذه الأوراق المسطورة، إن ~~الشهرة العامة تكون في مكانها ظالمة جائرة! ولقد عرف بأنه أمير الموسيقى في العظمة ~~الهائلة والآلام المبرحة، وقد حددت هناك مملكته، ولم يمنح من الملك غير أرض مقفرة ~~اكتنفتها الأعاصير الهوج فأصبحت يبابا فخمة تماثل الأرض التي عاش فيها «دنت»، إنه ~~يملكها ولا يستطيع موسيقي غيره أن يلجها، وقد استوطن غيرها. # إن أجمل وأنضر رياض الخلاء، وقد أنبتت من كل زوج بهيج، وأعطر الوديان الباسمة ذات ~~الظلال الوارفة والأزاهير الرشيقة الفيحاء، وأرق نسمات السحر العليلة الخجلة، كل أولئك ~~ملكه وفي حوزته، ولكنه لا يدخل فيها ms209 نفسا وديعة هادئة؛ لأن الفرح كالألم يهزه كالريشة ~~في مهب الريح. # إن إحساسه اللذيذ عنيف وما هو بسعيد بل مذهول، مثله كمثل رجل قضى ليله حليف الهموم ~~والأشجان فأصبح يلهث من الألم وظل يخشى أن يفاجئه نهار أسوأ من ليله، لمح فجأة منظرا ~~طبيعيا جميلا عليل النسيم مخضلا بالندى فارتجفت يداه وتنهد تنهد من تخلص من كروبه ~~واعتدلت جميع قواه بعد انحنائها ورزوحها، واندفاع سعادته لا يذلل كوثبات يأسه، تتهافت ~~نفسه على كل لذة، سعادته مؤلمة وما هي بهنيئة. إن قطعه التي كتبها من سرعة «الليجرو» ~~تقفز كالأمهار الطلقة فتعبث بالمروج الزاهرة وتهشم ما تصادفه وقت جماحها، وأشد وأعنف ~~منها قطعه التي من سرعة «برستو» ولها جنون لذيذ ووقفات فجائية مختلجة، وقطع تماثل ~~سرعتها خبب الجياد ولكنها غير منتظمة ويطرق «فوجها» الرنان على ملامس البيانو، ~~وبينما تراه وسط فرحه الأحمق، إذ سطا الجد الفاجع فلم يغير سيره ويهجم عقله إلى الإمام ~~بنفس العنف كأنه يخوض غمار المعمعة، وهو ثمل دائما بعنيف سرعته ولكن بوثبات غريبة ~~وخيال خصيب، حتى إن المشاهد ليقف مذعورا من عنفوان هذه الحياة الوحشية وكثرة هباته ~~وحركاته الفجائية، وجماح تنويعاته غير المنتظرة التي تنقطع وتتضاعف بشكل لا يبلغه ~~التصور ولا يخطر على البال، وكل ذلك يعبر عن تلك الحياة دون أن يستنفدها ... # ثم قال لي ولهلم: «الآن أعرني إصغاءك» ثم ضرب القطعة النهائية من السونات ~~الأخيرة. # إنها لجملة تتركب من سطر واحد بطيئة تعبر عن حزن لا حد له، تتردد بدون انقطاع ~~كتأوه طويل، ويسمع تحتها أصوات مختنقة متسلسلة، وكل لهجة تمتد على ما يتبعها ثم ~~تخفت وتغيب كمثل صيحة انتهت بتأوه؛ بحيث إن كل شعور جديد بالألم كان يحفه موكب من ~~الشكاوى القديمة، وكان يميز وسط أنين الشكوى المرة الصدى الخافت للآلام الأولى، ولست ~~ترى في هذه الشكوى غضاضة أو غيظا أو هياجا. # إن القلب الذي أصدرها لم يعترف بأنه بائس تعس، ولكنه اقتنع بأن السعادة مستحيلة، وإنه ~~ليجد الدعة والسكينة في هذا الاستسلام والخضوع كمنكود ms210 سقط من عل فتهشم، فطفق ينظر ~~إلى الجواهر المتلألئة في السماء والتي رصعت بها قبة ليلته الأخيرة فينفصل عن نفسه ~~وينسى واجبه، ولا يفكر مطلقا في إصلاح ما استحال إصلاحه، ويسكب صفاء الأشياء الإلهي في ~~نفسه لطفا خفيا ويفتح ذراعيه اللتين لا تستطيعان أن تنهضا جسمه المتحطم، ويمدهما صوب ~~الجمال الخالد الذي يلمح خلال هذا العالم المحفوف بالأسرار. # نضبت عبرات الألم دون أن يشعر لتمهد ذرف دموع نشوة النفس وقت تجردها، وبالحري ليندمجا ~~في قلق مزج بالملذات. # وفي بعض الأثناء ينفجر يأسه فلا يلبث أن يفيض الشعر، وتنتشر الألحان الحزينة الفاجعة ~~وهي ملفوفة بأصوات مترافقة فخمة لا يدركها الوصف، ثم يطفو العظيم منها ويغطيها جميعا ~~بانسجام مؤثر. # وفي النهار بعد جلبة عظيمة ومعركة عنيفة يبقى العظيم وحده وتتحول الشكوى إلى نشيد ~~لتمجيد الخالق يدور بصوت رنان وهو محمول وسط أنغام ظافرة، وتسمع حول الغناء في الأصوات ~~الغليظة والحادة من البيانو جموعا كثيرة من الأصوات السريعة المشتبكة المنتشرة انسياب ~~نشيد الاستحسان، وهو ينمو وينتفخ ويضاعف بدون انقطاع وثباته وفرحه، إن ملامس البيانو ~~ليست بكافية، إذ لا يوجد صوت لم يشترك في هذا الاحتفال، فالغليظة برعودها، والحادة ~~بتغريدها، قد تجمعت كلها في صوت واحد، إنها واحدة ومتعددة كالوردة الرائعة التي رآها ~~«دانتي» وكانت كل وريقة من تويجها روحا سعيدة. # ولقد كفى غناء مركب من عشرين صوتا لتأدية تأثرات متباينة (تركنا هنا جملة لم ~~نستحسنها، إذ كلها تشبيهات بأقسام الكنيسة واصطلاحاتها الدينية التي لا نجد لها ~~تعريبا، وهي في ذاتها لهذا السبب عديمة الأهمية). # الرغائب والأماني قوة لا تغلب ولا تقهر! ولقد حاولوا إخضاعها بلا طائل وما فتئت ~~منابعها جارية، ولقد تكدست على المنبع جهود ثلاثين عاما من أعمال وحساب وتجارب فظن أنه ~~جف ونضب، وما لبث أن مسته نفس عظيمة حتى تفجرت ينابيعه وكانت أشد من أيامها الأولى ~~فتحطمت الجسور، ولما طغى الماء اكتسح التيار المواد الثقيلة التي سد بها المنبع فزادته ~~قوة فوق قوة، ومن غريب المصادفات أنني رأيت ثانية في ms211 هذه الآونة مناظر الهند الطبيعية ~~وهي وحدها، بما أوتيته من العنف والتضاد، حرية بأن تعد الصور لمثل هذه الموسيقى. # وحينما تهب الرياح الموسمية وتتكاثف السحب المربدة فتكون سورا هائلا كسواد القدر ~~يغير على الزرقاء والدأماء، وفي هذه الأكداس الفحمية تطير أسراب من النوارس لا يدركها ~~الحصر، وترى ذاك السواد المرعب وقد شابته هذه الأجنحة البيضاء يزخف على الغبراء ويلتهم ~~الفضاء ويغرق رءوس الأرض في أبخرته. # أبحرت وقتئذ السفن، وفي آخر يوم جميل رأيت على بعد جزائر «ملاديف» وهي اثنا عشر ألف ~~جزيرة صغيرة من المرجان في بحر من الماس وجميعها تقريبا مقفرة، نام الماء في خلجانها ~~الصغيرة فزان رصفها بهداب من لجين. # وترى الشمس ترشقها بوابل سهام من نار وبمنعرج قنواتها ينساب ذوب النضار فيفجر ~~اللجج الماثلة، وكأن البساط العظيم السائل وقد تشقق من اضطراب الأمواج معدن مطروق ~~مطعم بالأشكال العربية، وقد لمع البرق فوق ظهر اليم بآلاف من وميضها لا يدركها العد ~~كما تتألق الجواهر على الدروع المرصعة، فكأنها كنز لأحد ملوك الهند من أسلحة وحلي ~~وخناجر مقابضها من الصدف، وملابس مرصعة بالصفير، وخوزات محلاة بالزمرد، وأحزمة مزينة ~~بالفيروز، وإستبرق لازوردي موشى بخيوط الذهب ومرصع باللآلئ. # بماذا نقارن هذه السماء البيضاء الناصعة؟ هل رأيت غادة تختال في برد شبابها وصحتها ~~وهي تنتفض من رجة الملذات وقد تحلت بأفخر مظاهر الزينة ليلة زفافها وأنشبت مشطها ~~العسجدي في شعرها، وازدان جيدها بعقود اللآلئ، وتدلى من أذنيها قرطان من ياقوت، وحينما ~~يضيء لألاء هذه الجواهر ورد بشرتها الحي يعلق في أغلب الأحيان على جبينها نقابا أبيض ~~خفاقا، غير أن وجهها يملؤه بنوره، وترى ثوبها الرقيق الأبيض الذي يخيل إليك أنها تختبئ ~~فيه وقد صار لها فخرا زائنا. # وهذا مثل ذلكم البحر وقد أظلته تلك السماء بضوئها الوهاج الذي ينساب كالماء بعد تباين ~~ألوان السحب الرصاصية حتى أصبح شائقا فخما، كاللحن الديني الشجي الفتان للرجل العظيم ~~بعدما جالد اليأس في ظلامه الحالك، إن ذاك اليم يهيج نفوسنا كما يوقظه فينا ذاك الرجل ~~العظيم ms212 ، وسواء أكان في حضرة هذا أو ذاك ينقطع استماع ونظر الأشياء المنفردة أو الكائنات ~~المحدودة أو شطر من أعمال الحياة، إن موسيقاه لهي النشيد العام للأحياء الذي يشعر فيه ~~بالتنعم أو الشكوى؛ بل إنها النفس العظيمة وما نحن إلا فكرها، إنها الطبيعة بأكملها قد ~~جرحتها الضرورات فشوهتها أو سحقتها، ولكنها ما فتئت مختلجة وسط جنازتها وهي بين جموع ~~الموتى الذين لا يدركهم العدو قد غطوها، ترفع كفيها صوب السماء وقد امتلأتا بالسلالات ~~الجديدة وهي تصرخ صراخا غير رنان ولا مفهوم دائم الاختناق تسببه على الدوام رغبة لا ~~يطفأ أوارها. # نظرت إلى ولهلم وكنا تقريبا في نفس تلك الحالة وتقدمنا إلى بعضنا، أستغفر الله فإننا ~~لم نضع وجهينا المجعدين صوب بعضهما، ولكننا قد تنبأنا بفكرتنا بعضنا في عيني بعض ثم ~~ابتسمنا، وكفانا في هذه السن أن نتصافح ... ~~(3) احتفال مصر بمرور خمسين عاما على وفاة فاجنر # في نفس الساعة التاسعة من مساء 29 يناير سنة 1934 التي كان الألمان يحتفلون فيها ~~بأوبيرا برلين بمرور خمسين عاما على وفاة فاجنر أكبر نابغة في الموسيقى في القرن ~~التاسع عشر، كانت مصر تشارك في هذا الاحتفال في المعهد الملكي للموسيقى العربية، والفضل ~~في ذلك يرجع إلى الأستاذ ستافرينو صاحب مجلة الأسبوع المصري التي تصدر بالفرنسية، ~~والشاعر المجيد خيري نجل المرحوم خيري بك الأمين الأول للمرحوم السلطان حسين ~~كامل. # وقد جمعت هذه الحفلة من عظماء المصريين والأجانب وكثير من الأدباء والصحفيين، وقد بهر ~~الشاعر المجيد خيري الحضور بمحاضرته القيمة التي ألقاها بلغة فرنسية فصيحة أمام جهاز ~~الراديو، الذي تجشم المهندسان اللذان قاما بتركيبه كثيرا من المتاعب حتى حصلا على أعظم ~~نتيجة، إذ استخدما محطة المعادي اللاسلكية وسلطا عليها سلك التلفون، ثم وصلا هذا السلك ~~بالراديو، وبعد إلقاء المحاضرة قال صاحب السعادة حسن نشأت باشا كلمة في الاحتفال ~~بأوبيرا برلين باللغة العربية حيا فيها جلالة مولانا الملك، وحمل إلى المصريين تحية ~~هتلر وتمنياته، ولقد سمعت في مصر بفضل هذه الجهود بصوت جهوري رنان، ثم أعقبه الاحتفال ~~فوقع أوركستر الأوبيرا ms213 القطع الآتية: # الفاتحة الموسيقية لأوبيرا تانهوزر. # الفاتحة الموسيقية لأوبيرا لوهنجرين. # سيجفريد إيديل. # الفاتحة الموسيقية لأوبيرا أساتذة الغناء. # كان التوقيع غاية في الإتقان والصفاء ولم يشبه أدنى جلبة بفضل هذه الجهود الجبارة ~~حتى كادت تميد طربا جدران المكان. # لم أتمكن من الجلوس في الصفوف الأولى لشدة الزحام، فلذلك لم أستطع أن أسمع كل الأقوال ~~بجلاء، وعللت النفس بمطالعتها حينما تنشر لأستعيد تلك اللذة العظيمة، ولأعلن لأمتنا ~~المحبوبة أن في الكنانة رجالا يشرفوننا في مثل هذه المواقف. # فاجنر. # إن مجلة الأسبوع المصري تظهر كل خمسة عشر يوما، ولقد نشرت المحاضرة في أربعة أعداد ~~ظهر الأخير منها في 15 أبريل سنة 1934، وهذا ما دعا إلى تأخير الرد لغاية الآن. # ولا أنسى ليالي رمضان الشجية التي شنف فيها أسماعنا منذ ست سنين الدكتور منصور ~~فهمي والأستاذ محمود فؤاد مرابط مدرس تاريخ الفنون بمدرسة الفنون الجميلة العليا، إذ ~~تكلم أولهما عن الفيلسوف نيتشه، وتكلم ثانيهما عن الرابطة التي كانت تجمع في أول الأمر ~~بينه وبين فاجنر، وعطف على الكلام عن حياة هذه النابغة وتأثيره وعن الرسالة التي قام ~~بتأديتها خير قيام، وقد أسمعنا أثناء محاضرته هذه على البيانو القطع الشهيرة ~~الآتية: # نشيد الحجاج من أوبيرا تانهوزر. # أنشودة النجم من أوبيرا تانهوزر. # لحن مسير الخطبة من أوبيرا لوهنجرين. # دخول الآلهة في الولهال من أوبيرا ذهب الرين. # الفتيات الأزهاد في أوبيرا برسيفال. # جزء من فاتحة برسيفال الموسيقية. # إن أفئدتنا لتبتهج حينما نرى شبابنا الناهض ملقيا بدلوه في الدلاء ليستقي من فنون ~~الغرب ما يستنير به في ترقية موسيقاه دون أن يعبث بطابعها الشرقي، سرد لنا المحاضر حياة ~~فاجنر وأعماله وما صادفه من عقبات وبؤس ومناوأة نقاد جهلاء أو حساد أصمهم الغرض وأعماهم ~~الهوى، وكان الذوق الفني والثقافة الموسيقية لم يتحررا بعد من أسر الموسيقى القديمة؛ ~~فلذلك لم يرق لهم في أول الأمر فن فاجنر الجديد ولم يستطيعوا أن يفهموا أسراره ومذهبه ~~الفخم، وكان يتخلل المحاضرة من النكات والفكاهات ما أبعد الملل عن الحضور وجعلهم ينصتون ~~إلى المحاضر كأن ms214 على رءوسهم الطير لهذه السيرة المفعمة بالمجد والفخار، ثم سرد مؤلفاته ~~ونوه بالصحف الشهيرة منها التي سارت بذكرها الركبان. # عرفت المحاضر منذ نعومة أظفاره، إذ كان مفتونا بفاجنر ويوقع منتخبات من مؤلفاته ~~بتعبير عظيم وعواطف متأججة وتصوير خلاب، وكان يعالج الشعر الفرنسي في هذا الوقت ويجمعه ~~في كراسات مخطوطة فكان يسمعنا منه قطعا شائقة، وهذا سر نجاحه؛ لأنه تكلم عن نابغة فتن ~~به منذ صغره. # وما أردت بهذه الكلمة إلا أن أنوه بفضل شاعرنا المفضال وجهده العظيم، وأن أضيف كلمة ~~متواضعة عن فاجنر في النواحي التي لم يطرقها المحاضر وله العذر؛ لأن المحاضرة بلغت نحو ~~الأربعين صحيفة تقريبا ولا يتأتى أن يلم المحاضر بجميع أطراف الموضوع في محاضرة ~~واحدة. # اجتمعت في فاجنر مواهب جمة قل أن توجد كلها في نابغة غيره، كان كاتبا قديرا ~~وشاعرا مجيدا وموسيقيا مبدعا وفيلسوفا عظيما ومبتكرا ومجددا بمعنى الكلمة، ~~ولقد سرح فكره في تاريخ الفن واستعراض الأطوار التي مرت عليه، فوجد أن التراجيدي ~~اليونانية القديمة التي نشأت من اشتراك جميع الفنون والتعاون الفرح للأمة التي ما ~~اجتمعت واتحدت إلا لتبدع الجمال أو تعجب به، وقد اتحد الشعر مع الموسيقى لإيجاد الدرام ~~اليوناني، واجتمع الرقص والإشارات التمثيلية والنحت ليحققه على المسرح بأوزان شجية ~~وجماعات ساد عليها الجمال، ثم ائتلفت الهندسة مع التصوير ليحدثا الإطار اللائق لأن تدور ~~فيه المشاهد والحوادث، وهبت الأمة بعضهم بمثابة ممثلين والآخرون مشاهدون. # كانت الوحدة الأولية في العصر اليوناني لم تتفكك بعد، إذ كان الإنسان قريبا من ~~الطبيعة يشاهدها بعين الفنان ويخضع لأول وهلة لقانون الحاجة الذي يتكلم في نفسه بصوت ~~الغريزة. # ولما كرت الحقب وتعاقبت السنون تهشمت تلك الوحدة وأخلت البصيرة والغريزة مكانهما ~~للتفكير؛ فأصبح يحلل بدلا من المشاهدة، وبهذه الصفة تجزأت الوحدة في الطبيعة إلى أجزاء ~~عدة منعزلة عن بعضها، وانحل التعاون الأخوي الذي ساد بين الفنون. # شعرت الإنسانية شيئا فشيئا بالداء الذي تئن منه، فابتدأ الميل إلى الجمع # Synthése # من جديد، وهب الفنان الأخصائي من أعماق عزلته ~~وفتح ذراعيه للفنون ms215 المجاورة، احتاجت الموسيقى إلى الرقص ليمدها بالإيقاع (الوزن)، وإلى ~~الشعر ليملي عليها الألحان، وإلى القول ليعطي المعاني المحدودة لأمانيها. # ولقد حاولت الموسيقى من عدة قرون أن تكتفي بنفسها وتستغني عن غيرها من الفنون قانعة ~~بإيقاع وألحان مستعارة أو مقلدة فلم تفلح، إلى أن ظهر أكبر نوابغ الموسيقيين في العالم ~~بيتهوفن، فإنه تنبأ ببصيرته الوقادة عن المثل الأعلى في الموسيقى، وكانت السانفوني ~~التاسعة قد اضطرته إلى الاستعانة بالشعر ليكون متمما لها وليسمح له بالخروج من المنطقة ~~المبهمة للاضطراب الخالص، وليعلن بدقة عن مطامحه ورغباته، فوصل بذلك ما انقطع من ~~الروابط التي تربط الفنون الثلاثة ببعضها، والفضل يرجع إليه في تخليص الموسيقى من ~~عزلتها، وكانت السانفوني التاسعة خطوة ثابتة قاطعة نحو الفن الجمعي # L’art Synthétique ~~. # رأى فاجنر أن ينهض بالدرام الموسيقي إلى أوج الكمال، فوضع نظرياته العديدة وابتكاراته ~~العظيمة حتى أصبح فنه كالمغناطيس يجذب أغلب الموسيقيين إليه طوعا أو كرها، وكان أساس ~~نظامه الوحدة الفنية بين الفنون اللازمة للمسرح، إذ يجب أن يكون الموضوع ونظم الدرام ~~والتلحين لشخص واحد حتى تسود وحدة التفكير في المتن والموسيقى. # كان فاجنر ينتخب الموضوع بنفسه وينظم شعره ويلحنه، ويتلخص مذهبه في أن تكون الموسيقى ~~واصفة لكل ما تقع عليه العين معبرة لكل ما يجيش في النفوس ويختلج في الأفئدة من مختلف ~~العواطف والميول. # ولقد ابتكر فنا جديدا لتوزيع الموسيقى على الآلات لا يجاريه فيه مجار، وامتازت ~~موسيقاه باتصالها وارتباطها كالحلقة المفرغة حتى لا يتسنى لأحد أن ينتخب منها قطعا ~~متفرقة؛ لأنها غير قابلة للتجزئة. # ومن أهم ابتداعه اللحن المثير # Leitmotiv # وهو عبارة ~~عن لحن صغير يرمز به لمعنى من المعاني ويتكرر بالمناسبات، وهو قوي التعبير مظهر للمعاني ~~الخفية. # كان فاجنر قوي الإرادة، ماضي العزيمة، سيئ الحظ، بائسا قلب له الدهر ظهر المجن، ~~فلم تثبط صروف الزمن همته أو تفل له عزما، بل استمر في تأدية رسالته وهو واثق من ~~نفسه. # لم يفهمه قومه ولا الباريسيون أنفسهم وسقطت تانهوزر وقابلوها بالصفير ونكات الشوارع، ~~وحينما ابتدئ بتمثيلها في باريس وكان أغلب ms216 الجماهير جاهلا محافظا على التقاليد ~~العتيقة فلم يسغ فن فاجنر الجديد، والبعض الراقي من الموسيقيين نهش الحسد صدورهم ~~وأشفقوا من هذا المنافس الجديد، والبعض أعماهم التعصب الذميم، كان الباريسيون تشجيهم ~~موسيقى مييربير المزوقة الجوفاء الخالية من العواطف والتعبير، وقد قال فاجنر: «إن ~~مقطعا موسيقيا واحدا من برليوز لأفضل من جميع الأوبيرات التي كتبها ~~مييربير.» # تألب بعض النقاد على فاجنر مثل: برليوز وفيتيس وشومان وغيرهم، ولم يكن الخصام بين ~~برليوز وبين فاجنر إلا بسبب سوء الفهم ثم تصافحا وتحابا. # وتفصيل الخبر أنه عرض على فاجنر في يناير سنة 1855 أن يقود الأوركستر Philarmanic Society # ويعطي ثمانية كونسيرات فقبل ~~على سبيل التطلع إلى حركة الموسيقى في تلك البلاد، وصادف وجود برليوز في نفس هذا الوقت ~~وكان يقود أوركسترا # New Philarmonic # فتقابلا وزال ~~بينهما سوء الفهم، وأصبحا صديقين حميمين يعجب كل منهما بالآخر، واستمرت المراسلات ~~بينهما بعد سفر فاجنر إلى سويسرا، ولكن من أعجب العجب أن فيتيس رئيس كونسرفاتوار بروكسل ~~والذي تربى في كونسرفاتوار باريس وكان مدرسا فيه حمل حملة عنيفة على المترجم له، ومع ~~أنه لم يشتهر إلا باختصاصه بالتدريس وحفظ القواعد، ولم يوهب شيئا من النفحات والابتداع ~~يؤهله لأن يكتب شيئا يعيش ويخلد، وقد ألف عدة أوبيرات سقطت كلها من أول ليلة في ~~تمثيلها، كما أنه حاول أن ينال جائزة روما الأولى من الدرجة الأولى فلم يفلح ولم ينل ~~غير الثانية من الدرجة الثانية، ثم دخل الامتحان في العام التالي فلم يأخذ غير نفس هذه ~~الدرجة الحقيرة. # وقد انتقد هذا السخيف برليوز قبل فاجنر وكان يحمل عليه حملات عنيفة متتابعة في ~~الجرائد ولكنها كانت تقابل بالازدراء والسخرية، ومن سخافات هذا الرجل أنه قال في قاموسه ~~«تراجم الموسيقيين» عن جان سيباستيان باخ بأنه أعظم الموسيقيين الألمان على الأطلاق، ~~وهذا ما يدل على تفضيله باخ على بيتهوفن وفاجنر وهذا منتهى السخافة والغباوة. # ومن نكد الدهر أن فاجنر العظيم عاش زمنا طويلا يكابد صنوف البؤس، وكان ساعده الأيمن ~~وقت الشدائد ليزت وهو من أشد المعجبين به وصديقه الحميم، ولما ms217 عطف عليه لويس الثاني ملك ~~بافاريا وفتن بفنه العظيم قربه إليه وأخذ يساعده في نشر مؤلفاته وتحسين معيشته، ~~ولكنه لم يلبث بعد سنة وبضعة شهور أن تألب الجمهور على فاجنر ورموا الملك بالانصياع ~~إليه والخضوع لإرادته السياسية، فلم ير بدا من إبعاده عن القصر، فذهب إلى سويسرا ~~ومكث فيها ست سنين كانت من أسعد أوقاته، وإن أضفناها إلى الاثني عشر عاما التي قضاها ~~خارج بلاده حينما صدر الأمر بالقبض عليه لاشتراكه في الثورة لبلغت ثمانية عشر ~~عاما. # إن رسائل فاجنر وقد ترجمت إلى الفرنسية تعد من أعظم المستندات والمراجع التي تدرس ~~منها حياته، وفضلا عن ذلك فإن له فيها أفكارا عظيمة في الفن وملاحظات دقيقة. # لم ينتقد فاجنر إلا في تطويله في بعض المواقف، إذ تراه مثلا يخصص فصلا بأكمله لبث ~~بشكوى الغرام بين المحب وحبيبته، ونفوره من الرقص في التمثيل؛ لأنه كان يقول: لا أحب أن ~~أكتب رقصا لأوبيراتي حتى يلهو النظارة بسيقان الراقصات الجميلة ولا ينصتون إلى ~~موسيقاي. # نأخذ على المحاضر أن جعل سيزار فرنك في مستوى واحد مع فاجنر، وهذا شيء فيه غلو كبير ~~لم يقله غيره من المؤرخين والنقاد، لا ننكر أن فرنك نبع في الموسيقى الدينية وله في ~~القطع القليلة التي كتبها نفحات عظيمة، فمن العبث إذن أن نوازنه بمن قلب الموسيقى رأسا ~~على عقب وابتدع المذهب الفخم ونهض بالموسيقى إلى أرفع شأو. # ولقد رفع دوبوسي إلي مصاف الآلهة، وإني أسرد كلمة عن هذا الموسيقي ربما أقنعت محاضرنا ~~المحبوب: # كان دوبوسي من أنجب تلامذة المعهد الموسيقي، وقد تخلص من بعض تأثير أستاذه «ماسنيه» ~~وأوجد له مكانة خاصة، كان يميل هذا الموسيقي إلى «كوبران» و«رامو» و«موزار» ويتضايق من ~~«جلوك» ولا يطيق أن يسمع «فاجنر»، وكما أن لهذا الموسيقي فئة تعجب به وتجله فإن له ~~نقادا كثيرين وساخطين عديدين، وأظن أن حكمه على جلوك وفاجنر كاف للدلالة على ذوقه ~~ومبلغ علمه وشدة غروره. # تنحصر مؤلفات دوبوسي في القطع الصغيرة ولم يلحن إلا أوبيرا واحدة وهي ms218 «بيلياس ~~وميليزاند»، وإني أسرد للقراء نقد «أرتوربوجان» لهذه الأوبيرا، وهو كاتب عظيم وأكبر ~~نقاد موسيقي في هذا العصر، وقد توفي منذ بضع سنين وله مؤلفات عديدة يرجع إليها في ~~تاريخ الموسيقى ونقدها، وهو الذي ينتدب لتحرير القسم الموسيقي لملحقات المعاجم ودوائر ~~المعارف مثل: قاموس لاروس (ثمانية مجلدات)، وقاموس الأوبيرات، ومعجم فييس الموسيقي ~~وغيرها، وقد مثلت هذه الأوبيرا لأول مرة بمسرح الأوبيرا كوميك بباريس في 30 أبريل ~~سنة 1902، وهي مستنبطة من رواية الكاتب الشهير مترلنك. # إن كلود دوبوسي وهو من الحائزين لجائزة رومة 1884 يعد من الموسيقيين الذين لا تفهم ~~موسيقاهم، وقد اعتبرته فئة من زملائه الذين هم على شاكلته رئيس مذهب جديد، وقد وضع ~~ألحان هذه الأوبرا كما يشاء ويهوى حسبما يفهم الموسيقى التمثيلية، ولسوء حظه قد فاته ~~الوقت وهو متأخر ككثير من زملائه الشبان، ولقد ظنوا جميعا أنهم سبقوا زمنهم وما شعروا ~~أن الزمن يسير ويتقدم وهم متأخرون منقطعون. # ولقد سئم الجمهور سماع موسيقاهم وما هي من الموسيقى بشيء، وملت آذانهم هذا الإلقاء ~~الثقيل المستمر على نمط واحد ووتيرة واحدة، وهي مجردة من الهواء والضوء ولا يجد فيها ~~السامع قطعة من الغناء الحقيقي، ويلاحظ السامع أن الوزن والغناء ولون الأنغام وهي دعائم ~~الموسيقى قد جهلها دوبوسي واحتقرها بمحض إرادته. # إن موسيقى هذا العالم مبهمة غامضة لا لون لها ولا حد، واهية القوى يتعمد واضعها ~~الهرب من الوضوح والدقة والتصوير الموسيقي والوزن، حتى إن الآلات الموسيقية تستمر في ~~موسيقاها على وتيرة واحدة دون صفة أو خبرة بأنغام لا تنفك ترددها الآلات الهوائية مثل: ~~الكور والكلارينت والباسون دون أن يسمع بينها الصوت الرخيم الرنان للكمان بنغمة ضعيفة ~~مخدرة للحواس، وخلاصة القول إن موسيقاه منومة كثيرة الخطأ والزلل. ~~(3-1) مسرح فاجنر وضريحه # إتماما للفائدة نسرد كلمة موجزة عن هذا المسرح الذي بناه فاجنر في مدينة بيروت ~~خصيصا لتمثيل مؤلفاته، وهو يسع 1500 مشاهد، وخال من النقوش والزخرفة؛ لئلا تلهي ~~الحاضرين، والأوركستر غير منظور، وقد افتتح في 3 أغسطس سنة 1816 حيث مثلت فيه ~~حلقة نيبيلونج، وهو يبعد عن ms219 مدينة بيروت بعشرين دقيقة، ومنظره الخارجي خال من ~~الجمال الفني. # يقام في هذه المسرح احتفال فخم كل ثلاث سنين تمثل فيه مؤلفات فاجنر ويشترك في ~~تمثيلها وغنائها أشهر مشاهير الفنيين في ألمانيا، ويهرع إليه الناس من كل فج عميق ~~حتى من أمريكا، ويلزم أن تقدم طلبات المقاعد والمساكن إلى لجنة تنظيم الاحتفال قبل ~~الموسم بمدة طويلة حتى يضمن المشاهد له محلا ومسكنا يأوي إليه مدة الموسم، ~~ومحظور على المشاهدين التصفيق أو التكلم أو الاستحسان لا بالإشارة ولا بالقول، ~~وتوجد فيلا فاجنر في حديقة عظيمة في نهاية الشارع المسمى باسمه، وهي مبنية على طراز ~~روماني، وبأعلى باب الدخول صورة رمزية تمثل روتان مع غرابيه تحيط به التراجيدي ~~والموسيقى، وبجانبهما سيجفريد الشاب، وقد كتب تحت هذه الصورة: هنا وجد خيالي الراحة ~~والسكينة ويلزمني أن أسمي هذا البيت «راحة الخيال». # وفي هذه الحديقة وفي النقطة التي اختارها لرقدته الأخيرة على مقربة من الذين ~~تفانوا في حبه وأخلصوا له ولم يعيشوا إلا ليمجدوا ويخلدوا أعماله العظيمة. # ولقد أوصى فاجنر أن لا يقيموا له ضريحا فخما على لحده ولا يكتبوا عليه شيئا ~~وهو في هجعته الأخيرة راقد تحت حجر بسيط، ولقد دفن على مقربة منه كلبه الحارس ~~الأمين «روس». # إن الآلاف الذين يحجون إلى بيروت ليذهبون لزيارة قبره، ويقفون خاشعين صامتين ~~أمام المجد والفخار والجلال الذي يحف هذا الضريح، ثم ينصرفون بكل احترام وخشوع ~~وقلوبهم تفيض بأجل الذكرى والاحترام. # | متفرقات # (1) فن الإلقاء # فن الإلقاء فن جليل عني به الغربيون وأهمله الشرقيون جهلا بجزيل فائدته، ولو ~~علموا أنه يمنح القول تأثيرا عظيما ويأسر النفوس ويتملك القلوب، ويفعل ما لا يفعله ~~السحر فيثير العواطف الهاجعة ويهيج العزائم الخامدة ويلين القلوب الجامدة لما طرحوه ~~وراء ظهورهم وأهملوه في زوايا النسيان، كم من محام جمع في دفاعه بين بليغ القول ودافع ~~الحجج ومفحم البراهين، ولكن خانه الإلقاء فحذر حواس القضاة بإلقائه ذي النغمة الواحدة ~~حتى خسر دعواه. # وكم من ممثل أسأم الحضور بإلقائه وجلب إليهم النعاس، وارفضوا قبل انتهاء ms220 التمثيل، ~~نسمع أغلب خطباء المساجد يلقون خطب فقيد الوعظ والإرشاد والإلقاء، وهي كما علمنا أرقى ~~وأبلغ ما سمعناه فوق المنابر، ولكننا نرى نصف المصلين نياما والباقين يتثاءبون مع أن ~~الفقيد كان يبكي العامة قبل الخاصة بما أوتي من حسن الإلقاء وفصاحة اللسان وبلاغة ~~الإنشاء، وقصارى القول أننا لا يتسنى لنا أن نجيد الإلقاء دون الشروط ~~الآتية: ~~(1) # حسن النطق ولا سبيل إليه إلا بدراسة علم تجويد القرآن؛ إذ به تعرف مخارج ~~الأصوات ومقادير الحروف والمد والقصر والإدغام والإظهار الشفوي، والأحوال ~~التي ترقق أو تفخم فيها الحروف وغير ذلك، ولا بد من الاستعانة بقارئ ماهر ~~من قراء القرآن الذين أتقنوا دراسة التجويد. ~~(2) # إتقان اللغة العربية حتى يفهم القارئ ما يلقيه ويتأثر من المعاني ليشرك ~~معه شعوره وعواطفه وقت الإلقاء. ~~(3) # معرفة فن الموسيقى أو على الأقل تعويد الأذن على فهم الموسيقى ليكون ~~قادرا على تنويع نغمات الإلقاء حسب مقتضيات الحالات النفسية. ~~(4) # الإشارات والوقفة وتغيير السحنة وهي من ضروريات الإلقاء التمثيلي؛ إذ هي ~~التي تساعد على تمثيل العواطف، ولولاها لأصبح الممثل كتمثال من نحاس تمجه ~~النواظر وتنفر منه النفوس. ~~(5) # رقة الشعور وتعد من أعظم العوامل في إتقان الإلقاء ليكون الإنسان متأثرا ~~مما يلقيه فتتغير النغمات بدون تكلف وتتنوع إشاراته وسحنته من حيث لا يدري، ~~ويصدر منه الإلقاء والإشارات وحركات السحنة بشكل طبيعي صادق خال من ~~التصنع، وبذلك يكون أشد تأثيرا وأعظم وقعا. ~~(6) # يحسن لمن أراد أن يبلغ غاية عظيمة في الإلقاء لا سيما التمثيلي أن يضرب ~~بسهم وافر في علم البسيكولوجيا ليدرس أحوال النفس دراسة تؤهله لفهم عواطفها ~~وشعورها؛ ليستطيع أن يزيد إلقاءه وضوحا وتعبيره تأثيرا. # وإن أنعمنا النظر في هذه الشروط وجدنا الثالث ألزمها وأعظمها نفعا وأصعبها نيلا؛ ~~لأن معظم التأثير ناشئ من نغمات الإلقاء، ولا ريب أن الموسيقى قوة عظيمة فتانة ساحرة بل ~~هي فن يعبر به الإنسان عن وجدانه وشعوره بأنغام أفصح من النطق وأبلغ من البيان وأقرب ~~منهما تناولا للأذهان، ولا يكفي لطالب الإلقاء أن يدرس «السولفيج» وحده بل يلزمه ms221 أن ~~يتعلم التعبير الموسيقي وكيف يعبر الموسيقي. # وحينما يتم له ذلك نقول له: لقد أتممت دراستك الفنية فهيا إلى الدراسة العملية، واذهب ~~إلى باريس في أيام عطلتك الصيفية، وواظب على مشاهدة مسارح الكوميدي فرنسيز والأودييون ~~وبورت سان مارثان، واجلس في الصف الأول لتراقب مشاهير الممثلين والممثلات لتتعلم منهم ~~الوقوف والجلوس والمشي والإشارات وتنويع السحنة وطريقة الإلقاء، وأنواع النغمات في ~~الفرح والحزن والغضب والحماسة والعطف والتأثر والحيرة والدهش والخوف وعظمة الملك وغير ~~ذلك، وإن للخطيب صفات دقيقة تفوت أغلب الناس ولها مكانة عظيمة وعليها معول كبير في ~~التأثير: ~~(1) # أن يهيمن على نفوس سامعيه ويتملك قيادها، وذلك بنباهته وشدة إصغائه ولطفه ~~وظرفه وأسلوبه. ~~(2) # أن يتجنب كل عاطفة كبر وغرور وازدراء؛ فإن ذلك ينفر منه القلوب ويصرفها ~~عنه وتزدريه. ~~(3) # أن يرتب الموضوع ليسهل فهمه ورقة الأسلوب وصوغه بشكل أدبي؛ لأن الموضوعات ~~حينما تكون علمية محضة عارية من ثوب الأدب تسئم وتمل وتمجها النفوس لا سيما ~~إذا كان الموضوع طويلا جافا. # تلك نصائح نافعة صغتها في كلمات قلائل ليسهل تناولها، وعسى أن تهتم ناشئتنا بهذا الفن ~~لترقيه في بلادنا وتنتشله من وهدة الانحطاط والسلام. ~~(2) الأسد # من أعظم الضواري المعزوة إلى فصيلة الهر وأشدها بأسا الأسد «ملك الحيوان» قامة ~~عظيمة، ونظر متوقد، ومظهر نبيل، واختيال في المشية، وأعضاء في غاية التناسب، ولبد يحيط ~~برأسه ورقبته إحاطة الإطار الجميل بالصورة المتقنة يسترسل على كتفيه كطيالسة الملوك، ~~وزئير يقصف كالرعد ويدوي لأبعد فج فيرتعد منه العالم الحيواني. # تجمعت في الضغيم هذه الصفات لتؤهله لأن يكون المسيطر الفرد، كله أعصاب وعضلات أكسبته ~~قوة لا تثبت أمامها أعظم القوى، وجرأة لا تهاب الأخطار والمهالك عند الهجوم، وقصارى ~~القول أنه أقوى وأشرف جميع السباع. # لا حاجة لنا بوصفه، إذ ما من أحد إلا رآه في حدائق الحيوانات ومسارح الوحوش، غير أننا ~~نلاحظ أنه أعظم حيوان يمثل القسم غير المخطط من الفصيلة، ويمتاز بلون ثوبه المتحد ولبده ~~المتكاثف الذي لا يشاهد في اللبؤة، وخصلة الشعر السوداء التي تزين نهاية ذنبه، وهو ms222 يفوق ~~جميع أنواع الفصيلة قامة وجمالا. # مواطنه المنطقة الحارة، وكان في العصور الخالية موجودا في جنوبي أوروبا كما روى ~~«هيرودوت»؛ حيث كانت هذه الضواري القديرة تهبط من جبال مقدونيه لتفترس مطايا «خشاير ~~شاه»، ثم صارت نادرة في مقدونيه في عصر الإسكندر الأكبر إلى أن انقرضت من أوروبا في عهد ~~الرومان، وكانت الأسود كثيرة الانتشار بآسيا ولكنها أصبحت الآن لا توجد إلا في جزيرة ما ~~بين النهرين والشواطئ الشمالية لخليج العجم والشمال الغربي للهند. # يمتاز الأسد الآسيوي عن الإفريقي بقامته الربعة وغزارة خصلة شعر الذنب، وأصبحت ~~أفريقية الآن وطن الأسد الحقيقي، وهناك يشاهد بجميع مظاهر جماله وعظمته، وهو شائع في ~~هذه القارة إلا في بعض مواضع قليلة انقرض منها، وقد لوحظ أنه يختلف لونا وقامة حسب ~~المواطن، ولكن جميع أنواعه في الطباع سواء. # يسود الفزع والجنون بين الحيوانات حينما يرتج الهواء من زئيره، إذ كل منها يعرف هذا ~~الخصم المزعج القاهر الذي لا يستطيع أشدها بطشا أن يثبت أمامه، ولا يؤمن شره بسور ~~ارتفاعه ثلاثة أمتار؛ لأنه يجتازه بكل سهولة وهو مقل فريسته، ويجتاز ما يبلغ أربعة ~~أمتار إن كان لا يحمل شيئا ولكنه لا يستطيع أن يتسلق الأشجار كالنمر. # يقتات عادة بالحيوانات المجترة ولا يأكل إلا الحي منها فلا يرجع إلى ما بقي منه ~~بالأمس إلا اضطرارا، ويستطيع أن يصبر على الطعام يومين أو ثلاثة عقب أكلة تملأ بطنه، ~~وفصيلة «الأنتيلوب» (نوع من الغزلان) لا ترى عدوا لها ألد منه، إذ يختبئ في مقصبة ~~ليغتال القطعان التي ترد الغدران أو البحيرات وقت ظهور الشفق، ساد السكون في هاته ~~الأماكن وسكنت الريح فلم تحرك قمم أشجار الجميز ولبث جريد النخل دون حراك فلم يشب هذا ~~السكون والدعة أية جلبة لا قريبة ولا قصية، فتأتي هذه الأنعام الجميلة أولاد الصحراء ~~ماشية بتؤدة وتبصر وتيقظ منتصبة آذانها شديدة الإصغاء مشرئبة أعناقها مسرحة أنظارها ~~الحادة في كثيف المقصبة، خلا المكان من كل ما يرهب جانبه أو يسمع له همس أو لمس بين ~~الخمائل، فاطمأنت ms223 النعم وأمالت رءوسها متهافتة إلى ماء منعش كانت تتلهف عليه وقتا ~~طويلا، وعلى حين غفلة يثب هذا القسورة القهار بطفرة هائلة، ويخرج من مكمنه وينقض ~~كالصاعقة على زعيم القطيع فيرزح المسكين تحته حتى يسوي به الأرض بينا تهرب رفاقه ~~مستنفرة بأسرع من الفكر لتختفي في أعماق البيداء. # وقد مجد أشهر الشعراء سلطان الحيوان في جميع العصور والأزمان، ومهما تغالوا في وصفه ~~أو في جميع التواريخ التي وضعت له فإنها لا تقل عن أن تكون حقيقة وتكاد توفيه حقه من ~~الوصف، ومهما نفح الكتاب بمدهشات البيان وأسعد المصورون بعجائب بنات البنان فإنهم لا ~~يستطيعون أن يمثلوه تمام التمثيل، وليست خيلاء الرئبال أو شجاعته النبيلة اللتان ~~أذاعتهما بخطأ وركاكة الأساطير القديمة هما اللتان أكسبتاه وقاره المهيب وعظمته ~~الهادئة، بل مخائله التي تشف عن ثقته بقوته التي لا تغلب واعتماده على نفسه واعتياده ~~على الظفر والنصر. # ولو أن طباع النفاق عند الأسد لا تزيد عن طباع غيره من أنواع فصيلته فإن خصال هذه ~~العامة توجد فيه، إذ يزحف على بطنه بخبث إلى أن يتمكن من خصمه الذي يتوسم فيه الضر ~~والأذى، ويقيس بتبصر الوثبة فلا تفلت منه غنيمته، ومن ذلك يعلم أنه لا تمتاز طباعه ~~عن غيره من أنواع فصيلته. # إنه لا يقتل لمجرد اللهو، بل لرد غائلة السغب، ويندر أن يثب على فريسته مرة ثانية ~~إن أخطأها في الأولى، وإن شبع مر مر الكرام أمام الأنعام السائمة دون أن يلتفت ~~إليها واضطجع في عرينه ونام، والغضنفر إن فوجئ وهو نائم يكون كالميت ويغتنم مواطنوه هذه ~~الفرصة ويباغتونه في حالة ضعفه ويقتلونه بأسلحتهم النارية أو سهامهم المسمومة. # تنتشر بين الذكور معارك تشيب من هولها الولدان، وحينما يتزاحم اثنان على أنثى فتية لم ~~تأتلف بعد مع أسد، وقد روى أحد أعراب البادية لصائد من أهل الجزائر واقعة من هذا القبيل ~~حضرها مكرها، كان كامنا في ليلة مقمرة يترصد الأيل، وليكون آمنا مطمئنا تسلق شجرة ~~بلوط في مكان خال من النبت والشجر وسط الغاب في ms224 مقربة من الدرب، وفي منتصف الليل لمح ~~لبؤة مقبلة يتبعها أسد فتي تكامل لبده فتركت الأنثى الدرب واضطجعت تحت شجرة البلوط ولبث ~~وحده الأسد بجانب الطريق مصغيا، وما هي إلا هنيهة حتى دوى على بعد في الآفاق زئير ~~فأجابته اللبؤة واشترك معها الذكر الذي اصطحبها فزمجر صوته كالرعد القاصف فهلع فؤاد ~~صائدنا المتربص فوق الشجرة وسقطت بندقيته من يده وكاد يهوي معها لولا أن تدارك وأمسك ~~بالأغصان، وكان زئير الأسد القصي يقترب شيئا فشيئا وكلما زاد قابلته بالمثل اللبؤة ~~الجاثمة، بينا رفيقها يجري روحة وجيئة من الحنق كأنه يريد أن يقول له: «فليقبل ليرى كيف ~~ألتقيه.» وبعد ساعة أتى أسد أسود قامت لملاقاته اللبؤة فمنعها رفيقها وطردها ثم انقض ~~على خصمه الذي كان ينتظره بفروغ صبر، وطفقا يتصادمان ويقعان ملتحمين وطال بينهما النزال ~~وكان مزعجا للصائد المشاهد رغما منه بينا العظام تهشم تحت الفكاك القوية، والبراثن ~~تمزق جسميهما، والزئير يكون تارة مختنقا وأخرى قاصفا معبرا عن كلا الوحشين وآلامهما، ~~وكانت اللبؤة عند ابتداء المعركة تنظر إليهما وهي جاثمة على بطنها، فلما حمي وطيس ~~القتال أخذها الزهو والإعجاب، إذ رأت خصمين جبارين يقتتلان لأجلها وأنشأت تترجم عما ~~خالجها بتحريك ذنبها، ولما انتهت الوغى وخر الاثنان صريعين هرولت إلى الجثتين تشمهما ثم ~~ذهبت لشأنها معجبة بنفسها دون أن تلوي على شيء. # وللأسد خصلة حميدة وهي أنه لا يهجر أبدا أليفته التي اختارها ويظهر لها كثيرا من ~~الميل والاعتناء، وله عناية عظيمة بجرائه ولو أنه صعب المراس شديد الجانب، لا يوجد مع ~~صغاره إلا بتكلف، إذ يعروه السأم ويتنغص من لعبها معه. # وحينما يريد أهل البدو من المغاربة صيد الأشبال يترقبون الزمن الذي تنقطع فيه عن ~~ملازمة الأم، وذلك يكون بعد ابتداء ظهور أسنانها بثلاثة أشهر، فيرصدون العرين من أكمة ~~بعيدة أو شجرة مشرفة عليه، وربما تحينوا الفرص أياما كاملة، وحينما يرون أن اللبؤة ~~بارحت أشبالها وأن الأسد غائب ينزلون من مكمنهم بكل تبصر ويقظة ويلفون الأشبال ببرانسهم ~~لئلا تتمكن من الزئير، ويناولونها ms225 إلى الفرسان الذين ينتظرونهم في أطراف الغاب المجاور ~~ثم يرخون أعنة جيادهم فتسبق الريح، وهذه الجرأة لا تخلو من المخاطر. # لا يتم نمو الأسد إلا في سنته الثامنة فيبلغ أشده ويكمل لبده، ولم تحقق بعد بالضبط ~~نهاية عمره ولكن علماء الحيوان يقدرونها من 30 إلى 35 عاما، ويشاهد في الجزائر ثلاثة ~~أنواع من الآساد: الأسود والممائل للون صدأ الحديد والأسمر، والأسود أندرها وأصغر ~~قليلا في القامة ولكنه ربعة وأعرض من الآخرين ولونه أسمر داكن إلى الكتفين، ثم يبتدئ ~~لبده الأسود الفاحم الذي يكسبه شكلا مريعا، ويبلغ عرض جبهته ذراعا وطوله من أرنبة ~~أنفه متران وثلث، ويزن جسمه من 500 إلى 600 رطل، والمغاربة تهاب هذا النوع أكثر من ~~غيره؛ لأنه لا يتنقل ولا يجول كالنوعين الآخرين بل يبحث له عن مكان لائق أمين يعيش فيه ~~رخي البال نحو ثلاثين سنة، فلا يجازف بنفسه في السهول إلا نادرا، ولا يهجم على الدور ~~كغيره، بل يتربص ليلا بالثيران النازلة من الجبل وينحر منها أربعة أو خمسة ليرتشف ~~دماءها. # وفي الصيف لا يبارح مأواه إلا عند الغروب، ثم يقف بالمرصاد على قارعة طريق آتية من ~~الجبل ينتظر المشاة والركبان المتأخرين وهم مقبلون وحدانا، وقد باغت سبع أسود ~~فارسا من أهل البدو وحينما هجم عليه فكر أن يترك له جواده فلربما لها به فتحقق أمله ~~ونجا، وهذا أمر نادر جدا؛ لأن المسافر المنفرد لا يتمكن من الفرار أو النجاة إن فاجأه ~~ليلا وهو منقطع عن الركب، ولو أن النوعين الآخرين أعظم جسما لكنهما أقل قوة من ~~الأسود، وطباعها ومعيشتها واحدة إلا ما استثنيناه. # لا يغدو الأسد عادة من مربضه إلا بعد الغروب ويروح إليه قبل الشروق فلا يفارقه سحابة ~~النهار إلا نادرا طلبا للماء أو هربا من البعوض أو القيظ؛ لأنه يقضي النهار في عرينه ~~نائما مستريحا في الغابات ليهضم مطمئنا في الدعة والسكون ويتغلب عليه حينئذ الكسل ~~والخدر فلا يلتفت إلى الإنسان وقتئذ إن صادفه، ولكنه يكون بالعكس ليلا ويشاهد بجميع ~~مظاهر قوته وافتراسه ورغبته في الهجوم ms226 ، فإن صادفه مدلج منفرد هلك وأعيته الحيل. # وحينما يوجد الأسد مع أليفته تزأر هي أولا عند مبارحتها العرين، ويشمل الزئير اثني ~~عشر صوتا تقريبا مختلفة تبتدئ بنوع خافت أشبه بالتنهد، ثم يزيد شيئا فشيئا حتى ~~ينتهي كما ابتدأ، وبين الصوت والآخر بضع ثوان ويجاوبها الأسد بالتبادل، وإن أرادا ~~الهجوم على دار لافتراس أنعامها يزأران من ربع ساعة لآخر حتى يصلا إليه، وحينما يشبعان ~~يستمران في الزئير لغاية الصباح، ووقتما يكون الأسد منفردا يزأر عند ما يستعد للخروج ~~ويأتي في الغالب صامتا إلى المنازل. # والآساد تفتك فتكا ذريعا في جميع الأقطار التي تسكنها، فلا تدع الإنسان ولا الحيوان ~~وتعد ضحاياها بالمئات، من قرية أعيتها الحيل فهاجر أهلوها وتركوها قاعا صفصفا تزأر ~~فيها الضياغم، وقد تعطلت سكة «أوغاندا» الحديدية بسبب افتراس الأسد للعملة الهنود ~~وتركوا أشغالهم حينما رأوا أنه ما من ليلة إلا يذهب عدد منهم طعاما للسباع، وقد تمكن ~~أخيرا أحد مهندسيهم المسمى «باتيرسون» من صيد أسدين بعدما بلغت ضحاياهما ثمانية وعشرين ~~من الهنود وعددا عظيما مجهولا من الزنوج. # ولنسرد أشهر الوقائع التي كتبها المشاهير من الرحالين والصيادين وما قاسوه من الأهوال ~~في صيد الأسود لتكون مثالا عظيما ندرس به جيدا طباعها وأحوالها وقت الصيد والمهاجمة، ~~ولنستدل على صعوبة مراسها وجرأتها. ~~(3) رحلة لفنجستون # في أثناء طوافي حول غدير «كورمان» انتخبت وادي «مابوتسا» الجميل لأتخذه مقرا ~~للبعثة، وقد وقع لي هناك حادث عظيم كان الناس يسائلونني عنه في أغلب الأحيان منذ عودتي ~~إلى إنجلترا، ولولا مضايقة الأصدقاء وإلحاحهم لكنت ادخرته لأقصه على أولادي عندما تذهب ~~الشيخوخة بذكائي وحدته. # ضج أهل هذا البلد حينما رأوا أن الأسود تباغتهم كل ليلة وتسطو على مطاياهم وأبقارهم ~~حتى بلغ من جرأتها أنها كانت تفتك بالماشية في رابعة النهار مما لم يعتادوا حصوله، ~~واعتقدوا أن إحدى القبائل المجاورة سحرتهم وجعلتهم نهبا للأسود، وقد حاولوا التخلص من ~~هذه الكواسر واجتهدوا أن يبيدوها فلم يفلحوا، إذ هم أضعف كثيرا من قبائل «البشوانا» ~~فاستولى عليهم الجبن ورجعوا إلى دورهم دون ms227 أن يطاردوا واحدا من أعدائهم، ومما لا ريب ~~فيه أنه لو قتلوا واحدا منها لكان للبقية خير نذير ولتركت مواطن ابتليت فيها ~~بالصيد. # سطت الأسد من جديد على بهائم «البكويين» فخرجت مع رجال القبيلة مشجعا لهم على قطع ~~دابر هذه الطغمة، فوجدنا الآساد فوق أكمة مجللة بحرجة فالتف حولها الرجال وتسلقها ~~الواحد بعد الآخر، ومكثت في السهل مع أحد الوطنيين المدعو «ميبالويه» وكان معلما في ~~كتاب، وأنبه من جميع أصحابه ذكاء ونشاطا، فرأيت أسدا جاثما على ربوة وقد أحدق بها ~~الصيادون، فصوب إليه «ميبالويه» رصاصة من بندقيته لم تصب إلا الصخرة التي كان مقعيا ~~عليها، فعض المكان الذي أصابته الرصاصة من الصفاة كما يعض الكلب الحجر أو العصا ~~التي يرمى بها، ثم انطلق وثبا واخترق صف الصائدين الذين فتحوا له ممرا ونجا دون أن ~~يجرح، والغالب أن هؤلاء لم يقدموا على مهاجمته اعتقادا منهم بالسحر الذي ابتلوا به ~~وزعما أنهم لا يظهرون على الأسد مهما بلغ جمعهم وبطشهم، ثم التأمت الحلقة وظهر ضيغمان ~~آخران فلم أستطع أن أرميهما خوفا من إصابة أحد الصيادين المحدقين بهما وفرا سالمين، ~~ولو فعل «البكويون» كعادة بلادهم لقتلوا السباع طعنا بالرماج حينما اخترقت صفهم ولكنهم ~~لم يستعملوا سلاحهم قط. # ولما رأيت أن الهجوم غير متيسر لهم عولت على الرواح واتجهت صوت الطريق الموصلة إلى ~~القرية، وبينا أنا أطوف حول الأكمة رأيت أسدا آخر فوق صفاة كالأول مستترا وراء خميلة ~~ولا تزيد المسافة بيني وبينه عن ثلاثين خطوة فصوبت إليه بندقيتي وأطلقت عليه رصاصتين ~~فصاح الرجال: «لقد أصبت فهيا بنا نحمل عليه.» ثم لمحت الأسد يحرك ذنبه بغضب وحنق، ~~فالتفت إلى الصائدين وطلبت منهم أن ينتظروني ريثما أحشو بندقيتي، وبينا أنا أعدها، إذ ~~سمعت صراخ فزع فاقشعر جسمي وما كدت أرفع رأسي حتى رأيت الأسد واثبا علي، وكنت واقفا ~~فوق ربوة فأمسك بكتفي فتدهورت معه إلى حضيض الأكمة وزأر في أذني بقوة مزعجة، فكدت أصم ~~وأفقد صوابي لما أصابني من الرعب، وصرت في قبضته كفأرة ظفر ms228 بها سنور ثم أصبحت في حالة ~~خدر لا أشعر فيها لا بفزع ولا بألم، ولو أني كنت واعيا لكل ما حدث وهذا أشبه بحالة ~~المرضى وقت تأثير البنج، إذ ينظرون تفاصيل العملية دون أن يشعروا بمشرط الجراح، وقد ~~بددت رجات الضيغم مني الخوف وأشلت كل عاطفة للفزع بينا الصيادون ينظرون إلى الأسد وجها ~~لوجه. # وكان الأسد قابضا بيمينه على مؤخر رأسي، فاجتهدت أن أتخلص من ضغطه والتفت فرأيت ~~الأسد ناظرا إلى «ميبالويه» الذي صوب إليه بندقيته فلم تنطلق من الجهتين؛ لأنها كانت ~~ذات زند وصوان، فتركني الأسد في الحال وانقض على «ميبالويه» وعضه في فخذه، وكان من ~~بينهم شخص نجيته من الموت حينما قذفته في الهواء فحل من الجاموس، فحاول هذا أن يطعن ~~الأسد وهو جاثم على «ميبالويه» فخلاه وأمسك بهذا الرجل من كتفه، ولكن لم يلبث في الحال ~~أن وقع مدرجا بدمائه من تأثير الرصاص الذي اخترم جسمه، حدث ذاك كله في لحظه قصيرة وبلغ ~~الرئبال منتهى الغيظ والكلب والاستماتة حينما علم أنه آخذ في النزع. # وفي الغد احتفل البكويون بإشعال نار عظيمة فوق جثة الأسد ذلك؛ لأنهم لم يروا له ~~مثيلا في العظم كما قالوا، واعتقادا منهم بأنهم بعملهم هذا يبطلون السحر الذي ~~انتابهم. # وقد هشم هذا الغضنفر عظم عضدي وعضني إحدى عشرة مرة في ساعدي، والجراح التي تحدثها ~~أنيابه أشبه بجراح الرصاص ويعقبها عادة قيح غزير وتميت جزءا عظيما من الأنسجة، وقد ~~قابلت في السنة التالية الرجل الذي عضه الأسد في كتفه فرأيت جرحه انفجر ثانية في الشهر ~~نفسه من العام التالي، وإن هذا الحديث لحري بأن يلتفت إليه رجال العلم. ~~(4) رحلة جول جيرار # اقتفيت أثر الأسد قبيل الغروب وبصحبتي حميد وعمر وأبو القاسم وكان الأولون مسلحين ~~«بقربانتين» والثالث يقود جديا صغيرا كممنا فمه جيدا واتخذناه طعما نجلب به السباع، ~~وقد عاينت وأنا سائر مدخل الأسد الموصل إلى عرينه واختبرت آثار أقدامه فسررت مما ~~اكتشفته، وبحثت عن مكان أمين أتخذه مرصدا فوجدت موضعا خاليا على مقربة من ms229 الربوة ~~الكامن فيها الأسد. # وقد ربطنا الجدي بجزع شجرة وتناولت سلاحي، وما هي إلا لحظة حتى اقترب عمر مني فجأة ~~وقد تشنج وجهه من الرعب وأشار بأصبعه إلى رأس أسد ضخم متكامل اللبد قد لمحنا من مسافة ~~مائة خطوة تقريبا؛ فصرخت الأعراب ونزعت أنا كمامة الجدي وتربصت بالمكان الخالي من ~~الغاب لأتمكن من رؤية الأسد حينما يأتي إلى الجدي الذي حينما أبصر «القربانات» المصوبة ~~لم يطمئن باله، وأخذ يصيح بشدة ويحاول قطع الحبل وبعد بضع دقائق لمح الجدي على غرة ~~الأسد في مربضه، فارتجف كريشة في مهب الريح وأخذ ينظر إلي من وقت لآخر كأنه يتوسل بي ~~لأحميه من شر الأسد، ولما ساد الرعب تبينت أن الأسد مقبل نحونا، فنظرت من خلال الغاب ~~المتكاثف المحيط بالمكان الخالي الذي كنت فيه فوجدت جسما ضخما لا يتحرك ولم أستطع أن ~~أتحقق شكله، إذ حالت دون ذلك الأوراق والغصون. # وفي الحال تحركت الأشجار وخرج من مكمنه واثبا وثبتين أوصلتاه إلى المكان الخالي من ~~الغاب ثم وقف ينظر إلينا. # شتان بين جمال هذا الحيوان وبين جمال ما نشاهده في المسارح، رأيته أملح وأعظم وأفخم ~~حيوان مع أني رأيت كثيرا غيره، وقد أشفقت عليه وأملت «قربانتي» بعدما صوبتها إلى ما ~~بين عينيه، ثم تمدد الأسد على مهل فوق الكلأ منتظرا ساعة طعامه، فأسفت أن رأيته ~~متحفزا للوثوب على فريسته فصوبت إلى كتفيه رصاصتين فوقع زائرا بصوت كالرعد، وأخذ ~~يعض في منحدر السيل، ثم انقض دون أن يعلم أو يرى في السيل من علو عشرين ~~قدما. # وعندما سمع الأعراب صوت النار أتوا سراعا وظنوا أن الدماء الغزيرة التي سالت من ~~الأسد انتهت بقتله، وصاحوا في الرجال المنتظرين بالقرب منهم: «هلم إلينا ~~بالبغال.» # وكان الموضع الذي ينبعث منه زئير الأسد كثيف النبت فلم أستطع أن أرى جذوع الشجر على ~~قيد خطوتين، وعندما كنت أضع العلامات على مدخل السبع الدامي أقبل الصائدون ومعهم أربعة ~~رجال مسلحين من أهل الجبل، وكان في عزمي أن أصبر للغد لأجد الأسد ميتا ms230 أو حيا وأملت ~~أن تقتله جراحه في الليل، وعلى كل حال اعتمدت على الدماء الغزيرة التي فقدها وهي كافية ~~على الأقل لأن تضعفه في اليوم التالي، وفي الختام تحققت أنه من الحمق أن أذهب إلى الأسد ~~بين هذه الآجام الكثيفة التي لا يخترقها أحد الأنظار وأقواها لا سيما عند إقبال الظلام، ~~وضحت ذلك للأعراب ولكنهم لم يسمعوا النصح قائلين: سنذهب وحدنا ونحن واثقون بموت ~~الأسد، ولما لم أستطع أن أقنعهم ذهبت في مقدمتهم بعد أن أكدت لهم أنهم واقعون لا محالة ~~في سوء عنادهم، ثم صادفت «دو رودامبورج» وهو راجع من طوافه فرجوت منه أن يحمي ظهري ولا ~~يفارقني، وحينما وصلنا إلى مدخل مقر الأسد مرت رصاصة من خلفي مصوبة إليه فزأر وانقض ~~علينا هاشما كل ما صادفه، فقلت للأعراب: «أرأيتم كيف هلك؟ وأود الآن مشاهدة قوة الرجال ~~البواسل وجرأتهم.» وما انتهيت من كلامي إلا ورأيت الأسد واقفا بيننا، وعندما أردت أن ~~أصوب رصاصة إلى رأسه سبقني الأعراب وأعموني بدخان بارودهم ولم أستطع أن أنظر إلا عمر ~~وهو يطلق ناره فوثب عليه الأسد وكسر «قربانته» بأنيابه وأمسك به وطرحه أرضا كضغث من ~~الهشيم. # فأسرعت إلى الأسد بقفزتين وكان لاهيا بتمزيق المسكين فلم يلتفت إلي، وأردت أن ~~أخترم رأسه برصاصة ولكني خفت أن أصيب عمر فصوبت إلى قلبه ورميته فترك فريسته ولم يقع ~~فرميته بثانية فلم تنطلق الرصاصة، وكان لا يفصلني عنه إلا القربانة فطفق يقاوم بكل ~~قوته، ولما رأى الأعراب الخطر المحدق بي هبوا بجرأة عظيمة ولو أن أسلحتهم لم تكن محشوة ~~والتفوا حولي، وكان حميد أقربهم إلي فناولته «القربانة» وطلبت منه البندقية المحشوة ~~التي عهدت بها إليه ليحملها لوقت الحاجة، فوجدته قد كان أطلقها مع رفاقه فأمسينا تحت ~~رحمة الأسد، وكان «دو رودامبورج» على قيد خطوات من المكان، ولم يبق لي مدافع غير هذا ~~الصديق فصوب إلى الأسد نارا حامية ألقته صريعا يتخبط في دمه. # لم يمت عمر المسكين ولكنه أصبح مخرم الجسم بجراح بالغة يكفي أحدها لقتله، فحملناه ms231 على ~~الملابس والعصي، ومكث يعاني أشد الآلام ساعتين أمكننا بعدها أن نسعفه بضمد جراحه ~~ومعالجته. # وفي الغد ذهبت لأنتزع جلد الأسد ثم عرجت على عمر وودعته وخلفته بين يدي طبيب من ~~مواطنيه، وعدت في اليوم نفسه إلى حديقة الأسود. # وبعد الغد نحرت لبؤة قطيعا من الثيران في مكان ليس ببعيد، فشكا الناس وتضرعوا وما من ~~مجيب، فلم أر من المروءة أن أصم أذني عن استغاثتهم، وخرجت في طلب اللبؤة وواجهتها في ~~الساعة التاسعة مساء، ولم يك بيني وبينهم أكثر من عشر خطوات، وقد حال الظلام وكثافة ~~الأدغال دون رؤيتها جيدا لأصيب منها مقتلا، فصوبت إلى كتفها لأعيقها عن لحاقي فهوت من ~~أعالي الغاب صارخة بزئير مزعج فانسحبت بكل احتراس وتبصر ولم تسمع وقع أقدامي، إذ غطى ~~عليها زئيرها. # وفي الغد عدت إليها في أول النهار فوجدتها مكسورة الكتف مخرمة الصدر، ولكنها كانت ~~بحالة جيدة فأطلقت عليها الرصاص ولم تقع إلا وقتما أصابتها الثالثة. # وحينما انتهت هذه المعركة رأيت أن أرجع إلى قسطنطين، ولم أكد أبلغها إلا ووافاني نبأ ~~موت عمر المقدام. # | بلاغة الغرب # (1) الجزء الثاني «لشاعر القطرين خليل بك مطران» # بين يدي الجزء الثاني من «بلاغة الغرب» مكتوبا فيه تحت العنوان بالحرف الدقيق «أحاسن ~~المحاسن وغرر الدرر من قريض الغرب ونثره»، والحق البارز الناصع ما جلاه النقش تحت هذه ~~الكلمات، فإن محمد أفندي كامل حجاج الذي نقل إلى العربية طائفة جديدة من روائع اللغات ~~الإفرنجية قد أضاف بهذا الجزء إلى نفائس لغة الضاد قلادة لا تقوم بأثمان. # افتتح الأديب الألمعي كتابه بإهدائه إلى روح فكتور هوجو مستحضرا ذلك الروح بقوة ~~يقينه الأدبي، مخاطبا إياه بقوله: # إليك أهدي ما عربته من معجز قولك ونفحات شعراء الغرب، وهو عندي أعز قنية ~~وأنفس طرفة، ولعله يرضيك فتقلبه قبولا حسنا، فسلام عليك من معترف بفضلك ~~وآلائك، لاهج بشكرك وثنائك، وذلك الاستحضار الصادر عن وحي فطرة امتزج في حسها ~~الرقيق الماضي بالحال كأنهما الوقت العتيد قد أثر بي شديدا منذ ألقيت النظرة ~~الأولى على الكتاب ms232 . # ثم جعل الأديب المجيد في مواجهة هذه الصفحة صفحة مزدانة بوجوه ستة رجال من ~~أفراد البيان في القرنين التاسع عشر والعشرين، هم: فكتور هوجو، ألفريد دوفيني، ~~جوت، شيلر، هين، لييوباردي. # وما هؤلاء الستة بالذين قصر عليهم الكلام بل ذكر غيرهم من النوابغ، وأتى ~~بترجمة كل منهم وأورد ما أجمع الرأي على إيثاره من محرراتهم، وهذه أسماء ~~الآخرين: ألفونس كلر، شيلر، توركواتو تاسو، جون ملتون، جوزيف أديزون، شيلي، ~~بيرون. # لماذا عانى محمد أفندي كامل حجاج تعريفنا بشعراء الغرب وكتابه؟ # شرح لنا ذلك بألطف إشارة في مقدمة هذا الجزء تحت عنوان «كلمة في الإنشاء» ~~بدلالته إيانا على مواضع جهلنا، وإرشاده إيانا إلى ما يجب أن نعلم لنصير ~~كتابا حق الكتاب، كما يفهم المعنى الذي تقتضيه ضرورات هذا العصر عصر ~~المعارف والفنون في أسمى ما ارتقت إليه مدارك الناس. # ولما كان الغرب هو المورد الأعظم لكل ما يجدر بنا أن نرده من حياض تلك ~~المعارف والفنون لم يضن علينا محمد أفندي حجاج في عنوان آخر «كلمة في الترجمة» ~~يهدينا بها الصراط الذي يوفق بين ما تأتيه ذهنية الغرب وما تقبله ذهنية الشرق ~~فيما يرتبط بالأدبيات. # وسرعان ما يتبين المطالع بعد أن يقف على الغرر التي جاء بها في تعريبه أنه ~~قد وفق في النقل ما شاءت البراعة في اللغتين المنقول عنها والمنقول إليها، وما ~~شاء رقي الوجدان عنده مسامتا للوجدان الراقي الذي أوحى إلى أولئك العبقريين ~~الغربيين غرر مبتكراتهم. # ولقد أردت حين قراءتي لقطعة قطعة أو قصيدة قصيدة مما صوره الأديب بقلمه ~~البديع العجيب أن أتبين ما إذا كان أسلوبه الإنشائي ينطبع بطابع الأسلوب ~~الإنشائي المنقول عنه، فوجدت أثر ذلك فيه ولكن بمقدار، إذ لا ينبغي أن ننسى ما ~~بين التعبير بلغتنا العربية الفصحى لغة الكتابة دون التكلم، لغة الفكر المتهيئ ~~لا الفكر المتبادر، لغة الإحساس المصطنع المستعير أدوات أزمنة أخرى للظهور لا ~~الإحساس المتدفق فورا بعوامل ما بين يديه من مؤثرات الحياة العتيدة، وبين ~~التعبير بتلك اللغات الأجنبية التي هي لغات الحياة ms233 الحاضرة بكلياتها ~~وجزئياتها. # فيا أيها الصديق الذي أتحفني بهذا الجزء الثاني من كتابه الجليل، بارك الله ~~في يقظتك ونشاطك، وفي ألمعيتك وعظيم خدمتك للغتك، وأي شيء يتوصل به إلى تجويد ~~القول أفضل من حسن الاختيار والتنويع فيما تستنبض له القلوب وتغذى به ~~العقول. # خليل مطران ~~(2) الكاتب القدير الأستاذ مصطفى راشد رستم # كثيرون من أهل اللغة العربية ينكرون على غيرهم من أهل اللغات الأخرى ما ينسبونه هم ~~إلى اللغة العربية من السعة والفصاحة والبلاغة وكثرة وسائل التعبير، وقليلون منهم ~~يعرفون عوامل الجمود والتقهقر التي حاقت بالعربية من جراء التمسك بتلك الفكرة ~~السيئة. # على أنه منذ بدأت تدرس اللغات الغربية في الشرق أخذت شجرة «التمسك باللغة العربية دون ~~غيرها» تهتز بشدة أمام رياح الغرب القوية، وتتساقط أمامها أوراقها وأزهارها حتى كادت ~~تجتث من فوق الأرض، وقد عالج هذا الأمر كثيرون من أهل الموضوع، واهتدت الأغلبية ~~إلى طريقة تشبه طريقة التطعيم النباتي. # ومن الكاتبين من رأى أن يدمج معلوماته الغربية في كتاباته العربية، ومنهم من جعل ينبه ~~عليها في مظانها بلغاتها، ومنه من أنشأ ينقلها إلى العربية إما نقلا حرفيا أو ~~معنويا، ولكل من هؤلاء أدلته على صحة رأيه. # ومن الذين رجحت عندهم فكرة الترجمة على غيرها من الآراء الأخرى الأديب «محمد كامل ~~حجاج»، فقد تفقد صفحات من أدب بعض الأمم الغربية واختار منها محاسن فيها وترجمها ونشرها ~~بين الناطقين بالضاد لتزداد بها مادتهم الأدبية. # وهو «يحافظ على الألفاظ والجمل محافظة دقيقة، ولكنه يتصرف في ترتيب الألفاظ طبقا لما ~~يستوجبه ذوق اللغة التي ينقل إليها»، وهو يرى أن هذا هو أعظم أسلوب في الترجمة والمتبع ~~بين أفاضل المترجمين في أوروبا. # وكذلك يرى «أنه لا ينبغي للناقل أن يترجم شيئا لكاتب أو شاعر دون أن يقرأ عدة قصائد ~~أو قطع ليسبر غوره وتتجلى له روحه ومراميه»، وهذا النوع الأخير هو الذي اتبعه في ~~تعريبه. ~~••• ~~«بلاغة الغرب»: جزءان كبيران ولكنهما مع ذلك قطرة من بحر محيط واسع، على أنها قطرة قد ~~تطفئ قدرا كبيرا من ms234 ظمأ المتعطشين، وكذلك هي قطرة حلوة نقية صافية. # أطل المعرب الأديب من وراء ستار مجهوداته الكريمة على ساحة اللغة العربية الواسعة منذ ~~سنين، بجزئه الأول من بلاغة الغرب، وكان الجدل بين أهل تلك الساحة قائما، وكذلك لم تكن ~~لشواغل الحروب وحوادث الأيام ما لها من الأثر الكبير ~~في حياة العقول الآن، فتناولوه يومئذ حاجة جديدة ومادة للجدل، ولكنهم انتهوا منه على ~~تشجيعه واستحسانه، ولم يكن هذا التشجيع مع الاستحسان والقبول إلا داعية ثبات الأديب على ~~فكرته واستمراره في مجهوده، وما كان التصفيق له في الأولى إلا دليلا على فائدة عمله ~~وحسن اختياره وجمال أثره وأنه المكافأة الواجبة من ظمآن لساقي الماء الزلال؛ لذلك جاء ~~في الثانية مثله في الأولى. لم يقف ولم يتقهقر بل سار وتقدم وهو يتلفت حوله فاقتطف من ~~مختلف الرياض ما جمع به طاقته الأدبية من أزهار الجنان الغربية الواسعة الغنية، وقدمها ~~للجمهور العربي في شكل أختها السابقة. # وقبل أن نلقي بالنظرات على أزهاره ومقتطفاته الجديدة نقول: إن تمسك الأديب كامل حجاج ~~بأن يكون جزؤه الثاني مثل جزئه الأول من حيث الشكل والطبع وحسن الورق وإتقان العمل دليل ~~واضح على أنه يحمل للجمهور القارئ احتراما كبيرا جليلا، كما أنه برهان على تحفظه ~~ورعايته للدقة والعناية، وقد كان سهلا على الأديب أن يجد المعاذير الجمة إذا هو أراد ~~أن يخرج كتابه الثاني أقل جودة من كتابه الأول. ~~••• # الجزء الثاني من بلاغة الغرب ينشر بين الناطقين بالضاد مختارات من أدب الفرنسيس ~~والإنجليز والألمان والطليان، وبينما ينقل المترجم عن ألفريد دوفيني الفرنسي «غضب ~~شمشون» الجبار وقد هلكت قوته فينادي: «أيها الدائم قهار الجبابرة ...» وينقل عنه ~~«الأقدار» وهي تقول: «نحن الأقدار المشئومة من لم تخطئ سهام سطوتنا القديمة فردا من ~~الناس، قد أتينا نستعلم عن أحكام المستقبل ...» إذا به يترجم القطعة الخاصة عن بيتهوفن ~~شيخ الموسيقيين للكاتب البولوني الأصل الفرنسي اللغة؛ ألفونس كار، صاحب رواية تحت ظلال ~~الزيزفون. # ولما اجتاز المترجم الحدود بين فرنسا وألمانيا - وهي في دور الأدب لا حرس ms235 عليها ولا ~~جمارك لها ولا مناطق احتلال ولا رور ولا رين - ذهب إلى «صاحب التاج والصولجان بين ~~الشعراء الألمان» جوت ونقل عنه كثيرا، ولما ودع جوت استقبل شيلر «ثاني شعراء الألمان» ~~ونقل عنه «الرهين» وهي قصة تشبه قصة العربي مع النعمان بن المنذر، كذلك نقل «الغواض» ~~الذي يقول: إن السعداء من يستنشقون هذا الهواء النقي. # ولما تحول عن ثاني شعراء الألمان أقبل على «ثالثهم» هنريش هين فترجم له «بحر الشمال» ~~بمقطوعاتها الشعرية الكثيرة: «إن في الشمال غادة ... ~~تدلت حلقات شعرها الفاحم كليلة هنيئة من رأسها المتوج بغدائرها المفرغة حول وجهها ~~الأزهر المؤثر الذي تسطع به عينها الشبيبة بشمس سوداء.» # ثم انحدر المترجم من بلاد الجرمان مخترقا جبال الألب إلى بلاد الطليان وأنصت إلى ~~شاعرهم «تاسو» وشهد روايته «أمنت» «التي لم يستطع أحد من الكتاب أن يأتي ~~بمثلها». # ثم أبحر من إيطاليا إلى إنجلترا حيث قرأ على «نابغة من فحول شعرائها ملتون» «الفردوس ~~الضائع» فنقل منها حديث إبليس: «وحيث ضاعت مني كل النعم والطيبات فكن نعيمي أيها السوء ~~... وربما استطعت بك أن أحكم على أكثر من نصف العالم.» ثم حديث آدم وقد سمع ربه يقول له ~~بعد أن استوحش آدم الأرضين: «كيف تذكر وحدتك؟ أليست الأرض معمورة بمختلف الخلائق الحية؟ ~~... استخدمها وتحكم لملاهيك فيها فمملكتك واسعة الأرجاء.» # ثم نقل عن أديسون الكاتب الكلاسيكي الفكه، وعن شيلي وبيرون الشاعر الذي كان يشرب ~~الخمر في جمجمة إنسان وهو في ثياب راهب ... ~~••• # تلك بعض مختاراته وحبذا لو كان المعرب قد أتم طوافه في أوروبا بزيارته روسيا، فإن ~~للأدب الروسي مميزاته وله دولته الجديدة المبدعة. # والقطع المختارة وإن كانت قليلة بالنسبة للأدب الغربي الواسع المحيط غير أنها من ~~درره النادرة، وهي توحي الشيء الكثير من معنى روحه وطريقته، وذلك أفيد ما يكون لمن لا ~~يعرف إلا العربية، أما من يعرف اللغات الأوروبية فإنا نرى له أن يدرس آدابها بها نفسها ~~أو بإحداها إذا اختص بواحدة منها، فإن قراءة لغة أوروبية أنتج وأسهل من قراءتها باللغة ms236 ~~العربية. # ومن حسنات المعرب أنه جاء لكل شاعر بفذلكة من تاريخه ونقده، أما لغته فإن رأيه في ~~طريقته الطيبة مذكور واضح كما أن الجمل التي اقتطفناها ظاهرة غنية. # والآن فإنا نشكر المعرب وندعو معه النشء القارئ أن ينعم النظر فيما بين يديه من الأدب ~~الغربي، وأن يبحث عنه، وعليه أن يجمع بين بيان العرب وبلاغة الغرب. # مصطفى راشد رستم # ميدان سليمان باشا 3 # في 22 نوفمبر سنة 1932 # سيدي المفضال # قد وصل إلي كتابكم، وأما الجزء الأول منه فقد كنت قرأته من زمان في رومية، ~~إذ تفضلتم وأرسلتموه إلى والدي، ولم يكن لي شك منذ ذلك الزمان أن تأليفكم هذا ~~من دواعي النهضة الحديثة في القطر المصري، وأما الجزء الثاني فقرأته في هذه ~~الأيام لأول مرة، وهذا سبب تأخير ردي الجواب إليكم فاعذروني، ولقد أعجبت ~~بالكتاب غاية الإعجاب وزادني إعجابا ما قلتم في «كلمة عن الإنشاد» وأصبتم فيها ~~الإصابة كلها. # هذا وأظن أنه من الواجب عليكم أن تضيفوا إلى فضل فضلا، وتنشروا تراجم تامة ~~لبعض التآليف الغربية حتى تقف الشبيبة المصرية على كنه الأسلوب الغربي، وأنتم ~~خير المرشدين إلى ذلك، وهذه مسألة مهمة تأبى قلة علمي في هذا الميدان أن ~~أستقصيها. # ولا بد لي من أن أعبر عن عواطف شكري لهديتكم الثمينة، ولتلك العبارات اللطيفة ~~التي استعملتموها في رسالتكم مما لا تستحقه قلة فضلي، ولا أرى سببا له إلا فرط ~~لطفكم. # وتفضلوا بقبول آيات احترامي. # ميكيل أنجيلو جويدي # أستاذ فقه اللغة العربية بالجامعة ~~(3) الأستاذ محمد بك فؤاد حمدي رئيس نيابة محكمة مصر المختلطة # يقولون: إن التأليف إذا احتاج إلى الفكرة مرة واحدة فإن الترجمة محتاجة إليه مرتين، ~~وحسن الاختيار محتاج إليه مرات ثلاث، ويقول الشاعر العربي: # قد عرفناك باختيارك إذ كا # ن دليلا على اللبيب اختياره # وإن كتاب «بلاغة الغرب» الذي حوى من أحاسن المحاسن وغرر الدرر من قريض الغرب ونثره ~~لجدير بتقريظ مطران، إذ يقول: # إن هذا السفر كنز جامع # غالي الدر وحر الذهب # وكفاه من فخار أن حوى # معجز الغرب وآي ms237 العرب # ظهر الجزء الأول من هذا السفر الجليل سنة 1909 حافلا بأبدع وأروع ما جادت به قرائح ~~فحول شعراء فرنسا، فخف إلى تقريظه أكابر الأدباء أمثال: طنطاوي جوهري والمنفلوطي، وطفقت ~~كبريات الصحف تثني على أمانة معربه في النقل وصدق أسلوبه، وبراعته في التوفيق بين ~~البلاغتين الفرنسية والعربية، واحتفاظه بموسيقية القصائد التي عربها وبدقة الفن الذي ~~يفيض عليها رواء وبهجة وجمالا. # بل لقد تجاوزت ذلك إلى نشر قطع من الكتاب هي بالدمى والتماثيل أشبه من حيث انسجام ~~الأجزاء وتلاؤم المظاهر واتزان الصورة العامة، فقد نقلت «اللواء» عنه قصيدة العزلة ~~للشاعر الفرنسي الكبير لامارتين، نشرتها يوم 5 أبريل سنة 1909، ثم نشرت قصيدة «إن ~~للرمال للينا خائنا كلين النساء» لفكتور هوجو التي نشرها «الدستور» في 9 أبريل سنة ~~1909، ونشرت «الجريدة» يوم 3 أبريل سنة 1909 قصيدة «نابوليون الثاني» لفكتور ~~هوجو. # ولما كان كتاب «بلاغة الغرب» الأول من نوعه، وكان قد حظي بقوة الذيوع والانتشار بين ~~المستنيرين وغواة الأدب، فلا مراء في أنه كان حجرا في زاوية النهضة الأدبية في البلاد، ~~جاء الكتاب في مستهل عهد الثورة الفكرية التي نادت بتحرير الأسلوب والخيال والاتصال ~~بالحياة الجميلة النبيلة، ولو سألت أيا من الكتاب والأدباء المعاصرين سرد أدوار ~~تطوره الفكري لوجدت أنه مر بدور تأثر فيه بمعربات الأستاذ محمد كامل حجاج، ونرجو هنا أن ~~يفطن القارئ إلى ما نقصده بالانفعال والتأثر فهو إما إيجابي وإما سلبي؛ إيجابي في الذين ~~لم يمرحوا في رياض الأدب الغربي، سلبي في دارسيه والمتعمقين فيه، وكلنا قد عالج ~~الانفعال لدى مطالعة قصيدة أو طرفة أدبية كان قد استوعبها بلغتها الأصلية، وقد اطلعنا ~~على الثاني من بلاغة الغرب فجاء تكملة لمجهود فني أدبي عظيم، فإن معربنا الجليل ضم إلى ~~المختار من الشعر الفرنسي نبذا صالحة ونماذج رائقة من الشعر الإنجليزي والألماني ~~والإيطالي، ونحن نرجو حضرته أن يواصل هذا المجهود النافع فيجعله سلسلة متماسكة ~~الحلقات. ms238