######OpenITI# #META# URI: 1380MahmudKhafif.AbrahamLinkuln.Hindawi40303683 #META# Tags: biographies :: history #META# ID: 40303683 #META# Title: أبراهام لنكولن #META# AuthorID: 40919408 #META# Author: محمود الخفيف #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # إهداء الكتاب‏ # ابن الكوخ‏ # الولايات المتحدة‏ # فتى الغابة‏ # بين الفأس والكتاب!‏ # رحلتان إلى عالم المدنية‏ # بائع في دكان‏ # اتجاه نحو السياسة‏ # عامل بريد وماسح أرض‏ # سياسة وساسة‏ # عضو في مجلس إلينوى‏ # في سبرنجفيلد‏ # خطيب‏ # قطيعة وصلة‏ # صديق صدوق‏ # زوج‏ # نضج‏ # زواج‏ # بيض وسود‏ # كفاح ونجاح‏ # عضو في الكونجرس‏ # طالب وظيفة!‏ # إلى المحاماة‏ # متاعب وآلام‏ # نظرات وخواطر‏ # شمال وجنوب!‏ # تحد ونزال!‏ # لنكولن والرق‏ # طموح وفشل!‏ # حزب جديد‏ # أحداث ونذر!‏ # دوجلاس ولنكولن‏ # بين المحاماة والسياسة‏ # فالق الأشجار!‏ # نذر العاصفة‏ # الرئيس أبراهام لنكولن!‏ # دوي العاصفة!‏ # الرجل القادم من الغرب‏ # هدية الأحراج إلى عالم المدنية‏ # في مهب العاصفة‏ # في البيت الأبيض‏ # جنون العاصفة!‏ # الربان‏ # المحرر!‏ # السنديانة!‏ # الأب أبراهام!‏ # الشهيد!‏ # إهداء الكتاب‏ # ابن الكوخ‏ # الولايات المتحدة‏ # فتى الغابة‏ # بين الفأس والكتاب!‏ # رحلتان إلى عالم المدنية‏ # بائع في دكان‏ # اتجاه نحو السياسة‏ # عامل بريد وماسح أرض‏ # سياسة وساسة‏ # عضو في مجلس إلينوى‏ # في سبرنجفيلد‏ # خطيب‏ # قطيعة وصلة‏ # صديق صدوق‏ # زوج‏ # نضج‏ # زواج‏ # بيض وسود‏ # كفاح ونجاح‏ # عضو في الكونجرس‏ # طالب وظيفة!‏ # إلى المحاماة‏ # متاعب وآلام‏ # نظرات وخواطر‏ # شمال وجنوب!‏ # تحد ونزال!‏ # لنكولن والرق‏ # طموح وفشل!‏ # حزب جديد‏ # أحداث ونذر!‏ # دوجلاس ولنكولن‏ # بين المحاماة والسياسة‏ # فالق الأشجار!‏ # نذر العاصفة‏ # الرئيس أبراهام لنكولن!‏ # دوي العاصفة!‏ # الرجل القادم من الغرب‏ # هدية الأحراج إلى عالم المدنية‏ # في مهب العاصفة‏ # في البيت الأبيض‏ # جنون العاصفة!‏ # الربان‏ # المحرر!‏ # السنديانة!‏ # الأب أبراهام!‏ # الشهيد!‏ # | أبراهام لنكولن # | أبراهام لنكولن # تأليف # محمود الخفيف # | إهداء الكتاب # إلى روح فقيد مصر الأستاذ محمد صبري أبي علم باشا # إلى روحك الطاهرة في رياض الخلد أيها العظيم الراحل، أهدي كتابي هذا الذي كثيرا ما ~~سألتني عنه، لقد كنت أول من حبب إلي «لنكولن»، وذلك بمحاضرة لك عنه وعيتها ~~وأكبرتها، فلما تناولت القلم لأكتب كان لنكولن أول شخصية درستها، وكان شخصك الحبيب في ~~خاطري أبدا، وقد غدوت في وطنك أحد أعلامه، ولن أنسى ما حييت ما كان من عذوبة روحك ~~وجمال تواضعك يوم كاشفتك بإهداء كتابي إليك، ولم يكن يدور بخلدي ms001 أن ينشر الكتاب وقد ~~طواك الموت وأنت نابغة جيل ورجاء أمة؛ ولكنك خالد في قومك خلود لنكولن في قومه، ولن ~~تزال حيا في أمة وهبتها حياتك فأحبتك وأكبرتك. # والسلام عليك من: الوفي الذاكر إلى يوم يلقاك # محمود الخفيف # | ابن الكوخ # في جانب من جوانب ولاية كنطكي، هنالك في تلك البطاح ~~المترامية من العالم الجديد، حيث تنمو الغابات والأحراج وألفاف النبات الوحشي، كان يقوم سنة ~~1809 كوخ من تلك الأكواخ المتخذة من الكتل الخشبية الشوهاء، تلك الأكواخ المتواضعة التي ~~تراها العين متناثرة هنا وهناك على مقربة من الغابات، ولا ترى غيرها في تلك الأصقاع البرية ~~مساكن للناس. # وكان لا يختلف ذلك الكوخ عما يقرب منه أو يبعد عنه من الأكواخ إلا في سعته أو ضيقه، فقد ~~كانت تقام كلها على نمط واحد من أنماط البناء، كما كان يعيش ساكنوها في الغالب على صورة ~~واحدة من صور المعيشة. # كان لا يزيد على أربعة أمتار في مثلها، ليس فيه من متاع إلا بعض القدر والآنية لحفظ ~~الطعام والماء، وبعض الوسائد المتخذة من جلد الحيوان والمحشوة بورق الشجر أو بريش ~~الطير، وبعض الكراسي والمناضد الخشبية الساذجة التي صنعها بيده توماس لنكولن صاحب هذا ~~الكوخ، وقد اقتطع أخشابها كما اقتطع أخشاب الكوخ من الغابة القريبة بفأسه التي ترى معلقة ~~أثناء الليل على جدار كوخه إلى جوار بندقية صيده. # في هذا الكوخ فتح أبراهام لنكولن عينيه على نور الحياة في اليوم الثاني عشر من شهر فبراير ~~عام 1809؛ وفي هذه البيئة ولد الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأمريكية. # وضع الوليد كأنه فرخ من أفراخ الطير على فراش من القش المغطى بالجلد إلى جوار أمه، ~~وكانت تألم الأم أشد الألم من الرياح تنفذ إليها وإلى وليدها صافرة خلال الثقوب الطويلة ~~بين كتل الخشب كلما هبت العاصفة من ناحية الغابة. # واضطر الوالد أن يبقى بالكوخ أياما حتى تستطيع زوجه أن تستأنف عملها بالمنزل؛ إذ لم يكن ~~هناك غيره إلى جوار امرأته سوى ابنتهما التي تكبر الوليد بعام واحد، وأخذ الرجل ms002 يحلب ~~الأبقار بنفسه ويوقد النار في الموقد ويعد الطعام، وكان لا يبتعد عن الكوخ إلا ساعة أو بعض ~~ساعة عله يرجع بقليل من الصيد يقدمه طعاما إلى زوجه الواهنة. # وكان يخفف عنه عبء حياته إقباله على مهد ابنه وتطلعه بخياله، وهو ينظر في وجه ذلك الابن ~~إلى اليوم الذي يستطيع فيه أن يحمل الفأس أو البندقية إلى جانبه في الغابة، فيكون له خير ~~عون على مشاق الحياة التي كان يحياها بين الأحراج؛ وما كان له في ابنه أبعد من هذا الأمل أو ~~ألذ منه، وماذا عسى أن يرجو النجار الذي يعمل وحيدا في الغابة من ابنه الأول غير هذا ~~الرجاء الحلو؟! # درج الطفل في هذا الكوخ حتى بلغ الرابعة من عمره، تلك السن التي لا يفتأ فيها الأطفال ~~يسألون عن كل ما يحيط بهم، ولكنه لم يجد حوله كثيرا مما يجتذبه ليسأل عنه؛ فهذه فأس أبيه ~~التي يقطع بها الأخشاب، وهذه بندقيته التي يراها على كتفه كلما عاد من الغابة وفي يده صيد، ~~على أنه يرى أباه أحيانا وقد أتم صنع بعض الكراسي وبعض الأسرة الخشبية، ويراه يحملها إلى ~~حيث تستقر في أكواخ بعض الجيران، فيعجب لذلك ويتساءل، ولا يكاد يفهم ما يلقى إليه من ~~إجابة! # وكانت الغابة أو كان الجانب المحيط منها بالكوخ هو نهاية ما يصل إليه خيال الطفل يومئذ من ~~هذا الوجود، وحسبه الآن من الوجود أن يلعب في هذا الجانب من الغابة، وإن لم يكن له فيه من ~~رفقة سوى أخته سارا. # على أنه بدأ ينظر إلى الغابة نظرة الرهبة والدهشة معا؛ فقد أخذ يسمع عن السكان الأصليين، ~~أولئك الهنود الحمر، الذين ينقضون على السكان البيض فيقتلونهم كلما ظفروا بهم وهو لا يفهم ~~لم يقتلونهم، ثم هو يخشى غوائل الحيوانات المفترسة التي كانت تتحدث أمه عنها أحيانا، وكلما ~~مد بصره في تلك المساحات الهائلة أخافه الفضاء وحده، ولو لم يكن فيه شيء من بواعث ~~الخوف. # على أن الغلام في هذا السن الباكرة يرى الحياة من قرب ms003 رؤية مباشرة، فهو ينمو كما ينمو ~~وحشي النبات في ذلك الأقليم، ويرى بعينيه وخياله الصلة بينه وبين بيئته، يتغذى من ثمار ~~الشجر، ويضطجع في مهد من أوراقها الجافة، ويلتحف بجلود الحيوانات ويشرب ألبانها، وهو يعيش ~~في أحضان الطبيعة حيث يرهف حسه، ويعمق خياله، ويقوى وجدانه، وتنبسط نواحي نفسه الصغيرة، ~~وتستشف ما في هذا الكون العجيب من جمال وسحر، وتستشعر ما فيه من سر ورهبة. # أليس يرى من كثب كيف تطعم الأسرة وكيف تكتسي؟ أليس يرى التعاون بين الوالدين وما ينتج من ~~اطمئنان وراحة؟ أليس يرى الكدح في سبيل العيش كلما أبصر أباه يهوي بفأسه على الأشجار، أو ~~كلما رآه مقبلا من الغابة وبندقيته على كتفه وفي يده طائر أو حيوان يدفعه إلى أمه، فتتلقاه ~~فرحة، وتذهب لتعد الطعام؟ # وفي سن الخامسة يتسع مجال الحياة أمام عينيه بعض الاتساع؛ فقد انتقلت الأسرة قليلا نحو ~~الشمال، وأقامت كوخها الجديد على مقربة من طريق عام كان يربط بين مدينتين، وهناك كانت تقع ~~عينا الغلام على بعض العربات غادية رائحة، وعلى قوم يتجهون أبدا صوب الغرب يحملون من ~~الأمتعة ما لم ير مثله من قبل، وإنه ليعجب أن يرى ملابس بعضهم من نوع آخر غير ما يلبس، ~~وتخبره أمه أنها متخذة من الصوف، فينظر في دهشة إلى وجهها، ثم يتجه ببصره إلى ملابسه ~~الجلدية المهوشة، ويتمنى بينه وبين نفسه أن لو كانت له ولأبيه ملابس من ذلك الصوف. # وفي السابعة من عمره يصحب أباه إلى الغابة؛ حيث بدأ الصبي يؤدي نصيبه من العمل؛ فيساعد ~~الأب الذي يقطع الأخشاب، ويصنع منها الأثاث ويبيعه، ويكسب من وراء ذلك نقودا لا بد منها ~~للأسرة. وإنه لفخور الآن بمساعدة أبيه، لا يحفل تعبا في تلك المساعدة، وإنه ليباهي بها ~~أخته، وإن كانت هي أيضا لتؤدي نصيبها من العمل في مساعدة أمها، ولكن هل كانت «سارا» تستطيع ~~أن تسوي الخشب وتجره وترتبه؟ وهل كانت تستطيع أن تحمل الصيد إلى الكوخ كما كان يفعل «أيب» ~~الصغير؟ # كان لا ينقطع عن ms004 العمل إلا في أيام الآحاد؛ إذ يجلس وأمه وأخته وأباه أمام الكوخ، فيستمع ~~في شغف ولذة لما تلقي أمه من أقاصيص وما تتلو من حكايات كان أكثرها مشتقا من ~~الإنجيل. # كان الغلام ينتقل ببصره وخياله من أمه إلى أبيه، وكانت أمه في أقاصيصها جادة تحس نفسه ~~الصغيرة شيئا من الحزن يطوف بنفسها، ويتسرب إلى حكاياتها، أما الأب فكان يميل إلى الفرح ~~والفكاهة، ويتدفق إذ يحكي تدفق من لا تنطوي نفسه على شيء مما تنطوي عليه نفس الأم، وما ~~كان شيء من ذلك ليخفى على فطنة الغلام. # وأحدثت القصص الدينية أثرها في نفس الصبي، وظلت عالقة بلبه وخياله، وجرت في كيانه مجرى ~~الدم في عروقه، واختزنت حافظته ألفاظها بنصها، حتى ليتحرك بها لسانه وإن لم يقصد. # وثمة شيء جذبه إلى أمه وإن كان ليحب مرح أبيه وطلاقة روحه؛ وذلك هو معرفتها القراءة ~~والكتابة، ثم رغبتها في أن يتعلم الصبي على الرغم من مجادلة زوجها إياها في ذلك؛ إذ كان يرى ~~الصبي أحوج إلى الفأس منه إلى القلم، وحجته أنه لا يعرف من الكتابة إلا أن يرسم اسمه ومع ~~ذلك فهو يكسب بفأسه ما يقيم أود أسرته. # وجاء في تلك الأيام بعض ذوي قرباهم، فأقاموا إلى جوارهم، واستأنس الغلام وأخته بالقادمين، ~~وأقبلا على خالتهما وخالهما يستزيدانهما الأنباء والأقاصيص، وازداد الصبي تعلقا بخالته؛ إذ ~~علم أنها تقرأ وتكتب كأمه، وتحبذ مثلها أن يتعلم «أيب» القراءة والكتابة على الرغم من ~~معارضة أبيه. # وبدا للصبي يوما فسأل عن أسرته وأين نشأت وممن انحدرت، ولكنه سمع ردودا مهمة لم ترو ~~ظمأ نفسه أو لم يتسع لها خياله، وبدا أبوه في حيرة من أمره؛ فهو إن أجاب ابنه على قدر ما ~~يفهم ظل تساؤله قائما، وإن أطال وفصل لم يقو الصبي على متابعته. # وهل كان يستطيع الصبي أن يدرك أن أجداده الأولين جاءوا من إنجلترة منذ مائة وسبعين عاما، ~~وأنهم كانوا من أوائل من انتجع الرزق في هذه الأصقاع البرية، وأنهم نزلوا أول ما نزلوا ~~بولاية ماساشوست ms005 في الشمال، ثم انتقل بعض ذريتهم إلى ولاية فرجينيا، ومن هؤلاء انحدر جده ~~الذي سكن مقاطعة كنطكي حيث لا يزالون يقيمون؟ # لم يفهم الصبي شيئا من هذا، فلا علم له بإنجلترة ولا بالجهات الشمالية ولا الغربية، ~~ولكنه يرهف سمعه إلى أبيه إذ يقص عليه حكاية غريبة عن جده القريب، فبينما كان أبوه وأخواه ~~يساعدون أباهم في الغابة كما يساعد «أيب» اليوم أباه، إذ انطلقت رصاصة من بين الأدغال ~~فأصابت ذلك الأب فخر صريعا لتوه، وجرى الأخوان نحو الكوخ وتركاه وحده، وبرز من بين ~~الأشجار أحد الهنود الحمر وحمله يريد أن يأخذه إلى داخل الغابة، وبينما كان يقاوم ويصرخ عاد ~~أحد الأخوين ببندقية من الكوخ وصوبها إلى رأس ذلك الهندي فأرداه. # سمع الطفل ذلك الحديث وقلبه يخفق فرقا؛ إذ رأى مبلغ ما أحدق بأبيه من خطر وهاله موت جده ~~على تلك الصورة، وماذا عسى أن يمنع أن يصيب أباه اليوم مثل ما أصاب جده بالأمس؟ وبأي قلب ~~يذهب إلى الغابة بعد اليوم؟ ولكن أباه يفهمه أن هؤلاء الهنود قد أبعدوا صوب الغرب، فلن ~~يوجد في الغابات منهم إلا عدد ضئيل لا خوف منه. # وأخذت الأم تعلم ابنها وابنتها حروف الهجاء رسما ونطقا، والصبي مبتهج بما يتعلم حتى جاء ~~رجل إرلندي الأصل، فأقام في تلك الجهة مدرسة لتعليم الأطفال، بنيت من كتل الخشب كما تبنى ~~الأكواخ، وأرسل الصبي إليها فيمن أرسل من أبناء الجيران، وإنه ليطفر فرحا وغبطة. وهناك ~~كان الصبية يجلسون على الأرض، فيدار عليهم كتاب واحد ويظلون طيلة نهارهم يتمرنون على نطق ~~الحروف وتركيب الكلمات. ويسأل الصبي نفسه في لهفة شديدة متى يستطيع أن يكتب ويقرأ كما تفعل ~~أمه وخالته. # ولقد ظل أثر معلمه الأول ومدرسته الأولى مستقرا في أعماق نفسه على مر الأعوام، وثمة شيء ~~آخر علق بنفسه وظل يذكره بعدها بأعوام؛ وذلك هو الوعظ الديني الذي كان يلقيه على الناس في ~~تلك الأصقاع أحد المبشرين تحت الأشجار، أو في كنيسة أقيمت كذلك على نمط الأكواخ. ولقد رأى ~~الصبي ms006 ذلك الواعظ ذات يوم يلقي حديثا طويلا على السامعين من غير أن يستعين بكتاب، فعجب ~~لذلك وأعجب بالرجل، وقد كان ذلك أول حديث عام ينصت إليه خطيب الغد الذي لن يجاريه في قومه ~~خطيب. # ومما رآه الصبي كذلك يومئذ، وأثر في خياله، وحير عقله؛ قوم من السود كان أبوه يستوقفهم ~~كلما مر أحدهم به في الطريق العامة، ويسألهم أن يبرزوا جواز مرورهم، وكانت السلطات قد ~~اختارت أباه ملاحظا للطريق! وقد كان منظر هؤلاء السود وذلة نفوسهم مما يألم له الصبي ~~ويدهش، وكانت إجابة أبيه على أسئلته في هذا الصدد مبهمة محيرة، وهو لا يني يتساءل ما ذنب ~~هؤلاء، وما عملهم، وما أصلهم، ولم كانوا كذلك سودا مضطهدين. ولو تفتحت حجب الغيب لأبيه ~~لرأى ابنه في غد محرر هؤلاء العبيد، ومخرجهم مما هم فيه من هوان. ولقد بدأ عطفه عليهم في ~~تلك السن، وأخذ بعدها يؤذيه منظرهم، وينقبض خاطره كلما ذكر مذلتهم. فهل كان يدري الصبي أن ~~القدر يعده ليكتب في تاريخ الإنسانية صفحة من أجل الصفحات بتحرير هؤلاء المساكين ~~الأرقاء؟ لم يكن يدري من ذلك شيئا، وحسبه أن يرثي اليوم لحالهم، ففي هذا الرثاء خير ~~بداية، وإن لم يفكر بعد في غاية. # ما لبثت الأسرة أن رأت في عميدها توماس لنكولن ميلا شديدا إلى الرحيل من كنطكي إلى حيث ~~يسهل عليه كسب قوته وقوتها مع اليسير من الجهد، وكان توماس من النفر الذين يضيقون ~~بالجهد والذين يطلبون أكلاف العيش من أيسر سبلها، وما فتئ يذكر لهم اسم ولاية إنديانا ~~مقرونا بالخير والبركة ويزين لزوجه الرحيل إليها. # وذهب فخبرها بنفسه، وعاد يتحدث إلى الأسرة عما رأى؛ فالغابات مليئة بالصيد، والجو جميل، ~~والناس أهل بر ومروءة. وسرعان ما باع توماس لنكولن كوخه والأرض المحيطة به، وأخذ يعد العدة ~~للرحيل. # ولما حزموا متاعهم توجهوا قبل الرحيل إلى بقعة من الأرض قريبة، وهنالك وقفوا جميعا ~~مطرقين، أما الأب فكان يتجلد من أجل امرأته، وأما الأم فقد كانت تتساتل الدموع على وجنتيها، ~~وهي تجهش بين ms007 آونة وآونة إجهاشة ينخلع لها قلب الصبي، وترتعد لها أخته فتصرخ فيزيده صراخها ~~ألما وحزنا؛ ففي تلك البقعة دفن الوالدان ابنا ثانيا لهما كان أصغر من «أيب» بعامين، ~~دفناه وقد فارق الحياة ولما يزل في مهده، وما أشد ما ترك ذلك الموقف من أثر في نفس الصبي! ~~وما كان أعظم ألمه كلما ذكر بعد ذلك أنهم تركوا الطفل الدفين في بقعة من الأرض لا يقوم ~~عليها حجر ولا تميزها أية علامة! ومن ذلك اليوم عرف الصبي لأول مرة معنى الحزن وذاق مرارته، ~~وانطوت عليه نفسه التي سوف تنطوي على كثير منه كلما مرت الأيام. # وتوجه المسافرون صوب إنديانا، وقد حملوا متاعهم على جوادين أعدا لذلك، وكان أيب يركب مع ~~أبيه على ظهر أحد الحملين، وتركب أمه وأخته سارا على الآخر، وقضوا في الطريق زهاء أسبوع ~~يشقون في سيرهم الأحراج، ويجتازون بعض مجاري المياه، فإذا جنهم الليل قام عميد الأسرة على ~~حراستهم من دواب الغابة حتى ألقوا رحالهم آخر الأمر في إنديانا بعد أن قطعوا زهاء تسعين ~~ميلا. # | الولايات المتحدة # ما هذه الولايات المتحدة التي نتحدث عن غاباتها وأصقاعها البرية؟ وما فصلها في تاريخ هذا ~~الوجود؟ # برزت الولايات المتحدة دولة من دول العالم على حين غرة؛ فكان بروزها السياسي شبيها بما ~~يزعمه بعض الجغرافيين عن وجودها المادي؛ إذ يقولون إن أمريكا أو الدنيا الجديدة قد برزت من ~~تحت الماء في حركة من حركات هذا الكوكب الذي نعيش فيه! وما كان بروزها السياسي في الحق إلا ~~حركة من حركات الشعوب في هذا المضطرب الواسع الذي نسميه العالم، حركة لم يكن يظن أحد يوم ~~بدأت أنها بالغة بعد ما بلغته. # سمع الناس في أوروبا قبل أن ترجف الراجفة في فرنسا بسنوات قليلة عن أنباء عجيبة تأتيهم من ~~وراء المحيط؛ سمعوا عن الحرية يرف جناحاها الجميلان، ويتهلل وجهها الأبلج في تلك الربوع ~~الفسيحة التي وجه كولومبس أنظار الدنيا القديمة إليها قبل ذلك بنحو ثلاثة قرون، وسمعوا عن ~~أختها الديمقراطية ترفع علمها، وتشهر سلاح الإيمان ms008 واليقين؛ سلاح جان دارك الخالد في وجه ~~الطغيان العبوس المربد؛ وسمعوا عن مراكب من الشاي تقذف حمولتها في البحر وتلتهمها النيران، ~~وسمعوا عن جموع ثائرة تلتقي هنا وهناك هاتفة صاخبة، وعن جنود تحشد خفافا وثقالا، ثم ما ~~لبث الناس في الدنيا القديمة أن علموا أن الحرب دارت رحاها بين إنجلترة وأبناء هاتيك ~~الولايات، وأيقنوا أنها باتت من جانب أبناء الولايات حرب نصر أو فناء. ~~••• # وكانت هذه الولايات قبل حرب الاستقلال مستعمرات جعلت منها العوامل الاقتصادية والاجتماعية ~~قسمين: المستعمرات الشمالية والمستعمرات الجنوبية؛ فكان الاختلاف بين القسمين مرده إلى ~~الفوارق في التربة والمناخ بين الشمال والجنوب ولا دخل هنا للفوارق الجنسية، إذ كان أثرها ~~في هذا التقسيم ضئيلا لا يكاد يكون له وزن؛ لأنها كانت في ذاتها فوارق طفيفة، أو أصبحت ~~بفعل الزمن طفيفة. # وكانت مستعمرة ماري لاند من الوجهة الجغرافية هي الفاصل بين الشمال والجنوب؛ فهي ~~والمستعمرات الواقعة جنوبيها تكون القسم الجنوبي، وما وقع شماليها فهو القسم ~~الشمالي. # كانت الأرض في الشمال على العموم أقل خصبا منها في الجنوب، وكان الناس وهم من النازحين ~~الأوروبيين، وبخاصة الأنجليز، يزرعون مساحات منها تكفي لسد حاجاتهم مما يؤكل، فكان الرجل ~~يعتمد على معونة بنيه فحسب؛ ومن ثم كان هؤلاء الزارعون في الشمال فقراء، ولم تنشأ هناك ~~الملكيات الواسعة إلا في حالات نادرة. # على أن ذلك لم يحل دون ظهور الطبقات والفوارق الاجتماعية؛ فهناك فريق التجار من ساكني ~~المدن القريبة من المحيط، وكان هؤلاء يصدرون إلى إنجلترة حاصلات المستعمرات ويستوردون ~~المصنوعات ليبيعوها لساكني المدن ولمن يطلبها من الزارعين. ولقد انحصرت الثروة في أيدي ~~هؤلاء التجار، فكانوا هم الطبقة الأرستقراطية في الشمال، وكان الزارعون ينظرون إليهم نظرة ~~الحقد والكراهية، وفي هؤلاء التجار وأبنائهم انحصرت الوظائف الإدارية ووظائف الجندية؛ إذ ~~كان لهم قسط من التعليم يضاف إلى حظهم من الجاه، وإن كان تعليمهم يومئذ محدودا على قدر ~~مستوى مدارسهم ومستوى معلميها. # أما في الجنوب فكان الحال على خلاف ذلك؛ إذ كانت الثروة في أيدي الزارعين؛ وسبب ذلك ms009 أن ~~التربة أكثر خصبا، وأن المناخ يساعد على زراعة الطباق، وهو محصول كان يغري تصديره إلى ~~أوروبا بالإكثار من زراعته وكسب المال الموفور من هذه الزراعة، ولقد كان ذلك سببا في حاجة ~~الزراعين إلى عدد عظيم من الأيدي العاملة، فماذا يصنع أهل الجنوب؟ لقد لجئوا إلى أمر أدى ~~إلى خلق مشكلة من أعقد المشاكل؛ وذلك أنهم أخذوا يستخدمون السود من العبيد ويستجلبونهم ~~بكثرة من أفريقيا، ولقد أخذ يزداد عدد هؤلاء السود منذ بداية القرن الثامن عشر. # وظهرت الفوارق الاجتماعية في الجنوب أيضا؛ فهناك كبار الملاك وصغار الزراعين، وكان صغار ~~الزراعين في الجنوب أشبه حالا بأمثالهم في الشمال، وكانوا كذلك ينظرون نظرة الحقد ~~والكراهية إلى كبار الملاك الذين حصلوا على الأراضي بالزلفى إلى الحكام والتقرب إليهم بشتى ~~الوسائل، والذين استمتعوا هم أيضا بالنفوذ والمناصب الهامة، وأتيح لهم في مدارسهم حظ من ~~التعليم، أما العبيد فكان شأنهم شأن الماشية يحشرون في حظائر كما تحشر الدواب، ويساقون إلى ~~العمل كما تساق الأنعام، ومن كان هذا شأنهم فلن يكون لهم موضع في المجتمع، وحسبهم أن يذكر ~~سادتهم أنهم آدميون، وقليلا ما كان هؤلاء السادة يلتفتون إلى هذا المعنى! # وكان صغار الزراعين في الشمال، وبخاصة النازحون منهم إلى الغرب على حدود الولايات، أكثر ~~الناس بؤسا وشقاء؛ فكان عليهم أن يشقوا الأحراج، ويقطعوا الأشجار، ويزرعوا ما نتج عن ذلك ~~من الأرض الفضاء، وكان على الرجل منهم أن يفي بكل مطالب أسرته؛ فعليه بناء الكوخ من الكتل ~~الخشبية يسويها بفأسه، وعليه زرع الأرض وتعهد الماشية، وعليه إطعام الأسرة بما يصيب من صيد؛ ~~ومن أجل ذلك كانت الفأس والبندقية أغلى عنده من كل شيء، وكان فرحه بالبنين عظيما؛ إذ ~~يكونون عدته في هذا الكفاح المتواصل. # وكانت أكواخ هؤلاء الكادحين السذج تتناثر هنا وهناك على مدى البصر، وكانوا يتعرضون ~~لهجمات الوحوش وهجمات السكان الأصليين من الهنود الحمر في تلك الأصقاع الغربية البرية، التي ~~كانوا يعيشون فيها على نحو أشبه بعيشة آباء الإنسانية الأولين. # على أن حياة هؤلاء لم تخل ms010 من بعض المزايا؛ فقد خلصت طباعهم من أوضار المدنية ورذائلها، ~~وغرس في نفوسهم حب الاستقلال والاعتماد على النفس، ودرجوا على الفطرة ينظرون إلى معاني ~~الخير والشر نظرة خالية من أوضاع الفلسفة وفوضى المبررات والملابسات، فجاءت لذلك نظرتهم هذه ~~نظرة إنسانية تتمثل فيها الرجولة الحقة لم تفسدها النظرات والتأويلات. # وغرس فيهم الخوف المتواصل على مدى الزمن ألا يبالوا بمخوف، وأن يلاقوا الشدائد والمحن ~~صابرين أشداء، فهم لكثرة ما يلاقون من شظف المعيشة لا يجدون كبير فرق بين أوقات خوفهم ~~وأوقات أمنهم، وقد اكتسبوا كذلك من بيئتهم كما اكتسب أهل الصحراء الإيمان بالقدر والإذعان ~~لأحكامه. # هذه هي الحال الداخلية للمستعمرات قبل حرب الاستقلال، فأما أهل المدن فكانوا مترفين في ~~الشمال والجنوب كما رأينا؛ التجار منهم وكبار الملاك في رغد العيش سواء، وأما الزارعون من ~~ساكني الأكواخ فكانوا يلاقون بؤس العيش راضين صابرين، وإن كانوا يمقتون هؤلاء الأغنياء ~~مقتا شديدا. # أما علاقة هذه المستعمرات بإنجلترة، فكانت حتى قبيل الثورة علاقة هادئة، بل لقد كان ~~السكان في جملتهم، الأغنياء منهم والفقراء، ينظرون إلى إنجلترة نظرتهم إلى الأم، وكثيرا ما ~~كانوا يسمونها «الوطن»؛ إذ كان معظمهم قد هاجروا إلى أمريكا من هناك؛ أما الأغنياء فكانوا ~~يحرصون على العلاقات التجارية بينهم وبين إنجلترة، ويعتمدون على أسطولها في حماية متاجرهم ~~ونقلها، فهم لذلك موالون للتاج البريطاني، وأما الفقراء فلم يكن لهم صلة بالسياسة ~~واتجاهاتها، اللهم إلا فئة قليلة ممن كانت لهم بالمدن علاقة، وكان الأغنياء والفقراء ~~جميعا يحرصون على أن تحميهم إنجلترة من الفرنسيين في كندا والإسبان في فلوريدا. ~~••• # وإذا كانت الحال كما ذكرنا، فجدير بالمرء أن يتساءل، ما الذي جر أهل هاتيك المستعمرات إلى ~~الثورة على إنجلترة، وما الذي جمعهم على غرض واحد وكان بينهم من عوامل التفرقة في الداخل ما ~~أشرنا إليه. # لقد كان مرد تلك الثورة في الجملة إلى نزعة من نزعات الحماقة منيت بها السياسة الإنجليزية ~~في فترة من الزمن، فكان في تلك السياسة من الحمق يومذاك بقدر ما يكون فيها من رشد ms011 في بعض ~~أوقاتها. # لقد رضي سكان المستعمرات بالكثير لتبقى لهم حماية إنجلترة؛ رضوا بقوانين الملاحة والتجارة ~~التي فرضتها عليهم إنجلترة، فلا تنقل متاجرهم إلا سفن إنجليزية، ولا تصل إليهم من سلع غير ~~إنجليزية إلا عن طريق إنجلترة؛ ليظل لإنجلترة أجر النقل وربح التجارة. # وخرجت إنجلترة منتصرة من حرب السنين السبع (1756-1763)، وكانت ميادينها في أوروبا وآسيا ~~وأمريكا، وظفرت من هذه الحرب بتوطيد نفوذها في الهند وطرد الفرنسيين من كندا، ولكنها وجدت ~~نفسها وقد أثقلت الديون كاهلها. # ورأت أن جانبا من هذه الديون قد أنفق على الدفاع عن سكان تلك المستعمرات الأمريكية، ورأى ~~أهل المستعمرات أن إنجلترة أنفقت ما أنفقت من أجل مصلحتها هي فحسب، وأبت إنجلترة إلا أن ~~تحمل أهل المستعمرات جانبا من ديون الحرب؛ فعمدت إلى فرض ضريبة «الدمغة» على كل ~~المكاتبات الرسمية، فكانت هذه الخطوة أولى حماقاتها تجاه المستعمرات. # وشددت إنجلترة في تنفيذ قانون الملاحة والتجارة، وكان الأمريكيون أثناء حرب السنين السبع ~~قد لجئوا إلى تهريب بعض المتاجر، وأخذت إنجلترة أهل المستعمرات بالشدة في وقت زال فيه خطر ~~الفرنسيين من كندا، وقلت الحاجة تبعا لذلك إلى حمايتها، فكانت فعلتها هذه في تلك الظروف ~~ثانية الحماقات. # وباتت الأنباء تنذر بعاصفة من عواصف السياسة، فأهل المستعمرات يرفضون الإذعان لضريبة ~~الدمغة، فلا يجوز لبرلمان لا يمثلون فيه أن يفرض عليهم ضريبة، وجرت على ألسنتهم كلمة قصيرة ~~حاسمة «لا ضرائب بغير تمثيل»، ولكن الإنجليز من ناحية أخرى يتمسكون بأن الدفاع الإمبراطوري ~~عن سلالة البريطانيين أينما وجدوا جعلهم يدافعون عن بعض تلك السلالة في أمريكا، فعلى هؤلاء ~~قسط من نفقات هذا الدفاع. # وانتقلت المسألة بهذا من مظهرها الاقتصادي إلى مظهر سياسي خطير، وأصر كل من الجانبين على ~~أنه صاحب حق. # وألغى البرلمان قانون الدمغة، ولكنه شفع هذا العلاج بطعنة ليته لم يقدم عليها وقتئذ؛ ~~وذلك أنه أعلن حقه في فرض أية ضريبة تقتضيها المصلحة في المستقبل ليحتفظ بحقه تجاه ~~المستعمرات. # ولكن المسألة باتت عند الأمريكيين مسألة مبدأ سياسي لا مسألة نقود تدفع؛ ولذلك نراهم ms012 ~~يلجئون إلى العصيان والمقاومة، عندما لجأ الإنجليز بعد إبطال قانون الدمغة إلى فرض ضرائب ~~على بعض المتاجر الخارجية. # فرض الإنجليز عام 1767 ضرائب على ما يرد إلى المستعمرات من الزجاج والشاي والورق والرصاص ~~وألوان التصوير وأشباهها، وعارض الأمريكيون أشد المعارضة، ولجأ الإنجليز إلى اللين، فألغوا ~~كل هذه الضرائب إلا ضريبة الشاي؛ تقريرا لحقهم أيضا وتثبيتا لمبدأ سياسي لا يتزحزحون ~~عنه. # ولكن الأمريكيين لا يتزحزحون هم أيضا، فبدءوا المقاومة بالإضراب عن شرب الشاي، ثم وقع ~~حادث كان بمثابة الثقاب المشتعل يلقى على الحطب؛ وذلك أن بعض الأمريكان تنكروا في زي الهنود ~~الحمر، ودخلوا ميناء بوسطن، وألقوا بما كانت تحمله ثلاث سفن من الشاي في البحر. # وثار الإنجليز وهم أهل صبر وتؤدة، فكانت ثورتهم حينذاك كبرى حماقاتهم، فقررت الحكومة ~~البريطانية إقفال ميناء بوسطن ومحاكمة الثائرين أمام محاكم إنجليزية، وألغت دستور ولاية ~~مساشوست؛ عقابا لها على تمردها. # وائتمر الأمريكيون في فيلادلفيا عام 1774 لينظروا ماذا يفعلون، وكان مؤتمرهم هذا أولى ~~خطواتهم نحو الاستقلال. # أعلن المؤتمرون حقوقهم وقرروا قطع العلاقات التجارية مع الإنجليز حتى تزول أسباب الخلاف، ~~ولكنهم قرروا في صراحة أنهم ظلوا على ولائهم للتاج. # ولكن المشاجرات ما لبثت أن وقعت بين الجند البريطانيين وبعض الأمريكيين، وعمدت إنجلترة ~~إلى القوة لتثبيت وجهة نظرها؛ فلم ير الفريقان بدا من الاحتكام إلى السيف بعد أن فشل ~~الاحتكام إلى المنطق. # واشتعلت نار الحرب، وجعلت القيادة لرجل أصبح من مفاخر أمريكا وذلك هو جورج وشنطون، وجمعت ~~الجند من مختلف الولايات، وشاعت في الأمريكيين حماسة أنستهم ما بينهم من أسباب الخلاف، ~~وائتمر زعماؤهم مرة ثانية في «فيلادلفيا» عام 1776، وفي هذه المرة أعلنوا استقلالهم عن ~~إنجلترة كاملا، وبات السيف هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الغرض القومي العام. # وانتقل الأمريكيون تحت راية وشنطون من نصر إلى نصر، وتقدم المتطوعون من الفرنسيين يشدون ~~أزر الثائرين المجاهدين؛ انتقاما من إنجلترة. وما زال الكفاح متصلا والجهاد مريرا، حتى ~~تم للأحرار المجاهدين النصر يوم أرغم القائد الإنجليزي كورنوالس على التسليم لوشنطون في ~~مدينة بوركتون في التاسع ms013 عشر من أكتوبر عام 1781، بعد صراع اتصل سبع سنوات. # وفي سبتمبر عام 1783 لم تر إنجلترة بدا من قبول معاهدة فرساي التي نص فيها على اعترافها ~~باستقلال مستعمراتها الأمريكية استقلالا لا قيود فيه، وأصبحت كل مستعمرة ولاية حرة لا ~~تربطها بتاج الإمبراطورية أية تبعية، فماذا عسى أن تكون علاقة هذه الولايات الحرة كل منها ~~بالأخرى؟ أتنفرد كل ولاية عن أخواتها، أم ترتبط الولايات بعضها ببعض برباط يجمع شملها؟ وأي ~~ضروب الارتباط هو خير لها؟ أتظل كما كانت في ظل كفاحها من أجل الحرية؟ ذلك ما كان يدور بخلد ~~الساسة غداة الاستقلال. # لقد كسب الأمريكان استقلالهم تحت راية التمعت على صفحتها ثلاث عشرة نجمة وثلاثة عشر ~~خطا تمثل الولايات الثائرة وعددها ثلاث عشرة، وكان الأمريكان قبيل ظفرهم قد أقاموا ~~لأنفسهم اتحادا سنة 1781، كما كان يشرف منهم على الحرب منذ اشتعلت نارها مؤتمر عام، ولكن ~~هذين لم ينص على استمرارهما إذا تم النصر. # والحق أن نفوذ ذلك المؤتمر العام قد تضاءل بعد الصلح حتى كاد ينعدم، وذهب ذلك الاتحاد ~~بذهاب الغرض من إقامته وهو المفاوضة، كسلطة لها حق البت فيما يهم الجميع. # وصارت كل ولاية حرة فيما تأخذ أو تدع من الشئون، ولكن الحال ما لبثت أن أوجبت الاتحاد؛ ~~فلقد أخذ يدب الخلاف بين بعض الولايات وبعض في مسائل كثيرة؛ كالدين العام ونظام الاسترقاق، ~~وإعانة الجند الذين سرحوا حسب شروط الصلح، والالتزام بما يخص إنجلترة من حقوق وفق المعاهدة، ~~حتى لقد باتت إنجلترة تخشى من سوء الحال، وتندد بعدم وجود سلطة مسئولة عن تنفيذ ما تم ~~التعاهد عليه. # وكان كثيرون من بعيدي النظر يرون أن لا صلاح للولايات إلا أن يشملها نظام تسهر عليه سلطة ~~مركزية، ومن هؤلاء وشنطون بكل الاستقلال؛ لذلك دعوا إلى عقد مؤتمر للنظر في هذه المسألة، ~~وشهدت مدينة فيلادلفيا اجتماعا كبيرا كتلك الاجتماعات التي رأتها قبل الاستقلال، وكان ~~زعيم المؤتمرين هذه المرة كذلك وشنطون. # وكان عمل المؤتمرين شاقا؛ إذ كان هناك من يغالون فيما سموه حقوق الولاية، فأخافهم ~~التفكير ms014 في إقامة اتحاد عام ظنوا أنه يسلب الولايات حريتها في العمل. # وبلغ من صعوبة العمل أن حار المؤتمر بين أمرين: أيمضي إلى إقامة نوع من التعاهد بين ~~الولايات على أساس أن كلا منها سلطة مستقلة، كما يكون التعاهد بين الدول، تجاورت أو ~~تباعدت، أم يضم الولايات كلها في نطاق واحد ويجعل منها أمة واحدة؟ # ورأى بعد طول حيرته أن كلا الأمرين مردود؛ فأولهما لا يفي بالغرض في الظروف القائمة، ~~وثانيهما في عداد المستحيلات. # وانتهى الرأي أخيرا إلى إقامة سلطة مركزية في شكل دولة تعاهدية، ونص الدستور الذي وضعه ~~المؤتمرون على أن تبقى كل ولاية حرة في شئونها الداخلية، ولا تتدخل السلطة المركزية إلا في ~~مسائل الضرائب العامة، وفيما يتطلبه الدفاع الحربي عن الجميع، وفي مسائل المواصلات والبريد ~~وأشباهها من الشئون التي تمس الولايات جميعا. # واختير وشنطون سنة 1789 رئيسا لهذه السلطة المركزية، وهي حكومة الولايات المتحدة وفق هذا ~~الدستور. ونص الدستور على أن تكون مدة الرياسة أربع سنوات، يجوز بعدها إعادة نفس الرئيس ~~الذي خلت مدته إذا شاء الناخبون، ويقوم إلى جانب الرئيس نائب الرئيس، وهو كذلك ينتخب لمدة ~~أربع سنوات، ويتولى سلطة الرئيس في حال وفاته أو اعتزاله لأي سبب حتى ينتخب الرئيس ~~الجديد. # وتنحصر السلطة التشريعية للاتحاد في مجلسين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ، ويختار أعضاء كل ~~منهما من الولايات بطريق الانتخاب، ويتألف منهما مجتمعين مجمع عام يسمى الكونجرس، ~~وينبغي أن ينعقد مرة في السنة على الأقل، ويدعى إلى الانعقاد بعد ذلك إذا دعت ~~الضرورة. # ويتولى الرئيس السلطة التنفيذية بعد أن يقسم أمام الكونجرس على الولاء للدستور، ويصبح ~~الرئيس الأعلى للقوات البرية والبحرية للاتحاد وكذلك لقوات الولايات المختلفة إذا اشتركت ~~فعلا في حرب من أجل الاتحاد، وله بمشورة مجلس الشيوخ وموافقته سلطة تعيين الوزراء ~~والسفراء والقناصل والقضاة في المحاكم العليا وغيرهم من كبار الموظفين، كما أن له حق ~~الإشراف على أعمال الوزراء أو غيرهم من كبار رجال السلطة التنفيذية، فيراجع أعمالهم ويطلب ~~إليهم تقديم التقارير الشفوية أو الكتابية عما يرى ms015 من الشئون. # وبهذا الدستور استطاع المؤتمرون أن يوفقوا بين المتمسكين بحق الولاية في الحرية والراغبين ~~في الاتحاد، ولما صار هذا الاتحاد حقيقة قائمة أصبح هم كل رئيس المحافظة عليه وتدعيمه ~~ومقاومة كل ما من شأنه إضعافه أو فصم عروته؛ وذلك لأنه لم تتم له حقيقته إلا بعد عواصف هوج ~~كادت تأتي عليه؛ ففي بعض المدن ألفت مظاهرات وحدثت اضطرابات بسبب العداء لدستور الاتحاد، ~~ورفضت بعض الولايات الاعتراف به، وتمهلت بعض الولايات حتى ترى مدى نجاحه، وظل هذا الحال حتى ~~تغلبت الحكمة، وانتصر القائلون بالاتحاد، وكان لشخصية وشنطون بطل الاستقلال أثر بعيد في ~~إدراك النجاح. # | فتى الغابة # شمر توماس لنكولن عن ساعديه، وأهوى بفأسه على الأشجار يقطعها ويشقها ويسوي فروعها، حتى تم ~~له إعداد ما يلزم من الأخشاب لإقامة كوخ تأوي إليه الأسرة، ثم دعا إليه بعض جيرانه ليساعدوه ~~على رفع تلك الأخشاب وقد شدت بعضها إلى بعض، وكان رفع الأخشاب «عملية» يدعى إليها الجيران ~~فيلبون في سرور وإخلاص؛ إذ قلما كانت تتاح لهم الفرصة لمثل هذا الاجتماع؛ ولذلك كان يجري في ~~أمثاله من فنون اللهو والمزاح ومن ضروب اللعب والتندر بقدر ما يكون فيه من نصب ~~ومشقة. # وكانت الحياة هنا في إنديانا أسهل منها في كنطكي؛ إذ كانت الحيوانات موفورة في الغابة لمن ~~يطلب الصيد، ولكن مثل هذه المعيشة كانت مع ذلك بعيدة كل البعد عن أسباب الراحة إذا قيست إلى ~~معيشة المدن، وحسبك أن الملابس كانت ما تزال تتخذ من جلود الحيوانات إلا في بعض الأحيان؛ ~~حيث كان يغزل الصوف وينسج في الأكواخ، وحسبك أن المساكن كانت هاتيك الأكواخ الحقيرة، وأن ~~تلك الأصقاع كانت تفتقر إلى سبل المواصلات وإلى مظاهر العمران من متاجر أو دور تعليم أو دور ~~استشفاء، إلا ما كان منها في أبسط حالاته. # على أن الصبي كان مغتبطا ببيته الجديد في إنديانا؛ فقد كان أوسع من ذلك الذي درج فيه ~~بكنطكي، وكان له ولأخته سرير من الخشب في ركن منه، عليه حشية من الجلد ملئت بالريش ms016 وورق ~~الشجر، وكانت به بعض المناضد وبعض المقاعد. # وكان الصبي يأنس بكثرة الجيران هنا، ويرى الحياة أكثر نشاطا وأوسع مجالا، ولقد جاء بعض ~~ذوي قرباه، فأقاموا معهم حيث كانوا يقيمون، وكان معهم شاب تبنوه في نحو الثامنة ~~عشرة. # وكان كل امرئ يؤدي نصيبه من العمل لم يتخلف عن ذلك حتى الصغار؛ فهذا «أيب»، وكان على ~~نحافته غلاما قوي الساعدين، يبذر الحب في الربيع، ويشترك في الحصاد وقت الصيف، ويطعم ~~الخنازير ويحلب الأبقار أكثر الأيام، ويتعهد سور المزرعة بالإصلاح إذا أمالت جوانبه ~~الحيوانات، ثم إنه إلى جانب ذلك قد بدأ يعاون أباه في أعمال النجارة. وهذه أخته سارا تعاون ~~أمها فيما لا يحسنه أيب من شئون البيت. # وظل هذا حال تلك العشيرة مدة عامين، ولكن الزمن القاسي يأبى إلا أن تنتابهم حمى مروعة ~~ناءت بالناس والدواب، وحار في أمرها الكبار والصغار، وهم لن يجدوا طبيبا إلا أن يقطعوا ~~نيفا وثلاثين ميلا على الأقل، وهل كانوا يستطيعون أن ينتقلوا بضع خطوات؟ لقد هدهم ~~المرض؛ فرقدت الأم، ورقد كثير من الجيران وبعض ذوي القربى، ومات جده لأبيه وجدته لأمه، ثم ~~حم القضاء فماتت الأم! ورزئ أيب بأقوى صدمة من صدمات الأيام، وأي صدمه! لقد ضاقت في وجهه ~~الدنيا، وأحس الغلام معنى اليتم إحساسا قويا، وقد زاد وقعه في نفسه ما فطر عليه من عمق ~~الخيال واشتداد العاطفة، لقد طالما وقف إلى جوار سرير أمه المحتضرة ينظر إلى الدموع تتساتل ~~على وجه أبيه المصفار، وقد أنهكته كثرة أعماله في تلك الأيام، فضلا عن حزنه؛ إذ كان يقضي ~~كل يوم معظم نهاره في تسوية توابيت من الخشب لمن تطوي أعمارهم الحمى، ولما أخذ يعد تابوتا ~~لزوجته، وقف ابنه يساعده شارد اللب، في محياه وفي نظراته اليتم والبؤس. ولقد ظل الصبي هناك ~~أمام تلك البقعة من الأرض التي دفنت تحتها أمه حتى تناوحت من حوله رياح المساء، ومشت في ~~الأفق ظلال الطفل، وسكتت العصافير على الشجيرات القريبة، فذرفت عيناه سخين الدمع، وعاد وحده ~~إلى الكوخ كسير ms017 القلب موجوع النفس، يحس أنه غريب في هذا الوجود الواسع وهو يومئذ في ~~العاشرة من عمره. # أصبحت سارا الصغيرة ربة الأسرة بعد موت أمها، وكانت سارا في الثانية عشرة من عمرها، فأخذت ~~تخدم أباها وأخاها فيما يلزم لهما من شئون البيت، والرجل وابنه يحسان الوحشة كلما أويا إلى ~~الكوخ من عملهما في الغابة أو في المزرعة؛ فلا الرجل ملاق نظرة الحنان والعطف ولا ابتسامة ~~الشكر التي كانت بالأمس تضيء جوانب نفسه، وتهون عليه متاعب عمله، ولا الصبي واجد من يفتح له ~~ذراعيه ويضمه إلى صدره، كما كانت تفعل أمه حين كانت تستقبله وتقبل جبينه وتنعته بالرجل ~~الصغير وتشير مغتبطة إلى مستقبله. # ولم يطق الرجل صبرا على هذه المعيشة وقد مضى على وفاة زوجه عام، فرحل عن المقاطعة قائلا ~~إنه قد يغيب أياما، ولكنه على أي حال لن يطيل إلا مضطرا. # غاب الأب أياما، فما أحس الصبي لغيابه وحشة كما أحس لغياب أمه، أكان ذلك لأن غياب أبيه ~~كان إلى حين وكانت إلى الأبد غيبة أمه؟! على أنه يحس دائما لغيبة أمه في أعماق نفسه حزنا ~~لن يفتر على الأيام، حزنا دفينا يمس خواطره جميعا من بعيد؛ مسا هينا مرة ومسا شديدا ~~مرات، وسيبقى هذا الحزن الهادئ الدفين في أعماق نفسه لا تنقص الأعوام منه شيئا. # وإنه ليسمع همسا حوله أن أباه ما غاب إلا ليعود بزوج أخرى غير أمه، فيستعيد الصبي ما ~~سمعه من قبل عن امرأة الأب وما يكون في قلبها من قسوة على غير بنيها، وهل له أن يلوذ بعطف ~~أبيه، وإنه ليحس منذ وفاة أمه كلما خشن عليه إحساسا لم يكن يداخله من قبل؟! فإن نظرة عطف ~~أو كلمة حنان من أمه كانت تذهب بخشونة أبيه جميعا. # ما باله تتنازعه الهواجس، ويتحرك الحزن في أعماق نفسه؟ وما بال تلك الغابة المحيطة به ~~تملأ اليوم خاطره بصور ينكرها خياله وإن ارتاحت إليها نفسه الحزينة؟ # أكان ذلك إرهاص نفس شاعرة؟ إنه ليميد سمعه نحو الغابة إذا جنه الليل، فينصت ms018 إلى زئير ~~الوحوش وصراخها وإلى تناوح الريح وصفيرها وإلى هدير الأمواه في الغدران المنحدرة وخريرها، ~~ثم إلى تلك الخشخشة القوية التي تشبه الصوت المنبعث من البحر، تحدثها الأشجار إذ تعصف بها ~~الرياح العاتية، وإنه ليميد خياله نحو الغابة، فيصور لنفسه ما تزدحم به ألفافها من وحوش ~~وهنود وزواحف وأطيار وخلائق أخرى يتحدث عنها الناس حديثا مبهما، وإنه ليخرج من هذا كله ~~بمثل ما يخرج به راكب البحر أو جائب البيد من الشعور بضآلة الإنسان أمام عظمة الخالق، ثم ~~بالإذعان والضراعة والاستسلام. # عاد توماس لنكولن في عربة يجرها أربعة من الجياد القوية الممتلئة، ونزلت من العربة سيدة ~~يذكر الصبي أنه رآها في كنطكي، ونزل منها غلام وبنتان، وكانت السيدة هي زوج أبيه! ودهش أيب ~~لما رأى من متاع جديد؛ فقد رأى سررا حقيقية وكراسي وخوانا ومائدة ومدى وآنية، وأشياء ~~غيرها مما لم تقع عليه عينه من قبل بين جدران الكوخ، وسرعان ما كون الصغار رفقة تربط بينها ~~المودة والمحبة، وكانت إحدى البنتين القادمتين تدعى «سارا» ففرح بذلك أيب وفرحت أخته سارا، ~~وما لبثا أن علما أن ربة البيت الجديدة تدعى كذلك «سارا»، فكان لاسمها وقع طيب في نفسيهما ~~الصغيرتين. # وما لبث أيب وأخته أن رأيا في زوج أبيهما امرأة صالحة طيبة القلب رقيقة العاطفة حلوة ~~الشمائل ذكية الفؤاد نشطة دءوبا، تسهر على راحتهم جميعا، وتعنى بشئون الدار كلها في غير ~~تبرم أو كلال، وزادها محبة في نفس أيب أن رآها، فوق ما أولته من عطف، تميل إلى تعليمه ~~وإلى تعليم الصغار جميعا، وقد سمعها تجادل زوجها في ذلك، وتصر على أن يذهبوا عصبة إلى ~~المدرسة، وما زالت به تقنعه، وقد كان في بداوته يقدم الفأس على القلم، ويضن بابنه وقد رأى ~~قوة ساعديه ومهارة يده أن يرسله إلى المدرسة، وهو أحوج ما يكون إلى عونه، وقد تغلب رأيها ~~آخر الأمر، وسار الأولاد إلى المدرسة وكانت على مسافة ميل ونصف ميل من كوخهم. # وما كان أعظم فرحة الصبي بالذهاب إلى المدرسة! فلقد ms019 كان شديد الرغبة في تعلم القراءة، ~~وكانت تتأجج في نفسه تلك الرغبة كلما رأى واعظا يمر بهم أو أحد ماسحي الأرض أو رجلا من ~~المشتغلين بالقانون والمحاماة، وكان يتساءل بينه وبين نفسه لم لا يكون كهؤلاء الذين يقرءون ~~ويكتبون. # وأقبل الصبي على تعلم الكتابة والقراءة إقبالا لم يعهد مثله في نظرائه، ولقد كان يعمد ~~إلى قطع الفحم كلما عاد إلى الكوخ، فيكتب بها على غطاء صندوق من الخشب تارة، أو على ظهر ~~محرك الموقد تارة أخرى! وكان يكرر ذلك في غير ملل مع صعوبة الكتابة بالفحم على مثل تلك ~~الأشياء، وأنى له المداد والورق إلا ما ندر من قصاصات رديئة كان يضن بها على التمرن، فلا ~~يخط عليها إلا ما أحسن كتابته على الخشب، وهكذا تعود الصبي أن ينفي عبارته من الحشو، وأن ~~يفكر مليا قبل أن يكتب كي لا يثبت على الورق إلا ما تطمئن نفسه إليه. # ولم تشغله سعادته التي يجدها في التعلم عن ذكرى أمه، وكانت عادة القوم في تلك الأصقاع أن ~~يقيموا حفلا دينيا لكل ميت خلال العام التالي لعام وفاته، فهل يفوت الصبي إقامة هذا ~~الحفل؟! كلا؛ فما تغيب عن قلبه ذكرى أمه الحبيبة، وإن كان ليرى أباه في شغل عنها، وإن ~~انشغال أبيه عن تلك الذكرى ليوجع نفسه، ولكنه يزيده تعلقا بها ورغبة في إحيائها. # حار الصبي أول الأمر ماذا يفعل، ولكن فيم الحيرة؟ أوليس يستطيع اليوم أن يكتب؟! فليتناول ~~ورقة وليكتب إلى رجل من رجال الدين يعرفه في كنطكي، وأكبر الظن أن الرجل لن يحجم عن الحضور؛ ~~فإنه طيب القلب، ولقد كان كثير العطف على أهل لنكولن، وعلى الأخص ربة الدار، وهكذا كتب ~~الصبي أولى رسائله. # وأشد ما أثلج فؤاده أن جاءه رد ذلك الرجل الصالح ينبئه أنه ملب دعوته عند أول فرصة يدنو ~~به فيها عمله من إنديانا، وسنحت الفرصة المرتقبة بعد أيام، وحل بصقعهم ذلك الرجل الصالح، ~~وقد قطع في سفره إليهم ما يربو على المائة ميل. # وتلقاه أيب ودموع الشكر ms020 والفرح في مقلتيه، وأذيع النبأ في الجيرة، وحدد يوم لذلك ~~الحفل. # وفي صباح اليوم المحدد تجمع على مقربة من قبر أمه نحو مائتين من ساكني الأكواخ المتناثرة ~~في تلك الجهة، والتفتت أعين الجمع إلى حيث يقوم كوخ توماس لنكولن، فإذا برجل الدين يمشي ~~مشية الصالحين الأتقياء، ووراءه توماس لنكولن يتبعهما أيب ثم أخته سارا وبعض الجيرة ~~الأقربين، وسلم الرجل وترحم على الميتة ودعا لها الله، وكانت كلماته بردا وسلاما على ~~قلب الغلام، وأحس بعدها كأنما طرح عن قلبه عبئا كان يئوده ويؤلمه، وصار يشفي نفسه كلما ~~ذكر أمه ما قاله القس عن شمائلها وما دعا لها به الله من دعاء. # وستنصرم بعد ذلك الأعوام وهو لا ينسى ذلك الصباح، ولا ينسى ذلك القس الرحيم ولا كلماته ~~الطيبات التي التأمت بها جراحات قلبه الصغير. # | بين الفأس والكتاب! # ازداد إقبال الغلام على القراءة، ولكن أباه لا يهش لذلك ولا يأبه له، بل إنه ليقطع عليه ~~أكثر الأحيان قراءته، فيستصحبه إلى الغابة ليعاونه فيما يراه أجدى على الأسرة من عمل، وهو ~~يرى فيه الآن، وقد ناهز الرابعة عشرة، خير عون له؛ إذ كان الفتى حاذقا قويا تحمل قوته ~~على العجب، ما رأى الجيران مثلها فيمن كان في مثل عمره، ورأى فيه أبوه فوق ذلك قدرة على ~~الرماية تجلت له في حادثة واحدة، ولكنها كانت مقنعة؛ وذلك أنه تناول البندقية ذات يوم ~~وصوبها نحو فرخ بري فأصابه في مهارة وخفة، على أن الفتى قد امتلأ رعبا وندم على ما فعل، ~~وعافت نفسه مثل هذه القسوة؛ فما رآه أحد بعدها يصوب سلاحا إلى مخلوق. # وما كان إذعان أبراهام لأبيه إذ دعاه ليصرفه عما مالت إليه نفسه، فإنه ليختلس الساعات ~~فيكتب ويقرأ تحدوه اللذة وتدفعه، حتى أصبح قادرا على تناول الكتب، وكان أول ما تناوله من ~~الكتب الإنجيل، ثم خرافات إيسوب وروبنسن كروزو ورحلة الحاج، وكم كان لهذه الكتب من أثر في ~~خياله ووجدانه! وذلك لأن نفسه أخذت تتفتح للحياة تفتح الزهرة للربيع، وتاقت تلك النفس ms021 ~~الزكية إلى تاريخ العظماء، فقرأ حياة هنري كليي وحياة فرانكلن وحياة وشنطون بطل الحرية ~~وزعيم الاستقلال، ولقد أعجب كل الإعجاب بسيرة هذا الزعيم العظيم، وبات مسحورا بما طالع من ~~مواقفه في حرب الاستقلال وبما كان في تلك الحرب من بطولة. # ومالت نفسه إلى تفهم أسرار الحياة وهو بعد في السادسة عشرة، فكان يطيل التفكر والتأمل، ~~وإن كان مسرح الحياة حوله غير حافل بما يثير العجب، على أن في الكتب من دواعي التفكر والنظر ~~شيئا ليس بالقليل. # ووقعت في يده ذات يوم جريدة قديمة كان قد لف بها بعض المتاع، فقرأ فيها ما تعجب له ولم ~~يفهمه حق الفهم! فما تلك الانتخابات؟ وما مسألة العبيد وأهل الجنوب؟ إنه ليسمع أشياء كهذه ~~في الكنيسة أحيانا وفي أحاديث الجيران أحيانا فيعجب بينه وبين نفسه! فمتى يستطيع أن يعرف ~~كنه هذه الأشياء على وجه اليقين؟ وأعجب ما قرأه في تلك الصحيفة القديمة هو أن أندرو جاكسون ~~على وشك أن يظفر برياسة الولايات المتحدة، وهو رجل من عامة الناس تحدى الأقوياء الأغنياء من ~~منافسيه فما استطاعوا أن يهزموه! # وكان للفتى نظرة نافذة إلى أعماق الأشياء، لا ينصرف عما يقرأ حتى يتعمقه تعمقا عجيبا، ~~ولا يدع مسألة حتى يفهمها حق الفهم. وكان إلى رجاحة عقله ذا نفس تنفعل بطبيعة تكوينها ~~للجمال والحق وتنفر من الأذى والشر، لو رآه خبير بطباع البشر يومئذ لظن أنه حيال شاعر تنبسط ~~جوانب نفسه، وتتهيأ روحه لرسالة من الرسالات، ولقد كان أبراهام يكتب الشعر فعلا يومئذ ~~ويقرؤه على خلانه، وصارت للشاعر بيرنز منزلة في نفسه لا تسمو عليها غير منزلة شكسبير، ~~ولقد كان يكرر ما يعجبه ويكتبه في سجل ويعاود النظر فيه، وعرف ذلك عنه منذ تعلم القراءة، ~~فاستوى له من ذلك قدر من بليغ الكلام، تأثرت به نفسه واستقام به لسانه. # هو الآن يتخطى السادسة عشرة، طويل الجسم، مديد القامة، عريض الصدر، تستوقف الأبصار ~~نحافته كما يستوقفها طوله، ولكنه على نحافته قوي البدن، بلغ من القوة ما لم يبلغه من ms022 كان ~~في مثل سنه، وكأنما تجمعت تلك القوة في ساعده، فليست هناك دوحة تستعصي عليه إذا هو أهوى ~~عليها بفأسه، بذ أباه في قطع الأشجار وتسوية الأخشاب، وغالب أقرانه في الغابة حتى سلموا ~~بتفوقه مكرهين! # كانت هيئته وحشية بسبب شعره الأشعث المغبر ~~وهندامه الساذج المتهدل، وتقاطيع وجهه المسنون الذي يبرز فيه الأنف بروزا شديدا حتى ليبدو ~~أضخم من حقيقته، ولقد وصفه أبوه فقال: «إنه يبدو كقطعة من الخشب لم تسوها الفأس ولم ~~تمسحها الممسحة.» ولذلك ما كان أبراهام يطمع وهو في سن التظرف والأحلام أن تنظر إليه فتاة ~~نظرة تعلق أو فتنة، وهل كان يتجه خياله إلى شيء من هذا؟ ذلك ما لم يظهر عليه دليل حتى ذلك ~~اليوم. # وكان الفتى على قوة جسمه مضرب المثل في دماثة الخلق وعفة اليد واللسان، وكان موضع حديث ~~القوم في أمانته وسمو أدبه. تحدثت عنه زوج أبيه مرة فقالت: «لم يوجه إلي مرة كلمة نابية، ~~أو نظرة جافة، ولم يعص لي أمرا قط، سواء في ذلك مظهره وحقيقة أمره.» وكان يكره الكذب أشد ~~الكره، كما كان صريحا لا يعرف الالتواء والنفاق في أعماله أو في أقواله، كما كان يحب أن ~~ينتصف من نفسه بنفسه. # روي عنه أنه استعار كتابا عن وشنطون لمؤلف غير الذي قرأ له قبل ذلك حياة ذلك العظيم، ~~وكان من عادته أن يقرأ بقية النهار خلف الكوخ متى عاد من الغابة، فإذا نزل الليل قرأ إلى ~~جانب الموقد يثير لهبه بين آونة وآونة؛ فإن زوج أبيه تحتفظ بالشمع لليالي الآحاد، فبينا ~~كان يقرأ ذلك الكتاب ذات ليلة إذ هبطت نار الموقد فوضعه في شق بين كتل الكوخ وذهب فنام، ~~فلما أصبح وجد المطر قد بلل الكتاب، فاشتد أسفه وحمله إلى صاحبه وهو لا يقوى على الوقوف ~~أمامه من شدة الخجل، ولا يدري كيف يعتذر إليه! ثم بدا له فعرض على صاحب الكتاب أن يأخذ ~~ثمنه، وسأله عن الثمن واقترح عليه في مقابله أن يأجره الرجل ثلاثة أيام في عمل من ms023 أعمال ~~زراعته! وقد تم له ذلك فطابت به نفسه وزاده غبطة أن قد أصبح الكتاب ملكا له. # وإن أقرانه ليلاحظون عليه شيئا من الشذوذ يومئذ؛ فهو يلقي فأسه أحيانا أثناء العمل في ~~الغابة ويخرج من جيبه كتابا ويقرأ في جهر كما يفعل الخطيب، وهو يضحك أحيانا بلا سبب ~~ظاهر، وقد يعلو في ضحكه ويغلو فيه كل الغلو، مبتدئا بابتسامة ومنتهيا بقهقهة ~~طويلة. # وهو على رقة عاطفته وكرهه للقسوة يؤدي للجيران إذا دعوه أعمال الجزارة، فيقذ الخنازير في ~~جرأة وسرعة ويسلخها ويقطعها كأنه أحد مهرة الجزارين! # وبينا يرى الناس ذلك منه يجدونه يمد يد المساعدة للضعفاء والبائسين؛ لقي وهو في طريقه مع ~~رفيق له رجلا ألقاه جواده وقد ذهبت بلبه الخمر، فما زال به يوقظه وينهضه وهو لا يفيق ولا ~~ينهض، فتبرم رفيقه، فعاتبه أبراهام قائلا إنه لا يستطيع أن يترك الرجل فريسة للبرد، ثم ~~حمله على ظهره حتى أدخله كنه وأقام إلى جانبه ردحا من الليل. # وسمعه الناس مرارا يعلن عطفه على الهنود الحمر، قائلا إنهم هم أصحاب تلك الأرض وإنهم ~~أخرجوا قسرا من ديارهم؛ فهم لذلك جديرون بالعطف والمرحمة. # ولم يقتصر على الإنسان عطفه؛ فقد أظهر أكثر من مرة الرأفة بالحيوان؛ فمن ذلك أنه وقف ذات ~~يوم ينقذ كلبا وقع في الثلج وقد ناله من جراء ذلك تعب عظيم، ومنه أنه رأى بعض خلانه يلعبون ~~بسلحفاة أوقدوا على ظهرها نارا فعنفهم حتى أطلقوها، وذهب فكتب من فوره في الرفق بالحيوان، ~~وقرأ ما كتب على من صادف من الجيران. # وكان على احتشامه وجده يحب كثيرا من ضروب اللعب؛ كالمصارعة ومسابقة العدو، كما كان ~~يشهد الاجتماعات التي تنتظم عددا كبيرا من الجيرة؛ كحفلات الأعراس وسباق الخيل وأضرابها. ~~ولقد كان يبدو فيها مرحا ضحوكا يطفر من جذل وحيوية، فهل كان منقادا لوعيه الباطن فهو ~~يحاول أن يغيب في هاتيك الأفراح ما يهمس في نفسه من هم؟ أم أن حبه لتلك الطبقة التي ينتمي ~~إليها من عامة الناس هو الذي كان يحبب إليه ms024 الاجتماع بهم وإيناس نفسه الحزينة بلقائهم؟ الحق ~~أن مرد ذلك إلى السببين معا، ثم إلى عاطفة الشباب التي يشاركه فيها كل شاب، ولقد كان ~~الفتى محببا إلى أقرانه، يلتفون حوله ويصغون إليه، ولا يكمل له سرور إلا إذا كان بينهم، ~~وإنهم ليحسون كلما تحدث إليهم توثب روحه وعذوبة نفسه، ويشعرون شعورا خفيا أنهم جميعا ~~دونه في كل شيء إن جدوا وإن لعبوا. وكان على مرحه وفتوته يكره أن يسف؛ فما يكاد يذكر أحد ~~أنه رآه يشرب الخمر أو يتناول شيئا من تلك الحشائش المخدرة التي يتناولها الناس، وما رأى ~~أحد منه سفها أو تبجحا أو استهانة بشخصه أو استهتارا بغيره؛ فلقد كان يعرض عن شطط غيره ~~أو سفهه ولا يحب أن يؤلم أحدا. # وكانت لا تلبث الهواجس أن تملأ فؤاده إذا خلا إلى نفسه بعد مرح أو لعب، وتأبى الأيام إلا ~~أن تزيد دواعي حزنه؛ فلقد تزوجت أخته الحبيبة «سارا» شابا من أسرة قريبة، فرأى أبراهام ~~زوجها يدل عليها وعلى أسرتها بثروته، ثم رأى أنه وأهله يكلفونها أعمال الخدم، ولقد صبر ~~الفتى على مضض وإن نفسه لتنطوي على ثورة، وإنه ليحس لأول مرة إحساسا لم يألفه طبعه؛ وذلك ~~هو النزوع إلى الشر، ولكن عاطفة الخير تتغلب على نزوعه، فيصبر منطويا على حزن جديد. # وتموت أخته الحبيبة وهي في فراش الوضع، ويتهامس الناس أنها ماتت مرهقة لم تمهل حتى تسترد ~~عافيتها، ويمتلئ قلب الفتى بالضغن والشر كما يمتلئ بالألم والحزن، ويحس أن قد حان الوقت ~~ليكايل هؤلاء القوم صاعا بصاع. # وكأن إحساسه باليتم يزداد في نفسه بموت أخته، وإلا فما باله ولم يعد بعد طفلا يشعر مرة ~~أخرى شعورا قويا بالوحدة والوحشة، كأنما كان يرى في سارا أمه وأخته معا. # ويتعود الفتى حمل الآلام، ويحمل على الصبر نفسه وتستقر الأشجان في أعماق تلك النفس ~~استقرارا، ولكن ذلك الشر ينطوي على جانب من الخير أو هو يبتعث ما في نفسه من خير، فإن ~~شعوره بالرحمة والرأفة والحدب على المنكوبين يقوى في نفسه ms025 ولا تزيده الآلام إلا قوة ~~وتمكنا. # وهو ينفس عن نفسه بمطالعة الشعر ونظمه، ينفق في ذلك الساعات، فيخرج منها وقد سرى عنه ~~بعض الشيء، ولكن كما يسري النغم الحزين عن النفس الحزينة! # وزاد ضغنه على تلك الأسرة التي ماتت فيها أخته أنهم لم يدعوه إلى حفلة عرس أقاموها لأخوين ~~من شباب الأسرة كانا يتزوجان، فهو وإن لم يكن يودهم يجد في عدم دعوتهم إياه إهانة ساء وقعها ~~في نفسه؛ لذلك عول على الثأر؛ فأتى أمرا كم ندم عليه فيما بعد فما ذكره إلا تلون ~~وجهه! # وذلك أنه استأجر من نقل خفية سريري العروسين كلا منهما إلى حجرة الأخرى، وقصدت كل ~~عروس إلى سريرها، فلما زف الزوجان كل إلى حجرته والخمر تلعب برأسيهما ورءوس أهلهما، نام كل ~~منهما إلى جوار عروس أخيه، حتى أقبلت أمهما فتداركت الأمر في آخر لحظة، وجعل أبراهام هذا ~~الخطأ موضوع قصة فكاهية تهكمية كتبها وألقاها في كوخ أحد العروسين، وسرعان ما فشى في الناس ~~أمرها واشتد إعجابهم ببراعة كاتبها وقوة فنه، وهكذا يثأر الفتى أول ثأر بقلمه لا ~~بساعده. # وما كان لمثله أن يثأر إلا بقلمه ولسانه، وأن يناضل إلا بقلمه ولسانه، فهو يربأ بنفسه أن ~~يفعل ما يفعله غير المهذبين، وإن له من قوة ذلك اللسان ما يستغني به عن قوة ساعده ~~وبدنه. # وإنه ليحس في نفسه الميل إلى الدفاع عن المستضعفين، ويحس بتزايد هذا الإحساس يوما بعد ~~يوم، وخير ما كان يمني به نفسه يومئذ أن يكون محاميا يدفع الظلم عن المظلومين. # قصد ذات يوم إلى جلسة قضائية في بلد قريب ليتفرج، ~~وكان هذا أول خروج له من بيئة الأكواخ والأحراج البرية، وقد أعجب في هذه الجلسة بدفاع أحد ~~المحامين إعجابا شديدا، حمله على أن يتقدم إلى ذلك المحامي مهنئا، فاقتحمته عين المحامي ~~وازدراه وهو لا يدري أنه يزدري رئيس الولايات المتحدة في غد! ولقد التقى ذلك المحامي ~~بالرئيس لنكولن بعد ذلك في البيت الأبيض، فذكره الرئيس الذي لا ينسى بدفاعه المجيد ولكنه ~~لم ms026 يذكر منه شيئا! # عاد أبراهام إلى كوخه وفي نفسه الإعجاب بالمحاماة وبشخص ذلك المحامي البليغ المتمكن من ~~قضيته وأوجه حقه، وإن كان ليخالجه شعور المضض من كبريائه، وكم أمضه قبل ذلك ما رأى من ~~تفاوت بين الطبقات لا تقره نفسه لأنه لا يقره عقل! # وكم رآه الناس بعد ذلك ينتصب خطيبا فيهم كلما أحس في نفسه رغبة إلى أن يتحدث إليهم! وكم ~~سحرهم بيانه وأعجبتهم حماسته! إلا والده؛ فقد كان يضيق منه بذلك كما كان يضيق منه بالقراءة ~~والانصراف عن معونته في الغابة. قال مرة في تململ وهو ينظر إليه يخطب الناس: «أكلما وقف أيب ~~أقبل عليه الناس جماعات يسمعونه؟!» # وإنه في خطبه مثله في قراءته، يحسن فهم ما يتحدث عنه فيحسن الإبانة عنه والإقناع به، ~~ولسوف تلازمه هذه الصفة ما عاش، قال مرة يخاطب أحد مرءوسيه في البيت الأبيض، وقد راح ذلك ~~المرءوس يقص عليه نبأ حادثة لم يحسن فهمها: «إن هناك أمرا واحدا تعلمته ولم تتعلمه، وإنه ~~لينحصر في كلمة؛ تلك هي «الإحاطة».» ثم ضرب الرئيس المنضدة بقبضته يؤكد الكلمة ويكررها ~~قائلا: «الإحاطة!» # وتاقت نفس الفتى إلى دراسة القانون، ولكن أنى له المال الذي يشتري به الكتب؟ أنى له ~~المال في تلك الجهة وهو لا يكاد يراه رأي العين؟ # ثم إنه ليشعر شعورا قويا برغبته في أن يرفع قيمة نفسه، فماذا هو فاعل؟ أيبقى في ~~الغابة؟ وماذا في الغابة غير النجارة؟ ومتى كانت النجارة سبيل من يطمح؟ على أنه كان في ~~طموحه متأثرا بثقته في نفسه أكثر مما يتأثر بتلك الأحلام التي تطوف بقلوب الشباب في مثل ~~تلك السن، ومن العجب حقا أن يداخله الطموح في تلك البيئة وهو النجار ابن النجار الذي يعرف ~~القليل عن جده لأبيه، وقد كان كذلك قاطع أخشاب، ولا يعرف شيئا عن جده لأمه! # أيبقى مع أبيه في الغابة؟ وإذا ترك الغابة فأي سبيل يتخذ؟ ذلك ما كان يحيره أشد الحيرة ~~وهو يهدف للثامنة عشرة. # وفكر ذات يوم أن يتجر، فصنع بفأسه قاربا ms027 وملأه بأشياء تافهة جمعها من الغابة، وظن أنها ~~مما يباع في الأسواق، وسبح بقاربه إلى بلدة قريبة ولكنه باع ما فيه بثمن زهيد، بيد أنه حدث ~~أثناء رجوعه أن حمل في قاربه رجلين ومتاعهما من الشاطئ إلى حيث أدركا قاربا بخاريا في ~~عرض النهر، وما كان أعظم دهشته إذ ألقى إليه كل منهما بقطعة من الفضة تساوي نصف ريال! وما ~~كان أشد فرحته بذلك! أشار إلى ذلك الحادث يوما وهو في منصب الرياسة يخاطب صديقه ووزيره ~~سيوارد فقال: «إني لم أكد أصدق عيني، ربما رأيت ذلك يا صديقي أمرا تافها، أما أنا ~~فأعده أهم حادث في حياتي. لقد كان من العسير علي أن أصدق أني أنا ذلك الفتى الفقير قد ~~كسبت ريالا في أقل من يوم، لقد اتسعت الدنيا أمام ناظري، وتبدت لي أكثر جمالا، وازداد ~~أملي كما ازدادت تقى نفسي منذ تلك اللحظة.» # | رحلتان إلى عالم المدنية # ما كانت الفاقة لتعوق ابن الأحراج عما كانت تتوق نفسه إليه، وهيهات أن تركن النفس الكبيرة ~~إلى دعة أو ترضى بمسكنة. ها هو ذا فتى الغابة في التاسعة عشرة لا يذكر أنه منذ قوي على حمل ~~الفأس كان كلا على أحد، بنى نفسه بنفسه كأحسن ما تبنى النفوس، غذاء جسده من قوة ساعده ~~وغذاء روحه من توقد ذهنه وبعد همته. # ساقت إليه الأقدار عملا خرج به من الغابة، وقضى أياما في دنيا الحضارة؛ فلقد استأجره ~~أحد ذوي الثراء، وقد تناهى إليه من حديثه ما حببه إليه، ليذهب ببضاعة له في قارب إلى حيث ~~يبيعها في مدينة نيو أورليانز، وقبل الفتى وإن قلبه ليخفق، وإن نفسه لتنازعها عوامل ~~الخوف والأمل، ولم لا يخاف وهو لم يرحل مثل تلك الرحلة الطويلة من قبل، ولا عهد له بالمدن ~~وعشيتها وأهلها؟! ولكنه قبل وتأهب للرحيل، وما كان حب المال هو الذي حفزه إلى القبول، ولكن ~~رغبته الشديدة في رؤية الدنيا، وهو - كما رأينا - تواق إلى المعرفة لهج برؤية الحياة في ~~بيئة غير بيئة الأحراج. # وخرج معه ms028 فتى من أهل تلك الجهة ليعاونه، واتخذا سبيلهما في نهر الأهايو، ومنه إلى ذلك ~~النهر العظيم المسيسبي أبي الأمواه كما كان يدعى حتى بلغا مدينة نيو أورليانز بعد أن قطعا ~~زهاء ثمانمائة وألف ميل، رأيا خلالها على الضفتين حيوانات وأشجارا وأناسا تخالف ما ألفا ~~في إقليمهما. # وكانا أثناء رحلتهما يأويان إلى الشاطئ أثناء الليل على مقربة من القرى، فيصغى أيب إلى ~~أحاديث الناس ونوادرهم، وتختزن ذاكرته العجيبة تلك الأحاديث ويستخرج منها من المعاني ما ~~يفسر له بعض آرائه، أو ما يكون موضوعا لرأي جديد. # وظل صاحبه زمنا طويلا وهو لا ينسى شجاعة أيب في حادث وقع لهما ذات ليلة؛ فقد أويا إلى ~~الشاطئ على مقربة من مزرعة من مزارع قصب السكر، فبينما كانا نائمين في قاربهما إذا بهما ~~يستيقظان على حركة أيد تعبث ببضاعتهما، فهب أيب فإذا هو يرى زنجيا على حافة القارب ~~فعاجله أيب بضربة بالمجداف ألقت به في الماء، فوثب إليه آخر من الشاطئ فضربه كذلك فلحق ~~بالأول، وجاء ثالث فكان نصيبه نصيب سابقيه، ورابع فما كان أحسن حظا، وخامس فلقي أسوأ مما ~~لقوا، ثم فروا جميعا فتعقبهم أيب وصاحبه فإذا بهما حيال سبعة من الزنوج، واشتدت المعركة ~~بين الجانبين حتى هزم هؤلاء السود ولاذوا بالمزرعة، وعاد أيب ورفيقه إلى القارب ولكنه أصيب ~~بجرح فوق عينه اليسرى سيظل أثره هناك طيلة حياته. # بلغ أبراهام وصاحبه مدينة نيو أورليانز، فها هو ذا يرى مدينة كبيرة لأول مرة! وأية مدينة ~~هي؟ إنه يرى في الميناء من المراكب الضخمة المحملة بالبضائع ما لم تقع على مثله عينه من ~~قبل، وإنه ليرى شوارع فسيحة وقصورا عالية وأنماطا من المركبات الفخمة وأفواجا من الرجال ~~والنسوة تبدو عليهم مظاهر النعمة والبهجة، ما هذه الدنيا العجيبة الصاخبة المزدحمة؟ ألا ما ~~أبعد حياة الغابة عن هذه الحياة! يا عجبا! هذه قضبان من الحديد تنساب عليها عربات تجرها ~~قاطرة، لقد سمع عن مثل هذا من قبل فها هو ذا يراه أمام ناظريه. # على أن شيئا يهمه ويأخذ ms029 بمجامع لبه أكثر مما تهمه تلك الأشياء جميعا؛ وذلك هو تلك ~~الجموع السود تساق أمامه كما تساق الدواب، ينتظم كل فريق منها أو كل قطيع سلك طويل، وإنه ~~ليدرك من نظراتهم ومن حركاتهم أنهم لم يألفوا بعد حياة المدينة، وأغلب الظن أنهم جلبوا ~~إليها لساعتهم، أهؤلاء هم الذين قرأ عنهم في بعض الجرائد القديمة، والذين سمع أحاديث عنهم ~~في الكنيسة من قبل؟ إلى أين يساقون؟ ومن أين جيء بهم؟ إنه ينظر فتقع عيناه على لافتات؛ فهذه ~~تعلن عن استعداد صاحبها لشراء العبيد بثمن طيب! وتلك عن بيع هؤلاء لحساب من يريد بيعهم! ~~وأخرى تعد بمبلغ مغر يدفع لمن يرد هاربا منهم أوصافه كيت وكيت! # إنه يريد أن يفهم أمر هؤلاء السود، ويحيط خبرا بتاريخهم وعملهم وحظهم من الحياة في هذه ~~المدينة الكبيرة، ولكنه في شغل بما جاء له عن هذا، فليترقب حتى تسنح فرصة أخرى. # باع بضاعته وباع القارب وعاد هو وصاحبه في قارب بخاري إلى الغابة بعد أن غاب عنها ثلاثة ~~أشهر، عاد وقد اكتسب عن الحياة خبرة تفوق ما أكسبته الكتب منها. ثم إنه ينال خمسة وعشرين ~~ريالا أجرا على عمله الذي أداه على خير وجه. ~~••• # لم يكد يمضي عام ونصف عام بعد عودته من رحلته حتى هاجرت الأسرة إلى مقاطعة أخرى هي مقاطعة ~~إلينوى؛ فلقد أرسل بعض ذوي القربى هناك يصفون ما في تلك المقاطعة من رغد وجمال، وهذا الرجل ~~توماس لنكولن لا يسمع عن رغد إلا طمع فيه لكثرة ما يعاني من شظف العيش، ذلك هو الذي رحل به ~~من كنطكي إلى إنديانا وهو الذي يرحل به اليوم من إنديانا إلى إلينوى، فما أسرع ما أجاب؛ باع ~~مزرعته، وباعت زوجه مزرعة كانت لها في كنطكي، وحزما متاع الأسرة، ووضعاه على ظهر عربة، وهم ~~في رحلتهم اليوم يعتمدون على قوة أيب؛ فلم يعد صغيرا يركب خلف أبيه كما فعل قبل أربعة عشر ~~عاما أثناء رحيلهم من كنطكي، وإنما هو اليوم شاب مكتمل القوة يسير على قدميه ويعنى ms030 ~~بالمتاع كما يعنى بقطيع الماشية الذي يأخذونه معهم إلى إنديانا في رحلة بلغت مائتي ميل ~~قطعوها في أسبوعين. # ويفكر الفتى في عمل مجد يعمله أثناء الطريق، وهل ثمة غير التجارة؟ أولم يحذقها في ~~رحلته إلى نيو أورليانز؟ لذلك يشتري الشاب بريالاته خيطا وإبرا ودبابيس ومشابك ونحوها، ~~ويبيع ذلك لساكني الأكواخ التي يمر بها، فما يبلغ الموطن الجديد إلا وقد ضوعف ماله، وهو ~~بذلك فرح شديد الفرح، يتذوق ثانية لذة الكسب ولذة الثقة في نفسه، ويسأل نفسه أي الطريقين ~~يختار ليعول نفسه وقد شارف الحادية والعشرين؛ أيظل نجارا زارعا، أم يترك ذلك إلى التجارة؟ ~~ولكن نفسه تحدثه بأشياء غير ذلك جميعا؛ فهو واثق من قدرته على الكلام، وليس ينقصه إلا ~~دراسة القانون ليكون محاميا ينتصف للمظلومين، فما أحب ذلك إليه! # ولكن ليودع ذلك الآن فإن عليه أن يبني الكوخ الجديد، وأن يسور المزرعة الجديدة، وأن يتعهد ~~أثناء ذلك الماشية، فما يجدر أن يلقى من تلك الأعباء على عاتق أبيه إلا بقدر ما ~~يطيق. # أهوى الفتى بفأسه على الأشجار في قوة تلفت الأعين إليه، وكان اليوم أقوى من أبيه ~~ساعدا وأكثر جلدا، وجعل يسوي الأخشاب وجه النهار، ويأتي بالثيران لتجرها إلى حيث يقام ~~الكوخ آخره، فلما تم له ذلك نشط في بناء الكوخ حتى أتمه كما شاءت زوج أبيه من نسق، فجاء ~~كوخا فسيحا مقسما تقسيما جميلا. # وعمد هو وابن عمه جون هانكس إلى مزرعة فأحاطاها بسور، وأقبلا على الزراعة في بقعة لم ~~تطأها قدم إنسان قبلهما ليوفرا للأسرة ما تتطلبه من قوت، وليس ثمة ما يضايقه إلا انصرافه عن ~~القراءة بسبب ما هو فيه من جهد متصل. # وإنه ليخشى أن يطول انصرافه عن القراءة؛ فها هي ذي شهرته في المقاطعة الجديدة تؤدي إلى ~~استئجاره في كثير من الأعمال، وهو يكره أن يرفض؛ لأنه يحب أن يجود بمعونته أبدا، ثم إنه ~~يكسب أجرا على ما يقوم من عمل، وعليه اليوم أن يكسب ثمن قوته وثمن ملابسه على ~~الأقل. # وإن حديث هذا الشاب ms031 وشجاعته ليشيع في الجيران حتى ليرغب كثيرون في رؤيته، وإن شخصيته ~~لتأسر كل من رآه؛ فالناس معجبون بقوته ومهارته ونجدته، وإنهم إلى ذلك يرتاحون منه إلى شمائل ~~أخرى يحسونها وإن لم يلتفتوا إلى التفكير فيها؛ فحديثه محبب إليهم لا يملونه، وإنه لذو ~~مقدرة فائقة على سرد الأقاصيص والنوادر، يتدفق في عذوبة وفصاحة وجذل، وإن كانت لتغشى جذله ~~أحيانا غواش من الحزن كما تغشى السحب السماء الصافية داكنة مرة، خفيفة مرة أخرى، ثم ~~لا تلبث السحب أن تنقشع فيعود لوجهه ضياؤه ولحديثه بهجته، وهو في كلا حاليه ساحر قوي السحر ~~بعيد الأثر في نفوس سامعيه. # وهو إذا فرغ من عمله، وقلما يفرغ، يكتب لهذا رسالة أو مظلمة، ويقرأ لذاك كتابا جاءه من ~~صديق أو قريب، ويعين غيرهما في زحمة عمله، ثم ينفلت إلى مزرعة أبيه أو إلى أخشابه التي ~~يسويها ليبيعها بدريهمات. # والناس في هذه المقاطعة وأمثالها يعيشون على حالة أشبه بحال البداوة؛ أكثر التفاخر بينهم ~~بالقوة والشهامة، وقلما تفاخروا بثروة؛ إذ يندر أن توجد الثروة؛ لذلك كانت قوة أيب - كما ~~كانت شهامته - كفيلة بأن تطلق لسانه بالفخر، ولكنه لا يتحدث عن نفسه أبدا، وإنه ليخفض ~~جناحه للناس إلا إذا تحداه ذو وقاحة كما حدث مرة؛ إذ صارع أحد المدلين بقوتهم من شباب تلك ~~الجهة، ولقد علمه أيب كيف يهابه ويستخذي منه، والناس يعجبون من ذلك الشاب النحيف وما يبدي ~~من قوة. # ثم إنهم يرونه ذات مرة يقذف بنفسه في الماء؛ إذ أخذت عيناه رجلين يغالبان الموج وقد خارت ~~قوتهما أو كادت، فأدركهما ونجاهما من الغرق. # وإنه كثيرا ما يجد منجاته في تلك القوة؛ فقد تحطم زورق بحمله مرة، وكان البرد شديدا ~~والماء يوشك أن يتجمد، فلم يحل ذلك بينه وبين أن يسبح مسافة طويلة مشى بعدها مسافة أطول ~~منها حتى التجأ إلى كوخ أحد الفلاحين، فلبث عنده نحو أسبوعين يعاونه في أعماله، وما دعاه ~~إلى أن يلبث عنده في الواقع إلا كتاب في القانون وجده لديه، وكان هذا الفلاح من ms032 قبل قاضيا، ~~فلم يدع الفتى ذلك الكتاب حتى قرأه ووعاه. # ولكن أبراهام على الرغم مما يحسه من طيب العشرة وما يتمتع به من حسن السمعة، برم ~~بالعيش هنا لا يطيق صبرا على البقاء في هذا المجال الضيق، وإنه ليكدح كدحا عنيفا ثم لا ~~يصيب من الأجر إلا دريهمات، وأي أجر أحقر من سروال من القماش الرديء يحصل عليه في مقابل ~~آلاف من شرائح الأخشاب، كان يقدم أربعمائة منها ليحصل على قيد ذراع من ذلك القماش؟! # إن نزعة استقلالية تسيطر على تفكيره اليوم، وإن شعورا بالرغبة في الهجرة ليلح عليه ~~إلحاحا شديدا، وإنه لجدير بالاستقلال؛ فما اعتمد منذ حداثته إلا على نفسه، فكر لنفسه ~~وتأمل في حياة الناس وفي مظاهر الطبيعة، وسافر فوق الماء، وتاجر في مدينة كبيرة، وقرأ ~~الكتب، واستوعب كثيرا من القصص والأمثال، وتعود أن يتعمق الأشياء وأن يديرها في ذهنه ~~مرات، وأن يقابل بين الأشباه وينظر في المتناقضات، ثم إنه يطابق بين ما يقع تحت بصره وما ~~يطرق سمعه من حياة الناس على ما يقرأ، ومن كان هذا شأنه فهو عصامي في أوسع معنى لتلك ~~الكلمة، والعصامي لا يقف عند حد، فما يزال يرتقي حتى يصل إلى القمة، أو حتى يصبح هو نفسه ~~قمة من القمم. # إذن فمجال الحياة في الغابة يضيق عن همته، وحسبه ما استوعب هنا من تجارب وما خبر من سلوك ~~الناس، فليخرج إلى عالم المدنية، وليضرب في الأرض، فما كانت الهجرة إلا سبيل المجد. # وإنه ليفضي بتلك الرغبة إلى من حوله من الشباب، فيكدرهم اعتزامه المغيب عنهم، وما منهم ~~إلا من يحب ذلك الشاب الطيب القلب الذي تعبر عيناه عن أمانته وإخلاصه كما يعبر لسانه عن ~~أدبه ودماثته، ويشير بعض خلانه إلى أبيه وكيف يتركه في الغابة وحده، فيذكر الفتى تلك ~~الحقيقة، ويفكر ويطيل التفكير حتى ليكاد يركن إلى البقاء. ~~••• # شاءت الأقدار أن يذهب أبراهام في رحلة ثانية إلى نيو أورليانز؛ فقد استأجره بعض الجيران ~~وقد نمى إليه أنه القوي الأمين الذي يحسن أن ms033 يتعهد بيع تجارته، فخرج وفي صحبته ثلاثة رفاق ~~في قارب من صنع يديه، وقد جعل الرجل له ستة عشرة ريالا في الشهر أجرا على عمله كما جعل ~~لرفقائه كذلك بعض المال نظير معونتهم. # ولقد وقع للفتى في هذه الرحلة حادث كان بمثابة امتحان جديد لهمته وسرعة خاطره؛ وذلك أن ~~القارب قد اصطدم بحاجز صخري عند بلدة نيو سالم، فتعلقت مقدمته على الصخر، وانحدرت مؤخرته ~~حتى اغترف من الماء، وأوشك أن ينقلب بحمله وملاحيه في النهر، وتجمع خلق كثير على الشاطئ، ~~فمنهم من يصيح بمن في القارب يقترح وسيلة النجاة، ومنهم هازلون يتخذون من الحادث ملهاة، ~~فهم يضحكون ويسخرون في سماجة وقحة، ولكنهم جميعا لا يتقدمون بمساعدة، على أنهم لا يلبثون ~~أن يجدوا ذلك الفتى الطويل الذي يبدو لأعينهم كالمارد يتقدم في خفة ومهارة، فينقل بعض ~~بضاعته إلى مقدمة القارب حتى تعلو المؤخرة، ثم يثقب فيها بعض الثقوب فيخرج منها الماء، وإذ ~~ذاك يقفز في اللجة ويستعين برفاقه وببعض الحبال حتى يجنب القارب ذلك الحاجز الصخري، ثم يسد ~~الثقوب، ويعيد توزيع البضاعة على ظهر القارب، فيسبح في هدوء ويتخذ سبيله كأنه لم يعقه ~~عائق، والقوم على الشاطئ يلوحون له بأيديهم، وقد انقلبوا جميعا معجبين به، فلا هازل بينهم ~~ولا ساخر، وشاع حديث ذلك المارد في نيو سالم كلها. # وقضى الفتى ورفاقه في مدينة نيو أورليانز زهاء شهر، ولما فرغوا من أمر البضاعة اتخذ الفتى ~~سبيله إلى أسواق الرقيق يدرس حالها من كثب، فهو لم ينس ما تركه حال العبيد من أثر في نفسه ~~منذ زيارته الأولى، وإنه ليهتم بهذا الأمر أكبر الاهتمام ويقلبه في خاطره على كافة وجوهه، ~~فهل كان يدري ابن الغابة أنه سوف يخطو بالإنسانية خطوات واسعة نحو النور بتحرير هؤلاء ~~العبيد وفك أصفادهم؟ كلا! ما كان يدور بخلده يومئذ شيء من هذا. # رأى، ويا لهول ما رأى! رأى في تلك الأسواق جماعات من السود ذكورا وإناثا جيء بهم ~~كالقطعان قسرا من مواطنهم مقرنين في الأصفاد إلى حيث يباعون ms034 كما تباع الماشية؛ يلهب ~~النخاسون جلودهم بالسياط، ويسوقونهم كما تساق الأنعام، كأنهم لا يمتون إلى البشرية ~~بصلة! # وأخذت عيناه، فيما رأى، فتاة جميلة المحيا مرهفة القوام، يعرضها الباعة على المتفرجين ~~نصف عارية، كما لو كانوا يعرضون فرسا كريمة، وقد افتتن بقوامها وقسمات وجهها الشاهدون، ~~وأبراهام تتحرك نفسه من أعماقها ويتألم ما وسعه الألم. وصفه أحد زميليه فقال: «رأى لنكولن ~~ذلك فكأن قلبه يدمى، لم تتحرك شفتاه أول الأمر وظل صامتا ومشت كدرة الهم في وجهه فبدا كريه ~~المظهر، وأستطيع أن أقول وأنا به عليم إنه كون لنفسه في تلك اللحظة رأيا في مسألة العبيد ... ~~فلقد التفت إلي قائلا: إني أكره أن أكون عبدا، ولكني أكره كذلك أن أكون من ملاك ~~العبيد، ولئن قدر لي أن أسدد ضرباتي إلى هذا النظام فسأضرب بشدة.» # ويروى أنه في هذه الحالة مر بعرافة سوداء فنظرت إليه وقالت: «أيها الفتى، إنك ستكون يوما ~~ما رئيسا للولايات المتحدة، ويومئذ سوف يتحرر جميع العبيد.» فهل كانت كلمات العرافة كلمات ~~القدر تجري على لسانها في تنبؤ عجيب؟ # وألفى أبراهام نفسه في المدينة تحيط به أسباب الغواية، ولكن هل كان لنفس مثل نفسه ~~محصتها الشدة وعصمتها الفاقة وطهرتها حياة الغابة من أوشاب المدنية وأوضار الترف؛ أن تزل ~~أو ترقى إليها غواية؟ # إنه ما فكر أثناء إقامته في المدينة إلا فيما جاء له، ثم إن تفكيره بعد بيع البضاعة قد ~~انصرف إلى هؤلاء العبيد فكان يملأ وقت فراغه، ولقد كان يعنى أشد العناية بالاستماع إلى ~~المجادلين في مسألة امتلاك العبيد، فيرهف أذنيه كلما تطرق الحديث إلى تلك المسألة، ويتتبع ~~الحجج التي يدلي بها كل متكلم، يفعل ذلك في أناة وفي غير تحيز كما يستمع القاضي الذي يتلمس ~~وجه الحقيقة في قضية من القضايا. # جماعات من السود يساقون كما تساق الأنعام. # ماذا يقول هؤلاء الجنوبيون؟ يقولون ماذا يريد أهل الشمال باستنكارهم حق امتلاك العبيد، ~~وهل يفهم هؤلاء البسطاء من التجار وقاطعي الأخشاب وكتبة المصالح والحراثين نظاما توارثناه ~~عن أجدادنا؟ وماذا عسى ms035 أن يصنع هؤلاء الشماليون إذا حرر العبيد هنا فلم نجد من يزرع القطن ~~ويجمعه؟ أنى لهم بعد ذلك القطن الذي يغزلونه وينسجونه؟ ثم أليس حال العبيد الآن خيرا مما ~~لو منحوا الحرية؟ ألسنا نعلمهم النظام والطاعة وقواعد المسيحية، فنخرجهم من حال الهمجية إلى ~~المدنية؟ ثم إننا نطعمهم ونعنى بكسائهم ونسكنهم مساكن صالحة، ولو أننا تركناهم وشأنهم لما ~~انقطعت بينهم المنازعات، وهم أهل قسوة وجهالة، وإننا ما نقسو عليهم أحيانا إلا لنصلحهم ~~ونعودهم الهدوء والنظام. # ذلك منطق أهل الجنوب ولكن ذلك الشاب الغريب في مدينة نيو أورليانز، القادم من الغابة يحس ~~للمسألة وجها آخر في أعماق نفسه لا يمت إلى المنطق ولا إلى المبررات الاقتصادية بصلة، ~~وجها آخر يحسه ولا يستطيع أن يجريه مجرى الجدل، إنه يكره هذا النظام ولن يقدر على أن يحمل ~~نفسه على إقراره. وليقل أهل الجنوب ما اشتهوا أن يقولوا، فلن يستطيعوا أن يزيلوا من أعماق ~~نفسه هذا البغض الشديد لنظام امتلاك العبيد وبيعهم أو شرائهم. على أنه ينتظر فربما تكشف له ~~من أوجه المسألة ما لم يقع حتى اليوم عليه. # وعجل الفتى بالعودة، فضجيج المدنية وزحمتها ومفاتنها وزينتها، كل أولئك يكدر خاطر ابن ~~الغابة، ثم إن منظر هؤلاء السود في غدوهم ورواحهم وفي أسواق بيعهم وشرائهم مبعث ألم لنفسه ~~وحزن لوجدانه، فإلى الغابة في غير إبطاء. # | بائع في دكان # لم يلبث أبراهام في كوخ أبيه بعد عودته إلا أياما، ثم خرج منه ومن الغابة ليضرب في ~~الأرض، ولتلقي به الأقدار في مجاهل الغيب، فلن يعود إلى الغابة نجارا، ولن تمسك قبضته ~~الفأس بعد اليوم. # كان أول ما ساقته الأقدار إليه من عمل أن فتح له ذلك الرجل الذي استأجره في رحلته الثانية ~~إلى نيو أورليانز، دكانا في مدينة نيو سالم ليبيع الناس ما يطلبون نائبا عنه، فقد وثق من ~~أمانته ومهارته. # ولقد قطع أبراهام المسافة إلى تلك المدينة ماشيا؛ فما يملك قاربا أو حصانا، وهناك أعد ~~الدكان بنفسه، فصنع الرفوف اللازمة والمناضد وغيرها بيده، ورتب البضائع ms036 في أمكنتها، ثم جلس ~~ينتظر القادمين من طالبي تجارته. # وسرعان ما اجتذب الناس بشمائله، فتوثقت الألفة بينه وبين جميع من خالطوه، وعلى الأخص من ~~شهده منهم في حادث النهر يوم تعلق به قاربه على الحاجز الصخري. # وأذاع في الناس صيته حادث آخر غير حادث القارب؛ وذلك أن صاحب الحانوت ما فتئ يذكر للناس ~~قوة أبراهام وشدة عريكته، وكانت المصارعة في تلك الأصقاع البرية مما يتنافس فيه الشبان، ~~وبخاصة ذوي الفتوة منهم، وسرعان ما نمى أمر ذلك الشاب الذي يبيع في الحانوت إلى جماعة من ~~الفتيان في البلدة كانوا يجعلون العربدة هويتهم والشغب مسلاتهم، وكان على رأسهم فتى مفتول ~~الساعدين شديد المراس يقال له آرمسترنج، فجاءوا عصبة إلى أبراهام يسخرون منه ويتحدونه أن ~~ينازل زعيمهم وهو يعرض عنهم وتأبى عليه نفسه أن يحفل بهم، ولكنهم يسرفون في التحدي والقحة، ~~فيخرج إليهم ويسير إلى قائدهم في هدوء وثبات، وتحمي المصارعة بين الفتيين، ويجد أبراهام ~~من خصمه أنه يريد أن يعمد إلى الحيلة حتى تتم له الغلبة في غير تحرج من مخالفة أصول ~~المصارعة، ولكن أبراهام يستجمع قوته ويرفع خصمه ويلقي به بعيدا، فيتدحرج على الأرض كما ~~تتدحرج الكتلة من الخشب، والفتية لا يصدقون أعينهم من الدهش، ولكنهم يتهمون أبراهام بأنه ~~خالف أصول الصراع، ويتأهبون لمهاجمته عصبة، فيسند ظهره إلى الحائط، ويتأهب للقائهم في صمت، ~~وإذ ذاك ينهض زعيمهم فيصافحه معلنا أنه تغلب عليه حقا، وأنه لا يملك إلا الإذعان له، ~~وتوطدت بين الفتيين المحبة، وتوثقت بينهما أواصر صداقة سوف تستمر زمنا طويلا حتى يموت ~~آرمسترنج، فيبقى أبراهام على مودته لابنه، ويقف ذات يوم وهو محام فيدافع عنه في حماسة ~~واهتمام حتى ينقذه. # الدكان حيث كان يبيع لنكولن وترى الدكة الخشبية التي كان ينام ~~عليها. # وكان أبراهام في الحانوت موضع محبة كل من جاءه، كان واسع الصدر فكه الحديث لطيف ~~المعاشرة، خفيفا في إجابة كل قادم إلى مبتغاه، حريصا على رضاه لا يضيق ولا يتململ من ~~ثرثرة بعض زبائنه أو ترددهم بين الأصناف ms037 أو مساوماتهم في الأثمان، فيقنع هذا بالحجة ويرد ~~على ذاك بنكتة؛ جاءته عجوز تشتري شيئا فضجرت من دقته في الميزان وقالت: «لم لم يضعوا ~~غيرك في هذا الدكان فكنا نستريح من وجهك القبيح؟» فنظر إليها باسما وقال: «ولدني أبواي ~~يا سيدتي جميلا، ولكن أناسا سرقوني وأنا في المهد، ووضعوا مكاني صاحب ذلك الوجه القبيح ~~الذي ترين، فما ذنبي إذن في هذا القبح؟» # وحبب أبراهام إلى صاحب الحانوت أن الناس كانوا يجيئونه ليكتب لهم الخطابات أو ليقرأها أو ~~ليستمعوا إلى قصصه ونوادره، كما كان الآباء والأمهات يحمدون له حدبه على الأطفال وعنايته ~~بإرضائهم وإدخال السرور على نفوسهم، وكثيرا ما رأوه يضاحكهم ويلاعبهم ويعطيهم الحلوى ويصنع ~~لهم اللعب. # على أن الأمانة كانت أحب صفاته إلى الناس جميعا، حتى لقد صار يعرف بينهم باسم «أيب ~~الأمين»، فما يذكره الناس باسمه مجردا من هذه الصفة إلا نادرا؛ حدث أنه أعطى امرأة ذات ~~مرة مقدارا من الشاي أقل من حقها، فلما أدرك ذلك سار إليها آخر النهار مسافة ثلاثة أميال ~~يحمل باقي الشاي، وحدث أن أخذ خطأ بعض دريهمات من رجل، فلما راجع حسابه سأل عنه حتى اهتدى ~~إليه ودفع له دريهماته، وتروى عنه من هذا القبيل أحاديث كثيرة جعلت الناس يقبلون عليه ~~معجبين. # وعرف الناس أبراهام فوق ذلك باستقامته، فما عهدوا عليه من سوء قط، كان لا يعرف الخمر ولا ~~الميسر ولا يقرب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وكان يشغل فراغه بالقراءة كعادته منذ تعلم ~~القراءة، وكثيرا ما رآه المارة وقد استلقى على ظهره في الحانوت ورفع أمام عينيه كتابا فما ~~يضعه إلا حين يقصد إليه مشتر ثم يعود إليه متى انصرف، ويظل يقرأ في غير ملل، ولكم كان ~~يتعجب بعض من يراه إذ يسمعونه يجهر أحيانا بقراءته ثم يقفز واقفا إذا أعجبته عبارة ~~فيرددها مرات ثم يثبتها في قرطاس. # وكانت كتبه - إلا قليلا - مستعارة، يسمع عن كتاب فيسعى إلى صاحبه فيستعيره إلى أجل ثم ~~يقرؤه ويرده إليه في ميعاده، ومن ذلك أنه ms038 سمع عن كتاب في قواعد اللغة، وكان قوي الرغبة في ~~تعرف تلك القواعد؛ ليستعين بها على ضبط عبارته، فمشى نحو ستة أميال حتى جاء صاحب الكتاب، ~~فاستعاره وأكب عليه حتى أتقن فهمه في أيام قليلة. # ومما قرأه أيب في تلك الأيام صحيفة كانت تكتب في السياسة اشترك فيها على إملاقه، وكان ~~يقبل على قراءتها في استمتاع ولذة، قراءة تعمق ودراسة. # وكان ينام أيب في الحانوت على دكة من الخشب؛ فما له مأوى غيره، على أنه ما تبرم من ذلك ~~أبدا؛ فقد ألف ما هو أخشن من ذلك من مهاد، وحسبه أن يذكر مهده في تلك الأكواخ التي كان ~~ينفذ البرد من خلال ثقوبها إلى بدنه ليحس أنه ينعم بالراحة على هذه الدكة الخشبية. # | اتجاه نحو السياسة # ما لهذا الفتى وللسياسة وليس لمن كان في مثل موضعه صلة بالسياسة من قريب أو من بعيد؟ أله ~~من الجاه والثراء ورفعة الحسب والنسب ما يؤهله لخوض هذا المضمار؟ # لقد أخذت تشتد عليه وطأة الفاقة بعد عام واحد من حلوله بهذه البلد، فإن صاحب الحانوت قد ~~أفلس وباع حانوته لتاجر آخر طالما نافسه، وترك أبراهام أياما بلا عمل، ونفد ماله فلم يبق ~~لديه منه ما يستعين به حتى على القوت، ولولا ما ساقه له القدر من رزق لساءت حاله، ولكنه كان ~~رزقا هينا غير متصل؛ فقد استؤجر ليقود زورقا بخاريا في منطقة عسيرة من مجرى النهر، ~~وكان أجره على ذلك أربعين ريالا. # لبث يفكر في مرتزق؛ أيعود إلى الغابة أم يعمل في النهر قائدا للقوارب البخارية، أم يبقى ~~بائعا في حانوت، أم ينخرط في سلك المتطوعين لمقاومة الهنود الحمر؟ كل أولئك كان يدور ~~بخلده، وكان يقلقه قعوده بلا عمل كلما تناقصت ريالاته الأربعون. # ولكن صاحب خان في المدينة كان قد أنس من فطنة أبراهام وطلاقة لسانه وصدق إخلاصه في كل ما ~~يتناول من عمل، وتطلعه إلى المعرفة؛ ما أيقن معه أن سوف يكون لهذا الفتى شأن غير شأنه ~~يومئذ، ولقد استمع إليه صاحب الخان ms039 مرات وهو يحدث الناس أو يخطبهم كلما سنحت فرصة لذلك، ~~فرآه جذاب الحديث بارع السياق بليغ العبارة، يضرب الأمثال الواضحة في غير توقف، ويسوق ~~الأدلة القاطعة في غير عوج، فزين له الرجل أن يتقدم للناس ليختاروه نائبا عنهم في مجلس ~~مقاطعة إلينوى. # وكان يرى أبراهام الخطوة جريئة؛ فاليد خالية والجاه منعدم، فعلام يعول ابن الغابة؟ وإلى ~~من يستند؟ لكن هل تعود أن يعول أو يستند إلا على نفسه؟ # إن له أصدقاء كثيرين، ولكنه نشأ نشأة من يعتمد على نفسه قبل كل شيء. وهو الآن في ~~الثالثة والعشرين من عمره قد قرأ من الكتب وخبر من أحوال الناس ومارس من متاعب العيش ما ~~لم يتفق مثله لأحد في مثل سنه، وإنه فضلا عن ذلك واثق من محبة الناس له، لمس هذه المحبة ~~مرات في إقبالهم عليه وهو يقص عليهم القصص، وقد تحلقوا حوله أمام دكان الحداد على ضوء ناره، ~~ولمسها مرات غيرها وهو واقف بينهم خطيبا يحدثهم عما يتمنى تحقيقه للمقاطعة من ضروب ~~الإصلاح، فهل يرى فيهم من يساويه في شهرته ومكانته؟ ثم إنه حمل الكثيرين من الأقوياء على ~~الأذعان لقوته، وهو على قوة بأسه خافض الجناح لين الجانب، ما عمد إلى هذه القوة إلا في وجوه ~~البر والمعونة إذا استثنينا مصارعته آرمسترنج، إنه بهذا كله لخليق أن يرى فذا بين أنداده، ~~ولكنه مع ذلك يتردد لا من جبن ولكن من تواضع. # وأخيرا قهر عزمه تردده، فألقى بنفسه في معترك السياسة، فإلى أي حزب من الأحزاب كان ~~انتماؤه إن كان ثمة له انتماء إلى حزب؟ # كان حتى سن العشرين ينتمي إلى الحزب الديمقراطي، ولكنه الآن في الثالثة والعشرين يتقدم ~~للناخبين منتميا إلى حزب الهوج، على أنه إنما يعتمد على ما يعرف الناس من خلاله رجلا ~~وصديقا. # قام في الناس خطيبا فسحرهم بيانه، وسرت في نفوسهم حماسته، وزادهم محبة له ما رأوه من ~~تواضعه؛ فهو لا يفرض عليهم آراءه ولا يزكي نفسه، وإنما يعدهم الإصلاح إذا قدر له النجاح. ~~أما إصلاحه الذي ms040 سوف يعنى بتنفيذه، فسيتناول الطرق ومجاري الماء، والتجارة؛ فهو من أنصار ~~حمايتها برفع نسبة الجمارك حتى تنمو وتزدهر. والناس ينظرون إليه لا تتحول أبصارهم عنه، وقد ~~عطف قلوبهم عليه ما يبدو من علامات فاقته وعوزه؛ فسرواله لا يصل إلا إلى منتصف ساقيه، ~~وردناه لا يكادان يبلغان رسغيه، وفي وجهه وعينيه خلجات توحي بما كابد من شدة وما لاقى من ~~عنت الأيام. # واختتم الخطيب خطبته بقوله: «إن سياستي قصيرة حلوة كرقصة العجوز. إني أحبذ مشروع المصرف ~~الأهلي، وأحبذ الإصلاح الداخلي والحماية الجمركية، هذه هي مبادئي وميولي، فإن اخترتموني ~~فإني لكم شاكر، وإن رأيتم غير هذا فلن يغير ذلك شيئا من نفسي.» وفي نداء أذاعه في الناس ~~يذكر أبراهام رأيه في التعليم فيقول إنه يود لو أتيح لكل فرد قسط منه حسب استعداده، ولسوف ~~يعنى بذلك كل العناية إذا أصبح عضوا في مجلس المقاطعة. # ويختتم الفتى نداءه بقوله: «إذا أخطرت ببالي ما يجب ~~على كل شاب من شديد التواضع، فربما كنت قد تطلعت إلى أكثر مما أستحق، على أنني فيما أشرت ~~إليه ما تكلمت إلا حسبما فكرت، ولقد أكون مخطئا فيه، كله أو بعضه، ولكني وأنا ممن يرون ~~متانة الحكمة القائلة «إن من يصيب أحيانا خير ممن يخطئ دائما» أبادر إلى الرجوع عن آرائي ~~متى تبين لي خطؤها. لقد قيل إن لكل امرئ نوعا خاصا من الطموح، وسواء أكان ذلك صوابا أم ~~خطأ، فإن طموحي الذي لا يساويه عندي طموح هو أن أظفر من قومي بأن يقدروني إذا ثبت لديهم أني ~~جدير منهم بهذا الفضل. لقد ولدت ونشأت في مدارج متواضعة، وإن كثيرين منكم يجهلونني، وليس ~~لدي ثراء ولا لي أهل ذوو جاه أو أصدقاء كبار يقدمونني إليكم، وقضيتي مبسوطة بين أيدي ~~الناخبين الأحرار، فإن فزت فقد أولوني جميلا لن أوفيه لهم مهما بذلت من جهد في خدمتهم، ~~وإن أملت عليهم كلمتهم أن أبقى حيث أنا، فطالما ألفت من مواقف الانخذال ما لست أحس معه لهذا ~~الفشل كبير غم.» # وقبل أن يحل ms041 يوم الانتخاب نرى أبراهام يشترك في عمل يعد غريبا بالنسبة إليه؛ وذلك أنه ~~تطوع مع فريق من شباب الجهة لمحاربة الهنود الحمر؛ فإن زعيمهم - وكان يدعى الصقر الأسود - ~~قد بات يهدد المقاطعة بهجوم شديد. # كانت الحكومة قد تعاهدت معه على ألا يرى هو وقومه على الضفة الشرقية لنهر المسيسبي ولهم ~~أن يعيشوا غربي النهر حيثما شاءوا، ولكنهم خانوا العهد مدعين أن البيض تدخلوا في شئونهم في ~~الأصقاع الواقعة غربي النهر؛ ولذلك فقد عولوا على استعادة الأرض التي أجلوا عنها شرقية، ~~وإذ ذاك دعا حاكم إلينوى إلى التطوع لدفعهم عنها. # تطوع أبراهام فيمن تطوعوا لهذه الحرب، وتحمس له فريق من الشباب، وبخاصة جماعة آرمسترنج ~~فأبوا أن يكون لهم قائد غيره، وكان يطمح إلى قيادتهم شاب يدعى كير كباتريك، وكان بين لنكولن ~~وبينه بعض الكراهية؛ لأنه كان يتعالى عليه كلما لقيه. # وسارت جموع الشباب متجهة إلى الغرب فصاح منهم نفر قائلين: من يريد منكم معشر المتطوعين أن ~~يسير تحت لواء لنكولن فليقف على مقربة منه، ومن يريد أن ينحاز إلى كير كباتريك فليذهب إليه. ~~واتجهت الأعين إلى حيث يقف لنكولن، فإذا وراءه من الشباب ثلاثة أمثال من وقفوا وراء كير ~~كباتريك، ولقد طابت بذلك نفس أبراهام وعدها من دلائل الثقة به، وظل يذكر ذلك في أحاديثه ~~كلما تحدث عن ماضيه بعد أن صار رئيس الولايات المتحدة. # لم تطل الحرب؛ فقد غلب الهنود على أمرهم وقبض على زعيمهم الصقر الأسود، ولم يقدر ~~لأبراهام وفرقته أن يسفكوا دما أو يأتوا شيئا من ضروب القسوة التي كان يكرهها أشد الكره، ~~وهو ما أقدم على التطوع لهذه الحرب إلا بدافع الواجب! ولقد كان عمله فيها كشفيا في ~~الواقع؛ فإن خبرته بالأحراج وحدة بصره ونشاطه كل أولئك جعل منه ومن أصحابه خير عون للقيادة ~~العليا في تعقب الهنود إلى مخابئهم. # على أن خلالا ثلاثة من خلاله قد برزت في هذه الحرب، فزادته محبة وإكبارا في قلوب ~~عارفيه؛ أما أولها فحرصه على العدالة ودفاعه عن الحق مهما كلفه ms042 ذلك من عنت أو تضحية، وهي ~~خلة ستلازمه في جميع أطوار حياته، وستبرزها الحوادث الجسام التي سوف تحفل بها هذه ~~الحياة، وحسبنا أن نشير هنا إليها في موقف كاد يودي به؛ فقد أبصر نفرا من جماعته يحيطون ~~بأحد الهنود، وقد صوبوا بنادقهم إليه في غضب شديد، كان مرأى أي هندي كفيلا بأن يملأ ~~بمثله قلوب هؤلاء الأمريكان كأن الغضب يجري في دمائهم بالوراثة، وكان الرجل يرفع ورقة أمان ~~من أحد القواد تشهد بأنه مسالم ملتجئ إلى معسكر الأمريكان، فلم يأبهوا لها، ولكن أبراهام ~~وجد في عملهم افتياتا على الحق، فوثب من مكانه ووقف بينهم وبين الرجل صارخا فيهم: «إنكم ~~لن تقتلوا هذا الرجل.» ولم يكن بعيدا أن تنطلق الرصاصات من بنادقهم في ثورة غضبهم فترديه ~~وتردي الهندي، ولكن الله سلم ونجا لنكولن، ولم يكن بينه وبين الموت إلا طرفة عين، فقد أدار ~~الرجال بنادقهم كارهين بتأثير شخصيته فيهم ولمكانته في نفوسهم. قال أحد رفقائه فيما بعد: ~~«لم أر لنكولن قط مهتاجا كما رأيته حينذاك.» # أما ثانية خلاله فترفعه عن الابتذال وحرصه على كرامة نفسه؛ فإنه في المعسكر أثناء ~~الليل كان يصرف رفاقه عن فحش القول وعن بذئ المزاح بما يقص عليهم من أنباء مخاطراته، وبما ~~يطربهم به من نكائته وملحه، فإذا أرادوا شرب الخمر نأى بجانبه عنهم قائلا في احتشام ~~وأدب لمن يعرضها عليه: «أشكرك يا صاحبي، فأني لم أمسسها قط.» فإذا ثملوا انصرف عنهم وقد ~~ضاقت نفسه بمرآهم ولأنه لا يجد من يحدثه، وهو يحب الحديث ويأبى إلا أن يكون في كل مجتمع ~~المحدث الفكه والفيلسوف الذي يقص على من حوله أحسن القصص عن الحياة وأمور الحياة. # وثالثة خلاله في تلك الحرب كانت قوة ملاحظته وسرعته وإحاطته بما يرى جملة وتفصيلا؛ فقد ~~شاهد خمسة رجال من قتلى المتطوعين جز الهنود خصل الشعر من قمة رءوسهم وفق عادتهم لتكون ~~دليلا على انتصارهم، وتحدث الرئيس لنكولن وهو في البيت الأبيض يصف ذلك المنظر؛ فذكر الشمس ~~المشرقة التي ألقت حمرتها على التل ms043 القريب، والتي زاد بها لون الدم احمرارا إلى أن قال: ~~«لقد رقدوا على الأرض ورءوسهم تجاهنا، وكانت ترى في قمة رأس كل رجل منهم دائرة حمراء في حجم ~~الريال حيث انتزع الهنود خصلة شعره بما تحتها من جلد، لقد كان المنظر مخيفا، ولكنه كان بما ~~فعل هؤلاء الهنود مضحكا ... ولقد لاحظت أن أحد هؤلاء القتلى كان يرتدي سروالا من الجلد ~~الرقيق، وقد زادتهم حمرة الشمس المشرقة وكل ما حولهم خضابا على خضاب.» # وفي طريقه إلى نيو سالم سرق جواده، فكان عليه أن يمشي، وهو من تعود المشي من قبل، فمشى ~~بعض الطريق وقطع بعضه في قارب، ثم عاد إلى المشي حتى انتهى به المطاف إلى البلدة وقد أوشك ~~أن يحل يوم الانتخاب. # وجاء ذلك اليوم، ولكن لم يقدر له النجاح، فتلقى نبأ الفشل في سكون شأنه عند تلقي كل نبأ ~~محزن أو سار، ولكنه مغتبط بينه وبين نفسه وإن لم يكن راضيا عن النتيجة العامة؛ فقد حصل ~~من أصوات نيو سالم - وعددها ثلاثمائة - على سبعة وسبعين ومائتين؛ ومعنى ذلك أنه جدير بثقة ~~من يعرفه، هذا إلى أنه تقدم باسم حزب الهوج، وحمل في أحاديثه وخطبه على الحزب الديمقراطي ~~الذي كانت له الغلبة والقوة يومئذ، فليس من شك أنه حاز ثقة أهل نيو سالم غير معتمد على شيء ~~إلا على شخصه. # | عامل بريد وماسح أرض # ماذا يصنع أبراهام وقد خذل في الانتخاب وآل الحانوت إلى ما آل إليه بسبب ما فعل صاحبه؟ ~~الحق أنه ألفى نفسه في مأزق، ولعله كان يندم بينه وبين نفسه أن ترك حياة الغابة، ماذا يصنع ~~أبراهام ليكسب قوت يومه؟ ليس أمامه فيما يرى الآن إلا التجارة، ولكن أنى له المال وما في ~~يديه منه شيء؟ على أنه لم يعدم وسيلة لذلك، فليكتب ثمن ما يشتري من بضاعة دينا يدفعه عند ~~الميسرة، وبهذه الطريقة اشترى ما بقي في الحانوت من سلع من ذلك الرجل الذي كان قد اشتراه من ~~صاحبه الأول، واتخذ له في تجارته شريكا يدعى ms044 «برى»، ورأى الناس على واجهة الحانوت لافتة ~~جديدة تحمل اسم برى ولنكولن. # وعاد أبراهام يبيع الناس من بضاعته، وقد حمل العبء وحده؛ إذ كان صاحبه لا يكاد يفيق من ~~السكر، على أنه كان عبثا هينا؛ إذ كان البيع قليلا لقلة البضاعة وقلة المشترين، وكان في ~~البلدة حانوت آخر سطا عليه أولئك الفتية العادون لما شجر من خلاف بين صاحبه وبين زعيمهم ~~«آرمسترنج»، وعرض صاحب ذلك الحانوت ما تبقى من بضاعته للبيع، فاشتراها أبراهام بطريق الدين ~~كذلك؛ كتب على نفسه خمسين ومائتي دولار يدفعها حين يتيسر له الدفع. # ولكن صاحبه كل عليه وليس لدى أيب مال ليدفع إليه حقه ويخلص منه، وكان عليه فوق ذلك أن ~~يدفع بعض ما يكتسب ليؤدي ثمن التجارة؛ ولذلك أخذته ربكة شديدة، وحاقت به الخسارة وفدحه ~~الدين، حتى بات يسميه لفداحته بالنسبة إليه الدين الأهلي، يرددها ضاحكا متهكما كلما تطرق ~~الحديث إلى وصف حاله. # وبينا هو في ضيقة إذ اراد الله أن ييسر له أمره بعض اليسر، فاختير عاملا للبريد في تلك ~~الجهة نظير أجر معلوم، اختاره القائمون بالأمر لما علموا من أمانته وذكائه، وفرح أبراهام ~~بما ساقه الله إليه فرحا شديدا. # أقبل أبراهام على عمله الجديد مغتبطا؛ فقد أتاح له ذلك العمل أشياء ترتاح لها نفسه؛ منها ~~أنه يتصل بالناس، ويتعرف أحوالهم، ويدرس طبائعهم من قرب، وهو كلف بذلك حريص عليه، يريد أن ~~ينفذ إلى أعماق النفس الإنسانية وأن يحيط بدقائقها كما هو شأنه في كل ما يعرض له، وكم كان ~~يقع على مواطن للدرس والتأمل كلما دعاه أحد الناس ليقرأ له خطابه الذي يسلمه إليه، وهو يطوف ~~بين الدساكر وقد أخرجه من جيبه أو من قبعته، فيقرأ وينظر وقع ما يقرأ على وجوه من يقرأ لهم، ~~وما يرتسم فوقها من انفعالات الحزن أو الفرح أو الرضى أو الغضب أو الحيرة أو الاطمئنان، وفي ~~ذلك كله معرفة له أي معرفة، ومنها أن عمله هذا - فضلا عما أتاح له من اتصال بالناس - قد ~~مهد له من ms045 سبل القراءة ما عده خيرا من راتبه ضعفين؛ وذلك أنه كان يقرأ الصحف قبل إعطائها ~~أصحابها، وكان هذا من حقه حسبما كان يجري من عرف في تلك الأصقاع. # ومما حبب إليه ذلك العمل فوق هذا أنه أتاح له كثيرا من الفراغ، وإنه ليلتهم الكتب ~~في ساعات فراغه التهاما، وكان أكثر ما يقرأ يومئذ كتب القانون، وقد ألقت إليه الأقدار ذات ~~يوم كتابا في القانون يقع في أربعة أسفار عثر عليه كما يعثر على كنز، وبيان ذلك أنه اشترى ~~بثمن بخس من رجل انتوى الرحيل بعض متاعه؛ وكان صندوقا به أوراق، فقلبه فعثر في قاعه على ~~كنز؛ وهو كتاب بلاكستون، وكان من أشهر ما كتب في القانون في تلك الأيام. # وما باله يعنى بالقانون ودراسته؟ أكان يأنس في نفسه القوة على الخطابة والإقناع ويحس في ~~أطواء نفسه الرغبة في الدفاع عن الحق، أم كان يريد مجرد احتراف المحاماة كمرتزق يعول ~~عليه؟ # إن الناس يجيئونه ليحكموه فيما شجر بينهم، وهو عندهم القوي الأمين الذي لا يتحيز إلى ~~شخص أو إلى فئة، والذي لا يتعثر في أمر، والذي يكره أن يلبس أمامه الحق بالباطل، وكان إذا ~~عرض له أمر رده إلى ما عرف من القانون ليتبين وجهه، فإن عجز سأل من يلقاهم ممن هم أعلم ~~بذلك منه، فيفيد من بحثه دراية جديدة وعلما. # وكان الناس يأجرونه على ذلك، فيرسلون بعض القوت إلى الأسرة التي يسكن بين أفرادها، فيجعل ~~ذلك نظير سكناه بينهم، ويعيش هو على وظيفته الضئيلة من عمله في البريد. # وإنا لنلمح شخص المحامي الناشئ في شخص عامل البريد هذا، على أنه تقدم فعلا ليدافع عن ~~بعض الناس أمام المحلفين في بعض الجلسات الهينة في تلك الجهات، وقد عرف عنه أنه ما وقف ~~يدافع يوما إلا عما يعتقد أنه الحق! كما اشتهر بسداد رأيه وقوة عارضته ومتانة حججه. # ولم يجعل همه جميعا إلى كتب القانون؛ فهو يقرأ كتب التاريخ وبخاصة تاريخ زعماء أمريكا ~~الأولين من أمثال وشنطون وجفرسون، ومما يعجبه من حياة ms046 وشنطون، فضلا عما تحفل به من معاني ~~العظمة، أنه كان يكره الرق، وليس ينسى أن ذلك الرئيس قد رفض أن تجبر على العودة إلى ~~صاحبها زنجية فارة وجعل لها في ذلك الخيار. # وقد دله صاحب له على شكسبير بأن أسمعه عبارات يحفظها له، فهام بذلك الشاعر هياما ~~عظيما حتى جعل شعره مسلاته في ساعات همه. # ومست قلبه في تلك الأيام لذعة من الألم؛ فقد ألم به ما يلم بالشباب من علل الشباب، ~~وانعقدت أمام بصره سحب قاتمة من الهم كان مبعثها ما دب في قلبه من حب، يا عجبا! أكل شيء ~~يبتعث في نفسه الهم؟! ألم يأن أن تبتسم له كما تبتسم لغيره الحياة؟ # كان قبيل إقباله على السياسة قد أحس في نفسه ميلا نحو آن ابنة صاحب الخان الذي وجهه هذه ~~الوجهه السياسية: مال إليها قلبه لأول نظرة ألقاها عليها، وكان ذلك ذات مساء حيث زار خان ~~أبيها، ولكنه ما لبث أن علم أنها لن تكون له؛ إذ كان لها خاطب غني درت عليه التجارة مالا ~~وفيرا، فاستخذى وكأنه ما أحس مضض الفاقة إلا في ذلك اليوم، وتصرمت الأيام وهو يغالب هذه ~~العاطفة القوية، حتى علم وهو يعمل في البريد أن فتاها انصرف عنها ونسي ما كان بينه وبينها، ~~وقد نزلت بأبيها الفاقة، وخيل إلى أيب أنه اليوم يستطيع أن يصل إلى قلبها، ولكن مزاحما ~~آخر يأخذ عليه الطريق مدلا عليه بماله، وإن كان لا يدانيه في كفايته ولا خلقه. ويذوق أيب ~~مرارة الفاقة ثانية، وذلك ما صور له طيوفا من الشجن أخذت تزداد حتى ليضيق بها قلبه ويكاد ~~يصل به الأمر إلى القنوط. روي عنه يومئذ أنه قال لأحد خلانه: «ربما ظهر مني حين أكون في ~~رفقة أني أستمع بالحياة في نشوة، ولكني إذا ما خلوت إلى نفسي أخذتني حال من الهم حتى لا ~~أجرؤ أن أحمل معي مبراة.» # على أن في انصرافه إلى عمله وهو يحمل الخطابات في قبعته من دسكرة إلى دسكرة ما يلهيه بعض ~~الوقت ms047 ، وإن له كذلك في الكتب عزاء وسلوة؛ له في شكسبير وبيرنز ما تأنس به روحه، وله في ~~تراجم العظماء ما يبهج نفسه ويثبت فؤاده. # وأضيف إلى عمله في البريد عمل آخر دله عليه أحد خلصائه؛ وهو تخطيط الأرض ورسم المصورات ~~للطرق الجديدة، التي كانت تنشئها الحكومة يومئذ وتوضح معالمها للناس ليهتدوا بها في مسيرهم ~~في تلك الأصقاع البرية، واختاره رئيس الخطاطين لما عرف من ذكائه، ولكنه كان ديمقراطي ~~المذهب، فاشترط أبراهام ألا يؤثر عمله في حرية رأيه السياسي، فكان له ما أراد. ولقد حذق ~~أبراهام هذا العمل الجديد في أيام قليلة، وصار بعد توزيع البريد يحمل منظاره ولوحته وقلمه ~~ويتنقل بين الأحراج يرسم الطرق، وكان يأتي ذلك بما عرف عنه من الدقة في كل ما يعهد إليه، ~~وكان يتكئ على نفسه عله يستطيع أن يدفع بعض الدين الأهلي، وكان يخفف عنه الجهد ~~تذكره أن وشنطون قد عمل مثله في تخطيط الأرض. # ولكن الدائنين لم يدعوا أيب فيما هو فيه من كد، واشتد إلحاح أحدهم فما يقبل أن ينتظر ~~ساعة؛ لذلك أقبل فباع حصان أبراهام وأدوات تخطيطه في مزاد بأمر من الحاكم، وقد عز على ~~أبراهام أن يشهد هذا البيع فانصرف ريثما يتم، ولكن صاحبا له من ذوي المروءة تقدم فدفع ~~المال المطلوب وخلص له أشياءه! ولقيه فقال له: «رد إلي هذا المال متى قدرت على رده، فإن ~~لم تقدر فلا عليك منه يا صديقي.» ولقد مات هذا الصديق بعد حين واجتمع أصحابه لرثائه، ووقف ~~أيب فما استطاع أن يتكلم، لقد اصفر وجهه وحاول أن يحرك لسانه فما تحرك إلا دمعه، فجلس وماء ~~جفنيه ينهمر وهو الذي يحبس في الخطوب أدمعه! # واستمر أيب يعمل في تخطيط الأرض أربع سنوات، ولولا هذا العمل لعاود سوء الحال؛ فإن مكتب ~~البريد في نيو سالم قد أغلق وانقطعت وظيفته من البريد، ومن عجيب أمره أنه - على خصاصته - قد ~~احتفظ بمبلغ بقي في ذمته للقائمين على شئون البريد، وظل هذا المبلغ عنده أكثر من عشر سنوات ms048 ، ~~حتى جاءه مفتش - وهو محام مشهور المكانة في مدينة سبرنجفيلد - يتصيده مطالبا إياه أن يؤدي ~~مبلغا من الإيراد بقي عنده وأظهرته المراجعة، وكان إلى جانب أيب يومئذ صديق له رآه يتفكر ~~في أمره، فهمس في أذنه يعرض عليه أن يدفع المبلغ، ولكن أيب يفيق من تفكره قائلا للمفتش: ~~«انتظر دقيقة ...» وينصرف ثم يعود بعد قليل وفي يده جورب قديم كان قد ربطه على المبلغ، فبقي ~~طوال هذه المدة حيث هو لم تمسه يده، فلما فتح وجد فيه ذلك المال بجملته ومفرداته! # | سياسة وساسة # كان وشنطون الرئيس الأول للولايات المتحدة، وقد بدأت رياسته كما أسلفنا سنة 1789. وقد ~~أعان وشنطون في تدعيم قواعد الاتحاد وزيران: هما هاملتون؛ وقد جعله على خزانة الاتحاد، ~~وجفرسون؛ وقد جعله لشئون الدولة. ومن اتجاهي الرجلين في السياسة وفق ميولهما نبتت الأحزاب ~~في الولايات المتحدة. # حارب هاملتون في حروب الثورة وجاهد جهادا محمودا، ولكنه لم يكن متحمسا للمثل التي ~~صورتها أذهان الناس، وكان قليل الثقة بالجمهور ونزعاته؛ ولهذا كان يبدي فتورا إزاء ~~الديمقراطية، وكان يطلق على الجمهور اسم «الوحش العظيم»، وينكر على العامة صلاحيتهم لوزن ~~الأمور، واتجهت ميوله إلى إنشاء طبقة أرستقراطية، في يدها أزمة المال والحكم، وهدفها ~~تقوية الاتحاد وتثبيت نفوذ الحكومة المركزية. # وكان جفرسون يعمل على نقيض ذلك؛ كان يؤمن بالديمقراطية وسلطة الشعب إيمانا شديدا، ولذلك ~~نراه يرقب سياسة هاملتون وشيعته في حذر وضيق، فلما رأى أنه أوشك أن ينجح جاهر بمخالفته إياه ~~ومضى كل منهما يعمل على شاكلته. # ووقع أول خلاف بينهما ذو بال حين عمل هاملتون على إنشاء مصرف الولايات المتحدة، وكانت حجة ~~هاملتون في إنشائه اجتذاب ذوي المصالح المالية نحو حكومة الاتحاد؛ ومن ثم تكون السلطة ~~المركزية للولايات مهيمنة على الشئون الاقتصادية للجميع، وفي هذا تقوية للاتحاد. # ورأى جفرسون أن الاتحاديين - كما سمي حزب هاملتون - إنما يريدون أن يملئوا الكونجرس ~~بأناس يرعون مصالحهم الاقتصادية قبل كل شيء، فهم موالون للحكومة لارتباطهم بها من أجل ~~أغراضهم، وفي ذلك إفساد للحكم الديمقراطي ليس كمثله إفساد ms049 . # وكانت أغلبية الكونجرس في جانب هاملتون، فاحتكم جفرسون إلى الدستور، وكتب كل منهما يؤيد ~~حجته، ولما عرض المشروع على وشنطون لتوقيعه تردد بين الرأيين، ثم وقعه على أن يترك الفصل في ~~حكم الدستور للمحكمة العليا، وجاء قرار تلك المحكمة مؤيدا مشروعية إنشاء المصرف، وتم ~~النجاح للاتحاديين. # وتداعى أشياع جفرسون وسموا أنفسهم الجمهوريين، ثم غيروا اسم حزبهم بعد حين فصاروا يعرفون ~~باسم الجمهوريين الديمقراطيين، ثم اختصر الاسم فأصبح يقال لهم الديمقراطيون. # وثمة نجاح آخر كان من نصيب الاتحاديين؛ فقد فاز مرشحهم لمنصب نائب الرئيس على مرشح ~~الديمقراطيين في الانتخابات الثانية لهذا المنصب، أما الرئيس وشنطون فقد نزل على الرغبة ~~العامة، فرشح نفسه للمرة الثانية وفاز برضاء الحزبين جميعا. # واتجهت أنظار العالمين القديم والجديد إلى ما كان يحدث في فرنسا. ووجد أنصار هاملتون ~~البراهين على ما ينجم من خطر من تطرف الديمقراطية، في حكم الإرهاب بفرنسا، ووصفوه بأنه ~~الفوضى التي يخشونها، وحملوا على الفرنسيين، وهم إنما يحملون بذلك على الديمقراطيين في ~~وطنهم، ووقف يدافع الديمقراطيون عن الديمقراطية، ويمتدحون الفرنسيين، وينددون بالاستبداد، ~~ويعزون هذا الذي سماه الاتحاديون الفوضى إلى ما ذاقه الفرنسيون أحقابا على يد الطغاة ~~المستبدين، واستعرت الحرب الكلامية بين الحزبين، وعلى الأخص حين دخلت إنجلترة التحالف ~~الدولي الأول ضد فرنسا، فقد حبذ فعلها الاتحاديون وأنكره الديمقراطيون أشد الإنكار. # على أن الحزبين قد آزرا الحكومة في حيادها الذي التزمته، وإن رأى جفرسون أنه وإن لم يدع ~~إلى التدخل لمؤازرة فرنسا، فإنه لا يجد ثمة ما يفرض على الأمريكان إخفاء شعورهم نحو ~~الفرنسيين، وإنهم بإخفائهم شعورهم ليظهرون بمظهر ناكري الجميل، فضلا عن تنكرهم لمبادئ ~~ثورتهم التي بذلوا من أجلها ما بذلوا من الأنفس والأموال. # وأرسلت الجمهورية الناشئة في فرنسا على أثر القضاء على الملكية سفيرا لها بأمريكا، ~~فاستقبله الشعب الأمريكي استقبالا حماسيا، بلغ من روعته أنه كاد ينسي الأمريكان ما كان ~~من حماستهم لزعيمهم الأكبر غداة استقلالهم، ودل هذا على أن الشعور العام في جانب جفرسون، ~~ولكن هذا السفير ما لبث أن أساء ms050 استغلال هذا الشعور، فكان يريد أن تخرج أمريكا عن حيادها، ~~فلما رفضت الحكومة بلغ به الحمق أن أراد أن يحتكم إلى الشعب ضد حكومته، وإذ ذاك لم يسع حتى ~~جفرسون نفسه إلا أن يصده عن طريقه في إباء وقوة، ولكن سياسة هذا السفير الفرنسي أضعفت ~~حماسة الأمريكان لفرنسا، وجعلت شعور الكثيرين يميل بعض الميل إلى إنجلترة. # وفي سنة 1794 صمم جفرسون على الاستقالة، وقد حاول وشنطون أن يحوله عن عزمه فلم يفلح، وكان ~~من أسباب استقالته ضيقه بسياسة هاملتون وسياسة الدولة على العموم ومسلك ذلك السفير ~~الفرنسي. # وقامت في السنة التالية ثورة في ولاية بنسلفانيا؛ احتجاجا على سياسة هاملتون المالية، ~~وأظهر جفرسون عطفه على الثوار بأن حمل على القانون الذي أدى بهم إلى الثورة، فإنه يؤمن بحق ~~الشعب في الخروج على جور ذوي الجور، وقد أعلن صراحة أن ثورة الناس على الظلم دليل على وجود ~~الديمقراطية في نفوسهم، وأضاف إلى ذلك قوله إنه يأمل ألا تخلو الدولة كل عشرة أعوام من ثورة ~~أيا كان نوعها. # على أن وشنطون، وإن لم يكن عدوا للديمقراطية، قد قضى بقوة السلاح على ثورة بنسلفانيا، ~~ولم يخف الزعيم الكبير مخاوفه من انتشار أندية الحزب الديمقراطي في البلاد، وذلك في رسالة ~~منه إلى الكونجرس، فثارت بذلك ثائرة الديمقراطيين ووجهوا سهام غضبهم إلى وشنطون ~~نفسه. # وفي سنة 1797 انتهت رياسة وشنطون الثانية، وأصر الرئيس الأول على رفض ترشيحه للمرة ~~الثالثة، على الرغم من إلحاح الناس، واعتزل وشنطون السياسة. # وظن الناس أن الفائز بالرياسة سوف يكون هاملتون؛ لما له ولحزبه من نفوذ، ولكنه لم يرشح ~~ورشح بدله جون آدم من الاتحاديين، ويعزى عدم ترشيح هاملتون إلى أمور كثيرة؛ منها أنه جر ~~عليه وعلى حزبه عداوات عنيفة ما كان أغناهم عنها! ومنها أنه لم يكن أمريكيا بمولده؛ فإنه ~~ابن سفيح لتاجر اسكتلندي، ولعل لما أحاط بمولده غير ما يتعلق منه بالموطن أثرا كذلك في ~~رغبة الناس عنه، كما أن كثيرا من الشائعات جرت حول حياته الشخصية. # على أن الحزب قد لحق ms051 به الضعف بخلو الميدان من الرجل الذي أنشأه وقوى دعائمه، كما أن ~~سياسة الاتحاديين - التي عملت على خلق طبقة أرستقراطية غنية تستأثر بالحكم - قد قدر لها ~~الضعف والانحلال بإقصاء هذا الرجل الذي كان حربا متصلة على الديمقراطية، والذي لم يبال عند ~~وضع الدستور أن يقترح أن تكون رياسة الاتحاد وعضوية الشيوخ مدى الحياة، وأن يعين الرئيس ~~حكاما للولايات يكون من حقهم نقض قرارات مجالسها التشريعية، والذي غازل خياله النظام ~~الملكي طيلة حياته السياسية، والذي عمل أثناء حكمه بمبدأ الحماية الجمركية، وجاهد في إنشاء ~~الرأسمالية الصناعية والتجارية، ليبني جيلا غنيا يقاوم به ديمقراطية جفرسون، الذي آمن ~~بالشعب ولم يثق في غير الثروة الزراعية تنمو على أرض واسعة يمكن أن يستمتع بها الجميع. ولئن ~~قدر لها ملتون أن يكون جاعل أمريكا موطن ذوي الملايين، فسوف يقدر لجفرسون أن يكون جاعلها ~~موطن الديمقراطية. # وكانت أكثر الأصوات بعد جون آدم لجفرسون؛ فأصبح هو نائب الرئيس، وصار بذلك الموقف عجيبا؛ ~~فالرئيس ونائبه يمثل كل منهما حزبا من حزبين الحرب بينهما سجال. # أما جون آدم فقد كان شرا على حزبه؛ وذلك أنه جعل العنف سلاحه، فأرسل إلى الكونجرس ~~مشروعي قانونين، قصد بأولهما حماية النظام من العبث به، وكان الآخر خاصا بالأجانب والصلة ~~بهم. ورأى الديمقراطيون أنهم هم المقصودون بذلك، ورأت أغلبية البلاد أن الحرية الوليدة إنما ~~تهيأ لها الأغلال، فهبت العاصفة فزلزلت الاتحادين ورئيسهم، زلزلت مبادئهم زلزالا لم يرجو ~~بعده قوة. # وخرج جفرسون من عزلته وتزعم حركة المقاومة، وكانت كنطكي أول ولاية أعلنت عدم دستورية ~~القانونين، وكتب جفرسون لمجلسها التشريعي ما عرف باسم قرارات كنطكي التي رفضت بمقتضاها ~~اعتماد القانونين في المقاطعة. # وفي سنة 1801 فاز جفرسون زعيم الديمقراطيين بالرياسة، فكان الرئيس الثالث للولايات ~~المتحدة، ثم أعيد انتخابه للمرة الثانية فبقي في منصب الرياسة حتى سنة 1808. # وفي عهد رياسته الأولى أقدم جفرسون على شراء لويزيانا من إسبانيا، وقد آلت هذه المستعمرة ~~العظيمة الممتدة في قلب أمريكا إلى تلك الدولة من فرنسا سنة 1762، وبينما كان يفاوض جفرسون ~~الإسبان ms052 تدخل نابليون فاستعاد هذه المستعمرة لفرنسا في شروط بينه وبين إسبانيا، وأظهر ~~جفرسون كياسة وحزما، وظل يرتقب الظروف حتى نقض صلح أميان بين إنجلترة وفرنسا، واستؤنفت ~~الحرب بينهما، واحتاج نابليون إلى المال فساوم الفرنسيين ليشتري المستعمرة، وتم له هذا ~~الشراء، على أنه تعرض لحملات الاتحاديين، فقالوا إنه أنكر على حزبهم بالأمس تأسيس مصرف بحجة ~~عدم دستورية هذا العمل، وهو اليوم يشتري لحساب الاتحاد مستعمرة بأموال عامة مخالفا بذلك ~~روح الدستور. # وقد أظهر جفرسون ترددا كبيرا عند ترشيحه للمرة الثانية، وما قبل إلا لأنه وجد خصومه ~~يوجهون إليه مطاعن شخصية تمس نزاهته، فرأى أن رفضه الترشيح قد يلقي شبهة على براءته. ولم ~~تقع في رياسته الثانية حوادث ذات بال، وكل ما يعنينا هو أن الديمقراطيين قد ازدادوا من ~~القوة بقدر ما خسر الاتحاديون منها. وتوطدت قواعد الديمقراطية على يد هذا الديمقراطي ~~العظيم، الذي كتب وثيقة إعلان الاستقلال، والذي قاد الحزب الديمقراطي ومكن له في البلاد حتى ~~قضى على ما كان يبيت الاتحاديون من تمكين حكم الأقلية، والذي جرى في حكمه على قواعد ~~ديمقراطية ومظاهر ديمقراطية لم يتحول عنها مرة. # وخلف جفرسون في الرياسة ميدسون، وهو كذلك فرجيني وديمقراطي وأشد أنصار جفرسون تحمسا له، ~~وقد أخذ طيلة عهد رياسته يمكن للحزب الديمقراطي كما فعل جفرسون. # وقد اختير ميدسون كذلك للرياسة مرتين، وفي مدة رياسته الأولى اشتد الخلاف بين إنجلترة ~~والولايات؛ بسبب تفتيش إنجلترة للسفن في المحيط الأطلنتي حتى المحايدة منها، على الرغم من ~~احتجاج الولايات المتحدة مرة بعد مرة على تفتيش سفنها، وتفاقم الخلاف حتى بات ينذر بالحرب، ~~وحاول ميدسون أن يحسم الخلاف بغير حرب فلم يفلح، وتشيع للحرب رجال من ذوي الرأي والنفوذ ~~مثل منرو وهنري كليي ... وأعلنت الحرب سنة 1812 قبيل انتهاء رياسته. # وأعيد انتخابه فأدار دفة الحرب، وعصفت العاصفة بالولايات من الداخل ومن الخارج؛ ففي ~~الداخل بدت بوادر الانقسام، فإن بعض الولايات - وفي مقدمتها نيو إنجلند - رغبت عن الحرب؛ ~~بسبب ما تعرضت له من خسائر تجارية وأضرار ساحلية، وعادت تردد ms053 نغمة حق الولاية في حرية ~~العمل؛ وفي الخارج حاقت الأخطار بالاتحاد على حدود كندا وعند مصب المسيسبي، على الرغم مما ~~أظهر الأمريكان من بسالة وتوفيق في البحيرات، ودفاع مجيد في الجنوب على يد المجاهد البطل ~~جاكسون الذي سوف يكون له شأن عظيم في التطور السياسي لبلاده. # وسئمت إنجلترة القتال، وقد أعياها النضال في أوروبا أمام نابليون، فعقد الصلح بينها وبين ~~الولايات سنة 1814، وخرجت الولايات من المحنة أحسن حالا مما كانت قبل، فإن عدوان الإنجليز ~~قد أيقظ وطنية الأمريكان وحماستهم على نحو ما حدث في حرب الاستقلال، وقام لهم الدليل المادي ~~مرة ثانية على أن نجاة الجميع في اتحادهم وترابطهم. ولقد ارتكب الإنجليز أخطاء جمعت على ~~كراهيتهم الأمريكان من كل حزب، وفي مقدمة تلك الأخطاء إحراق وشنطون بعد احتلالها، ولم يزل ~~بعد إجلائهم اللون الأبيض يغطي مقر الرياسة؛ إشارة إلى محو ما خلفه فيه الحريق من سواد، ~~وما يذكر الأمريكان البيت الأبيض إلا ذكروا ما أصابه من حريق على يد الإنجليز، وتجددت كذلك ~~ثقة الأمريكان في أنفسهم، فهذه أول حرب يخوضونها بعد الاستقلال فيخرجون منها ولم يمسسهم ما ~~كانوا يتوهمون من سوء. # وفي سنة 1816 خلف منرو بعد ميدسون وهو كذلك ديمقراطي من فرجينيا ومن أتباع جفرسون، إلا ~~أنه يزيد عن سابقيه في نزعته القومية، فالاتحاد وزيادة دعائمه همه الأول. # وفي أوائل عهده ظهرت قوة حزب جديد عرف باسم الحزب الجمهوري القومي، في مبادئه خير ما في ~~مبادئ الحزب الديمقراطي، وفيها كذلك بعض مبادئ الاتحاديين خالية من نزعتهم ~~الأرستقراطية. # كان في مقدمة مبادئ هذا الحزب تقوية الاتحاد، وأن تكون للاتحاد سياسة خارجية قوية، وأن ~~يعد الاتحاد ما استطاع من قوة حربية، كذلك كانوا يرون أن ينهض الاتحاد بالإصلاحات التي ~~فيها الفائدة للجميع؛ كالطرق والترع وإصلاح مجاري الأنهار، وأن تدفع الولايات نفقات ذلك كله ~~بغير نظر إلى ما يردده القائلون بحق الولايات، كذلك كانوا يطالبون بالحماية الجمركية لحماية ~~الصناعات الجديدة التي نشأت في البلاد أثناء الحرب، كما أيدوا في حماسة إحياء مشروع ~~هاملتون ms054 بإنشاء مصرف قومي، كل أولئك على قاعدة ديمقراطية سليمة لا تدع مجالا لأقلية تحكم ~~كما كان يريد أشياع هاملتون. # وكانت رياسة منرو عهد هدوء؛ إذ خفت حدة التنافس الحزبي بزوال حزب الاتحاديين، وكان ~~الحزب الجمهوري الجديد ديمقراطي النزعة، وفي عهد الرئيس منرو وضعت اتفاقية مسوري # 1 # الشهيرة في مسألة العبيد، فقضى بها على سبب من أهم أسباب الخلاف بين ~~الولايات. # وقد اختير منرو للرياسة مرة ثانية وأعلن في عهد رياسته الثانية مبدأ منرو الشهير، الذي ~~يحول بين الأوروبيين وبين التدخل في شئون أمريكا، والذي أصبح قاعدة تحرص أمريكا عليها كجزء ~~هام من سياستها. وسبب إعلان هذا المبدأ هو أن دول التحالف الرباعي في أوروبا أرادت التدخل ~~لحمل مستعمرات إسبانيا الثائرة على الإذعان لها، وكانت إنجلترة قد انسحبت من التحالف وقد ~~غاظها أن تستعين الحكومة الإسبانية بالجيش الفرنسي للقضاء على الثورة الدستورية في إسبانيا ~~بإذن من دول التحالف، وفطنت إلى ما يترتب على ذلك من امتداد النفوذ التجاري الفرنسي إلى ~~مستعمرات إسبانيا حول خليج المكسيك، فأشار كاننج وزير خارجية إنجلترة على الرئيس منرو، فخطا ~~هذه الخطوة التي جعلت الولايات المتحدة هي المسئولة عن شئون العالم الأمريكي. # وخلف من بعد منرو سنة 1824 جون كونسي آدم ابن جون آدم الرئيس الذي خلف وشنطون، وقد حدث في ~~انتخابه أنه لم يفز بالأغلبية المطلقة لأعضاء الهيئة الانتخابية، كما أنه لم يفز بها ~~كذلك أحد غيره، وفي مثل هذه الحالة يختار مجلس النواب وفقا للدستور واحدا من الثلاثة ~~الذين حصلوا على أكثر الأصوات، وقد تخطى المجلس أندرو جاكسون، وكان أكثر الثلاثة أصواتا ~~واختار كونسي آدم. # وأذعن جاكسون لحكم الدستور، بيد أنه ما لبث أن جرت إشاعة مؤداها أن فوز آدم على جاكسون ~~إنما يرجع إلى تأثير هنري كليي من كبار زعماء الكونجرس، فلقد دأب هذا الرجل حتى ظفر بإقناع ~~من استطاع إقناعهم من أعضاء مجلس النواب معتمدا على فصاحته ونفوذه ودهائه، وكان هنري يخشى ~~من اختيار جاكسون الجندي للرياسة، مدعيا - فيما ادعى من أسباب - أنه يشفق أن ms055 تتجدد ~~باختياره مأساة يوليوس قيصر. # ولكن شعور السخط يملأ البلاد؛ إذ إنها ترى آدم يختار هنري وزيرا للدولة، وقال الناس إن ~~هذا هو الثمن والأمر مبيت من قبل، وإن المصالح الشخصية بدأت تتسرب إلى السياسة العليا ~~للبلاد ... وحمل جاكسون حملة عنيفة على آدم وصاحبه، وكان جاكسون أقرب الزعماء إلى قلوب الناس، ~~يتمتع بينهم بمحبة لم يظفر بمثلها إلا وشنطون، فلما حل موعد الانتخاب للرياسة سنة 1828 فاز ~~جاكسون بأغلبية كبرى، وولي الرياسة رجل يعد في تاريخ أمريكا من أكبر زعماء الديمقراطية، وفي ~~تاريخ الاتحاد مؤسسه الثاني، وفي تاريخ التطور السياسي للبلاد علما من أبرز ~~الأعلام. # كان جاكسون جنديا لا يعرف الالتواء أو اللين، وكان صريح الطبع لا يماري في صداقة أو ~~خصومة، كما كان صادق العزيمة، إذا هم بأمر يعتقد صوابه لا يثنيه عنه شيء إلا الموت، وقد ~~اتصف بالإقدام والهمة، وتجلى ذلك في الحرب ضد الإنجليز سنة 1812، كما تجلى في حرب الاستقلال ~~من قبل. # وكان جاكسون من أصقاع الحدود، وليس لتلك الأصقاع مثل ما للشرق في أمريكا من ثروة ومدنية، ~~ولكنها كانت صادقة الديمقراطية؛ لأن الناس هناك يكادون أن يكونوا سواسية، والناس هناك أهل ~~جلد وعزيمة وأصحاب فطرة سليمة في الجملة، لم تؤثر فيهم تقاليد الحضارة وأوضاع المدنية ~~أثرا كبيرا كما حدث في الولايات القديمة في الشرق. # وكان جاكسون يؤمن بالديمقراطية إيمان جفرسون، أو لعله كان أشد إيمانا بها، وكان يدين ~~بمبدأ سيادة الشعب وأنه مصدر كل سلطة، فلن تقوم حكومة مشروعة إلا إذا رضي عنها الناس ~~وواجبها أن تفعل بمشيئة الناس على ما فيه صالحهم. # وكانت لجاكسون حاسة غريبة ينفذ بها في سرعة ودقة إلى رغبة جمهور الناس، فإذا عمل فإنما ~~يعمل بوحي منهم، وإنه ليظهر للناس أنه هو الذي يوحي إليهم فيوجههم الوجهة التي يريد، وهذه ~~فيما نرى خلة من ألزم ما ينبغي من خلال لقائد شعبي. وهو بعد يفضل الإخلاص على المقدرة، ~~ويضع القلوب إذا اختار الرجال قبل العقول. # وتتجلى سيادة الشعب في انتخاب جاكسون أكثر مما ms056 تجلت في انتخاب من سبقوه؛ فإن الهيئة ~~الانتخابية التي تختار الرئيس كان يختارها أعضاء المجالس التشريعية في الولايات، ولكن الناس ~~في الولايات - ما عدا كارولينا الجنوبية - هم الذين انتخبوا هذه الهيئة، فجاءت وليدة ~~إرادتهم لا وليدة المجالس التشريعية، فكانت بذلك ممثلة للرغبة العامة. وعد جاكسون مرشح ~~الشعب الأمريكي لا مرشح العلية من الساسة، وجاء نجاحه على الرغم من مجهودات مخالفيه من ~~الزعماء تأكيدا لسيطرة الشعب لا سيطرة فريق من صفوته، فكان ذلك أول مظهر من مظاهر ~~الديمقراطية في وضعها الجديد، كما كانت هذه الخطوة من جانبه - أعني الالتجاء إلى الرأي ~~العام وإغفال مجالس الولايات - ثورة ديمقراطية في سبيل سيادة الشعب. # وكانت أول خطوة خطاها الرئيس الجديد هي اختيار من يعاونونه من رجال الحكومة من الموالين ~~له وصرف من لا يرى التعاون معهم، لا في مناصب الوزراء فحسب، ولكن في المناصب الهامة جميعا. ~~وفعل جاكسون ذلك غير مبال بصيحات خصومه، والحق أن واشنطون قد سبقه إلى مثل هذا ولكن في مجال ~~ضيق، أما هو فقد توسع فيه حتى أصبح هذا الإجراء المظهر الثاني لديمقراطيته، ولقد أصبح فيما ~~بعد تقليدا يحتذيه الرؤساء. قال جاكسون يرد على منتقديه: «لقد انبعث ضجيج شديد حول هذا. إن ~~الأمر سوف يعرض على الكونجرس، وستوضح أسبابه ... إن كل رجل يلي منصبا بضع سنين يعتقد أن له ~~أمره مدى الحياة كحق يكتسب، فإذا وليه عشرين عاما أو أكثر فإنه لا ينظر إليه كحق له فحسب، ~~بل كشيء يرثه أبناؤه، فإن لم يكن له أبناء فأقرب ذوي قرابته. ليس هذا مبدأ حكومتي ... إن ~~تغيير أصحاب المناصب هو الذي يضمن للحرية الدوام.» وواضح من كلامه هذا أنه كان يخشى أن تقوم ~~طبقة معينة بالحكم يرثها أبناؤها فيه، وهذه هي الأرستقراطية. # وألفى جاكسون نفسه محاطا بخصوم أقوياء مثل هنري كليي وكالهون، وغيرهما ممن كان كثير ~~من الموظفين من صنع أيديهم، فكانوا بذلك خير وسائل نفوذهم، وكان كالهون نائب الرئيس، وكانت ~~بينه أول الأمر وبين جاكسون محبة واحترام متبادلين، بيد أنه حدث ms057 أن جرت إشاعة سوء حول زوجة ~~أحد الوزراء الموالين، غضب لها الرئيس أشد الغضب؛ لأن زوجة الوزير كانت تحظى بثقة زوجته ~~التي طواها الموت، وكان الرئيس شديد المحبة والإخلاص لتلك الزوجة الذاهبة؛ ومن ثم كان يعز ~~كل صديقاتها، وهو لم ينس أن زوجه التي يكبر ذكراها لم تسلم هي كذلك من أحاديث الإفك ~~وإشاعات السوء. ونمى إلى الرئيس أن كالهون هو مدبر الإشاعة ليسيء إلى الوزير الذي يخلص له ~~الولاء، كما أنه ما لبث أن اكتشف أن كالهون - وكان وزيرا للحرب في عهد منرو - هو الذي حمل ~~ذلك الرئيس يومئذ على إساءة الظن به وكرهه؛ فلهذا اشتد البغض بين الرجلين وتقاطعا وقد كانا ~~صديقين. # ويعنينا أمر هذا الخلاف لعلاقته بمشكلة دقيقة امتحن فيها ثبات جاكسون وابتليت عزيمته؛ ~~وذلك أن ولاية كارولينا الجنوبية موطن كالهون قد عادت تنادي بحرية الولايات في العمل وتنذر ~~الاتحاد بعاصفة جديدة، وبيان ذلك أن الحكومة - جريا على سياسة الحماية الجمركية التي اتجه ~~الرأي إليها حرصا على الصناعات الجديدة التي نشأت إبان الحرب سنة 1812 - قد قررت على ~~الواردات ضريبة عالية سنة 1828، فغضبت لذلك الولايات الجنوبية مصدرة القطن ومؤيدة مبدأ ~~حرية التجارة، وأعلنت كارولينا الجنوبية إنكارها دستورية هذه الضريبة، ولكن المحكمة العليا ~~خذلتها فيما ادعت، فلجأت إلى قاعدة أخرى أذاعتها مؤداها أن لكل ولاية في الأمور الخارجية ~~مثل ما لأي دولة مستقلة لا ترتبط إلا بما تقضي به معاهدة الاتحاد، وعلى ذلك فهي تتصرف في ~~موقفها من هذه الضريبة دون مراعاة لأية سلطة مركزية؛ ونتيجة لهذا أعلنت إلغاء الضريبة ~~الجمركية من موانيها. # ووضعت كارولينا بذلك أساس قاعدة خطيرة؛ هي حق كل ولاية في إلغاء ما لا توافق عليه مما ~~تفرضه حكومة الاتحاد، وفي ذلك زلزلة للاتحاد في كل وقت. # وبات الموقف بالغ الحرج؛ فإن جاكسون من أهل الجنوب بمولده وإن كان من أصقاع الحدود ~~الغربية بنشأته، وإنه يدين بنجاحه ومكانته للجنوبيين أكثر مما يدين لغيرهم، وإن له خصوما ~~يتربصون به، وقد اعتزل كالهون منصبه وبات في أهل كارولينا ms058 ، زعيمهم الذي لا يمل، ولسانهم ~~الذي لا يكل. # والرئيس جاكسون حريص على الاتحاد ما وسعه الحرص، وعنده أن فصم عروته هي الكارثة التي لا ~~تعظم عنها كارثة، ولكنه في الوقت نفسه ديمقراطي مثل جفرسون، وهو لم ينس موقف جفرسون وأنه ~~صاحب قرارات كنطكي. # وتهيأت فرصة لتسمع البلاد رأي جاكسون، وكان الرئيس قد مال إلى ضريبة معتدلة ليجمع بين ~~الرأيين، وأغضبه أن خصومه لم يرضوا حتى بهذا، فلما كان عيد ميلاد جفرسون اجتمع عدد كبير من ~~السياسيين، وألقوا الخطب، وشربوا الأكواب، وكانت معظم الخطب في جانب حرية الولايات في ~~العمل، ونهض جاكسون وشرب كوب الاتحاد قائلا في عزيمة وصرامة: «إتحادنا! إنه يجب أن نحفظه.» ~~ونهض كالهون فحاول أن يخفف من وقع كلمة جاكسون فقال: «اتحادنا هو أعز شيء لدينا بعد ~~حريتنا.» وفهم الناس مغزى كلمة الرئيس؛ فلم تكن إلا إعلان الحرب. # وأخذ الرئيس يعد عدته، فكتب إلى الكونجرس يطلب أن يمنحه حق القضاء على المؤتمرين في ~~كارولينا بقوة السلاح، وأفضى إلى وزرائه بتصريح خطير، جاء فيه أنه إن لم يوافق الكونجرس فلن ~~يعدم حيلة! إنه سيدعو البلاد لإرسال متطوعين لحماية الاتحاد، ثم يزحف على رأسهم فيغزو ~~الولاية الثائرة، ويقبض على رءوس الفتنة فيها. وهال أهل كارولينا تصريح الرئيس المصمم، وحار ~~خصوم الرئيس من أعضاء الكونجرس في أمرهم حيرة شديدة. # واتصل هنري كليي بكالهون يقترح حلا وسطا، ومؤداه أن تخفف الضريبة بعض الشيء، ووافقه ~~كالهون، ومال الرئيس إلى قبول ذلك الحل، ولكنه اشترط أن يوافق الكونجرس على لائحة استعمال ~~القوة، وأن تكون اللائحة سابقة في صدورها صدور اللائحة بالحل الذي اقترحه هنري وكالهون. ~~وظفر الرئيس بما أراد وصدرت اللائحتان حسبما طلب، ورجعت كارولينا عن ثورتها، ونفذت الضريبة ~~الجديدة! كتب الرئيس إلى أحد أصدقائه قائلا: «إن لديك بعض من يقولون بحق الإلغاء، ألا ~~قطب لهم وجهك؛ فما كانت الضريبة إلا حجة واهية، وإنما يريد الجنوبيون اتحادا خاصا بهم ~~من الولايات الجنوبية، وإن حجتهم القادمة سوف تكون مسألة العبيد.» ولله ما أعجب هذه النبوءة ms059 ~~التي سوف تثبتها الأيام! # ونفض الرئيس من المشكلة يديه ظافرا، وقد ازداد إعجاب الناس ببسالته ووطنيته وإخلاصه ~~للاتحاد، ولكن خصومه تداعوا وتكاتلوا يعارضونه ويتهمونه بالثورة على الدستور، وينددون ~~بلائحة استعمال القوة، وراح هنري كليي يقول إنه كان محقا في تخوفه من اختيار جاكسون ~~الجندي لرياسة الاتحاد. وهكذا تألفت في الكونجرس جماعة قوية من الساسة تناصل جاكسون. # وفي مثل هذا الجو العاصف تحدى الرئيس خصومه في قضية أخرى اهتم بها الرأي العام أعظم ~~اهتمام؛ وهي قضية مصرف الولايات المتحدة. # قضي على المصرف الأول الذي دعا إليه هاملتون والذي عارضه فيه جفرسون، وذلك بعدم تجديد ~~لائحة سنة 1811، ولكن مصرفا جديدا أنشئ سنة 1816، وما لم تتجدد لائحته فإنه ينتهي سنة ~~1836، ولكن جاكسون يكره هذا المصرف كما يكره جميع المصارف؛ ولذلك يقف عقبة في سبيل تجديد ~~لائحته. # كان جاكسون يكره المصرف؛ لأنه يضم عددا كبيرا من رجال الحكم والسياسة، ولأنه جزء من مال ~~أجنبي، وقر في نفسه أن المصارف فتنة للناس، وأداة لإفساد الضمائر والنفوس، وخطر على روح ~~الديمقراطية، وشايع جاكسون الكثير من أهالي الولايات، وعلى الأخص الغربية والجنوبية؛ لأن ~~معظم هؤلاء كانوا من المدينين للمصرف، بينما كان أهل الشرق والشمال هم أصحاب الصناعة وأصحاب ~~المال. # وحمل خصوم جاكسون حملة عنيفة عليه، ورموه بالجهل بالأمور المالية وقصر النظر، ولكنه لم ~~يعبأ بذلك كله وظل كالصخرة لا تنال منه العاصفة. # وقد كان لمعظم هؤلاء مصلحة شخصية في بقاء المصرف، حتى الوزراء أنفسهم قد انقسموا حزبين: ~~أحدهما يؤيد الرئيس، والآخر يخالفه. ووافق النواب على لائحة التجديد ووافق عليها الشيوخ، ~~ومعنى ذلك أن الكونجرس يؤيدها، ولكن الرئيس على الرغم من ذلك يرفض اللائحة، ثم هو يحذر ~~الكونجرس في رسالة بليغة مذكرا أعضاءه بمساوئ المصارف، وأنها وسيلة لاستعباد طائفة من ~~الشعب طائفة أخرى، وبأن «أمواله الأجنبية أشد عداوة وأشد خطرا على الاتحاد من أسطول دولة ~~معادية وجيشها»، ويقطع جاكسون الطريق على المحكمة العليا التي صار لها بحكم التقاليد أن ~~تفصل في الخلاف الدستوري إذا نجم بين الرئيس والكونجرس ms060 ، فيصرح أنه يجب ألا تكون المحكمة ~~العليا مهيمنة على السلطتين التنفيذية والتشريعية، وإنما ينبغي ألا يكون لها من أثر إلا ~~بقدر ما يكون في آرائها من إقناع، والحقيقة أن الدستور لم يبين ما إذا كان واضعوه قد قصدوا ~~أن تكون للمحكمة العليا الكلمة النهائية في دستورية القوانين أم لم يقصدوا. # وطمع هنري كليي في تأييد الرأي العام، فدعا إلى عقد مؤتمر للدفاع عن المصرف سماه مؤتمر ~~الهوج، وتألف حزب جديد بهذا الاسم جمع معارضي جاكسون، ولكن ما كان أعظم دهشة هؤلاء ~~الساسة وحيرتهم وقد حل موعد الانتخاب للرياسة سنة 1832 أن يروا جاكسون يظفر هذه المرة، على ~~الرغم من نشاطهم بأغلبية تتضاءل أمامها تلك التي حصل عليها سنة 1828، ورأى هؤلاء الناس عين ~~اليقين أن الرجل الذي يؤيده شعبه لن تخذله قوة أو حيلة! # وكانت الانتخابات لمجلس النواب تجرى أثناء انتخاب الرئيس، فجاءت أغلبية المجلس الكبرى في ~~جانب جاكسون، أما مجلس الشيوخ فظلت فيه أغلبية من الهوج المعارضين، وذلك لأن مجلس النواب ~~يتجدد كل سنتين بينما يبقى مجلس الشيوخ ست سنوات! # وظل الشيوخ على عدائهم للرئيس حتى بلغ بهم الأمر أن قرروا توجيه اللوم رسميا إليه، ولكن ~~حينما تجدد انتخاب الشيوخ ظفر جاكسون بأغلبية المجلس، وغلب الهوج على أمرهم، وسحب المجلس ~~الجديد ذلك اللوم الذي وجه للرئيس وحذفه من المضبطة. أما لائحة تجديد المصرف فقد رفضت ~~وبات إلغاؤه أمرا مقضيا. # وقضى جاكسون ما بقي من مدة رياسته الثانية في هدوء، ولو كانت له شهوة للحكم كما ادعى ~~خصومه لقبل رياسة ثالثة، ولكنه آثر أن يفعل كما فعل وشنطون؛ فرفض الترشيح على الرغم من ~~إلحاح الشعب، وذهب إلى عزلته حيث عاش تسع سنوات ثم قضى نحبه بعيدا عن السياسة وأعاصيرها، ~~وانقضت حياة الرجل الذي كتب بأفعاله صفحة مجيدة في تاريخ أمريكا، فوطد سلطة الشعب وقضى على ~~سيطرة الفئة القليلة من السياسيين، وأقام بنيان الاتحاد وقد أوشك أن ينقض، وجعل سلطة الرئيس ~~مستمدة من الرأي العام، متمشيا في ذلك مع روح الديمقراطية. # | عضو في ms061 مجلس إلينوى # في سنة 1834 تقدم لنكولن ثانية للناخبين، وكان يومئذ قد ناهز الخامسة والعشرين! وبعد جهود ~~متصلة فاز أبراهام بأغلبية الأصوات، فأصبح عضوا في المجلس التشريعي لولاية إلينوى، وكان ~~ذلك في رياسة جاكسون الثانية، ولقد منحه بعض الديمقراطيين أصواتهم وهو هوجي؛ وذلك لفرط ~~محبتهم إياه. # وكانت قاعدة الولاية مدينة فانداليا، وهي على نحو خمسة وسبعين ميلا جنوبي نيو سالم، ~~وفيها ينعقد مجلسها التشريعي، فكان على لنكولن أن ينتقل إليها، فاقترض بعض المال ليشتري من ~~الملابس ما يصلح لمن يمثل الناس في المجلس التشريعي، وبهذا أضاف بعض الجنيهات إلى دينه ~~الأهلي! # وكان هذا المجلس يمثل نحو ربع مليون من السكان، ويبلغ عدد أعضائه نحو ثمانين، يجلس منهم ~~الثلثان في قاعة وهم النواب، والباقون في قاعة أخرى وهم الشيوخ. # وكان مقعد لنكولن بين مقاعد النواب، ونظر عامل البريد ومخطط الأرض حوله يتطلع إلى زملائه ~~ويقارن في صمت بينه وبينهم، ويذكر أنه قرأ كثيرا من الكتب وعني بينها بكتب القانون، وأنه ~~سافر في تجارة مرتين، وأنه خبير بالطرق ومجاري الأنهار، وأنه عليم بحال الناس في مقاطعته ~~منذ أن عمل في البريد وفي تخطيط الطرف؛ فهل يقل مرتبة عن هؤلاء السادة الذين يجلسون حوله؟! ~~إنه يفسح لهم ويقدمهم على نفسه ويخفض جناحه لهم جميعا، وينصت إلى مناقشاتهم في صمت، لا ~~يقاطع، ولا يدفع بنفسه إلى الظهور كما يفعل غيره، ولكن مرد ذلك كما يحس بينه وبين نفسه ~~إلى خلقه لا إلى تهيبه أو فقدانه الثقة في نفسه. # وهو مغتبط أن يرى لونا جديدا من الحياة وبيئة جديدة من المجتمع، وإنه ليفكر ويتدبر ~~ويدير عينيه إلى كل شيء ويختزن في رأسه كل شيء، وإن طول قامته ليلفت إليه الأبصار أينما ~~ذهب. على أنه أخذ يجتذب القلوب كذلك بشيء يلازمه أبدا؛ وذلك هو ما يقص من أنباء وما يروي ~~لجلسائه من قصص! # وهو في السياسة وأساليبها معجب بهنري كليي وما أوتي من مهارة وكياسة، وعلى الأخص في ~~تقريب مسافة الخلف بين المتخالفين؛ فما ينشأ خلاف إلا ms062 كان هنري صاحب اليد الطولى في إزالة ~~أسبابه، وإنه كذلك لخطيب يقل أنداده، ثم إنه رجل برلماني يتمنى الرجال أن يكون لهم مثل ما ~~أوتي من لباقة وفصاحة، وما توافى له من قوة عارضة وبلاغة بيان ومهارة جدل. # أما من حيث المبدأ فهو وإن كان من الهوج إلا أنه يحب جفرسون حبا عميقا، ويعجب ~~بإخلاصه في ديمقراطيته، وبشدة وطنيته، وصادق حرصه على بناء الاتحاد، وعميق إيمانه بالشعب ~~ومبدأ سيادة الشعب، وهو يكبر جاكسون ولكنه يحس بشيء من القلق يشبه الكراهية إزاء بعض ~~تصرفاته؛ فهو وإن كان يستند فيها إلى الشعب إلا أنه يشعر المرء بما هو أقرب إلى الأساليب ~~الديكتاتورية. # ثم اتضح من خلال أبراهام في المجلس ما عطف عليه القلوب؛ رأى منه زملاؤه الإخلاص والحماسة ~~في غير تعصب؛ فهو يدافع عما يعتقد أنه الصواب في قوة وفي إصرار يشبه أن يكون عنادا، فما إن ~~يتبين الحق في جانب مجادله حتى يسلم له في سرعة تسليم الرضاء والغبطة، وأنس فيه زملاؤه ~~فوق ذلك قوة في التعبير عما يريد، كان مبعثها لقانة عجيبة تواتيه بالكلمة المطلوبة لا تزيد ~~ولا تنقص عما في خلده من معنى، وتلك خلة ستكون في غد جانبا من أهم جوانب زعامته. # وكان له على شهود جلسات المجلس أجر يعادل ما كان يناله من عمله في تخطيط الأرض، وهو لم ~~يزل يؤدي ذلك العمل، وكان هذا كفيلا أن يكفيه عسر الحياة لولا ما أثقل كاهله من ~~الدين. # ولم يجد الفتى من أعضاء المجلس ما يهزه هزة إعجاب أو محبة، وقل فيهم من تعجبه فصاحته أو ~~كياسته، بيد أنه يرى في صفه رجلا يكاد يكون على نقيضه في كل شيء، رجلا ربعة عريض المنكبين ~~أنيق المظهر، جم النشاط لا يكاد يستقر في موضعه، طموحا يدس أنفه في كل شيء ويجادل في كل ~~أمر؛ وذلك هو دوجلاس، وإن أبراهام ليحس أن سيكون لهذا الرجل في غد شأن في السياسة ~~عظيم. # وكان أبراهام يزور نيو سالم كلما سمح له وقته وهو ms063 اليوم يحب آن كما يكون الحب، فلقد ~~أكبرته وأعجبت برجولته إذ ظل على ولائه لها. بينما هجرها خاطباها واحد بعد الآخر لما نزل ~~بأبيها من فاقة، وسرعان ما أحبته كأعظم ما يكون الحب، وألفى أبراهام نفسه في ربيع العيش ~~حقا؛ لا يرى حوله إلا جمال الربيع ولا يحس إلا نشوة الربيع، يروح ويغدو مع صاحبته وكأنهما ~~من فرط مرحهما طائران من طيور الخمائل، ولكن الربيع - وا أسفاه! - لن يطول بل إنه لينقلب في ~~مثل عمر الزهر إلى جحيم! نزلت الحمى كما نزلت من قبل وهو غلام في كنطكي، وحلت بجسده فتغلبت ~~عليها قوة ذلك الجسد، ولكنها مست صاحبته فلم تقو عليها؛ فكان من ضحاياها طائرة الجميل! ~~وبات الفتى والحزن يرمض قلبه ويأكل أحشاءه، ويتلقى الصدمة الثانية بعد فجيعته في أمه، ~~فكأنها الضربة تأتيه في مقتل! لقد وهنت عزيمته وخارت قوته وذوى عوده القوي، وصار يراه الناس ~~أحيانا هائما على وجهه يهذي كأن به جنة، حتى نصح له طبيب أن يرتحل، فنزل ضيفا عند ~~أسرة صديقة كانت تقيم بعيدا عن نيو سالم، ولكن همه لازمه إلى هناك، حتى لقد شاطره ذات ليلة ~~نفر من جلسائه حزنه حين سمعوه يصرخ من أعماق قلبه: «لا. لا أطيق أن أذكر أنها ترقد هناك ~~وحدها حيث ينزل المطر فوق قبرها وتصخب العاصفة!» # ولكن اليأس يسلمه ثانية إلى الحياة حيث لا معدى عن الحياة ولا حيلة في البلوى! ويحل موعد ~~الانتخابات للمجلس، وقد ازداد الناس محبة له وإكبارا، وازداد هو خبرة واكتسب أنصارا، ~~وأظهرته الانتخابات هذه المرة خطيبا كأحسن ما يكون الخطيب في مثل هذه السن، وبرزت روح ~~فكاهته وتهكمه اللاذع فكانت من أسباب قوته، قام يحمل عليه أحد خصومه من الحزب الديمقراطي، ~~وكان قد حصل بتغييره مبدأه السياسي على مرتب سنوي كبير، وقد علم الناس أنه كان يقيم في منزل ~~أنيق في مدينة سبرنجفيلد في قمته حديدة لمنع الصواعق، وكانت بدعا يومئذ وترفا، وأسرف هذا ~~الخصم في الطعن على أبراهام، وأعلن في خطابه أنه لن ms064 يستقر إلا أن يحط من قدره في أعين الناس ~~ونفوسهم، وأشار إلى حداثته وجهله، وسخر من ملبسه وهيئته ونشأته وبالغ في الزراية عليه، ووقف ~~ابن الأحراج يرد عليه فقال: «إني أدع لكم أيها المواطنون أن تقرروا ما إذا كنت أهلا لأن ~~ترفعوني أو تحطوا من قدري، رأى هذا السيد أن يشير إلى حداثة سني ولقد نسي أني لست صغير السن ~~صغري في ألاعيب الساسة وتجارتهم. إني أحب أن أعيش كما أحب أن أرقى وأصبح ملحوظ المكانة، ~~ولكني أفضل الموت على أن أحيا فأرى اليوم الذي أصنع فيه ما صنع ذلك السيد، فأغير مبدئي من ~~أجل ثلاثة آلاف دولار في العام، ثم لا أستطيع أن أنام في منزلي إلا أن أضع في قمته مانعة ~~للصواعق أحمي بها ضميرا آثما من غضب إله ساخط.» وضج الجمع بالضحك وصاروا بعدها لا يرون ~~هذا الرجل إلا أشاروا إليه قائلين: «هذا هو الذي لا يستطيع أن يرقد في بيته إلا في حماية ~~مانعة تمنع الصواعق يخشى أن يصبها الله عليه.» # وبرهن أبراهام على نضجه السياسي المبكر في رد كتبه إلى صحيفة طلبت إلى المرشحين أن ~~يبينوا مناهجهم، جاء فيه: «سأسعى حتى يفوز جميع من يدفعون الضرائب ويحملون السلاح من البيض ~~بحق الانتخاب، لا أستثني من ذلك النساء بأي حال، فإذا انتخبت فسأعد أهل سنجون جميعا هم ~~مرسلي سواء من اختارني منهم ومن لم يفعل، وفي غير ذلك سأسير وفق ما يمليه علي تقديري ~~مراعيا مصالحهم أبدا، وسواء انتخبت أم لم أنتخب فإني أؤيد بيع الأراضي العامة للولايات ~~المختلفة، كما أعين الدولة في مشروعات حفر القنوات ومد طرق الحديد بغير أن تقترض مالا تدفع ~~عنه أرباحا.» # وتقدم ذات مرة أثناء المعركة الانتخابية خصم آخر من الديمقراطيين، أنيق الملبس بدين، فعرض ~~بالهوج وسماهم أرستقراط الاتحاد، وبينما هو في كلامه إذ فتحت حلته فكشفت عن سلسلة ذهبية ~~على صداريته، وأختام ودوال من الذهب وغيرها من وسائل الزينة، فوثب لنكولن وأشار بيده إلى ~~ملابسه هو التي لا يعلق بها ms065 إلا طيف البلى وأمارات القدم، وقال وقد وضع كفه على صدره: «هذا ~~هو رجلكم الأرستقراطي أحد لابسي الجوارب الحريرية المترفين»، ثم بسط كفيه مادا ذراعيه إلى ~~جانبيه وقال وهو يومي برأسه إلى كفيه الكبيرتين اللتين تركت فيهما الفاس أثرها: «وها هما ~~هاتان يدا بارونكم البيضاوان الناعمتان ... حقا إني أعتقد كما قال ذلكم السيد أني ~~أرستقراطي نفخته العظمة والكبرياء.» # وكتب لنكولن في تلك المعركة إلى أحد الديمقراطيين ردا على إشاعة أطلقها عنه فقال: ~~«أنبئت أنك أذعت في الناس أثناء غيابي في الأسبوع الماضي أن لديك حقيقة أو حقائق، لو اطلع ~~عليها الناس لقضت قضاء مبرما على أملي وأمل إدوارد في حركة الانتخابات القائمة، ولكن تأبى ~~عليك مجاملتك إيانا أن تعلنها. وأنا أقول لك إنه ما من شخص يطلب الجميل كما أطلب، كذلك قل ~~في الناس من يتقبل الجميل كما أتقبل، ولكن الجميل إلي في مثل هذه الحال معناه الجور في حق ~~الناس؛ ولذلك فإني استميحك أن تنصرف عنه، إن حيازتي ثقة أهل سنجمون ذات مرة أمر مقرر، فإذا ~~كنت أتيت أمرا يحرمني إذا عرف تلك الثقة، سواء كان إتيانه عن إصرار أو عن خطأ، فإن الذي ~~يعرف هذا الأمر ثم يخفيه إنما يخون صالح بلاده، وليس يقوم بذهني شيء عما عساه أن تكون ~~الحقائق التي تتحدث عنها واقعية كانت تلك الحقائق أو مزعومة، بيد أن ما أعهده فيك من الصدق ~~لا يسمح لي برهة أن أشك في أنك على الأقل تعتقد ما تقول. إني أراني مدينا لك بهذا الاعتبار ~~الشخصي الذي أبديته نحوي، ولكني آمل أن ترى إذا ما تأملت ثانية أن صالح الناس أهم من ذلك. ~~وعلى هذا فلا تتحرج أن تعلن الحق. وأؤكد لك أن ذكرك ما لديك من الحقائق في صدق وأمانة لن ~~يفصم ما بيني وبينك من عرى الصداقة مهما بلغ ما ينالني منه، هذا وإني أرجو أن يأتيني رد منك ~~على كتابي هذا، ولك الحرية أن تنشر الكتابين إذا أردت.» # أصبح ملكا للزمان ودخل في التاريخ ms066 . # اقرأ هذا الكتاب تر كيف يملك أبراهام قلوب الناس بأمانته ودماثته وإخلاصه، ثم انظر إلى ~~قوة حجته وروعة منطقه وحسن دهائه، وتأمل في أدبه وتحشمه، وهو في موقف من يرد الإهانة عن ~~نفسه؛ تلك لا شك مزايا تسلكه في أحرار الشمائل وعظماء النفوس. # وفاز لنكولن ثانية في الانتخاب وحق له أن يفوز، وكان له في المجلس أصدقاء، منهم ثمانية ~~كانوا مثله في طوله القامة، وكانوا يجلسون رفقة فعرفوا باسم التسعة الطوال، وكان أبراهام ~~أطولهم في المعرفة باعا وأعلاهم في الخلق مقاما؛ فلقد ظهرت صفات ابن الغابة لهم في وضوح، ~~فأعجبوا بأناته ودماثته وبعد نظره، وفتنتهم بلاغته وأسلوبه في الحوار والجدل، وهم يغبطونه ~~على سعة صدره وشجاعته وصراحته، ويحمدون له رقة عاطفته وشفقته وسلامة طويته، وإنهم فوق ذلك ~~يلذهم حديثه وتطربهم أقاصيصه وتأسر قلوبهم مودته، وإنه ليقرأ اليوم قراءة منتظمة، فقد مر ~~العهد الذي كان يتناول فيه أي كتاب يصادفه، هو اليوم يقلب صفحات التاريخ فليس ألزم منه فيما ~~يرى لرجل السياسة، وهو يستزيد من القانون نصوصه وفقهه، وهو يدرس حال أمريكا من جميع ~~نواحيها، ويطيل النظر في تاريخ ساستها وفي مناهجهم في الإصلاح وأساليبهم في توطيد سياستهم، ~~يستوعب ذلك كله لا يفوته منه شيء. # وحدث في هذه الدورة أن أصدر مجلس إلينوى قرارات يؤيد بها قرارات مثلها أصدرتها بعض ~~الولايات المتمسكة بامتلاك العبيد، فغضب أبراهام وعادت إليه ذكرياته القديمة عن العبيد وسوء ~~حالهم، وكان فريق من ذوي الرأي يومئذ ينددون في الصحف بهذا النظام وينعتونه بالقسوة والظلم ~~ومجافاة الإنسانية، ولكن ولاية إلينوى تؤيد النظام وتحبذه، ويعلن كثير من أهلها أنه يمكن ~~الاعتماد على ولايتهم في توطيد هذا النظام ومحاربة من يودون القضاء عليه من أهل ~~الشمال. # بيد أن أبراهام لا يستطيع أن يكتم في نفسه رأيا يرى الحق في إعلانه؛ لذلك قدم هو وزميل ~~له من التسعة الطوال احتجاجا شديدا على قرارات مجلس الولاية بقسميه، ونشرت الصحف هذا ~~الاحتجاج الجريء، وأشفق بعض خلصاء لنكولن من أثر هذا القرار على مستقبله ms067 السياسي، ولكنه ~~الرجل الذي ينظر إلى الصالح العام قبل أن ينظر إلى صالح نفسه، وإنه لأهون عنده أن يناله ~~الضر من أن يتنكب طريق الحق، على أن أهل مقاطعة سنجمون التي انتخب عنها يتلقون نبأ احتجاجه ~~لقاء طيبا، فيثنون على أبراهام؛ لأنهم يعلمون أنه لا يقول إلا ما يؤمن أنه الحق، كما أثنى ~~أهالي الجنوب على اعتداله وتحفظه. # ويضيق ابن الغابة أحيانا بمكر رجال السياسة وألاعيبهم، فهم يتقنون المساومة والمخادعة، ~~ويخفون أطماعهم الشخصية وراء الكلمات البراقة والبيان الخلاب، ولا يعطون إلا بقدر ما ~~يأخذون، إذا وافقوا اشترطوا ما يحقق مآربهم، وإن خالفوا فذلك ليشتروا بخلافهم ما يريدون، ~~تجلت له صفاتهم في أمر لم يظن أن لأحد فيه مصلحة شخصية؛ وذلك أن رغبة كثير من الناس اتجهت ~~إلى نقل قاعدة الولاية إلى مدينة سبرنجفيلد؛ وذلك لقربها من العمران وطرق المواصلات. وأيد ~~فريق من أعضاء المجلس - ومنهم أبراهام - هذه الرغبة، ولكن فريقا منهم يخالفونها، ويجتهد ~~أبراهام وبعض أصحابه في حمل هؤلاء على الموافقة، ولكنهم يساومون ويشترطون موافقة أبراهام ~~وأصحابه على أمور أخرى ثمنا لموافقتهم على هذا الرأي، ولا يسع ابن الكوخ إلا أن يشير إلى ~~مثل هؤلاء الساسة مرة في عبارة شديدة لاذعة قال: «هذا صنيع الساسة وهم فريق من الناس نرى ~~أبدا لهم مآرب بعيدة عن الصالح العام، ونرى كثيرا منهم يبتعدون بهذا خطوة طويلة عن ~~الأمناء من الرجال، إني أقول ذلك بكل صراحة؛ لأني - وأنا سياسي كذلك - لا يمكن أن يحمل ~~كلامي على أنه يراد به طعن شخصي.» # وتغلب أخيرا رأي لنكولن وأصحابه، وتقرر نقل القاعدة إلى سبرنجفيلد، وعد هذا انتصارا ~~له فقد جاهد من أجله جهادا متصلا. # | في سبرنجفيلد # دخل أبراهام مدينة سبرنجفيلد على جواد هزيل استأجره، يحمل كل ما يملك من متاع الدنيا في ~~جوالق صغير ذي ناحيتين وفي جيبه مبلغ لا يزيد عن سبعة دولارات، وكاهله لا يزال مثقلا بما ~~سماه الدين الأهلي! # دخل هذه المدينة وهو اليوم ابن ثمان وعشرين، كما دخل مدينة نيو سالم قبل ms068 ذلك بنحو سبعة ~~أعوام، لا يدري أين يتخذ مأواه أو على الأقل أين يلقي رحله لساعته. # وكانت المدينة يومئذ آخذة في الاتساع والنمو، بيد أنها كانت لا تزال تعلق بها مسحة من ~~الغابة؛ إذ كان منبتها كغيرها أول الأمر وسط الأحراج، وكان لا يزال بها عدد كبير من المنازل ~~أو الأكواخ المتخذة من الكتل الخشبية، على أن مباني جديدة من الآجر كانت آخذة في الظهور ~~يوما بعد يوم، وبها أخذت المدينة كصاحبنا أيب تخلع عنها ما تخلف فيها من حياة الغابة شيئا ~~فشيئا. # ربط أبراهام جواده إلى عامود على جانب أحد الشوارع، وحمل خرجه على ذراعه، واتجه إلى ~~حانوت يملكه رجل من أهالي كنطكي يدعى سبيد، فسأله أيب عما يلزم من المال لشراء سرير وفرش، ~~فلما أخبره الرجل أن ذلك يكلفه سبعة عشر دولارا أخذته حيرة شديدة، وقال له وفي نظرات وجهه ~~أمارات الهم والربكة: «إن هذا ثمن رخيص، ولكني مع ما يبدو من رخصه لا أستطيع أن أدفعه؛ إذ ~~ليس لدي مال، بيد أني سأحترف المحاماة ولي في الربح أمل، فهل تمهلني إلى عيد الميلاد ~~القادم؟» وأطرق أبراهام قليلا ثم أردف قائلا: «وإذا أنا عجزت يومئذ عن أن أؤدي لك حقك، ~~فلست أعلم ما إذا كنت أستطيع أن أؤديه لك أبدا.» # وكان الرجل طيب القلب، فتملكته الشفقة على هذا الغريب الذي لا يجد مأوى، والذي يبدو له ~~من أمانته بقدر ما يبدو من فاقته، فقال سبيد: «اصعد إلى حجرتي فوق الحانوت، فستجد سريرا ~~كبيرا يسع شخصين، وأنا أعرض أن نقتسمه إذا أحببت.» وصعد أبراهام إلى الحجرة وعاين السرير، ~~ونزل وعلى وجهه أمارات الرضا، وفي قلبه شعور الغبطة بهذه الصداقة الجديدة التي سوف تقوى على ~~الأيام. # كان أبراهام مزمعا أن يتخذ من المحاماة مرتزقا، فقد اعتزم أن يترك العمل في البريد وفي ~~تخطيط الأرض منذ أن هم بالرحيل إلى سبرنجفيلد، فأقبل على كتب القانون يستزيد منها علما، ~~وكان يعيره بعض الكتب محام في المدينة يدعى ستيوارت، وما لبث أن رأى ms069 ستيوارت من ذكاء ~~صاحبه وطيب سريرته وحسن طويته ما دعاه إلى أن يشركه معه في العمل، ولم يكن ذلك يستدعي يومئذ ~~امتحانا أو شهادة خاصة، وقبل أبراهام مغتبطا، يحس كأن الأيام توشك أن تبسم له بعد تجهم ~~طويل، فله اليوم في السياسة مجال وله في المحاماة مجال. # ولكن هناك من الأمور ما لا يزال يكدر خاطره ويكرب نفسه؛ وذلك ما كان من غرامه الثاني، إن ~~جاز لنا أن نسمي علاقته الجديدة بعد موت آن غراما. والحق أن هذا الجانب من حياة أيب - جانب ~~علاقته بالمرأة - أمر يدعو إلى العجب، حتى ليحمله المرء على ما كان من شذوذه في بعض أموره ~~أكثر مما يحمله على ما كان من حصافته في معظم الأمور. # عرف لنكولن - فيمن عرف من أهل نيو سالم - امرأة كانت تضيفه أحيانا فتحسن ضيافته، وظل ~~يغشى منزلها زمنا حتى أصبح كأنه من أهلها، وحدثته تلك المرأة - فيما حدثته - عن أخت لها ~~غائبة ألقت عليها من الصفات ما تبتكره أخت حين تبحث لأختها عمن يطلب يدها، ورد عليها ~~أبراهام مرة وهو لا يدري أمازح فيما يقول أم جاد، إنه يرحب بالزواج من تلك الأخت إذا قبلت، ~~ولما عادت كانت تجلس إليه ويجلس إليها. # وصور له خياله أن كلمته ميثاق لن يسمح له ضميره أن يتحلل منه، ولكنه في حيرة دونها كل ما ~~سلف له من حيرة؛ فإنه لا يحس في قلبه نحوها مثل ما يحسه المرء حين يمر به طائف من الحب، وهو ~~مع ذلك لا يستطيع أن يقطع أنه لا يحبها؛ إنها تعجبه بذكائها وما علمت من علم وما امتلكت من ~~متاع، وإن لم يكن كثيرا، وهو قد قطع على نفسه عهدا، أو ما يشبه العهد، ولكنه لا يدري إن ~~كان يحبها حقا كما يكون الحب، أم أن فراغ قلبه بعد موت آن قد جعله يركن إليها ظانا أنه ~~الحب! # إنه لحائر ضائق بأمره، فلعل ما هو فيه اليوم من أمور السياسة ومن شئون عمله الجديد في ~~المحاماة ما ms070 يصرفه حينا عن هواجسه ووساوسه. # ذهب أيب ليبدأ عمله الجديد، وهو ذلك العمل الذي طالما تاقت نفسه إليه، وإن فرحه بهذا ~~العمل الذي منى به نفسه كثيرا وهو بين الأحراج لخليق أن يذهب عنه الحزن، ويدرأ عن نفسه ~~الضيق. أوليس يغدو محاميا يدافع عن المظلومين ويملأ قلوب الناس إعجابا بفصاحته، كما ملأ ~~قلبه مرة ذلك المحامي المدل الذي ازدراه يوم تقدم ليهنئه وهو بعد غلام حائر بين الفأس ~~والكتاب؟! # وكانت الحجرة التي اتخذها ستيوارت لعمله ضيقة، بها رفوف للكتب تزدحم بالكثير منها، وبها ~~منضدتان وبعض الكراسي الخشبية الجافة وأوراق مبعثرة في كل ركن، وكان أبراهام أول الأمر يعمل ~~عمل الكاتب ويقابل أصحاب القضايا وينسخ المحاضر ويرتب المواعيد، وكان ذلك يضايقه بعض الضيق، ~~ولكنه كان يحظى بشهود الجلسات فيذهب عنه ضيقه. # ثم ترك له ستيوارت ما خف من القضايا ليترافع فيها، ففرح المحامي الناشئ بهذا فرحا ~~شديدا، وأقبل على عمله في همة وسرور بالغين. # وانبعث دستوره في المحاماة بادئ الأمر من أعماق نفسه، فهو دستور قائم على توخي الحق ~~والدفاع عنه ونصرة المظلومين والأخذ بيد المستضعفين، كان لا يقبل قضية لا يقتنع بصدقها ~~مهما أجزل له من أجر، وكان لا يقرب قضية يعلم أن الدفاع فيها يجني على الخلق من قريب أو ~~بعيد، وكان أسلوبه في المحاماة كذلك صورة لنفسه؛ فهو لا يعرف اللجاج ولا المطاولة، ولا ~~يلتوي في أمر أو يخفي في نفسه شيئا إلا إذا كان ذلك لستر عرض أو حفظ كرامة، ولن يكون ~~للمجاملة عنده حساب إذا ترتب عليها إساءة إلى فضيلة أو انتقاص من عدل. # وخفت وطأة الأيام عليه بعض الشيء؛ فمكانه في المحاماة - وهو بعد لم يتجاوز الثامنة ~~والعشرين - ينبئ عن مستقبل عظيم، ومكانه في السياسة قد جعله رأس حزبه في المجلس، وهو كما مر ~~بك حزب الهوج، وقد أخذ المجلس يتسع حتى أصبح عدد أعضائه ثلاثين ومائة بعد أن كانوا ~~ثمانية، وهو - فضلا عن ذلك - حبيب إلى أهل سبرنجفيلد؛ لما كان له من يد في ms071 نقل المجلس ~~إليها وجعلها قاعدة الولاية، وهم قد أنسوا من خلاله في السياسة والمحاماة ما اجتذب قلوبهم ~~إليه، وما جعل اسمه الذي عرف به في نيو سالم يجري على ألسنتهم؛ فهو بينهم أيب الأمين، ولقد ~~توثقت المودة بينه وبين الكثيرين، وعلى الأخص سبيد صاحب الحانوت. # كان من أحب الساعات إليه تلك التي يجتمع فيها بنفر من حزبه في حانوت سبيد، فيديرون الحديث ~~بينهم في السياسة وقضاياها والإصلاح العام وما تتطلبه البلاد منه، ومن الجماعة من سيكون لهم ~~شأن كبير في سياسة بلادهم. ولقد كان ممن يختلفون إلى ذلك المنتدى في الحانوت دوجلاس ~~الديمقراطي، ذلك القصير الماكر الطامح الذي اشتهر بحدة ذكائه ولباقته، والذي عرف بالأثرة ~~والغيرة والطمع في عليا المراتب، وكان ذلك القزم يغار من المارد الذي تجتمع عليه القلوب ~~والأهواء، فهل كان يدرك أنه سوف يكون العقبة الكأداء بينه وبين ما تطمح نفسه إليه؟! # ولم يكن نشاط لنكولن قاصرا على المجلس والمحكمة، بل لقد كان نشاطه خارجهما باعثا على ~~الإعجاب جديرا بالثناء؛ فهو حاث على الإصلاح بما يذيع من أحاديث، داع إلى نشر الثقافة ~~والعلم، وهو ذلك النجار الذي كان يشق الأخشاب في الغابة يشتري بالآلاف من شرائحها ~~سروالا! # وكان أبراهام وزملاؤه يقرءون الصحف في إمعان، ويتتبعون أنباء السياسة في شغف ولذة، فإذا ~~احتدمت المناقشة في الحانوت وتضاربت الآراء، حول أيب مجرى الحديث في لباقة إلى الأمور ~~المحلية، ثم انتقل إلى نوادره وقصصه، فراح يمتعهم بها متدفقا في غير توقف، ثم إنه يتلو ~~عليهم أحيانا بعض أشعاره التي كان يهدهد بنظمها نفسه الحزينة، أو التي كان ينظمها حاثا ~~على الفضيلة، كالذي فعل حين نظم قصيدة طويلة حول إغواء النساء. # وكان المحامون في تلك الأيام ينتقلون من محكمة إلى غيرها على ظهور الخيل، يحملون في ~~أكياس أوراقهم وأضابيرهم ومراجعهم، كما كانوا يستصحبون أصحاب القضايا والشهود، وكان ~~القضاة يرافقونهم أحيانا إلى مقر المحاكم في غدوهم إليها. # وفي مثل هذه الرحلات القصيرة كان يرهف أذنيه المحامي الناشئ أيب لنكولن إلى كل ما ms072 يدور من ~~الأحاديث، كما كان يسرح الطرف في مجالي الطبيعة، وفي دنيا الناس لا يفوته شيء يفيد منه ~~علما أو عبرة، أو يستخرج منه نادرة يتفكه بها ويقصها على أصحابه، وهو إنما يتعمق الحياة ~~الإنسانية وإن لم يقصد إلى ذلك أو يشعر به. تخلف عن الركب مرة فسأل عنه زملاؤه، فقال أحدهم: ~~لقد توقف حيث أبصر عصفورين قذفت بهما الريح من عشهما، ولقد تركته وهو يحاول أن يرجع العش ~~إلى نظامه، ويضع العصفورين في مستقرهما. ولما سئل أيب عن ذلك قال: «ما كنت لأستطيع أن أنام ~~لو لم أرد العصفورين إلى أمهما.» وتحدث ذات مرة إلى أصحابه ضاحكا من سذاجة شيخ لقيه في ~~الطريق وهو عائد من المحكمة، وقد أعجب ذلك الشيخ بمهارة لنكولن؛ إذ تعقب بأسئلته المحرجة ~~لصا اتهم بسرقة فراخ جاره، قال الشيخ يستنكر ما فعل ذلك اللص: «في الأيام الماضية وهذه ~~البلاد لم تزل في طفولتها، وأنا يومئذ أقوى مني اليوم، لم أبال أن أسرق الغنمات أحيانا، ~~أما أن أسرق فراخا! ...» # وترك له زميله ستيوارت ذات مرة قضية على شيء من الأهمية أكسبته شهرة في عمله؛ إذ دار ~~حديثها على الألسن أياما؛ وذلك أن أرملة أرادت أن تضع يدها على قطعة من الأرض تركها لها ~~زوجها، فتصدى لها مدع ينازعها الأرض وفاء لدين له على ذلك الزوج، وكان المدعي من ذوي ~~القوة والنفوذ، وهال أيب أن يكشف أنه زور هذا الدين، وغضب المحامي الأمين وتحمس لقضيته، ~~ثم إنه علم أن ذلك المدعي يدفع عن نفسه تهمة التزوير بدعوى أخرى؛ هي أن الورقة المزورة ليست ~~له وإنما دست عليه نكاية فيه، وأنه صاحب حق، فلا حاجة به إلى التزوير. وكتب أبراهام في إحدى ~~الصحف مقالة غفلاء من التوقيع يفسر المسألة ويقضي على كل ما عسى أن تثيره من شبهات، ولكن ما ~~لبث أن عرف أنه كاتب المقال، فغضب ذلك المدعي ورد عليه يعنفه ويأخذ الطريق عليه، فكتب ~~أيب يقول: «وداعا أيها السيد إلى اللقاء في ساحة المحكمة هناك ms073 ، حيث نقلب المسألة على ~~وجوهها وننظر هل تأخذ أنت الأرض أم تأخذها تلك الأرملة.» واهتم الناس بهذه القضية، وازدحمت ~~قاعة المحكمة بنفر يشهدون دفاع المحامي الشاب، وما منهم إلا من يعطف على الأرملة المسكينة، ~~وكسب أيب القضية كما كسب يومئذ إعجاب كل من رأوه. # | خطيب # ما التمع اسم سياسي ولا طارد ذكره إلا إذا رزق موهبة الخطابة، وبقدر ما يتوافى له منها ~~يكون ذيوع صيته ونباهة شأنه. ذلك ما كان يحدث أبراهام به نفسه في أواخر مدة عضويته ~~الثانية في مجلس الولاية. # وهو منذ حداثته لهج بالخطابة شغوف بالمثول أمام جمهور يستمع، والخطابة بعد عدة المحامي ~~كما هي عدة السياسي، أوليس قوامها الفصاحة والإقناع؟! إنه ليحس أنه قد أخذ يحسن الإفصاح عما ~~في نفسه ويجيد وسائل إقناع سامعيه، وهو لم ينس ما كان من سالف مواقفه حين كان يحدث الناس في ~~الغابة فيظفر من رضائهم بقدر ما يلقى من غضب أبيه. بيد أن الناس هنا ليسوا كأهل الغابة، ~~وليس ما يصلح هناك من الكلام بصالح في مدينة كهذه المدينة، ولكن ألم يحز هنا في المدينة ~~قسطا من رضاء الناس في قاعة المجلس وفي ساحة القضاء؟! إذن فليس الذي يداخله من ثقة في نفسه ~~ضربا من الغرور، وحسبه أن تطمئن اليوم إلى ذلك نفسه. # وسنحت لخطيب الغابة فرصة للخطابة؛ فقد دعي ليلقي في ناد من أندية الشباب في سبرنجفيلد ~~خطبة موضوعها: أنظمتنا السياسية وحفظها. # ووقف الخطيب وفي هندامه ووجهه وشعره الأشعث طيف الغابة، والأنظار متجهة إلى قامته الطويلة ~~ووجهه الذي تلوح عليه علامات التحمس لموضوعه، والارتياح إلى ما أتيح له من فرصة. # وتكلم أول الأمر لم يجهر بصوته ولم يخافت به، ثم علا صوته حتى كان له رنين قوي في جوانب ~~القاعة، وأخذ الخطيب يومئ برأسه يؤكد بعض المعاني ويشير بقبضته أو بكفيه مبسوطتين، وكانت ~~تتشكل أسارير وجهه بما يلقي من قول؛ فيعبس ويشرق وتفعل كلماته وإشاراته فعل السحر في نفوس ~~سامعيه. # بدأ فوصف وطنه وثروته الطبيعية أحسن وصف، ثم أشار ms074 إلى ما أتيح لهذا الوطن من نظم سياسية ~~لا يطمع فيما هو خير منها، وامتدح من أتاحوا له هذه النظم الغالية من الزعماء. ثم ساق ~~الكلام بعد هذا الاستهلال الرائع إلى ما عساه أن يتهدد هذا النظام من خطر، فتساءل قائلا: ~~«من أي ناحية تنتظر أن يدهمنا الخطر؟ وما وسائلنا في دفعه إن هو حل بنا؟ أنتوقع الخطر على ~~يد مارد عتي من مردة الحرب وراء المحيط يعبر هذا الخضم المترامي فيمحقنا بضربة منه؟ كلا!» ~~ثم يتحمس الخطيب ويرفع صوته بقوله: «إن جيوش أوروبا وآسيا وأفريقيا مجتمعة، وفي أيديها ~~خزائن الأرض، وعلى رأسها مثل بونابرت؛ لا تستطيع أن تنال جرعة من الأهايو ولو جاهدت ألف سنة ~~... فمن أي جهة يمكن أن يتهددنا الخطر؟ إني أجيب على ذلك بأنه إن كان ثمة خطر، فإنه ينجم هنا ~~بين أيدينا، إذا كان الهلاك نصيبنا فنحن منشئوه، ونحن إن أردنا مانعوه، إننا يجب أن نعيش ~~أبدا أمة حرة أو نقتل أنفسنا منتحرين ... وإني لألمس اليوم نذير سوء بين ظهرانينا؛ ذلك ~~هو ما يتزايد من مظاهر عدم مبالاتنا بالقانون في هذا البلد ... إن مثل هذه الظاهرة مخيفة كل ~~الخوف في أي مجتمع، ولئن كان يؤذي شعورنا أن نسلم بوجودها في مجتمعنا هذا، فإن إنكار ~~وجودها زلزلة للحق واتهام لذكائنا ... # إني لأعلم أن الأمريكيين شديدو التعلق بحكومتهم، وأعلم أنهم يرضون أن يعانوا الكثير من ~~أجلها، كما أني على علم بأنهم يتحملون المساوئ، ويصبرون عليها طويلا قبل أن يفكروا في ~~استبدال حكومة أخرى بها، ولكن على الرغم من ذلك، فنحن إذا دأبنا على احتقار القوانين وعلى ~~عدم اتباعها، وإذا رأى الناس أن حقوقهم في ضمان أنفسهم وأملاكهم ليس ما يمسكها إلا أهواء ~~الغوغاء؛ فإن نفورهم من الحكومة هو النتيجة الحتمية عاجلا تم ذلك أو آجلا ... # هنا إذن موطن من مواطن الخطر، وإني لأعود فأسأل: كيف نتوقى هذا الخطر؟ والإجابة على ذلك ~~يسيرة: ليقسم كل أمريكي، كل عاشق للحرية، كل ذي نية طيبة نحو أعقابنا، ليقسم كل بما ms075 جرى ~~في الثورة من دماء ألا يتعدى قوانين البلاد في أية جزئية منها، وألا يسمح للغير بتعديها، ~~وليفعل اليوم كل أمريكي في حرصه على القانون والدستور ما فعله رجال سنة 1776 في تعضيدهم ~~حملة الاستقلال، وليضح كل في سبيل ذلك بحياته وشرفه الذي يقدس وجميع ما ملكت يداه، وليذكر ~~كل فرد أنه إن اعتدى على القانون فإنما يطأ بقدميه دماء آبائه، ويمزق عهد حريته وحرية ~~أبنائه، لتتحدث كل أم في أمريكا إلى ابنها الذي يلثغ لاعبا في حجرها حديث احترام ~~القوانين، وليعلم ذلك في المدارس والمعابد والكليات، وليكتب ذلك في كتب الهجاء وفي ~~كتب الابتداء وفي صفحات التقويمات، وليوعظ به من منصات الوعظ، وليعلن في ساحات المجالس ~~التشريعية، وليحمل بالقوة على احترامه في دور العدالة، وفي الجملة يجب أن يكون ذلك ~~للدولة دينها السياسي.» # وعاد الخطيب يذكر زعماء الحرية الأولين، ويمجد ذكراهم، ويشير إلى بطولتهم إلى أن قال: ~~«لقد كانت العواطف قبل عونا لنا، ولكنا لن نركن إليها اليوم، ولسوف تكون في المستقبل ~~عدوا لنا، ألا لتكن الحكمة الباردة الحاسبة التي لا تعرف العواطف هي التي تمدنا بما ~~يلزم لنا في مستقبلنا من أسباب القوة والدفاع. إن في النابهين الطيبين من الناس ممن تتوفر ~~فيهم الكفاية لأن يحسنوا أي عمل يوكل إليهم؛ كثيرين لا تمتد أطماعهم إلى ما هو أبعد من مقعد ~~في المؤتمر، أو منصب في الحكومة، أو بلوغ كرسي الرياسة، ولكن هؤلاء لا ينتمون إلى أسرة ~~الضراغم ولا إلى جماعة النسور. واها! أتظنون أن مثل هذه المناصب تملأ عين إسكندر آخر أو ~~قيصر ثان أو نابليون جديد؟! كلا! إن العبقرية الشامخة لتحتقر الطريق التي وطئتها الأقدام من ~~قبل ... إنها تبحث عن مواطن لم تكشف بعد، إنها تظمأ وتتحرق إلى ما يميزها عن غيرها، وإذا ~~أمكنها أن تصل إلى ذلك فعلت ما يميزها؛ إما بتحرير العبيد من الناس، أو باستعباد الأحرار. ~~أليس من المعقول إذن أن نتوقع ظهور رجال من هذا الطراز بين ظهرانينا؟ رجال توافى لهم من ~~العبقرية في ms076 أكمل صورها بقدر ما توافى لهم من الطموح الذي يدفعون به هذه العبقرية لتمد ~~مدها؟ وإذا قدر لرجل من هؤلاء أن يظهر فسوف يحتاج الأمر إلى ترابط الناس بعضهم ببعض، ~~وتعلقهم بالحكومة وبالقوانين، وأن يكونوا على قسط من الذكاء ليحولوا بينه وبين أطماعه ~~الشخصية إذا اتجه هذا المتجه ...» # أني لابن الغابة ربيب الفقر والعسر هذا كله؟ ألا إنها العبقرية تستعلن في الخطابة، وإن ~~خفيت في الحديث الهادئ أو القصة الوادعة، وماذا يريد لنكولن بإشارته إلى العبقرية الشامخة ~~وما تتطلع إليه؟ هل كان يرسم لنفسه ما يحب أن يفعله في غده؟ أكان يبحث عما يميزه؟ أكان يدرك ~~أو يحس يومئذ أن له من عمله في غد ما هو حري أن يملأ عين إسكندر آخر أو قيصر ثان أو ~~نابليون جديد؟ # وذاعت في المدينة هذه الخطبة فأضافت إلى شهرته شهرة، وها هو ذا ينتخب للمرة الثالثة عضوا ~~في المجلس التشريعي وهو في التاسعة والعشرين، وإنه ليطول باعه في المحاماة، وترسخ قدمه في ~~السياسة، ويعلو كعبه في الخطابة. # وفي مدة عضويته الثالثة كان الخلاف في المجلس صدى للخلاف في الولايات جميعا بين ~~الديمقراطيين والهوج، وكان زعيم الديمقراطيين في مجلس إلينوى ذلك القزم الماكر دوجلاس، ~~وكان ينهض للدفاع عن سياسة فان بيرن الرئيس الديمقراطي الذي خلف جاكسون فيبدي نشاطا ومهارة ~~ولباقة، وكان الديمقراطيون هم الحزب الغالب في المجلس، وكان لنكولن زعيم أنصار هنري كليي ~~من الهوج، ولكن أصحابه كانوا في المجلس أقلية. # ودأب دوجلاس على مناوأة لنكولن في كل أمر، وكانت له مواقف يظهر فيها عليه بسرعة خاطره ~~ومهارة انتقاله من فكرة إلى فكرة ومن قضية إلى قضية، ولكن أبراهام كان المتفوق الظافر إذا ~~كان الأمر أمر إخلاص أو أمانة أو بعد نظر أو دقة تحليل. # وأظهرت هذه المساجلات السياسية جانبا من جوانب موهبته الخطابية، جانب الشجاعة الأدبية ~~التي تنطقه بما يريد أن يقول في غير تهيب ولا التواء في لهجة حماسته، وفي بلاغة عبارة ~~وحسن أداء. # عير أحد الديمقراطيين حزبه بقلة عددهم وبضياع ms077 أملهم، فالتفت إليه أبراهام قائلا: ~~«وجه هذا الجدل إلى الجبناء والعبيد، أما أن توجهه إلى الأحرار البواسل فليس يجديك ذلك ~~فتيلا، لقد فقدت دول حرة كثيرة ما كان لها من حرية، وربما فقدت دولتنا كذلك حريتها، وإذا ~~قدر لها ذلك وكان ما يتفاخر به غيري أنه كان آخر من ترك نصرتها، فليكن أعظم ما أفاخر به أني ~~لم أترك تلك النصرة أبدا.» # وقال في موقف آخر، وقد اشتم تهديدا موجها إلى خصوم فان بيرن على لسان أنصاره من ~~الديمقراطيين، كما علم بأنباء اضطهادهم بغير حق: «أما أن أنحني لمثل هذا، فذلك ما لن ~~أفعله أبدا ... وإني هنا أمام الله وفي وجه العالم كله أقسم يمين الولاء لقضية الحق، قضية ~~البلاد التي فيها حياتي وفيها حريتي ولها محبتي، وإن هذه القضية التي اعتنقناها بعقولنا ~~وقلوبنا لن تجد منا الهوينا في الدفاع عنها؛ في المحنة أو في الأغلال أو بين براثن ~~الموت.» # وفي سنة 1840 بدأت المعركة الانتخابية للرياسة بين الديمقراطيين والهوج، وكان مرشح ~~الديمقراطيين فان بيرن إذ أرادوا تجديد انتخابه، أما الهوج فكان المفهوم من أمرهم أنهم ~~يرشحون هنري كليي؛ جريا على سياستهم القائلة بأنه يستحسن أن ينتخب للرياسة سياسي مارس ~~السياسة في المجالس التشريعية، وعلى الأخص الكونجرس، وأن يكون أمر الانتخاب والقيام عليه ~~بأيدي رجال السياسة، ولكنهم عدلوا عن هذا، وقد علموا ما كان من أثر جاكسون وديمقراطية ~~جاكسون في البلاد؛ إذ جعلت كلمة الشعب هي العليا، وبحث الهوج عن رجل من صميم الشعب، له ~~ماض في الحرب يكون شبيها بجاكسون؛ ليكسبوا بترشيحه الرأي العام؛ فوقع اختيارهم على هارسون، ~~وكان من الطلائع الذين سكنوا الأصقاع البرية، وكانت لهم في محاربة الهنود بطولة، وكان لا ~~يزال يعيش في بيت أقيم من الكتل الخشبية على نمط الأكواخ الساذجة الأولى، وكان يشرب عصير ~~التفاح الشراب الوطني المحبوب لساكني الأكواخ ... وهو بهذا شبيه بجاكسون، وقد سميت معركته ~~الانتخابية معركة الكوخ وعصير التفاح. # واستعرت المنافسة بين الحزبين، وشمر لنكولن، وقد سنحت مثل هذه الفرصة ليتمرن على ms078 مثل هذه ~~المعارك الانتخابية الكبرى، فضلا عما يتسع أمامه من مجال للمجادلة والخطابة. # وأبرزت هذه المعركة كثيرا من جوانب موهبته كخطيب، وفي مقدمتها تهكمه الذي يزلزل به أقدام ~~خصومه، ومقدرته على إثارة إعجاب سامعيه وامتلاك قلوبهم بما يسوق من أمثال ويسرد من قصص يصور ~~بها ما يريد من المعاني أو يسخر بها من آراء معارضيه وأفعالهم، هذا إلى عذوبة روحه وحلاوة ~~فكاهته ورونق عبارته وسحر أدائه. # نشط الهوج في هذه المعركة نشاطا عظيما، وكانت جموعهم تطوف في البلاد تحمل الأعلام ~~وعليها اسم هارسون، ومنهم من كانوا يحملون مثالا مصغرا للكوخ وأمثلة لأواني عصير التفاح، ~~فإذا ازدحم الناس للتفرج قام خطباؤهم يدعون لحزب الهوج ويحملون على الديمقراطيين، وانبرى ~~خطباء الديمقراطيين لهم في جموع مثل جموعهم وخطباء كخطبائهم. # وشهد أبراهام كثيرا من هذه الاجتماعات، فوقف ذات مرة يخطب رادا على مزاعم الديمقراطيين ~~فيما اتهموا به الهوج من أرستقراطية وثروة، تلك النغمة التي طالما سمعها من قبل أثناء ~~انتخابات مجلس الوصاية، قال لنكولن: «لقد كنت غلاما فقيرا، استؤجرت للعمل في قارب بنحو ~~ثمانية دولارات في الشهر، ولقد كنت ألبس الملابس من الجلد، وإذا علمتم ما يطرأ على الملابس ~~الجلدية إذا جففتها الشمس وجدتم أنها تنكمش وتتداخل بعضها في بعض، ولقد قصر سروالي بسبب هذا ~~حتى ترك جزءا من ساقي عاريا، وكنت كلما ازددت في الطول ازداد سروالي قصرا وضيقا، وقد ~~بلغ من ضيقه أنه ترك أثرا حول ساقي لا يزال يرى حتى اليوم، فإذا كنتم ترون في هذا ~~أرستقراطية فإني أعترف أن التهمة لاصقة بي.» # وشهدت سبرنجفيلد من هذه المظاهرات مظاهرة كبيرة حمل فيها المتظاهرون أكواخا صغيرة من ~~الخشب، واستعاض أهل شيكاغو عن الأكواخ بمثال لمركب حملوها على عربة، وقد وصف أحد الذين ~~شاهدوا لنكولن يخطب الناس ذلك اليوم فقال: «وقف لنكولن في عربة فخطب جمهور الناس الذين ~~أحاطوا بها، وكان للاجتماع يومها أهمية تفوق ما لغيره من الاجتماعات؛ ومرد هذا إلى من كان ~~يلقي الخطاب الرئيسي؛ كان يومئذ قد بلغ غاية قوته ms079 البدنية، كان طويلا يبدو أنحف مما صار ~~إليه في أيامه بعد ذلك، وكان بنحافته أكثر ألفة في أعين الناس منه حين اكتسب فيما بعد شيئا ~~من السمن، وكان في الحادية والثلاثين من عمره، ومع هذا فقد كان يعد من أقوى خطباء الهوج ~~في هذه المعركة، وكان له يومئذ ذلك السر الذي يلفت انتباه الناس إليه ويجذبهم نحوه، ورأى ~~نفسه حتى في ذلك الوقت موضع اهتمام عام؛ بسبب ما اتصف به من لمس المسائل السياسية وشرحها ~~وتصويرها في يسر ... وكان يتناول مسائل تلك الأيام تناولا منطقيا أحيانا، ولكنه كان يجعل ~~كثيرا من وقته لقصصه التي يشرح بها بعض ما يتناول من المسائل، ولو أن كثيرا من هاتيك ~~القصص كان يراد به وضع خصومه في وضع مضحك.» # وكان يعنى أبراهام عناية شديدة بخطبه؛ فيدير المعاني في رأسه قبل أن ينهض للخطابة، ويختار ~~من اللفظ ما يؤدي المعني المراد بيانه في غير نقص أو تزيد، فإذا تكلم كان بارع السياق ~~مطمئن النفس فصيح العبارة، فإذا جد أثناء الكلام أمر لم يحتشد له واتته قريحته الطيعة ~~ووافاه بيانه المشرق، فأتى بأحسن مما أعد وما اصطنع. # وكان يعنيه أن يقرأ كلامه منشورا في الصحف ليرى إن كان ثمة خلل أو ضعف، فيعمل على أن ~~يبرأ كلامه منه بعد ذلك، ولم تكن ترتاح نفسه لشيء ارتياحها إلى حسن موقع كلامه في نفوس ~~سامعيه أو قارئيه. # ولم تقتصر نصرته للهوج على مقدرته كخطيب، وإنما أفاد أصحابه كثيرا مما اشتهر به من بأس ~~وقوة، وقلما خلت المعارك الانتخابية من عنف في بلد من أقطار الأرض. # وقف أحد أصدقائه يخطب الناس في حجرة متسعة كانت تقع تحت الحجرات التي يشغل إحداها مكتب ~~لنكولن المحامي وزميله، وكان في سقف تلك الحجرة السفلى باب يستطيع فتحه من كان في حجرة ~~لنكولن، فرفعه أبراهام قليلا ذات مرة، وقد اشتد ضجيج المجتمعين، فشاهد صديقه الخطيب وقد ~~أحاط به جماعة من الديمقراطيين يتوعدونه ويطلبون إنزاله بالقوة من فوق المنصة؛ لما صدر منه ~~من غليظ ms080 القول، وبينما كان السامعون في هرجهم إذ راعهم قدمان كبيرتان تتدليان بنعليهما ~~من السقف، عرفتا لأول وهلة أنهما قدما لنكولن، ثم رأوا الساقين فالجسم كله، وإذا بهم ~~يبصرون أبراهام وقد انقض من السقف فوقف إلى جانب صاحبه، ثم رفع ابن الغابة يده يريد الكلام، ~~فما من أحد في الحجرة إلا وكأن على رأسه الطير، وانفرجت شفتاه بعد لحظة فقال: «أيها السادة ~~لا تسيئوا إلى وطنكم وإلى العصر الذي تعيشون فيه ... إن هذه هي الأرض التي أخيطت فيها حرية ~~القول بما يحفظها من ضمان، وإن لصاحبي الحق أن يتكلم، وإن له الحق أن يسمح له بالكلام، ~~وإني الآن بجانبه لأحميه، وما من رجل هنا يستطيع أن ينتزعه من مكانه ما دمت قادرا على أن ~~أذود عنه.» # وأنصت السامعون إلى الخطيب وقد عاد يخطب في حماية لنكولن، فما استطاع الديمقراطيون أن ~~يقاطعوه، وما استطاعوا له دفعا. # وانتهت المعركة الانتخابية بفوز الهوج، وفرح أبراهام وأنصار الهوج بذلك النصر فرحا ~~شديدا. وفي نفس تلك السنة، سنة 1840، انتخب أبراهام عضوا في مجلس إلينوى للمرة ~~الرابعة. # | قطيعة وصلة # لم تلهه السياسة وشواغلها نوازع قلبه وخلجات نفسه، ولا أنسته المحاماة وقضاياها وقد ~~صار له فيها مكان مرموق، ولا الجلسات في حانوت سبيد وما كانت تثيره في نفسه من لذة، وأنى ~~له أن ينسى وقد كانت ماري أوين - تلك الفتاة التي ارتبط بها بما يشبه العهد - تلقاه أحيانا ~~بعد أن تزور بعض ذوي قرباها في سبرنجفيلد، كما كان هو يذهب إلى نيو سالم فيغشى بيت أختها! ~~إن أمره في ذلك عجب! لا يستطيع أن ينصرف عنها ولا يستطيع أن يؤمن أن يحبها، تلك حال من ~~حالات الشباب، أو حال من حالات لنكولن، وما أعجب بعض حالاته! # كانت علاقتهما علاقة فتور تجلى لها في أكثر من موقف، ولكنهما أقاما على هذه الحال زمنا؛ ~~تحسب الفتاة أنه لم يبق إلا أن يتقدم صاحبها بالاقتراح المعروف، ويحسب الفتى أنه لم يبق إلا ~~أن تنأى عنه فتريحه! لقد كان منقبض النفس لهذه ms081 الحيرة، يجعل للمسألة من الأهمية أكثر مما ~~لها، تلمس ذلك في مثل قوله: «لم أجدني طيلة حياتي في قيد أرغب في التحرر منه كما أجدني في ~~هذا القيد، حقيقيا كان قيدي أو خياليا.» # وجمع أمره فكتب إليها كتابا رقيقا محكما يشير فيه إلى دخيلة نفسه ويتلمس معرفة طويتها، ~~دون أن تفلت منه لفظة قاسية؛ تكلم عن إحساسه بالوحشة في سبرنجفيلد، ثم أشار إلى فاقته وعسره ~~وما عسى أن تجد عنده من متاع الدنيا من تكون زوجا له، إلى أن قال: «ربما كان ما قلته لي ~~من قبيل المزاح، وإلا فأظنني لم أفطن إلى مرماه، إن كان الأمر كذلك فدعيه إلى النسيان، وإن ~~لم يكن كذلك فإني أحب أن تفكري تفكيرا جديا قبل أن تقطعي فيه برأي، وستجدينني عند قولي ~~إذا كان ذلك ما تشائين، وإني أرى ألا تشائي ذلك؛ فإنك لم تتعودي البأساء، وربما كان الأمر ~~أقسى مما تخالين.» # وأرسل إليها بعد ذلك كتابا أكثر من هذا صراحة جاء فيه: «إن في وسعك أن تدعى هذا الأمر، ~~وأن تطردي أي تفكير يتجه إلي، إن كان ثمة لديك شيء من هذا، ولن يترتب على ذلك أي لوم عليك ~~مني، وقد أذهب إلى أبعد من هذا؛ فأقول إذا كان ذلك يؤدي إلى راحتك وهدوء بالك، فإني أرغب ~~مخلصا أن تفعليه، لا تفهمي من ذلك أني أريد لك قطيعة، إني لا أريد شيئا من هذا القبيل، ~~إنما أريد أن تكون علاقتنا في المستقبل قائمة على إرادتك، وإذا كانت هذه العلاقة بحيث لن ~~تضيف شيئا إلى هناءتك، فإني على يقين أنها لن تضيف كذلك شيئا إلي، ولئن كنت تشعرين أنك ~~مقيدة نحوي بأي قيد، فإني أميل الآن إلى أن أطلقك منه إذا كانت هذه بغيتك، بينما أراني من ~~ناحية أخرى أميل إلى أن أمسكك على إذا اقتنعت أن ذلك يزيد من سعادتك بقدر خليق بالاعتبار، ~~هذه في الحق هي المسألة بالنسبة إلي، ولن يشقيني شيء أكثر من اعتقادي شقوتك، كما أنه لن ~~يسعدني شيء ms082 أكثر من علمي بسعادتك. وإذا حسبت أن عدم ردك على هذا خير لك فوداعا، وإني أرجو ~~لك حياة طويلة سعيدة، أما إذا شئت أن تردي فاكتبي إلي في وضوح كما أكتب.» # تلك هي تعلات المتردد الحائر تصور لنا حالا من الحالات المستعصية على الفهم، ولقد آلت ~~المسألة آخر الأمر إلى القطيعة، وانصرفت عنه ماري أوين وهو لا يدري أيعد ذلك فوزا أم ~~يعده خيبة. # وما له يتورط بعد ذلك في صلة جديدة، ولم يستنشق نسيم الراحة إلا من أمد قريب؟ إنه لم يكد ~~ينصرف عن ماري أوين حتى أخذ يتصل بماري تود. # كانت هذه الفتاة الجديدة تنتمي إلى درجة في المجتمع فوق درجته، وكانت مثقفة مهذبة شديدة ~~الذكاء، تدير الحديث إذا جمعها بالنابهين من أهل المدينة مجلس فتسحرهم بتوقد الذهن وقوة ~~المبادهة ولطف الإشارة وأناقة العبارة. وكانت ماري إلى ذلك ذات طموح إلى هدف بعيد، فكانت ~~نظرتها إلى الشباب من جنس نظرتها إلى الحياة، المقدم فيها عندها من تثق أنه إذا نال يدها ~~يخطو بها إلى ما تمد إليه عينيها وخيالها من نفوذ ونعمة وجاه، وكانت فتاة قلقة كأنها من فرط ~~توثبها الطائر المرح؛ لا يحط على غصن إلا ليثب منه إلى غصن. # وكان لنكولن ممن يختلفون إلى دار أخت لها في سبرنجفيلد، كما كان دوجلاس ممن يختلفون إلى ~~تلك الدار، كأنما صحت عزيمة ذلك القزم أن يأخذ على المارد كل طريق يسلكه، ولو كان غير طريق ~~السياسة. # وكانت أختها زوجا لأحد التسعة الطوال، فعرفت ماري من أختها شيئا غير قليل عن لنكولن، ~~كما كان زوج أختها صديقا حميما لصاحبه سبيد، وقد تحدث إليها وإلى أختها عن لنكولن أحاديث ~~كثيرة كلما تطرق الكلام إليه. # وكانت ماري قد جاءت لتقيم مع أختها زمنا، وأخذت الرجلين عيناها السريعتان النافذتان، ~~ولكنهما استقرتا على أبراهام، وكان دوجلاس خليقا أن ينال عندها الحظوة بما كان يبدو من ~~ذكائه ودهائه ولباقته وكياسته، وبما كان يشع من ظرفه وحسن سمته وأناقة هندامه. ولقد كان ~~يبتغي إليها الوسيلة ms083 بكل ما في وسعه لا تفلت منه فرصة ولا تفوته حيلة، ولكنها اتجهت إلى ~~ابن الغابة في هندامه المتهدل القصير على جسمه المرهف الطويل، ولم يخشن في عينيها وجهه ~~المسنون الذي يحمل في حضرتها من البلاهة بقدر ما يحمل من هموم الأيام، ولم ينب عن ذوقها ~~شعره الأشعث الذي يصور للعين ألفاف الغابة! # وأخذ ابن الأحراج يزداد من حبها بقدر ما يفقد دوجلاس منه، ولكنه يسر إلى صديقه سبيد ~~ذات يوم أنه لا يشعر قبلها من الحب ما هو عسي أن يفضي بهما إلى الزواج، ثم يهم أن يكتب ~~إليها بعد ذلك ...! # وكان عجبا أن تتجه ماري إلى أبراهام دون دوجلاس وهي فتاة طامحة، وهو يبدو في كل أمر ~~متحفظا يؤثر الهوينا، بينما كان دوجلاس مثلها طموحا يتوثب لا يكاد يفتر له عزم، ولقد عرف ~~أنها كانت تحلم بالبيت الأبيض، وتحلم بالزوج الذي يرجى له أن يتخذ مقعده هناك يوما ما، ~~وإذا كان الأمر كذلك فأي الرجلين كان عسيا أن يصل بها إلى ما تحب؟ وكيف تترقب ذلك على يد ~~ابن الغابة، ولا ترجوه على يد دوجلاس؟ # ولم يكن عجبا أن يتردد أبراهام في صلته بها من أول الأمر؛ فهو كلما ذكر عسره ~~ومنبته استحى وساوره مع الحياة الهم. وإنه ليراها في بيت أختها الفسيح الأنيق موضع ~~إعجاب كل زائر، حديث النفس في خلوتها لكل شاب، تتكلم الفرنسية وتحسن توجيه الكلام وإدارة ~~الحديث، كما تجيد الحوار وتعرف كيف تسر كل متكلم وتتخذ أقرب السبل وأيسرها إلى قلبه. ~~وإنها مع ذلك لذات كبر وأنفة، وذات حسن وظرف، وإن لم تصل ملاحتها إلى مستوى ذكائها. ~~وإنها لقوية الشخصية تسحر محدثها بوداعتها وظرفها إذا رضيت، وتقهره بنظرتها العنيفة المخيفة ~~إذا غضبت. وإنها لتدل بمكانة أهلها وجاههم تالده وطريفه! ومنهم من كان ذا شهرة في حرب ~~الاستقلال، ومنهم من كان حاكما لإحدى الولايات؛ ومنهم أبوها وكان قائدا في حرب سنة 1812 ~~كما كان رئيس مصرف كنطكي، وكان ذا مال وجاه، يملك الخيل المطهمة والعبيد المؤتمرين ms084 بأمره، ~~والأرض الواسعة التي تدر عليه الخير ... وأين من هذا كله المحامي الفقير الذي ولد في كوخ، ~~والذي لم يجد له مأوى في المدينة إلا ما كان من معونة صديقة سبيد! والذي استنكف أن يوكله ~~في قضية له إنجليزي في المدينة قائلا عنه: «إنه يبدو كفلاح يشهد البهلوان لأول ~~مرة.» # على أنه لم يكن يعلم مقدار حرصها على كسبه؛ فإن هذه المرأة الذكية كانت توقن كلما قارنت ~~بينه وبين ذلك القزم - الذي يشبهها أعظم الشبه - أن المستقبل له، فثمة شيء تحسه ولا تستطيع ~~أن تقول ما هو ينبئها أنه عظيم، وإن لم يبد عليه اليوم شيء من العظمة. # وهو يتمنى لو أحبها كما يكون الحب، أو لو اطمأن إلى أنه إذا أحبها لا تكون حاله حائلا ~~بينه وبين قلبها، ولعل شعوره بضعة منبته وبحاجته إلى مثل ما يتمتع به دوجلاس من أناقة ~~ومقدرة على محادثة النساء ونيل إعجابهن؛ هو الذي كان يكربه ويؤلمه ويسبب له هذا التردد، ~~ويلقي به في هذه الحيرة ويجعله دائما من النساء في حالة استخذاء. # وإنه ليحس أنه موشك أن يقع في مثل ما وقع فيه من قبل من أسر وخبال إبان علاقته بماري ~~أوين، فما له لا يقطع هذه الصلة بماري تود قبل أن يجد نفسه بحيث يستحيل عليه ذلك؟ لئن كان ~~يعجبه ذكاؤها وظرفها، فإن من خلالها ما هو خليق أن ينفره؛ وذلك مثل حدة طبعها وسرعة غضبها؛ ~~فإنها لتبكي لأقل شيء وتصرخ مهتاجة، وإن وجهها ليتلون بحمرة الورد وبصفرة الموتى في ~~ثوان معدودات، وإنها لتطلق لسانها بجارح اللفظ وطائشه إذا اهتاجها من الكلام ما لا يحرك ~~غيرها ... ولكنه على الرغم من ذلك يشعر كما تشعر هي أن ثمة شيئا فيها يحسه، ولا يستطيع بيان ~~كنهه يريه أنها مكملة له، فإذا ربط الزواج بينها وبينه لم يكن الأمر أمر رباط فحسب، ولكنه ~~يكون لكليهما تكملة لا غنى لهما عنها. # ولكنه يسر إلى صاحبه بعزمه على أن يقطع صلته بها بكتاب يرسله إليها، فيقول له ms085 سبيد: ~~الرأي ألا تكتب فإن الكتاب يبقى، ولكن اذهب إليها وحدثها بما تريد، فما أسرع أن ينسى ~~الكلام! # ويفعل أبراهام ما أشار به صاحبه، ولكنه يعود إليه وفي وجهه مثل ما يكون في وجه الغلام إذ ~~يحاول أن يخفي حياءه، قال: «قضي الأمر فلا مناص ولا حيلة، إني ما كدت أخبرها بالأمر حتى هبت ~~من مقعدها صارخة تدق يدا بيد والدموع تنهمر من جفنيها وهي تقول أصبح المخادع هو المخدوع ... ~~ووجدت الدموع تنحدر على خدي أنا كذلك، فأخذتها بين ذراعي وقبلتها.» ولما لامه صديقه على ~~تخاذله بمثل هذه السرعة قال: «قضي الأمر، وإذا كنت أعود إلى الأسر ثانية، فليكن ما يكون، ~~ولسوف أصمم فلا أتزعزع.» # وظلت ماري بعد ذلك مدة عامين تحرص على أبراهام وتتحايل على كسب قلبه، وتغضي على مضض عن ~~شذوذه وعن هيئته وعن سرواله القصير وعن حديثه الأعرج، وعما يشبه البلاهة من غيرته حينا ~~وعدم مبالاته أحيانا ... # وكانت تحاول أن توقد نار الغيرة في قلبه، فتمشي في الطرقات وذراعها في ذراع دوجلاس، فما ~~تتوقد في قلب أبراهام نار، وإنما تحس هي بوقدة في حشاها إذا نظر إليهما في غير ~~مبالاة. # ورأته ماري مرات يسير مع أخت لها عذراء على نحو ما تفعل هي مع دوجلاس، فحسبت أنها أغارته، ~~ولكنها ما لبثت أن أحست هي بالغيرة تأكل قلبها. # ورأته يصحب فتاة في نحو السادسة عشرة من عمرها إلى الملهى ويضاحكها، وكان اسمها سارا، ~~وعلمت أنه أشار مرة إلى اسميهما، وما كان في الإنجيل من علاقة بين سارا وأبراهام، فلم تطق ~~ماري على هذه المداعبة صبرا، أما هو فكاد يتعلق قلبه بسارا، وأوشك أن يندفع في هذا الطريق ~~لولا أن نفرت الفتاة منه قائلة: «إن حاله الخاصة وجملة أمره لن يحدثا الأثر المطلوب في قلب ~~فتاة على أهبة أن تغشى المجتمعات.» # وصبرت ماري وهي من لا تطيق أن تصبر، فإذا كان بين يديها حاولت أن تروضه على طاعتها بشتى ~~الحيل، واستجمعت ذكاءها ودهاءها لتؤثر فيه دون أن يشعر فتوجهه ms086 إلى حيث تريد، ولكن ما كان ~~أسرع نفوره من ذلك؛ أنفة منه ومحافظة على استقلاله وحريته، وإنها لضائقة بذلك، ولكنها ~~تصابره وتسايره؛ علها تظفر آخر الأمر به، وفاتها أن السحر الذي كان كفيلا أن يجعله أطوع ~~لها من الطفل هو الذي كان ينقصها؛ لأن الحب كان ينقصه. # وكانت تأخذه غاشية من الهم كلما مال الحديث بينه وبين أصحابه إلى الزواج، وإذ ذاك كانت ~~تزداد رغبته في التخلص من ماري تود كما تخلص من قبل من ماري أوين، وكان يومئذ في حال إن لم ~~نحملها على الخبل نحار على أي شيء غيره نحملها! # ودأبت ماري على سعيها وصبرها، وليس من شك أنها لولا ما كانت تشعر به نحوه من أكيد الحب ~~لانصرفت عنه، قالت عنه بعد ذلك بسنين: «لم يكن مستر لنكولن من الوجاهة كما كان مستر دوجلاس، ~~ولكن الناس لم يكونوا يلحظون أنه كان لقلبه من الكبر بقدر ما كان لذراعه من الطول.» وقالت ~~في معرض آخر كلاما غير هذا ينطق بطموحها وتعليقها الفوز بأحلامها على الظفر به، ومن ذلك ~~قولها: «إن مستر لنكولن سيكون رئيسا للولايات المتحدة يوما ما، ولولا أني رأيت ذلك فيه ما ~~قبلت أن أتزوج منه، فإنه لم يكن وجيها.» # وحدد اليوم الأول من سنة 1841 موعدا للزفاف، وأخذ لنكولن ينظر إلى ذلك اليوم، وكلما ~~اقترب منه أحس في جسمه بما يشبه الحمى من فرط اضطرابه، فلما كان اليوم السابق لهذا الموعد ~~المحدد، رآه الناس في حال من الهم مخيفة، ولكنه على الرغم من ذلك كان مكبا على عمله في ~~مكتبه وفي المجلس كأن لم يكن به شيء. # وفي الموعد المضروب أخذ أهل العروس أهبتهم لاحتفال يليق بمكانة أسرتهم، واستعدوا للقاء ~~الأصدقاء والصديقات، وأخذت العروس زخرفها وازينت، ولكن وا عجبا أين الزوج؟! أبلع به الخبل ~~هذا البلغ؟! لقد غاب والجمع في انتظاره! يا له من موقف! ويا لها من صدمة تصيب ماري المدلة ~~المتكبرة! # وظن أبراهام أنه بفعلته هذه يستطيع أن يسترد حريته ويخلص من هذا الرباط ms087 الذي أوشك أن ~~يوثقه، فلا تجدي في الفكاك منه حيلة، وأكب على عمله يحاول أن يخدع الناس أو يخدع نفسه بأن ~~ليس في الأمر شيء، ولكنه ما لبث أن أحس أن فعلته هذه ضد الشرف فحاق به اليأس، وزاده غما ~~على غم تفكره في أنه ألحق الضرر بفتاة رقيقة قوية العاطفة بيديه القبيحتين، كتب إلى زميله ~~ستيوارت: «إما أن أموت أو تتحسن حالي، ولكن بقائي فيما أنه فيه ضرب من المستحيل.» وبعد ذلك ~~بأيام انقطع عن شهود جلسات المجلس؛ إذ كان عند الطبيب. # | صديق صدوق # وما حيلة الطب في نواز توبق الروح وهواجس تعمي القلب، وإن بدت آثار هذه وتلك في ~~نواحي البدن؟ عجز الطبيب ولا عجب أن يعجز، وجاء الصديق ليفعل ما لم يستطع الطبيب أن يفعل ~~وهو خبير بالعلة عليم بموضعها من نفس صاحبه. # باع سبيد حانوته، وعول على الرحيل إلى كنطكي، فعرض على صاحبه لنكولن أن يذهب معه إلى هناك ~~عله يشفى مما به في تلك الأحراج التي درج منها أول ما درج. دعاه سبيد أن ينزع نفسه وجسمه ~~من ذلك البلد الذي يكربه العيش فيه، بعد أن كان مهوى خواطره ومنتجع آماله، ورحل أبراهام مع ~~صديقه، وقد اخترم الهم جسده فزاده نحولا على نحول، وزين له الشيطان أن يطلب النجاة من ~~الحياة. # ولبث في كنطكي أياما لقي فيها من كرم صاحبه وكرم أمه وأخته ما هون عليه أمره شيئا ~~قليلا، وصاحبه لا يفتأ ينصح له ويسري عنه، وهو يشكو إليه اضطراب أعصابه، ويظهره على ~~هواجس نفسه ويذكر له، والألم يبرح به فعلته التي فعل، فكان غير كريم، بل كان من ~~الضالين! # على أنه كتب وهو في كنطكي رسالة في الانتحار ترينا أن اليأس كان قد أوشك أن يذهب عنه. خذ ~~لذلك مثلا قوله: «إني لم أصنع في حياتي شيئا يذكر أي إنسان أني عشت، ومع هذا فإن ما أود ~~أن أعيش من أجله هو أن أربط اسمي بحوادث يومي وجيلي، وأن أقرن ذلك الاسم بصنيع يكون ms088 لمن ~~حولي من الناس فيه جدوى.» # بيد أنه لم يلبث وقد كان يلتمس العون من صديقه أن رأى ذلك الصديق في حاجة إلى من يعينه، ~~فلقد طاف به على حين غفلة طائف من الحب ملك عليه قلبه وعقله. # وانقلب الأمر، فغدا لنكولن هو الناصح، وراح يجتهد أن يهدئ صاحبه، وقد وسوست إليه نفسه ~~معاني كتلك التي كانت تجول في خاطره هو؛ معاني الحيرة والتردد والشك، وأصبح سبيد يحار في ~~أمر حبه كما أصبح ينتابه الخور كلما اتجه فكره إلى الزواج، شأنه في ذلك شأن صاحبه. # وكان فيما يسديه أبراهام من نصح لصاحبه مسلاة له أو شاغل يشغله عن وجده، ولما عاد إلى ~~سبرنجفيلد ظلت كتبه أكثر من عام تترى على صاحبه، وفيها من حسن النصيحة وقوة الإقناع ما لا ~~يصدر مثله إلا عن عالم نفسي أو شاعر رقيق العاطفة عميق الحس، خذ مثلا لذلك كتابه هذا قال: ~~«إن مرد ذلك في جملته إلى أنك عصبي المزاج، وأنا أقول ذلك لما شهدته منك شخصيا، ثم لما ~~قصصت علي من حال أمك في أوقات، ومن حال أخيك حين ماتت زوجه، وإن أول سبب خاص هو تعرضك ~~للجو الرديء أثناء رحلتك؛ فإن تجاربي تثبت لي في وضوح أن ذلك بالغ الضرر بمن كان ضعيف ~~الأعصاب، ثم يأتي بعد ذلك بعدك عن مجالس الصحاب وأحاديثهم؛ فإنها كانت خليقة أن تشغل عقلك، ~~وأن تهيئ له قسطا من الراحة من عناء التفكير العميق، الذي يبدأ حلوا ثم ينقلب إلى مثل ~~مرارة الموت، وأخيرا سرعة اقترابك من هذه الأزمة التي يتركز فيها كل شعورك وفكرك.» # ومن العجيب حقا أن يتلمس لنكولن العلل لما يكرب صاحبه، ثم يظل على ما هو عليه من حيرة ~~وغم، وأعجب منه أن نراه يحدد الوضع الذي باتت عليه علاقة سبيد بصاحبته تحديد الخبير الرشيد ~~فيقول: «كيف اتفق لك مغازلتها؟ أكان ذلك لأنك رأيتها جديرة بها منك، وأنك وضعت بين يديها ما ~~يبرر أن تتوقع حدوثها على يديك؟ لا! لم يكن للعقل مجال ms089 يومئذ. قل لي بحق، ألم تكن هاتيك ~~المقلتان الدعجاوان السماويتان هما أساس حججك الأولى جميعا فيما يتصل بهذا ~~الموضوع؟» # وجاء في كتاب آخر إلى صديقه قوله: «إنك تعلم حق العلم أن حدة شعوري بآلامك لا تقل كثيرا ~~عن حدة شعوري بآلامي، ومع ذلك فإني أؤكد لك أنه لم يسؤني كثيرا ما ذكرت عن شعورك الذي بلغ ~~حدا عظيما من السوء وقت كتابتك، وليس ذلك لأني اليوم غير خليق بالعطف عليك، ولا لأني أقل ~~مودة لك، ولكن لأني آمل مصدقا أن لهفتك على صحتها وحياتها، وحزنك بسبب ذلك؛ سيؤديان إلى ~~القضاء أبدا على تلك الشكوك المخيفة التي ساورتك أحيانا عن صدق حبك لها ... وإذا قدر لهذه ~~الشكوك أن تمحى إلى الأبد - وكأني أشعر بوحي يوحى إلي أن الله قد أرسل إليك غمك الحالي وهو ~~مرضها، لهذا الغرض - فليس من شيء يحل محل تلك الشكوك ليحدث ما أحدثت من تعس عظيم ... ويك يا ~~سبيد! إن لم تكن تحبها وقدر عليها الموت، فمع أنك لا تتمنى موتها فأنت مستسلم للأمر لا ~~محالة، ولقد تكون الآن هذه المسألة - أعني مسألة حبك إياها - بحيث لم تعد موضع إشكال ~~لديك؛ وعلى هذا فإن إلحاحي في الإشارة إليها تهجم جاف على شعورك، وإذا كان هذا هو الحال ~~فإني واثق منك بالصفح؛ فإنك لتعلم الجحيم التي عانيت منها وتعلم ما أكن من شفقة منها ~~عليك. أنا الآن أحسن حالا مما كنت قبل، ولقد رأيت سارا مرة واحدة وبدت لي شديدة المرح، ~~ولهذا فإني لم أفاتحها في شيء مما تحدثنا به ...» # وتزوج سبيد فكتب إليه أبراهام يقول: «غداة وصول هذا إليك ستكون قد أصبحت زوجا لفني منذ ~~أيام، وإنك لتعلم أن رغبتي في مودتك أبدية، وأني لن أقف إذا استطعت عمل شيء، بيد أنك منذ ~~الآن ستكون في موضع لم أجرب مثله من قبل، وعلى ذلك فإذا طلبت نصحي فإني أخشى أن يصحب الخطأ ~~ما أنصح به، وإني لأرجو مخلصا أن لا تجد نفسك بعد اليوم محتاجا إلى راحة ms090 تأتيك من خارج ~~نطاقك الحالي، ولكن إذا أخطأ ظني وخاب رجائي وصحب سرورك العظيم شيء من الألم أحيانا، ~~فدعني أستحثك - كما فعلت دائما - أن تذكر وأنت في قلب الغاشية، بل وأنت في عذاب منها، أنك ~~سوف تخرج منها بعد قليل. إني مقتنع الآن أنك تحبها في حماسة كأعظم ما في طاقتك من الحب؛ ~~ولذلك أميل إلى التفكير أنه يحتمل أن تخونك أعصابك لحظة في بعض الأحيان، ولكنك إذا نجحت مرة ~~واحدة في ضبطها الآن، فإن هذا العناء سيذهب إلى غير رجعة، وإذا كنت قد أثبت هدوءك أثناء ~~الاحتفال أو ملكت نفسك فلم تزعج أحدا من الحاضرين، فقد كتبت لك النجاة بلا ريب، وبعد شهرين ~~أو ثلاثة على أقصى تقدير ستجد نفسك أسعد الرجال.» # وجاءت كتب صاحبه إليه ولا يزال فيها ذكر الوساوس والأوهام، فرد عليه أبراهام يقول: «ليس ~~لدي شك الآن أن سوء حظنا الخاص بنا إنما هو أننا نحلم أحلام الجنة، تلك الأحلام التي تفوق ~~إلى حد بعيد كل ما عسى أن تحققه هذه الأرض، ومهما بلغ من بعدك عما تحلم به، فليس ثمة امرأة ~~تفعل ما يحققه لك إلا ذات العينين الدعجاوين زوجك فني. ولو أنك نظرت إليها بخيالي لكان من ~~السخف عندك أن يفكر امرؤ لحظة في عدم هنائه معها.» # وذكره زواج صاحبه وما يسمع من هناءته بما هو فيه من وحدة وشقاء، ترى ذلك واضحا في قوله: ~~«إن لم يكن لنا أصدقاء فلن يكون لنا سرور، وإذا اتفق لنا بعض الأصدقاء فإنا لا نأمن أن ~~نفقدهم ونذوق الألم مضاعفا بهذا الفقد. لقد كان أملي أنك وزوجك تقيمان هنا وليس لي حق في ~~أن ألح بهذا عليك ...» # ورد على كتاب سعيد جاءه من صاحبه فقال: «إنك تعلم أني مخلص إذ أقول لك إن ما بعثه كتابك ~~في نفسي من سرور كان ولا يزال فوق كل تعبير، فأما ما يتصل بشئون ضيعتك فلن تجدني أسايرك في ~~فهمه، فلست أملك ضيعة ولا أتوقع أن أمتلك يوما ما؛ وعلى هذا ms091 فلم أدرس هذا الموضوع دراسة ~~تجعل لي فيه لذة، وحسبي أن أقول إني فرح برضائك عنه وسرورك به ... ولكن فيما يتصل بذلك ~~الموضوع الآخر الذي أوليه أعظم اهتمام في السراء والضراء على سواء، فاعلم أني لم أستطع قط ~~أن أنتزع فيه من نفسي عطفي عليك، ولست أستطيع التعبير عن مبلغ ما يهزني من سرور إذ أسمعك ~~تقول إنك أكثر سعادة مما توقعت في أي وقت، ولست أزعم - وأنا بك عليم - أن ما توقعت لم يكن ~~فيه غلو في بعض الأحيان على الأقل، فإذا كانت الحقيقة تفوق ذلك جميعا فإني أقول كفاني ذلك ~~يا إلهي ... شكرا لك. ولست أعدو الحقيقة إذا قلت لك إن اللحظة التي قرأت فيها كتابك الأخير ~~قد أورثتني من السرور أكثر مما أورثني كل ما استمتعت به منذ ذلك اليوم الذي جرى فيه القدر، ~~وهو أول شهر يناير سنة 1941؛ فمنذ ذلك اليوم وأنا يخيل إلي أنه ينبغي أن أكون جد سعيد لولا ~~تلك الفكرة التي تلازمني؛ وهي أن هناك نفسا غير سعيدة عملت أنا على أن تكون كذلك. إن تلك ~~الفكرة ما تزال توبق روحي، ولا معدى لي عن أن ألوم نفسي حتى على مجرد الأمل في السعادة في ~~حين أنها على ما هي عليه. لقد صحبت جماعة كبيرة في عربات سكة الحديد إلى جاكسونفيل يوم ~~الإثنين الماضي، وسمعت أنها ذكرت أنها استمتعت بنزهتها غاية الاستمتاع، وإني أحمد الله على ~~ذلك ...» # وإن المرء ليحس في هذه الكتب شبها عظيما بما ذكر جوت شاعر الألمان على لسان فرتر في ~~كتابه الخالد آلام فرتر، تلمس في هذه الكتب عظيم الوفاء من صاحب لصاحبه، كما نجد نفسا ~~حائرة مضطربة وقلبا يأكله الهم ويشرف به على اليأس، كما نقع بين آونة وآونة على أدلة ~~الوجدان الحي والعاطفة النبيلة، تجد مثالا قويا لذلك في قوله هذا: «وصلت إلى سالمة ~~البنفسجة الحلوة التي أرسلتها طي كتابك، ولكنها بلغت من الجفاف والهصر بحيث استحالت رمادا ~~عند أول محاولة مني لأن ألمسها، بيد أن ما ms092 اعتصره الهصر منها من عصير قد ترك أثرا في ورقة ~~الكتاب؛ ولذلك سأحتفظ بهذه الورقة وأعزها من أجل التي أرسلت البنفسجة بإشارة منها.» # ماري أوين زوجة لنكولن. # | زوج # أقام لنكولن أول الأمر وعروسه الطموح في حجرتين في نزل كانا يدفعان أجرا لسكناهما فيهما ~~أربعة دولارات كل أسبوع، وعظم ذلك على ماري، فشكت إلى زوجها ولم يمض على زواجهما غير قليل، ~~وألقى إليها المعاذير مشيرا إلى ضيق رزقه وإلى ما لا يزال يقتضيه الوفاء من ديونه. ثم بسط ~~الله له الرزق بعض البسط، فانتقل الزوجان إلى بيت صغير استطاعا أن يؤديا في غير عسر أجر ~~إقامتهما فيه. # وأخذت ماري تدير شئون بيتها الجديد وترعى أمره، وقد اتخذت لنفسها سلطة ربة الدار فيما هان ~~أو عظم من الأمور، وكانت تأخذ زوجها بألوان من الشدة والعنف إذ تدعوه إلى كيت وتصرفه عن ~~كيت، ورائدها في ذلك النظام أدق ما يكون النظام. # وكان يصل بها الغضب أحيانا إلى هياج شديد، وذلك حين كانت ترى من بعلها أنه يأبى إلا أن ~~يرسل نفسه على سجيتها؛ فكثيرا ما لا يعبأ بما تصالحت عليه أذواق الناس من أوضاع وتقاليد ~~يلزمونها وهم جلوس إلى مائدة الطعام أو وهم سامرون في المثوى، وهل كان يستطيع ابن الغابة أن ~~يتكلف ما لم يجر في طبعه؟ # ولكن امرأته لا تفتأ تلفته إلى أخطائه وتوجهه إلى العناية بهندمة ملابسه وتحثه على ~~النظام، وتكرر له أن ذلك خليق به وله اليوم بين الناس مكانته، وهي تريده على أن يحمل الأمر ~~على الجد، وهو يجاريها ليخفف من حدتها، ثم لا يستطيع بعد ذلك أن يغير شيئا من طبعه. وكان ~~إذا اشتد بها الغضب يلاطفها ويضاحكها ليصرف عنها غيظها، فإن عجز عن ذلك غادر المنزل فمشي ~~ساعة أو بعض ساعة. # وحق لزوجه أحيانا أن تغضب منه؛ فهو سخي اليد وإن كان فقيرا، وهي لا تريد أن تبسط يدها ~~إلا بقدر ما تستطيع، وهو يسلك في بيته سلوكا يدل على عدم المبالاة بأوضاع المجتمع؛ يلقى ~~الناس ms093 في هيئة تنم على عدم الاكتراث؛ فثيابه متهدلة وشعره أشعث وعبارته ساذجة، وكلما دق ~~الباب أحد جرى إليه ليفتح ولم يترك ذلك للخدم! وهو يستلقي على ظهره أحيانا، ويتمدد على ~~البساط وفي يده وصلته بأبراهام وماري، وذلك أن أبراهام - وهو الذي ملأ النفوس إعجابا ~~بدماثته ورقة حاشيته - قد قبل غير متردد مبارزة رجل من الديمقراطيين على أعين الناس، ~~وكان لهذه المبارزة سبب يحمل المرء على التعجب؛ إذ كان مصدره شخص مثل لنكولن، وبيان ذلك أن ~~أبراهام نشر على لسان أرملة ثلاثة كتب في صحيفة صديقه الذي أصلح بينه وبين خطيبته، وكلها ~~نقد لاذع لذلك الديمقراطي المدل بنفسه الكثير الذهاب بمقدرته المالية، وكان الناس يومئذ ~~يشكون من سوء سياسة الديمقراطيين فيما هو متصل بالمال، وجاءت كتب أبراهام التي نحلها امرأة ~~من خياله لاذعة قاطعة، فأثارت فضول الناس وضحكهم وإعجابهم، ووردت على الصحيفة ردود كثيرة ~~بغير توقيع قوامها المجانة والمعابثة. وكان لماري في هذه المسألة نصيب؛ فقد كتبت للصحيفة ~~تقترح زواج ذلك الديمقراطي من تلك الأرملة، ونظمت قصيدة فكهة ساخرة أرفقتها باقتراحها لتكون ~~قصيدة الزفاف! # وثارت ثائرة ذلك الديمقراطي، وراح في المدينة يرغي ويزبد ويتهدد ويتوعد، وأتى صاحب ~~الصحفية فعنفه وتهدده بالانتقام إلا أن يعلمه بأصحاب هذه المجانة، وبخاصة الاقتراح ~~والقصيدة، وعرض صاحب الصحيفة الأمر على لنكولن، وذكر له أن ذلك الديمقراطي قد جعل بينه ~~وبينه أجلا، فإن أبى ذكر الأسماء ومضى الأجل فهو مبارزه، فقال له أبراهام في غير وناء إني ~~آخذ الأمر على عاتقي، وأنت في حل أن تذكر أن أبراهام لنكولن هو صاحب الكتب والاقتراح ~~والقصيدة جميعا، وتم ذلك فدعاه الديمقراطي إلى المبارزة، وشاع نبأ ذلك في الناس فاحتشدوا ~~ليشهدوا ما يكون بينهما. # وكان لأبراهام أن يختار نوع السلاح الذي يبارز به؛ إذ كان هو الذي وقع عليه التحدي، ~~فاختار أن يكون النزال بسيف من السيوف الطويلة العريضة التي يحملها أشداء الفرسان، وكان ~~لأبراهام من طوله وفتوته وقوة ساعديه ما يضمن له الفوز على منازله القصير. قال رجل شهد ms094 ذلك ~~الموقف: «كان على وجهه أمارات الجد، وما علمت عنه قبل أنه لبث مدة كهذه المدة لم يرسل نكتة ~~من نكاته ... لقد تناول أحد السيفين واستله من غمده، ولمس بإبهامه شفرته يتبين مبلغ مضائه على ~~نحو ما يفعل الحلاق إذ يقيس مضاء الموسى، ومد قامته إلى غاية ما تمتد، كما مد ذراعيه ~~الطويلتين إلى أعلى ولم يزد والناس يتطلعون على أن ضرب بسيفه غصنا فوق رأسه فألقى به ~~بعيدا، ولم يكن بيننا أحد غيره يستطيع أن يبلغ قريبا مما بلغه بطول ذراعيه، وكاد هزؤ منظر ~~ذلك الرجل الطويل الذراع يفلت مني ضحكة، وهو يتأهب لمحاربة من لو مشى نحوه لمر تحت إبطه، ~~وبعد أن قطع لنكولن الغصن رد سيفه إلى غمده متنهدا وجلس، ولمحت في عينيه ذلك البريق الذي ~~يلتمع فيهما عادة إذا تهيأ لأن يقص حكاية ...» # وتدخل بعض الناس فأصلحوا بينهما، ورجع الخصمان جنبا إلى جنب إلى حيث انطلق كل منهما إلى ~~داره. # وظل قبول لنكولن هذا النزال أمرا يتحاشى أصدقاؤه الإشارة إليه، وكان أبراهام كلما تذكره ~~تندى جبينه وارتسم الخجل على محياه؛ فهو وإن كان نازل آرمسترنج من قبل، فإنه لم يفعل ذلك ~~وهو محام أو عضو في مجلس الولاية، وإنما كان فتى في حانوت، ولم يعتد على آرمسترنج وإنما ~~توقح عليه هذا وعصبته، ولم يصل الأمر بينه وبين آرمسترنج إلى سفك الدماء والقتل كما كان ~~عسيا أن يقع بينه وبين ذلك الديمقراطي، وما نجد علة لفعلته هذه إلا أنفته من الفرار من ~~المسئولية، فمن خلقه أنه لا يتنصل من أمر تقع عليه تبعته مهما كانت عاقبته. # على أن هذه المبارزة قد أدت إلى ما لم يقع له في حسبان؛ فإن ماري تذيع في الناس أنه إنما ~~أقدم عليها دفاعا عنها! وما تدري أكانت تؤمن بذلك أم أنها ادعته في مهارة لتكسب به قلب ~~أبراهام، ولعل ذلك هو أرجح الأمرين؛ فهي واسعة الحيلة لا تفوتها في السعي إلى غرضها ~~وسيلة. # وازداد اتصالهما بعد ذلك حتى عادت حياتهما إلى ms095 ما كانت عليه قبل فراره، ولكنه لم يشعر ~~يوما أنه يحبها، قال صديق له اسمه هرندن: «لقد علم أنه لا يحبها ولكنه وعد ~~بزواجها.» # ونراه يكتب إلى صاحبه سبيد قائلا: «أود أن أسألك سؤالا؛ أأنت الآن في شعورك وقياسك فرح ~~بزواجك؟ إنه سؤال لم تقدم به غيري لكان تهجما لا يغتفر، ولكني أعلم أنك ستغفره لي، أرجو ~~منك أن تجيب في غير إبطاء؛ فإني أتحرق شوقا إلى إجابتك.» # وأخذ أبراهام يحاول أن يكون في عيني ماري كأحسن ما يكون، حتى لقد مالت به محاولته إلى ~~الفخر وهو الذي يكرهه بطبعه، فنراه يعد قائمة بما نال من أصوات الناخبين في أدوار انتخابه، ~~ويفرح إذ تقع عليها عينا ماري فهو يريد أن يريها مكانته، ويفسر لنا ذلك سببا من أسباب ~~تردده في صلته بهذه الفتاة؛ فإنه كان يستخذي من نشأته وطبقته. # وقضي الأمر فربط بينهما رباط الزواج وهو في الثالثة والثلاثين من عمره وهي في الرابعة ~~والعشرين، وقال الذين شهدوا العروسين حين عقد قرانهما إنهم رأوا لنكولن وعلى وجهه إذ ذاك ~~سحابة من الكآبة والوجوم، كانت تنقشع حينا على ما يتكلف من بشاشة ثم تعود فتنعقد! # ولكنه استنشى نسيم الراحة حين ذهب تردده وتهيبه، وأخذت تتزايل هواجسه، ويتضاءل هوانه على ~~نفسه، وتعود إليه ثقته بتلك النفس سيرتها الأولى. # | نضج # كان لنكولن المحامي قد عمل مع شريك آخر غير ستيوارت اسمه لوجان قبل زواجه بثلاث سنوات؛ إذ ~~انتخب ستيوارت عضوا في الكونجرس، وترك سبرنجفيلد، وكان لوجان من أكبر المحامين شهرة في ~~المدينة، وكان له من النظام والدقة والإلمام بأوضاع المهنة وتقاليدها ما يعوز الكثير منه ~~صاحبه لنكولن. وكانت له الرياسة في العمل، ورضي لنكولن بمكانه منه ولم يجد في ذلك غضاضة؛ إذ ~~لم يكن منه بد، وأخذ يتعلم عنه ويكتسب منه المران والخبرة وهو قانع بنصيبه من الأجر وإن كان ~~زميله لا يعدل بينه وبينه، على أنه كان لا يميل في جوره كل الميل. ولم يكن ثمة ما يحول دون ~~استمرارهما معا لولا ms096 أن فرقت بينهما ريح السياسة؛ إذ كان كل منهما ينتمي إلى حزب يخالف ~~الآخر. # واتخذ أبراهام زميلا آخر، وكان هذا الزميل الجديد شابا دونه في العمر بعشرة أعوام اسمه ~~هرندن، وكان هرندن من أشد الناس إعجابا بأبراهام، يحرص كل الحرص على مودته والإجلال له، ~~فتوثقت عرى الصداقة بينهما، وكانت لأبراهام الرياسة هذه المرة، وعظمت ثقة كل من الرجلين ~~بصاحبه. وكان أصغرهما موفور الحظ من النشاط والذكاء، كما كان يدين بمذهب صاحبه في السياسة، ~~وفيما هو أهم عند لنكولن من السياسة؛ أعني مسألة العبيد. # واتضحت للناس آيات نضجه في المحاماة، كما وقفوا منه على ما لم يعرف به أحد قبله في ~~المدينة؛ فهو بسيط في كل شيء، يجعل الأمر فيما يعمل أمر ذمة وأمانة قبل أن يجعله أمر قانون ~~ومغالبة، وكثيرا ما كان ينظر إلى ما يتنازع فيه الناس بما يوحي به قلبه لا بما يصوره عقله. ~~وكان يرد كل شيء إلى أصله، ولا يتردد أن يفصل بين الخصمين بما لو فكر فيه غيره لعده من ~~ضروب الخيال والوهم، وإن من الناس من يرد ذلك إلى ما أشيع من شذوذه. # جاءه ذات مرة رجل يطلب إليه أن يتكفل برد مبلغ من المال عند خصم له، فأنصت إليه لنكولن ~~حتى استفرغ كل ما عنده، وقال: «إني أستطيع أن أربح قضيتك وأعيد إليك تلك الدولارات ~~الستمائة، ولكني إن فعلت ذلك جلبت الشقاء إلى أسرة أمينة! ولن أستطيع أن أتبين سبيلي إلى ~~ذلك، ولهذا أحس في نفسي الميل أن أنصرف عن قضيتك وأجرك، ولكني أنصح لك بما لا أسألك عليه ~~أجرا، اذهب إلى بيتك وفكر في طريقة شريفة تربح بها ستمائة دولار.» # بهذا وأمثاله اكتسب أيب الأمين محبة الناس، فما منهم إلا من يكبره، وكثيرا ما كان الناس ~~يجيئونه ليحكموه فيما شجر بينهم من خلاف، وكان كل من الخصمين يعلن أنه يرتضي ما يقضي به ~~سلفا، وسرعان ما يحسم النزاع بينهم كأنهم منه حيال قاض لا محام، وهو لا يسألهم على ذلك ~~أجرا وحسبه ms097 من الأجر منزلته في قلوبهم. # وكان يرفع الكلفة بينه وبين الناس، يلقاه من لا يعرفه من قبل فكأنه منه حيال صديق قديم، ~~وكان لا يستحي أن يسأل هرندن ويستفهمه إن أشكل عليه أمر أو التوت عليه فكرة، وكل همه أن ~~يصل إلى الصواب، وما يهمه أن يتعلم من تابعه في العمل. # ولم يكن يعنى كثيرا بالناحية المالية في عمله، وإنما ترك أمر ذلك إلى هرندن، فإذا جاءه ~~صاحبه بما رزقهما الله به من مال، عده وقسمه نصفين ونادى صاحبه «هذا نصفك»، كل ذلك بغير ~~أن يكتب شيئا من حساب كما تجري به العادة بين الناس. # وكان يراه الناس في المحكمة يدس أوراقه ومذكراته في جيبه حتى لينبعج وينتفخ، فلم يتخذ ~~كاتبا أو يحمل حقيبة أوراق كما يفعل المحامون، ويرونه يدس بعض الأوراق الهامة في قبعته ~~كأنه يجعل منها حقيبة وقبعة معا! عاتبه أحد خلانه لأنه لم يرد على كتاب أرسله إليه فقال: ~~«ما فعلت ذلك إلا لأمرين؛ أولهما: ما شغلني من عمل في محكمة الولايات المتحدة، وثانيهما: ~~أني وضعت كتابك في قبعتي، وقد اشتريت قبعة جديدة وألقيت بالقديمة بعيدا، فبعد عني كتابك ~~زمنا ...» # ولم يختلف في أمانته اثنان، ولهذا كانت أكثر معاملاته بين الناس بغير كتابة، فكلمته صك ~~ووعده وثيقة، وإن الناس ليضعون عنده أوراقهم ويأتمنونه على أسرارهم وبعضهم لبعض ~~خصوم! # ولم يصرف أبراهام عن الجد ما كان فيه من ورطة؛ فنراه في غير مجال المحاماة يكتب المقالات ~~ويلقي المحاضرات، ومن أشهر محاضراته قبيل زواجه تلك التي أذاعها عن شاربي الخمر، ففيها أعلن ~~- وهو الذي لم يشربها قط - وجوب التسامح تلقاء من يشرب، وحمل على الذين يضطهدونهم من رجال ~~الدين وغيرهم زاعمين أنهم خير منهم وهم في الحق لا يفضلون عليهم بعدم شربهم، إن لم يكونوا ~~أقل منهم في كثير من الأمور ... وعزي إليه أنه كتب كذلك مقالة يحمل فيها على الأرثوذكسية ~~ويحبذ العقل والحكمة والاهتداء بهديهما فيما يعرض للمرء من شئون الحياة. وأغضب بهذه المقالة ~~كثيرين ممن يغلون في ms098 دينهم ويجعلونه قوام كل شيء، وكان مما كتبه في السياسة مقالة بين ~~فيها تزايد القوة السياسية لأهل الجنوب، وأوضح ما رآه لذلك من علل ... وأحس الناس في كل ما ~~كتب دلائل النضج وبشائر النبوغ. # ولم يقل نضجه في السياسة عن نضجه في المحاماة والخطابة والكتابة؛ فهو اليوم من رءوس ~~الهوج في سبرنجفيلد، ولكن شهرته السياسية لم تعد المدينة التي يعمل فيها والمقاطعة التي ~~ينتخب عنها لمجلس الولاية وهي مقاطعة سنجمون. # وقدر له أن يرى في سنة 1842 فان بيرن الرئيس الديمقراطي الذي مني بالفشل حين تقدم ~~للانتخاب مرة ثانية سنة 1840 ضد مرشح الهوج هارسون. أقعدت رادة الجو هذا الرئيس السابق ~~في نزل بمدينة قريبة، وطلب بعض الديمقراطيين من لنكولن أن يصحبهم لزيارته لتسليته بعض ~~الوقت فقبل، وأخذ أبراهام يقص من قصصه ويصف وصف الخبير الحياة البرية في الحدود الغربية، ~~ويضحك سامعيه بملحه وطرفه ونكاته العذبة جانبا من الليل، وقد أشار فان بيرن فيما بعد إلى ~~استمتاعه بما فاض من تلك الأحاديث، قال: «إن كانت ثمة من عيب صحبها فهو أني ظللت أحس أذى من ~~جنبي مدة أسبوعين من فرط ما ضحكت.» وقال أبراهام: «ليس بعجيب من أصحاب فان بيرن أن يدعوه ~~الساحر الصغير؛ فهو كفيل أن يسحر الطير عن شجره.» # وعادت السياسية تتطلب منه جهدا غير يسير؛ فهو اليوم يتحفز ليخطو خطوة، وكان له من امرأته ~~حافز ومن طموحه حافز، تطلع إلى مقعد في الكونجرس، وما كان ليستبعد الشقة أو يستعظم الفكرة ~~وقد قضى ثمانية أعوام في مجلس الولاية. # ولكن رجال حزبه رشحوا رجلا غيره فاختير ذلك الرجل، وكان على أبراهام أن ينتظر عامين، ~~وانتظر على مضض ثم ظن بعد ذلك أنه فائز بالترشيح، ولكن قدم عليه غيره مرة ثانية، وحق عليه ~~أن يعود إلى انتظاره، وقد آلمه وكدره أن يأخذ الطريق عليه هكذا رجلان من حزبه. # وآلمه فوق ذلك ألما شديدا فشل هنري كليي في انتخابات سنة 1844؛ فقد وقع هذا الفشل حيث ~~يرجى الفوز، فكان سوء وقعه في نفوس الهوج ms099 مضاعفا، وكان من أكثرهم تأسفا وتألما لذلك ~~لنكولن؛ إذ كان شديد الإعجاب بهنري عظيم الولاء له، كما أنه لم يأل جهدا في الدعوة له ضد ~~منافسه الديمقراطي. # | زواج # بقى أبراهام عاما ونصف عام وموقفه من ماري عين موقفه عقب ذلك الفرار الشائن وعاد إليه من ~~هموم نفسه، وقد تزوج صاحبه، ما شغلته عنه قصة ذلك الصاحب زمنا. وبات ضائق النفس بوساوسه، ~~وزاده تبرما بحاله وإنكارا لشأنه ما كان يسمعه من صاحبه عن سعادته الجديدة بين يدي زوجه؛ ~~لذلك لم يكن عجبا أن يلتمس السكينة ثانية عند سارا، تلك الفتاة الناهد التي حاول من قبل أن ~~يصل حبالها بحباله فلم يستطع. # بيد أنه كان يحس بينه وبين نفسه أن يتجه إلى ماري؛ فهو لا يستطيع أن يبتعد بخياله عنها، ~~وقد رأينا ما ذكره في كتاب من كتبه إلى صاحبه، وكيف يقف بينه وبين سعادته تذكره أنه هو ~~الذي أشقاها. # وكان لنكولن يمني نفسه أنه على الرغم مما حدث يتأتى لهما أن يتصلا إن هما أرادا، وكانت هي ~~من جانبها تحس أن ما كان منه من فرار وهجران لم يصل، على شناعته، إلى حد القطيعة. # ودبر صحفي من صحابتهما وزوجه أن يدعواهما إلى مأدبة على غير علم كل منهما بدعوة الآخر ~~إليها، وتم ذلك فالتقيا وسلما وقد ربكتهما المفاجأة، ثم تضاحكوا جميعا بعد أن ذهبت الدهشة، ~~وكان هذا اللقاء الخطوة الأولى نحو التئام الصدع واجتماع الشمل؛ إذ أصبح أبراهام يرى حقا ~~عليه أن يصلح ما أفسد وأن يضع حدا لما هو فيه من شقاء وضيق. # وكادت صلته بماري تعود سيرتها الأولى، فكانا يلتقيان ويتساقطان أعذب الأحاديث، وكانت ~~تجمعهما أحيانا حلقة من الصحاب تدير ماري الحديث بينهم فيها بما أوتيت من ذكاء ولباقة، ~~ويضحك أبراهام سامعيه بنكاته وقصصه وأمثلته وما منهم إلا من يستزيده منها. # وحدث أثناء ذلك أمر عجيب في ذاته على قدر غير قليل من الأهمية في نتيجته كتاب لا يصرف ~~وجهه عنه، وهو يجلس على الأرض فيلاعب ابنه كأنه طفل ms100 مثله، وهو لا يتورع أن يفعل ما يفعله ~~جار قريب منهما إسكاف فيحلب البقرة مثله في الحديقة، ويحمل اللبن في وعائه بين يديه ويهرول ~~به إلى الدار على أعين السابلة والجيران، كأنما يحن إلى الكوخ وإلى حياة الأحراج، وامرأته ~~تصرخ في وجهه تذكره أنه لا يليق به ما يفعل؛ فهو اليوم محام مشهور المقام وسياسي مرموق ~~المكانة، فما يزيد على أن ينظر إليها نظرة أشبه بتعجب الأبله ثم ينطلق صامتا. # وأعظم ما يغيظ ماري منه حديثه بين الضيوف عن الغابة وعن حياته الأولى وما لاقى من شقاء ~~العيش في طفولته وشرح شبابه، وهو كلما اتجه هذا الاتجاه تدفق حتى ما يظن أحد أنه ~~سيسكت. # ويضايقها منه صراحته فإنه يقص على أصحابه وزوجات أصحابه ما لا يسمح العرف بذكره من شئون ~~حياته، فإذا انصرف هؤلاء عكر عليه تأنيب زوجته إياه ما بثه حديثهم في نفسه من سرور. # وتنظر إليه أحيانا وهو يغادر الدار إلى المحكمة فتقول في غضب: «كم أنبهك لتترك هذه ~~القبعة القديمة وقد اشتريت لك غيرها؟» فلا يفعل أكثر من أن يخلعها ويمسحها بطرف ردنه ثم ~~يضعها على رأسه، وينطلق تشيعه نظراتها الغاضبة، فإذا أخفت هذه القبعة القديمة ذات يوم ومدت ~~إليه يدها بالجديدة حذرته أن يدس فيها الأوراق، ولكنه يعود من عمله وفيها من الورق ما يملأ ~~حقيبة صغيرة! # وتحب ماري أن يكون في بيتها خدم من السود وهو لا يطيق ذلك ويصر على عناده مخالفا إياها ~~فيما تريد. قالت ذات مرة لصديق عقب مشادة بينها وبين خادمتها: «إني لعلى يقين من شيء ~~واحد وهو أنه إذا جرى القدر على مستر لنكولن فلن تجدني روحه أبدا أعيش خارج حدود ولاية من ~~ولايات الرق.» # ولكن زوجه على الرغم من ذلك جميعا تحبه وتكبره، وكأنها تبصر من وراء الغيب ما يخبؤه له ~~الغد من جاه ومجد، كتب لنكولن إلى صديقه سبيد بعد زواجه بعام ينبئه أنه رضي النفس قرير ~~العين، ويعتذر إليه من عدم زيارته إياه بقصر ذات يده وشواغل ms101 عيشه، ثم يبشره أنه قد صار له ~~غلام. # وكانت ماري تغار أشد الغيرة كلما اتجه بالحديث إلى إحدى زوجات أصحابه، وبلغت بها الغيرة ~~أنها كانت تحاول أن تباعد شيئا ما بينه وبين أصحابه أنفسهم، فلا تحب أن يقضي بينهم من ~~الوقت إلا ما تسمح به ليكون لها أكثر فراغه، وكان هذا يؤذيه ويضايقه ولكنه لم يكن يملك غير ~~الإذعان. # فإذا خرج وإياها للرياضة أو لزيارة أسرة صديقة حرصت ماري على أن يظهر بمظهر يليق به، فأتت ~~له بثياب أصلحتها المكواة، وحرصت على نظافة قميصه ودقة رباط عنقه وخلو قبعته من الورق ~~وبراءتها من التراب، وعنيت بالتماع حذائه وحسن مشيته، ويطيعها زوجها إلى ما تريد، وتتمنى لو ~~اتبع ذلك النظام كل يوم، ولكنها لا تلبث حتى تراه وقد عاد أشبه بفلاح يتنكر في زي أهل ~~المدينة؛ فحلته متهدلة متكسرة، وسرواله الطويل منتفخ عند ركبتيه، ورباط عنقه يدور حول ذلك ~~العنق حيثما اتفق، وقد أرخى ذراعيه إلى جنبيه، ونظر إلى محدثه وشفتاه مضمومتان ضمة من ذاق ~~خلا أو ارتشف رشفة من دواء مر، وكأنه إذ يحدق فيه بعينيه الواسعتين، ويستمع إليه يفكر في ~~شيء آخر لا يمت إلى الحديث بصلة! # وكثيرا ما كان يرى لنكولن بعد زواجه مضطجعا إلى ظهر كرسي أسنده إلى الحائط، وقد مد ~~رجليه على كرسي آخر، وألقى برأسه إلى خلف، وأمال قبعته حتى تغطي جبينه وعينيه، ولبث ويداه ~~مشتبكتان حول ركبتيه يتفكر مليا، لا يستطيع أحد أن يقطع عليه تيار فكره، ويخرج من هذا ~~بمقالة يكتبها أو بشعر يترنم به. # وكانت مسحة الهم التي عرف بها محياه منذ صغره ترتسم على ذلك المحيا كلما خلا إلى نفسه أو ~~جلس صامتا بين صحبه، ولا تنقشع إلا إذا قص قصة أو تندر بحادثة، ثم يعود إلى وجهه ما ~~يساوره من هم لا يتبين على اليقين مبعثه، فماذا كان يكربه وقد تزوج وذهبت حيرته؟ أكان مرد ~~همه إلى ما يكرب كل نفس كبيرة من إحساس صاحبها أنه قد يعيش مجهولا غير ms102 مفهوم؟ لقد ذكر ~~شيئا من هذا حين كتب إلى صاحبه يقول إن مرد شقائهما إلى أنهما يحلمان على هذه الأرض أحلام ~~الفردوس. # | بيض وسود # بينما كان يتطلع أبراهام إلى مقعد في الكونجرس، وقد أوشك أن يفرغ ما أجبر عليه من انتظار، ~~كانت البلاد كلها في شغل بما جد من تلك المشكلة التي نجمت من وجود العبيد فيها منذ عهد ~~الاستعمار، ولقد كان لهذه المشكلة خطر أي خطر في سياسة البلاد؛ ولهذا وجب أن نأتي بحديثها ~~على سرده. # جيء بهؤلاء السود من أفريقيا منذ عهد الاستعمار ليكونوا زراعا وخدما لمن نزل بأرض ~~أمريكا من الأوروبيين، وعلى الأخص في الولايات الجنوبية؛ حيث تصلح التربة للزراعة في مساحات ~~واسعة مكشوفة، وحيث يقسو المناخ على المستعمرين فيحد نشاطهم ويقلل عزمهم، وأخذ يزداد عدد ~~هؤلاء السود في الجنوب منذ نشط المستعمرون في زراعة القطن والطباق في بطاح مترامية خصبة، ~~واشتدت الحاجة إلى العبيد بعد ذلك إبان الانقلاب الصناعي؛ إذ ازداد طلب القطن تبعا لسرعة ~~حلجه وغزله. # أما في الشمال فكان هؤلاء السود خدما في المنازل وقل استخدامهم في الزراعة؛ إذ كانت ~~الزراعة هناك محصورة في مساحات ضيقة، ولم يزرع إلا ما يطلب الناس من حب وبقل، وعني الناس ~~بالصناعة في الشمال، وكان الصناع من البيض؛ لأنهم أجدر أن يمهروا فيها. # على هذا الوضع كان اقتناء العبيد في الجنوب أمرا لا محيص عنه، بينما كان في الشمال أمرا ~~قليل الأهمية، ولكن الظروف ما لبثت أن جعلت من وجود العبيد مشكلة معقدة بين أهل الجنوب وأهل ~~الشمال. # كان أمرا طبيعيا أن يتألم أبطال الاستقلال الذين أعلنوا حقوق الإنسان من وجود العبيد ~~بينهم؛ فإن من ينفر من استعباد غيره إياه خليق أن يكره أن يستعبد هو غيره، وكان جفرسون من ~~أكثر الزعماء بغضا لوجود العبيد؛ إذ لا يتفق وجودهم وما كان يدعو إليه من ديمقراطية ~~وحرية. # ولكن المسألة بدت من أول الأمر أعسر من أن تجرى فيها دعوة أساطين الحرية؛ فقد جعل أهل ~~الجنوب أصابعهم في آذانهم عند ms103 كل دعوة يدعوها المتأثمون من حال السود وهم إخوانهم في ~~الإنسانية، ولم يكن ذلك لأن الديمقراطية كانت أحب إلى قلوب الشماليين منها إلى قلوب أهل ~~الجنوب؛ فإن هؤلاء الشماليين كانوا رحماء بينهم أشداء على السود، وكانوا إذا رغبوا في ~~التخلص منهم باعوهم لمن يقتني العبيد في الجنوب، وإنما كان الأمر عند الجنوبيين أمر حياة أو ~~موت، فالقضاء على العبيد عندهم معناه ثورة اجتماعية تقضي على مصالحهم الاقتصادية وتصيبهم ~~بنكبة لا يبرءون منها إلا في أجيال. # من أجل ذلك وقف زعماء الاستقلال وأبطال حقوق الإنسان حيارى تلقاء هذا الأمر وإن باتوا له ~~كارهين، على أنه لم تنته حرب الاستقلال حتى قضي على هذا الوضع في جميع الجهات الكائنة وراء ~~حدود ماري لاند الشمالية. وفي سنة 1877 نجح جفرسون في حمل المؤتمر العام على إصدار قرار ~~يحرم وجود العبيد في الجهات الواقعة في الشمال الغربي لنهر الأهايو. # وظل أهل الجنوب متمسكين باقتناء السود فما تزحزحهم الدعوات قيد شعرة، وما هم بمنكري دعوة ~~الداعين من ناحيتها الإنسانية، بل إنهم يوافقون على أن الرق أمر بغيض، وأنه لا يتفق ومبادئ ~~الديمقراطية والعدالة والحرية، ولكنهم لا يستطيعون من هذا الشر خلاصا، وليس في وسعهم إلا ~~أن يأملوا أن يخلصوا في المستقبل منه. # ولما بدأ واضعو دستور الاتحاد عملهم وجدوا أنفسهم أمام عقبة كئود، سببها وجود هؤلاء ~~السود، وكان عليهم أن يتخطوا هذه العقبة سراعا وإلا ذهبت جهودهم هباء، وكانت هذه العقبة هي ~~كيفية التمثيل في مجلس النواب، فإنهم اتفقوا على أن يكون لكل ولاية أعضاء بنسبة عدد سكانها، ~~وعلى ذلك فهل يعد البيض وحدهم أم يعد البيض والسود جميعا؟ وإذا عد البيض والسود عظم نفوذ ~~أهل الجنوب في الاتحاد، ولن يرضى بذلك أهل الشمال، بينما يذهب نصف هذا النفوذ إذا عد البيض ~~وحدهم؛ فإن السود كانوا يساوونهم عددا أو يزيدون عنهم في بعض الجهات. # وهداهم تفكيرهم إلى حل رضي الطرفان عنه، فليعد البيض جميعا وثلاثة أخماس السود؛ وهكذا ~~يصبح اقتناء العبيد أمرا مشروعا بما تضمن الدستور ms104 ! # على أنهم لم يتخطوا هذه العقبة حتى كانوا تلقاء عقبة أخرى؛ فإذا كان الدستور قد أقر وجود ~~العبيد في ولاية وحرمه في أخرى، فماذا يكون حال من يفر من العبيد إلى ولاية حرة؟ أيحرره ~~الفرار أم يجبر على العودة إلى حيث كان؟ فإنه إن كان الرأي الأول ازداد الفرار وسهلت ~~الحرية، وفي ذلك الضرر كل الضرر على أهل الجنوب؛ ولهذا كان لا مناص من الأخذ على مضض بثاني ~~الرأيين، فنص عنه كما يأتي: «إن من يفر من الأشخاص المكلفين بالخدمة أو العمل إلى ولاية ~~أخرى يجبرون على العودة إلى من كانت تلك الخدمة أو ذلك العمل حقا لهم.» # وثمة عقبة ثالثة اعترضت لهم؛ وتلك هي تجارة الرقيق وجلب هؤلاء السود من أفريقيا؛ فقد رأوا ~~أنهم إن قضوا عليها توا أغضبوا الجنوبيين فاستحالت الوحدة؛ ولذلك لم يكن بد من أن يجعلوا ~~لذلك أجلا مقداره عشرون عاما، في نهايته يقضى على هذه التجارة التي كان يكرهها أكثر ~~المستنيرين، ولما انتهى هذا الأجل سنة 1808 ذهبت تلك التجارة إلى غير عودة. # ويدلنا على ما أحس واضعو الدستور في أنفسهم من جرح أنهم لم يسموا السود عبيدا، بل إنهم ~~لم يستعملوا لفظ العبيد قط وأحلوا محله تلك العبارة وهي «الأشخاص المكلفون بالخدمة والعمل»، ~~وقد أرادوا أن يبرأ دستورهم من هذا اللفظ آملين أن ينقرض الاسترقاق، وليس في دستورهم ذكرى ~~لهذه الوصمة، ولشد ما تحرج جفرسون وتأثم، تجد ذلك واضحا في قوله: «إني لترتعد فرائصي من ~~أجل وطني كلما ذكرت ما يتصف الله به من عدل.» # ولم يأت عام 1820 حتى تجدد النزاع بين الشمال والجنوب، وأحس الناس نذر الشر وبوادر ~~العاصفة التي تزلزل الاتحاد وتجعله أثرا بعد عين، وقد هال جفرسون ما يتهدد الاتحاد من خوف، ~~فوصف هذا النزاع بأنه الناقوس المنذر بالحريق يجلجل صوته في ظلام الليل. وكان سبب هذا ~~النزاع رغبة أهل الجنوب في قبول مقاطعة مسوري ولاية في الاتحاد كباقي الولايات، وقد أصبحت ~~بازدياد عدد سكانها أهلا لذلك، ولكنها من أصقاع الاسترقاق وانضمامها ms105 إلى الولايات يزيد ~~ولايات الرق واحدة وهذه بغير انضمامها يساوي عددها عدد الولايات الحرة، ولما كان الدستور ~~يقضي أن يمثل كل ولاية عضوان في مجلس الشيوخ مهما كثر عدد سكانها، فإن الجنوبيين يكسبون ~~عضوين بانضمام مسوري إلى الاتحاد. # ورفض أهل الشمال قبول مسوري ولاية، وعظم الشقاق حتى ظن أنه يستعصي على العلاج، ولكن هنري ~~كليي تمكن من اقتراح سكنت به رياح العاصفة؛ وذلك أن تقبل مسوري ولاية وتقبل مين أيضا، وهي ~~من الجهات الحرة، فتعود الكفتان إلى التعادل، على أن يراعى في المستقبل أنه إذا أراد ضم جهة ~~من الجهات الغربية إلى الاتحاد ابتداء من خط الطول الذي درجته 30، فكل ما يقع منها جنوبي خط ~~العرض الذي درجته 36 فهو من ولايات الرق، وما يقع شمالي ذلك فهو من الولايات الحرة. # وقبلت البلاد هذا الاقتراح وكان ذلك في رياسة منرو، وقضى هذا الحل الذي عرف باسم اتفاق ~~مسوري على نذر التفكك، وهيأ للبلاد عهدا من الوئام والمودة بين الشمال والجنوب. # وظلت البلاد هادئة لا يعكر صفوها موضوع العبيد حتى بدت نذر الشر مرة أخرى على نحو ما حدث ~~عند محاولة ضم مسوري إلى الاتحاد؛ ففي هذه المرة حدث أن رغب أهل الجنوب في ضم تكساس إليهم، ~~وكانت تكساس خاضعة للمكسيك فأغروها بإعلان استقلالها وإعادة اقتناء العبيد، وكان المكسيك قد ~~حرموا ذلك عليها وقضوا على الاسترقاق فيها، وأطاع أهل تكساس ولبثت مستقلة عن المكسيك بضع ~~سنين ثم طلبت حكومتها - وكانت تتألف من مهاجرين من الولايات المتحدة - الانضمام إلى تلك ~~الولايات، وضمتها إليها الولايات المتحدة سنة 1845، وبذلك زاد عدد ولايات العبيد عن عدد ~~الولايات الحرة بواحدة. # واحتجت المكسيك وأعلنت تمسكها بحقها، ثم اشتعلت نار الحرب بينها وبين الولايات المتحدة، ~~وقد ندد هنري كليي وكثير من أعوانه بهذا العمل وعدوه حروجا على مبادئ الشرف، وخافوا من ~~سوء عاقبته على نزاهة الولايات وحسن سمعتها، وكان موقف كليي سنة 1844 وآراؤه التي تقضي ~~بعدم ضم تكساس إلى الولايات المتحدة سببا في فشله في معركة الرياسة وفوز بولك ms106 الديمقراطي ~~عليه، وكان بولك ينادي بوجوب ضم تكساس مهما كانت نتائج هذا العمل. # ولكن أهل الجنوب رحبوا بالحرب حين جرت بها الشائعات، وفرحوا بها حين اشتعلت نارها، وكانوا ~~خليقين أن يفرحوا إذ منوا أنفسهم بالنصر، وكان النصر عندهم سبيلا إلى الاستيلاء على مساحات ~~واسعة من الأرض الخاضعة للمكسيك، فضلا عن تكساس؛ فيتاح لهم بذلك أن يملئوا بمهاجريهم هذه ~~الأرض، فتكون لهم فيها ولايات يزيد بها بأسهم ويتوطد في الاتحاد نفوذهم؛ فإنهم يخشون من ~~تكاثر الناس في الشمال والأرض مبسوطة أمامهم هناك إذا اتجهوا غربا، فما أيسر أن تقوم فيها ~~ولايات شمالية جديدة في سنوات ليست بالكثيرة. # وغضب أهل الشمال من ضم تكساس إلى الاتحاد، ولكن كثيرين منهم يكتمون غيظهم، وقد أرضاهم ~~انتصار الولايات المتحدة على المكسيك وامتداد رفعة أراضيها نتيجة لهذا النصر، كما أنهم ما ~~لبثوا أن رأوا الجنوبيين قد منوا بخيبة فيما علقوا عليه آمالهم من نشأة ولايات جنوبية ~~جديدة؛ فإنه لم يزدد السكان في بقعة من الأملاك الجديدة زيادة تؤهلهم للانضمام إلى الاتحاد، ~~اللهم إلا في كليفورنيا؛ وكان ذلك بسبب العثور فجأة على الذهب فيها وهجرة الناس بسبب ذلك ~~إليها أفواجا، وحتى هذه لم تجدهم شيئا؛ فقد كان نصفها شمالي خط اتفاق مسوري، ونصفها ~~الآخر جنوبيه، وقد رفضت أن تأخذ بنظام العبيد في نصفيها جميعا. # ولن يلبث أن يدب الخلاف بين الشماليين والجنوبيين بسبب كليفورنيا؛ لأن الشماليين كانوا ~~يؤيدون أهل كليفورنيا في رفضهم الرق، بينما كان يطمع الجنوبيون في جعلها ولاية من ولايات ~~الرقيق، وسينهض من عزلته هنري كليي واضع اتفاق مسوري قبل هذا الخلاف الجديد بنحو ثلاثين ~~عاما، ليضع اتفاقا جديدا حرصا على الاتحاد أن يفصم عراه هذا الخلاف. # | كفاح ونجاح # في شهر مايو سنة 1846 سنحت الفرصة بعد تلك الأعوام الأربعة التي قضاها أبراهام ينتظر أن ~~يرشح للكونجرس، ولكنها أوشكت أن تفلت منه هذه المرة كذلك، لولا مهارة زوجه ولباقتها في ~~التأثير على رجال الحزب حتى ظفر آخر الأمر بالترشيح، ولما تم له ذلك راح يخوض المعركة ms107 ~~الانتخابية وأمله في الفوز عظيم. # وعجب الناس أن رأوا لنكولن يومئذ يعمل على كسب التأييد بوسائل منظمة، وهو الذي اعتاد من ~~قبل أن يعمل حسبما تملي عليه المواقف في غير تدبير أو ترتيب. عجب الناس أن رأوه يرسم الخطط ~~ويسدد السهام فلا تخطئ مرماها، وكأنه كان في تلك المعركة الانتخابية قائدا في معركة حربية، ~~يدبر الهجوم ويعد وسائل الدفاع وهو بصير بالموقف عليم بما يدور حوله، يميز باللمحة الخاطفة ~~ما يأخذ مما يدع، ويتبين مهما اشتد من حوله ضجيج الموقف الطريق المؤدية إلى النصر. # كتب إلى أصدقائه في نواحي المقاطعة يطلب إليهم العون ويسألهم أن يدلوه على مؤيديه ليكتب ~~إليهم شاكرا، وعلى مخالفيه ليبتغي إلى إقناعهم الوسيلة، وأخذ يتحدث في الأندية ويخطب في ~~الجماعات لا يدع فرصة ولا يتخلف عن موعد، وله من نباهة الذكر وطيب السمعة ومن محبة الناس ~~لشخصه ما ينزله على الرحب أينما حل، وهل كان الناس يعرفون في خلقه غميزة، أو يجهلون من ~~خلاله ما يحببه إلى قلوبهم؟! # ولكن للسياسة حكمها ولها غرائبها، وكم تأتي رياحها الهوج على ما بين الناس من مودة! وكم ~~تترك ألاعيبها وأضاليلها الناس في عماية وغواية! وكم تصدهم الشهوات في معتركها عن الحق وهم ~~يعلمون! أجل كم يظهر في السياسة الباطل على الحق! وكم يدلس الرأي بالهوى! وكم يضيع ما تواضع ~~الناس عليه من أصول الفضائل فيما تزين لهم من أوهام وأحلام، وما توحي إليهم من غرور العيش ~~ومن مطامع الحياة! # هذا لنكولن راح يطعنه منافسه في عقيدته، وكان واعظا دينيا، فيلجأ إلى الدين يتخذ منه ~~سلاحا فيكيد به لخصمه كيدا أليما، ولا يرعوي عن غيه بوازع من خلق أو بدافع من حياء، ~~كان من رجال الحزب الديمقراطي واسمه كارتريت، وكان متدفق النشاط متوثب الحيوية ذرب اللسان، ~~ونشط يستعدي على أبراهام مواهبه ويسلط عليه لسانه في غير إعياء أو سأم، يتهمه بالزيغ ~~والإلحاد، مشيرا إلى ما أذاعه لنكولن من قبل عما يجب من تسامح نحو شاربي الخمر، عائبا على ~~بعض رجال ms108 الدين أن ينقموا على الناس فجورهم وينكروا عليهم فواحشهم، ولا ينهضوا لنصحهم أو ~~يعملوا على خلاصهم مما هم فيه. # وآلم لنكولن أكبر الألم أن يعمد منافسه إلى هذا السلاح وإن لم يخش على نفسه منه. ذهب مرة ~~إلى حيث انضم إلى جماعة يستمعون إلى منافسه وهو يتلو عليهم حديثا دينيا، وبعد هنيهة قال ~~كارتريت: «ليقف كل من يريد أن يحيا حياة جديدة وأن يسلم إلى الله قلبه وأن يذهب إلى الجنة»، ~~ثم أردف قائلا: «ليقف من لا يريد أن يذهب إلى الجحيم»، ووقف الناس جميعا إلا أبراهام، ~~فاتجه الرجل إليه وقال: «هل لي أن أسألك يا مستر لنكولن إلى أين أنت ذاهب؟» ونهض لنكولن ~~فأجاب قائلا: «إني جئت هنا لكي أستمع في احترام ولم أكن أعلم أن الأخ كارتريت سيعمل على ~~إفرادي على هذا النحو، وإني أومن أنه يجب أن تطرق المسائل الدينية بما هي جديرة به من ~~التوقير، يسألني الأخ كارتريت في غير التواء إلى أين أنا ذاهب، وأنا أجيبه في غير التواء ~~كذلك: إني ذاهب إلى الكونجرس! ...» وجلس لنكولن وضحكات الإعجاب تنبعث من جوانب المكان، وقد ~~كسب عددا من المؤيدين له المحبين لشخصه. # وعلم أبراهام أن خصومه يرمونه، فيما يرمونه به من الأباطيل، بأنه أرستقراطي لا يحفل رجاء ~~العامة ولا يستجيب لهم دعاء، ودليلهم على ذلك زواجه من ماري، فدفع تلك التهمة عن نفسه ~~بإشارته إلى حياته الأولى يوم كان «غريبا لم يلق حظا من التعليم، معدما يعمل في قارب ~~نظير أجر لا يتجاوز بضع دولارات كل شهر». # وفي تلك السنة كانت الحرب بين الولايات المتحدة والمكسيك دائرة الرحى؛ بسبب مشكلة تكساس، ~~وكان بولك الديمقراطي الذي غلب هنري كليي سنة 1844 على الرياسة يشرف على شئون القتال، وقد ~~وعد قومه نصرا عاجلا وخيرا كثيرا. # وقد تأثرت سمعة الهوج كثيرا بما كان من أمر زعميهم ~~كليي تلقاء مسألة تكساس وضمها إلى الاتحاد، وما كان من معارضته في إعلان الحرب على المكسيك ~~وتنديده بمسلك الديمقراطي بولك؛ ولهذا كان يلقى أبراهام عنتا ms109 شديدا من الديمقراطيين؛ إذ ~~يذكرونه بمسلك حزبه وزعيم حزبه ومسلكه هو حين نشط لتأييد هنري كليي قبل ذلك بعامين، وعارض ~~أشد المعارضة في ضم تكساس إلى الاتحاد، بينما يرونه اليوم يحث مواطنيه على التطوع في صفوف ~~المقاتلين، وكانوا يعيرونه بهذا التناقض بين يومه وأمسه، ولو كان غيره في مكانه لأخذته حيرة ~~من أمره، ولكنه أعلن في شجاعة وفصاحة أنه إذا تهدد الخطر البلاد فلا عبرة بأسباب الحرب ولا ~~بما ترمي إليه، وإنما يجب أن يكون هم كل أمريكي أن يجنب بلاده ما يحدق بها من خطر، وأن ~~يعمل على النصر بكل ما في وسعه، ثم إن العقلاء من الناس رأوا أن أبراهام بدعوته الناس إلى ~~الحرب يقيم الدليل على أنه لا يتعصب لرأي له سلف لمجرد أنه اعتنقه يوما ما، وأنه ببصيرته ~~يرى أوجه الرأي جميعا في كل ما يعرض له. # وانتهت المعركة بفوزه فوزا لم يتح مثله لأحد قبله من الهوج في إلينوى، وكان يومئذ في ~~السابعة والثلاثين من عمره، وكان الحزب قد أعطاه مائتي دولار لينفق منها فيما تتطلب المعركة ~~الانتخابية من أوجه الإنفاق، ولكنه بعد الفوز يرد المبلغ ولم ينقص منه إلا ثلاثة أرباع ~~دولار، قائلا إنه لم تكن به حاجة إلى النقود؛ حيث كان ينتقل من جهة إلى جهة على ظهر حصانه، ~~وأنه كان ينزل ضيفا على أصحابه حيث تعد له الاجتماعات. # وفرحت ماري بالنصر فرحا شديدا، وحق لها أن تفرح، وإنها لتحس أنها تخطو خطوة نحو هدفها، ~~وهل كان ذلك الهدف إلا كرسي الرياسة يتربع عليه زوجها؟ وإنها ما تفتأ تستحثه وتشد أزره ~~وتحذره أن ينصرف عن وجهته. # وكان هذا النجاح كفيلا أن يبث في قلب أبراهام من الغبطة والابتهاج بقدر ما بثه فيه طول ~~الانتظار من الضجر والملل، ولكنه كتب إلى صديقه سبيد ينبئه أنه لم يهتز كثيرا للنجاح كما ~~خيل إليه من قبل أنه فاعل إذا ظفر، وتلك حال من حالاته العجيبة، بل هي حال من حالات النفس ~~تدعو إلى العجب! فكثيرا ما ms110 يتمنى المرء ما ليس في يده حتى لتكون سعادته كلها مجتمعة في أن ~~ينال ذلك الذي يتمناه، فإذا اقترب من بغيته أو شبه له أنه مقترب منها راح يطفر من الفرح، ~~ورأى في كل شيء حوله معاني الحبور والغبطة! أما إذا بعد عن ضالته أو خيل إليه أنه مبتعد ~~عنها، ضاقت في وجهه الدنيا، وبات من همه كأنه في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج، حتى إذا ~~قدر له آخر الأمر أن يرسو على الشاطئ وأن ينال مبتغاه، وقف حياله وقفة من لم يجد شيئا، ~~وفتح عينيه على الحقيقة كمن يفيق من حلم ذابت ألوانه وتلاشت أطيافه وتبددت رؤاه، ذلك هو ~~غرور الحياة أو تلك هي أحلامها، ولكن ما قيمة الحياة في جملتها إن هي خلت من هاتيك ~~الأحلام؟! # | عضو في الكونجرس # سافر أبراهام وزوجته سفرا طويلا إلى وشنطون في شهر نوفمبر سنة 1847، وكانت ماري راضية ~~عن زوجها متفاخرة به مطمئنة إلى مستقبله، وفي هذه العاصمة شهدت ماري البيت الأبيض، وأطقلت ~~العنان لخيالها وأمانيها، ورأت زوجة الرئيس بولك تقدم إليها السيدات احترامهن إذ تلقاهن في ~~مثل وقار الملكة المتوجة وعظمتها، وإن لم يعل التاج رأسها. وتطلعت ماري إلى المستقبل وهي ~~تطيل النظر إلى مسز بولك في إعجاب وإجلال. # وفي شهر ديسمبر اتخذ أبراهام مقعدة في الكونجرس عضوا في مجلس النواب عن إلينوى، وهو ~~اليوم غيره حين دخل سبرنجفيلد قبل ذلك بعشرة أعوام على جواده الهزيل؛ هو اليوم مهندم ~~الملابس؛ إذ تعنى زوجه بهذا عناية شديدة، وقد ذهبت عن محياه نظرات السذاجة التي جعلت ذلك ~~الإنجليزي بالأمس يصفه بأنه أشبه بفلاح يشهد البهلوان لأول مرة، وهو اليوم ملم بالسياسة ~~ومسائلها وبمشكلة العبيد وتاريخها، وهو لا يخشى تهيبا ولا وجلا إذا تحدث أو تهيأ للخطابة، ~~وكانت زوجه تراه في مقعده من شرفة الزائرين، وفي وجهها ابتسامة الرضى عنه والزهو بجلوسه حيث ~~يجلس، وإن كانت لتغضب أحيانا حين تسمع من يتساءل عن ذلك الشخص النحيف الطويل، فيكون الجواب ~~أنه محام من الغرب ms111 ، وتسأل نفسها متى يذكرونه باسمه، أو متى يعرف كما يعرف غيره من رجال ~~السياسة فلا يتساءل أحد عنه، وإنها لترى دوجلاس وهو في الكونجرس عضو في مجلس الشيوخ أعلى ~~درجة من بعلها، وتجده معروفا لا يتساءل الناس عنه فتتألم وتعبس، ولكن هاجسا يهمس في نفسها ~~بمستقبل أبراهام فيسري عنها غضبها. # وسرعان ما أنس الناس بأبراهام، فهم إذا جلسوا إليه يشعرون أن روحا قوية تسري إليهم منه، ~~وكذلك تطل عليهم نفسه في فيض من قصصه ونوادره، فكثيرا ما يخرج من صمته مبتدئا في بشر بهذه ~~العبارة «يذكرني ذلك بحكاية ...»، ثم يتلو حكايته أو يحكي نادرته في عذوبة روح وسراوة طبع ~~وجمال أداء، حتى ما يدع أحدا إلا وهو شديد الإعجاب به عظيم الانجذاب إليه، سواء من كان ~~مثله من الأصقاع الغربية أو من كان من أصقاع الشرق. # وكانت مسألة الحرب المكسيكية تشغل الأذهان يومئذ، وقد أرسل الرئيس بولك رسائل إلى ~~الكونجرس يبرر فيها أسباب إعلان هذه الحرب ويبرر طولها، ويعبر عن أمله في أن تنتهي قريبا ~~بالنصر. # ونظر رجال الكونجرس، فإذا بذلك المحامي النحيف الطويل القادم من الغرب يخطو خطوة جريئة ~~تلفت إليه جميع الأعضاء كما تلفت إليه الصحافة، ذلك أنه قدم أسئلة إلى الرئيس عن هذه الحرب، ~~ثم أعلن رأيه في خطبة قوية احتفل لها، وفيها وجه اللوم في صراحة وجرأة إلى رئيس الاتحاد ~~أن خرج بهذه الحرب على الدستور كما فرط بها في أصول الخلق والعدالة. # تساءل أبراهام: هل كانت الحرب حرب عدوان أم حرب دفاع؟ وهل كانت الولايات المتحدة هي ~~البادئة بها أم المكسيك؟ ثم قال: «ليجب الرئيس بوقائع لا بجدل، وليذكر الرئيس أنه يجلس ~~حيث جلس وشنطون، وإذا ذكر ذلك فليجب كما كان يجيب وشنطون، وكما أنه لا يليق بأمة أن تهرب من ~~الحق والله لا يسمح أن يهرب منه، كذلك فليتجنب الرئيس الهرب والمراوغة، فإذا استطاع أن يقيم ~~الدليل على أن الأرض التي سالت عليها الدماء أول ما سالت هي أرضنا، فإني أوافقه على ما يسوق ms112 ~~من مبررات، ولكنه إذا عجز عن ذلك أو أحجم عن البرهان كنت خليقا أن آخذ على اليقين ما يهجس ~~في نفس مما هو أكبر من الظن، فأرى أنه يشعر بخطيئته، وأن الدم الذي سال في تلك الحرب هو كدم ~~هابيل يستصرخ عليه السماء، فقد ورط الدولتين في حرب ووثق من تجنبه الاستجواب بأن حسر ~~الأبصار في سنا العظمة الحربية، قوس الغمام الجذاب الذي يعلو في رذاذ من الدم أو عين ~~الثعبان التي تسحر لتهلك، ثم أثخن في الأرض وسيق مرحلة بعد مرحلة، حتى إذا فاته التوفيق ~~فيما قدر لإخضاع المكسيك من سهولة، وجد نفسه بحيث لا يعلم أين يكون مما هو بسبيله ...» # ولكن الولايات المتحدة كانت ظافرة، فكانت الحرب لذلك أمرا مستساغا في نظر أكثر الناس؛ ~~لأنها سوف تضم إلى الولايات أرضا جديدة، ومن أجل ذلك لم ينل أبراهام بخطابه من الرئيس، ولم ~~يكن هناك ما يجبر الرئيس على أن يرد على تلك الأسئلة، فكان الفشل نصيب هذا الخطاب من ~~الناحية السياسية، ولكن أبراهام قد جعل الأمر في هجومه أمر عدالة وخلق لا أمر سياسة؛ فإنه ~~يندد بالعدوان على المكسيك ويستنكر ذلك الفعل، وبخاصة من دولة تدعو إلى الحرية وتباهى ~~العالم بأنها أرض العدالة، ولئن كان موقفه ضعيفا إذا أردنا السياسة، فإنه كان عظيم القوة ~~بما أظهر للملأ من اهتمام بروح العدالة في أمر طرب له أكثرهم غافلين عما به من جور. # عضو في الكونجرس. # ومما جاء في ذلك الخطاب قوله: «إن من حق أية أمة في أية جهة إذا أحست في نفسها الميل ~~واستشعرت القوة أن تثور في وجه الحكومة القائمة وتعصف بها، ثم تقيم بعد ذلك من الحكومات ما ~~يكون أكثر ملاءمة لها.» وإنا لنراه بذلك يجعل للثورات صفة شرعية، ثم إنه يقرر مبدأ سلطة ~~الأمة ويجعلها أساس كل سلطة. # تلك هي خطبة لنكولن التي افتتح بها عمله في الكونجرس. تراها - وإن لم تصب موضع العطف من ~~نفوس الأعضاء - قد رفعت ذكر ذلك المحامي في قلوب رجال السياسة ms113 في وشنطون، وعلم من لم يكن ~~يعلم منهم مقدار ما أوتي ابن الأحراج من قوة المبادهة ومتانة الحجة وفصاحة اللسان، ومبلغ ما ~~رزق من قوة الجنان ويقظة الوجدان، ورأوا فيه - إلى جانب القصاص الذي لا يبارى - الخطيب ~~الذي يعرف كيف يسحر السامعين، وإن كانوا عن آرائه معرضين. # وكم للتاريخ من مواقف تدعو إلى العجب! فهذا لنكولن اليوم في الكونجرس يقرر حق الشعوب في ~~اختيار ما ترضى من الحكومات ويندد بحرب العدوان، ولسوف يتخذ أهل الجنوب في غد من أقواله حجة ~~عليه، يوم يهمون بالانسلاخ من الاتحاد والرئيس لنكولن يأبى عليهم ما يبتغون، ويعمد إلى ~~الحرب فيصليهم نارها، ويكرههم على البقاء في الاتحاد وهم صاغرون! # ولم يقع خطابه موقعا حسنا في نفوس الهوج من أهل سبرنجفيلد، وإن كانوا يرون فيه ما ~~ألفوه منه من توخي العدالة في كل أمر، كتب إليه صديقه وشريكه هرندن يخبره بذلك، ويعلن إليه ~~أنه كذلك يخالفه فيما فعل. ورد أبراهام على كتابه يوضح وجهة نظره، ويذكر أنه ينكر من الحرب ~~بعدها عن العدالة ومخالفتها روح الدستور، ويؤكد لصاحبه أنه لو كان في مكانه لفعل مثل ~~فعله. # ولقد ساء لنكولن وبلغ من نفسه ما كان من سوء وقع خطابه في سبرنجفيلد على النحو الذي ~~ذكره هرندن، فإنه ما كان يتوقع غير الإعجاب بذلك الخطاب الذي عني به عناية شديدة، وإنه ~~ليجعل للخطابة أهمية كبرى يومئذ ويراها عدة السياسي الطموح، تلمس ذلك في كتاب أرسله إلى ~~هرندن قال فيه: «إنما أمسك قلمي لأقول إن مستر ستيفن المنتمي إلى جورجيا، وهو رجل ضئيل ~~الجرم نحيف شاحب الوجه أنهكه السل له صوت مثل صوت لوجان، قد فرغ لتوه من أحسن خطاب استغرق ~~ساعة سمعته في حياتي، وإن عيني الذابلتين الجافتين لا تزالان مملوءتين بالدمع، ولو أنه ~~كتبه ونشره لرأى الناس نسخا عديدة منه.» # ولم يعف أبراهام من استياء رجال حزبه في سبرنجفيلد أنه وافق على الاعتماد المالي الذي ~~قرره الكونجرس لمتابعة الحرب، وكانت حجة أبراهام في ذلك أنه لا مناص ms114 من اعتماد المال وقد ~~تورطت الولايات المتحدة في الحرب فعلا، أما مشروعية هذه الحرب أو دستوريتها فهذا ما لا ~~يؤمن به وما لا يزال يدافع عن رأيه فيه. جاء في كتاب له إلى هرندن قوله: # إن احتياط الدستور في جعل السلطة في شئون الحرب إلى الكونجرس قد أملته كما أعتقد ~~الأسباب الآتية: اعتاد الملوك أن يجروا دولهم إلى الحرب ويجلبوا إليها الفاقة ~~مدعين في أغلب الأحيان - إن لم يكن دائما - أن خير أممهم هو رائدهم، وقد فطن رجال ~~المؤتمر الذي وضع الدستور إلى أن هذا في استبداد الملوك أكثر أعمالهم طغيانا، وعلى ~~ذلك فقد صمموا أن يجعلوا الدستور بحيث لا يسمح لفرد أن يملك من السلطة ما يفرض به ~~علينا هذا الطغيان، ولكن وجهة نظرك تقضي على هذا كله وتضع رئيسنا في موضع هؤلاء ~~الملوك. # وكتب إليه هرندن بعد أيام كتابا يصور فيه مبلغ ما وصل إليه استياء أصدقائه في سبرنجفيلد ~~من مسلكه بصدد حرب المكسيك، وكان لنكولن قد اشترك في مؤتمر عقد في فيلادلفيا لترشيح رئيس ~~جديد للاتحاد، وفيه أيد أبراهام ترشيح ذكرى تيلور بطل حرب المكسيك، وانصرف كما انصرف معظم ~~الهوج عن تأييد هنري كليي. # وكان إعجاب لنكولن بهنري قد ذهب فجأة حين زار أبراهام مدينة لكسنجتن عام 1846؛ ليستمع إلى ~~خطاب أعلنت الصحف أن هنري سيلقيه هناك، فلما رآه أبراهام وسمعه - وكان قد سافر هذا السفر ~~الطويل ليسمعه - لم يعجبه كخطيب، لا في سمته ولا في صوته، كما أنه رآه متكبرا يتعصب لآرائه ~~ويظن أن الناس دونه في الفهم والسياسة، وقد لمس لنكولن فيه هذه الخصال عن قرب؛ إذ دعاه هنري ~~فنزل ضيفا عليه أياما، كان هنري يتسامى فيها على كل شخص معجب به، كأنما يشعر أن من حقه أن ~~يكون موضع الإعجاب وأن يشمخ بأنفه كما يشاء. # وكان أبراهام عائدا من إحدى جولاته الانتخابية، التي أخذ يدعو فيها لتيلور ضد كاس مرشح ~~الديمقراطيين وهو ممتلئ حماسة وأملا ونشاطا، شأنه في كل دعوة يدعو إليها، فوجد كتاب صاحبه ms115 ~~هرندن فقرأه ورد عليه قائلا: # إن الأمل والثقة عظيمان في الميدان الانتخابي كله، وكنت أتوقع أن تصلح إلينوى ~~موقفها وتنشط في هذا المضمار، ولك أن تحكم كيف كان ممزقا للقلب أن أجيء إلى حجرتي ~~فأجد كتابك المثبط وأقرأه.» على أن اليأس لم يتطرق إلى قلبه الكبير؛ فقد استرسل في ~~كتابه يقول: «والآن فيما يتصل بالشباب ينبغي ألا تنتظروا حتى يدفعكم إلى الأمام من ~~هم أكبر منكم، وهل تظن مثلا أني كنت أحظى بالاعتبار لو أني لبثت حتى تصيدني ودفعني ~~إلى الأمام الشيوخ، اجتمعوا أيها الشباب وألفوا ناديا حيثما اتفق ورتبوا ~~اجتماعات لكم وخطبا، اقبلوا في صفوفكم كل من تستطيعون قبوله، اجمعوا الفتيان ~~المتوثبين ذوي الجرأة أينما سرتم سواء من بلغ سن الرشيد منهم ومن كان دونها قليلا، ~~واجعلوا كلا منهم يلعب الدور الذي يحسن لعبه أكثر من سواه؛ فبعضهم يخطب وبعضهم ~~يغني وكلهم يهتفون، واجعلوا اجتماعاتكم في الأماسي، فسيذهب الكبار من الرجال ~~والنساء ليستمعوا إلى ما تقولون، وبذلك لا تكون الفائدة من هذه الاجتماعات مجرد ~~الدعوة لانتخاب «زاك العجوز» فحسب، بل إنها تكون مع ذلك قضاء ممتعا للوقت وسبيلا ~~إلى إصلاح مواهب من يشهدونها. # ولكن هرندن كان متشائما يحس ضعف حزب الهوج ويتوقع قرب فنائه، وقد نشرت بعض الصحف ~~المحلية آراءه هذه فقص منها قصاصات، وأرسلها إلى لنكولن فجاءه منه هذا الكتاب الذي تجد ~~فيه أمثلة واضحة لأخلاق لنكولن وسجاياه قال: # وصلني كتابك المصحوب بقصاصات الصحف ليلة أمس، وإن موضوع هذا الكتاب ليؤلمني أشد ~~الألم، ولا يسعني إلا أن أفكر أن هناك خطأ فيما تذهب إليه من الدوافع التي تحرك ~~الشيوخ، وإني أزعم أني الآن أحد الشيوخ، وإني أعلن معتمدا على صدقي الذي أثق من ~~حسن رأيك فيه، أنه ما من شيء يرضيني أكثر من أن أعلم أنك ومن معك من أصدقائي الشباب ~~تأخذون قسطكم في الصراع القائم، وتعملون ما يحببكم إلى الناس، ويرفعكم إلى منزلة ~~أسمى مما استطعت أن أناله من إعجابكم، ولن أستطيع أن أتصور أن غيري يرى ms116 ما لا أرى، ~~وإن لم أكن قادرا على أن أبرهن على هذا الزعم الأخير، بيد أني كنت حدثا مرة وإني ~~لواثق من أنه لم يلق بي أحد إلى الوراء إلقاء غير كريم. إن سبيل الشاب إلى الرفعة ~~هو أن يصلح حاله بكل ما استطاع من وسيلة دون أن يظن الظنون بأحد أنه يريد أن يعوق ~~سبيله. ودعني أؤكد لك أن سوء الظن والحقد لم يعينا امرءا قط على أمره في أي موقف ~~من المواقف. أجل، ربما وجدت محاولات غير كريمة لتحول بين شاب وبين طموحه ولتبقيه ~~حيث هو، وإن هذه المحاولات لتنتج إذا سمح لعقله أن يتنكب مجراه الحقيقي ليأسى ~~مفكرا فيما يراد به من ضرر. انظر، ألم يؤذ مثل هذا الشعور كل شخص وقع فيه ممن ~~عرفت؟ وبعد، فأنا على يقين من أنك لن تظن شيئا في هذا الذي ذكرت إلا الصداقة ~~الأكيدة ... إني أريد أن أنقذك من خطأ قاتل، لقد نشأت شابا عاملا دائبا، وإنك ~~تعلم عن معظم المسائل أكثر مما كنت أعلم وأنا في سنك، ولا يمكن أن تفشل في أمر ~~تضطلع به إلا إذا وجهت عقلك وجهة غير صحيحة، وإني أفضلك بعض الفضل في تجارب ~~الحياة؛ لأني أكبر منك فحسب، وإن هذا هو الذي يميل بي إلى أن أنصح ~~لك. # ولعل في هذا الكتاب ما يثير شبهة حول علاقة هرندن بصاحبه، الذي عرفنا قبلا أنه كان من ~~أكبر المتحمسين له المعجبين به، ولعل هرندن قد ذكر شيئا في كتابه عن الشيوخ والشباب ~~واختلاف نزعاتهم وميولهم ورغبة الشيوخ في السيطرة والاستبداد بالأمور، ولكن الأمر فيما يظهر ~~لم يعد أنه خلاف في الرأي، وعجيب أن يزعم لنكولن أنه شيخ وهو لم يتجاوز التاسعة والثلاثين ~~إلا قليلا. # ولم يقتصر الأمر على الخلاف بين أبراهام وصاحبه في شئون السياسة، ولا بينه وبين أصدقائه ~~من الهوج بسبب حملته على الرئيس في حرب رحب بها الشعب كله؛ بل لقد شاع عنه أنه يضن ~~بوساطته وشفاعته على ناخبيه، والواقع أنه لم يكن يقبل ms117 أن يتوسط أو يتشفع إلا بالحق، وقد فشا ~~في الناس ما أشيع عنه بسبب حادثة، تتلخص في أنه رفض أن يكتب خطابا طلب منه أحد ناخبيه أن ~~يزكيه به، فأطلق الرجل لسانه فيه بما لا يليق، فكتب إليه لنكولن يقول: # لقد شعرت بأعظم العطف عليك منذ أن تعارفنا، وافترضت أنك تبادلني عطفا بعطف، وفي ~~الصيف الماضي تحت تأثير ظروف ذكرتها لك تألمت إذ لم أستطع أن أجيبك إلى تزكية ~~أردتها، وعلمت بعد ذلك بقليل، علما يحملني على التصديق، أنك أسرفت في الجهر بالطعن ~~علي، ولقد جرح شعوري بالضرورة بسبب ذلك، وعندما تسلمت كتابك الأخير خطر لي هذا ~~السؤال: أتراك تطلب عوني في الوقت الذي تؤذيني فيه، أم أنه قد أسيء تصوير ما حدث ~~منك؟! فإن كانت الأولى فما كان لي أن أرد عليك، وإن كانت الثانية وجب علي ذلك، ~~ولهذا بقيت زمنا معلقا بين الوضعين، وإني الآن أرسل طي هذا الكتاب الذي يمكنك أن ~~تستخدمه إذا رأيته مناسبا. # وكان هرندن يتألم مما يشاع عن صاحبه في سبرنجفيلد، ويدافع عنه ما وسعه الدفاع، وإن كان ~~يتمنى لو لم يلق أبراهام ذلك الخطاب، الذي يحار كيف يدافع معه عن صاحبه وإنه ليخالفه مع ~~المخالفين فيما ذهب إليه. # على أن لنكولن لم يكن بالرجل الذي يتقيد بأهواء غيره فيما يأخذ أو يدع، وإنما كان رائده ~~الحق والعدل، لا يهمه أغضب الناس أم أرضاهم. ولقد كان له في هذا الدور الأول لانعقاد ~~الكونجرس خطبتان غير تلك الخطبة، أعلن فيهما لنكولن آراءه مجردة من كل اعتبار إلا العدالة ~~كما يفهمها ويؤمن بها؛ تكلم في الخطبة الأولى بمجلس النواب عما يتصل بتركيز السلطة، وما نجم ~~عنه من عدم المساواة بين الحكومة المركزية وحكومات الولايات في بعض المسائل، فضرب لهم المثل ~~بالأسطول فقال: «إن الأسطول مثلا هو أعم هذه الأشياء فائدة، ومع ذلك فإن له مزية خاصة لكل ~~من شارلستون وبالتيمور وفيلادلفيا ونيويورك وبوستن أكثر مما له بالنسبة إلى داخلية إلينوى، ~~وعلى ذلك فثمة فوائد محلية في ms118 مسائل عامة، وعكس ذلك صحيح أيضا؛ فلن يكون شيء في محليته ~~بحيث لا ينطوي على بعض الفائدة العامة، والذي يستخرج من هذا كله أنه إذا رفضت الأمة أن تنهض ~~بإصلاحات تتوفر فيها الناحية العامة لأنها تنطوي على بعض الفائدة المحلية، فكذلك تستطيع ~~الولاية للسبب نفسه أن ترفض بعض الإصلاحات المحلية لأنها ربما تؤدي إلى فائدة عامة. تستطيع ~~الولاية أن تقول للأمة: إذا لم تعملي شيئا من أجلي فلن أعمل من أجلك شيئا، وهكذا يتضح أنه ~~إذا كان هذا الجدل الدائر حول عدم المساواة كافيا لوجهة نظر في جانب، فإنه كذلك كاف في كل ~~جانب وفيه القضاء على الإصلاحات نهائيا، ولكن لنفرض مع كل هذا أن هناك قدرا من عدم ~~المساواة، حقا إن عدم المساواة لا يمكن أن يقبل في ذاته، ولكن هل يرفض كل أمر صالح لأنه ~~يتصل صلة لا انفصام لها به؟ إذا كان ذلك فيجب أن نلغي الحكومة كلها، إن هذا البناء - أعني ~~مقر الحكم - قد أقيم بنفقة عامة من أجل الصالح العام، ولكن هل يشك أحد أن هناك فائدة محلية ~~تعود من وجوده على أصحاب الأملاك ورجال الأعمال من ساكني وشنطون؟ فهل نزيله من أجل هذا ~~السبب؟ # إني لا أريد التعريض بالرئيس الحالي إذا قلت إنها حالات قليلة تلك التي يتمثل فيها الغنم ~~للقلة والغرم للكثرة - أعني عدم المساواة - بشكل أشد مما يتمثل في منصب الرياسة كما يراه ~~البعض. إن عاملا أمينا يحفر في مناجم الفحم نظير سبعين سنتيا في اليوم، بينما يحفر ~~الرئيس العقليات نظير سبعين دولارا، وواضح أن الفحم أكبر قيمة مما تساويه العقليات، ومع ~~ذلك فما أشنع ما نرى بين الثمنين من عدم المساواة! فهل يقترح الرئيس لهذا السبب إلغاء ~~الرياسة؟! إنه لن يفعل ذلك وينبغي ألا يفعله، إن القاعدة الصحيحة للبت في قبول أمر أو رفضه ~~ليست أن نتساءل هل ثمت شر في هذا الأمر، ولكن هي أن نتساءل هل فيه من الشر أكثر مما فيه من ~~خير؛ فالأشياء التي هي خير كلها ms119 أو شر كلها قليلة، ويكاد كل شيء - وبخاصة سياسة الحكومة - ~~يكون مزيجا لا ينفصل من الخير والشر؛ وعلى ذلك فإن المفاضلة بينهما - وهي أحسن ما نتبع ~~للحكم على الأشياء - أمر مطلوب أبدا.» # هذا هو منطق لنكولن القائم على الفهم والإنصاف، تراه لا يتمسك برأي لمجرد المغالبة ~~واللجاج، وترى روح العدالة تسيطر على ما يعرض من الآراء لا يستطيع أن يلتوي أو يداجي أو ~~يتعامى عن الحق، وله مع ذلك حصافة وقوة حجة وقريحة طيعة تواتيه بالأمثلة وتعينه خير عون على ~~المقارنة والقياس والحكم، فما يسع سامعه إلا الاقتناع. # وتجلت في الخطبة الثانية مقدرته العظيمة على التهكم وزلزلة مجادلية بالفكاهة القوية في ~~غير تبذل أو ترخص أو مجانة في القول، وتعد هذه الخطبة من أبلغ وأقوى ما نطق به لنكولن، لا ~~في الكونجرس فحسب، بل في حياته السياسية كلها، وبها برهن أنه قادر أن ينال من خصمه بسلاح ~~السخرية بقدر ما ينال منه بالمنطق القويم والتحليل السليم والسياق البارع. # عاب أحد الديمقراطيين من أنصار كاس مرشح الحزب الديمقراطي على الهوج تناقضهم؛ إذ ينكر ~~بعضهم حرب المكسيك ثم يؤيدون ترشيح تيلور بطل هذه الحرب للرياسة، وقال هذا الديمقراطي ~~متهكما: إنكم أيها الهوج تتخذون مأواكم تحت ذيل حلة حربية. فقال لنكولن: «يقول هذا السيد ~~إننا تركنا مبادئنا جميعا، واتخذنا مأوانا تحت ذيل حلة الجنرال تيلور الحربية، وإن هذا ~~مشين لنا! وإذا كانت هذه هي عقيدته فله أن يعتقد ما شاء، ولكن ألا يتذكر ذيل حلة حربية غير ~~هذا اتخذ تحته مأواه حزب معين آخر زهاء ربع قرن؟ أليست له معرفة بذلك الذيل القوي؛ ذيل حلة ~~الجنرال جاكسون؟ ألا يعرف أن حزبه قد خاض عمار الانتخابات الخمسة الأخيرة للرياسة تحت ذلك ~~الذيل، وأنهم الآن يخوضون المعركة السادسة تحت الغطاء نفسه؟ أجل يا سيدي إن ذلك الذيل قد ~~استخدم لا في انتخاب الجنرال جاكسون نفسه فحسب، بل إنه منذ ذلك الوقت لا يزال كل مرشح ~~ديمقراطي يستمسك به استمساك الاستماتة، إنكم لم تجرءوا ولن تجرءوا ms120 أن تبرزوا من تحته، وإن ~~أوراقكم التي تنشرون في المعركة ظلت دائما ملأى بالإشارات إلى هكري العجوز، # 1 # وبالرسوم الشوهاء التي تمثل الجنرال الشيخ، كما أنها كانت مفعمة بشارات لا ~~نهاية لها، متخذة من جذوع الهكري وأغصانها، ولقد أطلقتم على مستر بولك نفسه شجرة «الهكري ~~الفتية» أو «الهكري الصغيرة»، وها هي ذي الآن أوراقكم الانتخابية تزعم أن كاس وبتلر من ~~فصيلة الهكري ... لا يا سيدي، إنكم لا تجرءون على التحرر من هذا ... ولقد لبثتم متعلقين بذيل ~~ذلك الأسد في منعزله حتى نهاية حياته، وها أنتم أولاء ما زلتم تتمسكون به، وتستمدون منه ~~عونا بطريقة بغيضة بعد موته. زعموا أن رجلا أعلن ذات مرة أنه أحدث كشفا به يستطيع أن ~~يصنع رجلا جديدا من رجل قديم، وأنه قد بقي لديه فضل من مادة الرجل يكفي لصنع كلب أصفر ~~صغير، وهكذا كانت شهرة الجنرال جاكسون لكم كذلك الكشف المزعوم؛ فإنكم لم تكتفوا بصنع رئيسين ~~منه اعتمادا على شهرته، بل إنه لا يزال لكم فضل منه يكفي لأن تصنعوا منه رؤساء أصغر قدرا ~~إذا قيسوا بمن مضوا، وما زال أهم ما تعتمدون عليه الآن هو أن تصنعوا رئيسا جديدا ~~...! # والآن أيها السيد رئيس المجلس، إن الخيل العتاق وذيول الحلل الحربية أو الذيول من أي نوع ~~ليست من صور البيان التي أرتضي أن أكون أول من يدخلها فيما يجرى هنا من مناقشات، ولكن بما ~~أن ذلك السيد المنتمي إلى جورجيا قد وجدها لائقة لأن يدخلها، فمرحبا به وبك في كل ما ~~استطعتم أو ما تستطيعون أن تفعلوا بها، وإن كان لديكم مزيد من الخيل العتاق فأطلقوها، أو ~~كان لديكم مزيد من الذيول فارفعوها وأقبلوا علينا. إني أكرر أني ما كنت أحب أن أدخل هنا هذا ~~النوع من الكلام، ولكني أرغب أن يفهم السادة من الجانب الآخر أن استعمال الصور البيانية ~~المشينة لعب قد يجدون أنفسهم فيه بحيث لا يصيبون كل مغنم [صوت ... كلا نحن نتخلى عنه] أجل ~~إنكم تتخلون عنه وحسن ما تفعلون. وبهذه المناسبة ms121 هل علمت أيها الرئيس أني بطل من أبطال ~~الحرب؟ أجل يا سيدي، في أيام حرب الصقر الأسود، قد حاربت وجرحت، وإن الحديث عن صنيع الجنرال ~~كاس ليذكرني بصنيعي، إني لم أشهد هزيمة ستل مان، ولكني كنت على مقربة منها بقدر ما كان كاس ~~على مقربة من استسلام هل، ولقد شاهدت المكان بعدها كما فعل هو، وإني على وجه اليقين لم ~~أكسر سيفي؛ لأنه لم يكن لدي سيف حتى أكسره، ولكني حرفت بندقيتي عن وجهها بصورة رديئة ذات ~~مرة، وإذا كان كاس قد كسر سيفه، فالمفهوم أنه فعل ذلك يأسا، أما أنا فقد حرفت بندقيتي بغير ~~قصد، وإذا كان الجنرال كاس قد سبقني في التقاط البرقوق البري فأظن أني ظهرت عليه في هجومي ~~على بري البصل، ولئن كان قد رأى هنودا مقاتلين فقد فعل ذلك أكثر مما فعلت، على أنني من ~~ناحيتي قد منيت بمثل ما مني به من نضال دموي، ولكن مع البعوض! ولو أنني لم أدخ قط بسبب ما ~~فقدت من دم، إلا أنني كنت أحس جوعا شديدا أكثر الوقت ... # أيها السيد الرئيس، إذا استطعت أن يكون شأني مع الديمقراطيين بحيث لا يجدون لديهم ما يمنع ~~من ترشيحي لرياسة الولايات، فإني أقرر أنهم لن يسخروا مني كما يسخرون من الجنرال كاس بأن ~~يجعلوا مني بطلا من أبطال الحرب ... # إني أذهب مذهب أحد الأصدقاء، أيها السيد الرئيس، فأرى في الجنرال كاس قائدا موفقا في ~~هجماته، فإن له هجمات حقا لا على أعداء البلاد ولكن على خزانة البلاد! لقد كان حاكما ~~لمتشيجان من اليوم التاسع من أكتوبر سنة 1813 إلى اليوم الحادي والثلاثين من يوليو سنة ~~1831، وهي مدة سبع عشرة سنة وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوما، ولقد استولى أثناء ذلك من ~~خزانة الاتحاد على ثمانية وعشرين وتسعة وستين ألف دولار لخدماته الشخصية ونفقاته الشخصية، ~~فيكون لليوم الواحد أربعة عشر دولارا وتسعة وسبعون سنتيا طيلة هذه المدة، ولقد وصل إلى ~~هذا المبلغ من المال بادعائه أنه كان يؤدي عملا في عدة أماكن مختلفة ms122 ، يظهر في كل منها عدة ~~مواهب مختلفة، كل ذلك في وقت واحد! # إني لم أشر إلى حساب الجنرال كاس إلا لأبين لكم مقدرته الجسيمة العجيبة؛ فإنه لا يؤدي عمل ~~عدة رجال في وقت واحد فحسب، بل يؤديه في عدة أماكن بينها مئات من الأميال، ويفعل ذلك في نفس ~~الوقت! ... # أيها السيد الرئيس، لقد سمعنا جميعا نبأ ذلك الحيوان الذي ظل حائرا بين حزمتين من العلف ~~وهو يموت جوعا، ولكن شيئا من ذلك لن يحدث للجنرال كاس، فاجعل بين الحزمتين ألف ميل فستجد ~~لديه ما يأكله في سبيله إليهما، ثم إنه يأكلهما غير مبطئ، ولقد يصيب في الطريق بعض الحشائش ~~الخضراء فوق ذلك، ألا فلتجعلوه رئيسا بكل ما في وسعكم، فإنه سوف يوفر لكم طعامكم إذا ... إذا ~~بقي شيء بعد أن يأكل!» # ولقد علت ضحكات أعضاء المجلس، واتجه أبراهام إلى مقعده بعد أن أتم خطابه والأنظار جميعا ~~تتجه إليه، وما في الرجال من استطاع أن يملك نفسه من فرط الضحك، الخصوم والأنصار في ذلك ~~سواء. # ولما انتهى دور الانعقاد هذا، طوف لنكولن في بعض الجهات الشرقية: مثل نيويورك ونيو ~~إنجلند، والغربية: مثل مقاطعة إلينوى؛ يستأنف الدعوة في حماية لمرشح الهوج تيلور. وكان ~~الديمقراطيون كما ذكرنا يحاولون أن ينسبوا إلى مرشحهم كاس من البطولة الحربية مثلما ينسب ~~الهوج إلى تيلور، والحق أن الحزبين كانا يتمسحان في المجد الحربي منذ أن رأوا أثره في ~~شهرة الرئيس جاكسون من قبل. # ولكن ثمة حزب ثالث؛ وهو شعبة من الديمقراطيين جعلوا مقاومة انتشار الرق همهم الأول، وسموا ~~أنفسهم حزب «الأرض الحرة»، ومن مبادئهم ألا يسمح بالرق في أرض غير التي وجد فيها الرقيق من ~~قبل، وأن يسمح لكل فرد أن يعبر تعبيرا حرا عن آرائه بصدد الرقيق، وكان بينهم أناس ذوو ~~خطر ومكانة وكانوا يرشحون فان بيرن للرياسة. # وكان على أبراهام أن يدعو لتيلور ضد الفريقين المتنافسين، وكان يستشعر الحرج تلقاء أنصار ~~فان بيرن؛ لأن دعوتهم ضد الرق كانت مما يتصل بنفسه بأقوى الأسباب. # وأخذ لنكولن ms123 يجوب البلاد؛ فكان إذا قام في جماعة لم يروه من قبل جذب إليه الأنظار بطول ~~قامته وغرابة ملامحه، فإذا أطلق العنان لكلامه سرت في الجموع منه روح عجيبة لا يدرون كنهها ~~وإن أدركوا فعلها، ورأوا عينيه تلتمعان حتى ما يعرف الناس أنهم رأوا مثلهما قط، وأبصروا في ~~ملامحه معاني أبلغ من كل كلام وأعمق أثرا من كل حجة، والخطيب ينتقل بهم من مثل إلى مثل، ~~ومن قصة إلى قصة، ثم إذا به يرسل النكتة البارعة بين حين وحين فإذا هم يضحكون ملء نفوسهم، ~~وهو في حماسته يشمر ردني حلته ويفعل مثل ذلك بقميصه، ولقد يحل رباط عنقه أو ينتزعه من ~~موضعه كأنه مقبل على مبارزة، ولا يكاد يفرغ من خطابه حتى يهرع الناس إليه متدافعين بالمناكب ~~لكي يزدادوا نظرا إليه من كثب. # ولقد كان انقسام الديمقراطيين على أنفسهم من عوامل نجاح الهوج؛ فإن ما ناله فان بيرن من ~~الأصوات كان كفيلا أن يضمن النجاح للمرشح الديمقراطي كاس لو أضيف إلى ما حصل عليه، ولقد ~~فرح الهوج بانتصارهم فرحا عظيما، وفرح لنكولن وارتاح إلى أن جهوده لم تذهب عبثا كما ~~ذهبت من قبل في الدعوة لهنري كليي. # ولكن فرحه بالنجاح لم يصرفه عن هاجس يشبه الندم في قرارة نفسه؛ فإنه يذكر أنه وجه جهوده ~~لنصرة الهوج كما ينبغي أن يفعل كل رجل يهتم بنجاح حزبه وأغضى مؤقتا عن الكلام في مسألة ~~الرق، بل إنه نشط في صرف فريق من متحمسي الهوج ضد الرق عن مشايعة أنصار الحزب الجديد في ~~انتخاب فان بيرن، ذاكرا لهم أن الهوج يكرهون الرق كما يكره هؤلاء، ولكن المسألة في ذلك ~~الوقت مسألة المعركة الانتخابية أولا. على أنه يذكر كذلك أنه حين استمع إلى تلك الخطبة ~~القوية التي ألقاها أحد كبار الداعين إلى التحرير في بوستن ضد الرقيق، وهو سيوارد، لم يخف ~~رأيه بل قال للخطيب: «أعلن أنك محق، لقد آن أن نطرق معضلة الرق، وأن نلقي إليها من اهتمامنا ~~بأكثر مما كنا نفعل من قبل.» # وفي ms124 أثناء عودته إلى وشنطون ليحضر الانعقاد الثاني للكونجرس، أيد بكل قوته دعوة أخرى ~~شهيرة قام بها داعية آخر من أشد دعاة التحرير؛ هو ولمت الذي أخذ ينادي بوجوب منع انتشار ~~الرق في الأراضي التي تستخلص من المكسيك. # وأيد لنكولن دعوة ثالثة جاءت على يد رجل من ديمقراطيي الشمال في المجلس النيابي؛ إذ تقدم ~~بطلب منع الرق في كليفورنيا ومكسيكو الجديدة، وهي أرض انتزعت من المكسيك، وقد تحمس لنكولن ~~لرأي هذا الداعية الديمقراطي كما تحمس له الهوج الشماليون. # وفكر أبراهام فبدا له أنه ينبغي أن يخطو في هذا الانعقاد الثاني للكونجرس خطوة ضد الرق ~~يكون بها داعية لا تابعا لمن يدعون، وما حمله عليها رغبته في أن يكون داعية، وإنما حمله ~~كرهه للرق؛ ذلك الكره المستعر في أعماق نفسه منذ حداثته. # وأثار ذلك البغض في نفسه ما رآه من اشتداد الدعوة في البلاد لمحاربة هذا المنكر، ثم إن ~~منظرا أليما كريها كان يتراءى لأبراهام كلما اتخذ سبيله إلى مقر الكونجرس؛ ذلك منظر ~~حظيرة للزنوج كانت تقع على مقربة من ملتقى رجالات الشعب وصرح حريته، وكان يحشر الزنوج في ~~تلك الحظيرة ريثما يرسلون إلى الأسواق في الجنوب، وأي منظر أدعى إلى اشمئزاز النفوس الكريمة ~~من تقابل هذين الضدين! ولئن كانت مرارة الحزن قد بلغت من نفسه، فإنه آثر الاعتدال والركون ~~إلى الحكمة، وأعد لائحة يرمي بها إلى القضاء على الرق في ذلك الحي؛ حي كولمبيا، فينبغي ألا ~~يكون هناك رق، وإنما يسمح مؤقتا لرجال الحكومة أن يدخلوا الرقيق فيه ليكونوا لهم خدما، ~~وعلى الحكومة أن تدفع تعويضا لملاك العبيد الذين تطلق اللائحة عبيدهم، وعليها كذلك أن تعلم ~~من يولد من السود منذ اليوم الأول من عام 1850 على أن يكونوا أحرارا، وبذلك ينقرض الرق على ~~مر الأيام، واحتاطت اللائحة لمن يأوي من الرقيق إلى حي كولومبيا فقضت بردهم إلى حيث ~~كانوا. # وكيف قنع لنكولن بالقضاء على الرق في هذا الحي فحسب متوخيا في ذلك الحذر كله؟ إن مرد ذلك ~~فيما أرى إلى نظرته ms125 العملية إلى الأشياء ورغبته ألا يجعل لأحد حجة عليه، ثم لعله كان يريد ~~أن يجعل من نجاحه، إذا نجح، حجة يحتج بها إذا نشط الرأي العام في محاربة الرق ورغب في ~~القضاء عليه. # ولكنه على الرغم من اعتداله وحذره لم يقدر له النجاح، فإن أنصار الرق في الكونجرس قد ~~ماطلوا في عرض لائحته حتى أوشك دور الانعقاد على الانتهاء، فكان لهم من ضيق الوقت عذر ~~اعتذروا به. ومن يدري، فلعل صاحب اللائحة لا يعود إلى الكونجرس مرة أخرى، وهكذا قدر الفشل ~~لهذه المحاولة. على أن أبراهام سوف يعود إلى وشنطون بعد اثنى عشر عاما، لا عضوا في ~~الكونجرس، ولكن رئيسا للولايات المتحدة، ويومئذ يتجه في معضلة الرق الوجهة التي تمليها ~~عليه خبرته وحصافته ومصلحة قومه. # وأخذ أبراهام أهبته للعودة إلى سبرنجفيلد، وما كان يحس شيئا من ذلك الذي يحسه من يغادر ~~بلدا طاب له فيها المقام؛ وذلك لأن قلبه لم يتعلق بوشنطون تعلق حب أو استمتاع، فمع أنها ~~موطن العظمة ومنتجع الشهرة والجاه، فإنها لم تستهو فؤاده؛ فهي كذلك ميدان الأرستقراطية تعج ~~الحياة فيها بالغرور واللؤم والأنانية والجشع، وهو لا يزال في أعماق نفسه ابن الغابة، أعظم ~~ما يرتاح إليه أن يطلق نفسه على سجيتها، فلا يتصنع ولا يتكلف، ولا يحب أن يلتزم في أمر من ~~أموره بقيد من قيود المدنية وأوضاعها وتقاليدها، وكم عجب الناس في وشنطون من بساطته في كل ~~شيء، ومن قصصه التي كان يسردها عن حياته في الأصقاع البرية وعن نشأته الأولى وفاقته ودينه ~~الأهلي! ولا يزال بعض زملائه في الكونجرس يذكر مرآه ذات يوم وقد سار في الطريق يحمل على ~~كتفيه كتبا ضخمة ربطها في منديل أحمر كبير، وقد استعارها من مكتبة المحكمة العليا، فبدا ~~كأنه بائع متجول، أو كأنه لا يزال ذلك العامل في البريد، ولولا أنهم يعرفونه لما صدقوا أنه ~~عضو في الكونجرس! # وكما أنه لم يأس على مفارقته وشنطون، فإنه كذلك لم يندم على مقامه فيها مدة عامين؛ فإنه ~~قد أفاد خبرة ms126 وعلما، وعرف كثيرا من ذوي الشخصيات الهامة، واستمع إلى كثير من الخطب ينطق ~~بها أولو العلم والثقافة، وخبر المناورات الحزبية والمجادلات السياسية في مجال أوسع من ~~مجال المقاطعات، ونفذت عينه اليقظة إلى كثير من محاسن الحياة ومساوئها، واختزنت ذاكرته ~~العجيبة الشيء الكثير من الأمثلة والشواهد والمقارنات. # واتخذ لنكولن سبيله إلى سبرنجفيلد، فمر بشلالات نياجرا وشاهد هذا المسقط المائي الهائل، ~~فأثار منظره شاعريته، يدل على ذلك قوله: «كم ذا تبعث نياجرا الماضي السحيق! إنه عندما كان ~~كولمبس يبحث عن هذه القارة، بل عندما كان المسيح يعاني آلام الصلب، وقبل ذلك عندما كان موسى ~~يقود بني إسرائيل على متن البحر، لا، بل عندما كان آدم لا يزال خارجا من يد بارئه؛ كانت ~~نياجرا تهدر كما تهدر الآن.» # ولقد أشار صديقه هرندن إلى أثر هذا المنظر في نفس لنكولن فقال: «لقد حدث بعد ذلك أن زرت ~~نيويورك وعدت كذلك عن طريق نياجرا، وأخذت بعد عودتي بأيام أقص في المكتب على زميلي ما أردت ~~أن أمتعه به من وصف لرحلتي، وتحدثت فيما تحدثت عن شلالات نياجرا، واسترسلت أثناء وصفي في ~~حميا التصوير، ولما تملكتني حماسة الحديث سايرت ملكة الوصف عندي هذه الحماسة، ووجدت مادة ~~غزيرة لصورة أخاذة في الاندفاع الجنوبي للماء الدفوق وفي هديره وفيضه وانسيابه، وفي قوس ~~الغمام وقتذاك، وأثار تذكري هذا المنظر الهائل المروع قواي الخصبة لتمد أقصى مدها في الوصف ~~والتصوير، ولما كدت أحس الجهد مما حاولت التفت إلى لنكولن أسأله رأيه فقلت: أي شيء ~~أثر في نفسك أعمق الأثر ساعة وقوفك لدى تلك العجيبة العظيمة من عجائب الطبيعة؟ ولن أنسى ~~جوابه ما حييت؛ لأنه يرينا بصورة هي من خواصه كيف كان ينظر إلى كل شيء، قال: إن الشيء الذي ~~راعني أكثر من كل شيء غيره، هو هذا العباب الزاخر كيف تجمع ومن أين جاء؟! لم يمد أبراهام ~~عينيه إلى جمال المنظر وعظمته، ولا إلى تدافع الماء واصطخابه وهديره، ولكن عقله اتجه ~~الاتجاه الذي تعوده فلم يحفل جمالا أو رهبة، وانساق ms127 انسياقا لا يقاوم يتقصى العلل ~~باحثا عن العلة الأولى، وهذا هو سبيله في كل أمر ... ولئن كان مرد قوته إلى سر ما، فهذا هو ~~السر.» # | طالب وظيفة! # كان أبراهام لا يأمل أن يظفر بترشيحه ثانية للكونجرس؛ بسبب ما جره عليه موقفه من حرب ~~المكسيك من استياء كثير من رجال حزبه، ومنهم هرندن نفسه أحب أصحابه إليه؛ لذلك لم يكن ~~أمامه إلا المحاماة، وهي عمله الطبيعي بعد أن نفض من السياسة يديه، ولكن بعض رجال حزبه ~~كانوا قبيل انقضاض الكونجرس قد زينوا له أن يطلب منصبا رسميا أشاروا إلى حقه في طلبه، ~~وقد أبلى في سبيل نجاح الرئيس ما أبلى. # ومن عجيب الأمور أن يتجه أبراهام هذا المتجه فيكون طالب وظيفة! فهل بات الرجل الكادح ~~الطموح يطلب الرزق من أيسر سبله؟ أم هل بات يطمع في الجاه الرسمي الذي ينال بالمنصب ~~الحكومي؟ ولكن ما له ولهذا وهو لا يتصل أقل صلة بطبعه؟! أترى هو العسر يحمله على السعي إلى ~~ما يكره؟ لعل ذلك هو أقرب الفروض إلى المعقول. # وكان المنصب الذي يطمع فيه هو منصب رئيس ديوان الأراضي العامة بوشنطون، وقد أزمعت الحكومة ~~أن تعين فيه رجلا من حزب الهوج، ومن إلينوى على الأرجح، وكان لأبراهام - بما اكتسب من ~~خبرة في مسح الأرض ومن خبرة في ممارسة القانون - ما يجعله يرى نفسه أهلا لهذا المنصب، فكتب ~~إلى الرئيس تيلور يطلب منه أن يعينه فيه. # ولكن بعض ذوي المكانة من الهوج تطلعوا مثله إلى ذلك المنصب ونافسوه فيه، ومن هؤلاء ~~رجلان؛ يدعى أحدهما إدوارد، والثاني موريسون، كانا أقوى المتطلعين وأشد المنافسين. # ولما عاد لنكولن إلى سبرنجفيلد وفاتحه بعض أصحابه في هذا الأمر، قال إنه اتفق وبعض رجال ~~الهوج في وشنطون على أنه إذا تنازل أحد الرجلين - إدوارد أو موريسون - لصاحبه، أيد ~~الهوج من يبقى منهما يطلب المنصب، ثم قال: «إذا ترك هذا المنصب لولاية إلينوى، وكان ذلك ~~على أن أقبله، لا لأي سبب آخر؛ فإني عندئذ أقبل.» # ورأى أبراهام أن لا بد ms128 من السفر إلى وشنطون ليكون على مقربة ممن بيدهم الأمر، فسافر ~~إليها، ولنقص نبأ هذا السفر؛ فإن فيه ما يزيدنا علما بجانب من جوانب شخصية ~~لنكولن. # بدأ رحلته في الصباح الباكر ذات يوم من خان للسفر في سبرنجفيلد، ولم يكن في الخان إلا ~~مسافر واحد غيره من أهل كنطكي كان في طريقه إلى موطنه، فصحب أبراهام مسافة طويلة في عربة ~~السفر، وشاهد المسافر ما آلمه من أمارات الهم والعبوس في وجه لنكولن، فأراد أن يمحو شيئا ~~من سأم الرحلة فعرض على أبراهام مضغة من الطباق، فأجابه: «لا يا سيدي، شكرا لك إني لا أمضغ ~~قط.» ثم أعقب ذلك سكون طويل بينهما، وأخرج الرجل بعد ذلك من جيبه علبة مكسوة بالجلد، وانتزع ~~منها دخينة فقدمها إلى لنكولن، فاعتذر إليه شاكرا كما فعل من قبل؛ لأنه لا يدخن قط. ولما ~~صارا على مقربة من إحدى المحطات التي تغير عندها الخيل، أخرج الرجل زجاجة خمر من بين متاعه، ~~وصب منها في كأس ومد بها يده إلى رفيقه المسافر قائلا: «إيه أيها الرفيق الذي لا أعرفه، هل ~~لك وقد علمت أنك لا تمضغ ولا تدخن أن تتناول قليلا من هذا البرندي الفرنسي؟ إنه ممتع من ~~الطراز الأول، وهو إلى جانب ذلك مثير للشهية.» ولكنه قوبل كذلك بالإعراض من رفيقه الطويل ~~المنطوي على نفسه، وكان عذره أنه كذلك لا يشرب الخمر قط. ولما آن أن يفترقا قبل الظهر ليذهب ~~الكنطكي في طريق آخر، صافح ذلك الرجل أبراهام وهز يده في حماسة قائلا: «الآن أصغ إلي ~~أيها الشخص الذي أجهله، إنك رجل ذكي، ولكن أمرك عجب، ربما كان ذلك آخر لقاء بيننا وإني لا ~~أريد أن أسيء إليك، ولكني أحب أن أقول لك إن تجاربي علمتني أن الرجل الذي لا رذائل له قليل ~~الفضائل ...! طاب يومك.» # وثمة حديث آخر في هذا السفر يقصه رجل يدعى توماس نلسن، اختاره فيما بعد لنكولن وهو رئيس ~~وزيرا في شيلي قال: في ربيع سنة 1849، كنت والقاضي هامند الذي أصبح فيما ms129 بعد حاكم إنديانا ~~قد أخذنا الأهبة للسفر إلى إنديانا بولس في عربة من عربات السفر، وكان يلزم لقطع هذه الرحلة ~~عادة يوم كامل، ففي فجر ذات يوم أقبلت عربة من الغرب، فلما ركبنا فيها وجدنا المقعد الخلفي ~~يحتله شخص طويل يبدو كأنما تمتد رجلاه إلى نهاية العربة من ناحية، ورأسه إلى نهايتها من ~~الناحية الأخرى! ولم يكن غيره في العربة، وكان يغط في نوم عميق، فربت هامند على كتفه في ~~غير كلفة قائلا: هل استأجرت العربة وحدك هذا اليوم؟ فأفاق ذلك المجهول من نومه وأجاب ~~قائلا: «يقينا لم أفعل ذلك»، ثم وثب إلى المقعد الأمامي تاركا لنا في رقة وكرم مكان ~~الراحة والتوقير. # وأخذنا هذا الشخص المجهول بلمحة، فإذا هو غريب الهيئة زريها، يرتدي حلة بادية القدم رديئة ~~الهندمة بغير قميص ولا رباط عنق، ويلبس فوق رأسه قبعة رخيصة من الخوص دفعها إلى الخلف، وترى ~~أبرز ملامحه في حالة سكونه كثيبة لا معنى فيها، ولما كنا قد رأينا فيه موضوعا للمزاح فقد ~~استرسلنا في طائفة من النكات، فلاقاها جميعا في براءة وطيبة قلب، وشاركنا في الضحك وإن كان ~~الضحك على حسابه. وتوقفنا عند الظهيرة لنتناول شيئا من الطعام في مطعم على جانب الطريق، ~~ودعوناه ليأكل معنا فدنا من الخوان في هيئة تنم على أنه عد ذلك شرفا عظيما، وجلس بنصف ~~جسمه على مقعد صغير، وكان يضع قبعته تحت إبطه أثناء الطعام، وبعد أن فرغنا من طعامنا ~~استأنفنا السفر، ومال الحديث بنا إلى ذلك المذنب الذي كان يومئذ يثير دنيا العلم. # ورأينا رفيقنا المجهول ينصت إلى الحديث في شغف عظيم، ولقد أدلى بطائفة عجيبة من الآراء من ~~فيض قريحته وسأل أسئلة كثيرة، وملأنا عجبا بكلمات علمية طويلة راعدة الجرس، وبعد أن ~~ألقينا عليه ما يملأ الفؤاد دهشة من تهاويل كلماتنا العلمية، سألنا ذلك الشخص المجهول وقد ~~ملكته الحيرة والدهشة: «وماذا عسى أن تكون آخرة هذا المذنب؟» وأجبته أني لست على بينة من ~~أمري، بيد أني أخالف معظم العلماء والفلاسفة، وأميل إلى ms130 الرأي القائل بأن الدنيا كلها ستذهب ~~هباء في إثر ذلك الشيء المخيف! وفي ساعة متأخرة من المساء بلغنا إنديانا بولس وخففنا إلى ~~فندق بروننج، وافترقنا نهائيا عن ذلك الشخص المجهول وآوينا إلى حجرتنا لنغسل التراب عن ~~وجوهنا، وبعد دقائق نزلت إلى ردهة الفندق فوقعت عيناي على ذلك الرجل الطويل الواجم المحيا ~~وسط جماعة من المعجبين به من رجال القانون، تبينت بينهم من القضاة مكليان وهانتنجتون وألبرت ~~هويت وإدوارد هانيجان وريتشارد تومسون، وبدا عليهم جميعا أنهم مقبلون في شغف وإعجاب على ~~قصة كان يقصها عليهم، فسألت بروننج صاحب الفندق من يكون ذلك الشخص الطويل؟ فقال: «هو ~~أبراهام لنكولن من إلينوى أحد أعضاء الكونجرس.» فصعقت لهذا النبأ وهرولت إلى الطابق العلوي؛ ~~حيث قصصت على صاحبي هامند ذلك الخبر المدهش، وسرعان ما غادرنا الفندق خفية من باب خلفي إلى ~~فندق غيره؛ كي لا نتصل بعد ذلك برفيقنا في السفر الذي علمنا أنه من ذوي المكانة. # وكان من عجب الأمور حقا بعد ذلك بسنوات، أن تخلى هامند عن منصبه كحاكم إنديانا لبضعة ~~أيام قبل وصول لنكولن إلى إنديانا بولس، وهو في طريقه إلى وشنطون ليحتفل بولايته الرياسة! ~~أما أنا فلقد واتتني الظروف لأزداد معرفة وقربا إلى لنكولن منذ تلك الرحلة التي صحبناه ~~فيها دون أن نعرفه، ولقد صرت من أكبر المتحمسين له والعاملين على ترشيحه وانتخابه للرياسة، ~~وقبل أن يغادر لنكولن موطنه إلى وشنطون دعا جون ب أشر كما دعاني لمرافقته إلى هناك، واتفقنا ~~على أن نوافيه في إنديانا بولس، ومن ثم نسافر معه، ولما بلغنا تلك المدينة علمنا أن الرئيس ~~ومرافقيه قد بلغوها لتوهم، وأنه يتناول طعامه في حجرة الطعام بالفندق، فدخلنا نبحث عنه ~~ووجدنا الرجال يشغلون جميع المقاعد المرصوصة حول عدد كبير من الموائد، ولكنا لم نر الرئيس، ~~فلما كنا على مقربة من باب إدارة الفندق امتدت ذراع طويلة إلى كتفي وسمعت صوتا حادا ~~يقول: «هالو! نلسون، ألا زلت تعتقد أن الدنيا كلها ستذهب هباء في إثر ذلك الشيء المخيف؟!» ~~وكان المتكلم ms131 هو مستر لنكولن! # ولنعد إلى ما كنا بصدده من حديث ذلك المنصب الذي طمع فيه؛ لما بلع لنكولن وشنطون تبين أن ~~هناك منافسا خطيرا له ولصاحبيه موريسون وإدوارد؛ وذلك هو بترفيلد، وكان لهذا الأخير شفعاء ~~من بعض ذوي النفوذ، وكان لا ينكص عن السعي لديهم بكل وسيلة بينما كان لنوكلن مترددا يقدم ~~رجلا ويؤخر أخرى، أشار إلى ذلك صديقه هرندن في قوله: «لقد كان يخالج لنكولن شعور خفي من ~~الأنفة والكبرياء، فضلا عما كان ينقصه من إصرار، فكان ذلك الشعور الخفي يأبى عليه تلك ~~المرونة في الرأي، التي لا بد منها لطالب وظيفة رسمية كي ينجح في تحقيق طلبه.» وقال لنكولن ~~نفسه في هذا الصدد: «ليس ثمة عندي ما يجعل لي من الحول ما أطلب به منصبا من الدرجة الأولى، ~~وإن منصبا من الدرجة الثانية لا يعوضني عما عسى أن ألقى من سخرية ممن يطلبونه ~~لأنفسهم.» # ويريد الرئيس أن يجامله فيعرض عليه منصبا غيره؛ هو منصب حاكم إحدى المقاطعات الداخلية، ~~ولكن زوجه تقف بينه وبين هذا المنصب، وتصر على موقفها معلنة أنها لن تقبل لزوجها عملا يعود ~~به إلى الأدغال ولا ترجى لهما منه عودة، ويرفض أبراهام المنصب آخر الأمر، وهكذا نرى زوجته ~~للمرة الثانية حريصة على أن توليه القبلة التي لا ترضى له غيرها قبلة، فهل كانت تدري أية ~~خدمة تؤديها بمسلكها هذا لزوجها ولوطنها وللإنسانية؟ # | إلى المحاماة # عاد لنكولن إلى المحاماة، وقد ترك السياسة وراء ظهره، وإنه ليعزم العزم كله ألا يعود ~~إليها وفي نفسه مرارة منها ومن أساليبها. # وكان قد هجر مكتبه زمنا ليس بالقصير تاركا هرندن يعمل فيه وحده، ولقد بذل هرندن من ~~الهمة والمثابرة ما جعل للمكتب مكانة لا تقل عن مكانة أكبر المكاتب حوله، فلما عاد لنكولن ~~حدث صاحبه أنه يرى أن ليس له أن يشاركه لا في الربح ولا في العمل، وقد بلغ المكتب بفضل ~~جهوده ما بلغ، ولكن هرندن أبى أن يسلم بذلك قائلا له: لقد أخذتني معك وعلمتني ما لم أكن ms132 ~~أعلم، وأعنتني على أمري وأنا صغير أحتاج إلى العون، فإن لم أكن كريم اليد فلا أقل من أن ~~أكون حافظا للجميل، وعلى هذا فلن أترك صحبتك ومشاركتك إياي في عملي. وقبل لنكولن وعادا ~~يعملان معا شريكين. # وأحس لنكولن أن السياسة قد باعدت بينه وبين القانون، فلا بد له أن يعوض ما فاته من درس ~~ومذاكرة، فأقبل على كتب القانون إقبالا لم يشهد صاحبه له مثيلا من قبل، فقد ذكر هرندن أنه ~~رافقه أكثر من مرة إلى بعض المحاكم، وكانا يبيتان ليلهما في الفنادق، فكان ينام وصاحبه على ~~سرير واحد أكثر الأحيان، وإن هرندن ليغط في نومه، فما يصحو إلا بعد ساعات فإذا بصاحبه متمدد ~~إلى جانبه وفي يده كتاب كبير من كتب القانون، وإلى جانب رأسه شمعة أوشكت أن تنفد، وقد أوشك ~~الصبح أن يتنفس! # وكان أبراهام في مكتبه يرسل نفسه على سجيتها، شأنه في ذلك كشأنه في كل شيء يتصل به؛ فهو ~~في المكتب لا يعنى بأعماله الكتابية وإنما كان أول أمره يتركها لصاحبه هرندن، ثم كان بعد ~~ذلك يستعين بمن يطلبون المران عنده من الشبان، وهو لا يهتم بأن يكتب حسابا بينه وبين ~~شريكه، وإنما يقسم ما يجيئهما من ربح بينهما، وهو يعطي صاحبه نصيبه في ثقة وأمانة، ولا يعنى ~~بكتابة دفاعه كتابة منمقة بليغة، بل يكتفي بقراءة القضية ودراستها دراسة جيدة، ثم يعتمد على ~~ذاكرته وعلى معونة الله كما تعود أن يقول، وعلى ما يوحي به الموقف وملابسات الحال ومقتضياته ~~عند المرافعة. وكان إذا جلس لدراسة قضية أسند ظهره إلى ظهر كرسيه ومدد رجليه على كرسي آخر، ~~ووضع المراجع على مقربة منه عن يمينه وعن شماله، فما يشغله شاغل مهما جل عما هو فيه حتى ~~يفرغ منه، وما يصرفه عن انتباهه شيء، ولا يحب أن يقطع عليه أحد تيار فكره، ولو لبث على تلك ~~الحال ساعات. # لنكولن المحامي. # وكان قمطره الرئيسي وحافظة أوراقه الهامة هي قبعته الطويلة؛ فقد كانت تتسع بصورة ~~عجيبة لكل ما يدس فيها من ms133 ورق؛ حتى لقد عجب صاحبه أشد العجب كيف يضع فيها لنكولن ما يضع، ~~ولو أنه ألقى إليه به ما عرف كيف يدسه في حقيبة صغيرة. # على أنه قد وضع في زاوية من زوايا الحجرة إضبارة من الورق على منضدة صغيرة، وكتب فوق ~~غلافها «فتش في كل مكان، فإن لم تجد فابحث هنا»، وهكذا لم يخرج الأمر عن قبعته وهذه ~~الإضبارة، فلا تصنيف ولا تبويب في الأوراق، ولا عناوين تميزها بعضها عن بعض حسب محتوياتها، ~~ولا شيء من ذلك التقسيم والترتيب للقماطر على نحو ما يحدث في مكاتب المحامين. # وأحب أبراهام أن يعمل في المحاكم المتجولة، فيقضي أشهرا بعيدا عن المدينة وعن بيته يتبع ~~المحكمة أينما اتجهت؛ إذ كانت المحاكم يومئذ في تلك الأصقاع هي التي تنتقل إلى الناس، وكان ~~سروره عظيما بهذا التجوال؛ فهو ابن الأحراج والغابات والبقاع المترامية، وهو الذي لم يألف ~~الاستقرار في موطن، وإنه ليرى المدينة أضيق في عينه اليوم منها قبل. # على أن شيئا أقوى من ذلك يحبب إليه الابتعاد عن المدينة وعن البيت، وذلك أنه قد ضاق ~~ذرعا بما تثيره زوجه من عوامل الشقاق، فهي ما تفتأ تريه التبرم والسخط، وتأخذه بألوان من ~~العنف يوشك أن ينفد لها صبره لولا أنه يعود بالسبب إلى حدة مزاجها، وإن كان ليسأل نفسه ~~أحيانا أهي مغضبة حانقة عليه لما أصابه من فشل في السياسة، فما تزال تتعلق بأوهى الأسباب ~~لمجادلته ومغاضبته، وقد صغر في عينيها وهان لديها شأنه؟ ولكنه يحس من زوجه أنها على شغفها ~~بتعنيفه تضمر له المحبة والإعجاب كعهده بها، فيطمئن قلبه ويرد الأمر في هذا الشقاق إلى ما ~~يعرف من طباعها. # وكم كان حبيبا إلى نفسه أن يركب مع بعض زملائه في عربة، أو يمتطي جوادا ويصحب القضاة ~~والمحامين على جيادهم إلى حيث تعقد جلسات المحكمة، فإذا فرغوا من جهة انتقلوا إلى غيرها ~~ويبقون على هذه الحال أشهرا، فإذا تصادف أن كان أحدهم أو بعضهم على مقربة من موطنه، ذهب ~~ليقضي الراحة الأسبوعية بين أهله ms134 وقد غاب عنهم بضعة أسابيع أو أشهر، إلا أبراهام فما كان ~~يذهب إلى بيته مهما كان قربه منه إلا إذا انتهت الدورة القضائية، وكانت تستغرق أحيانا ستة ~~أشهر. # وكان القضاة والمحامون إذا فرغوا من الجلسات يأوون إلى أحد الفنادق القريبة؛ حيث يطعمون ~~وينامون، وكانوا يتحلقون ليالي الآحاد حول أبراهام، وينضم إليهم عدد كبير من الناس فيمتعهم ~~بأحاديثه وقصصه ساعات، وقد اشتهر أمر لياليه تلك؛ حتى لقد كانت تبلغ الحلقة حوله أحيانا ~~مائتين أو ثلاثمائة رجل كلهم معجب بحديثه شديد الإقبال عليه، وهو ينتقل بهم من نادرة إلى ~~نادرة ومن قصة يستخرج منها عبرة إلى أخرى يثير بها الضحك، وهو إذ يشاركهم في ضحكهم في عذوبة ~~روح ودماثة وظرف لا ينخلع عنه وقاره ولا يتسرب إلى شخصيته شيء من الابتذال، ولو كان غيره ~~مكانه لخيف أن يمسه من ذلك شيء، ولكنه لم يزدد إلا محبة في نفوس الناس، ولم تزدهم أحاديثه ~~إلا تعلقا به، ومن عجب أن اسمه الذي عرف به كان يجري على ألسنة الناس في كل جهة من هاتيك ~~الجهات، فيذكرون أيب الأمين كأنهم وثيقو المعرفة به، وكأنما كان يسبقه هذا الاسم حيثما ~~ذهب. # وكان لنكولن يرى في هذا الطواف مدرسته التي يتلمس فيها المعرفة، وأي معرفة أحب إليه من ~~دراسة طباع الناس والوقوف من كثب على أحوالهم، بل والنفاذ إلى سرائرهم وخلجات نفوسهم؟! لذلك ~~كان في طوافه يغشى المجالس وينطلق إلى البلاد القريبة، فيسمع ويرى ويأخذ بقسط من الأحاديث، ~~ويدلي بآرائه إذا عن له أن يبدي آراءه في أمر، ويستفهم الناس ويسألهم عن أمانيهم، ويظل ~~هذا شأنه حتى ينتهي دور المحكمة فيعود إلى سبرنجفيلد، وتنظر زوجه فإذا هو يدخل الدار وفي ~~عينيه الحنين إليها وإلى أولاده، وفي أساريره من البشر بقدر ما يكون في جيبه من المال، ثم ~~يدفع إليها بمظلة قديمة مهلهلة حائلة الصبغة، تمسكها بعضها إلى بعض خيوط ورقع، ويلقي ~~إليها حقيبة اتخذها من رقعة بساط قديم، بها من الأوراق ما ضاقت عنه جيوبه وما صغرت ms135 دونه ~~قبعته، ويقبل على بنيه فيرفعهم على كتفيه وذراعه كالعملاق، وهم فرحون يتسابقون إلى محادثته ~~حتى لتضيع كلماتهم فيما يثيرون من زياط، وأمهم تكظم الغيظ من هذا الخروج على النظام. # وعادت تبرز في المحاماة مواهبه وتظهر خلاله، وأخذ ينشر فيها مبادئه بالعمل لا بالقول. جعل ~~الحق رائده والصدق غايته، كما جعل مرد كل أمر عنده إلى معاني الإنسانية والفضيلة لا إلى ~~أصول القانون وملابساته، وليس معنى ذلك أنه أهمل جانب القانون، كلا إنما كان يهمل جانب ~~القانون إذا أدت ملابساته إلى التعمية وإظهار الباطل في زائف من ثياب الحق؛ ولذلك جعل ~~الفضيلة فوق القانون، والصدق فوق المهارة في الحوار واللباقة في الجدل، وكان يحث أصدقاءه من ~~المحامين ومحبيه من الناشئين على ألا يفرطوا في جنب الفضيلة، قائلا في صراحة وبساطة: «إن ~~هناك رأيا شائعا في الناس مؤداه أن المحامي رجل يتهاون عادة في حق الأمانة؛ ولذلك فلا بد ~~من أن يتمسك المحامي بالأمانة فيما صغر أو كبر من الأمور؛ لكي يدرأ تلك التهمة الشنعاء عنه ~~وعن مهنته.» ومن شهير عباراته قوله: «يجب أن تبث في المهنة روح الفضيلة؛ كي تطرد تلك ~~الروح منها ذوي الرذيلة.» وقوله ينصح أحد الناشئين: «اعمل على أن تكون محاميا أمينا، فإذا ~~لم تستطع أن تكون أمينا وأنت محام، فخير لك أن تكون أمينا وألا تكون محاميا.» # وكان إذا جاءه أحد الناس يطلب إليه الدفاع عنه، استفهمه حتى يستقصي خبره، وهو على طيبة ~~قلبة يقرأ في وجه محدثه أمارات الكذب إذا هم أن يكذب، فما يزال به حتى يرده إلى الصدق في ~~مهارة دون أن يسيء إلى شعوره؛ فهو وإن لم يك من الماكرين، لا يستطيع أن يمكر به أحد، وقد ~~كان لشخصه هيبة وجلال وإشعاع ينتشر منه إلى محدثه، فيوحي إليه وجوب التمسك بالصدق والنفور ~~من الكذب، فيكون شعور محدثه بإزائه كما يكون شعور المرء في مكان مقدس يستفظع فيه الذنب وإن ~~هان. # وكثيرا ما كان يحاول الصلح بين المتقاضين، ومما نصح به في محاضرة ms136 عامة قوله: «احرص على ~~أن تقنع المتخاصمين بالصلح ما أمكنك ذلك، وبين لهم أنه غالبا ما يكون الفائز فائزا ~~اسما فحسب، وهو في الواقع خاسر بما دفع من أجر أو أنفق من مال أو أضاع من وقت، والعمل بعد ~~ذلك كثير للمحامي ... وإنه لتتهيأ للمحامي فرصة ثمينة ليصبح طيبا خيرا، وذلك بما يسعى إليه ~~من سلم، فلا تلجأ إلى التقاضي والشحناء، فقلما وجد من هو أكثر سوءا من رجل يفعل ذلك. ولا ~~تأخذ أجرك سلفا إلا قدرا صغيرا منه، فإنك إن أخذت أجرك كله مقدما وبقي اهتمامك بالقضية ~~كاهتمامك بها في حالة ما إذا كان لا يزال أمامك من الأمل ما تتطلع إليه تطلع موكلك إلى ~~النجاح؛ فأنت إذن فوق مستوى البشر.» # وكثيرا ما كان يقنع أبراهام بالقليل من الأجر؛ إذ كان يعد طلب الأجر الباهظ من أكبر آثام ~~المهنة، ثم إنه كان يأخذ المسألة من ناحيتها الإنسانية؛ فيرى في عمله مثل عمل الطبيب ~~والواعظ الديني والمعلم، وعنده أن واجب هؤلاء أن يمدوا يد المعونة للناس، وألا يتقاضوهم من ~~الأجر إلا ما كان في وسعهم. ومما يذكر برهانا على هذا أنه دافع مرة عن حق رجل في مبلغ ~~ستمائة دولار ولم يطلب منه أجرا على ذلك إلا ثلاثة ونصفا. ويذكر أيضا أنه لم يتفق على ~~الأجر مرة، فلما ربح القضية أرسل إليه موكلوه خمسة وعشرين دولارا، فرد إليهم عشرة منها ~~قائلا إن ما بقي هو ما يستحقه. وكان أحيانا يعفي موكله من الأجر إن كان مملقا قانعا من ~~الأجر بالثواب وبالجميل يغرسه في قلبه، وذلك ما حدث حين دافع عن ابن متحديه القديم وصديقه ~~بعد التحدي والمشاجرة آرمسترنج، فإنه لم يسأله أجرا على ما بذل في الدفاع عنه من جهد شديد ~~إلا المودة. # يذكر صديقه وزميله في العمل هرندن أنه سار في قضية ذات مرة في غيبة لنكولن أثناء طوافه، ~~ولأمر ما لا يدخل في نطاق مسئوليته حدث إبطاء في سير القضية، فعمد موكله إلى محام آخر وترك ~~هرندن، فرفع ms137 هرندن أمره إلى القضاء يطلب أجرا على ما بذل من جهد، فحكم القاضي على الرجل ~~بدفع أجر معين، وإذ ذاك قدم أبراهام فأسرع إليه الرجل يسأله أن يعفيه مما يقضي به الحكم من ~~أجر مظهرا له فقره وسوء حاله، فنظر إليه أبراهام لحظة، ثم أطلقه وقد أعفاه لم يأخذ منه ~~درهما، فلما حدثه هرندن في ذلك وأشار إلى ما كان من سوء صنع الرجل في نقل القضية إلى ~~غيرهما، قال أبراهام إنه لا يتمالك نفسه إذا اشتكى إليه أحد الفقر والبؤس، وإنه ليحبس دموعه ~~في جهد إذا بكى لديه إنسان. ثم ضحك ضحكة من ضحكاته العذبة وقال: «إني أحمد الله إذ لم ~~يخلقني امرأة؛ وإلا لما كنت أرفض لأحد قط طلبا ليس فيه ما يمس الشرف!» # وكان أبراهام في المحكمة كما كان في خارجها؛ الرجل المتواضع المحتشم، يدخلها وجيوبه ~~منتفخة بأوراقه وقبعته ثقيلة بما حوت منها، لا يشغل نفسه بأبهة المظهر وقد سلم له الجوهر، ~~ولا يدري ما التطاول والتعاظم وقد عظم حتى صارت العظمة هي ما يفعل. # كان الصدق في الدفاع أول وسائله في الإقناع، وقد يتبين له أثناء دفاعه أن الحق قد ألبس ~~عليه بالباطل فيتنحى عن القضية من فوره؛ لأنه لا يستطيع أن يلائم بينها وبين طبعه، أو أن ~~يرفعها إلى مستوى حماسته وصدق شعوره، وكان المنطق السليم والإنصاف بعد ذلك من أهم أدواته، ~~يضاف إليهما الدراسة الدقيقة لما ينهض له والإحاطة بجميع تفاصيله، هذا إلى ما امتاز به من ~~صفاء الذهن صفاء يساعده على تبين الطريق إلى غايته في يسر ووضوح، وما أوتيه من ذاكرة عجيبة ~~تواتيه بما يطلب حتى ما يلتوي عليه أمر أو يعزب عن ذهنه حادث. # وكان يتوخى العدالة فيما يعمل ويعنى أشد العناية بالأمانة في كل صغيرة أو كبيرة من ~~المسائل. حدث صديقه هرندن أنه اضطر ذات مرة إلى تأجيل قضية من القضايا إلى دور مقبل، ~~ولكنه لم يجد في نفسه أسبابا يطلب من أجلها التأجيل، وأحس أنه لو ترافع خسر القضية ms138 لقلة ~~استعداده لها، فبينما هو في حيرته إذ سمع محامي الخصوم يذكر خوفه من أن يعلم هرندن بحقيقة ~~من الحقائق، فأسرع هرندن يطلب التأجيل مشيرا إلى تلك الحقيقة، ذاكرا للمحكمة أنه يستطيع ~~تقديم أدلة إثباتها إذا أعطي مهلة، وكاد يظفر بالتأجيل لولا أن قدم لنكولن فسأل زميله هل ~~بنى طلبه على هذا السبب حقا، وهل يستطيع تقديم أدلة إذا أمهل؟ فذكر له هرندن أنه تسقط تلك ~~الحقيقة من محامي الخصوم، ولا ضير أن يطلب التأجيل عله يقع على أدلتها فيما بعد، فتجهم ~~وجه لنكولن ولعب في شعر رأسه مليا بإصبعه ثم قال: «كلا؛ إن هذا نوع من الخداع، والخداع في ~~أكثر الأحيان اسم آخر للكذب، فخير لنا أن نسحب طلبنا؛ فإننا لا نأمن أن نواجه يوما ما بما ~~فعلنا بعد أن تكون هذه القضية قد نسيت منذ زمن طويل.» وسحب هرندن طلب التأجيل وبمساع أخرى ~~بذلها الموكل - ولا دخل لهرندن وصاحبه فيها - أجل القاضي القضية إلى دور مقبل، ونجت القضية ~~من خطر الخسارة. # وكان إذا ترافع يؤثر الهدوء ويعنى بإبراز الحقائق، ولا يحفل بفخامة الألفاظ وصوغ العبارات ~~في صورة خطابية هي إلى الصخب والضجيج في رأيه أقرب منها إلى البلاغة الصحيحة؛ إذ إن البلاغة ~~الصحيحة عنده هي التعبير السليم الواضح عما يراد لا أكثر من ذلك ولا أقل، أو هي الوصول إلى ~~المعنى من أقرب السبل وبأيسر الطرق، وكان لا يتكلف الإشارات والانفعالات والمبالغة في إظهار ~~بعض الألفاظ، أو النطق بها نطقا تطابق نغمته لهجة تأكيد أو إيضاح أو إبراز غضب أو ما شاكل ~~ذلك؛ فإن هذه أمور يراها بعيدة كل البعد عن سلامة الأداء وحسن الإقناع. حدث مرة أن لجأ أحد ~~المحامين عن خصوم موكله إلى الضجيج بالعبارات الطويلة الصاخبة والكلمات الفخمة البراقة، ~~فانتظر لنكولن حتى سكنت ريحه وابتسم في هدوء، ثم عمد إلى حكاية من حكاياته فسردها؛ وهي ~~حكاية عن رجل لا يتقيد بالأديان وجد نفسه وسط عاصفة فيها رعد وبرق، فخر على ركبتيه واتجه ~~إلى السماء قائلا ms139 : يا رب إن كانت تجري عندك الأمور هكذا حيثما اتفق وكل وجوهها عندك سواء، ~~فأعطنا من الضوء أكثر من هذا البرق ومن الضجيج أقل من هذا الرعد ... وهكذا نراه أبدا لا ~~تعوزه النادرة أو القصة يصور بها ما يقوم في نفسه من معنى، أو يرتسم بذهنه من سخرية. # وعرف عنه فيما عرف الأناة، فما يقدم على فعل أو قول إلا بعد تثبت ليكون على بينة من أمره، ~~وكثيرا ما تبرم صديقه هرندن وتململ من هذه الأناة، فانظر إلى أبراهام يسأله أن يأتيه ~~بمبراة وسكين، فإذا أحضرهما قال له: «إن سلاح تلك المبراة أقصر وأحد، ولعلك بذلك تظنها ~~أنفع من السكين؛ إذ هي أسرع منها، ولكن انظر أيتهما أبعد من الأخرى غورا إذا نفذتا في جسم؟ ~~ومثل السكين كمثل عقلي في تدبير المسائل والنظر فيها؛ فقد يبدو أني بطيء في قطع الأمور، ~~ولكني إذا قطعت أمرا فإنه يكون بعيد المدى.» ويقتنع صاحبه أن التأني أبعد في سبر الأمور ~~غورا، ويعزم ألا يشتكي بعد من أناته ثم إذا هو يطيق معه صبرا. # وكان مما يهابه منه المحامون تهكمه؛ فهو يعمد في دفاعه أحيانا كما كان يفعل في خطبه ~~السياسية إلى التهكم اللاذع البارع، فيزلزل به قدمي خصمه حتى ليذهل عن رشده بين ما ينبعث من ~~جوانب القاعة من الضحك. # على أنه كان يغضب أحيانا فلا يقف غضبه عند حد؛ وذلك إذا وجد في أحد مجادليه من المحامين ~~أثناء الدفاع ميلا إلى الخديعة أو الكذب، أو إذا اشتم من أحد القضاة شيئا من التحيز، ~~وعندئذ يغلظ في القول، ويقسو في تعبيره أشد القسوة، ويرى الناس منظره في هياجه كريها يبعد ~~كل البعد عما ألفوه من دماثته وهدوئه ورقة حاشيته. # ويرى هرندن أن أبراهام كان محامي قضية أكثر منه رجل قانون؛ أعني أنه كان ماهرا في تقصي ~~الوقائع والتفاصيل الجزئية والوصول بها إلى النتائج التي كان يريدها، أما التطبيق القانوني ~~أو الفقه الذي يقوم على الدراسة والضلاعة فلم يكن فيه أبراهام طويل الباع، وقد ms140 شايع هرندن ~~في رأيه هذا بعض الناس وخالفه فيه بعض، ويرى هؤلاء المخالفون أن أبراهام كان يعتمد على حاسة ~~العدالة في نفسه، وكانت هذه الحاسة قوية عنده أشد القوة،، كما كان يعتمد على المنطق، وقد ~~بلغ في قوة المنطق الذروة، وعلى هذا فقد كان من الأفذاذ القلائل الذين يرد القانون إلى ~~إدراكهم وشعورهم ومنطقهم، ولا يرد ذلك فيهم إلى أوضاع القانون واصطلاحاته، وما هو في حاجة ~~بعد إلى الاستناد إلى المواد والنظر في مدى انطباقها أو عدم انطباقها على ما في يده من ~~قضايا، اللهم إلا في حالات معينة لا محيص فيها عن القانون، وهم يرون أن الأمر في مثل تلك ~~الحالات أمر شكل لا أمر فقه؛ فهو في إمكان كل من مرن على مواد القانون وأعانته ذاكرته ~~على حفظها. # ومع هذا فإن صديقه هرندن نفسه يحكي عنه أنه ذات مرة شهده أثناء الدفاع يتعرض للقانون ~~ويستطرد في تاريخ التشريع، وآنس صاحبه في كلامه الضلاعة والإحكام، ولكنه ظن ألا فائدة ترجى ~~منه؛ فإن المحكمة تعرف كل هذا، ولما فاتحه في ذلك بعد خروجهما من المحكمة قال لنكولن: «ذلك ~~موضع خطئك، فإني لم أجرؤ على أن أكل القضية إلى ما يفترض من معرفة المحكمة بكل هذا، والحق ~~أني سرت فيها على افتراض أن المحكمة لا تعلم شيئا من هذا.» # وما من قضية من القضايا التي تناولها إلا وفيها شاهد أو شواهد على سمو الدوافع التي أدت ~~به إلى تناولها، وسمو الروح التي تسيطر عليه أثناء العمل، فإحقاق الحق والدفاع عن ~~المستضعفين غايته أبدا، والأمانة والصدق وتوخي الإنصاف والعدالة سبيله إلى بلوغ تلك ~~الغاية، وهو في القضايا الصغيرة كما هو في الكبيرة متحمس للحق مهتم بالدفاع عنه والاقتناع ~~به. # جاءته ذات مرة عجوز هي أرملة أحد جنود الثورة تشكو من أحد القائمين على شئون المعاشات أنه ~~اقتطع منها ظلما نصف المعاش المقرر لها، فتأثر لنكولن أشد التأثر من حكايتها، وذهب إلى ذلك ~~الرجل فسأله أن يرد إليها مالها، فلما رفض أن يفعل ms141 ذلك قدمه إلى المحكمة من فوره، وفي اليوم ~~السابق للدفاع طلب إلى صاحبه أن يجيئه بكتاب في تاريخ حروب الثورة، وظل يقرأ فيه زمنا، وفي ~~غداة دفاعه حمل على ذلك المغتصب حملة شديدة، ولبث ساعة يصف للمحكمة مبلغ ما لقي جنود ~~الاستقلال من مصاعب وما تحملوا من آلام في سبيل قضية أمريكا الكبرى، حتى إذا بلغ في قضيته ~~موضع اغتصاب قسط من معاش أرملة أحد الجنود، التمعت بالغضب عيناه وأربد وجهه وتدفق في حماسة ~~قائلا: «لقد ذهب هؤلاء الأبطال وتصرمت بعدهم الأعوام، واستراح الجندي من عنائه، والآن تسعى ~~إليكم وإلي أرملة مقوسة مضعضعة عمياء تطلب إليكم أن تردوا عنها الحيف ... نعم إنها تتوسل ~~إلينا نحن الذين نتمتع اليوم بما اكتسب لنا أبطال الثورة من نعم، تتوسل إلينا طالبة أن ~~نعينها متعطفين، وأن نحيمها كل يفعل الرجال، وكل ما أتساءل عنه الآن: هل نكون لها أصدقاء؟» ~~ورد لنكولن إلى الأرملة مالها، ولم يكلفها شيئا من أجر بل لقد دفع من ماله نفقات إقامتها ~~في أحد فنادق سبرنجفيلد ونفقات سفرها إلى مقرها، فهي إنما جاءت إليه إذ سمعت عن شممه ~~ومروءته وحمايته للضعفاء. # واتهم بارتكاب جريمة القتل ابن متحديه القديم في مدينة نيو سالم؛ وهو آرمسترنج الذي ~~غدا صديقا لأبراهام وظل على وفائه له حتى مات، وما إن وقع نظر أبراهام على هذه التهمة حتى ~~كتب إلى أمه ينبئها أنه على استعداد لقبول قضيته ليدافع عنه؛ لأنه يستبعد أن يرتكب ابنها ~~مثل هذه الجريمة، وجاءت الأرملة ملهوفة تسأل أبراهام أن يدافع عن ابنها وتؤكد له براءته مما ~~اتهم به، ولم يكن أبراهام يعلم شيئا عن القضية ولكنه قبلها بدافع النجدة والوفاء، ولما ~~قرأها وثق من براءة ذلك الشاب، ووقف في ساحة المحكمة يدافع عنه، وكانت تهمته تتلخص في أنه ~~أثناء شجار عنيف بين أصحاب له وفريق آخر ضرب أحدهم على رأسه فقتله، وظل أبراهام يسرد ~~الوقائع في أناة ووضوح، ويفند أقوال خصومه واحدا بعد الآخر حتى أقنع المحلفين أو أوشك أن ~~يقنعهم ms142 ببراءته، ولكن أحد الشهود أقسم أنه رآه رأي العين يضرب القتيل على رأسه وأنه مات ~~بضربته، ولما كانت المعركة حدثت ليلا سأله لنكولن كيف تسنى له أن يرى، فقال: «في ضوء ~~القمر، وكان نوره ساطعا.» فطلب أبراهام تقويما وفتحه وقال: «انظروا أيها المحلفون، لقد ~~كانت ليلة الحادثة من ليالي العتمة التي لا يرى فيها شيء!» وكان كذب ذلك الشاهد من أقوى ~~أسباب اقتناع المحلفين ببطلان التهمة، وحكم القاضي ببراءة المتهم، وفرح أبراهام فرحا ~~شديدا بإحقاق الحق وبهذا الجميل يؤديه إلى صديقه المتوفى في شخص ابنه وشخص أرملته، التي ~~تلقت النبأ وفي مقلتيها دموع الشكر والفرح، وفي قلبها الحب والإجلال لذلك المحامي الذي بذل ~~أعنف الجهد، ولم يقبل شيئا مما قدم له من أجر. # وحدث مرة أثناء محاكمة متهم بجريمة قتل أن حمل أبراهام في عنف على ذلك المتهم، وكان ~~الدفاع عنه يقوم على أساس أنه مجنون، ولما خرج لنكولن من المحكمة سمع عرضا أحد المحامين ~~يقرر وقد سمع اسم المتهم أنه مجنون حقا، وأنه يعرفه من زمن طويل، وقد خبر بنفسه خبله في ~~أمور كثيرة، وفي اليوم التالي ذكر لنكولن لصديقه هرندن، وهما في الطريق إلى المحكمة، أنه لم ~~ينم ليله من شدة ما ساوره من ألم لحملته على المتهم وقسوته عليه، ومما قاله: «لقد سلكت هذا ~~السبيل مقتنعا أنه يدعي الجنون، وإني لأخشى الآن أن أكون آذيته بما كان من عنفي عليه، وقد ~~يكون ذلك المسكين مجنونا حقا، وإذا كان كذلك فهو لا يتبين باطل فعلته؛ وإذن فأنا المبطل ~~إذ أعين بقولي على عقابه.» وظل أبراهام كسيف البال مهموما لا يفتر له هم. # وجاءته سيدة تملك أرضا غالية الثمن تسأله أن ينظر في مقدار ما فرض على أرضها من ضريبة؛ ~~ليقدم دعوى إلى المحكمة إن كانت تدفع أكثر مما يجب، وعمد أبراهام إلى أدواته القديمة فعاين ~~الأرض وقاسها وأحكم قياسها فوقع على أمر آخر، وذلك أن السيدة تضع يدها على مساحة أكبر من ~~حقها، حسب ما يتيحه لها الثمن ms143 الذي دفعته؛ وذلك لخطأ وقع فيه البائع، فأهمل أبراهام مسألة ~~الضريبة وطلب إلى السيدة قبل كل شيء أن تدفع ثمن باقي المساحة ليؤدى إلى ورثة البائع، فغضبت ~~السيدة وثارت ثائرتها، فأعلنها أنها إن لم تدفع فسيتقدم بدعوى ضدها، وأذعنت السيدة، ودفعت ~~المال المطلوب فحمله إلى الورثة، وأدى لكل منهم نصيبه منه حسب ميراثه. # هذا هو لنكولن المحامي تراه يسير على نهج من طبعه، وتراه يسمو بالمهنة، فيجعل منها مسألة ~~إنسانية غايته فيها أن يحق الحق وهو فيها - كما هو في غيرها - الرجل العظيم الذي يبث فيها ~~من روحه، ويلقي عليها نور عبقريته. # | متاعب وآلام # وماذا يتعبه اليوم ويؤلمه وقد أصبح في سبرنجفيلد وفي إلينوى كلها المحامي العظيم القدر ~~الذاهب الصيت؟! ماذا عسى أن يتعب أبراهام وقد دفع دينه وبات في سعة من الرزق؟! لقد كان ~~عسيا أن ينعم اليوم بهدوء البال وقد أزيح عن كاهله شقاء أمسه، فما باله يراه الناس ~~مهموما كلما وقعت أعينهم عليه في الطريق حتى لتأخذهم به شفقة تشبه أن تكون رثاء لحاله، وإن ~~دعوتهم إياه اليوم لنكولن العجوز كادت تطغى على دعوتهم إياه أيب الأمين، ولم يك يومئذ ~~بالعجوز إذا نظرنا إلى سنه؛ فما تجاوز الأربعين إلا قليلا، ولكن مسحة الهم في وجهه المسنون ~~ونظرات الحزن في عينيه المتسائلتين ومضي الألم في شفتيه المزمومتين؛ تجعله يبدو أكبر من سنه ~~في أعين ناظريه. # وكثيرا ما يراه الناس في الطريق وكأنما أخذته عن نفسه حال، فما في وجهه غير دلائل الهم ~~الذي يجيش في نفسه، ويحييه الناس جميعا إذا مر بهم أو إذا مروا به، فهو حبيب إلى نفوسهم، ~~وقل في المدينة من يجهله، وإنهم ليتبينون شخصه من بعد بقامته المدبدة وخطواته التي يعرفونها ~~وسرواله الذي ما زال قصيرا يكشف جزءا من ساقيه، فإذا دنا منهم نظروا إلى وجهه الذي أحبوه، ~~والذي يملؤهم انجذابا إليه وعطفا عليه ما يرتسم فوقه من دخائل نفسه، فضلا عما فيه من ~~معاني البساطة والدماثة وحسن الطوية، وهو يرد تحية ذاك بقوله ms144 «سعد صباحك يا عزيزي الأخ»، أو ~~تلك بقوله «طاب يومك يا أختاه»، ثم ينطلق وكأنما يحس كل من لقيه كأنما سرى إليه شيء من ~~همه. # وكثيرا ما كان يقف وهو في طريقه إلى بيته عند الظهيرة أو في المساء يتحدث إلى هذا، ويسأل ~~ذاك عن حاله، ويتم لصديق أو جار حكاية كان قد بدأها من قبل، أو يعلق على حديث محدثه بنادرة، ~~أو يذكره من أمسه بما يشبه حاله اليوم، أو يستخرج من كلامه عبرة أو عظة، وقد ألف الناس مرآه ~~على هذه الصورة، وألفوا أن يستوقفوه وأن يستوقفهم ولو طال بهم الوقوف. # ويسأل الناس إذ يرونه أحيانا يضحك ملء نفسه ماذا يكربه ويلقي ذلك الهم على محياه، فإنهم ~~ليحسون أن ضحكه إذا ضحك وأن نادراته إذا تندر إنما هي جميعا متنفس يلجأ إليه ليخفف عن ~~نفسه بعض ما بها، يحسون ذلك إحساسا صادقا، فليس يقع مرحه في نفوسهم كما يقع مرح غيره، فما ~~يذوقونه إلا وفيه طعم الهم. # وإن صديقه هرندن - وهو العليم به - ليحار في أمره ويحاول أن يرده إلى ما يعلم من حال ~~معيشته وعلاقته بزوجه، فيجد في هذا ما هو عسي أن يكربه كما يكرب من كان في مثل موضعه من ~~الناس، ولكنه يرى همه أكبر من تلك الأمور التي يعرفها ويظنها أسبابا له. # هل عادت السياسة تشغل نفسه؟ أم هل عادت معضلة الرق تقلق خاطره؟ أم أن ما يكربه اليوم هو ~~ما ذكرناه من قبل مما يكرب كل نفس كبيرة؛ إذ يحس صاحبها أنه قد يعيش مجهولا غير مفهوم؟ أو ~~الإرهاص الذي يسبق كل رسالة كبيرة؟ ولكن هذا الهم بين جنبيه من قديم ولا تزيده الأيام إلا ~~وضوحا. هو في الواقع ذلك الإحساس الذي يهجس في كل نفس ملهمة، والذي يبدو على ملامح صاحبها ~~في صورة من صور الهم، وما هو إلا التطلع للمستقبل تطلعا يكاد يخترق حجب الغيب. # وليته يجد في كنف امرأته ما يذهب عنه بعض همه، وأين هو من هذا وهي كثيرا ms145 ما تكون سبب ما ~~به؛ فما تزال تعنف عليه وتغلظ له في القول، وإن ذلك ليؤلمه وإن يكن ألفه ووطن النفس فيه ~~على الصبر، وإنما مرد ألمه إلى أن يطمع أن يسكن إلى زوجه كما يسكن الناس إلى زوجاتهم فلا ~~يجد إلى ذلك سبيلا. # على أنه يثق اليوم أن مسلكها معه وليد مزاجها الحاد وأعصابها المرهفة، فلم يعد يظن بنفسه ~~الظنون ويخشى أن يكون ذلك منها استخفافا بأمره، فهي تعيش اليوم في رغد بفضل ما يكسب من ~~مال، بنت طابقا ثانيا لمنزلها وقد أصبح المكان الذي يقع فيه من أحسن جهات المدينة، ~~واشترى لها زوجها عربة جميلة تغدو فيها وتروح في أنحاء سبرنجفيلد، وإن لم يره فيها الناس ~~قط! ولن يمر أسبوع دون أن تدعو الأصدقاء والصديقات إلى حفل بهيج تقيمه في بيتها، وقد جددت ~~أثاثه وزينته أحسن زينة، وبلغ عدد من حضروا حفلا عندها مرة ثلاثمائة من خمسمائة مدعو حال ~~المطر دون حضور بقيتهم! # وإنه ليضع ماله كله في متناول يدها لتصيب منه ما تشاء بغير حساب، وقد ترك لها أن تفعل ما ~~تحب فيما يتصل بأمر المنزل والحديقة، يثني على كل ما تفعل ويرضى بكل ما تقول. إذا عن لها أن ~~تسأله مرة عن أمر فجوابه الذي لا يملك غيره هو امتداح ما ترى هي من رأي، حتى ملابسه تشتريها ~~هي له كما تشتري ملابس أحد أبنائهما، وهو بهذه الطاعة يطمع أن يسكن هياجها ويخفف حدتها، ~~ولكنه يجد منها التبرم حتى بمسلكه هذا! قالت لأختها مرة: «إنه لا وزن له إذ يكون في البيت، ~~ولن يفعل هنا شيئا أكثر من أن يدفئ نفسه ويقرأ، وما ذهب إلى السوق مرة في حياته، وإني أنا ~~التي أعنى بكل هذا ... إنه لا يعمل شيئا، وإنه لأقل الناس فائدة وأضيعهم حياة على وجه ~~الأرض.» على أنها على الرغم من ذلك يشيع السرور في وجهها؛ إذ تثني أختها على أبراهام، ~~وتتنبأ له في غده بعظيم القدر. وكثيرا ما كان يراه صديقه في مكتبه ms146 قد بكر إليه قبله ~~بساعات، فيدرك لم ترك منزله هكذا مبكرا، وكثيرا ما كان يعلم أن صاحبه بقي بالمكتب في ~~الظهيرة فأكل بعض لقيمات وقليلا من الجبن يشد بها متنه، وكثيرا ما علم كذلك أن أبراهام ~~لبث في المكتب إلى قبيل منتصف الليل. # وقد تنتظر امرأته مقدمه عند الغداء، فلا يحضر، فترسل ابنيها الكبيرين يبحثان عنه، فإذا هو ~~في دكان يحيط به نفر من الناس بين عامل وحوذي ونجار وتاجر، وهو مسترسل بينهم في قصصه ~~ونوادره، يشاركهم في ضحكهم إذا ضحكوا ويسألهم عن أحوالهم إذا فرغ من حكاية، ويرد على ~~أسئلتهم، ويقرأ لهم خطاباتهم، كما كان يفعل وهو عامل في دكان أو وهو موظف في البريد. # فإذا انطلق إلى داره لم يمنعه تأخره حيث كان من أن يقف مرات يكلم هذا، ويرد على تساؤل ~~ذاك، ثم هو يعابث ابنيه ويمازحهما جاهرا بصوته، وهما يتواثبان حوله يحاول كل منهما أن يسبق ~~أخاه في تناول ما يمد به إليهما يده من حلوى، ويشرح أبوهما للناس سبب تصايحهما مرة بقوله: ~~«ما الحيلة وليس معي إلا ثلاث قطع وكل منهما يريد لنفسه اثنين؟!» وتعلم أمهما منهما بكل ذلك ~~فتغضب وتصرخ، فيطرق أبوهما برأسه، ويدعها في هياجها لا ينبس ببنت شفة حتى تنفس عن نفسها ~~غيظها كله. # ويحذر وهو يلاعب ابنيه في بيته أن تفاجئهم أمهما فتقلب سرورهم نكدا؛ إذ تعد عملهم عبثا ~~بالنظام؛ ولذلك يستصحب الابنين الكبيرين أيام الآحاد إلى المكتب، فيلاعبهما كيفما شاء، ثم ~~يدعهما يمرحان ويلعبان، وكأنما ينتهزان بعد رقابة أمهما فيأخذان من المرح والزياط بأكبر ~~نصيب، ويشهد أثر ذلك هرندن في اليوم التالي؛ فيما يرى من أوراق ممزقة ومقاعد ملقاة ومداد ~~سائل على القماطر! # ودخلت عليه ذات ليلة وبين يديه ضيف من رجال القانون، فسألته هل نفذ ما طلبت إليه من أمر، ~~فأجاب أنه نسي، فعنفته قائلة إنه يهمل ما تطلب إهمالا معيبا، ثم خرجت معجلة وشدت وراءها ~~مصراع الباب في عنف، فدقت به مصراعه الثاني دقة قوية، وعجب الضيف ونظر ms147 إلى أبراهام فضحك ~~يهون المسألة لصاحبه، ثم قال: «لو أنك علمت مبلغ ما في هذا العمل من شفاء لها ومبلغ ما فيه ~~من خير، وكيف تستمتع به حقا، ولو أنك عرفتها كما أعرفها؛ لسرك أنها تجد فرصة لتنفجر ~~ولتنفس عن نفسها ما تشعر به.» # وراض أبراهام نفسه على ألا يغضب مما تؤذيه به، فلا فائدة من الغضب ولا نتيجة له إلا ~~ازدياد غضبها وثورتها، ولقد بلغ بها الأمر أن رآها بعض الناس ذات يوم تدفعه إلى خارج البيت ~~بخشبة مكنسة قديمة! # على أن هرندن يجده ذات مرة قد بكر إلى المكتب، ويراه صامتا كئيبا يرد تحيته في صوت أجش ~~وفي كلمة مقتضبة، ويرى في وجهه عنفا وغضبا، ثم يلاحظ أنه يطيل الإطراق ويسترسل في ~~التفكير، ويلمح حمرة يحس أنها حمرة الخجل تمشي أحيانا في صفحة وجهه، ولكنه لا يسأله عما به ~~حتى يقبل عليه أبراهام يريد أن ينفس عن صدره فيقص عليه أمره؛ وذلك أن امرأته أخذت تغلظ له ~~في القول وتسيء إليه في الصباح الباكر، وهو لا يرد على ذلك بكلمة فلا تهدأ، بل تزداد عنفا ~~وتزيده إهانة حتى أحس أنه يفقد صبره شيئا فشيئا، فخرج من حجرة الطعام ليبتعد عنها، فلما ~~عاد إليها بعد لحظة لأمر اقتضى عودته عادت إلى صراخها، ولقيته بعاصفة جديدة أفقدته صبره ~~وأطارت صوابه، فأمسك بذراعها في عنف ودفعها في شدة وغلظة أمامه إلى الدهليز فالفناء، وما ~~زال يدفعها حتى قذف بها في الشارع، وفعل ذلك على أعين بعض الناس وكانوا في طريقهم إلى ~~الكنيسة؛ الأمر الذي أخجله أشد الخجل حتى وهو في سورة غضبه. # وهو إذ يرى زوجه تمد الموائد المرة بعد المرة في سخاء لصاحباتها، يجد نفسه عاجزا عن أن ~~يدعو إلى الطعام في منزله أحدا من أصحابه، حتى أهله وذوي قرباه، فلم يجرؤ أحد منهم أن ينزل ~~ضيفا عليه، وهم يعلمون من تكبر زوجه وعنفها ما يعلمون. # ولقد قدر على هذا الرجل أن يجد الشقاء في علاقته بالمرأة من أيامه، فطالما ms148 تألم لفقد ~~حبيبة قلبه إذ طواها الموت، ولطالما شقي بزوجته قبل زواجه بها من جراء حيرته وتردده، ثم ها ~~هو ذا يشقى بها بعد الزواج، وكان يأمل أن يجد بين يديها ما هو في حاجة إليه من الهدوء ~~والراحة بعد ما لقيه من عنت الأيام وقسوة الحياة. # ولكن قلبه الإنساني الكبير وتمكن العدالة من نفسه يجعلانه على رغم ذلك يعطف على المرأة، ~~فيتحمس لها إن استضعفت ويدافع عنها ما وسعه الدفاع. سئل مرة عن حقيقة إحساسه نحو المرأة ~~فأجاب بما يفهم منه أنه من أكثر الناس حبا للمرأة، ولكنه من أقلهم حظا في الظفر بما ~~يحب، وهو لا يعدم في أي موقف أن يوضح المعنى الذي يريد بحكاية أو نادرة، قال في هذا الصدد: ~~«أذكر أيام كنا نعيش في إنديانا أن صنعت أمي ذات يوم كعكا مخلوطا بالزنجبيل، فلما شممت ~~رائحته أسرعت إليها لآخذ نصيبي منه وهو ساخن، وناولتني أمي ثلاثة صنعتها لي على هيئة رجال، ~~فأخذتها ومضيت إلى ظل شجرة من أشجار الهكري القريبة لآكلها، وكانت تعيش على مقربة منا أسرة ~~أرق حالا منا، فبينا أنا في ظل الشجرة إذ أقبل صبي من تلك الأسرة وقال: أعطني واحدة من ~~الزنجبيل يا أيب، فمددت إليه يدي بها فالتهمها التهاما، وابتلع الرجل في نهم، بينما كنت لا ~~أزال أقضم الساقين، وعاد فسألني أن أعطيه رجلا آخر، وكنت أريده لنفسي، ولكني مددت يدي إليه ~~به فالتهمه كما التهم الأول، فقلت له: يظهر أنك تحب كعك الزنجبيل يا صاحبي؟ فقال ما من شخص ~~في الدنيا كلها يحبه كما أحب، وما من أحد ينال منه أقل مما أنال.» # ورأى الناس لنكولن يختلف إلى مغنية فيستمع إليها في إعجاب وشغف، ويتحدث إليها كذلك إذا ~~فرغت من غنائها، وضايقه بعض أصحابه باستنكارهم ذلك منه، وهز البعض رءوسهم محذرين فأجابهم: ~~«دعوني وشأني ... إنها المرأة الوحيدة التي أسمعتني أحاديث جميلة.» على أن أحدا من خصومه ~~السياسيين لم يستطع - وهو يتصيد له ما يشينه - أن يجد غميزة في خلقه ms149 من هذه الناحية. # وكان لأبراهام يومئذ؛ أي عام 1850، ثلاثة بنين، كان أكبرهم في السابعة من عمره، وثانيهم ~~يقرب من الخامسة، وثالثهم في سنته الأولى، ولئن أعوزه أن يحس السرور بين يدي زوجته، فلقد ~~كان يجد بعض العزاء عن ذلك في ملاعبة ابنيه وفي رؤية ابنه الثالث في مهده، ولكن الزمن ~~القاسي يأبى إلا أن يسدد إلى قلبه سهما من أحد سهامه وأوجعها، فينتزع الموت ابنه الثاني ~~وهو في الخامسة من عمره، فيذهب كما تموت الريحانة الغضة، ويجدد موته آلام أبيه وأشجانه، حتى ~~كأنها تجتمع كلها في هذا الموت. # وكأنما لم يكفه ما كان يلاقي من عنت زوجه حتى تأتيه المتاعب من جهة أخرى، فإن أقاربه ~~فضلا عن أبيه ومنهم ابن زوج أبيه جون جونستون لا يفتئون يطلبون منه مالا، ويرجعون إليه ~~فيما ينجم من خلاف ليصلح ذات بينهم، وحسبه ما كان فيه من شغل وهم. # وكان أبوه توماس لنكولن يومئذ شيخا كبيرا قد تجاوز السبعين، وكان يعيش في إلينوى عيشة ~~البساطة التي شاركه فيها ابنه زمنا، ولقد امتد به العمر حتى رأى ابنه الذي كان يحمل الفأس ~~معه في الغابة من ذوي المكانة، يعيش عيشة المدنية في سعة من الرزق، وكان يسر أبراهام أن ~~يرسل إلى أبيه ما يسعه إرساله من المال والهدايا، وكان دائم السؤال عنه بكتبه التي يرسلها ~~إلى من يقرؤها له ممن يعرفهم من المقيمين على مقربة منه. # وفي عام 1851 برحت العلة بالشيخ ودنا الموت منه، فكتب جونستون إلى أبراهام يخبره هذا ~~الخبر فعظم وقعه في نفسه، ولكنه لم يستطع أن يسافر ليرى أباه، فكتب إلى جونستون يقول: # إنك تعلم أني أريد ألا يحتاج أبي أو أمي # 1 # إلى شيء فيه راحتهما، سواء في مرضهما أو في عافيتهما، ما داما في عداد ~~الأحياء، وأشعر شعور اليقين أنك لم تدخر وسعا في الاعتماد على اسمي في استحضار ~~طبيب، أو أي شيء آخر يطلبه أبي في مرضه، إنني اليوم بحيث لا أستطيع أن أبتعد عن ~~بيتي، حتى ولو لم يكن ms150 مرد ذلك إلى سبب قائم هو مرض زوجتي، وإني لآمل أن يسترد أبي ~~عافيته، وعلى أي حال فإني أرجو منك أن تذكره بأن يتجه إلى خالقه ويدعوه، فلن يتولى ~~عنه العظيم الرحيم إذا دعاه في أية شدة، وهو الذي لا يغيب عنه موت العصفور ويعلم ~~عدد شعرات رءوسنا، ولن ينسى الخالق رجلا يقضي نحبه وقد وثق قلبه به. قل لأبي إنه ~~لو كان من المستطاع أن نلتقي الآن فإن لقاءنا يكون أدعى إلى الألم منه إلى السرور، ~~وإذا قدر عليه أن يفارق الحياة فإنه سينعم بأكثر من لقاء بكثيرين ممن سبقونا إلى ~~الموت، حيث يأمل بقيتنا أن يذهبوا بعد قليل برحمة من الله وفضل، اكتب لي ثانية بعد ~~وصول هذا إليك. # وكأنما يذكره موت أبيه بموت أمه، وإلا فما بال خيالها يطوف بخاطره أكثر من ذي قبل كأنها ~~هي التي تموت اليوم، وقد مر على موتها زمن طويل. # وإنه ليفضي إلى صاحبه هرندن ذات يوم بحديث عن أقاربه وصلته بهم، ويتطرق الكلام أثناء هذا ~~الحديث إلى منشئه، فيكشف لنكولن لصاحبه عن سر يتصل بأمه؛ وذلك أنه لا يعرف أجداده لأمه؛ فقد ~~كانت أمه التي أحبها والذي يجل ذكراها ابنة رجل مجهول، وسيظل هذا الرجل مجهولا أبدا، وكل ~~ما يستطيع أن يعرفه عنه أنه من أهل الجنوب، وبيان ذلك أن جدته لأمه كانت تعيش وهي فتاة في ~~ولاية فرجينيا في الجنوب، فأصبحت ذات حمل وإن لم تتزوج، ووجدت نفسها بعد أشهر الحمل تضع ~~أنثى، وكانت هي وحدها التي تعرف والد هذه الأنثى، ولقيت من أهلها أشد الغضب لزلتها، ولكنهم ~~احتضنوا بنتها فنشأت بينهم تنتسب إليهم وليست منهم، ذلك هو السر الذي يفضي به لنكولن إلى ~~صاحبه على ما فيه مما يوجب الكتمان. # ويردف أبراهام قائلا لصاحبه إنه إن كان ثمة من ميزة فيه لا يوجد مثلها في أحد من ذوي ~~قرباه، فمردها لا ريب إلى أجداده المجهولين من أهل الجنوب. # ويحرص أبراهام على وفائه لزوج أبيه بعد موته، ويدعوها أمه في ms151 كتبه التي يرسلها إلى ابنها ~~جون جونستون، وهو لا ينسى ما كان من حدبها عليه ومحبتها إياه بعد موت أمه، حتى لكأنه كان ~~ابنها، وقد كان يسمع عن زوج الأب ما زاده إجلالا ومحبة لهذه السيدة العطوف الرحيمة القلب، ~~التي أحس أنها تقوم منه مقام أمه التي ولدته. # حفظ لها جميل صنعها وهو الوفي بطبعه، العظيم الإنسانية بقلبه، وراح يدافع عنها ويمد لها ~~يد العون ويحميها حتى من طيش ابنها وسوء تدبيره. # وكان جونستون يكدر خاطر أبراهام بطلب المال منه المرة بعد المرة، وما يتكدر خاطره إلا لأن ~~هذا الطلب دليل على فساد جونستون أو كسله، اقرأ هذا الكتاب الذي أرسله إليه أبراهام، وقد ~~كثر طلبه المال منه، فستجد فيه أسلوبه في الإقناع وطريقته في الإحاطة بما يعن له من أمر، ~~ومهارته في أن يؤنب في غير إساءة أو استفزاز، وأن يجلو الرأي حتى ما يدع حجة لمجادل، وهذه ~~صفاته التي سوف تبرز غدا في مجال فسيح؛ هو مجال الصراع بين الشمال والجنوب بسبب معضلة ~~الرق، قال أبراهام: # عزيزي جونستون # لست أرى من الخير الآن أن أوافقك على طلبك، فأرسل إليك تلك الريالات الثمانين. ~~لقد كنت تقول في كل مرة من المرات السالفة التي أعنتك فيها إعاناتي اليسيرة إنك ~~سوف تسير في الحياة بعدها سيرا مرضيا، ثم لا ألبث أن أجدك حيال صعوبة تعترض لك، ~~وليس يحدث ذلك إلا لعيب في مسلكك، وأظنني أعلم ماذا يكون ذلك العيب، ليس الخمول من ~~صفاتك، ولكنك مع ذلك تتقاعد، وإني لأشك في أنك منذ رأيتك قد ملأت بالعمل يوما ~~واحدا من أيامك، إنك لا تكره العمل كرها شديدا، ومع ذلك فإنك لا تحب أن تقبل ~~كثيرا على العمل؛ لما يخيل إليك من أن ذلك لا يعود عليك بكثير جدوى. إن هذه ~~العادة، عادة إضاعة الوقت في غير ما يجدي، هي سبب ما تلقى من مصاعب، وإنه لأمر ~~عظيم الأهمية بالنسبة لك، وأعظم أهمية بالنسبة لأولادك أن تتخلص من هذه العادة، وهو ~~أعظم أهمية ms152 بالنسبة لأولادك؛ لأن أمامهم أن يعيشوا أطول مما تعيش، ولأيسر ~~عليهم أن يتجنبوا عادة سيئة قبل أن تحيط بهم من أن يخرجوا منها بعد إذ دخلوها. إنك ~~الآن محتاج إلى بعض المال، وإني أقترح أن تؤدي عملا ما بسنك وظفرك لمن يدفع لك ~~أجرا على هذا العمل، ولكي أضمن لك جزاء حسنا على اجتهادك، فإني أعدك أن أدفع لك ~~نظير كل ريال تكسبه أو تنقصه من دينك ريالا من عندي، وذلك منذ اليوم حتى أول ~~مايو، وبهذا فإنك إذا استؤجرت بعشرة ريالات كل شهر تحصل مني على عشرة مثلها، فيجتمع ~~لك عشرون ريالا في الشهر أجرا لعملك. ولست أعني أن تذهب بعيدا إلى سنت لويس، أو ~~إلى مناجم الرصاص، أو مناجم الفحم في كليفورنيا، وإنما أعني أن تبحث عن أحسن أجر ~~يمكنك أن تحصل عليه على مقربة من مقرك، إنك إن فعلت هذا تخلصت من دينك وظفرت بما هو ~~خير من ذلك؛ ألا وهو عادة تعصمك من الوقوع في الدين كرة أخرى، ولكني إن خلصتك من ~~دينك الآن، فإنك سوف تغرق منه في عامك القادم إلى مثل ما تغرق كل حين. # تقول إنك تكاد تعطي مكانك في الجنة في مقابل سبعين أو ثمانين ريالا، وإنك بذلك ~~لتجعل لمكانك هذا قدرا رخيصا جدا؛ لأني واثق أنك تستطيع مع ما أعدك به من عون ~~أن تحصل على هذا المبلغ، إذا اشتغلت أربعة أشهر أو خمسة. وتقول كذلك إنك مستعد أن ~~تودع قطعة الأرض رهينة عندي إذا دفعت لك ذلك المال؛ حتى إذا عجزت عن سداده تنازلت ~~عن ملكك إياها، ألا إن هذا للغو! فإذا كنت لا تستطيع العيش ومعك الأرض، فكيف تستطيع ~~أن تعيش بدونها فيما بعد؟! لقد كنت دائما رحيما بي، ولست أقصد أن أكون بك اليوم ~~غير رحيم، كلا، فإنك إن قبلت نصحي كان أغلى لك ثمانين مرة من الريالات ~~الثمانين! # أخوك المحب أ. لنكولن # وظل جونستون في اضطرابه وكسله حتى لم يعد يجد أمامه مخرجا إلا أن يبيع ما ms153 خلف زوج أمه من ~~أرض، ولكن أبراهام عارض في ذلك معارضة شديدة وكتب إليه كتابا شديد اللهجة يمنعه ويحذره، ~~وحاول أبراهام أن يحول بينه وبين أن يبيع نصيب أمه في هذه الأرض ولكنه لم يفلح، وكان يخشى ~~أبراهام أن تسوء حال زوج أبيه، وإنه ليألم ألا يستطيع أن يدعوها لتقيم معه في بيته، وكذلك ~~كان لا يفتأ يسأل عن حالها ويمدها بما يستطيع من عون، وكتب يعرض على جونستون أن يرسل إليه ~~أحد أبنائه ليربيه عنده. # وانقضى عامان، فبعد أن فرغ ذات ليلة من محاضرة عامة كان يلقيها في مدينة صغيرة، أشار إلى ~~أحد الرجال وانتحى به جانبا وهمس في أذنه قائلا: «إن عندك في السجن فتى حدثا أريد أن ~~أراه على ألا يعلم أحد بذلك.» وكان هذا الحدث هو أحد أبناء جونستون، وكان متهما بسرقة ساعة ~~وبعض أشياء أخرى، وقال أبراهام: «إني سأنقذه مما هو فيه هذه المرة، ولئن عاد بعدها إلى ~~السرقة فلن تكون لي به صلة.» # وذهب أبراهام وكلم ذلك الفتى من خلال قضبان السجن، ثم وقف يتحدث مع أصحاب المتاع المسروق، ~~وما زال بهم حتى أقنعهم بالعدول عن الاتهام بعد أن دفع لهم ثمن مسروقاتهم، وتوصل بهذا إلى ~~إطلاق سراح الفتى، ولقد وصفه من شهد موقفه يومئذ فقال: «لقد كان أبراهام شديد الأسف، وما ~~رأيته قط يبدو على وجهه أكثر من هذا الحزن.» # وحق له أن يحزن وهو بفعلته هذه يقف في وجه العدالة، فينقذ من القصاص مجرما، ثم إنه لقي ~~عنتا شديدا من أصحاب المتاع المسروق، وأحس بين أيديهم بالخجل الشديد، وليس هذا بالأمر ~~الهين على من كان في مثل مركزه ومن كان له مثل خلقه، على أنه يحتمل ذلك من أجل زوج أبيه، من ~~أجل تلك المرأة الطيبة الرحيمة التي أحسنت معاملته وهو حدث، وإن قلبا مثل قلبه الكبير لا ~~يمكن أن ينسى صنيعا، وكيف ينسى وهو يسعى بالمعروف أبدا لكل من يطلب المعروف؟! فكيف به حين ~~يرد الجميل لمن بدأه بإحسانه؟! # | نظرات وخواطر ms154 # كان أبراهام قد بلغ أشده واستوى، وأخذت نظرته إلى الحياة والناس تزداد عمقا في أول العقد ~~الخامس من عمره، ولكنه ما برح يحس كأن شيئا يقلقه، شيئا خفيا لا يجهله ولا يدريه يشغل ~~باله وينقبض له صدره، فهل أخذت السياسة توسوس له من جديد فهو يتأهل لها ويتحفز؟ # ويلاحظ أصحابه أن أمارات الحزن التي ارتسمت على وجهه منذ حداثته تزداد وضوحا كلما تقدم ~~به العمر، وقد ازداد ما يخطط ذلك الوجه من تجاعيد هي من أثر الهم لا من أثر السنين، وهو على ~~الرغم من عذوبة روحه في أحاديثه وطلاقة بشره في قصصه، تنطوي نفسه على كثير من الهم لا يتبين ~~مبعثه، وهو إذا خلا إلى نفسه فكر وأمعن في التفكير، وتربد وجهه وانعقدت عليه كآبة مخيفة ~~ينزعج لها خاطر من يراه، وكثيرا ما وافاه صديقه هرندن وهو على هذه الحال، وكثيرا ما سمعه ~~يغمغم بمثل أنين المحزون. # سمعه أحد رفقائه في السفر أثناء تجواله إلى المحاكم، وقد نهض ذات صباح مبكرا، يحدث نفسه، ~~واستمر يفعل ذلك بضع دقائق وهو يلبس ملابسه، حتى لقد ظن صاحبه به الظنون، وحسب أنه قد مسه ~~الخبل بغتة، ثم رآه صاحبه يضع كفيه على وجهه وقد أطرق مليا حتى نبهه جرس الطعام في فناء ~~الفندق، فوثب واقفا وفي وجهه حزن عميق! # وكان إذا سمع أبراهام مغنيا يغني قطعة حزينة، يسأله أن يكتبها له فيترنم بها ويرددها، ~~كأنما يجد فيها عزاء لنفسه أو شفاء لهمه. # وكثيرا ما يتأمل في الكون تأمل الشاعر تارة وتأمل الفيلسوف تارة أخرى، حدث عنه مضيف له ~~في شيكاغو مرة أنه جلس ذات ليلة موزع البصر بين البحيرة العظيمة والسماء، ثم نظر نظرة طويلة ~~في النجوم، وراح يحدث من حوله عما بينها من مسافات هائلة وعما توحيه إلى النفس من شعر وسحر، ~~وعن العلم وما كشف من أبعادها وأحجامها، وعن المناظر المكبرة وما يرجى من فوائدها وما يتوقع ~~من تقدمها، كل ذلك في حسن سياق ودقة وصف وصحة فهم. # وكان يبدو ms155 شديد المرح أحيانا فيرسل طائفة من النكات واحدة تلو الأخرى، ويقص بعض نوادره ~~وحكاياته، فما يشك سامعه أنه من ذوي النفوس الراضية التي لا تعرف الهم، ولكن واعيته الباطنة ~~في الواقع هي التي كانت تميل به إلى هذا تخلصا مما يساوره من هم، وكثيرا ما كان يتلمس ~~السلوة في مثل هذه الأحاديث، وما كان ميله إلى الفكاهة إلا نوعا من الهرب مما يوسوس به ~~الهم في صدره. # وكان يخيل إلى محدثه أنه مصيخ إليه مقبل عليه، إذ هو في الواقع في شغل عنه بما يهجس في ~~خاطره من قلق أو يعتلج في نفسه من ضيق، فلا يلبث أن يقطع الكلام على محدثه في صوت عال ~~مندفعا في كلام لا يمت إلى ما يقول بصلة! وكثيرا ما كان يبعث الضحكة العالية تصحبها هزات ~~من رأسه وقد ساد الصمت بعد الصخب في مجلس من المجالس التي تحتويه، وليس الموضع موضح ضحك، ~~فيعجب الجالسون من فعله إلا من يعرفه منهم، وقد يخرج دفترا صغيرا من جيبه فيدون فيه بعض ~~كلمات أو يقلب صفحاته، ثم يسترسل في سرد قصة أو يبعث فكاهة في إثر فكاهة. # وهو منذ حداثته يأبى إلا أن يرسل نفسه على سجيتها لا يقيد نفسه بشيء، وما تزيده الأيام ~~إلا حرصا على رغبته في التخلص من القيود، لا يعنى بمظهر، ولا يلتزم وضعا من الأوضاع في ~~ملبس أو مأكل، وكان قوي البنية نشيط الحركة لا يركن إلى قعود، وذلك دأبه منذ كان في الغابة، ~~وهو في جميع أفعاله تتكشف جوانب نفسه عن طبيعة صادقة كأنما تتحرك عن إلهام أو تعمل بوحي، ~~وتتمثل فيه البشرية في سذاجتها وكمالها وفي ضعفها وقوتها، ويلمح الناس في سجاياه براءة ~~الطفل، وتوقد عاطفته إلى جانب نزعات الفيلسوف ورجاحة عقله. # وكأنك تقرأ سجاياه في أسارير وجهه، وتحس فيها ما تعوده في حياته من البأساء والضراء، فإذا ~~نظرت إلى صورته رأيت شبح حياته الأولى في رأسه الأشعث، ولمحت زكانة نفسه في جبهته العالية ~~العريضة، وأحسست طيب قلبه وصفاء ms156 طويته ورقة عاطفته ونفاذ بصيرته في عينيه الوديعتين ~~المتسائلتين، وتبينت صرامته ومضاء عزيمته في أنفه الغليظ الأشم، ثم أبصرت قوة صبره وشدة ~~تحمله وروعة استسلامه تختلج كلها على شفتيه المضمومتين المعبرتين عن مض الحوادث، وطالعتك من ~~هاتيك الملامح في جملتها سذاجة الأطفال وهيبة الرجال، ثم تهلل من وراء ذلك كله سر العبقرية ~~الذي يدق عن كل وصف ويسمو على كل تحليل. # وكان يلوذ بالكتب إذا فرغ من قضاياه وخاف وساوس همه. وإن له في الكتب لغنية ومتعة، وقد ~~ازداد شغفا بشكسبير؛ إذ يرى ومض عبقريته يمس النفس البشرية فينير أكثر نواحيها، وهو مولع ~~منذ حداثته بدراسة النفس البشرية والغور إلى أعماقها، ومن غير شكسبير يهديه السبيل؟ لذلك ~~كان إذا تناول كتابا من كتب القانون ساعة أو بعض ساعة ثم ألقاه، عمد إلى مأساة أو ملهاة من ~~آثار شكسبير فأكب عليها ونسي كل شيء سواها، فإذا أتى عليها فكر وفكر وظل شاخصا ببصره في ~~ثرى الأرض أو في لازورد السماء، كأنما أخذته عن نفسه حال. # وكانت له في بعض آثار بيرون متعة، ومن بينها قصته العظيمة دون جوان، وهو بين هذا وذاك ~~يقلب صفحات التاريخ العام وصفحات تاريخ بلاده، ويقرأ الفلسفة فيدرس كانت ولوك وفخت وإمرسون ~~وغيرهم. # ومن عجيب أمر هذا العصامي أنه تناول فيما تناول كتب العلوم وأخذ يدرسها، وقد جعل لها ~~ساعات من فراغه؛ فهذا علم النبات له نصيب من جهده، وذاك علم الحيوان له نصيب، ثم هذه ~~الكهربة تصيب من عنايته حظا ليس باليسير! # ولكن ما العجب؟ وهل تضيق العبقرية عن شيء؟ هذا لنكولن ابن الغابة الذي علم نفسه، لو لم ~~يكن المحامي أو رجل السياسة ما قعد به شيء عن أن يكون الشاعر الفحل! أو لو أنه أفرغ إلى ~~العلم جهده وجعل للدراسة والتحصيل وقته، لكان لنا منه العالم الفذ أو الفيلسوف المبتدع. وهو ~~في ذلك أكثر الناس شبها بجوت شاعر ألمانيا الأكبر، الذي يجمع بين اللمعة الخيالية والنظرة ~~العلمية والحكمة العملية. # وفكر أبراهام في المسيحية وقلب ms157 الرأي على وجوهه في تلك العقيدة، وكان شأنه إذ يفكر فيها ~~كشأنه في كل ما يعرض له من أمر، فاستقلال الفكر قوامه والمنطق سبيله، والإحاطة بالموضوع من ~~جميع أقطاره غايته، ثم إنه يقابل بين الآراء ويتقصى تفاصيل كل رأي في غير تحيز، حتى يتبين ~~ما لهذا الرأي وما عليه، ويخلص من هذا إلى النتيجة التي يراها فتكون في ذهنه واضحة كل ~~الوضوح. # وكان في صدر شبابه لا يتحرج من إعلان رأيه في هذه المسألة، وهي ما يتحرج منها معظم الناس، ~~ولقد أشيع عنه وهو في نيو سالم أنه كافر ينكر الله على الرغم من تمثله في أحاديثه وخطبه ~~بالإنجيل ومواعظ الإنجيل، ولكنه أخذ يتحفظ في رأيه بعد ذلك فلا يفضي بما يعتقد إلا إلى ~~خواصه، على أنه لم يظهر مرة غير ما يبطن، فما يتكلم إلا بما يعلم، على قدر ما يتفق له من ~~فهم. # حدث هرندن عن صديق لأبراهام كتب عنه وهو في الثلاثين من عمره، فقال: «لقد كان يركن ~~أحيانا إلى مبدأ إنكار الله، ولقد ذهب في هذه الناحية إلى مدى بعيد روعني، وكنت وقتها ~~حدثا أعتقد فيما تقوله لي أمي الطيبة، وكان يأتي إلى مكان الكتاب حيث كنت أجلس وبعض ~~الفتيان، وقد أحضر معه الإنجيل فيفتحه ويقرأ فصلا منه ثم يأخذ في تفنيده.» # وحدث ستيوارت أول شريك لأبراهام فقال: «لقد ذهب في معارضة العقائد المسيحية وقواعدها ~~ومبادئها إلى أبعد مما ذهب إليه أي رجل سمعت عنه ... وقد أنكر لنكولن دائما أن المسيح ابن ~~الله كما تفهم وتدين الكنيسة المسيحية، وبعد ذلك بعشرة أعوام علمت من القاضي دافسن أن ~~أبراهام لا يؤمن بالمسيحية كما تأخذ بها الكنيسة، وليس يؤمن إلا بالقوانين والمبادئ والعلل ~~والنتائج.» # وحدث آخر عنه فقال: «كان يصدق بخالق خلق كل شيء لا أول له ولا نهاية، وله القدرة كلها ~~والحكمة، وقد وضع ذلك الخالق مبدأ تتحرك العوالم طوعا له وتقوم به، ويعيش الحيوان والنبات ~~على مقتضاه. ويورد لعقيدته هذه سببا هو أنه بالنظر إلى ما ms158 في الطبيعة من نظام واتساق، نجد ~~أن مجيئها على هذه الصورة المحكمة بطريق المصادفة أدعى إلى العجب مما لو كانت من خلق قوة ~~عظيمة مدبرة أحكمتها ... إن ما جاءنا من بينة على ما في المسيح من الله قد أتى على صورة ما، ~~يحيط بها الشك، ولكن نظام المسيحية كان نظاما جيدا على الأقل.» # ومما ذكره كذلك عنه، هذا الرأي: «إن ما عبر به لنكولن عما يرى في هذا الأمر وما يتصل به ~~يخرجه من دائرة المسيحية، ومع هذا فإن مبادئه وما يجري عليه من أمور حياته والروح المسيطرة ~~على حياته كلها، لا تخرج عما يتفق الكافة على عده من المسيحية.» # وقالت زوجه بعد موته: «لم يكن لمستر لنكولن عقيدة ولا أمل فيما يصدق عادة من تلك الكلمات، ~~ولم يتصل بكنيسة قط، بيد أنه مع هذا كان كما أعتقد رجلا دينا بفطرته ... وكان الدين نوعا ~~من الشعر في طبيعته، ولم يكن مسيحيا بالمعنى المتعارف عليه.» # وقال أبراهام مرة إن مذهبه كمذهب رجل شيخ سمعه مرة يقول عقب اجتماع من اجتماعات الكنيسة: ~~«إني إذا فعلت الخير أحسست بالخير، وإذا فعلت الشر أحسست بالشر، وهذا هو ديني.» وذكر هرندن ~~رأيه فيه فقال: «ما من رجل يؤمن بالله في قوة وثبات أكثر مما يؤمن لنكولن، ولكن ينبغي ألا ~~نأخذ تكراره لفظ الله في آخر حياته على أنه يعني إلها مجسدا. وفي سنة 1854 طلب إلي أن ~~أحذف كلمة الله من خطاب كتبه وقرأته عليه لينقده؛ وذلك لأن عبارتي كانت تشعر بأني أقصد ~~إلها في شخص، وإنه ليصر على أن مثل هذه الشخصية لم يكن لها وجود قط.» # وما يعنينا من أمره هذا إلا مبلغ ما فيه من دلالة على استقلال رأيه، وإصراره على تبين ما ~~يأخذ مما يدع من أمور الحياة كلها، ولو كان ذلك الأمر هو الدين، ثم حرصه في كل شيء على ~~الاقتناع والفهم، ثم تصريحه بما يعتقد في غير التواء أو مواربة، وما ذلك إلا لأن الرجل قد ~~جبل على أن يسير ms159 على سجيته، وأن يعمل بوحي من فطرته، وفي هذا جانب من جوانب عظمته وناحية من ~~دعائم قوته. # وعجيب بعد ذلك ألا يخلو هذا الرجل الذي يتفلسف في دينه هذا التفلسف، ويتدبر فيه هذا ~~التدبر، من صفة تحملنا على العجب منه أعظم العجب، وتجعلنا من أمره حيال تناقض ليس من الدهشة ~~منه بد؛ وذلك أن لنكولن يؤمن، أو على الأقل يذعن، لتلك الناحية الخرافية من أوهام الناس؛ ~~فيصدق في فائدة حجر من الأحجار مثلا، ويرى في بعض الظواهر أمارات خير أو شر مقبل، كما يفعل ~~بسطاء الناس إذ يرون مثل ذلك في رفيف العين مثلا، ويعلن أهمية كبيرة على الأحلام، ويجتهد ~~في استنباط ما عسى أن تنبئ عنه أو تدل عليه، وتحدثه نفسه أحيانا وتوسوس له فيترقب في ~~اطمئنان أو في خوف. # عض ابنه كلب مجنون فحمل أبراهام الطفل مسافة طويلة إلى إنديانا ليلمس هناك حجرا مشهورا ~~يؤمن الناس أن لمسه يصنع العجائب، وأي فرق بينه في هذا العمل وبين فلاح ساذج محتطب ممن ~~اختلط بهم أمس في الغابة؟! بل أي فرق بينه اليوم وبينه أيام كان ينصت وهو في كوخ أبيه في ~~الغابة إلى صفير الرياح في ثقوب ذلك الكوخ، أو إلى خشخشة الأغصان على بعد في الظلام كأنها ~~صوت ينبعث من البحر؟! وإذا كانت هاتيك الأوهام قد انبثت في نفسه في ذلك العهد، فكيف لم تقض ~~عليها قراءاته وخبرته وصلته بدنيا العلم والحضارة؟ ترى هل فعل ما فعل من فرط محبته ابنه، ~~فهو ينتقل به إلى ذلك الحجر كما يصنع الغريق إذ يحاول أن يمسك شعاع الشمس؟ أم ترى أنه كان ~~يؤمن أن في الحجر سرا يشفي كما يصدق بسطاء الناس؟ ذلك ما يحار عنده المرء فلا يرى وجه ~~الصواب فيه. # صدق أبراهام بالعلامات والأحلام والعجائب، فذلك أمر يحسه في نفسه، وليس مرده إلى العقل ~~والمنطق، وظل مصدقا بها عمره كله، يرتقب ما توحي به من خير أو شر، ولكنه لم يصدق أنها تلوي ~~القدر عن وجهه؛ لأنه يؤمن ms160 أن كل شيء مقدر على المرء من قبل أن يبرأ، فلا تجدي وسيلة من ~~صلاة أو دعاء في تغيير ما تجري به المقادير. يقول في ذلك: «إن كل أثر له سببه؛ فالماضي سبب ~~الحاضر، والحاضر سوف يكون سبب المستقبل، ليس في فلسفتي أن شيئا يأتي عفوا ...» # ولذلك فإنه وإن نظر في الأحلام وما عسى أن توحيه، وفي بعض العلامات وما عسى أن يكون ما ~~تنذر أو تبشر به؛ لا يأخذ بها فيما هو فاعل من شيء؛ فلن يغير خطة رسمها أو يقبل على عمل ما ~~لأن حلما من الأحلام يوحي بذلك، أو نذيرا من النذر يوسوس به، أو بشيرا يومئ إليه؛ فكل ~~أولئك لا يقره عقله. ولكنه على الرغم من ذلك يحس ويتوقع ويخاف ويستبشر، كما حدث في آخر يوم ~~من حياته؛ إذ أفضى إلى صاحب له أن فؤاده يحدثه بمكروه، وكما حدث إذ تحدث إلى هرندن ذات يوم ~~قبل ذلك بأعوام قائلا: «بلى ... إني لأخشى أن سوف تأتي نهايتي على صورة مرعبة!» # | شمال وجنوب! # كان اتساع هوة الخلاف بين الشمال والجنوب أمرا لا بد أن تفضي إليه الظروف؛ فإن مشكلة ~~الرق أمست كبرى المشاكل القومية، حتى إنه ليمكن القول بأن أكثر ما نجم من المسائل منذ منتصف ~~القرن التاسع عشر، إنما يرد إلى تلك المشكلة التي أعضلت على الحل، والتي وصفها جفرسون من ~~قبل وصفا بليغا في قوله: «إنها مثل الذئب نمسكه من أذنيه فلا نستطيع أن نظل ماسكيه، ولا ~~نستطيع أن نطلقه ونضمن السلامة.» # خفف اتفاق مسوري حدة الخلاف بين الشمال والجنوب زمنا ليس بالقصير، فقد عقد ذلك الاتفاق ~~سنة 1820، وعاد الخلاف يتهدد الاتحاد بسبب مسألة كليفورنيا سنة 1850. # أراد الجنوبيون أن تكون كليفورنيا من ولايات الاسترقاق، وأراد الشماليون أن تكون من ~~الولايات الحرة، وشايع أهلها الشماليين فيما ذهبوا إليه، واحتدمت الخصومة بين الجانبين، حتى ~~بلغ الأمر بالجنوبيين أن رددوا كلمة الانسحاب من الاتحاد، وحتى ظن بعض الناس أن هذا الخلاف ~~الجديد لا بد مؤد إلى انقسام البلاد إلى ms161 اتحاد شمالي واتحاد جنوبي. # كان أهل الجنوب ينظرون في قلق إلى تزايد عدد الشماليين نتيجة لما درته الصناعة والتجارة ~~عليهم من خير، ونتيجة لتيسير سبل الاتصال بين الشرق والغرب بتعبيد الطرق ومد سكك الحديد؛ ~~مما أدى إلى نزوح أهل الشمال إلى الجهات الغربية يعمرونها وينسلون فيها، هذا إلى أن دعاة ~~التحرير تزداد أصواتهم ارتفاعا، كأن لم تكف أهل الشمال عداوتهم السلبية للرق فيريدون أن ~~يقضوا عليه بين يوم وليلة. # لهذا أصر الجنوبيون على أن تكون كليفورنيا من ولايات الرق، فإن سكان الولاية عند الانتخاب ~~للمجلس النيابي يقدر عددهم على أساس البيض كلهم مضافا إليهم ثلاثة أخماس السود، وكان ~~الجنوبيون يطمعون أن يعمروا بقاعا جديدة، كما يفعل الشماليون وينشروا فيها الرقيق، فلا أقل ~~اليوم من أن يقروا مبدأ الرق في كليفورنيا، وما أجدرهم أن يعظم سخطهم على الشماليين لوقوفهم ~~بينهم وبين ما يبتغون، وكان الرئيس يومئذ هو تيلور، فأعلن رأيه مؤيدا الشماليين قائلا في ~~صراحة إن من السخف أن يحمل أهل كليفورنيا على أمر لا يريدونه، وزاد رأيه هذا بالضرورة سخط ~~أهل الجنوب، وملأ قلوبهم غيظا وثورة، ولكن تيلور ما لبث أن مات وحل محله نائب الرئيس، فسهل ~~موته العمل على الوصول إلى اتفاق جديد؛ إذ كان تيلور عنيدا يتمسك برأيه ولو أنه بقي لبعد ~~الأمل في التسوية، وكان نائبه سهل الخلق لا يأبى إذا حزبه أمر أن يترك الرأي فيه لمن يراه ~~أقوى على الخلاص منه. # ومن عسى أن يدبر للبلاد مخرجا من هذه الأزمة؟ بهذا تلفت الناس يتساءلون، فاتجهت قلوبهم ~~إلى صاحب اتفاق مسوري؛ إلى هنري كليي، ومن غير كليي إذا اشتد بالناس الخلاف؟ وكان الرجل ~~في عزلته منذ فشله سنة 1844، وقد تقدمت به السن وأخذ الضعف يدب في بدنه، ولكنه وقد أهاب به ~~داعي الوطن لم يكن ليستطيع أن يتخلف وهو الشهير بصدق وطنيته وقوة حرصه على بناء الاتحاد، ~~فبرز من عزلته يمد يده إلى وطنه من جديد. # وأملت عليه مهارته حلا يرضي الجانبين المتنازعين؛ فلتكن كليفورنيا ولاية ms162 حرة كلها، وإن ~~كان ما يقرب من نصفها يقع جنوبي خط اتفاق مسوري، وفي مقابل ذلك تفتح للرق أريزونا ومكسيكو ~~الجديدة، وهما من البقاع التي لم تستعمر بعد استعمارا تاما، إذا شاءت حكومتاهما ذلك بعد ~~تكونهما، وإنما يكتفى الآن بتقرير المبدأ. يبقى بعد ذلك أمران؛ أولهما: وجود الرق منذ القدم ~~في منطقة كولومبيا التي تقع فيها مدينة وشنطون، بل ووجود مستودع كبير للرقيق على خطوات من ~~مقر الحكم، وهذا مما اشمأزت منه قلوب الأحرار، وتأذت نفوسهم سنوات طويلة، وكان مصدر شقاق ~~وشحناء بين أنصار التحرير والمتمسكين بالرق. أما الأمر الثاني: فهو قانون الرقيق الآبقين ~~إلى ولايات غير التي كانوا فيها، وكان يقضي الدستور بإعادتهم إلى حيث كانوا، ولكن كثيرا من ~~الولايات أصدرت تشريعات محلية تعطل حكم الدستور في هذا الأمر. # ورأى كليي في أول الأمرين أنه مع الاعتراف بأن كولومبيا منطقة من مناطق الرق، إلا أنه ~~يجب أن يوقف بيع العبيد وشراؤهم في العاصمة، وفي ذلك ما ترتاح له نفوس الشماليين وأنصار ~~التحرير على العموم، ورأى في ثاني الأمرين أن تنفذ الولايات حكم الدستور فيعاد الآبقون إلى ~~ولاياتهم، ولا يحق للولاية التي لجئوا إليها أن تدافع عنهم، وفي هذا ما يرضي أنصار الرق ~~الذين خافوا من تسرب الرقيق إلى الولايات الحرة فرارا من العبودية. # وهكذا يحاول كليي كما فعل في اتفاق مسوري سنة 1820 أن يرضي الجانبين في اتفاق كليفورنيا ~~سنة 1850، وقد ارتاح الناس في الشمال والجنوب لهذا الاتفاق؛ حرصا على الاتحاد. # ولكن ارتياحهم - وا أسفاه! - لم يطل؛ فلم يلبثوا حتى دب بينهم الخلاف؛ إذ كان اتفاق ~~كليفورنيا، على الرغم مما في ظاهره من عوامل التوفيق، ينطوي على أسباب قوية النزاع. # كره أهل الشمال تنفيذ حكم الدستور فيما يتعلق بالرقيق الآبقين، ورأوا في ذلك تمكينا ~~للرق، وهم يعملون على استئصاله. وكان قد صدر قانون سنة 1793، بمقتضاه يتعقب مالك الرقيق أو ~~من ينوب عنه طلبته، حتى إذا وقع عليها قدم حيث وجدت للسلطات ما يثبت ملكيته، وبذلك يحصل ~~على أمر مكتوب، به ms163 يستطيع أن يرجع بالهاربين إلى مقرهم، ويحكم بغرامة قدرها خمسمائة ريال ~~على من يضع العقبات في سبيله. ولم يكن للرقيق الفارين حق الدفاع عن أنفسهم، وقد احترف بعض ~~الناس تصيد هؤلاء الآبقين نظير أجر معلوم. وكثيرا ما كان هؤلاء المحترفون يضعون أيديهم على ~~أي فريق من السود ممن لا يتبعون أحدا، ويقسمون جهد إيمانهم أنهم هم المطلوبون؛ وعلى هذا ~~فلن ينفع السود الفرار إلا أن يبلغوا كندا. وقد وصف القصصي العظيم شارلز دكنز تلك الحال ~~عند زيارته أمريكا، فكان مما قاله: «باسم الرأي العام وضع ذلك القانون، كان لأي شرطي في ~~وشنطون - تلك المدينة التي سميت باسم زعيم الحرية الأمريكية - أن يأخذ بناصية أي رجل من ~~السود ويلقي به في السجن وإن لم يرتكب أية جريمة، وحسب الشرطي أن يقول إنه يظن ذلك الأسود ~~من الآبقين، ويمكن الرأي العام لهذا الشرطي أن يعلن في الصحف عن هذا الأسود، فيدعو مالكه أن ~~يأتي فيطلبه وإلا بيع ليدفع نفقات الحبس، ولنفرض أنه قد تبين أن هذا الأسود ليس يملكه أحد؛ ~~أعني أنه حر، فالذي يتبادر إلى الذهن هو إطلاق سراحه، ولكن الحال لم يك كذلك، وإنما كان ~~يباع ليكون ثمنه عوضا لسجانه، وكان يقع ذلك ثم يقع مثنى وثلاث ورباع، وليس للأسود ما يثبت ~~به حريته، ولم يكن له ولي ولا ناصح ولا رسول ولا مساعد على أية صورة ولا من أي نمط، وربما ~~كان هذا الأسود ممن خدموا سنين طويلة ثم اشترى حريته، ولكنه هكذا يلقى به في غيابة السجن في ~~غير ما جريرة ولا تفكير في جريرة، ثم يباع ليدفع نفقات سجنه.» # تلك هي حال الفارين حتى سنة 1850، وكانت بعض الولايات الشمالية قد أرادت أن تشترط أن يثبت ~~طالبو الفارين السود أن هؤلاء كانوا رقيقا لم يعتقوا قبل فرارهم، ولكن المحكمة العليا ~~أصدرت وهي المرجع في تفسير لدستور سنة 1842 قرارا مؤداه أن تدخل الولايات في هذا الشأن ~~عمل غير دستوري، وأراد أهل الجنوب أن يزيدوا سلطة ذلك القانون البغيض، وعلى ms164 ذلك أضافوا إلى ~~مواده بعد اتفاق كليفورنيا ما زادوا به الغرامة على من يعوق تنفيذه إلى ألف ريال مع الحبس ~~ستة أشهر، وفضلا عن ذلك يكون عرضة للعقاب من لا يلبي طلب المساعدة عند القبض على ~~الفارين. # ولقد ترتب على ذلك أن ازداد الناس نفورا واشمئزازا من هذا القانون، وبسبب تنفيذه احتدمت ~~المعارك بين الشرطة والناس في بعض الولايات الشمالية، ودخل السجن بعض ذوي المكانة من ~~الأساتذة والأطباء ورجال الدين، وتنبه إلى دعوة التحرير من لم يكونوا يبالون بها من قبل، ~~وطاف بالناس شعور عام أن الرق لم يعد يطاق، وأنه عمل تتبرأ منه الإنسانية، وخليق أن يخجل ~~منه كل منصف، وألا يسكن أولوا النخوة حتى يقضوا عليه. # وفي سنة 1854 نجمت مشكلة جديدة عصفت باتفاق كليفورنيا، ولما يمض عليه إلا أربع سنوات، ~~وزلزلته من أساسه؛ وتلك هي مشكلة كنساس نبراسكا، وكانت البلاد قد فقدت هنري كليي منذ سنتين ~~وانطوت حياة الرجل الذي عمل مرتين على حفظ بناء الاتحاد. # وشهد الكونجرس رجالا جددا أبرزتهم السياسة؛ فمن الشماليين سيوارد، وهو من نيويورك ~~وينتمي إلى وجر، وقد اشتهر بمعارضته قانون الرقيق الفارين، فهيأه ذلك لزعامة أنصار التحرير ~~في الشمال، ومن الجنوبيين جفرسون ديفز، وكان خطيبا مفوها وجنديا أبلى بلاء حسنا في ~~الحرب ضد المكسيك، ومن الجهات الغربية ستيفن دوجلاس الذي انتخب عن إلينوى لمجلس الشيوخ، ~~وكان يلقب بالمارد الصغير. # ولقب دوجلاس بالمارد على صغر جرمه لعظم قوته وشدة حوله؛ فقد كان خطيبا يتدفق حيوية ~~وبلاغة، وهبه الله صوتا يسمع الآلاف، كما وهبه جلدا على الكلام ساعات، يخرج من الخطبة ~~الطويلة قد جرد لها عزمه وبذل فيها غاية جهده، وكأنه أكثر فتوة وأعظم حيوية منه حين بدأ ~~الكلام! وكان له من قصره واستدارة وجهه وكبر رأسه وثاقب نظراته وشدة تأثيره فيمن هم دونه؛ ~~ما يجعله قريب الشبه بنابليون، فلا عجب أن ينعته الناس بالمارد، فهم إنما يشيرون إلى قوة ~~نفسه وشدة مراسه، وما لبثت الظروف أن جعلته في الكونجرس أعلى الرجال صوتا وأبعدهم ~~صيتا ms165 . # كانت كنساس ونبراسكا تقعان شمالي خط اتفاق مسوري، وبناء على هذا الاتفاق لا يسمح بالرق ~~فيهما، فلما أريد تعميرهما والحث على الهجرة إليهما كخطوة نحو الغرب، جعلها الشماليون ~~والجنوبيون مسرحا للنزاع القائم بينهما؛ فالشماليون يتمسكون باتفاق مسوري، والجنوبيون ~~يريدون ألا يعبئوا به، وهذه هي المعضلة. # ويخطو حينئذ دوجلاس خطوة يرج البلاد بها رجة عنيفة، ويزيد مشكلة الرق تعقيدا، ويوقد نار ~~الفتنة في البلاد، وكان دوجلاس مقرر اللجنة التي تنظر في مشكلة كنساس نبراسكا في الكونجرس، ~~فأعلن أن تقييد حرية الولايات عمل يخالف روح الدستور الذي يقرر مبدأ سيادة الشعب، ويجعل ~~لكل ولاية الحق أن تضع دستورها كما تريد، وعلى هذا فليترك لأهل كنساس ونبراسكا حرية ~~الاختيار، فتكون هاتان الجهتان من مواطن الرق أو من مواطن الحرية، حسبما ينتهي إليه رأي ~~السكان، وحمل دوجلاس الكونجرس بنشاطه ومهارته على قبول هذا المبدأ، وصدرت به لائحة. # ومعنى ذلك أن اتفاق مسوري قد نقض من أساسه، فلا عبرة اليوم إلا بما يشاء أهل أي جهة تريد ~~الانضمام إلى الاتحاد، ولقد سرت في الشمال موجة من الهياج والسخط لن يصفها كلام، وباتت نذر ~~الشر تتهدد البلاد. # وتنافس الشماليون والجنوبيون في الهجرة إلى كنساس، تريد كل طائفة أن تكون أكثر عددا وأعز ~~نفرا، وأقامت كل منهما حكومة وزعمت كل حكومة أنها الجهة الشرعية، ورأى حتى أقصر الناس ~~نظرا في هذا نذير التفرقة وشرارة الحرب الأهلية، واشتد النضال بين الجانبين عند انتخاب ~~المجلس التشريعي، ولجأ الناس من الجانبين إلى التزوير والشغب، وقتل في ذلك الصراع فريق من ~~كل جانب وجرح فريق، وصارت تذكر كنساس باسم كنساس الدامية، وظهر للناس أول الأمر أن الفوز ~~للجنوبيين لكثرة عددهم، ولكن جمعيات في الشمال تألفت من أجل هذه المشكلة، جمعت المال وأمدت ~~به من استحثتهم للهجرة، وانتهى الأمر بعد عامين بفوز الشماليين، وجاءت أغلبية أعضاء الولاية ~~من أنصار التحرير. # بقي بعد ذلك أن تضع الولاية لها دستورا، ولا بد من مؤتمر عام لتقرير مبادئ هذا الدستور، ~~ثم إن الولاية سوف تطالب ms166 بعد أن يتم وضع الدستور بانضمامها إلى الاتحاد، وسوف تكون مسألة ~~الرق هي المشكلة عند وضع دستور الولاية، وسوف تكون مثار نزاع عظيم بين أنصار الرق وأنصار ~~التحرير. # ومهما يكن من أمر كنساس، فإن وجه المشكلة الآن هو أن كل ولاية تستطيع إذا شاءت أن تقرر ~~مبدأ الرق، ومرد ذلك كما هو واضح إلى خطوة دوجلاس. # وما كان دوجلاس ليعجز عن أن يبرر عمله أو أن يتلمس له الأوجه القانونية، وإذا عجز دوجلاس ~~عن هذا فمن يقدر عليه؟! وإنه لأعلم الناس يومئذ بألاعيب السياسة وأضاليلها، يصدر في ذلك عن ~~طبع وعن خبرة، ويسدد الرمية في لباقة وخفة. # ولم يكن اهتمام دوجلاس بتلك المسألة إلا جزءا من خطته التي رسمها، وأراد أن يدلف بها إلى ~~الغاية التي لا يرى دونها غاية؛ ألا وهي الظفر بالرياسة متى حان الوقت، وهو يتحرق شوقا ~~إليها ويتقطع تلهفا عليها، ولا يفتأ يتبين السبيل المؤدية مهما كانت وعورة مسالكها، والآن ~~تسنح الفرصة فيقتنصها، وهو باقتناص الفرص جد خبير. موه على الناس أنه يمكن لسلطان الأمة ~~إذ يرد مسألة الرق إلى رأي الأمة، وأنه يجعل بذلك كلمة الشعب هي العليا لا كلمة الكونجرس، ~~وهو إنما يرمي في الواقع إلى كسب قلوب أهل الجنوب، الذين كانوا يرون من أول الأمر أن يكون ~~لكل ولاية من الحرية ما يحفظ لها شخصيتها أن تتلاشى في الاتحاد، والذين يريدون أن يتخلصوا ~~من اتفاق مسوري. # وكانت أوشكت أن تنتهي أثناء ذلك مدة مجلس الشيوخ، وانصرف الأعضاء سنة 1954 إلى البلاد ~~يدعون لأنفسهم تمهيدا للانتخابات الجديدة، وكان دوجلاس نائبا عن شيكاغو في شمال إلينوى، ~~فذهب إلى هناك يدعو لنفسه، ولكن هاله من رآه من غضب الناس عليه؛ فهو أينما تولى يجد من ~~الناس إعراضا عنه، بل إنهم كانوا يجبهونه بالسوء من القول ويظهرون له ما كانوا يضمرون من ~~حقد ومقت. # وإنه ليجزع ويستولي عليه الحنق إذ يرى الرايات في شيكاغو منكسة في هامات السفن، ويرى ~~الجدران وعليها عبارات صارخة تلذع قلبه، ويسمع النواقيس تجلجل ms167 في الجو في نغمة حزينة كأنما ~~أصبحت المدينة في مأتم شعبي، وهو يحاول أن يخطب الناس، ولكنهم يرعدون في وجهه ويسلقونه ~~بألسنة حداد، وتتهاوى لكماتهم على أشياعه وهم بينهم قلة؛ حتى يرغموه على الرحيل، وقد امتلأ ~~قلبه عليهم غيظا كما امتلأ منهم كمدا. # وينتهي بالمسير إلى سبرنجفيلد، ولو كان يعلم الغيب لتحول عنها، ففي تلك المدينة سوف يأفل ~~نجمه ويبعد بينه وبين غايته، وكانت المدينة غداة وصوله إليها تموج بالناس؛ إذ كانت في موسم ~~سوق من أكبر أسواق الزراعة، ولقد خيل إليه أن في وجود مثل هذا الجمع الحاشد فرصة، ووقف ~~يخطب الناس ثلاث ساعات وختم خطابه بقوله: «علمت أن مستر لنكولن أحد سكان هذه المدينة يريد ~~أن يرد على خطابي هذا، وإني لآمل أن يفعل ذلك.» وكان لنكولن في جولة من جولاته القضائية في ~~المحاكم مع القاضي ديفز حين بلغه نبأ هذا التحدي، وكان قد آلمه وضايقه ما فعله دوجلاس بشأن ~~مشكلة كنساس. # | تحد ونزال! # كان هذا التحدي الذي أعلنه دوجلاس هو الذي نهض بأبراهام ليعود إلى السياسة ثانية بعد أن ~~انصرف عنها سنوات، والحق أنه كان على أهبة ليحول وجهه للسياسة بسبب معضلة الرق، تلك ~~المعضلة التي باتت تحمل في تضاعيفها الخطر كل الخطر على وحدة البلاد، وإنما عجل هذا التحدي ~~عودته أو كان السبب المباشر لتلك العودة، ومتى كان أبراهام يرهب التحدي أو ينكص على عقبيه ~~إذا دعا داعي النزال، ولا سيما إذا كان المتحدي هو دوجلاس! وكان تحديه أبراهام على هذا ~~النحو مثيرا له؛ فهو يتجاهله ويترفع إذ يذكره، فلا يشير إليه إلا بقوله «مستر لنكولن أحد ~~سكان هذه المدينة»، ولم ينس لنكولن ما كان من منافسته إياه بين يدي ماري، كأنما أولع هذا ~~الرجل بمغالبته فلا يحب أن تفلت منه فرصة دون منازلته أو التعرض له. # وقد مضت سنوات خمس على انصراف أبراهام عن السياسة؛ فقد انصرف عنها سنة 1849 عقب انتهاء ~~عضويته في الكونجرس، ولم يعرف عنه اشتغال بالسياسة في تلك المدة، اللهم إلا خطابه ms168 في رثاء ~~هنري كليي سنة 1852، إذا عد ذلك اشتغالا بالسياسة! وكانت سنة 1852 هي السنة التي قوي ~~فيها نفوذ دوجلاس، والتي بات فيها الحزب الديمقراطي يتحمس له ويعلق عليه آمالا ~~كبارا. # ويخطو دوجلاس خطوته الشهيرة سنة 1854، فيغدو اسمه على كل لسان في طول البلاد وعرضها؛ وهو ~~بين مادح يغلو في مدحه، وقادح لا يتهاون في قدحه. # وإننا لنرى فيما فعل دوجلاس ليكسب عطف الجنوبيين مهارة الرمية، كما نلمح فيما قال للدفاع ~~عن موقفه أمام الشماليين حذق السياسي وعمق فكرته وسعة حيلته، وكم في الحياة له من نظراء ممن ~~يأخذون في سياستهم بآراء أستاذهم الأكبر مكيافلي، لا يحيدون عنها ولا يفوتهم شيء من ~~تفاصيلها ودقائقها، كأنما عاد أستاذهم نفسه يصرفهم ويوجههم، ولقد برع دوجلاس في هذا ~~المضمار؛ فإنه ليجعل الغاية عنده كل شيء، ولا عبرة بعد بالوسيلة، وهل كان مثله من السذاجة ~~بحيث يتمسك بشرف الوسيلة ويرعى جانب الفضيلة، فيؤدي بذلك إلى فوات الفرصة وضياع ~~الغاية؟ # وكان لنكولن صريحا لا يعرف المراوغة، ولا يطيق الالتواء، فهل كانت له طاقة بمناضلة ذلك ~~القزم الماكر المخاتل؟ وأي عود عليه اليوم من طوله والمسألة مسألة مدافعة بالحجج ومقارعة، ~~وليست مسألة مكافحة ومصارعة كما كان الحال يوم لف ذراعه الطويلة حول آرمسترنج وألقى به على ~~الأرض؟ إن الفرق بين الرجلين هو الفرق بين الطبيعتين؛ فهذا ماكر محتال غامض كالبحر، وذلك ~~بسيط صريح كوجه السهل. # وكان حزب الهوجز يومئذ في الشمال في أخريات خطواته إلى الفناء، بينما كان يولد حزب آخر ~~سيأخذ عما قريب مكانه؛ هو الحزب الجمهوري، وكان لنكولن هو الرجل الذي اتجهت إليه أنظار أهل ~~سبرنجفيلد ليكون لسانهم في الحزب الجديد. لهذا ولما اشتهر به بينهم من خلال أكبروها، لم ~~يجدوا من هو أقدر منه على مدافعة دوجلاس، وهكذا التقى الرجلان من جديد في عراك عنيف، ولم ~~يلتقيا منذ كانا نائبين في مجلس المقاطعة. # وقف دوجلاس يخطب، وكان - وهو في صغر جرمه قزم أو كالقزم - ماردا جبارا؛ برأسه الضخم، ~~ولسانه الذي لا يقف، ونشاطه الذي ms169 لا يفتر، ودهائه الذي لا ينخلع عنه، ومهارته التي لا تغيب ~~ولا تتخلف مهما تعقد الموقف والتوت مذاهب الكلام. # ولقد كان دوجلاس في الحق من أقوى الرجال في عصره، إن لم يكن أشد منهم جميعا قوة، وكان ~~الحزب الديمقراطي يباهي به ويفخر، وهو يعتقد أن لم يبق بينه وبين كرسي الرياسة إلا خطوات مع ~~أنه لم يكن قد جاوز الأربعين بعد. # أخذ يخطب ويدافع عن رأيه في حماسة وكياسة، وإنه ليشعر أنه يطلق آخر سهم في كنانته! وكان ~~محور دفاعه أنه يعمل على توطيد سلطة الشعب، وكانت العبارات معسولة والحجج تلقي في روع ~~السامعين ألا سبيل إلى رفضها؛ إذ لم يبد ثمة من سبيل إلى نقضها. # وجاء دور لنكولن في اليوم التالي، واحتشد الناس ليروا ما عسى أن يقوله في الرد على هذا ~~الداهية، ووقف ابن الأحراج يقابل الدهاء بالصراحة، والمكر بالصدق، والغرض بالإخلاص، ~~والمراوغة باليقين، والباطل بالحق، والدليل الأعرج بالمنطق الأبلج. ومن وراء هذا كله عبقرية ~~دونها كل تأهب بل وكل كفاية، واستمع الناس إليه أربع ساعات كاملات ومنافسه يعض على ناجذه، ~~وينقم على تلك الأقدار التي ألقت به بين براثن ابن الغابة. # بدأ خطابه بقوله إنه لا يتوخى إلا الحق ولا رائد له إلا الصدق، فإذا أحس مستر دوجلاس خطأ ~~فيما يقول فإنه ليسره أن يرده خصمه لساعته إلى الصواب. ولقد استغل دوجلاس هذا الحق وجعل ~~يقاطعه بين حين وحين؛ ليلويه عن قصده وليلبس عليه الأمر، حتى ضاق لنكولن بتلك المقاطعة فصاح ~~قائلا: «أيها السادة إني لا أستطيع أن أنفق وقتي في مساجلات، وعلى ذلك فإني آخذ على نفسي ~~المسئولية أن أحق الحق وحدي، فأعفي القاضي دوجلاس بذلك من ضرورة تلك التصحيحات ~~العنيفة.» # وأخذ بعدها يتكلم والأبصار شاخصة إليه والسكون شامل على شدة ازدحام المكان، والخطيب ~~المرتجل لا يعرف اضطرابا ولا اعوجاجا، يهدر كالسيل لا يصرفه عن وجهه عائق، وكأنما ينطق عن ~~وحي؛ فما سمعه الناس من قبل يقول مثل هذا الكلام، ولا رأوه يبين كهذه الإبانة، وإنه ms170 في ~~حركاته وإشاراته ونبرات صوته لموفق توفيقا ما شهد الناس مثله قبل هذا. # وفرغ من خطابه وهو في قلوب قومه أرفع قدرا مما كان، ومنافسه مبتئس زائغ البصر، موزع ~~الفؤاد بين كلمات الاستحسان تنثر على صاحبه كما ينثر الزهر، وكلمات الاستهجان تصوب إليه كما ~~تصوب السهام. ونظر فإذا هو بما أدلى من حجج كالعنكبوت اتخذت بيتا، ولم يبق في قلوب الناس ~~أثر لما ردده من عبارات معسولة تدور حول سلطة الأمة؛ إذ لم يترك له أبراهام دليلا إلا ~~سفهه، وأظهر للناس ما يقوم عليه من بهرج وما يستتر وراءه من طلاء، وبهذه الخطبة فتح ~~لنكولن فصلا جديدا في تاريخ حياته، وقطع شوطا كبيرا نحو الرقي عوض عليه ما فاته بسبب ما ~~مر من الركود؛ وذلك لأن موضوع الكلام كان يتصل بأمر عظيم الخطر يشغل الرأي العام في الشمال ~~والجنوب، ولأن منافسه كان من الذين يحسب لهم الناس ألف حساب. # ورأى أصحاب لنكولن أن يذهب أبراهام في إثر دوجلاس أينما ذهب ليرد عليه كلما خطب الناس، ~~وذهب لنكولن إلى بيوريا بعد ذلك باثنى عشر يوما، وقد أعد خطبة مكتوبة، وبدأ دوجلاس في ~~بيوريا كما بدأ في سبرنجفيلد واستمر يخطب ساعات ثلاثا، ورد لنكولن في المساء فاستغرق خطابه ~~مثل هذا الزمن، ويشهد الذين سمعوه في المرتين أنه كان يوم ارتجل أعظم شأنا وأعمق في نفوس ~~سامعيه أثرا، حقا لقد كانت خطبته المكتوبة أحكم بناء وأحسن نسجا، ولكنها لم تكن أكثر من ~~سابقتها سحرا. # قال أبراهام يرد على دوجلاس قوله إن من الامتهان لأهل نبراسكا أن نعتبرهم غير جديرين بأن ~~يحكموا أنفسهم بأنفسهم: «إني أسلم أن المهاجر إلى كنساس ونبراسكا جدير أن يحكم نفسه، ولكني ~~أنكر عليه الحق في أن يحكم شخصا آخر بغير رضاء ذلك الشخص.» وكانت عبارته هذه كالرمية ~~القاتلة، فهي تهدم ما بنى دوجلاس من أساسه، ولا تدع لذلك الذي زعمه من دفاع عن سلطة الأمة ~~أية قيمة. # وقال أبراهام في رده على ما زعمه دوجلاس من أن الحكومة إنما ms171 أقيمت لصالح البيض لا لصالح ~~الزنوج: «إني أوافق على ذلك من حيث ما هو واقع في ذاته، ولكني أرى في هذه الملاحظة التي ~~ساقها القاضي دوجلاس معنى هو عندي مفتاح تلك الغلطة الكرى التي فعلها في قرار نبراسكا، إن ~~كان ثمة من غلطة كهذه، إنها تدل على أن القاضي لا يقوم في ذهنه ما يريه أن الزنجي إنما هو ~~إنسان، وعلى ذلك فليست تقوم في رأسه ضرورة وجود العنصر الخلقي إذا أراد أن يشرع ~~له.» # ومما جاء في خطابه عن قرار نبراسكا قوله: «إن هذا القرار يؤيد حياد الحكومة، ولكنه ينطوي ~~في الواقع في جانب انتشار الرق على حماسة لا يسعني إلا أن أمقتها؛ أمقتها لما ينطوي عليه ~~الرق في ذاته من جور قبيح، وأمقتها لأنها تسلب نظامنا الجمهوري الذي نسوقه مثالا للعالم من ~~أثره الحق في هذه الدنيا، وأمقتها على الأخص لأنها تدفع كثيرا من رجالنا الأخيار إلى حرب ~~صريحة ضد المبادئ الأساسية للحرية المدنية، فهم يوجهون انتقادهم إلى وثيقة إعلان الاستقلال، ~~مصرين على اعتقادهم أنه ليس ثمة من مبدأ حق تقوم عليه أعمالنا، فما هناك إلا المصلحة ~~الشخصية.» # وقال لنكولن في تلك الخطبة الشهيرة: «إن مبدأ حكم الشعب نفسه مبدأ صحيح، صحيح بلا أقل ~~ريب، وسيظل إلى الأبد صحيحا، ولكن إذا كان الزنجي إنسانا، ألسنا بقدر ما في المبدأ من ~~صحة، نرى أننا إذا حرمناه من أن يحكم نفسه إنما نحطم بذلك مبدأ سيادة الشعب؟ حينما يحكم ~~الرجل الأبيض نفسه فإن ذلك في رأينا هو مبدأ سيادة الشعب، ولكنه حينما يحكم نفسه ويحكم في ~~الوقت ذاته رجلا آخر فإن ذلك يكون أكثر من سيادة الشعب؛ فهو الاستبداد، ليس في الناس من ~~يتوفر لديه الخير إلى حد أن يحكم غيره دون رضاء ذلك الغير، هذا هو المبدأ الأول والمرفأ ~~الأمين لنظامنا الجمهوري.» # واستمع إليه إذ يأسر لب السامعين بقوله: «إن رداءنا الجمهوري قد علقت به الأقذار وجر في ~~التراب ذيله، ألا فلنعمل على تطهيره مما علق به، دعونا نرجع ms172 إلى الماضي فنغسله في روح ~~الثورة إن لم نستطع أن نغسله في دمائها.» # ذلك منطق ابن الغابة وتلك آياته البينات، وهو الذي نشأ كما رأينا عصاميا لم يعلمه أحد، ~~إنما يصدر الرجل عن طبع ويترجم عن فطرة، مثله في ذلك كمثل غيره من أعلام البشرية وقادة ~~القافلة في طريق الإنسانية. # وماذا عسى أن يقول دوجلاس ردا على هذا مهما كان ما أوتي من فصاحة وما رزق من فطنة؟ انظر ~~إليه يمشي على استحياء، فيتقدم إلى خصمه فيسلم إليه سيفه وقد بهره الحق، قال دوجلاس وهو ~~يومئذ من هو، يخاطب لنكولن: «إنك لتفهم مسألة منع انتشار الرق في الأراضي أكثر مما تفعل ~~المعارضة كلها في الكونجرس، ولست أستطيع أن أظفر بشيء من مجادلتي إياك في هذا الأمر، ولقد ~~وضعت في طريقي هنا وفي سبرنجفيلد من المتاعب ما لا يضع مثله رجال المعارضة في الكونجرس ~~مجتمعين.» # وإنا لنستطيع أن نعود بالسبب في نجاحه في هذه الخطبة إلى صفاته الأساسية التي فطر عليها، ~~وفي مقدمتها تبين ما يعرض له والإحاطة به جملة وتفصيلا، ثم النفاذ إلى جوهره، والاستعانة ~~بذلك على توضيح ما يريد أن يقول في بساطة ويسر مع توخي الصدق والأمانة، كما يفعل حين ينهض ~~للدفاع في المحكمة، هذا إلى لقانة عجيبة يميز بها في سرعة الصواب من الخطأ والحق من الباطل، ~~وذهن منطقي مصقول كأنه الميزان الدقيق، يرى باللمحة أن هذا الرأي عليه ضباب الشك وذاك عليه ~~نور اليقين. # وعمل دوجلاس على الفرار من الميدان فطلب إلى لنكولن أن يقطعا حبل ذلك الجدل، وأجابه ~~لنكولن إلى ما يريد، وهكذا انتصر ابن الأحراج وفر ابن آوى، ولكن كان ذلك إلى حين؛ فلسوف ~~يلتقيان عما قريب في صراع يتضاءل أمامه هذا الصراع. # وانصرف دوجلاس ولكنه قبل أن ينصرف أبى إلا أن يأتي بما يدل على طبعه؛ فقد نقض العهد وألقى ~~بعد يومين خطابا جديدا حاول فيه أن يدافع عن آرائه، ولم يستطع لنكولن إلا أن يظل عند ~~كلمته، فما كان هو من ينقض ms173 عهدا قطعه على نفسه. # ولقد كان لانتصار أبراهام على دوجلاس السياسي الملحوظ المكانة أثر بعيد في حياته، ~~وازدادت ثقة ابن الغابة قاطع الأخشاب في نفسه، فأخذ يشتد طموحه ويمتد بصره، واطمأن عامل ~~البريد وفتى الحانوت بالأمس إلى مكانته في نفوس قومه اليوم. # | لنكولن والرق # حينما بلغ لنكولن نبأ نجاح دوجلاس في حمل الكونجرس على قبول رأيه في مشكلة كنساس نبراسكا ~~وإصدار اللائحة الشهيرة بذلك، كان في جولة من جولات عمله في المحاماة، ويشهد من صحبه يومئذ ~~أن وقع ذلك القرار كان عظيم الألم في نفسه، لقد ظل مسهدا طول ليله يتفكر في موضوع ذلك ~~القرار ومغزاه، وفي الصباح أفضى إلى أحد زملائه بقوله: «أقول لك يا دكي إن هذه الأمة لا ~~يمكن أن تعيش ونصفها رقيق والنصف الآخر أحرار.» # وظل لنكولن ربيع سنة 1854 في تجواله كما تطلب عمله حتى عاد إلى سبرنجفيلد، وكان بينه وبين ~~دوجلاس ما كان من تحد ونزال. # بسبب مشكلة الرق خاصم أبراهام دوجلاس، وبسبب تلك المشكلة سيعود أبراهام من المحاماة إلى ~~السياسة ليكون محامي الحرية الأكبر، وبالوقوف في وجه الرق ستسمو منزلة أبراهام في قومه ~~ويعظم فيهم خطره ويلتمع في أفق السياسة نجمه، وبقضاء الرئيس لنكولن على الرق سيغدو بطلا من ~~أبطال أمريكا وعلما من أعلام الإنسانية. # وما كان لرجل مثل أبراهام أن ينبه في الناس شأنه إلا لصلته بقضية من قضايا الإنسانية، أما ~~الدوافع الشخصية والأطماع الدنيا فلم تك مما يتفتح له قلب مثل قلبه، ولا مما يمتد إليه بصر ~~كبصره. # كانت تقع عينا الصبي أبراهام لنكولن على نفر من هؤلاء السود أحيانا وهو مع أبيه في ~~الغابة، فتأخذه الحيرة من أمرهم والشفقة والرثاء لهم، ولم تبين له كلمات أبيه سبب شقاء ~~هؤلاء السود ولم كانوا كدواب الزراعة في نظر البيض، فهل كانوا كذلك لأنهم سود فحسب؟ ومن ~~أين جيء بهؤلاء السود؟ ولم كانوا سودا؟ ولم يجعلهم سوادهم أذلة؟ # ولن ينسى أبراهام رحلته إلى نيو أورليانز في أول شبابه وانقباض نفسه وانكدار خاطره؛ إذ ~~رأى ms174 جموعا من هؤلاء السود في الأصفاد يحشرون إلى حيث يباعون كما تباع الماشية، ولن يبرح ~~يطوف بخياله فيؤلمه مرأى تلك الجارية الحسناء، التي عرضت هناك في أحد الأسواق نصف عارية على ~~المشترين كما تعرض الفرس الكريمة. # منذ ذلك اليوم استقر في أعماق نفسه كراهة الرق، وفي ذلك اليوم قال كلمته وهو يشير بجمع ~~يده: «لئن قدر لي يوما أن أسدد ضرباتي إلى هذا النظام فسأضرب بشدة.» وكأنما شاءت الأقدار ~~أن تريه ما رأى عن قصد؛ ليكره الرق منذ حداثته كما يكره الأخيار المصطفون منذ نشأتهم ~~الكفر والفسوق والعصيان. # ومنذ ثلاثة عشر عاما من يومه هذا، يوم سماعه بلائحة كنساس، كتب أبراهام كتابا إلى أخت ~~صديقه سبيد يصف رحلة له على صفحة المسيسبي، جاء فيه: # وفي تلك الأثناء كنت تلقاء مثل جميل على ظهر القارب يصلح لأن أتأمل فيه لأرى كيف ~~تؤثر الظروف في سعادة الإنسان؛ اشترى أحد السادة البيض اثنى عشر زنجيا من جهات ~~مختلفة في كنطكي، وكان بسبيله إلى الجنوب ومعه زنوجه، وقد سلكوا كل ستة في سلسلة، ~~وكان يدور غل صغير بمعصم اليد اليسرى لكل منهم، ويوثق بسلسلة صغيرة تنتهي إلى ~~السلسلة الكبيرة على مسافات تدع بين الواحد ومن يليه بعض الفراغ، فكانوا أشبه حالا ~~بسمكات في مثل عددهم تعلق بحبل الصائد كل منها في شص، وكانوا على مثل هذه الصورة ~~ينتزعون إلى الأبد من مجالي طفولتهم ومن أصدقائهم ومن آبائهم وأمهاتهم وإخوتهم ~~وأخواتهم، وفيهم من انتزعوا كذلك من زوجاتهم وأولادهم، ليساقوا إلى رق أبدي، حيث لا ~~تقل ضربات السياط من يد سيدهم فوق أجسادهم لهيبا عنها من أي يد أخرى، وفي مثل هذا ~~الوضع وهاتيك الظروف التي ما حسبناها بادئ الرأي إلا محزنة لنفوسهم، كانوا أكثر من ~~على ظهر القارب مرحا وأكثرهم فيما يبدو من أمرهم سعادة؛ أما أحدهم - وقد كانت ~~جريمته، التي من أجلها بيع، فرط محبته وولوعه بزوجته - فكان لا يكاد يدع المزمار ~~من يده أو يمل ألحانه فيه، وأما الآخرون فكانوا يرقصون ويغنون ويتبادلون ms175 النكات ~~ويلعبون ألعابا مختلفة بالورق من يوم إلى يوم، ألا ما أصدق قول القائل «إن الله ~~يسكن الريح من أجل الحمل المجذوذ»، وفي عبارة أخرى إنه يجعل أتعس الظروف الإنسانية ~~محتملة، في حين أنه لا يسمح لأسعدها أن تكون أكثر من أنها ~~محتملة. # وهو اليوم في الخامسة والأربعين من عمره لا يزال يمقت الرق من أعماق قلبه الإنساني ~~الكبير، ولكن المسألة ليست اليوم مجرد عاطفة بل هي مسألة سياسة، وهو اليوم ينظر إليها من ~~ناحيتيها العاطفية والسياسية جميعا، يتألم قلبه أشد الألم كلما فكر في حال الرقيق، ولكنه ~~حذر من الدعوة إلى التحرير لا يميل إلى أصحابها كل الميل؛ لأن سياستهم المتعجلة المتحمسة ~~تؤدي إلى فصم عرى الاتحاد، وذلك ما يخافه أشد الخوف؛ فإن المحافظة على بناء الاتحاد لا تقل ~~عنده أهمية عن القضاء على الرق. # إذن فليقتصر اليوم على الوقوف في وجه الداعين إلى مبدأ السماح بانتشار الرق، وهؤلاء هم ~~الديمقراطيون، حتى تحين الفرصة التي تمكنه من العمل الحاسم ثم من الضربة القاضية. # تألم لنكولن من قرار الكونجرس في مسألة كنساس نبراسكا ألما شديدا كما أسلفنا القول؛ فقد ~~كان قبل هذا القرار - فضلا عن كراهة الرق كرها شديدا - لا يفتأ يفكر في هذه المعضلة ~~ويديرها في رأسه، وإن كثرت في المحاماة مشاغله. تحدث عنه جون ستيوارت، فقال إنه بينما كان ~~وأبراهام في طريقهما ذات يوم أثناء جولة من الجولات القضائية سنة 1850؛ أي قبل قرار ~~الكونجرس بأربعة أعوام، قال له وهو يحاوره: «لنكولن! إنا مقبلون على الوقت الذي سوف نكون ~~فيه إما من دعاة التحرير جميعا أو ديمقراطيين جميعا.» وفكر أبراهام لحظة ثم قال في لهجة ~~التأكيد: «إذا ما جاء ذلك اليوم فقد جمعت له عزمي؛ لأني أعتقد أن معضلة الرق لن ينجح فيها ~~بعد ذلك مساعي التوفيق.» # وكان يكره لنكولن دائما ما يزعمه الجنوبيون من مبررات لتمسكهم بالرق، فلا يفتأ يرد على ~~مزاعمهم بما يدحضها، وإنه لحريص على أن يلزم جانب الحق والإنصاف فيما يرد به؛ لتكون لحججه ~~وقعها ms176 الطيب في النفوس كما هو شأنه في كل ما يقول، كما أنه حريص على الإبانة والوضوح ~~والسهولة، تجد خير مثال لذلك في قوله: «نعلم أن أهل الجنوب يقولون إن رقيقهم أحسن حالا من ~~العمال المأجورين عندنا، ألا ما أقل إدراكهم ما يقولون! ليس لدينا طبقة دائمة من الأجراء، ~~فمنذ خمس وعشرين سنة كنت أنا نفسي أجيرا، وإن أجير الأمس ليعمل اليوم لحسابه وسوف يأجر ~~غيره ليعملوا له غدا، إن الرقي والتقدم من طبيعة الجماعة المكونة من نظراء، وبما أن العمل ~~هو العبء المشترك في هذا الجيل، فإن محاولة بعض أهله أن يلقوا بنصيبهم من هذا العبء على ~~عواتق الآخرين لهي النكبة الخطيرة التي يقدر لها الدوام، وهي في أصلها نكبة تتنقل في الجيل ~~كله، فإذا حصرها الرق في طائفة منه، فإنها تصبح بذلك نكبة مضاعفة يصيب الله بها عباده. إن ~~العمل الحر يمتاز بأنه يبعث الأمل في النفوس، أما العبودية فلا أمل فيها، وإن للأمل لقوة ~~عجيبة في جهود الإنسان وسعادته، ويدرك هذه القوة مالك الرقيق نفسه، ومن ذلك كان نظام العمل ~~بين الرقيق، فإن العبد الذي لا تستطيع أن تدفعه بالسوط ليقطع خمسة وسبعين رطلا من الألياف ~~اليوم، إذا أنت دفعته ليقطع مائة ووعدته أن تدفع له أجره على هذه الزيادة، فإنه يقطع مائة ~~وخمسين؛ فلقد أحللت الأمل محل العصا، ولعله لم يخطر ببالك أنك بقدر ما تكسب من فائدة بهذه ~~الطريقة قد تركت نظام الرق إلى نظام العمل الحر.» # وكان يحس أبراهام أن قضية الرق تزداد خطرا في وضعها يوما بعد يوم، تجد مصداق ذلك في هذه ~~العبارة، وقد نطق بها في جماعة من خلانه سنة 1854 قبيل منازلته دوجلاس، قال يصف الفكرتين، ~~فكرة الرق وفكرة الحرية: «مثلهما كمثل وحشين كل منهما على مقربة من الآخر، ولكن يرتبط كل ~~منهما في سلسلة ويحال بينه وبين الآخر، ولسوف يكسر أحد هذين العدوين اللدودين أو الآخر ~~سلسلته يوما ما، وعندئذ يوضع حد للمسألة.» # ولن يزال منذ قرار نبراسكا يعلن سخطه على ms177 الرق، قال ذات يوم عن امتلاك الرقيق: «إنه أكثر ~~أنواع الملك في العالم بريقا وفخرا وغرورا، فإذا تقدم شاب ليخطب فتاة فإن أول سؤال يتلى ~~عليه كم من الرقيق يمتلك، ويسأل هو كم تمتلك فتاته، إن حب امتلاك الرقيق يبتلع كل امتلاك ~~آخر، ألا إن الرق لظلم صارخ عظيم، وإنه لجريمة قومية فادحة.» # وأبدى لنكولن تعجبه ذات يوم قائلا: «إن من العجب ألا ترى المحاكم سقوط حق الرجل في متاع ~~له سرق منه، ولكنها ترى أن حقه في نفسه يسقط بمجرد أن يسترق هو!» # من هذا ومن كثير مثله يتبين لنا إلى أي مدى كان لنكولن عدوا للرق، وإلى أي مدى كان يعده ~~ظلما وإثما، وقد رأينا ما كان منه أثناء مجادلته دوجلاس في خطبتيه في سبرنجفيلد ~~وبيوريا. # ولكن أبراهام على الرغم من هذا الكره يرى - كما رأى جفرسون قبل ذلك بسنوات - أن مشكلة ~~الرق «كالذئب نمسكه من أذنيه؛ فلا نستطيع أن نظل ماسكيه، ولا نستطيع أن نطلقه ونضمن ~~السلامة»، فإنه يخشى أن يؤدي التطرف في دعوة التحرير إلى انسحاب الجنوبيين من الاتحاد، ~~فينهار بناء الوحدة وتكون الطامة الكبرى على البلاد، وكل همه الآن أن يظل الرق منحصرا حيث ~~هو، فيقوى الأمل في فنائه يوما ما، أما أن يسمح بانتشاره في مواطن جديدة فلا أمل مع هذا في ~~فنائه. # لذلك نراه في موقف دقيق بعد خطابه في بيوريا، فلقد أعجب به دعاة التحرير وبلغ من إعجابهم ~~به أن دعوه ليكون قائدا لجماعتهم، ورأى لنكولن أنه إن أجابهم إلى ذلك أغضب الذين يقصرون ~~همهم على معارضة قرار الكونجرس؛ لأنهم يخشون من دعوة التحرير أن تفصم عرى الاتحاد، وإن رفض ~~دعوتهم أغضبهم هم، وإنه ليشاركهم عاطفتهم وإن كان يخالفهم في سياستهم، كما أنهم خصوم ~~لدوجلاس وإن عددهم ليزداد يوما بعد يوم، ولم يجد أبراهام مخرجا من هذا المأزق إلا الهرب ~~مؤقتا، فذهب في جولة من جولات عمله في المحاماة. # والواقع أن لنكولن المحرر الأكبر في غده يخشى أشد خشية من دعاة التحرير ms178 اليوم؛ لأنه يرى ~~في عملهم إذ ذاك ثورة في غير أوانها، قال يرد على أحدهم: «إن المقاومة الدامية أمر يعد خطأ ~~من أساسه وهو عمل غير دستوري بل إنه خيانة، ففي الديمقراطية التي تحكم فيها الأغلبية عن ~~طريق الانتخاب العام وفق القانون لا يوجد مكان لتلك الثورة ... فإن شئتم أن تثوروا فليكن ذلك ~~خلال صناديق الانتخاب.» # | طموح وفشل! # أراد أبراهام على أثر انتصاره على دوجلاس أن يخطو خطوة جديدة في مضمار السياسة، فطمع أن ~~ينتخب عضوا في مجلس الشيوخ، وأمل بذلك أن يعود إلى وشنطون، ولم يك يرى نفسه دون دوجلاس ~~مقدرة ومكانة وهو قاهره على أعين الناس في أمر له عند الناس خطره، وكان قد انتخب في تلك ~~الأثناء عضوا في مجلس مقاطعة إلينوى، ولكنه ما لبث أن استقال منه، وأخذ يدعو لنفسه ليختار ~~عضوا في مجلس الشيوخ للولايات. # وفرحت ماري بذلك بعد أن لبثت خمس سنوات طويلة تترقب ~~اليوم الذي يعود فيه زوجها إلى السياسة، ليخطو فيها خطوة أو خطوات نحو الهدف الذي لا ترضى ~~له هدفا دونه. # وكان منافس أبراهام في الظفر بعضوية الشيوخ شيلدز، ذلك الرجل الذي تحداه إلى مبارزة ~~بالسيف قبيل زواجه من ماري لما كتبه لنكولن عنه يومئذ في إحدى الصحف وعده إهانة له، وهكذا ~~يعود الرجلان إلى المبارزة ولكن في صورة أخرى ليس يجدي فيها طول الذراع ولا قوتها على حمل ~~السيف. # وكان أعضاء مجلس المقاطعة هم الذين ينتخبون عضو مجلس الشيوخ، وكان مجلس مقاطعة إلينوى ~~يومئذ يجمع أنماطا من الرجال، فرقت بينهم الأهواء وباعدت الآراء؛ ففيهم بقايا حزب الهوجز ~~الذين يمقتون التطرف، وفيهم الديمقراطيون من أنصار مبدأ انتشار الرق ومن معارضي قرار ~~نبراسكا، وفيهم غير هؤلاء وهؤلاء ممن تتذبذب سياستهم وفق ما يقوم في رءوسهم من الآراء في ~~مسألة الرق. # وكاد يظفر أبراهام بما كان يتوق إليه وبما باتت زوجه تمني النفس به، لولا أن دعا ~~الديمقراطيون في اللحظة الأخيرة إلى رجل غير لنكولن ومنافسه، وهو من معارضي قرار نبراسكا ~~ومن الذين ms179 يخشون من دعوة التحرير، وعندئذ أشار لنكولن على نصرائه أن يمنحوا هذا الرجل ~~الجديد أصواتهم ليفوت الأمر على منافسه الأول؛ إذ كان من أصحاب دوجلاس ومن مؤيدي قرار ~~نبراسكا، بينما كان المنافس الجديد تتفق سياسته مع سياسة لنكولن، وإن كان ديمقراطيا من ~~الوجهة الحزبية، وهكذا يذوق لنكولن طعم الفشل مرة أخرى. # ولكن الفشل هذه المرة لم يبلغ من نفسه ما بلغه في الأيام السابقة، فهو اليوم مطمئن إلى ~~نصيبه من رضاء الناس وإلى حظه من النفوذ والصيت، ولقد قابل الأمر بدون اكتراث لولا ما ~~أظهرته زوجته من حنق وغضب، على أنها ما لبثت أن رضيت وسكنت ثورتها، ذلك أنها كانت تكاد ترى ~~رأي العين ما ينتظر زوجها من مستقبل عظيم. # ولم يصرفه الفشل عن السياسة كما كان عسيا أن يفعل في ظروف غير هذه، فلقد عرف أن فشله ~~يومئذ إنما يرجع إلى أسباب لا يستخذى لها، ومن أهم تلك الأسباب ما فعله دعاة التحرير؛ فلقد ~~حشروا اسم لنكولن على غير علم منه في معضديهم وراحوا يباهون به الأحزاب، ولقد أدى هذا إلى ~~انزعاج كثير من الديمقراطيين؛ إذ حسبوا أنه مال إلى الطفرة في مشكلة الرق، كذلك أنكر عليه ~~الهوجز أن ينحرف عن سياسته القائمة على الحذر، ولقد كانوا يحبون منه اكتفاءه بمقاومة انتشار ~~الرق، أما أن يميل إلى التحرير فجأة فيعمل مع المتطرفين على القضاء على الاتحاد، فذلك ما لا ~~يقبلونه منه، وهكذا أخذ على الرجل ما لم يجنه فأصابه من الخذلان ما أصابه. # لا جرم أنه اليوم رجل سياسة أكثر منه رجل محاماة، ولا جرم أن معضلة الرق قد صار لها ~~المكان الأول من همه، فهو لن يرجع حتى ينفس عن صدره بما يفعل في هذه المعضلة التي صارت ~~المحور الذي تدور عليه سياسة الاتحاد، والعقدة التي يتوقف على حلها مصير البلاد. وإنا لنرى ~~فيه الرجل الذي يتطلبه الموقف، شأنه في ذلك شأن غيره من عظماء الرجال الذين يظهرون في فترات ~~الزمن ليتم بهم للتاريخ وسيلة تحركه، إذ يصبح ms180 التاريخ ولديه الرجل العظيم والفكرة العظيمة، ~~فما إن يتمثل العظيم الفكرة ويمزجها بنفسه حتى يقدم لا يلويه شيء عن الغاية، فيصل إليها أو ~~يهلك دونها ويذر لمن بعده أن يتم ما بدأ. # على أنه كان في سنه يومئذ قد وصل من المحاماة إلى أوج الشهرة، فكان وهو في السابعة ~~والأربعين الرجل الذي يظفر في مهنته بأطباق الناس على توقيره، وإجماعهم على التسليم له ~~بالنبوغ وطول الباع وسعة الخبرة، هذا إلى ما انفرد به من سجايا جعلته بينهم وكأنه أكثر من ~~أن يكون منهم! # وتوافى له، فيما توافى من أسباب العظمة، تلك الخصلة التي لا تقوم عظمة بدونها، والتي ~~تجعله يظهر بين الناس وفيه شيء يحملهم على إكباره طائعين أو كارهين، شيء يحسونه وإن كانوا ~~يجهلونه، شيء مبعثه ذلك السر العجيب الذي نعبر عنه بقولنا روح الرجل العظيم، والذي يسميه ~~بعض الناس الحماسة، ويسميه بعضهم الإخلاص، ويسميه آخرون الإيمان، والذي هو في الحق مزيج من ~~هذا كله، لا ندري كيف يتم، مزيج ينبض به قلب العظيم ويجري في نفسه جريان الدم في عروق جسده، ~~ومن الناس من وهبوا الذكاء الحاد والمهارة الفائقة، ولكنهم حرموا تلك الخصلة، فما استطاعوا ~~في أعمالهم أن يرقوا بأنفسهم إلى مستوى أعلى من مستوى غيرهم من عامة الناس، ومنهم من يعظم ~~ذكاؤهم ويمس قلوبهم قبس من ذلك السر العجيب فإذا هم غير الناس، ثم إذا هم فوق الناس، ومن ~~هؤلاء النفر ذلك الرجل الذي درج في الغابة، والذي بنى نفسه فسار في الحياة على نهج من قلبه ~~وعلى دليل من طبعه، ذلك الرجل الذي لا يذكر لأحد عليه يدا، والذي تنكرت له الأيام وعركته ~~المحن فبقي كما يبقى الجوهر الحر؛ لا تترك فيه النار من أثر إلا البرهان القاطع على أن جوهر ~~لا مظهر. # وتشاء الأقدار أن تقوم عظمة أمريكا على كاهلي رجلين من أبنائها، درجا في مدرج الشعب ~~وبرزا من صفوف العامة؛ وهما جورج وشنطون وأبراهام لنكولن؛ أما أولهما فيرفع القواعد ويقيم ~~الصرح، وأما الثاني فيمسكه ms181 أن ينهار، وتكون بذلك عظمة أمريكا عظمة ذات أصالة؛ إذ لم تنشأ عن ~~تقليد أو تستند إلى بهرج من سلطان زائف، ويكون صراحها كالجبال التي هي أوتاد الأرض لا ~~كالبناء الذي يجوز أن يجتث من فوق الأرض. # مضت الأيام تسير بابن الغابة سيرا معجلا وثيقا ليؤدي رسالته، ولعله أشرف من حاضره على ~~ما يعده له الغد القريب، أجل لعله أخذ يدرك أن مشكلة الرق مفضية به حتما إلى خطوة واسعة ~~يخطوها غدا، فيترك في تاريخ بلاده ما تذكره به الأجيال، اقرأ كتابه هذا إلى صديقه سبيد تقع ~~فيه على مدى اهتمامه بتلك المشكلة، ونتبين كثيرا مما كان يجول في نفسه يومئذ، قال: «إنك ~~لتعلم أني أكره الرق، كما أنك توافق أن الرق خطأ في ذاته، فليس ثمة خلاف بيني وبينك إلى هذا ~~الحد، ولكنك تقول إنك تفضل أن ترى الاتحاد وقد انفصمت عراه قبل أن تتنازل للرقيق عن حقوقك ~~المشروعة، وبخاصة إذا كان هذا التنازل إذعانا لإلحاح من لا مصلحة لهم في ذلك، ولست أعلم ~~أن أحدا يدعوك إلى ذلك التنازل، ولست على اليقين أدعوك إلى هذا، وإني أصارحك يا صديقي أني ~~أكره أن أرى هؤلاء المساكين يصطادون ويوضعون في الأغلال، ويعاد بهم إلى حيث يجدون النصب ~~والعناء، ولكني أعض على شفتي وألزم الصمت. # في عام 1841 قمنا معا برحلة مملة على صفحة ماء منخفض في قارب بخاري من لوسفيل إلى سان ~~لويس، ولعلك تذكر كما أذكر أنه كان على ظهر القارب عشرة أو اثنا عشر عبدا مقرنين في ~~الحديد، ولقد كان هذا المنظر مبعث عذاب دائم لي، وإني لأحس شيئا مثله كلما لمست نهر ~~الأهايو أو أية جهة من جهات الرق، وخلاف الجميل منك يا صديقي أن ترى أني لا أهتم بذلك الشيء ~~الذي ينطوي على قوة تكربني، والذي لا يفتأ يسبب لي الكرب. لقد كنت حريا أن تتبين إلى أي ~~مدى يخنق سواد الناس في الشمال مشاعرهم لكي يستطيعوا أن يحتفظوا بولائهم للدستور والوحدة. ~~إني أعارض انتشار الرق لأن ms182 رأيي وشعوري يؤديان بي إلى ذلك، وليس هناك ما يجبرني على العمل ~~بخلافه، فإذا كان هذا هو مبعث الخلاف بيني وبينك فلنختلف إذن. تقول لو أنك كنت الرئيس ~~لأرسلت جيشا على المتمسكين باتفاق مسوري في انتخابات كنساس، وتقول إنه إذا انتهت ~~الانتخابات هناك إلى جانب الرق فيجب أن تقبل ولاية وإلا وجب حل الاتحاد، وكذلك تقول إنه لو ~~انتهت الانتخابات إلى جانب الحرية فإنك كمسيحي تفرح لذلك، ويقول مثل هذا الكلام كل ذي دماثة ~~من مالكي الرقيق، ولست أشك في إخلاصهم، ولكنهم لن يسلكوا في الانتخابات مسلكا وفق ما ~~يقولون. إن اطرادنا نحو الانحطاط يسير فيما أرى سيرا معجلا، لقد بدأنا أمة بإعلاننا أن ~~الناس جميعا خلقوا متساوين، وتجدنا نقول اليوم خلق الناس جميعا متساوين إلا الزنوج، ~~وسيكون قولنا في المستقبل خلق الناس جميعا متساوين إلا الزنوج والأجانب والكاثوليك! ولئن ~~بلغنا هذا المدى فسأفضل الهجرة إلى دولة أخرى لا تدعي حب الحرية، إلى الروسيا مثلا؛ حيث ~~يتخذ الاستبداد صورة سهلة خالية من النفاق.» # ويقص صديقه هرندن قصة جديرة بأن نثبتها هنا، لنتبين كيف يهتم أبراهام اهتماما كبيرا ~~بالمعنى العظيم وإن جاء في أمر صغير، ولنرى مبلغ حرصه على مقاومة الرق، قال هرندن: «حدث أن ~~ذهب زنجي من سبرنجفيلد إلى نيو أورليانز ولم يصطحب معه أوراقه التي تثبت عتقه، فاستوقف هناك ~~وألقي به في السجن ليباع عما قريب فيكون ثمنه أجر إقامته في السجن، وفزعت أمه إلى لنكولن ~~وإلي، فذهبنا إلى حاكم إلينوى وكلمناه في الأمر، فأظهر لنا أسفه ألا يستطيع أن يقدم لنا ~~معونة حسب القانون، فنهض لنكولن قائلا في لهجة تنم عن التأكيد: أقسم لك بالله أيها الحاكم ~~لأجعلن الأرض في هذا الاتحاد أسخن من أن تطأها قدم زنجي، سواء وجدت من القانون ما يبرر ~~إطلاق هذا الغلام أو لم تجد. واتصل أبراهام بحاكم لويزيانا فلم يك أحسن حظا عنده منه عند ~~سالفه، ولم يعدم أبراهام حيلة، فقد افتتح اكتتابا عاما لجمع ثمن هذا الغلام الزنجي، ~~وسرعان ما اجتمع ms183 لديه المبلغ فدفعه إلى حاكم لويزيانا وأعيد الغلام إلى أمه في الشمال.» وما ~~قصد أبراهام بالاكتتاب العام إلا التشهير بالرق والتنديد بهذا الظلم العظيم. # وكان يوحي إليه ذهنه المنطقي العجيب وبعد نظره في قياس الأمور ما عسى أن تنتهي إليه مشكلة ~~الرق، وكأنما كان يشرف من حاضره على مستقبله، كان يعتقد أنه بالخروج على اتفاق مسوري لم يعد ~~هناك أمل في الإبقاء على أي اتفاق يقام، وسيتمادى أنصار الرق في غيهم حتى يخرجوا على ~~الدستور نفسه، ولكن الوطنيين المتمسكين بالدستور لن يقروهم على ذلك، فيكون ثمة صراع عظيم ~~بين الجانبين، وفي هذا الصراع يجتث الرق من جذوره فما له بعد من قرار، ولسوف تأتي الحوادث ~~مصدقة لما يرى، ولسوف يكون هو بطل الصراع، والذي يقتلع الرق من جذوره. # ولن يضيره اليوم ألا يصل إلى مقعد الشيوخ، بل ربما كان الشر في أن يظفر بهذا المقعد، فلقد ~~كان له بعد فشله هذا جولات سوف يكون لها خطرها في حياته؛ جولات سوف تنتهي به إلى رياسة ~~الاتحاد فلم يبق على الدرب إلا مرحلة. # وكثيرا ما يبتئس المرء إذا فاتته فرصة كأنما أغلقت بفواتها مسالك الفوز من دونه، ولا ~~يدري أنه ربما كان الخير في فواتها، والحياة مليئة بالأمثال حافلة بالعبر، والعظماء وحدهم ~~هم الذين لا يلويهم فوات الفرص ولن تبتئس لفواتها نفوسهم، بل إنهم ليحمون على الشدائد ~~ويستعرون على الكفاح، ويستشعرون اللذة في النصر كما يستشعرونها في ركوب الصعاب إلى ذلك ~~النصر، ولن ينقص منها ما قد يصيبهم من خذلان. # ولقد كان لنكولن من هؤلاء البواسل الأفذاذ الذين لا يحفلون بالصعاب، والذين لا يحول بينهم ~~وبين وجهتهم خذلان مهما عظم، بقي في سبرنجفيلد بعد فشله ليكون في المدينة زعيم الحزب الجديد ~~الذي كانت تستقبل البلاد يومئذ مولده، وهل كان غيره في المدينة تجتمع عليه القلوب ~~والأهواء؟ # | حزب جديد # كان من نتائج قرار الكونجرس في مسألة كنساس نبراسكا مولد حزب جديد في البلاد، فقد اجتمع ~~فريق من رجال السياسة على فكرة يمكن تلخيصها ms184 في العمل على مقاومة انتشار الرق حسب اتفاقية ~~مسوري، وكان هؤلاء السياسيون أنماطا من كل حزب؛ ففيهم الديمقراطيون، وفيهم الهوجز، وفيهم ~~غير هؤلاء وهؤلاء ممن يحصرون همهم الآن في العمل على مقاومة انتشار الرق. ولقد كان أول ~~اجتماع عام لأنصار هذا الحزب الجديد في مدينة فيلادلفيا سنة 1856، واتخذ المجتمعون اسما ~~لحزبهم فسموه الحزب الجمهوري، واختير لرياسته الكابتن فريمونت أحد أهالي كليفورنيا، وكانت ~~شهرة عند الجمهور باكتشافه الطرق وشقه الأحراج إلى الغرب؛ فكانت تضيئ حوله هالة من البطولة، ~~ثم أخذ أنصار الحزب بعد ذلك ينشرون الدعوة إليه في كل ولاية. # وانتشرت الدعوة إليه في إلينوى كما انتشرت في غيرها من الولايات، ودعا أنصار الحزب الجديد ~~فيها إلى اجتماع تمهيدي يتدارسون فيه الأمر، ويحددون الغاية ويسددون إليها الوسيلة. # وانعقد هذا الاجتماع في مدينة ديكاتور وشهده لنكولن فيمن شهد من رجال السياسة المبرزين، ~~وأدلى إليهم برأيه وإن كان لا يزال من الهوجز، وفطن المجتمعون إلى سياسته التي لن يتحول ~~عنها، والتي تتلخص في أمرين: مقاومة انتشار الرق، والمحافظة على كيان الاتحاد. # وانضم هرندن إلى الحزب الجديد وتحمس له، ودعا أنصار الحزب إلى مؤتمر عام يعقد في مدينة ~~بلومنجتن لاختيار ممثلي الحزب في الولاية، وكان لنكولن في جولة من الجولات القضائية، فوضع ~~صديقه هرندن اسمه في قائمة الداعين إلى المؤتمر دون أن يرجع إليه، ثم أرسل إليه ينبئه بذلك ~~فجاءته برقية منه قال فيها: «لا ضير. امض قدما.» وبذلك وافق أبراهام على الانضمام إلى ~~الحزب الجديد وأصبح عضوا من أعضائه. # واحتشد رجال هذا الحزب في بلومنجتن لينظروا في أمرهم، وأدلى أبراهام برأيه فقال لمن حوله: ~~«دعونا نجعل حجر الزاوية في بناء حزبنا الجديد هو قرار إعلان استقلال أمريكا.» وهو يريد ~~بإعلان الاستقلال ذلك الحادث التاريخي الذي ظهرت به الولايات المتحدة أمة مستقلة في هذا ~~العالم، وكأنه يشير إلى ما يتضمن الاستقلال من معاني الوحدة والإخاء والحرية والمساواة، تلك ~~المبادئ التي جعلها رجال الثورة شعار ثورتهم، وأصدر المؤتمرون قرارهم بعد أن اختاروا ممثلي ~~الحزب في ms185 الولاية فقالوا: «أجمعنا أمرنا على أننا نعتقد، وفق تجارب وآراء رجال السياسة ~~المبرزين جميعا من كافة الأحزاب في السنوات الستين الأولى لحكومة الاتحاد، أن المؤتمر يملك ~~في ظل الدستور السلطة التامة لمقاومة انتشار الرق في الولايات، وأنه كما يحرص على جميع ~~الحقوق الدستورية لأهل الجنوب، يعتقد كذلك أن العدالة والإنسانية ومبادئ الحرية - كما نص ~~عليها في إعلان استقلالنا وفي دستورنا القومي وما نتوخاه لحكومتنا من بقاء ودوام - تستدعي ~~أن يكون تنفيذ السلطة بصورة تمنع انتشار الرق في الولايات التي تعد حرة حتى الآن.» # وإنا لنرى سياسة لنكولن واضحة تمام الوضوح في هذا القرار الذي أعلنه المؤتمرون، وفي ذلك ~~يتضح الدليل على أنه كان غداة المؤتمر الرجل الذي ينبض بمبادئه كل قلب، ويتحرك باسمه كل ~~لسان، ونحن إذا نظرنا إلى مبادئ الحزب الوليد في الولايات جميعا نجدها لا تختلف كثيرا عما ~~جاء في قرار رجال إلينوى، وبعبارة أخرى نجدها لا تختلف كثيرا عن مبادئ لنكولن، وفي ذلك ~~دليل جديد على عبقرية الرجل وصدق نظرته وأصالته. # ونظر أبراهام فإذا رجال المؤتمر، على اتحادهم في الغاية، يختلفون في الوسيلة التي يصلون ~~بها إلى غايتهم، وإذا هم باعتبار ما سلف من أمرهم فئات متباينة الآراء، وإنه ليخشى أن يؤدي ~~الاختلاف على الوسيلة إلى ضياع الغاية، بل إلى طمس معالم الطريق وركوب الظلام، وفي ذلك سوء ~~المنقلب، وإنه ليتحرق شوقا أن يرى هؤلاء القوم وقد اجتمعت على الوسيلة كلمتهم كما اجتمعت ~~على الغاية، إنهم إذن لفائزون وإن لهم لبأسا يهون عنده كل عسير، ثم إنهم لخطب فادح لا ~~يطيقه المتمسكون بالرق من أهل الجنوب. # وتجاوبت أرجاء المؤتمر باسم لنكولن، وراح المؤتمرون يتصايحون: «لنكولن! لنكولن! نريد أن ~~نسمع لنكولن!» وما كان له أن يتخلف وهو الخطيب الذي تهيب به مثل هاتيك المواقف، وتواتيه ~~عبقريته كلما أحست نفسه جلال الحادثات، وكأنما أحس لنكولن أن هذه ساعته، وأنه يوشك أن يخطو ~~خطوة واسعة نحو غايته الكبرى؛ لذلك ما لبث أن وثب من مكانه ووقف فيهم وقفة الخطيب وهو ms186 لا ~~يدري أول الأمر ماذا يقول، وسكتت الأصوات بعد جلبة، واستقر الرجال بعد أن كان بعضهم من فرط ~~الحماسة والتطلع يموج في بعض. # وقف الخطيب أول الأمر صامتا كأنما أغلقت من دونه مسالك القول، والناس ينظرون إلى قوامه ~~السمهري وقد مال برأسه إلى الخلف وبرز بصدره إلى الأمام، والتمعت عيناه وتشكلت أساريره بما ~~في نفسه، فبدت في مظهر يقصر عن وصفه معنى الجمال، وصفه أحد الحاضرين فقال: «كان في تلك ~~اللحظة أوجه من رأت عيناي أبدا.» # وتكلم فإذا المستمعون كأنهم رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا جدال، وقد سرت إليهم من الخطيب ~~موجة قوية من السحر، وسرى إليهم منه تيار شديد من الحماسة، وهو يرسل فيهم القول يجمع بين ~~العاطفة تهز المشاعر، والحجة تبهر العقول، والأمثلة تبهج النفوس. وكانت تشتد العاطفة حينا ~~فتفيض عيون، ويلتمع البرهان آونة فتصفق الأكف حتى تكاد تدمى، وتنطلق بالهتاف الحناجر حتى ~~توشك أن تبح، ويروق المثال أو تلمح النكتة بين هذا وذاك فتجلجل الأفواه بالضحكات، والخطيب ~~يلعب بالأفئدة ويستهوي المشاعر، ويتدفق لا يكل منطقه ولا تفتر حماسته ولا يضعف صوته، ~~والسامعون مأخوذون عن أنفسهم بما يقول، حتى لقد ألقى مندوبو الصحف أقلامهم وأقبلوا بعقولهم ~~وقلوبهم عليه يحرصون ألا تفوتهم كلمة من هذا السحر الحلال. وصفه أحد المستعمين فقال: «لم ~~أعلم قبل ذلك قط أن مستمعين لخطيب فعلت فيهم الفصاحة الإنسانية فعل الكهرباء كما فعلت فصاحة ~~لنكولن بهؤلاء، لقد كانوا يثبون من أمكانهم نهوضا على أقدامهم أو فوق المقاعد بين حين ~~وحين، وكانوا يعبرون عن مبلغ ما أثرت كلماته في عقولهم وقلوبهم بصيحات طويلة وبالتلويح ~~بقبعاتهم في أيديهم.» # ذلك أن الغاب قاطع الأخشاب، ذلك هو النجار هدية الأحراج إلى عالم المدنية، قد هيأته ~~الأقدار لرسالته؛ فبعثته من موطنه قويا قوة الطبيعية لا يعتريها ضعف، واضحا وضوح الشمس ~~لا يحجبها غيم، ولكنها أودعت في نفسه سر العظمة رهيبا عميقا خافيا عن الأبصار، تحس ~~النفوس تلقاءه بمثل ما يحس به من يقف في مدخل الغابة. # أوضح في خطابه ms187 سياسته فلم يترك مجالا للبس أو شك، وكان إلى التحذير والإنذار أقرب منه ~~إلى التفاؤل والتمني، حذر الناس أن يشتطوا فيؤدي شططهم إلى انسحاب أهل الجنوب من الاتحاد، ~~فإنه ليحس أن في الجو مثلما يسبق العاصفة، وأنذرهم أن يتهاونوا أو يتخاذلوا فتذهب ريحهم ~~وتضيع أصواتهم بددا، وهو في كل ما يزجي من القول صريح كأعظم ما تكون الصراحة، واضح كأتم ما ~~يكون الوضوح. # تعرض لمسألة كنساس فقال في قوة اليقين وفي جلال الحق: «ستكون كنساس حرة.» وكانت الولاية ~~لم تستقر بعد على وضع والصراع فيها بين أنصار الرق وأنصار الحرية على أشده، وذكر السامعين ~~أن الخروج على اتفاق مسوري والسماح بانتشار الرق وراء الحد الفاصل مفض حتما إلى جعل الرق ~~مسألة قومية عامة؛ ولذلك فإنه للفوز أبدا أو الهزيمة أبدا، فإنه ليشعر بتزايد قوة أنصار ~~الرق، بينما يتراخى الداعون إلى مقاومة تياره، وكان يبدو منه في خطابه ما يبدو من رجل مقبل ~~على موقف حاسم في تاريخ حياته، ففي نبراته رنين الإخلاص، وفي مقاطعه وابتداءاته لهجة اليقين ~~وبينات الحرص الشديد على أن يتدبر المنصتون كلامه، وعلى وجهه علامات الاهتمام حينا، ~~وأمارات القلق حينا، ومخايل الحذر والخوف واللهفة أحيانا، وكذلك العظيم إذا تكلم كان ~~كلامه من وجدانه ومن لبه، وكانت حركاته خفقات جوانحه ووثبات قلبه. # ولقد تنبأ ذلك الرجل العظيم فذكر للناس أن مسألة الرق لن تحل حتى تنتهي إلى أزمة تجتازها ~~الأمة بفضل صلابتها وقوة إرادتها، فإن تلك الإرادة متى أوقظت اجتاحت الصعاب، وكأنه كان ~~يتطلع من وراء حجب الغيب على ما ينتظر البلاد من حرب أهلية ضروس، وامتزجت في قلوب السامعين ~~الحماسة لما يقول الخطيب بالوجل الذي يلقيه في روعهم بما ينذر، فلقد اشتدت في الجنوب الحركة ~~التي ترمي إلى الانسحاب من الاتحاد حتى باتت خطرا قريبا يحسب له حسابه. ~~••• # وحدث أن كان مولد الحزب الجديد في نفس السنة التي كانت تختار فيها البلاد رئيسا جديدا ~~للولايات؛ وهي سنة 1856، فكان النشاط السياسي بذلك مضاعفا، وأحس الناس جميعا أن مسألة ms188 ~~الرق قد أصبحت القطب الذي يدور عليه هذا النشاط السياسي، فألقوا بالهم إليها على نحو لم ~~تسلف بمثله فترة في تاريخ البلاد. # وكان مرشح الجمهوريين هو كابتن فريمونت، وكان أول مرشح للحزب الوليد، كما كانت الانتخابات ~~في تلك السنة أول انتخابات يخوض هذا الحزب معركتها، ورشح الحزب لمنصب نائب الرئيس ويليام ~~ديتون من ولاية جرزي الجديدة، ولكن أهل سبرنجفيلد وأهل إلينوى أرادوا أن يكون لنكولن من ~~يرشح لهذا المنصب. # ورشح الديمقراطيون للرياسة بوكانون وهو من ولاية بنسلفانيا، وقد حاول دوجلاس بكل ما في ~~وسعه أن يظفر بهذا الترشيح، ولكن بوكانون تغلب عليه وظفر بتأييد أغلبية أنصار الحزب. # وظهر في الميدان حزب ثالث باسم حزب أمريكا، وهو في الواقع بقية الهوجز، وقد رشحوا للرياسة ~~فلمور، وكان نائبا للرئيس تيلور سنة 1848. # واشتدت المعركة بين الأحزاب، وكان مدار الدعاية اليوم قضية الرق وموقف كل حزب منها وما ~~يعتزم أن يفعل إذا قدر له الفوز، وهكذا يشمل الاتحاد إحساس عام أن هذه القضية أصبحت المحور ~~الذي تدور عليه سياسة البلاد. # وأعلن الجمهوريون أثناء المعركة مبادئهم وعملوا على إذاعتها في طول البلاد وعرضها، ~~ومؤداها أنه لا الكونجرس ولا أي مجلس غيره في أية مقاطعة ولا أي فرد من الأفراد ولا جماعة ~~من الجماعات؛ لا أحد من هؤلاء جميعا يملك أن يجعل امتداد الرق أمرا مشروعا في أية بقعة ~~من بقاع الولايات المتحدة، وذهب الجمهوريون إلى أكثر من ذلك فقالوا إن الدستور قد جعل ~~للكونجرس سلطة الحكم في جميع الولايات، وعلى ذلك فمن حق الكونجرس ومن واجبه عند تنفيذ هذه ~~السلطة أن يقضي في الولايات على «التوأمين الباقيين من عهد الهمجية؛ وهما تعدد الزوجات ~~والرق.» # أما الديمقراطيون فلم يعلنوا آراءهم واضحة في المشكلة كلها، وإنما أعلنوها واضحة في مشكلة ~~كنساس نبراسكا، فقالوا كما قال دوجلاس إن لأهل الولايتين أن يقرروا ما إذا كانوا يأخذون ~~بالرق أو يرفضونه، وترى من ذلك أن قرار كل من الحزبين يناقض الآخر، ومن هنا كانت المعركة ~~بين الرق والحرية. # وقد اختير ms189 لنكولن في ولايته فيمن اختيروا من هيئة انتخاب الرئيس، وراح يبذل أقصى جهده في ~~الدعوة لمرشح الجمهوريين أينما حل، وتكلم كثيرا وندد بالرق كثيرا، بيد أنه كان لا يغفل عن ~~تأكيد رغبة حزبه في الحرص على كيان الاتحاد. # وكان أنصار الرق من أهل الجنوب ومشايعوهم من الشماليين ينشرون في طول البلاد وعرضها مبدأ ~~دوجلاس الخلاب؛ وهو تقرير سيادة الشعب، ولن يكون ذلك إلا أن يترك الناس أحرارا في نظرهم ~~إلى الرق، وكانت كنساس حتى ذلك الوقت لا يزال يتوزعها أنصار الرق وأنصار الحرية، وكان ~~النضال بينهم فيها عنيفا، كل يطمع أن ينتصر مبدؤه. # ومما يذكر من فكاهات لنكولن في معركة الرياسة هذه أن فاجأه أحد المستمعين في جهة من ~~الجهات بسؤال أراد به أن يزعزعه فقال: «أحقا يا مستر لنكولن أنك دخلت هذه الجهة أول ما ~~دخلت حافي القدمين تسوق أمامك عددا من الثيران؟» وأجاب لنكولن: «إن لدي هنا «دستة» من ~~الرجال على الأقل يشهدون بصحة هذه الواقعة إذا كان إثباتها أمرا ضروريا في القضية التي ~~نحن بصددها.» # وتحمس لنكولن فقال إن ما بلغه من مكانة إنما كان ثمرة من ثمار الحرية، وعلى ذلك أليس ~~محقا في أن يمقت الرق الذي يوبق الروح، ويستذل النفوس في صفوف السود والبيض جميعا، ويمجد ~~الحرية التي يبلغ المرء في كنفها ما يطمح إليه من رفعة؟ وختم خطابه بقوله: «نعم سنتكلم في ~~سبيل الحرية وضد العبودية طالما يتيح لنا دستورنا حرية الكلام؛ حتى لا تشرق الشمس على هذه ~~الأرض العريضة ولا ينزل الغيث ولا تهب الريح على رجل يقسر على ما لا يؤجر عليه من عمل.» ~~وكان يستطيع أن يقول على رجل يسترق، ولكنه لم يزل حريصا لا يحب أن يندفع في محاربة الرق ~~إلى حد الجهر بالتحرير. # وانجلت المعركة الانتخابية عن فوز بوكانون، ولكن نجاح الحزب الديمقراطي كان ينطوي على ~~معنى الضعف، فإن ثلث عدد أصواته انضم إلى الحزب الجديد الذي كان يتلو على حداثته الحزب ~~الفائز في عدد الأصوات، حتى لقد اعتقد ms190 الكثيرون أن الفوز الحقيقي إنما كان للجمهوريين، ~~ولولا الخوف من دعوة التحرير وسرعة انتشارها في البلاد وشدة إشفاق الجنوبيين وأنصار الرق في ~~الشمال منها؛ لجاز أن كانت تأتي نتيجة الانتخاب يومئذ بخلاف ما انتهت إليه. # | أحداث ونذر! # ما لبثت أن بدرت في البلاد بوادر الطامة الكبرى؛ فقد تلاحقت الأحداث، وجرت الشائعات ~~بالنذر وانبعثت الإحن والحزازات، وتنابذ الناس وتباغوا، وأصبح بأسهم بينهم شديدا. فما هي ~~إلا رجفة ثم ينفجر البركان ويزلزل البنيان. # وكانت أولى تلك الأحداث ما وقع في مجلس الشيوخ؛ فقد كان في المجلس رجل يدعى سمنر، وكان ~~أستاذا للقانون بجامعة هارفارد، وتلقى العلم أثناء شبابه بأوربا، وقد عرف بقوة الجنان ~~وزلاقة اللسان وتوقد القريحة، وكان ممن يكرهون الرق أشد كره، فحمل في قوة وجرأت على قرار ~~نبراسكا، وأهاب بالناس أن يتمسكوا باتفاق مسوري، وكانت لهجته لاذعة وحجته قاطعة وعبارته ~~مقذعة، وقد تهكم تهكما قاسيا على أحد الأعضاء وهو المدعو بنلر وجعله سخرية الساخرين، فلما ~~كان ذات يوم بعدها جالسا إلى مكتبه في المجلس يكتب في سكون، إذ هجم عليه أحد أقارب بتلر ~~فأهوى على أم رأسه بعصا غليظة فخر على الأرض صعقا! وظل بعد ذلك سنوات يقاسي آلام العلة من ~~هذه الضربة. # وكانت هذه الضربة في الواقع أولى ضربات الحرب الأهلية؛ فأهل الجنوب بدل أن يستنكروا هذه ~~الفعلة هللوا لها واعتبروا صاحبها بطلا جديرا بالإعجاب والتوقير، وقدم له جماعة من الطلبة ~~عصا ذات رأس من الذهب، أما أهل الشمال فلك أن تتصور مقدار ما بلغته الفعلة من نفوسهم وما ~~تركته من الغيظ في صدورهم، فذلك ما لا ينهض لتصوره كلام. # وجاءت بعد ذلك قضية دردسكوت، فكانت حادثا رج البلاد من أركانها وإن كان هينا في ذاته؛ ~~وذلك أن عددا من العبيد رحلوا مع سيدهم إلى ولاية من الولايات الشمالية الغربية، وكان فيهم ~~عبد ذكي رزق حظا من التعليم ويدعى دردسكوت، أدرك أنه وراء الحد الفاصل بين ولايات الرق ~~والولايات الحرة - أي حد اتفاق مسوري - فرفع أمره إلى القضاء يطلب ms191 أن يتمتع هو وأسرته ~~بالحرية ما داموا في ولاية حرة. # ولكن هذا العبد كان يحمل ومن معه بالقوة من جهة إلى جهة، فصار ينقل قضيته من محكمة إلى ~~محكمة، وحجته أنه ظفر بالحرية فعلا؛ إذ كان وراء خط اتفاق مسوري؛ ولذلك فإن نقله بالقوة ~~إلى الجانب الآخر من خط الاتفاق - أي إلى الجهات التي تأخذ بالرق - لا يذهب عنه حريته؛ لأنه ~~انتزاع رغم أنفه. # وكان دردسكوت في الواقع يمثل ملايين العبيد، فقضيته قضية الرقيق جميعا، فما يجوز عليه ~~يجوز على كل زنجي في البلاد، ومن هنا جاءت أهميتها، ثم إنها وقعت في وقت كانت تتصارع فيه ~~الآراء والمبادئ وأذهان الناس جميعا متجهة إلى ما عسى أن تفضي إليه معضلة الرق، ولو أن هذه ~~القضية قد جاءت قبل ذلك لما كان لها مثل ما اتفق لها الآن من خطر. # انتقلت القضية من محكمة إلى محكمة حتى وصلت إلى المحكمة العليا للولايات، ويصف دردسكوت ~~موقفه في إحدى المراحل في كتيب تداولته الأيدي، ونقلت عنه الصحف حتى بات حديث البلاد كلها، ~~ومما جاء فيه قوله: «قال القاضي إنني وفق تلك القوانين كنت حرا كمالكي على سواء أثناء ~~أن كنت في إلينوى وفسكنسن، وكان لي أن أجعل من الرجل الأبيض عبدا لي كما يجعلني عبدا له، ~~وشعرت بالأسف لأن أحدا لم يقل لي مثل هذا الكلام وقت أن كنت هناك، وقد استشعرت الفرح إذ ~~حسبت أن القاضي سيهبني الحرية، ولكن القاضي تكلم بعد هنيهة فقال إنه بمجرد أن جاء بي مالكي ~~إلى هذه الناحية من خط اتفاق مسوري ذهب حقي في الحرية، وعدت أنا وأطفالي وأسرتي متاعا من ~~المتاع فحسب! وأحسست القسوة في أن يرسم البيض خطا من صنع أيديهم على سطح الأرض، على جانب ~~منه لا يكون الرجل الزنجي رجلا بأي حال، وأنهم يبقون ذلك سرا فلا يطلعون أي زنجي عليه ~~حتى يعودوا به إلى هذا الجانب من الخط؛ ولذلك لم أجد بدا من الالتجاء إلى المحكمة العليا ~~... يا إخواني في الإنسانية، هل ms192 فيكم من يستطيع مساعدتي يوم الفصل في القضية؟ ألا يتكلم أحد ~~كلمة من أجلي في وشنطون ولو لم يكن له عليها من أجر إلا دعوات رجل أسود وأسرته؟ لست أدري ~~ماذا أفعل، ولست أملك إلا أن أصلي وأدعو الله أن يتحرك قلب كريم بالشفقة علي، فيفعل لي ما ~~لست أستطيع أن أفعله لنفسي، وأن تعلن المحكمة العليا إذا رأت الحق في جانبي للناس هذا الحق ~~...» # وبات الناس ينتظرون حكم المحكمة وقلوبهم مليئة بالإشفاق على هذا الزنجي الفرد، الذي ~~تجاوبت البلاد كلها صدى كلماته مفعمة بالرثاء له، ثم إن قرار المحكمة لن يكون إلا حكما في ~~قضية الرق كلها، وكانت المحكمة العليا هي التي تفسر ما يختلف الناس فيه إذا كان اختلافهم ~~على دستورية قانون من القوانين وقولها في ذلك الفصل. # وقضت المحكمة بحكم لم يكن للناس في البلاد حديث غيره زمنا؛ لفرط دهشتهم منه، ولأهمية ~~مغزاه في تلك الظروف، ومؤدى هذا الحكم أنه ما كان لأي زنجي أن يرفع قضيته أمام محكمة من ~~محاكم البلاد كما يفعل الرجل الأبيض، وأنه ليس للكونجرس ولا لأي مجلس من مجالس الولايات أي ~~سلطة تخوله أن يمنع أي شخص من أن يعود برقيقه من الولايات الحرة إلى ولايات الرق، وليس لأحد ~~أن يتدخل بين مالك الرقيق ورقيقه في أي جهة من الجهات! # ومغزى هذا الحكم أنه يجعل اتفاق مسوري اتفاقا غير ذي موضوع؛ لأن مالك الرقيق بمقتضى ~~الحكم حر فيما يفعل برقيقه في أية ولاية من الولايات، ما كان منها في هذا الجانب من خط ~~اتفاق مسوري أو في ذاك. وكذلك يقضي هذا الحكم على قرار نبراسكا الذي يجعل لمجلس الولاية ~~الحق في تقرير مبدأ الرق في الولاية أو رفضه، فمرد المسألة الآن إلى مالكي الرقيق أنفسهم، ~~وفي هذا وحده من معنى حماية المحكمة العليا لملاك الرقيق في البلاد ما حق لأهل الجنوب أن ~~يطفروا فرحا به. # أما أهل الشمال فكان الحكم في نفوسهم غمة وفي حلوقهم شجى، فلا حديث لهم أينما تلاقوا إلا ms193 ~~ما ينطوي عليه من معان، وأدرك الشماليون أن قد أزفت الآزفة، واقترب اليوم الذي يحتكم فيه ~~أنصار الحرية وأنصار الرق إلى السيف، فقد أعلن الجنوبيون أن على الشماليين أن يذعنوا للحكم ~~وإلا انسحبوا هم من الاتحاد، وكانوا يتهمون دعاة التحرير بأنهم هم الذين دبروا هذه القضية، ~~وأن دردسكوت ما عمل إلا بوحيهم، وأيقن لنكولن أن الحوادث تؤيد ما ارتأى، ولعله كان يحس بينه ~~وبين نفسه أن قد اقتربت الساعة التي يتناول فيها معولا، لا ليقطع الأخشاب كما كان يفعل من ~~قبل في الغابة، بل ليهوي به على ذلك النظام البغيض فيضربه الضربة الحاسمة. # أيقن لنكولن ذلك، فهو وإن لم يكن يعرف الذهاب بنفسه يدرك اليوم أن قد صار له في السياسة ~~مكانة الزعماء؛ فلقد ذاع اسمه خارج ولاية إلينوى وتقبله الناس بقبول حسن، وقد رأينا أن أهل ~~إلينوى رشحوه لمنصب نائب الرئيس، ونذكر أنه نال من أصوات المؤتمر الأهلي للجمهوريين في ~~مساشوست مائة صوت وعشرا، ونال ديتون مائتين وستة وخمسين، فأصبح ديتون مرشح الحزب، على أن ~~حصول لنكولن على هذا العدد - وإن لم يرشح - دليل على نمو مكانته في نفوس الجمهوريين، ولما ~~علم لنكولن بذلك تبسم ضاحكا وقال: «حسبت أول الأمر أن هناك رجلا عظيما في مساشوست يدعي ~~كذلك أبراهام لنكولن.» # وقد تألم لنكولن وانكدرت نفسه لذلك الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا، تلمح ذلك فيما عقب ~~به عليه؛ إذ أخذ يقارن حال العبيد يومئذ بما كان يرجى لهم غداة إعلان استقلال الولايات، ~~قال: «في هاتيك الأيام كان إعلاننا الاستقلال أمرا يعده الناس مقدسا كما أنهم عدوه ينتظم ~~السكان جميعا، أما اليوم فقد سخر منه وهوجم وأول وفق الأهواء ومزق شر ممزق، حتى إنه لو ~~أمكن أن يبعث صانعوه اليوم من مراقدهم ما أمكنهم أن يتعرفوه، وذلك بما فعلنا إذ حاولنا جعل ~~استعباد الزنجي أمرا عاما أبديا، وإن جميع قوى الأرض لتظهر كأنها تتحد سريعا عليه، ~~فأله المال «ممون» في أعقابه، ومن ورائه الطمع، ثم من وراء هذا الفلسفة، تتلوها جميع ms194 ~~نظريات العصر التي تتكاتف جميعا لتؤيد الصيحة ضده. لقد ألقوا به في سجنه بعد أن فتشوه ولم ~~يدعوا في يده أية آلة ينقب بها الجدار، وأغلقوا عليه الواحد بعد الآخر أبوابا ثقيلة من ~~الحديد، كل منها ذو مائة مفتاح، ولا يمكن فتحه إلا أن تتفق على ذلك كل هاتيك المفاتيح، ~~وإنها لفي أيدي مائة من الرجال مختلفين مبعثرين في مائة مكان سحيق، وإنهم فوق ذلك ليفكرون ~~أي اختراع في كافة جوانب العقل والمادة يمكن أن يضاف إلى ذلك، ليتأكد لهم استحالة هربه أكثر ~~مما يتأكد على هذه الصورة!» # وحق لأبراهام أن ينطلق لسانه بهذا الغضب، وأن تجزع نفسه لهذا الحكم؛ إذ ما نصيب موقف حزبه ~~من القرب أو البعد من روح الدستور بعد هذا الحكم، وهو الحزب الذي يجعل اتفاق مسوري القاعدة ~~التي يصدر عنها في معضلة الرق؟ # وظلت الأحداث والنذر تأتي بعضها في إثر بعض؛ فهذه كنساس لا تزال تتوثب فيها الفتنة ويتحفر ~~الشر، فقد أخذت تضع لها دستورا، وكان أنصار الحرية فيها أكثر عددا من أنصار الرق، ولكن ~~هؤلاء عمدوا عند انتخاب مؤتمر عام يضع الدستور إلى القوة المادية، وتألفت عصابات منهم ومن ~~بعض مؤيديهم من الولايات القريبة، وحالوا بين الأحزاب وبين أمانيهم بوسائل الإرهاب ~~والتنكيل، وجرت الانتخابات على صورة مؤلمة، فلم ينتخب إلا أنصار الرق، فانفردوا بوضع ~~الدستور، وقرروا فيه أن كنساس من ولايات الرق، واجتمع أنصار الحرية وأعلنوا احتجاجهم، ~~وأعدوا دستورا آخر يحرمون فيه الرق. # ويأبى الرئيس بوكانون في تلك الآونة العصيبة إلا أن يعتمد قرار المؤتمر، فيقبل الولاية في ~~الاتحاد على أنها إحدى الولايات التي تأخذ بنظام الرق كما جاء في دستورها. # وجاء هذا مع الحكم في قضية دردسكوت ألما على ألم لنفوس الأحرار، ولشد ما تألم لنكولن ~~لهذا القرار، ولكن ذلك كان عنده الألم الذي يلد الأمل ويحفز النفوس إلى العمل ويغريها ~~بالجهاد، ولولا أن كان من المؤمنين الصادقين لتطرق إلى نفسه الوهن ومشى في عزمه ~~اليأس. # وفضلا عما أحدث دستور كنساس من أثر ms195 في قضية الرق العامة، نراه يؤثر في موقف لنكولن من ~~خصمه دوجلاس؛ فقد كان يرجى لنكولن أن يظفر بأصوات الناس إذا رشح نفسه مرة ثانية لمجلس ~~الشيوخ، ولكن دوجلاس عرف كيف يستغل هذا الموقف ويكسب تأييد عدد من الجمهوريين أنفسهم بتلونه ~~واتباعه سياسة اقتناص الفرصة المواتية. # رأى دوجلاس أن قرار المحكمة العليا قد قضى على ما راح يدعو إليه من توطيد مبدأ سيادة ~~الولايات في تقرير مصيرها، ذلك المبدأ البراق الذي ظل يخلب الألباب ويلوح به لأهل الجنوب ~~ليكونوا عدته في الوصول إلى الرياسة، ولقد بات من أمره في حيرة شديدة؛ فهو يخشى أن يفقد ~~محبة أهل الجنوب إذا عارض دستور كنساس، بينما هو يخشى كذلك أن يفقد ثقة أهل إلينوى إذا هو ~~نسي مبدأ سيادة الولايات وسلطانها؛ فيؤدي ذلك إلى خذلانه في الانتخاب لمجلس الشيوخ، وقد ~~أوشكت مدته فيه أن تنتهي. # وآثر الآن أن يحرص على ثقة ناخبيه لمجلس الشيوخ، فأعلن عداءه لدستور كنساس، ووقف يحمل ~~عليه في المجلس حملات شديدة بعثت في قلوب الديمقراطيين الغيظ وأثارت في عقولهم الدهش، فهذا ~~الرجل الذي يعدونه من أقوى رجالهم لا يستحي أن يخرج على هذه الصورة، ولا يتورع أن يعارضهم ~~في غير هوادة، كأنما انقلب بغتة فصار من رجال الحزب الجديد. # ولقد هلل بعض زعماء الجمهوريين لموقف دوجلاس واستبشروا به، بل لقد أخذوا يوحون بضم دوجلاس ~~إلى حزبهم ليزدادوا به قوة ومنعة، وراح جريلي أحد أصحاب الصحف بنيويورك، وهو من قادة هذا ~~الحزب، يدعو القراء إلى انتخاب دوجلاس، وأخذ يثني على صفاته ويتوخى في مديحه الإطناب ~~والمغالاة، وكان هذا الرجل من أشهر رجال الصحافة في الشمال، وكانت له عند الناس مكانته، كما ~~كان لصحيفته عدد كبير من القراء المعجبين به. # ولكن أبراهام أنكر كل هذا الاتجاه ولم يحس في نفسه الميل إلى هذا التناقض، وهنا تعود ~~للظهور خصلة من أبرز خصاله؛ ألا وهي الاستقامة إذا صح أن تعبر هذه الكلمة عن المعنى الذي ~~نريد، والذي نراه ينحصر في إطلاق النفس على ms196 سجيتها لتسير على نهج من فطرتها في غير تناقض أو ~~تذبذب أو اضطراب، وما كان أبراهام ليتكلف شيئا لا ينزع إلى وجدانه، ومن هنا كانت خطواته ~~بطبيعتها مسددة صوب الغاية مفضية إليها، مهما كثر ما يعترضه من الصعاب، ثم من هنا كان خطره ~~إذا هم بأمر، قال حين علم بتلك الدعوة الجديدة: «لقد أتى جريلي نحوي بما لا يعد عدلا. إني ~~جمهوري من صميم الجمهوريين، ولقد وقفت دائما في طليعة الصفوف عند المعركة، والآن أراه ~~يفاوض دوجلاس خير من يمثل رجل الاتفاقات وأنصاف الحلول، ذلك الذي كان ذات مرة آلة أهل ~~الجنوب، والذي هو اليوم أحد معارضيهم، ذلك هو الرجل الذي يحاول أن يضعه في صفنا الأمامي ... ~~إنه يحسب أن مكانه الرفيع وشهرته وتجاربه ومقدرته - إذا سره ذلك - تقوم مقام المركز ~~الجمهوري الخالص الذي ينقصه، بل وتزيد على ذلك ... ولذلك فإن إعادة انتخابه للشيوخ - على أن ~~يمثل القضية العامة لحزبنا - أجدى علينا من انتخاب من هو خير منه من رجالنا الجمهوريين ~~الخلص ممن ليست لهم مثل شهرته، ماذا تعني «نيويورك تريبيون» بذلك الإطراء والإعجاب والتعظيم ~~الذي تزجيه دائبة لدوجلاس؟ هل تعبر بذلك عن شعور الجمهوريين في وشنطون؟ هل وصلوا نهائيا ~~في رأيهم إلى أن قضية الحزب الجمهوري على العموم تتقدم خيرا من ذي قبل بتضحيتنا هنا في ~~إلينوى؟ إن كان ذلك كذلك فنحب أن نعلمه عاجلا، على أني حتى الآن لست أعلم بجمهوري هنا يرغب ~~أن ينضم إلى دوجلاس، وإذا استمرت التريبيون ترن باسم دوجلاس في مسامع الخمسة أو العشرة ~~الآلاف من قرائها في إلينوى، فإن ذلك يكون أكثر من أن نأمل معه أن يظل الشمل جميعا. إنني ~~لا أشكو ولكنني أرغب في أن أصل إلى بينة من الأمر.» # ذلك هو لنكولن اليوم، انظر كيف يجمع بين منطق المحامي وحصافة السياسي، وانظر كيف يدفع عن ~~نفسه بما نشأ عليه من دماثة ما يجد فيه عدوانا على شخصه ونيلا من كرامته، فهو يطيق أن ~~يكون دوجلاس خصما له، ولكنه لا يطيق ms197 أن يراه مرشح الحزب دونه في إلينوى، وهو فيما يعتقد لا ~~يرى كفايته تتقاصر عن ذلك. # وسافر صديقه هرندن إلى الجهات الشرقية ليرى ما حال الحزب هناك، وليقابل زعماءه البارزين، ~~فعاد إليه ينبئه بأن اسمه يقابل بالاحترام من كثير من قادة الحزب، بيد أنه يحمل إليه مع ذلك ~~أنباء لا تسره؛ فرجال الحزب منقسمون بعضهم على بعض؛ فإن لجريلي آراءه، ولستيوارد أطماعه، ~~ولغيرهما من أساطين الحزب من أوجه الرأي ما يخشى منه انحلاله. # هكذا صارت السياسة شغله الشاغل فهو لا يستطيع اليوم غير ذلك، لا لأنه يتخذ من السياسة ~~وسيلة إلى تحقيق أطماع شخصية كما عسى أن يفعل غيره؛ ولكن لأن عقيدة تحرك نفسه وتستثير ~~وجدانه، ولأن رسالة من الرسالات الإنسانية الكبيرة ينبض بها قلبه الكبير. وهل عهدنا عليه من ~~قبل ما نحمل معه اشتغاله بالسياسة على غير محمله؟ # على أنه لم ينفض يده من المحاماة بعد، فما زالت المحاماة مرتزقة، ولقد ارتفع فيها إلى ~~مستوى يحق معه لرجال المحاماة جميعا، في كل جيل وفي كل بلد، أن يذكروه كعلم من أعلامها، ~~وأن يضيفوا اسمه إلى ما يعدونه في مهنتهم من دواعي الشرف وبواعث الفخار. # ومن أعماله في المحاماة يومئذ قضية آرمسترنج التي سلفت الإشارة إليها، فقد وقع بصره في ~~إحدى الصحف على جريمة قتل يدعى أحد المتهمين فيها آرمسترنج، فدهش وتساءل هل يكون ذلك ابن ~~متحديه القديم في نيو سالم ثم صديقه بعد ذلك منذ كان فتى يبيع في الحانوت، ولما تبين له أنه ~~هو كتب إلى أمه يقول: # عزيزتي مسز آرمسترنج # علمت الآن بألمك العميق وبإلقاء القبض على ابنك متهما بالقتل، ويصعب علي أن أصدق ~~أنه عسي أن يرتكب ما اتهم به، إن ذلك لا يبدو ممكنا، وإني لأرجو أن يجرى معه ~~تحقيق عادل على أي حال، وإن عرفاني بالجميل نحوك وما كان لي منك أيام شدتي من عطف ~~طالت أيامه؛ ليحدوني أن أتقدم في سماحة نفس بخدماتي المتواضعة لصالحه، فإن هذا سوف ~~يتيح لي الفرصة أن أرد ms198 ولو بقدر ضئيل تلك المبرات التي نلتها على يديك ويدي زوجك ~~المأسوف عليه؛ إذ لقيت تحت سقفكم مأوى كريما بغير مال وبغير ~~ثمن. # وثمة حادثة أخرى لها دلالتها على عظمة الرجل ونبله وسمو نفسه؛ ذلك أنه تقدم عن طيب خاطر ~~ليدافع عن حفيد القس كارترايت، ذلك الرجل الذي طعنه في دينه قبل ذلك بعشرين عاما وهو ~~ينافسه في الوصول إلى مقعد في مجلس الولاية، وكانت هذه التهمة كذلك تهمة القتل، ولشد ما ~~تأثر كارتريت وهو اليوم شيخ كبير؛ إذ شاهد حرارة دفاع خصمه القديم لنكولن عن حفيده الذي ما ~~لبث أن برئت ساحته. # على أن للسياسة اليوم أكثر همه، فما يفرغ من عمله إلا أخذ يتقصى حال حزبه، وكان نشاط ~~دوجلاس يومئذ، ورغبته أن يظفر بمقعده ثانية في مجلس الشيوخ، وميل بعض زعماء الجمهوريين من ~~أمثال جريلي إلى اجتذابه للحزب الجمهوري؛ كل أولئك كان موضع اهتمامه، لا يني يفكر فيه؛ وذلك ~~لصلته بالقضية الكبرى التي باتت قضية الاتحاد كله؛ ألا وهي قضية الرق، فها هي ذي الأحداث ~~والنذر - كالاعتداء على سمنر، وحكم المحكمة العليا في قضية دردسكوت، وقبول الناس في الاتحاد ~~ولاية من ولايات الرق - تسبق العاصفة وتنذر بالراجفة. # | دوجلاس ولنكولن # أيقن أبراهام بينه وبين نفسه أنه أصبح أعظم الجمهوريين مكانة في سبرنجفيلد وإلينوى، ولكن ~~موقف دوجلاس من دستور كنساس وإقبال بعض الجمهوريين عليه من أجل ذلك لا يعجبه، ولشد ما ضايقه ~~وكدر خاطره موقف جريلي؛ إذ عد أبراهام ثناءه على دوجلاس نيلا منه غير مباشر. # دخل على صديقه هرندن ذات يوم في مكتبهما فرآه صاحبه مهموما مكتئبا، وما لبث أن تبين أن ~~مرد ذلك لم يكن إلى شيء من جانب زوجه، كما حسب بادئ الرأي، ولكن دعوة جريلي هي التي كدرته، ~~وقد تحدث بهذا إلى صاحبه شاكيا مبينا ما في هذه الدعوة من ظلم وخطر عليه، ويقول صاحبه إنه ~~انصرف من المكتب ولم يزايله همه، ولم يستطع أن يأتي عملا حتى انتصف النهار. # وسافر هرندن إلى الولايات الشرقية فوجد ms199 لاسم لنكولن شهرة على بعد الشقة، يحبه الناس وإن ~~لم يروه؛ فما ذكر صاحبه اسمه إلا قوبل بالبشاشة والثناء، وكتب هرندن إلى صديقه ينبئه بذلك ~~وأفضى به إليه حين عاد فطابت بذلك نفسه. # ولقي هرندن دوجلاس فيمن لقي، وأشارا إلى لنكولن فأحس هرندن أن دوجلاس يوجس من صاحبه خيفة، ~~وقد قال له إذ هم بالانصراف: «لست أضمر للنكولن شرا، ولست أفكر أن أعترض طريقه. بلغه ~~احترامي.» # وانعقد سنة 1858 مؤتمر من الجمهوريين في سبرنجفيلد لترشيح عضو عن الولاية لمجلس الشيوخ، ~~واجتمعت كلمة رجاله على ترشيح لنكولن، وفعلوا ذلك في غبطة وفي حماسة شديدتين. # وهكذا اتفقت كلمة الجمهوريين على لنكولن يقدمونه ~~لينافس دوجلاس رجل الديمقراطيين، وسيلتقي الخصمان، ويكون بينهما هذه المرة صراع دونه كل ما ~~سلف من صراع. # دوجلاس. # وعرف لنكولن مبلغ ما ينطوي عليه الموقف من خطر، وأدرك أنه ملاق منه رهقا شديدا وعنفا، ~~ولكنه يحس في قرارة نفسه أن له في ذلك ما يشفي نفسه، فهو يحمى على الصراع، ولا تظهر مواهبه ~~على أحسن ما تظهر إلا حين يبتعثها ضجيج الموقف وتستثيرها حرارة الدفاع. # وكذلك أشفق دوجلاس وأوجس في نفسه خيفة، فلقد فطن - وهو الخبير بأقدار الرجال البصير بأمور ~~السياسة - إلى دقة الموقف، وأدرك أن أبراهام اليوم غيره بالأمس، فهو منه اليوم حيال قوة لا ~~تنفع معها حيلة ولا يجدي مكر أو دهاء. # وفيما كان رجال حزبه يقدمونه، كان أبراهام يعد خطابا حاسما يعبر به عما في نفسه، ولقد ~~ظل يثبت ما يجري في باله على قصاصات من الورق يدسها في قبعته حتى استوى له موضوعه، فجمعه ~~بعضه إلى بعض في عناية شديدة، وظل يراجعه فقرة فقرة حتى اطمأنت نفسه إليه، وأغلق أبراهام ~~باب المكتب ذات يوم وأنزل الستارة من داخله على الجزء الزجاجي منه، ثم جلس يتلو هذا الخطاب ~~على صديقه هرندن، وكان يبدو على وجهه الاهتمام الشديد، وتدل ملامحه على أنه مقبل على عمل ~~حاسم، وكان يقف في نهاية الفقرات ثم ينظر في وجه صاحبه يتبين موقعها في ms200 نفسه، أو ينتظر ~~رأيا منه. واعترض هرندن حين وصل أبراهام إلى قوله: «إن البيت المنقسم بعضه على بعض لن تقوم ~~له قائمة»، وهي فقرة من الإنجيل أشفق منها أن تؤول تأويلا سيئا، فتلقي في روع الناس أن ~~الاتحاد انقسم بعضه على بعض أو هو بسبيل الانقسام، ولكن لنكولن أصر على بقاء هذه الفقرة ~~قائلا إنه يفضل أن يكون نصيبه الفشل وتبقى في خطابه هذه العبارة؛ لأنه تعمد أن يأتي بعبارة ~~قوية قصيرة تألفها أذهان الناس وألسنتهم من قبل، بينما هي تناسب المقام فتقع من نفوسهم ~~موقعا يهز مشاعرهم هزا. # وجمع لنكولن بعض خلصائه قبيل الموعد الذي حدد لخطابه في المؤتمر الجمهوري وتلاه عليهم، ~~فأنكروه جميعا وأظهروا خوفهم على مكانة الحزب وعلى لنكولن، ونصحوا إليه ليصرفوه عن كثير ~~مما جاء فيه، إلا هرندن فقد أيده وقال متحمسا: «ألق هذا الخطاب فسيجعلك رئيس الاتحاد.» ولم ~~يك يدرك هرندن مبلغ ما في نبوءته هذه من صدق. # وكان لنكولن إذا صمم على أمر لن يلويه عنه شيء فقال لأصحابه: «أي أصدقائي، إن هذا الشيء ~~قد أجل إلى مدة طويلة أرى فيها الكفاية، لقد حان الوقت الذي ينبغي فيه أن أعبر عن وجداني، ~~فإذا قدر لي أن يكون مصيري السقوط بسبب هذا الخطاب، فلأسقطن مربوطا إلى الصدق. دعوني ألقى ~~حتفي في الدفاع عما أرى أنه الحق والعدل.» # وقام لنكولن يلقي في المؤتمر خطابه فقال: # حضرة الرئيس، حضرات السادة رجال المؤتمر، إذا استطعنا بادئ ذي بدء أن نعلم أين ~~نحن وإلى أي وجهة نريد أن نتجه، أمكننا أن نعرف ماذا نصنع وكيف نصنعه. إننا الآن قد ~~قطعنا شوطا في العام الخامس منذ تلك السياسة التي أردنا بها وضع حد لما تثيره ~~معضلة الرق من قلق، ولكن هذا القلق لم يقتصر أمره على أنه لم يوقف فحسب، بل لقد ظل ~~يتزايد أبدا، وفي رأيي أنه لن ينتهي حتى يفضي بنا إلى أزمة لا بد أن نجتازها. إن ~~البيت المنقسم بعضه على بعض لن تقوم له قائمة، وإني ms201 أعتقد أن هذه الحكومة لا يمكنها ~~أن تدوم ونصفها إلى الرق والنصف الآخر إلى الحرية، ولست أبغي أن ينهار البيت، ~~ولكنني أريد ألا يستمر في انقسامه، ولسوف يكون كله إلى هذا الجانب أو إلى ذاك؛ فإما ~~أن يحول أعداء الرق دون أي اتساع له في المستقبل ويضعوه حيث يرتاح الرأي العام إلى ~~أنه وضع في الموضع الذي يفضي به إلى الفناء النهائي، وإما أن يدفعه أنصاره إلى ~~الأمام بحيث يصبح أمرا مشروعا في جميع الولايات، القديم منها والجديد، الشمالي ~~والجنوبي. # ذلك جانب من الخطاب الذي أفضى به لنكولن إلى رجال المؤتمر في صراحة وجلاء، ولقد أشفق منه ~~كثير من رجال المؤتمر كما أشفق خلصاء لنكولن وخافوا، وهو يريد بالبيت المنقسم على نفسه ~~الولايات الأمريكية أن يظن خصومه أنه يشير بقطع العقدة لا بحلها، وأنه يلمح بذلك إلى ~~الحرب. # ولكن أبراهام كان يعبر بهذا الكلام في الواقع عن شعور أعداء الرق جميعا، فقد باتت ~~المعضلة تستوجب الحل، وكل تهاون فيها إنما يزيدها سوءا على سوء، كالجرح الذي ظهر خطره إن ~~هو أهمل كان فيه الموت المحقق، ومن هنا كانت أهمية هذا الخطاب، ثم من هنا كانت أهمية موقف ~~أبراهام يومئذ، فقد بات لقومه نذيرا، ونفذ قوله إلى الأسماع والقلوب، وطالما أنذرهم غيره ~~فلم تغن النذر. # وكان دوجلاس قد نزل بشيكاغو يدعو الناس إلى تجديد انتخابه لمجلس الشيوخ، فوجد في خطاب ~~خصمه لنكولن فرصة يغتنمها، فاتهمه أنه من دعاة التحرير بالقوة، وأخذ يحذر الناس من انتخابهم ~~إياه، واغتاظ لنكولن لتلك التهمة النكراء، ولكنه لم يستكثرها على دوجلاس، وإنه لواثق أنه ~~سيقذف عما قريب بحقه على باطل خصمه فيدمغه فإذا هو زاهق. # وما كان أبراهام ممن يقرون الثورة والعنف مهما بلغ مقته للرق ومهما ضاق به صدره، ولسوف ~~يبقى دستوره حل تلك المعضلة على أن يكون ذلك في كنف الاتحاد وتحت رايته، التي لا يرضى إلا ~~أن تظل خفاقة عالية تجمع على محبتها وإكبارها بني الوطن جميعا. # وعول دوجلاس على أن يخوض المعركة ms202 على أساس خصومته لبوكانون في مسألة دستور كنساس، لا على ~~أساس مخاصمته منافسه لنكولن فيما جاء في خطابه الجديد من آراء، كأنما يستعظم أن يكون ذلك ~~الرجل الذي ما زال شأنه منحصرا في ولايته ندا له، وإن كان دوجلاس ليحس بينه وبين نفسه ~~مبلغ ما تنطوي عليه نفس خصمه من عظمة، ومبلغ ما يحمله قلبه من إيمان. # ولقد شاع خطاب أبراهام في الولايات، وتناقلته الصحف في طول البلاد وعرضها، فكان ذلك أبلغ ~~رد على ترفع دوجلاس وذهابه بنفسه، وأحس أبراهام مبلغ ما أحدثه ذلك الخطاب من أثر في البلاد، ~~تتبين ذلك في قوله: «إذا كان لي أن أمر بالقلم على صفحات تاريخي وأمحو حياتي كلها عن ~~الأنظار، وقد ترك لي أن أختار شيئا أستثنيه من هذا المحو، فإني أختار هذا الخطاب فأدعه ~~للعالم لم تذهب معالمه.» # وليس في قوله هذا شيء من المغالاة؛ فإن خطابه كان أكبر حافز لأولي الرأي أن يقفوا من ~~مسألة الرق موقف الذي يريد الوصول إلى الغاية، فلا تهاون ولا تلكؤ بعد اليوم، وإلا تفاقم ~~الخطب واستعصى على الحل، ودخلت البلاد في طور من الفوضى الجامحة تأتي على الأخضر واليابس. ~~كما أن هذا الخطاب كان أهم حادث في تاريخ حياته، فبعده صار للسياسة كل همه، وبه قدر له أن ~~يصبح في السياسة من رجال أمريكا كلها لا من رجال إلينوى فحسب. # وخطب لنكولن بعد ذلك في شيكاغو يرد على ما اتهمه به دوجلاس، فأعلن أن الوثيقة الكبرى التي ~~يجب أن يتقيد بها الأمريكيون ويسيروا على نهجها هي وثيقة إعلان الاستقلال، وأنه يجب أن ينظر ~~إلى مسألة الرق نظرة إنسانية، وأن يراعي اتفاق مسوري فيما ينجم بين الفريقين من ~~خلاف. # وتكلم دوجلاس بعد ذلك في بلومنجتن ثم في سبرنجفيلد، ورد عليه لنكولن في المرتين، ثم بدا ~~له فخطا خطوة لم يسبقه إلى مثلها رجل من قبله في التاريخ السياسي للبلاد، وذلك أنه أرسل إلى ~~دوجلاس رسولا، يعلن إليه أنه يتحداه أن يلتقي وإياه في مبارزة خطابية يستمع ms203 فيها الناس ~~إليهما، ويحكمون بينهما حسبما يرون من كلامهما. # ولقد ضاق دوجلاس بهذا التحدي، وهو الذي يعرف أصالة صاحبه وشدة إيمانه، ذلك الإيمان الذي ~~رسخ حتى ما يحتال عليه بحيلة أو تزعزعه مطاولة، أو يفل منه جاه أو إغراء، والذي جعل كل ~~وسيلة من وسائل المغالبة بحيث تكون منه كالموج من الصخر لا يلطمه إلا لينحسر عنه، ولم يبق ~~فيه من طبيعة الموج شيء. # وأبى على دوجلاس كبرياؤه وغلواؤه أن يتخاذل عن هذا النزال، فقبله على كره منه قال: «سوف ~~تصبح يداي مليئة. إنه رجل حزبه ذو البأس، ملؤه الذكاء والحقائق التاريخية، وإنه لأمين بقدر ~~ما هو حذر أريب، ولئن قدر لي أن أظهر عليه فسوف يكون انتصاري بشق النفس.» وأسر في موضع ~~آخر إلى صديق له قوله: «إني لا أحس أني أرغب في الذهاب إلى هذا الجدال، إن البلاد كلها ~~تعرفني ولقد سبق أن قدرتني، وإن لنكولن إذا قيس إلي ليعد غير معروف، فإذا أتيح له أن ينتصر ~~علي في هذا الجدل، وإني لأود أن أذكر أنه أقدر رجل في الحزب الجمهوري؛ فإنه يكسب كل شيء ~~بينما أخسر أنا كل شيء، أما إذا قدر لي الفوز فإني لن أغنم إلا قليلا، إني لا أحب أن أذهب ~~إلى تلك المجادلة معه.» # وحددت سبع مدن يلتقي فيها الرجلان فيتناظران، والناس من حولهما يشهدون ما يكون بينهما، ~~وفرح لنكولن وقد أتيحت له أعظم فرصة ليعبر عما في نفسه، وأية فرصة هي؟! ألم يك دوجلاس في ~~الناس أكثرهم استفزازا له، وأدعاهم أن يبرز له ما استكن من مواهبه؟ ثم أليست هذه المجادلة ~~كفيلة أن تجمع إلى أنصاره ومحبيه أنصار دوجلاس ومحبيه، فيكون الكلام في حشد قلما يتسنى أن ~~يكون مثله، فإذا قدر له أن يكسب هذه القلوب أو يصل إلى إقناع هذه العقول، فأي فوز هو وأي ~~فخر! # أثناء النزال. # والحق أن هذا التحدي كان خطوة من خطوات لنكولن بالغة المهارة، فليس أفضل منها وسيلة ~~لإذاعة رأيه في معضلة الرق، وفي النيل من ms204 الديمقراطيين في شخص دوجلاس الذي يباهون ~~به. # واتخذ دوجلاس للأمر عدته، لم يدع وسيلة أو يغفل عن حيلة، أما أبراهام فلم تكن به حاجة إلى ~~ما يحتال به من أساليب التأثير المتكلفة الخادعة، ولديه البيان والمنطق، فما هو إلا أن ينصت ~~له الجمع حتى يبتعث اليقين ما قر في نفسه فيحرك به لسانه، فإذا بيانه كالنهر الحادر يفهق ~~بما لا يفتأ يواتيه به المنبع، ويجيش بهذا الفيض ويهدر، ويتدفق لا يصده عن وجهه شيء. # وكان لدوجلاس من بعد الصيت ما جعل اسمه ملء الأسماع في طول البلاد وعرضها، وكان في رأي ~~الأمريكيين أقدر رجال حزبه وأكثرهم فطنة، وأطولهم في السياسة باعا وأقواهم بمصاعبها ~~اضطلاعا، بل لقد كان عند الكثيرين من ذوي الرأي أعظم رجال أمريكا كفاية يومئذ وأعزهم ~~مكانة، وكان يلقب بالمارد الصغير؛ أن كان له على صغر جرمه وقصر قامته قوة المارد وسلطان ~~المارد ودهاء المارد، وكانت له حيوية تتقطع دونها حيوية الرجال، وتتقاصر عنها هممهم، ومن ~~وراء ذلك ثروة شخصية ضخمة وجاه حزبه وقوته، والحق لقد كان دوجلاس يومئذ أنبه الناس شأنا ~~وأعزهم نفرا، وهو من عهد قريب لم يك يسمع به أحد خارج إلينوى. # لذلك كان للناس عجبا أن يطاوله أبراهام وأن يدعوه إلى نزل، وأخذ من لم يكن يعرفه منهم ~~هذا الفعل من جانبه على أنه ضرب من الغرور أو نوع من الغفلة، ولو أنهم عرفوا دخيلة صاحبهم ~~الذي افتتنوا به وتبينوا ما هجس في نفسه من خواطر إزاء هذا التحدي الجريء، لأيقنوا أن جبروت ~~ماردهم وأساليبه ما كانت لتغني عنه شيئا من هذا العملاق الذي درج من الغابة ليقف أمامه ~~كالسنديانة. # وكانت أتارا أولى المدن السبع التي اختيرت ميادين لذلك الصراع، وقد جاءها الناس ليشهدوا ~~ما لم تقع عليه من قبل أبصارهم أو تتعلق به أوهامهم، وقد اتفق أن يكون الكلام أول الأمر ~~لدوجلاس فيخطب الجمع ساعة، ثم يتكلم بعده أبراهام ساعة ونصف ساعة، ويختتم دوجلاس هذا الدور ~~بعده بحديث يستغرق نصف ساعة. # وكان دوجلاس ms205 في انتقاله بين المدن يتخذ مركبة فخمة تجرها ست من كرائم الخيل، وحوله ستة ~~وثلاثون فارسا رمزا لعدد الولايات يومئذ، يتزيد بهم من الهيبة والأبهة، وكان وراء ركبه ~~مدفع يرسل ستا وثلاثين طلقة إذا دخل مدينة من المدن، وقد وقف في مركبته الفخمة وتكلف أكثر ~~ما يطيق من الصرامة، فما يكاد يلتف حوله الناس مصفقين مهللين حتى تنقلب صرامته وسامة، فيحيي ~~الجموع بيديه وإيماءاته وابتساماته، ويلتفت نحو هذا ويهش لذاك، كأنه ملك يطلع على شعبه، ~~وإذا هو حل بقوم أو سار إليه قوم عرف كيف يوحي إليهم تبجيله والإعجاب به، فهو بين الصلف ~~وخفض الجناح يحيي وجوههم وكبراءهم ويغمرهم بنعمة منه وفضل. # أما لنكولن فكان ينتقل بين الناس كأحدهم، وكثيرا ما يكون دون بعضهم، فإذا أخذ مكانه في ~~قطار أو في مركبة عامة كان بين ركابها كما كان بين الناس في نيو سالم إذ كان يبيع في حانوت؛ ~~يتبسط لهم في القول، ويسترسل معهم في شتى الأحاديث، ويقص عليهم من قصصه، وإن له في هذا كله ~~لمتاعا ولذة لن يحسها إلا من كان له مثل قلبه. # وكان بعض أصحاب لنكولن يشفقون من مطاولة دوجلاس، ويظنون أنه تورط في هذا الأمر. لقيه ~~أحدهم في سبرنجفيلد قبيل سفره للقاء الأول، فصارحه بخوفه وأظهره على مخاوف كثير من أصحابه، ~~فمشت في وجه لنكولن كدرة، ثم ما لبث أن أشرقت صفحته وابتسم ابتسامة عذبة، وقال وقد التمعت ~~عيناه: «اجلس هنا دقيقة يا صاحبي سأقص عليك قصة: لقد سافرنا في الجولات القضائية معا ~~وشهدنا جلسات المحاكم، وكثيرا ما رأينا رجلين على وشك أن يتصارعا؛ أما أحدهما، وهو المارد ~~الكبير أو الصغير حسبما تكون الحالة، ففخور ذو جلبة يقفز عاليا في الهواء، ويضرب قدميه ~~إحداهما بالأخرى، ويدق جمعي يديه واحدة بأختها يشير إلى ما يعتزم أن يصنع محاولا أن يخيف ~~خصمه. وأما الثاني فلا ينطق بكلمة وذراعاه إلى جانبيه وكفاه مبسوطتان ورأسه ثابت فوق ~~عاتقيه، وهو يدخر نفسه وقوته للصراع. سيضرب هذا الرجل إذا وقع الصراع ms206 ، وسيكون له فيه مثل ما ~~ترى من ثباته قبله. اذكر ذلك ولا تنسه ... رافقتك السلامة.» # والتقى الرجلان في أتاوا واحتشد الناس في الموعد المضروب فضاق بهم مكان الاجتماع، وحانت ~~ساعة الكلام، فوثب «المارد الصغير» إلى موقع مرتفع أطل منه على الناس، فتمزقت بالتصفيق أكف ~~أنصاره وتشققت بالهتاف حناجرهم، وهو يرسل نظراته في جنبات المكان ويوزع إيماءاته هناك وهنا ~~حتى سكنت ريحهم فبدأ الكلام. # وكان يومئذ في الخامسة والأربعين بادي الفتوة مرموق الشباب، يتهلل وجهه لولا كدرة طفيفة ~~هي مما فعلته به ابنة العنقود وسكنى المدن، ولكنها كدرة كانت تنقشع حين تلتهب بالحماسة ~~وجنتاه، وكان في موقفه بارز الصدر قوي العاتقين، تتجه نظرات الجمع إلى رأسه الضخم، فما تلبث ~~أن تلتقي بعينيه الزرقاوين السريعتين، فترتد حاسرة كأنما عشيت من ضوء وهاج، وكانت تفتن ~~الأنظار أناقة ملبسه ونظام هندامه، كما كانت تسحرها لفتاته وحركاته، كأنما كان يحس مثل ما ~~يحس الممثل القدير قد عرف سبيله إلى قلوب محبيه، فهو يحرص الحرص كله ألا ينحرف قيد شعرة عما ~~يشيع في نفوسهم السحر من مظهره. # وتكلم فكان في كلامه ثبت الجنان زلق اللسان، وكانت له في هذا الاجتماع خطة بالغ في ~~إحكامها، ومؤداها أن يرمي لنكولن والمتشيعين له بأنهم من المتطرفين الذين يريدون حل مسألة ~~الرق بالقوة، ثم يحمل على بقية الجمهوريين فيرميهم بالتذبذب، وراح يلقي تلك التهم فيتحمس ~~ويعلو صوته ويكثر من الإشارات، يحسب أن ذلك يغني عن الإقناع بالحجة، وكان يسمو بعباراته ~~أحيانا فلا ترتقي إليها أفهام الكثيرين، أو كما يقول الإنجليز كان يتكلم من فوق رءوس ~~سامعيه، على أنه كان له من جاهه ونفوذه وهيبته في قلوب الجماهير عوض عن ذلك أي عوض، فحسبهم ~~أنهم يستمعون إلى ذلك الذي بات يتحدث باسمه كل إنسان، حسبهم أنهم يستمعون إلى دوجلاس ~~السياسي الأشهر والثري العريض الثراء، والأمريكي العزيز الجانب الذي سافر إلى أوروبا وحظى ~~بلقاء بعض الرءوس المتوجة، وإن في كثير من النفوس البشرية من الغرائز ما يميل بها إلى ~~الخضوع للسلطان والانقياد ms207 للقوة، ولو كان فيما تأمر به القوة ما هو جدير أن يقابل ~~بالعصيان. # وجاء دور أبراهام فطلع على الناس بقامته الطويلة، فهتف باسمه أنصاره وتحمسوا له، واتجهت ~~إليه الأنظار، وإنه ليبدو كأنما أخذته من الموقف ربكة، فليس له تطلع دوجلاس وتحفزه، ونظر ~~الناس إلى شعره الأشعث وملابسه المتهدلة، وبخاصة سرواله الذي يكشف - لقصره - عن جزء من ~~ساقيه، وقارنوا دون أن يشعروا بين تلك الملابس وبين حلة دوجلاس الأنيقة، فبدت أكثر حقارة ~~مما هي عليه، وكانت تستقر الألحاظ من حين إلى حين على محياه، وقد ازدادت مسحة الهم فيه ~~وضوحا، وبدا عليه ما يشبه المسكنة والانكسار، ولكن الناس على الرغم من ذلك أو بسبب ذلك على ~~الأصح يرتاحون إلى مظهر ذلك المحيا، ويشعرون نحو صاحبه بالحب. # بدأ الخطيب في صوت أجش تتخلله حشرجة ثقيلة، ثم ما هي إلا برهة حتى انطلقت نفسه على ~~سجيتها، فإذا ذلك المحيا يتهلل ويشرق وتتشكل أساريره بما يهجس في خاطره، وإذا تلك العينان ~~الواسعتان المتسائلتان تنفذان إلى أعماق القلوب، وإذا الرجل يبدو في هيئة يتقاصر عن وصفها ~~الكلام، وتتفتح مسالك صوته، فينطلق رائقا له نبرات تتشكل حسبما يعبر عنه من المعاني، وكان ~~إذا تحمس يعلو صوته فيدوي في أرجاء المكان، ويكون لفحولته وروعته وقع في النفوس أي ~~وقع. # تدافعت إلى ذهنه الألفاظ، وقد جاءت كما يحب وكما يتطلب المعنى في غير زيادة أو نقص، ~~وتزاحمت عليه المعاني وقد أسفرت عن وجوهها ومشت إلى غايتها في غير تحرج أو التواء. وبرزت في ~~ذلك الموقف مواهبه في كمالها، فكان له ما شاء من سهولة اللفظ مع إشراقه وبلاغته ودقة المنطق ~~مع سلاسته وسلامته، هذا إلى يقين ينفث في قوله الحرارة وتمكن مما يقول يذيع فيه الروعة، ~~وأمثلة يسوقها للناس من حياتهم فتستقر في نفوسهم وكثرتهم من العامة، ومن وراء ذلك العبقرية ~~التي تستعصي على التحليل وتسمو على التأويل. # وينساب السيل لا يصده عن وجهه شيء ولا تمشي - على تدفقه وجيشانه - في صفائه كدرة، والناس ~~مفتونون وإن هم لم ms208 يفطنوا إلى سر فتنتهم، فهم مأخوذون بما يسمعون عن أن يفكروا فيما سحرهم، ~~وإنهم لفي سكرة أشبه بما يجدون فيه أنفسهم إذ يصغون إلى لحن من تلك الألحان التي تسحر ~~الأنفس وتملك الألباب. # ونزل لنكولن وله في قلوب السامعين من أنصاره وخصومه مكانة فوق ما كان له من قبل من مكانة، ~~فلقد استطاع أن يقنعهم، كما استطاع أن يشعرهم بما هو أقوى من الإقناع وأبعد أثرا؛ ألا وهو ~~الإعجاب، وإنهم ليتهامسون بعضهم إلى بعض: ليت لسادتنا وكبرائنا قلوبا مثل قلب هذا ~~الرجل. # ولقد ارتكب دوجلاس من الخطأ في هذا الاجتماع الأول ما عده عليه المنصفون أنه أفحش أخطائه ~~جميعا في هذا النزال كله؛ وذلك أنه أبرز مكتوبا موقعا عليه باسم لنكولن يفهم منه أن ~~أبراهام من زعماء المتطرفين، ولكن سرعان ما أقام أبراهام الدليل في دوره على أنه زائف، وأنه ~~مما جاء فيه براء، وكانت لطمة قوية استخزى لها دوجلاس في سامي منزلته، وفقد بعدها ثقة ~~الكثيرين. # وحل موعد الاجتماع الثاني فتسابق الناس إليه أفواجا، وقد اشتهر أمر ذلك الصراع؛ إذ لم ~~تبق صحيفة إلا وقد أسهبت في الحديث عنه، وفي هذا الاجتماع طعن لنكولن خصمه طعنة لم يفطن أول ~~الأمر إلى خطرها، فلقد أعد له سؤالا ليلقيه عليه: إذا أرادت ولاية أن تلغي الرق فيها، فهل ~~هي مستطيعة أن تفعل ذلك دون أي حرج؟ ولقد أنكر عليه أنصاره هذا السؤال؛ إذ لم يفهموا الغرض ~~منه، وهم يعلمون أن دوجلاس سيجيبه: بلى، تستطيع الولاية ذلك. فقال لهم ولكنه يفقد بذلك عطف ~~الجنوبيين وإن كسب عطف أهل إلينوى من خصوم الرق، ولن يضير لنكولن أن يظفر دوجلاس اليوم ~~بمقعد في مجلس الشيوخ ويفشل غدا إذا هو تطلع للرياسة! # ووجه لنكولن السؤال إلى دوجلاس فأجاب بقوله: «نعم، تستطيع الولاية أن تفعل ذلك في غير ~~حرج.» وابتسم أبراهام وهو يدرك ما سيكون من وقعها في نفوس أهل الجنوب، ولقد برهنت الأيام ~~فيما بعد على بعد نظره، ومما قاله لنكولن في ذلك: «إن دوجلاس ms209 يتبعه عدد كبير من العميان، ~~وإني أريد أن أجعل بعض هؤلاء يبصرون.» # وفي الاجتماعين الثالث والرابع لم يأت كلاهما بجديد، وإنما اجتهد لنكولن في مدافعة ما ~~رماه به خصمه من اتهامات، ولوحظ على دوجلاس في الاجتماع الرابع أنه كان ضائق الصدر، يروح ~~ويغدو على المنصة أثناء تكلم خصمه وهو مربد الوجه زائغ البصر، ينظر الفينة بعد الفينة في ~~ساعته حتى نفد الوقت المحدد فصاح به: «اجلس يا لنكولن! اجلس قد انتهى زمنك.» ونظر الخطيب ~~إليه في هدوء وقال: «أجل، أحسب وقتي انتهى.» ورد أحد الجلوس قائلا: «حسب دوجلاس ما ~~لاقى.» # وفي الخامس من هاتيك الاجتماعات اتخذ لنكولن خطة الهجوم، بعد أن أخذ ينشر خصمه ويطويه في ~~الاجتماعين الماضيين حتى دوخه، وكان هجومه شديدا ضاق به دوجلاس وانخلع عنه مكره، فقد عاب ~~عليه لنكولن أنه لا يحفل بالاعتبار الخلقي في النظر إلى الرق، مع أن النظرة الخلقية بعد ~~الخروج على اتفاق مسوري هي الوسيلة الوحيدة التي يعول عليها في منع انتشار الرق، وعلى ذلك ~~يكون دوجلاس داعية إلى أن يصبح الرق مسألة قومية عامة، لا تحرج ولا تأثم منها! # وأحس دوجلاس مهارة الرمية فراح يرد على رمية برمية، وعاد فاتهم لنكولن والحزب الجمهوري ~~أنهم من دعاة الثورة، وأنهم يدفعون البلاد إلى الدمار. # ولكن لنكولن جعل الاجتماع السادس لتحديد مذهب الحزب الجمهوري، فقال في جلاء: # إن الجمهوريين هم أولئك الذين يعدون الرق خطأ من النواحي الخلقية والاجتماعية ~~والسياسية، ولكنهم يتمسكون بدستور الاتحاد ويسيرون في تحقيق أغراضهم على نهجه، أما ~~الذين لا يرون عيبا في الرق فهم الديمقراطيون، وهم ليسوا من الجمهوريين في شيء، ~~كذلك ليس من الجمهوريين من لا يعبئون بالدستور في موقفهم من مشكلة الرق، مهما بلغ ~~من مقتهم لذلك الوزر. # وحار دوجلاس ماذا يفعل أمام تلك القوة وأمام ذلك الوضوح الذي لا يدع مجالا لمستريب، ~~فأخذ يداجي ويعبث، وتثعلب بعدما سبق أن استأسد. # وضيق لنكولن عليه الخناق بسؤال آخر طلب إليه أن يجيب عنه في غير مداجاة، فقال: «أيعد الرق ms210 ~~صوابا أم خطأ؟» وازدادت حيرة المارد الصغير، وأحس أنه على جبروته يتلوى في قبضة ذلك ~~العملاق، وأحس لنكولن مثل ما كان يحسه من ثقة في قوة ساعده، أيام كان يهوى بفأسه في الغابة ~~على جذع من تلك الجذوع التي ما كانت تقوى عليه مهما بلغ من متانتها، ولكنه اليوم يحس الثقة ~~في قوة قلمه ولسانه. # وعجب الناس لهذا الرجل الذي لا يرى نظيره في الرجال، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون: ماذا ~~دهى المارد الصغير؟ وكيف تسنى لابن سبرنجفيلد المتواضع، الذي لم يعرف سلطانا ولا جاها، أن ~~يأخذ الطريق هكذا على ابن وشنطون الجبار المدل بماله ومنعته ونفوذه؟ # ولكن هاجسا يهجس في نفوسهم أن للحق سلطانا دونه كل سلطان، وعزة يستخزي عندها كل اعتزاز، ~~ومنعة ترتد عنها كل مطاولة؛ وأن الباطل مهما تنمر ومهما استعدى على الحق من أساليب بهتانه ~~وألاعيب مكره، لا يكون منه إلا كما يكون الليل من وجه الصباح. أدرك الناس أن خير خادم للناس ~~من يدرج بينهم فيحس إحساسهم، ولا يزال مهما بلغ من سمو منزلته واتساع ثقافته قادرا على أن ~~يشاركهم عواطفهم وألا يضيق بأحلامهم، وأي هذين الرجلين أخلق بهذا؟ أهو دوجلاس الذي أثرى ~~بغتة بحيلة لم تتطلب منه إلا أن يشتري مساحات من الأرض بأبخس الأثمان، ثم يعمل بنفوذه على ~~أن تتخذ سكة الحديد فيها مجراها فيبيعها بما تمتلئ به خزانته، والذي باعد بينه وبين الناس ~~وتكلف مظهرا أرستقراطيا تطرب له نفسه ولا ترتاح إلا له؟! أم هو لنكولن الذي ما برح يأكل ~~من كده، والذي ظل في الناس على رجاحة عقله وعلو همته أحد الناس، والذي لا يطيب له العيش إلا ~~إذا استشعرت نفسه آمال الناس وآلامهم، ولا يحلو له السمر إلا حيث يجلس في قوم ارتفعت بينه ~~وبينهم الكلفة، وازدادت الألفة مهما يكن من الفوارق العلمية أو الفوارق المدنية؟! # تحدث أبراهام مرة يصف دوجلاس فقال: «لقد سوته الطبيعة بحيث إن ضربه السوط إذا نزلت على ~~ظهره تؤلمه وتؤذيه، بينما هي لا تؤلم ولا ms211 تؤذى إذا نزلت على ظهر أي شخص غيره!» وما كان ~~أبراهام مسرفا في قوله، وما نحن بمسرفين إذا قلنا إن أبراهام قد سوته الطبيعة بحيث يحس ~~ضربة السوط على ظهره إذا نزلت على ظهر أحد غيره من الناس. # وما كان أبراهام يطمع من وراء هذا النزال أن ينال لنفسه شيئا، وهل عرفت في خلقه غميزة ~~منذ كان يقطع الأخشاب في الغابة ليشتري بالمئات من شرائحها سروالا؟ إنه منذ صدر شبابه ~~يسير إلى غاية، شعر بذلك أو لم يشعر به، فلقد استقر في نفسه من مقت الرق ما لا يستطيع أن ~~يقعد معه عن العمل أو ينصرف عن الغاية، فكانت ثمة عزيمة تهون أمامها جسيمات الأمور، وكانت ~~ثمة رسالة يحلو في سبيلها الجهاد، ومرد ذلك كله إلى قلب إنساني كبير ونفس مطمئنة صابرة ~~وبصيرة، كأنما تشرف من حاضره على المستقبل فلا تقف من دونها حجب الغيب. # إنه اليوم ينافس دوجلاس على مقعد مجلس الشيوخ، فهل كان ذلك قصارى همه؟ كلا، وما كان بعض ~~همه أن يرقى إلى كرسي الرياسة ذاته، وإنما كان همه أن تتحقق مبادئه ولو بذل في سبيلها نفسه، ~~ولن يكون مقعد الشيوخ أو كرسي الرياسة عنده أمرا ذا بال، إلا أن يكون وسيلة إلى السير ~~بمبادئه إلى حيث يعتنقها الناس، وإلا فالجاه والثراء والحكم عنده من صغيرات الأمور، وهو ~~إنما ينفر من كل أولئك بطبعه الذي يعزف عن الزهو ويتخوف دواعي البطر. # وإن أمثال ابن الأحراج هذا في تاريخ البشرية لقليلون، ولكنهم هم الذين رسموا لها طريقها، ~~وولوها قبلتها التي ارتضوها لها، وما كان أتعس البشرية لو لم يوجد هؤلاء الذين يتمثل بهم ~~ضميرها أناسا يمشون على الأرض. # قال أبراهام ذات يوم من أيام هذا النزال: # لست أدعي أيها السادة أني غير أناني، ولن أتظاهر بأني لا أحب الذهاب إلى مجلس ~~الشيوخ، لن آتي هذا الادعاء المنافق، ولكني أقول لكم إنه في هذا الجدال الصارم ليس ~~يعنيكم، ولا يعني عامة الناس في هذه الأمة، ما إذا كان القاضي ms212 دوجلاس أو ما إذا كنت ~~أنا بحيث تسمعون عنا شيئا بعد هذه الليلة أو لا تسمعون، ربما كان هذا أمرا تافها ~~بالنسبة لنا كلينا، وهو إذا نظر إليه تلقاء هذه المسألة العظيمة التي ربما يتوقف ~~عليها مصير البلاد، فإنما يكون في حكم العدم.» وقال في معرض آخر: «لا تشغلوا أنفسكم ~~بالتفكير فيما عسى أن يكون المصير السياسي لأي رجل مهما يكن ذلك الرجل، ولكن انظروا ~~فيما تنطوي عليه وثيقة إعلان الاستقلال من حق، وإنكم لتظفرون مني بكل ما تريدون إذا ~~وعيتم تلك المبادئ المقدسة ... وفي الوقت الذي لست أدعي فيه عدم المبالاة بأي مجد من ~~أمجاد هذه الدنيا، أعلن أنه ما ساقني إلى هذا التطلع إلى منصب. وإني لأطلب إليكم ~~أن تسقطوا من عقولكم أية فكرة لا مغزى لها من نجاح شخص ما، إن تلك الفكرة ليست بشيء ~~يذكر، ولست أنا شيئا مذكورا، وكذلك ليس القاضي دوجلاس، ولكن لا تقضوا على ذلك ~~الرمز الخالد للإنسانية؛ ألا وهو قرار استقلال أمريكا. # هذا هو أبراهام رجل المبدأ، لا يعنيه أن يظفر أو أن ينهزم، وإنما تعنيه قضية البلاد ~~الكبرى، بل قضية الإنسانية كلها، ولن يهدأ له بال حتى تحل أو تسير في سبيلها إلى ~~الحل. # وأنى لدوجلاس أن يقف في وجه تلك القوة العاتية؟! أنى له أن ينال من ذلك الذي يتكلم ~~فيخيل إلى سامعيه أن الأخلاق نفسها تقول كلمتها؟! حاول دوجلاس ذات مرة أن يعبر عن عدم ~~مبالاته بقضية الرق، فانبرى له أبراهام قائلا: «إنني أبغض مثل هذا المظهر، مظهر عدم ~~المبالاة، إن من شأنه أن يضعف حاسة العدالة في دولتنا، وإنه ليمد أعداء النظام الدستوري ~~السلمي بما يشبه الحق أن ينظروا إلينا كأننا منافقون، كما أنه في الوقت نفسه يمد أنصار ~~الحرية الحقيقيين بسبب وجيه لتشككهم في إخلاصنا.» وقال أبراهام في مجال آخر: «إنكم ~~باعتيادكم أن تطئوا حقوق غيركم إنما تفقدون بذلك حقيقة استقلالكم، وتصبحون طعمة لكل طاغية ~~يخرج من بينكم. دعوني أخبركم أن مثل هذا إنما يعده لكم منطق ms213 التاريخ، إذا جاءت أدوار ~~الانتخاب الآتية بحيث تجعل الحكم في قضية دردسكوت التالية وغيره من الأحكام أمرا يقبله ~~الناس. إنكم تستطيعون أن تخدعوا كافة الناس ردحا من الوقت، وأن تخدعوا بعض الناس طول ~~الوقت، ولكنكم لن تستطيعوا أن تخدعوا إلى الأبد جميع الناس.» # بمثل هذا المنطق السائغ، وبمثل هذه العبارات السهلة، كان أبراهام يأخذ الطريق على دوجلاس ~~في غير مشقة، وكان الناس يلمسون الصدق في هذه العبارات وأمثالها وهم واثقون من نزاهة غرضه ~~وشرف مقصده. # ويريد أبراهام أن يصور موقف كل من الولايات القديمة والجديدة من الرق، فيصل إلى غايته في ~~وضوح ويسر إذ يقول: «إذا أنا أبصرت ثعبانا قاتلا يزحف في الطريق، فإن أي رجل يقرني على أن ~~أعمد إلى أقرب عصا فأقتله، ولكنني إذا وجدت هذا الثعبان بين أطفالي في سريرهم، فإن المسألة ~~تتخذ وضعا آخر، فإني ربما آذيت أطفالي أكثر مما أوذي الثعبان، وربما عضني ذلك الثعبان. ~~وتختلف المسألة أكثر من ذلك إذا أنا وجدت ذلك الثعبان في سرير جاري، وكنت على اتفاق وثيق مع ~~ذلك الجار ألا أتدخل في شئون أطفاله مهما يكن من أمر، ولكن إذا كان ثمة سرير صنع حديثا ~~وأزمع حمل الأطفال إليه، واقترح في نفس الوقت أن يحمل إليه عدد من الثعابين، فليس في الناس ~~من يرى خلافا في أي الطرق أسلك.» # ويعمد أبراهام إلى تهكمه في عذوبة روح وترفع عن الإساءة وحذر شديد أن يجرح شعور أحد، ~~ومهارة يضيق عنها ذكاء خصمه وتتخلف دونها بديهته، ويذهل عندها مكره. استمع إليه كيف يسفه ~~وسائله ويزيف رأيه، وقد رأى منه أنه أنكر ما سلف أن أقره، قال أبراهام: «أقول إنك خلعت ~~قبعتك، ولكنك تريد أن تكذبني، فتضعها على رأسك وتثبت بذلك أني كاذب، وهذا قصارى ما لك من ~~قوة في هذا الجدل.» ثم انظر إليه كيف يحمل الناس على الضحك بأن يستخرج من إحدى عبارات ~~دوجلاس ما يشبه القانون الرياضي، قال دوجلاس: «إذا كان ثمة عراك بين رجل من البيض وبين زنجي ~~فإني ms214 أقف إلى جانب الأبيض، أما إذا كان بين زنجي وتمساح فإني مع الزنجي.» فأجاب أبراهام ~~بقوله: «يستخلص من ذلك أن الأبيض من الزنجي كالزنجي من التمساح، وعلى ذلك فبقدر ما يكون من ~~الحق في معاملة الزنجي للتمساح يكون منه في معاملة الأبيض للزنجي.» # ورأى دوجلاس يعمد إلى المداجاة ويجهد أن يلبس الحق بالباطل، فشبهه بنوع من السمك من ~~خصائصه أن يفرز مادة سوداء كالمداد يضل بها الصيادين؛ فهو لا يفتأ يرسل من العبارات الجوفاء ~~ما يرمي به إلى التعمية وطمس الحقائق، والناس يضحكون مما يقول أبراهام معجبين به مستزيدين ~~منه. # ويتساءل لنكولن ضاحكا ذات مرة: «لماذا لا يجيب القاضي دوجلاس عن الحقائق؟ لو كنت درست ~~علم الهندسة فإنك تتذكر أن إقليدس أثبت بالبرهان أن مجموع زوايا المثل يساوي زاويتين ~~قائمتين، وقد بين إقليدس الخطوات التي توصل بها إلى هذا، فإذا أردت أن تنقض هذه النظرية وأن ~~تبرهن على خطئها، أتفعل ذلك بقولك إن إقليدس كاذب؟» ويضحك الناس فيدعهم لنكولن حتى يسكتوا ~~ثم يقول: «بمثل هذه الطريقة يجيب القاضي دوجلاس عما يجادل فيه.» # ولم يدع أبراهام قولا مما ساقه دوجلاس مساق المبادئ إلا حمل عليه وكشف عما فيه من بهرج، ~~ومن ذلك ما أعلنه دوجلاس في مسألة نبراسكا وسماه مبدأ سيادة الشعب، قال أبراهام: «مبدأ ~~سيادة الشعب معناه حق الشعب أن يتولى حكم نفسه، فهل اخترع القاضي دوجلاس هذا المبدأ، كلا ... ~~فقد اتخذت فكرة سيادة الشعب طريقها إلى النفوس قبل أن يولد صاحب مشروع نبراسكا بعصور، بل ~~قبل أن يطأ كولمبس بقدميه أرض هذه القارة، فإذا لم يكن القاضي دوجلاس هو مخترع ذلك المبدأ، ~~فدعنا نتتبع الأمر لنتبين ماذا اخترع غيره؛ أهو حق المهاجرين إلى كنساس ونبراسكا في أن ~~يحكموا أنفسهم وعددا من الزنوج معهم إذا أرادوا ذلك؟ يظهر في وضوح أن ذلك لم يكن من ~~اختراعه؛ لأن الجنرال كاس أعلن ذلك من قبل أن يفكر دوجلاس في مثله بست سنوات؛ وإذن فماذا ~~اخترع «المارد الصغير»؟ لم يخطر على بال الجنرال ms215 كاس أن يسمي اكتشافه بذلك الاسم القديم؛ ~~ألا وهو سيادة الشعب، أجل ... لقد استحى أن يقول إن حق الناس في أن يحكموا الزنوج هو حق الناس ~~في أن يحكموا أنفسهم، وهنا أضع تحت أنظاركم اكتشاف القاضي دوجلاس بكل ما فيه؛ لقد اكتشف أن ~~تربية الرقيق والإكثار منهم في نبراسكا هو سيادة الشعب.» # ورأى أبراهام في هذا الصراع فرصة قلما تتاح له مثلها، فعول ألا يدع في مسألة الرق شيئا ~~غامضا، وأخذ يقلبها على وجوهها في سهولة تستهوي الألباب، تلمس ذلك في قوله هذا عن ~~المتمسكين بالرق، قال: «يظهر لي مبدأ الاستعباد عندهم كما يأتي: ليست العبودية صوابا من ~~جميع الوجوه، وليست كذلك خطأ من جميع الوجوه، وإن من الخير لبعض الناس أن يكونوا عبيدا، ~~وإنهم في هذه الحالة يكونون خاضعين لإرادة الله. حقا ما كان لنا أن نعارض مشيئة الله، ~~ولكن لا تزال ثمة صعوبة في تطبيقها على بعض الحالات الخاصة، فلنفرض مثلا أن شخصا يدعى ~~الدكتور روس الموقر يملك عبدا اسمه سامبو، فإنا نتساءل: هل مشيئة الله هي أن يظل سامبو ~~عبدا، أم هي أن يطلق سراحه؟ ولن نظفر من الله بإجابة سريعة عن هذا السؤال، ولن نجد في ~~كتابه جوابا لذلك، أو لا نجد في الغالب إلا ما يثير الجدل حول معناه. وليس يفكر أحد أن ~~يسأل سامبو ما رأيه في ذلك، وعلى ذلك يترك الأمر للدكتور روس ليفصل فيه، وبينما يفكر في ~~الأمر تراه يجلس في الظل وعلى يده قفازه يقتات بالخبز الذي يكسبه سامبو تحت الشمس المحرقة، ~~فإذا هو قرر أن مشيئة الله هي أن يظل سامبو عبدا، فإنه بذلك يحتفظ بمكانه المريح، أما إذا ~~قرر أن مشيئة الله هي أن يصير سامبو حرا، فإن عليه أن يخرج من الظل وينزع قفازه ويكدح من ~~أجل خبزه، فهل يفصل الدكتور روس الموقر في الأمر بما تقضي به النزاهة المطلقة التي لا بد ~~منها في كل فصل حق؟» # وانتهى بعد ثلاثة أشهر ذلك الصراع الذي اشتهر أمره، فكان ms216 نصيب لنكولن من المؤيدين مائة ~~وخمسة وعشرين ألفا، ونصيب دوجلاس دون ذلك بأربعة آلاف، ولكن مجلس الولاية كان هو الذي ~~يختار عضو مجلس الشيوخ وفق القانون، وكان بهذا المجلس أربعة وخمسون عضوا من الديمقراطيين ~~وستة وأربعون من الجمهوريين؛ لذلك فاز دوجلاس فصار عضو مجلس الشيوخ، ولقد عد انتصاره في نظر ~~بعض المؤرخين بعد هذا الصراع أعظم انتصار شخصي في تاريخ أمريكا السياسي. # وهكذا يفشل أبراهام مرة أخرى في محاولة الحصول على مقعد في مجلس الشيوخ، ويحظى دوجلاس ~~دونه بذلك المقعد، ولكن أبراهام على عادته لا يعبأ بهذا الفشل، بل إنه ليستشعر الراحة بينه ~~وبين نفسه أن استطاع أن يسمع هاتيك الألوف صوته، وإنه ليحس أن مبادئه قد أخذت سبيلها إلى ~~قلوب الكثيرين منهم على صورة طالما منى نفسه بها، وأي شيء أحب إليه من ذلك؟ لقد أصبح اسمه ~~على كل لسان، وتسامعت أمريكا كلها باسم أبراهام لنكولن، وصار يعد من رجال وطنه الأفذاذ، ~~وأضاف الناس إلى ألقابه في الشمال لقبا جديدا؛ فقالوا لنكولن قاتل المارد، وطنطنت باسمه ~~الصحف، ومن ذلك ما قالته إيفننج نيويورك بوست: «لم يصل رجل في هذا الجيل إلى الشهرة في قومه ~~بمثل تلك السرعة التي وصل بها لنكولن في هذا الانتخاب.» وكتب إليه شخص يقول: «إن مثلك اليوم ~~كمثل لورد بيرون، الذي أفاق ذات يوم من نومه ليجد نفسه ذائع الصيت. إن الناس يستنبئون عنك ~~بعضهم بعضا. لقد قفزت دفعة واحدة من محام له الصدارة في إلينوى إلى سياسي له الشهرة في ~~قومه.» # أما هو فقد وصف شعوره يومئذ بقوله: «مثلي كمثل الصبي اصطدم إصبع قدمه بشيء آلمه، فكان ~~الألم أشد من أن يصحبه ضحك، وكان الصبي أكبر من أن يبكي.» # ولاقى أبراهام عنتا من بعض خصومه في بيتسبرج وبعض جهات غيرها، فأرادوا إيذاءه وتصايحوا ~~ضده، فأسمعوه من البذاء ما أعرض عنه إعراض المؤمنين الصابرين، وكانوا يطلقون عليه اسم ~~الجمهوري الأسود؛ مبالغة في الزراية به، تقدمت سيدة تحمل في يدها عروسا سوداء من الخشب ~~فرفعتها أمام ms217 وجهه، فنظر أبراهام إليها باسما وقال: «أهذا طفلك الرضيع يا سيدتي؟» فاستخزت ~~أيما استخزاء، ولم يقو خصومه أنفسهم على كتم ضحكاتهم منها، وجاء شاب على ظهر جوداه فمشى به ~~قبل لنكولن حتى أصبح في محاذاته، ورأى أبراهام في وجهه أمارات السفه، فما زاد على أن نظر ~~إليه نظرة حملته على الفرار في فرق وخزي. # ولكنه استقبل في أتاوا استقبال الفاتحين، فحمله شباب المدينة فوق أعناقهم والألوف تهتف ~~به، إذ هو ضائق بهذا يطيقه على رغمه، ولو أنه استطاع أن يفلت منه لفعل مسرعا، وما كان ~~أشبهه ساعتئذ بخليفة المسلمين عمر حين صاح بقومه في موقف لهم من مواقف الزهو أن كاد يقتله ~~الزهو. # أجل! تبرم أبراهام بهذا الزهو فما كان من شيمته أن يزهى، ولا كان من خلقه أن يترفع أو أن ~~يطغى، بل إنه كان لا يزداد حظه من الصيت إلا تواضع، ولا يعظم نصيبه من الجاه إلا خفض ~~جناحه وألان جانبه للناس جميعا، أنصاره وخصومه في ذلك سواء. # يحكي صديق له أن عاصفة ألجأته وأبراهام أثناء ذلك الصراع إلى عربة مظلمة من عربات سفن ~~الشحن، وجلس أبراهام القرفصاء على أرض العربة كما كان يفعل في كوخ أبيه في الغابة، وكلم ~~صديقه وسط الظلام فقال: «كانت أعظم أمنية لي أيام كنت أبيع في حانوت بمدينة نيو سالم أن ~~أدخل المجلس التشريعي للولاية.» وسكت لحظة ثم استأنف قوله ضاحكا: «أما أن أطمح إلى عضوية ~~مجلس الشيوخ في وشنطون، فذلك ما دفعتني صاحبتي إليه ... والآن أحس أني - إذا أردت الحق - كفؤ ~~لذلك، ولكني مع هذا لا أبرح أقول لنفسي إن هذا الأمر أكبر من أن أضطلع به ولن أصل إليه ~~أبدا، على أن ماري لا تزال مصرة على رأيها في أني سوف أكون عضوا في مجلس الشيوخ ورئيسا ~~للولايات المتحدة.» ثم ضحك من قول زوجته ضحكة اهتز لها كيانه كله، وقال ويداه تعتقلان ~~ركبتيه وإنه لا يزال يضحك ملء نفسه: «صور لنفسك يا صاحبي كيف يكون أبله مثلي ~~رئيسا!» # وعاد أبراهام ms218 إلى سبرنجفيلد بعد أن قضى في ذلك النزال أكثر من شهرين، عاد إلى زوجه ~~وأولاده فلقيته ماري راضية عنه على الرغم من إخفاقه؛ أوليست ترى الصحف كلها تذكر زوجها، ~~وترى أكثر صحف الشمال تطنب في مدحه وتعده بطلا من أبطال قومه؟ أوليست هذه هي النغمة ~~الحلوة التي تحب سماعها؟ وأي شيء هو أحلى وقعا في قلبها من أن ترى نفسها زوج رجل عظيم ~~يعترف الناس بعظمته؟! # وأقبل على المحاماة من جديد؛ فلقد أنفق في هذا الصراع من المال ما أرهقه من أمره عسرا، ~~هذا إلى أنه بانقطاعه عن مهنته طوال تلك الأيام لم يكسب من المال شيئا، وهكذا يعود ابن ~~الغابة إلى كدحه ليقيم أوده وأود أسرته، بينما يذهب دوجلاس يرفل في النعمة إلى وشنطون، ~~ويجر ذيل الخيلاء السابغ الضافي. # | بين المحاماة والسياسة # عاد المحامي يكدح من أجل قوته كدحا شديدا، ويأخذ قسطه من النصب مع صديقه هرندن، وكان ~~قد تركه وحده طيلة ذلك الصراع العنيف، وإن به بعد عودته هذه لحاجة إلى المال شديدة، فهو ~~اليوم ذو عسرة، وليس يطلب المال ليستعين به على الوصول إلى جاه كما يفعل دوجلاس ومن على ~~شاكلته من الناس، وإنما ليؤدي به ما تتطلبه أكلاف العيش. # وكان من العادات المعروفة في مجال السياسة أن يكلف ذوو المكانة من السياسيين من أي حزب ~~بدفع قدر من المال؛ لتستعين به اللجنة المركزية للحزب في الولاية على ما يتطلبه العمل ~~السياسي من أوجه الإنفاق، وكتب رئيس اللجنة المركزية للحزب الجمهوري في إلينوى إلى لنكولن ~~يطلب إليه أن يرسل ما عليه من المال، فرد عليه يقول: «إني على استعداد لأدفع على قدر ما ~~أستطيع ... لقد قضيت زمنا طويلا أنفق ولا أكسب شيئا، وإنه ليعوزني المال اليوم فلا أكاد ~~أجده حتى لمطالب بيتي، على أنك إذا أديت عني مبلغ مائتين وخمسين ريالا مما على من دين ~~للجنة، فإني سأحسب هذا المبلغ متى التقينا لنصفي ما بيننا من حساب شخصي، فإذا أضفت إلى ~~ذلك ما دفعته فعلا، وأضفت إليه ms219 كذلك مكتوبا بدين يحق لي قدمته، فإن هذا كله يفوق ما علي ~~للحزب وقدره خمسمائة ريال، وإن هذا - فضلا عما أنفقته في المعركة السالفة وما ترتب على ~~دخولي تلك المعركة من ضياع لوقتي وشئون عملي - لخليق أن يرهق من لم يكن له أكثر مما لي من ~~طيبات هذه الدنيا.» # وكانت ماري على ما به من خصاصة لا تفتأ تطلب منه الكثير من المال؛ لتظهر به في المظهر ~~الذي يليق بما أصبح له من مكانة؛ فلن ترضى حتى تشتري عربة جديدة وملابس جديدة، وحتى تزيد ~~أبهة البيت وتضيف إليه أثاثا جديدا، ولقد أدى إليها ثمن هذا كله ولم يتفوه بكلمة؛ فما ~~يقوى على مخالفتها في هذا وإن اشتد به العسر. # على أنه يقوى على مخالفتها في أمر غير هذا تطلبه إليه؛ فهي تريد أن تفرق بينه وبين صاحبه ~~هرندن؛ لأنها لا تطيق أن يقاسم زوجها ربح المكتب لكل نصفه مع ماله اليوم من شهرة هي في ~~زعمها أساس الربح، فضلا عما هو معروف من ضلاعته وطول عهده بالحرفة، ويأبى أبراهام عليها ~~ذلك مهما يكن من غضبها، فما كان هو - والأمر أمر وفاء - بالذي يتنكر لصديق، بله هرندن الذي ~~يحبه ويكبره ويتحمس له. ولا تبرح ماري تذكر صاحبه بالسوء، فتشير إلى وضاعة منبته في لهجة ~~أرستقراطية، وتشير إلى إلحاده وإلى أنه يشرب الخمر، وتقول إنه لا يليق أن يكون مثله صاحبا ~~له، ولكن زوجها يعرض عن حديثها في إصرار وقوة. # وإنه ليفطن إلى أن عودته إلى المحاماة إنما هي إلى أجل قريب؛ فلقد خطا في السياسة خطوة لن ~~يكون بعدها نكوص، على أنه لم يجعل للمحاماة كل همه، فإن للسياسة اليوم نصيبا كبيرا من ~~وقته ومن جهده، فهو يقرأ الصحف قراءة تمعن ليرى ماذا يقول الناس في مسألة الرق، ولينظر ~~في الأمر ليتعرف كيف يتطور وإلى أي متجه تتجه البلاد فيها، وهو يدعم بنيان حزبه في إلينوى، ~~ويعد له ما استطاع من قوة يعتد بها في غد. # على أنه يخشى الفاقة؛ فقد ms220 كتب إليه بعض أصحابه ليستأنف طوافه في البلاد ويخطب الناس، ~~فرد عليه بقوله إنه يخشى ألا يجد قوته إذا هو انصرف عن حرفته كما انصرف عنها أثناء ~~مجادلة دوجلاس. # وعول على أن يجمع خطبه وخطب دوجلاس في كتاب يذيعه في الناس، وفعل ذلك دون أن يزيد على ~~خطبه شيئا أو ينقص من خطب خصمه شيئا؛ فقد نقل كلام دوجلاس من صحف الحزب الديمقراطي كما ~~هي، وإنه ليعلم أن أصحاب دوجلاس نمقوها، وأضافوا إلى مواضع الحماسة فيها ما يزيدها ~~حماسة، وحذفوا من مواضع الضعف ما سبب هذا الضعف؛ وذلك أنه واثق من أن حجته هي العليا وحجة ~~خصمه السفلى؛ لأنه تكلم عن يقين وتكلم دوجلاس عن غرض. وإنه للقوي الأمين الذي لا يستطيع أن ~~يخادع أو يغش أو يحتال. # وكان أبراهام يومئذ ممتلئا نشاطا وقوة، على الرغم من طول الصراع وعنفه بينه وبين ~~دوجلاس. وكان الناس يعجبون من قوة بدنه وخفة حركته ونضارة محياه، على الرغم مما يعلق به ~~أبدا من أمارات الهم والقلق، ولو أنهم ذكروا كيف سوته الغابة وكيف بنته يوم كان يهوي بفأسه ~~على شجرها ما داخلهم من بأسه عجب. # وينظر الناس إليه اليوم نظرتهم إلى ذي جاه، ويشيرون إليه في إعجاب وإكبار، ويتهامسون أنه ~~لا بد مرشح للرياسة بعد أمد قريب، ولكنه لا يزداد إلا دعة ولينا، فيدل بذلك على أن عظمته ~~هي العظمة الحق تبدو للناس في أبسط مظهر، فتكون بذلك في أبهى مظاهرها. # والعظمة الحق كالذهب الحر في بساطة جوهره وروعة منظره، ولن يخرج الذهب عن صفته خلوه ~~من الزينة، والنحاس لن يكون إلا نحاسا مهما نقش وزين، والعظيم لا يتكلف ولا يتصنع، أما ~~المتعاظم فهو إنما ينبه الناس إلى حقيقة أمره بما يدعي لنفسه من أوجه الكمال، فيرونه صغيرا ~~وإن تكبر، ولا تقع أعينهم منه إلا على مظهر وإن خيل إليه أنه جوهر. # ولقد كان لنكولن يفعل الفعل أو يرى الرأي في أمر من الأمور عن لقانة مدهشة وطبع معجب ~~بكماله، فإذا رددت فعله ms221 أو رأيه إلى ما تواضع الناس عليه من عرف وما اتفقت عليه قلوبهم ~~وعقولهم، ما وجدت فيه شذوذا ولا نقصا. كان في أعماله وأقواله كالكوكب في هذا الفلك ~~الدائر؛ يتحرك وفق نظام فلا يضطرب ولا يتذبذب إلا أن ينفرط عقد ذلك النظام. # وظل من أحب الأشياء إلى نفسه أن يرفع بينه وبين الناس الكلفة، فيصاحبهم ويعاشرهم كأنه ~~أصغرهم قدرا وله اليوم مكانته وصيته، فإذا غشي مجلسا لهم رآهم يتنحون له عن مكان الصدارة ~~فيأبى أن يجلس إلا حيثما اتفق له، وإنه ليحب أن يناديه الناس باسمه مجردا من كل لقب يراد ~~به التعظيم، وهو عندهم «أيب الأمين» أو «أيب العجوز» أو هما معا، وهي ألفاظ لها في أذنه ~~سحر وفي قلبه وقع؛ لأن فيها جمال الصدق وجلال التواضع. # أقام أبراهام في سبرنجفيلد يكدح من أجل قوته، ولكن اسمه ملء الأسماع في كل مدينة من المدن ~~الكبيرة، وبخاصة في الشمال. والصحف لا تفتأ تشير إلى ما كان بينه وبين دوجلاس، ولا تكاد ~~تذكر مسألة الرق اليوم إلا مقترنة باسمه. ثم إن مسألة الوحدة تذكر كلما ذكر الرق؛ فقد أخذت ~~تزداد في الجنوب دعوة الداعين إلى الانفصال عن الشمال، وكان خصوم أبراهام دائبين على أن ~~يرجعوا إليه وإلى الحزب الجمهوري ما ينذر البلاد من بوادر الفرقة، ودأبوا كذلك على نعته ~~بالجمهوري الأسود حنقا عليه وكيدا له. # وفكر أبراهام في أن يزيد كسبه من المال بإذاعة بعض المحاضرات، فأعد أول الأمر واحدة شهد ~~صديقه هرندن كيف أعدها؛ فقد رآه كلما جالت بخاطره فكرة أثبتها في ورقة صغيرة ودسها كما هي ~~عادته في قبعته، حتى تهيأ له موضوع في «الاختراع والاكتشاف والتقدم» فأذاعه على الناس، ~~ولكنه لم يحس فيه من النجاح ما يحس مثله في خطبه السياسية، وما لبث بعد محاولة أو اثنتين ~~غير هذه أن انصرف عن هذا الميدان. # وانهالت عليه الدعوات من مدن كثيرة في الشمال ليخطب الناس فيها، فأعرض أول الأمر عن هذه ~~الدعوات قائلا إنه إن ترك عمله في المحاماة ms222 ، كما فعل من قبل، فلن يجد ما يمسك به صلبه وصلب ~~أولاده. # ولكن خصومه لن يدعوا الكيد له ولن يتوانوا عن تشويه مبادئه، وكان لا يزال يرى في دوجلاس ~~أخطر خصومه، لا لما كان بينهما من منافسة، بل لما كان يمتاز به ذلك الرجل من مكر شديد ~~ومقدرة على أن يخدع الناس في سياسة بلادهم؛ ليصل من وراء ذلك إلى تحقيق أطماعه الشخصية؛ فهو ~~لا يرعى في الحق إلا ولا ذمة. # وكأن دوجلاس لم يكفه ما كان بينه وبين أبراهام من جدال، فعاد يحمل في أهايو على الحزب ~~الجمهوري ويقذفه بما شاء من التهم؛ وإذن فإلى الرد عليه من جديد ما من ذلك بد، وهكذا يعود ~~أبراهام إلى خطبه السياسية. # ذهب لنكولن فخطب في كولومبس وسنسناتي رادا على دوجلاس، وكان مما ذكره في سنسناتي قوله: ~~«إني أعلن أول الأمر لأهل كنطكي أني كما يقولون - ولكن كما أفهم أنا - جمهوري أسود. إني ~~أعتقد أن الرق خطأ خلقي وسياسي، وإني أود ألا تنتشر العبودية من بعد في هذه الولايات ~~المتحدة، ولست أعارض إذا وجدته يسير إلى الفناء في الاتحاد كله.» وقال يخاطب خصوم الحزب ~~الجمهوري: «إننا معشر الجمهوريين نذكر أنكم أخيار مثلنا، وأنه لا فرق بيننا وبينكم إلا ما ~~جاءت به الظروف، ونعلم دائما ونخطر في بالنا أنكم تحملون في صدوركم قلوبا لها من الطيبة ~~ما لقلوب غيركم من الناس، أو مثل ما نزعمه لقلوبنا نحن؛ وعلى هذا الأساس كانت معاملتنا ~~إياكم، ونحن نريد أن نتزوج من بناتكم كلما سنحت فرصة، وأقصد البيض منهن! وإنه ليشرفني أن ~~أعلن إليكم أني قد سنحت لي مثل هذه الفرصة مرة ... أفتقاتلوننا وتقتلوننا جميعا؟ لماذا أيها ~~السادة؟ إن ظني بكم أنكم بواسل أماثل كأحسن ما يكون الناس، وأنكم قادرون على أن تقاتلوا من ~~أجل غرض سام، رجلا لرجل، في شجاعة وإقدام كما يفعل أي قوم غيركم من الأحياء، ولقد برهنتم ~~على أنكم بذلك خليقون في بعض الظروف، ولكنكم رجلا لرجل لن تكونوا خيرا منا، وليس بينكم ms223 من ~~هؤلاء الشجعان مثل ما بيننا منهم قوة وعددا، ألا إنكم لن تضربونا، فإننا لو كنا أقل منكم ~~عددا لجاز لكم أن تفعلوا، ولو كنا وإياكم متساوين لتعادلت كفتا المعركة، أما وأنتم أقل منا ~~عددا، فإن محاولتكم السيطرة علينا لن تغني عنكم شيئا.» # هكذا يسير أبراهام دائما على نهج من خلقه؛ فيكون مع خصومه دمثا مهذب الحديث، ولكنه لن ~~يرضى أن يكون لين المغمز ضعيف العريكة. يحفل أبدا بأن يقول ما يعتقد أنه الحق في وضوح ~~ويسر، ويحرص أبدا على ألا يسيء إلى أحد أو يستثير غضبه. # وعاد ينتقد ويفند مزاعم دوجلاس فيما يبدئ فيه ويعيد ما سماه مبدأ سيادة الشعب، فقال: «ما ~~هذه السيادة الشعبية في حقيقة أمرها؟ إنها كمبدأ لن يخرج عن أنه إذا أراد أي رجل أن يستعبد ~~رجلا آخر، فليس لهذا الرجل المستعبد ولا لأي شخص غيره حق الاعتراض. إن استعباد الغير أمر ~~يبدو هينا عند عضو الشيوخ دوجلاس. لقد سوته الطبيعة بحيث إن ضربة السوط إذا وقعت على ظهره ~~تؤلمه، وإذا وقعت على ظهر غيره لن يحس لها ألما قط ... إن هذه السياسة التي يجرى عليها ~~بإعلانه هذا المبدأ إنما هي عقبة دائمة في سبيل الوصول إلى حل لتلك المشكلة، وإني أعتقد ألا ~~ضرر منها إذا كانت هي السياسة الدائمة للأمة كلها؛ لأنها في مثل تلك الحالة لا يكون وراءها ~~تحيز أو غرض. ليس في الناس من لا يعنى بشيء، فما في الناس جميعا إلا من يعنى بهذا الجانب ~~من المسألة أو ذاك. أما دوجلاس فإنه الرجل الوحيد في الأمة كلها الذي لم يقل ما إذا كان ~~يعد الرق خطأ أم صوابا.» # وفيما هو ينافح عن حزبه ويجادل خصومه في مبادئه، إذ وقع في البلاد من الأحداث والنذر حادث ~~جديد زاد هياجها، وكان كالزيت يلقى به على النار؛ وذلك هو حادث جون برون؛ فإن هذا الرجل - ~~على كبر سنه - قد أعلن الثورة لتحرير الرقيق، ولقد كانت له قبل ذلك بثلاث سنوات حركة جريئة ~~لنصرة قضيتهم ms224 في كنساس، ولقد عول اليوم على أن يذكي نار الثورة في البلاد؛ إذ لم يعد يطيق ~~صبرا على هذا الوضع البغيض، وكان أهل الجنوب قد قتلوا ابنه من قبل وباتوا يتربصون به كذلك ~~ليقتلوه. # خرج هذا الرجل في ثمانين لا أكثر من الرجال، منهم خمسة من الزنوج، وكان قلبه - على رغم ~~شيخوخته - يفيض حماسة وقوة، فأعلن خطته في جرأة الأبطال واستهتارهم بالموت؛ ألا وهي حق كل ~~زنجي في أن يثور على مالكه، فلم يعد أمام الزنوج إلا القوة. # ولكن جون لم يكد يخطو الخطوة الأولى في سبيل غايته، ويستولي على مركز أراد أن يجعله قاعدة ~~لحركته؛ حتى أحيط به وغلب على أمره ثم حوكم وأعدم! ولقد قابل الموت بجنان ثابت ونفس مطمئنة، ~~ولما حانت منيته استنزل في ثبات وقوة لعنة الله على أعداء الحرية الظالمين، واغتدى جون ~~بجرأته ثم بميتته هذه بطلا عند دعاة التحرير في الشمال، وأخذوا ينظمون الأناشيد في بطولته، ~~ويجعلونه رمزا لأحرار الشمائل ومثالا يجب أن يحتذيه كل من كان يخفق قلبه بحب ~~الحرية. # ويرى دوجلاس في هذا الحادث فرصة يحذر أن تفوته، فيعلن أن ذلك ليس بعجيب، فلن تفضي مبادئ ~~الجمهوريين إلا إلى مثله، ولقد جعل هذا المارد الصغير ديدنه الطعن على الجمهوريين، لا تفلته ~~حادثة ولو كانت أبعد ما تكون عنهم، كهذه الحادثة التي لا تمت إليهم من قريب ولا من ~~بعيد. # وأدرك لنكولن خطر التهمة، ولو كان غيره مكانه لأخذته مما هوش به المارد الصنير ورطة، ولكن ~~صوت الحق لن يضيع في ضجيج الباطل، فها هو ذا لنكولن يتلقى دعوة من نيويورك فيلبيها مسرعا، ~~ويلقي هناك خطابا من أبدع وأبرع ما واتته به عبقريته، وفي جمع لم يسبق أن وقف في ~~مثله. # تلقى أبراهام الدعوة في أكتوبر سنة 1859، وهو الشهر الذي وقع فيه حادث جون برون، بينما ~~كانت البلاد مقبلة على موسم انتخاب رئيس جديد للولايات؛ إذ كانت سنة 1860 هي نهاية مدة ~~الرئيس القائم، وكان انتخاب رئيس الولايات أهم الحوادث السياسية التي تشهدها البلاد ms225 ، وإنه ~~لأعظم خطرا اليوم وأبعد في مصير البلاد أثرا؛ ذلك أن الانتخاب يقوم هذه المرة على ما يشغل ~~الناس من أمر الرق ومن أمر الاتحاد؛ لهذا كان ذلك العام نقطة يبدأ منها تاريخ البلاد عهدا ~~جديدا ويتدرج في مسلك جديد. # ورغب الناس في الولايات الشرقية أن يروا لنكولن، هذا الذي سمعوا عنه أنه من أهل الغرب، ~~رأي العين، وأن يستمعوا إليه خطيبا وأن يناقشوه ويتبينوا سياسته، وما تلتفت قلوبهم إليه ~~يومئذ إلا لأنهم أحسوا ما بات له من شأن وخطر. # وأجاب لنكولن الدعوة وحدد شهر فبراير سنة 1860 لإلقاء خطبة، وقضى الوقت بين تلقي الدعوة ~~واليوم المحدد للسفر في إعداد تلك الخطبة والتأهب لهذا الموقف الخطير. # واحتشد لسماعه في تلك المدينة العظيمة جمع من كبار الساسة وقادة الرأي وذوي الثقافة ~~وأساطين الصحافة، فكان لهذا الحفل بهم مهابة وجلال وخطر، واحتشد كذلك عدد هائل من عامة ~~الناس ليروا لنكولن هذا، الذي كان يشتغل نجارا أول ما نشأ فما زال يرقى حتى استطاع أن يقف ~~من دوجلاس الشهير موقف الند، وأن يظهر عليه في الخطابة والمجادلة. # ولقد ارتاع فؤاد أبراهام عندما بلغ مكان الاجتماع، وذلك حينما رأى هؤلاء السادة في ~~ملابسهم الأنيقة، ورأى في وجوههم نضرة النعيم، وفي أحاديثهم وتحياتهم روح المدنية. ولما نهض ~~للخطابة شاهد الناس علامات الحيرة بادية عليه؛ فقد كان على غير ما ألف مشغول البال بحلته ~~العتيقة التفصيل والحياكة، التي تبدو بمقارنتها بما يقع عليه بصره كأنما جيء بها من متحف! ~~وقد كانت في الواقع حلة جديدة، ولكنها كانت على نمط أهل الغرب في حياكتهم، كما أنها تكسرت ~~من طول وضعها في الحقيبة. # وتطلع الناس إليه في دهشة، وقد قدمه للخطابة وليم جلن براينت، الشاعر والسياسي والصحافي ~~الشهير، الذي ربما كان أبرز شخصية يومئذ في نيويورك، وتقسمت ألحاظ السامعين بين قامته ~~الطويلة ويديه الكبيرتين اللتين تدلان في جلاء على أنهما خلقتا للمعول لا للقلم، ووجهه ~~المصفار المسنون الذي تغشاه سحابة عميقة من الهم، وعينيه الواسعتين اللتين تعبران عن وداعة ms226 ~~الأطفال وحماسة الرجال، وأنفه الأشم الغليظ الذي يترجم عن صرامة عزيمته وقوته في الحق، ~~وشعره الأشعث الذي يعلو رأسه الكبير في غير نظام كأنه ألفاف الغابة. # وصفه أحد من شهد الحفل فقال: «كان يستقر رأسه على جذع طويل نحيف، ولم أتبين ما بلغت يداه ~~من الضخامة حتى بسطهما في إشارة من إشاراته، وقد بدأ في صوت عميق، أشبه بصوت من اعتاد ~~الكلام في الفضاء الطليق ويخشى أن يجهر بصوته، وقال مستر تشيرمان واستعمل غيرها من العبارات ~~العتيقة، وقلت لنفسي: لن تفلح يا صاحبنا الكهل، إن ما يبدو منك صالح الصلاح كله للغرب ~~البري، ولكنه لن يشاكل نيويورك. وكان من جميع أقطاره أشبه بهؤلاء البسطاء من الناس الذين ~~يسره أن يعد واحدا منهم. ولم يك ثمة شيء أخاذ في مظهره، وكانت تتهدل ثيابه على هيكله ~~البائن الطول كأنه المارد، وكانت ملامحه مغبرة شاحبة لا يتردد فيها لون، غير مستوية، تحمل ~~أمارات البؤس والحرمان. ولاحت عيناه الغائرتان يملؤهما الهم، ولكنه حين استرسل أخذ يضيء ~~وجهه بما في باطنه من نيران، وجلجل صوته وعظمت قوة خطابته، واتفق له إلى مدى عظيم مثل سهولة ~~الإنجيل البالغة. وكان يسود المكان صمت عميق بينما كان يتكلم، حتى لقد كان يسمع إذا سكت ~~هسيس الغاز منبعثا من ثقوب المصابيح، فإذا تحمس السامعون دوت في جنبات المكان رعود قاصفة ~~من الاستحسان، ولما فرغ من خطابه وثبت على قدمي وصرخت كما يفعل هندي مجنون، وفعل بقية ~~الناس مثل فعلي. إنه لشخص مدهش!» # بهذه الموهبة التي من الله بها عليه استطاع ابن الغابة، الذي علم نفسه بنفسه والذي لم ~~يدخل قط مدرسة أو جامعة، أن يسحر السامعين في دنيا الحضارة؛ في نيويورك العظيمة، وأن يحمل ~~على الإعجاب بشخصه والافتتان به الألوف من ذوي الثقافة والمدنية. هذه هي العبقرية إذ تستعلن ~~في مظهر من مظاهرها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. # ولقد عد خطابه هذا من أبلغ الخطب السياسية في تاريخ أمريكا كله. قال عنه جريلي، وهو الذي ~~رأيناه منذ عامين ms227 يدعو لدوجلاس ويتمنى انضمامه إلى الجمهوريين: «ما من رجل استطاع أن يبلغ ~~بخطابه لأول مرة ما بلغه لنكولن من عظيم الأثر في جمهور السامعين في نيويورك.» # عاد لنكولن فأوضح خطة الحزب الجمهوري وموقفه من الرق، فأتى بما لا يدع مجالا بعد ذلك ~~لدسائس خصومه، ثم استنكر ما فعله جون برون وأعلن براءة الحزب الجمهوري منه، إلى أن قال في ~~هذا الصدد: «لا يمكننا أن نعارض في الحكم على جون برون جزاء خيانته ولاية من ولايات ~~الاتحاد، لا يمكننا أن نعارض في ذلك. ولو أنه يوافقنا فيما يراه من خطأ الرق، فإن ذلك لا ~~يبرر العنف وسفك الدماء والخيانة.» # ومما قاله عن الجنوبيين عبارته هذه التي توضح أسلوبه في الجدل، قال: «إنكم - كما تقولون - ~~لا تطيقون انتخاب رئيس جمهوري؛ لأنكم إن فعلتم ذلك قضيتم على الاتحاد، ثم إنكم لتلقون في ~~هذه الحال تبعة انهيار الاتحاد على عاتقنا، مثلكم في ذلك كمثل قاطع الطريق الذي يصوب غدارته ~~إلى رأسي ثم يتمتم بين أسنانه: قف وأعط ما معك وإلا قتلتك فتكون أنت المسئول عن جريمة ~~القتل!» # وأقبل عليه الناس يهنئونه بما ظفر من توفيق في هذا الحفل المشهود، ويعلنون إليه حبهم ~~وولاءهم وإعجابهم بمبادئه، ولقد طار صيته بهذا الخطاب على نحو لم ير مثله من قبل. # وأخذ يحس الناس أنه الرجل الذي تجتمع عليه القلوب والأهواء، ورأى بعض الصحف تتحدث عن ~~احتمال أن يكون هو مرشح الجمهوريين للرياسة في الانتخاب الذي يحل ميعاده في صيف هذا العام. ~~وقبل ذلك بأسابيع قليلة نشرت بعض الصحف أسماء أربعة وثلاثين من مشاهير الساسة الذين يمكن أن ~~يطمحوا إلى الرياسة، فلم يك من بينهم اسم أبراهام لنكولن! # وسافر لنكولن من نيويورك إلى نيو إنجلند قبل عودته إلى سبرنجفيلد ليزور ابنه الأكبر ~~روبرت، وكان يتلقى تعليمه في مدرسة هناك، وكان يسأله الناس أن يخطبهم في بعض الأماكن، وقد ~~ذاع فيهم اسمه، فيفعل ويملأهم إعجابا به ومحبة له. وفي اليوم السادس من شهر مارس خطب خطبة ~~قوية في نيوهفن ms228 ، جاء فيها عن الرق وأنصار الرق: «إن الشخص الذي يقتني الرقيق لا يحب أن يعد ~~شخصا وضيعا بسبب تملكه هذا النوع من الملك، وعلى ذلك يقوم صراع بينه وبين نفسه، ولا يزال ~~يجهد في إقناع نفسه بأن الرق صواب؛ وذلك لأن الملك يؤثر على عقله ... تناقش مرة أحد أحرار ~~الفكرة من رجال الكنيسة مع آخر ممن يتمسك بآراء الكنيسة، فكان هذا يجيبه دائما: لست أرى ~~ذلك كذلك. ففتح الإنجيل وأراه عبارة ولكنه أجابه: لست أرى ذلك كذلك. فعمد إلى كلمة واحدة ~~وسأله: هل ترى هذه الكلمة؟ فقال: نعم أراها. فوضع المفكر الحر جنيها فوق الكلمة وسأله: هل ~~تراها الآن؟ وهكذا الحال؛ فإن من يتملكون هذا النوع من الملك هم الذين يقررون ما إذا كانوا ~~يرونه فعلا على حقيقته، ولكنهم في الواقع يرونه خلال بليونين من الدولارات، وهذا غطاء ~~كثيف، ومن المؤكد أنهم لا يرونه كما نراه نحن.» # وتحدث لنكولن إلى هرندن بعد عودته إلى سبرنجفيلد عما لقيه من نجاح في نيويورك، ويقول ~~صاحبه إن هذا النجاح قد زاد ثقة أبراهام في نفسه زيادة كبيرة، حتى ليظنه يومئذ يطمح إلى ~~أعلا منصب في البلاد ويراه قريبا منه. ويعجب هرندن من طيب قلبه؛ إذ يراه بعد أن يقص عليه ~~أنباء الاحتفال، وإقبال الناس عليه بعده، وتهافت الصحف على خطابه، وثناء كبرياتها عليه؛ ~~يشير - وعلى شفتيه ابتسامة وفي عينيه وملامحه أمارات الخجل - إلى ما كان من أمر حلته وغرابة ~~هيئتها، وما لاقاه من ضيق أثناء خطابه كلما فكر فيها وقارن بينها وبين ما تقع عليه من حلل ~~في هذا الحفل، بله ياقته؛ فقد كان نصفها الأيمن يثب إلى أعلى كلما رفع ذراعه بإشارة، فتظهر ~~جزءا من عنقه بينه وبين القميص، ويضحك لنكولن ضحكة يخالطها شيء من الاستخزاء، كأنما يريد ~~أن يقول أنى لمثله أن يكون له مكان بين هؤلاء السادة، فضلا عن مكان الرياسة ومقعد ~~الزعامة، وإن حاله الآن ليشبه إلى حد ما حالته يوم كان يستخزي كلما فكر في زواجه من ~~ماري ms229 . # | فالق الأشجار! # وثق أبراهام من نباهة شأنه عند الناس واستفاضة شهرته، فحدثته بالأماني نفسه، وحدثته كذلك ~~بالعبء الجسيم إذا قدر لتلك الأماني أن تتحقق. # وكان أبراهام في الحادية والخمسين من عمره في سنة 1860، وهي السنة التي كانت تتأهب فيها ~~البلاد - كما سلف القول - لانتخاب رئيس جديد، وكان الانتخاب في هذه السنة أمرا بالغ ~~الخطورة؛ لصلته بمصير الاتحاد كله، أيبقى كما هو أم ينصدع فإذا به شمال وجنوب! # وكان الحزب الجمهوري، الذي يعد أبراهام اليوم من أبرز رجاله، أقوى الأحزاب نفوذا وأعزها ~~نفرا؛ إذ كانت مبادئه أقرب من غيرها إلى جمهرة الناس في الشمال؛ فهو يحول دون انتشار الرق ~~وإن كان يرعى جانب الدستور في كل ما يقول أو يعمل. # وأخذ الجمهوريون يستعدون للمعركة القادمة، فامتلأت صحفهم بفيض أقلامهم، وماجت كبريات ~~البلاد في الشمال بمظاهر نشاطهم ومعالم استعدادهم. # ولبث أبراهام في سبرنجفيلد خائفا يترقب، وأي شيء أدعى إلى الخوف عنده من تصدع الاتحاد، ~~فلئن فاز أحد الجمهوريين بالرياسة، فماذا يكون موقف أهل الجنوب؟! # وماذا يكون الحال لو فاز هو بالرياسة؟ طفق أبراهام ~~يسأل نفسه هذا السؤال فتجيبه نفسه أو تسأله سؤالا آخر؛ أواثق هو من ترشيح حزبه إياه حتى ~~يفكر في الرياسة؟ # وماذا عسى أن يحول بين الحزب وبين أن يرشحه؟ إن نفسه لا تفتأ توحي إليه أنه مرشح ~~الجمهوريين في الانتخاب القادم، وكلما استبعد ذلك هجس في نفسه هاجس لا يتبينه ولا يجهله، ~~فيملؤه ثقة وأملا بأنه الرجل الذي سوف تجتمع عليه القلوب. # ولم يقنع أبراهام بانتظار ما عسى أن تأتي به الأيام، فشمر عن ساعديه يدعو لنفسه ولكن بين ~~خاصته ومحبيه؛ وذلك بكتبه إليهم وأحاديثه معهم، أما إذا سأله من لا يطمئن إلى إخلاصه هل ~~يطمح إلى الرياسة، رد عليه في تواضع وكياسة بما لا يدع مجالا لاتهامه بالتطلع ولا ~~بالإحجام، تجد ذلك في رده هذا: «إنني إذ أتذكر ما يكون عليه حال رجل ليس بالعظيم جدا حين ~~يذكر اسمه ليشغل منزلة عظيمة جدا، وما يصيب رأسه إذ ذاك ms230 من دوار؛ أصارحك أني لست أليق ~~شخص لإجابتك على ما سألتنيه من سؤال.» # وكان في الحزب الجمهوري رجلان يخشى أبراهام منافستهما إياه: أولهما هو سيوارد حاكم ~~نيويورك السابق، وهو من أقدم رجال الحزب ومن أوسع الناس ثقافة ومن أعظم السياسيين جاها، ~~فضلا عن أن كرهه للرق ونضاله ليحول دون انتشاره لا يقل عما بذل أبراهام من جهد في هذا ~~السبيل؛ وثانيهما تشيس حاكم أهايو، وهو كصاحبه ثقافة وجاها، ولعله أعرق منه في محاربة ~~الرق، وكانا كلاهما عضوين في مجلس الشيوخ ومن أساطين القانون والمحاماة. # وكان أبراهام يرجح أن يختار أحدهما لولا ذلك الصوت الذي يهجس في نفسه، فيحس أنه هو ~~المختار، على الرغم مما يبدو له من رجحاتهما. وكان صديقه هرندن يستبعد أن يكون أبراهام هو ~~المرشح، قال في ذلك: «لم يكن أبراهام ذا مال، وكان يعوزه أي تنظيم لأموره مهما يكن نوعه، ~~وكان لسيوارد ذلك كله، ومن ورائه سجل براق في مجلس شيوخ الاتحاد، به يبهر عيون ~~أتباعه.» # وكان يشعر الناس أن مرشح الجمهوريين هو الفائز في المعركة بالرياسة؛ لذلك كان اتفاقهم على ~~رجل هو كل شيء بالنسبة إلى هذا الرجل؛ إذ لا يبقى بينه وبين الرياسة بعد ذلك إلا ~~خطوة. # وفي ربيع ذلك العام الفذ عقد الجمهوريون في ولاية إلينوى مؤتمرا؛ لينظروا في نشر الدعوة ~~لأبراهام فيما يصل إليه سعيهم من الولايات؛ ليحظى بترشيح الحزب إياه في مؤتمره العام الذي ~~سوف ينعقد عما قريب ليختار رجله لمعركة الرياسة. # وعقد المؤتمر التمهيدي في مدينة ديكاتور، وهناك اشتدت حماسة المؤتمرين لأبراهام، فما تهتف ~~الألسن إلا به، وما تحنو الجوانح إلا عليه، والخطباء يتسابقون على المنصة متنافسين في ~~الثناء عليه والدعوة له. # ولم يكد يلمح المؤتمرون، أبراهام يدخل الباب ويطلع عليهم بقامته الطويلة، حتى وثبوا ~~واقفين مصفقين وما منهم إلا من ينافس جاره في الهتاف، وما سكنت ريحهم حتى عاودوا الهتاف ~~والتصفيق وهم أكثر حماسة وأروع مظهرا مما كانوا، وظلوا على تلك الحال لا يسكتون إلا ~~ليعودوا إلى هتافهم وتصفيقهم، حتى ms231 ليظن من يراهم أنهم لن يسكتوا أبدا. # مرشح الحزب الجمهوري سنة 1860. # وبينما هم في جلبتهم وضوضائهم إذ سمعوا خارج المكان ما زاد على ضوضائهم جلبة وضوضاء، ~~فأطلوا يستطلعون، فإذا بموكب كبير يذهب فيه البصر من ها هنا ومن ها هنا إلى آخر ما يمتد، ~~تختلط فيه أصوات الهاتفين بألحان الموسيقى، ونظروا فإذا في مقدمة هذا الموكب علم منشور على ~~قطعتين شوهاوين من الخشب، شد إليهما بأشرطة ما بين حمراء وزرقاء وبيضاء، وكان يحمل ~~العلم جون هانكس ابن عم أبراهام وهو يهتف من أعماق نفسه لأبراهام فالق الأشجار وشاق ~~الأخشاب، ووقف يخطب الناس، فقال إن هاتين القطعتين شقهما أبراهام بنفسه بين ثلاثة آلاف ~~غيرها، قطعتها فأسه في الغابة أيام كان صبيا يعين أباه، وكان أبوه أحد الطلائع الذين ~~افتتحوا الغرب وتعرضوا للمهالك من أجل وطنهم، وطلب إلى الجمع أن يهتف باسم أبراهام شاق ~~الأخشاب، وسرعان ما ذهبت هذه الكلمة في الناس، فصار لا يذكر أبراهام بألقابه السالفة وأصبح ~~عند الجموع شاق الأخشاب. # ووقف أبراهام مأخوذا بما يرى من حماسة الناس لهذا الاسم الجديد، وفي وجهه دلائل الشكر ~~والرضاء عن ابن عمه، ولكن فيه كذلك ما يشبه الإنكار. وتجمع الناس حوله فأطل عليهم قائلا: ~~«أظن أنه يجب علي أن أقول شيئا حول هاتين الخشبتين؛ لقد كان ذلك منذ زمن بعيد، ومن الممكن ~~أن أكون أنا الذي شققتهما بيدي بيد أني لا أستطيع أن أتعرفهما ... وكل ما أستطيع قوله هو ~~أني شققت من الأخشاب كثيرا غيرها أحسن منها مظهرا.» # واشتد تصفيق الجموع لهذه الكلمة، فما تخذل الأمانة أبراهام في موقف مهما هان، فها هو ذا ~~لا يشايع ابن عمه؛ لأنه لا يستطيع أن يقطع بصحة دعواه، كما أنه لا يحب أن يخزيه؛ ولذلك يجعل ~~الأمر في حكم الممكن فحسب ويؤكده بأنه شق عددا عظيما من هاتيك الأخشاب، ويعجب الناس بمثل ~~جديد لصدقه وأمانته واستقامة طبعه، وهو عندهم منذ عرفوه أيب الأمين، ولكن لقبه الجديد أشهى ~~إلى نفوسهم وأجمل وقعا في قلوبهم، فما هو ms232 إلا أن سمعه الناس حتى ألفوه كأنهم عرفوه من ~~قديم، وما كاد ينقضي أسبوع على النطق به حتى ذاع في البلاد أمره، فما يذكر الناس أبراهام ~~إلا بقولهم شاق الأخشاب. # وأثر هذا الاسم أثرا بعيدا في نفوس الناس، وازداد وضوحا في نفوسهم ما كان يحمله اسم ~~أبراهام من معنى إلى تلك النفوس؛ فهو من الشعب بل ومن أعماق طبقاته، وبذلك فهو رمز لإرادة ~~الأمة، وفي اختياره للرياسة تأكيد لرغبة محببة إلى النفوس؛ ألا وهي أن الناس جميعا سواسية، ~~فلا يصح أن يتفاضلوا إلا بالمكارم. # وما كان يدور بخلد أبراهام وهو يشق تلك الخشبات في الغابة منذ نحو ثلاثين سنة ليشتري بثمن ~~الآلاف منها سروالا؛ أنها سوف تجدي عليه مثل هذه الجدوى، وما كان يدري أن ابن عمه يملك له ~~هذا الصنيع الذي يصغر حياله كل صنيع. # كان الجمهوريون يتخذون الأهبة لمؤتمرهم العام في مدينة شيكاغو، فلندعهم حتى ننظر ماذا كان ~~من أمر الديمقراطيين في هذه السنة المشهودة. # كان الحزب الديمقراطي قد هان على الناس أمره؛ وذلك بانقسامه وتنازع رجاله؛ ففريق من أهل ~~الجنوب يكرهون اليوم دوجلاس لما كان منه أيام مجادلته لنكولن، أولم يصرح بأن لكل ولاية ~~الحق كل الحق أن تقضي على الرق فيها متى شاءت ذلك، فوقع بتصريحه هذا في حبائل خصمه؟ ثم إن ~~فريقا من الديمقراطيين في الشمال قد كرهوا منه معارضته الرئيس بوكانون في دستور كنساس، حتى ~~لقد فكر بعض الجمهوريين في ضمه إلى حزبهم، وإنه ليجني اليوم ثمار غرسه، وهل كان له أن يجني ~~من الشوك العنب؟! لذلك فشل الديمقراطيون إذ حاولوا أن يجمعوا أمرهم على رجل، وانفض مؤتمرهم ~~الذي عقد في شهر أبريل في مدينة تشارلستون والخلاف بين الشماليين من رجال الحزب على أشده؛ ~~إذ كان يريد أهل الشمال من الديمقراطيين أن ينعقد الإجماع على دوجلاس، وتعددت بعد ذلك ~~مؤترات الديمقراطيين، ولكن ظلت قلوبهم شتى، وانتهى الأمر أخيرا بأن انقسموا فريقين؛ اتفق ~~أحدهما على دوجلاس، واتفق الآخر على بركنردج، وكان هذا الانقسام في صفوف ms233 الديمقراطيين من ~~أكبر أسباب ضعفهم وفشلهم. # ونعود إلى الجمهوريين فنقول إنهم كانوا يعدون العدة لمؤتمرهم العام، وقد اختاروا له مدينة ~~شيكاغو، وكان الرأي السائد أن سيوارد هو الفائز بتشريح الحزب إياه، وكانت أكثر الصحف في ~~الشرق تكاد تجزم بهذا، وكان سيوارد واثقا من ذلك؛ ولهذا لم يكترث لما يشاع عن شهرة لنكولن ~~ومحبة الناس إياه؛ لأنه كان يعتقد أنه مهما يكن من أمره فلن يصل إلى مطاولته؛ فهو رجل الحزب ~~وزعيمه الحقيقي. # وفي شهر مايو احتشد في شيكاغو أربعون ألفا من الجمهوريين ليشهدوا هذا المؤتمر العظيم، ~~وجاء من نيويورك عدد كبير من أنصار سيوارد من خاصة الناس ومن عامتهم، وجاء من إلينوى عدد ~~مثله من أصحاب لنكولن ومحبيه. # وانعقد المؤتمر من رجالات الحزب وزعمائه من كل ولاية، ولم يحضره لنكولن بل ظل في ~~سبرنجفيلد ينتظر أنباءه، وضاق مكان الاجتماع بشهود المؤتمر وضاق بهم الطريق أمامه. # وتدارس المؤتمرون طويلا في المبادئ أولا فلم تخرج عما أوضحه أبراهام في خطبه وأحاديثه، ~~فالمؤتمرون لا يقرون انتشار الرق بعد اليوم، ويحبون أن ينقرض فيذهب إلى غير عودة، وتقدم ~~مندوب من أهايو يدعى جدنج فاقترح أن يضيف المؤتمر إلى قراره تلك المادة من مواد إعلان ~~استقلال أمريكا، التي تشير إلى أن الناس ولدوا أحرارا، وخاف بعض رجال المؤتمر أن تحمل هذه ~~العبارة على التطرف في مسألة الرق، فيظن بعض الناس أن الجمهوريين قد باتوا من حزب التحرير ~~بالقوة؛ ولذلك أوشكوا أن يرفضوا الاقتراح، حتى نهض من المؤتمرين رجل فصيح هو جورج كيرتس ~~فحمل بفصاحته المؤتمر على قبوله، ودوت جنبات المكان بالتصفيق الشديد، وجاوبه الناس خارج ~~المؤتمر بتصفيق مثله. # وجاء بعد ذلك دور الترشيح فنهض أحد مندوبي نيويورك وقدم اسم وليم سيوارد، ونهض على إثره ~~أحد مندوبي إلينوى وقدم اسم أبراهام لنكولن، ثم ذكرت أسماء خمسة أشخاص غيرهما قدم كلا ~~منهم مندوب، ولكن الحماسة والتصفيق كانا لسيوارد ولنكولن فحسب. # وتأهب مندوبو الصحف ليدونوا ما يريدون تدوينه أثناء الانتخاب، وكثر عددهم في القاعة ونشط ~~أصحاب سيوارد جيئة ms234 وذهابا كما نشط أصحاب لنكولن، وجلس على سطح القائمة رجل ظل يرقب من ~~نافذة فيها ليعلن النتيجة للمجتمعين خارجها متى أعلنت، وتأهب المكلفون بالرسائل البرقية من ~~جانب الصحف في طول البلاد وعرضها ليسرعوا إلى مكاتب البريد ليبرقوا لجرائدهم، وبدأ الانتخاب ~~والناس عالقة أنفاسهم وكأن عليهم الطير مما سكنوا. # والقوم خارج القاعة يموج بعضهم في بعض وهم يتساءلون لمن يكون النصر؛ فيؤكد هذا أن النصر ~~لسيوارد في إشارة حازمة ولهجة جازة فيقبل عليه جماعة منهم فرحين، ويصيح ذاك بل النصر لفالق ~~الأخشاب فيتهافت عليه كثيرون. # وكان أبراهام أثناء ذلك جالسا في قاعة أحد أصحابه من رجال الصحافة في سبرنجفيلد، وكان ~~القلق يساوره أحيانا، فهو يقول لصاحبه: «إني أعتقد يا صديقي أني سأعود ثانية إلى المحاماة ~~وأعمل عملي في القانون.» ثم يعاوده الأمل حينا ويخالجه الشك حينا، كما يحدث عادة في مثل ~~هذه الأحوال إذ ينتظر المرء عاقبة أمر يهمه، وأي أمر أهم من ذلك الذي كان يتوقع أبراهام ~~عاقبته؟ إنه اليوم في مفترق الطرق من حياته، فإما إلى رسالته وإما إلى حرفته! # وطال به الانتظار حتى كاد أن يسأم فلينصرف إلى القراءة، وكان ديوان شعر لبيرنز هذا الذي ~~يقلب صفحاته، وكان يقرأ كما يقرأ المرء في مثل تلك اللحظات بعينيه أكثر منه بعقله، ثم يدع ~~الكتاب حينا ليفكر وليتنازع فؤاده الشك واليقين. # والمؤتمر منصرف إلى عمله في شيكاغو يفتتح في تاريخ البلاد فصلا جديدا سوف يترتب عليه كل ~~ما يليه من فصول. # وتعلن نتيجة الدفعة الأولى للولايات، فإذا سيوارد يزيد على أبراهام بسبعين صوتا وصوت، ~~فيهتف أنصار سيوارد ويتصايحون، ويكتئب أصحاب أبراهام، ثم تعلن الدفعة الثانية فإذا أبراهام ~~لم يبق بينه وبين سيوارد سوى ثلاثة أصوات، ويسود الصمت في جنبات المؤتمر، وشخصت الأبصار، ~~وخفقت القلوب، وتأهب رجال الصحافة لتلقي النبأ الأخير؛ ففي الدفعة القادمة القول الفصل، وما ~~هي إلا لحظة ثم يرتفع صوت باسم لنكولن، فتهب في القاعة عاصفة هائلة من الهتاف والتصفيق ~~تجاوبها خارجها عاصفة أشد منها قوة وأطول أمدا ms235 ؛ إذ يظل الناس يتعانقون ويتصايحون ويقذفون ~~بقبعاتهم في الهواء، ويتواثبون ويرقصون زهاء ربع الساعة كأنما مسهم طائف من الجنون. # وأبراهام في غرفة صاحبه في سبرنجفيلد يوجس خيفة في نفسه طورا ويثق في النصر طورا، وحوله ~~جماعة من أنصاره ينتظرون كما ينتظر. وبينما هم كذلك إذ أقبل شاب من مكتب البرق يحمل رسالة، ~~يطفر بها كما يطفر العصفور من شدة فرحه وهو يهتف باسم أبراهام ويقبل عليه بالنبأ السار، ثم ~~يهيب بالحاضرين أن يهتفوا ثلاث مرات لأيب الأمين رئيس الولايات المقبل. # ويقبل على أبراهام صحابته وفي مآقيهم دموع الفرح وعلى ألسنتهم ما لا يفي بالتعبير عما في ~~قلوبهم من معان، وهو منشرح الصدر مثلج الفؤاد، ولكنه واقف بينهم معقود اللسان لا يدري ماذا ~~يقول؛ لأنه لا يجد من الكلام ما يفصح عما في نفسه، وبعد لحظة يقول لهم: «إن امرأة صغيرة ~~قصيرة هنالك في بيتنا يسرها أن تعلم هذا النبأ!» يقول ذلك ويمضي مسرعا إلى ماري فيفضي ~~إليها بأجمل وأبهج ما انفرجت عنه أمامها شفتاه. # وجاء وفد من قبل الحزب ينبئه رسميا بظفره بترشيح الحزب إياه، وتلقى أبراهام وزوجته ~~الوفد في دارهما، وقد أعدت ماري العدة لهذا اللقاء؛ فعنيت قبل كل شيء بما ينبغي أن يحرص ~~عليه زوجها فيما يتصل بملابسه وفيما يتصل بقواعد المائدة، وما إلى ذلك مما يليق بمن سوف ~~يكون في غده رئيس الولايات المتحدة. وقطع أبراهام على نفسه العهد ضاحكا أن يكون كما تحب، ~~ثم أعدت ماري من ألوان الطعام ما تكرم به الضيوف، وأرسل بعض أصحاب أبراهام إليه وإلى زوجته ~~زجاجات خمر كي يشرب منها رجال الوفد، ولكن أبراهام ردها إليهم جميعا معتذرا بأنه لا يشرب ~~الخمر ولا تدخل الخمر بيته، فلا محل لأن يقدمها لضيوفه. # وأعجب رجال الوفد بالرئيس المنتظر، فما برحوا داره إلا وقد ارتبطت قلوبهم بقلب ذلك الرجل ~~العظيم، فهم وإن رأوه بسيطا في كل شيء حتى لا يختلف في شيء عن عامة الناس، يحسون أن فيه ~~ما يرفعه درجات فوق الناس ويستبشرون ms236 به وينقلبون إلى حزبهم فرحين. # ويكتب أبراهام رده ولكن قبل أن يرسله إلى الحزب يذهب إلى معلم من معلمي المدينة، فيرجو ~~منه أن يقرأ كتابه ليرى إن كان خاليا من الخطأ النحوي؛ فإنه كما يقول للمعلم غير متمكن من ~~النحو، فيقع المعلم على غلطة فيصلحها، ويذكر القاعدة لرئيس الغد فينصت كما ينصت التلميذ، ~~وينطلق أبراهام بكتابه، وإنه ليسأل نفسه لم لم يتعلم النحو ويتقنه كما تعلم القراءة ~~وأتقنها أيام كان يشق بفأسه الأخشاب. # | نذر العاصفة # لبث أبراهام نحو أربعة أشهر في سبرنجفيلد ينتظر موعد الانتخاب للرياسة، وأقام في المدينة ~~هذه المدة فما عهد عليه أحد من أهلها أنه تغير أدنى تغير عما كان عليه؛ فهو في الناس فرد ~~منهم وإن كان بسبيل أن يذهب عما قريب إلى البيت الأبيض. # وظلت سبرنجفيلد أياما في ابتهاج ومرح وأبراهام يلقي الوفود في داره خافضا لهم جناحه ~~باذلا من الود والحب أكثر مما يبذلون، وهم معجبون برجلهم الذي هو اليوم مناط آمالهم ~~وموضع تجلتهم، يعجبون منه بكل شيء، وبخاصة ذلك التواضع الذي يبدو الآن رائع الجلال باهر ~~الجمال. # وكان أبراهام في تلك الأيام كثير الصمت يطيل التأمل والتفكر أحيانا أكثر مما كان يفعل ~~من قبل، ولقد أحاط الناس بداره ليلة مجيء ذلك الوفد وطلبوا إليه أن يخطبهم، فأطل عليهم بعد ~~إلحاح منهم، فقال وهو الخطيب الذي يفيض كما يفيض السيل: «أي مواطني! توجد لحظات في حياة ~~كل سياسي يكون خير ما يفعل فيها أن يحتفظ بشفتيه مضمومتين، وإني أحسب أن مثل تلك اللحظات قد ~~حانت الآن بالنسبة إلي.» ولم يزد على هذه الكلمة شيئا على الرغم من تحمس الناس ~~لسماعه. # ولما ضاقت بالوفود داره جعل لقاء الناس في قاعة من قاعات مقر الحكم في المدينة، لا يرد عن ~~مجلسه أحدا ولا يأخذ الحيطة من أحد، فإذا سأله شخص عن أمر في السياسة ناقشه في هدوء أو ~~أعطاه نسخة من مجموعة خطبه، وهو يذهب بنفسه إلى مكتب البريد فيحضر رسائله المتعددة التي ~~تأتيه من كل ms237 فج، فيفضها ويقرؤها ويرد على ما يتطلب الرد، إما بيده أو بيد كاتب اتخذه ~~له منذ قريب. # وظل أياما طويلة يلقى أنماطا من الناس؛ فمن معجبين بشخصه محبين له، إلى مستطلعين ~~يحبون أن يروا أبراهام لنكولن ذلك الذي اختاره الجمهوريون وآثروه على سيوارد، إلى صحفيين ~~يريدون أن يوافوا صحفهم بكل ما يستطيعون من نبأ عن ذلك الرجل الذي يشغل الحديث عنه أذهان ~~الناس، ويملأ مجالسهم في طول البلاد وعرضها. وكم كان يبتسم ابن الغابة ابتسامة السخرية من ~~غرور الحياة إذ تقع عيناه في صحيفة على مثل قول أحد الصحفيين: إنه لا يعيش كما يظن بعض ~~الناس عيشة الأوساط أو أقل منهم؛ فإن له بيتا جميلا، وإنه يرتدي ملابس جيدة التفصيل، وإن ~~امرأته تتكلم الفرنسية في طلاقة، وإن له ابنا في جامعة هارفارد. # ولبث في سبرنجفيلد لا يأبه لما يتقول عليه أعداؤه، ويرتاح لما يثني به عليه أولياؤه. وقد ~~وقع في نفسه أحسن وقع ما كتبه سيوارد عنه؛ فقد طلبت إليه إحدى صحف نيويورك أن يكتب كلمة عن ~~أبراهام ليعرفه لمن يجهله من الناس؛ فإن كثيرا من الولايات الشرقية لا يعلمون عنه إلا ~~اليسير، وضرب سيوارد مثلا طيبا، فكتب يثني على أبراهام ويصف خلاله، ويهنئ البلاد باختيار ~~حزبه إياه ويتمنى له الفوز في المعركة الأخيرة. # ووقع في نفسه كذلك موقعا طيبا ما سمعه عن دوجلاس خصمه العنيد؛ فقد قال دوجلاس عندما علم ~~باختيار حزبه إياه إن الحزب قد اختار في الحق رجلا قويا جد قوي أمينا حق أمين، وقال ~~يصفه لأحد أصدقائه: «إنه من أقدر الرجال في الأمة كلها.» # وما فتئت الكتب تلقى إليه من أنحاء البلاد تحمل إليه التأييد والإعجاب، وإن كان بينها ~~عدد كريه جاءه من خصومه ينطق بكراهتهم إياه ويسمعه تهديدهم ونذرهم. # ومن أجمل ما جاءه من الكتب وأعجبها كتاب جاءه من بنت صغيرة تستفهمه فيه عن أسرته وتطلب ~~إليه أن يطلق لحيته، ولقد رد عليها أبراهام بكتاب قال فيه: # أي فتاتي الصغيرة العزيزة، تلقيت كتابك الجدير جدا ms238 بالقبول، المؤرخ في ~~15 أكتوبر سنة 1860، وإني لآسف أن أراني مضطرا إلى إخبارك أنه ليس لي ابنة، إن ~~لي ثلاثة بنين؛ عمر الأول سبعة عشر عاما، والثاني تسعة، والثالث سبعة، ومن هؤلاء ~~وأمهم معهم تتألف أسرتي كلها. أما عن إطلاق لحيتي أفلا ترين، ولم تكن لي من قبل ~~لحية، أني إذا أطلقتها الآن إنما آتي بذلك ما يعد ضربا من التكلف السخيف؟ ... هذا ~~وإني لك الصديق الوفي المخلص. # أ. ~~لنكولن # وسخط الناس في الجنوب على اختيار رجال حزبه إياه، وأصابهم من ذلك كرب شديد وضيق، وراحت ~~صحفهم تناله بفاحش الهجاء؛ فهو تارة الجمهوري الأسود، وآونة فالق الأخشاب الجاهل الذي هو ~~بسبيل أن يفلق الاتحاد، وأحيانا الرجل الذي لا يحسن إلا النكات الخشنة المسفة، وطورا ~~الشبيه بالغورلا، وهو يقابل ذلك كله بالصبر الجميل مترفعا ترفع الكرام عن جهل ~~اللئام. # ولم يحدث منذ نشأة الولايات المتحدة أن قامت العداوة والبغضاء بين أهل الجنوب وأهل الشمال ~~كما قامت بينهما عقب اختيار الجمهوريين أبراهام لنكولن. # وهبت من الجنوب الشائعات بالنذر؛ فلقد ازدادت الدعوة إلى الانسحاب من الاتحاد، وإلى إعلان ~~التمرد والعصيان إذا قدر أن ينتخب لنكولن رئيسا للولايات، ونمى إليه فيما نمى من الأنباء ~~أن أهل الجنوب يطاردون بالقوة كل من يدعو إلى تحرير العبيد في ولاياتهم، وكتبت صحف الجنوب ~~تندد بدعاة التحرير من أهل الشمال، وقد غاظ الجنوبيين أن ينظر خصومهم إلى الرق نظرة خلقية؛ ~~إذ إنهم بذلك يعرضون بهم ويريدون أن يقولوا إنهم قوم بعيدون عن الإنسانية، وأخذت تلك الصحف ~~الجنوبية تنكر على الشماليين ما يزعمون لأنفسهم من نبل؛ فهم في رأيها قوم يتظاهرون بالسمو ~~في حين أنهم أجلاف ليس فيهم إلا كل متكلف كثير الادعاء. # على أن أعظم ما أزعج أبراهام يومئذ ما أفضى به إليه قائد من القواد من أنهم في الجنوب ~~يعدون معدات القتال! لقد ارتاع أبراهام لسماع ذلك وأحس بميل شديد إلى معرفة كل شيء، ولكنه ~~يشعر، ولم ينتخب للرياسة بعد، أن ليس له أن يسترسل فيما هو فيه ms239 من استطلاع، فيطلب إلى محدثه ~~أن يتبين قبل أن يزيده علما، فإذا لم يكن في الإفضاء بما يعلم خيانة فليفض به وهو يترك ~~له تقدير ذلك. # ولم يقتصر الأمر على الجنوب؛ فإن في الشمال قوما يخيفهم أن ينتخب أبراهام، ويرون أن ~~المسألة لم تعد مسألة الرق فحسب، بل هي اليوم مسألة الاتحاد، وهل يظل قائما أم ينهار ~~بناؤه، وإنهم ليخافون ما تنذر به الأيام؛ فها هم أولاء بعض المدينين من تجار الجنوب يرفضون ~~أن يدفعوا ما عليهم لدائنيهم من أهل الشمال، والأسعار في جميع عروض التجارة آخذة في ~~الارتفاع، وكثير من الناس يكرهون أن يسمعوا ما يقال عن الرق ويضيقون بقضيته ذرعا، حتى لقد ~~فض فريق من أهل بوستن بالقوة اجتماعا عقده بعض أعداء الرق، وبعض ضباط الجيش يعلنون في غير ~~حرج أنه إذا انتخب لنكولن رئيسا للاتحاد فسوف يتخلون عن مناصبهم ويذهبون إلى الولايات ~~الجنوبية. # ولا يخفي كثير من كبراء الجمهوريين أنفسهم مخاوفهم من اختيار لنكولن في مؤتمر شيكاغو، ~~ويرون في ذلك نذرا سوداء تقض مضاجعهم وتقلق بالهم، كتب أحدهم في ذلك يقول: «أذكر إذ وقعت ~~عيناي لأول مرة على ذلك النبأ مكتوبا على لافتة انتخابية في أحد شوارع فيلادلفيا؛ أني ~~أحسست لحظة بألم جثماني شديد، وكان حالي يومئذ حال من أصيب بضربة قوية فوق رأسه، ثم خانتني ~~قوتي وشعرت أن قضيتنا قد منيت بفشل لا رجاء معه.» # وكان نفر من الجمهوريين في الولايات الشرقية يرون أن سيوارد قد ذهب ضحية الغفلة والجهل، ~~وأنه أحق من أبراهام بالرياسة، وذهبوا في ذلك إلى حد أنهم نصحوا له أن يتجاهل قرار مؤتمر ~~شيكاغو ويتقدم لمنافسه أبراهام في معركة الانتخاب، ولكنه رفض أن يستمع إلى ذلك. # وبات أنصار أبراهام من الجمهوريين موضع استهزاء الجنوبيين وسخطهم؛ فهم أجراء حقيرون، ~~وهم قوم لا يدرون معنى الاجتماع، وهم سذج بلهاء مخبولون، وإن الواحد منهم في أحسن ~~حالاته لا يصلح لأن يكون ندا لخادم من خدم سيد من أهل الجنوب! # وتصل أنباء هاتيك النذر جميعا إلى ms240 أبراهام وهو في سبرنجفيلد فينكدر لها خاطره، ولكنه ~~ينتظر ما عسى أن تأتي به الأيام، ولكم استمع إلى نذر العاصفة في الغابة وهو في كوخه، ولكم ~~أنصت إلى دويها وهي هوجاء مجنونة تحطم الفروع وتقتلع الجذوع، فما مثله من ينخلع فؤاده من ~~عاصفة وإن كانت اليوم تنذر بالنار والدم. إنه يكرهها ولكنه ليس يحس تلقاءها شيئا من ~~الخوف. # | الرئيس أبراهام لنكولن! # تأهبت البلاد في شهر أكتوبر من عام 1860 للمعركة الانتخابية، وما من أمريكي ذي صلة ولو ~~قليلة بالسياسة إلا وكان يدرك ما كانت تنطوي عليه تلك المعركة يومئذ من خطورة بالغة، ولعله ~~لم يسبق في تاريخ الاتحاد أن عظم اهتمام الناس بما عسى أن تكون نتيجة المعركة كاهتمامهم ~~بذلك في عامهم هذا؛ فإنه إما أن يبقى بناء الاتحاد، وإما أن ينصدع فإذا هو اتحادان. # وأخذ كل حزب يسعى سعيه وينشر في البلاد ما وسعه من أساليب الدعوة، وأخذ اسم فالق الأخشاب ~~ينتشر في طول البلاد وعرضها، وأخذت صورة هاتيك الأخشاب فوق الصناديق والعلب وغلايين الطباق، ~~وصار الناس يتغنون بأغنيات تدور حول النجار فالق الأخشاب، ووضعت قطعتان من هاتيك الأخشاب في ~~مقر الحزب في نيويورك على أنها من صنع أبراهام نفسه، كما ادعى ناد من الأندية السياسية أن ~~لديه المعول الذي استعمله في فلق الأخشاب فتى الغابة أبراهام لنكولن. # وعظمت حماسة الناس في الولايات الناقمة على الرق حتى ما ينهض لوصفها كلام، ودوت هذه ~~الحماسة في الاتحاد كله، وتألفت فرق من المتحمسين كانت تطوف في البلاد تحمل المشاعل ~~أثناء الليل والأعلام في وضح النهار، وكانت تحمل لوحات عليها اسم لنكولن ولوحات أخرى رسمت ~~على كل منها عين مفتوحة حدقتها إلى أقصى ما يمكن أن تفتح، وسميت هذه الفرق باسم «المقل ~~الساهرة اليقظة». # وسارت فرق غيرها من الجمهوريين في مظاهراتها تحمل قطع الأخشاب، أو تحمل مثالا مصغرا ~~للأكواخ التي درج في أشباهها أول ما درج مرشح الجمهوريين ابن الأحراج؛ أبراهام ~~لنكولن. # ونشط أصحاب لنكولن من ذوي المكانة يدعون له ويعملون على فوزه ms241 بكل ما في طوقهم من الوسائل، ~~ومن هؤلاء زميله هرندن، ولندع هرندن يقص علينا بعض الذي حدث، قال: «لقد فرح الجمهوريون ~~بالمعركة ووضعوا أيديهم في أيدي دعاة التحرير، ومشوا جميعا صوب النصر متأثرين بما توجه ~~عبارة لنكولن: إنه ينبغي أن يوقف اتساع نطاق الرق في المستقبل، ويجب أن يوضع الرق بحيث ~~يطمئن الرأي العام إلى أنه مقضي عليه في النهاية بالفناء. # ولما حميت المعركة واشتدت، تقدمت بخدماتي فألقيت عددا من الخطب في بعض مراكز الولاية، ~~وأذكر ذات يوم وأنا ألقي خطبة في بيترسبرج، وقد قاربت موضعا حماسيا منها، أن جاءني رجل ~~قد تقطعت من الجري أنفاسه وناولني كتابا، ولقد ارتعت أول الأمر وفزعت من أن يكون به أنباء ~~عن حادث وقع لأسرتي، ولكم كان ارتياحي عظيما إذ تلوته ولقد جهرت بتلاوته، وكان كتابا من ~~صاحبي لنكولن ينبئني فيه أنه يحق لي أن أغتبط؛ فقد باتت أهايو وبنسلفانيا وإنديانا جمهورية، ~~وكان خط الرسالة ملتويا بعض الالتواء؛ مما يدل على أن لنكولن كان مضطربا لا يملك أعصابه ~~وقت كتابتها. وقد سببت تلاوة هذه الرسالة كثيرا من الهرج، وبعثت في السامعين حماسة شديدة، ~~حتى لقد نسوا أن هناك خطيبا يخطبهم، وخرجوا من القاعة هاتفين صائحين، حتى ما استطعت بعد ~~ذلك أن أتم خطابي.» # وكان لنكولن أثناء المعركة التي بدأت في أول شهر أكتوبر ينتظر ما عسى أن تأتي به، وهو في ~~سبرنجفيلد لا يبرحها، وكان يلقى الناس ورجال الصحافة أثناء النهار في قاعة من قاعات مقر ~~الحكومة في المدينة، وقد اتخذ له كاتبا يرد على رسائله كما ذكرنا. أما في الليل فكثيرا ما ~~كان يختار الجلوس في مكتبه ومكتب زميله هرندن؛ حيث يوافيه عدد من صحابته الأدنين، فيخلص ~~إليهم من مشاغل المعركة ويجلسون هناك جلسات هادئة، يذكر صاحبه هرندن أنها كانت من أجمل ما ~~احتفظ به هو وخلافه من ذكريات صاحبهم العظيم. # وظل الرجل العظيم على عادته يذهب بنفسه إلى مكتب البريد، فيأتي برسائله ويجلس في قاعة لا ~~يتخذ له حاجبا ولا يوصد ms242 بابه في وجه أحد، على الرغم مما لقيه من كتب سوداء تنذره بالويل، ~~وكانت بين يديه مئات من مجموعة خطبه يعطيها لمن يسأله آراءه السياسية قائلا في رفق ودماثة: ~~«كأنك يا صاحبي لم تقرأ خطبي؛ إذن فدونك مجموعة منها ففيها تجد آرائي.» # وهو لا يضيق بزائريه مهما كثر عددهم، اللهم إلا فئة لا يرتاح إليهم، ولكن أدبه يجبره على ~~أن يكتم عنهم ضيقه منهم، وهؤلاء هم الذي يظهرون الزلفى ويكشفون عما يبتغون من خير على يد ~~الرئيس المنتظر، إما بالتلويح وإما بالتصريح، لا يعنيهم إلا أشخاصهم، وكان يزدري الرئيس ~~المنتظر هذه الطائفة، ولكن خبرته بالدنيا ومعرفته بطباع الناس كانت تخفف أحيانا من ~~موجدته عليهم، حتى ليكون أقرب إلى الرثاء لهم منه إلى مجافاتهم وبغضهم. # وأمسك أبراهام عن الخطابة أثناء المعركة؛ فقد جرى العرف ألا يخطب في الناس داعيا لنفسه ~~من يرشح للرياسة، وكان خيرا له ما فعل؛ فلقد بين للناس من قبل آراءه، فليدعها على ما هي ~~عليه بينة سهلة لا غموض فيها ولا التواء. ولقد أوحى إلى كاتبه نيكولي أن يكتفي بإرسال نسخة ~~من خطبه إلى كل من يكتب إليه يسأله آراءه السياسية، مشفوعة بكتاب مؤاده أنه بينما يتلقى ~~كتبا من بعض الناس يسألونه رأيه في بعض مسائل السياسة، إذا به في الوقت نفسه يتلقى كتبا ~~غيرها يرجو فيها مرسلوها منه ألا يدلي بآرائه بعد أن بينها من قبل؛ فقد وضحت تلك الآراء ~~عندما اختاره حزبه، وينبغي تجنب ما عسى أن يشيع الاضطراب في المعركة الانتخابية الدائرة، ~~وبهذا يخلص أبراهام من الحرج؛ فلا هو أهمل الرد على سائليه، ولا هو زاد مشاغله بإرسال آرائه ~~السياسية إلى كل سائل. # وكان ينتقل أحيانا إلى بعض جهات المدينة ليشهد حفلا أقامه محبوه للدعوة له. وقد رآه ~~الناس ذات مرة يمشي بين جموعهم على قدميه إلى مكان الاجتماع، وقد اشتد الحر فكان يرتدي سترة ~~خفيفة حال لون صبغتها قليلا، وكان يضع فوق رأسه قبعة تغضنت بعض التغضن من جانبيها، وهو هو ~~لنكولن الذي ms243 عرفوه واحدا منهم، يحيي هذا ويبتسم لذاك ويهش لهؤلاء، ويذكر الجميع ~~بأسمائهم، ويطرق برأسه إذ يهتفون باسمه متحمسين؛ فما يجب أن يزهى. # على أن هذا الرجل - وإن كان التواضع من شيمه - لا يحب أن يظهر له أحد شيئا يفهم منه عدم ~~الاكتراث له، كما لا يحب أن يجبهه أحد بالخشن من القول، وهو حتى في مثل هذه المواقف يأبى ~~إلا أن يظل دمثا مهذبا، ولكنه يخرج من الحرج في كياسة وظرف وقد ألقى في نفس المخطئ ما ~~يشيع فيها الخجل، ويحملها في رفق هو أبلغ من العنف على الاحتشام والتأدب؛ ومن ذلك أنه بينما ~~كان ذات يوم يتحدث واقفا إلى بعض الرجال، تقدم شخص بادي الغلظة وجلس على كرسي لنكولن، وكان ~~هو الكرسي الوحيد الخالي، فلمحه أبراهام، وبعد أن أتم حديثه التفت إليه يكلمه، ثم مد يده ~~إليه مسلما وهو على خطوتين؛ بحيث لا يستطيع ذلك الشخص مصافحته إلا إذا نهض من مكانه، واتجه ~~لنكولن إلى الكرسي في هدوء، فجلس وترك ذلك الرجل يعاني الخجل والارتباك! وهكذا يأبى الرئيس ~~المرتقب إلا أن يحرص على دماثته دون أن يسهو عن مكانته. # وعمل خصوم لنكولن على إسقاطه ما وسعهم العمل، لا يدعون فرية إلا ألصقوها به مهما افتضح ~~أمرهم؛ فهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، بل إنهم ليزدادون عدوانا وإثما كأن بينهم وبينه ~~ترة. # ومن أكبر ما كدره يومئذ موقف رجال الدين في سبرنجفيلد؛ فقد حمل إليه أنصاره ذات يوم قائمة ~~بأسماء مريديه في المدينة، فنظر في أسماء رجال الدين فلم يجد إلا ثلاثة منهم وهم ثلاثة ~~وعشرون، فبدت أمارات الأسف والألم على محياه، على الرغم من أنه يرى في القائمة ما يشبه ~~الإجماع على محبته، ولعل هذا الإجماع هو الذي أبرز موقف رجال الدين حياله، فقال معقبا على ~~ذلك الموقف: «يعلم هؤلاء الناس حق العلم أني أنصر الحرية وأن خصومي ينصرون الرق، ومع هذا ~~فإنهم وهذا الكتاب في أيديهم (وهو الإنجيل قد أخرجه من جيبه) هذا الكتاب التي لا تعيش ~~الأغلال ms244 الإنسانية في ضوئه لحظة، أقول إنهم مع هذا يريدون أن يمنحوا أصواتهم خصمي، إني لست ~~أفهم ذلك أبدا، إني أعلم أن الله حق، وأنه يكره الظلم والاستعباد، وإني أرى العاصفة مقبلة ~~وأرى يد الله فيها، فإذا كان قدر لي موضعا فيها وعملا - وذلك ما أظنه واقعا - فإني ~~أعتقد أني على أهبة. إني لست شيئا مذكورا ولكن الحق هو كل شيء، وإني لأعلم أني على الحق؛ ~~لأني أعلم أن الحرية هي من الحق وأن المسيح يدعو إليها. ولقد أخبرتهم أن البيت المنقسم بعضه ~~على بعض لا يمكنه أن يتماسك، وإن المسيح وإن العقل ليقولان مثلما أقول، ولسوف يعلمون ذلك. ~~وما يبالي دوجلاس نصر الرق أم خذل، ولكن الله يبالي ذلك والإنسانية، وإني لأباليه ولن أخذل ~~ما دام الله في عوني، وقد لا يقدر لي أن أرى الخاتمة ولكنها آتية، ولسوف تكون مبررة لما ~~أقول، ويومئذ سيرى هؤلاء الناس أنهم لم يقرئوا الإنجيل كما ينبغي أن يقرأ.» وسكت أبراهام ~~لحظة ثم أضاف إلى ذلك في لهجة شديدة قوله: «إني أفكر في هذه المسألة؛ أعني مسألة الرق، أكثر ~~مما أفكر في أية مسألة أخرى، ولقد فعلت ذلك منذ سنين.» # ولم يكن منافسوا لنكولن ضعاف الجانب كما قد يخيل إلى المرء بالنظر إلى قوة الحزب ~~الجمهوري، وحسب المرء أن فيهم دوجلاس، ولقد خرج دوجلاس على العرف وخاض المعركة بنفسه يخطب ~~الناس أينما حل، ويحمل في صرامة على الجمهوريين وأنصارهم من دعاة القضاء على الرق لا يفرق ~~بينهم، ويرميهم جميعا بأنهم قاضون بسياستهم الطائشة على بناء الاتحاد، وكان في تلك الخطب ~~الملتهبة يرمي آخر ما في جعبته من سهام، ولكنها إن دلت على حماسته ونشاطه، فإن خروجه على ~~العرف إنما يدل على أنه يفعل فعل اليائس الذي يخاف أن تفلته وسيلة، وكان كلامه يدور حول ~~فكرة مؤداها أنه أسلم من في الميدان جانبا؛ لأنه لا يسلك مسلك لنكولن في محاربة الرق ولا ~~مسلك بركنردج في التمسك به، ولكن الأمة كانت في الحق قد سئمت هذه ms245 السياسة، وأصبح الإحساس ~~العام هو الوصول إلى حل لتلك المشكلة؛ فإما بقاء الرق وإما فناؤه. # وكان أهل الجنوب يسخطون على دوجلاس منذ أن أوقعه أبراهام في الشرك إذ سأله في صراعهما ~~الطويل: إذا أردت أن تقضي على الرق فهل تفعل ذلك في غير حرج؟ ورد دوجلاس على ذلك بقوله نعم ~~تفعل ذلك في غير حرج، فأغضب الجنوبيين، ورضي بالعاجلة وهي الظفر بمقعد في مجلس الشيوخ، حتى ~~جاءت الآجلة وهي الرياسة، فتبين له سوء ما فعل، ولقد فطن لنكولن إلى ما سوف يكون لقوله من ~~أثر منذ قال، وتنبأ بهذا الأثر وأظهر أصحابه عليه كما بينا ذلك في موضعه. # وزاد موقف دوجلاس ضعفا على ضعف انقسام الديمقراطيين كما أسلفنا؛ فإن كثيرين منهم يظاهرون ~~بركنردج، وعلى الأخص في الجنوب، بينما أجمع الجمهوريون أمرهم على رجل وحد هو ~~لنكولن. # وكان في الميدان منافس آخر هو بل، التف حوله أنصار حزب جديد عرف باسم حزب الاتحاد ~~الدستوري، وهو حزب ينكر إثارة مشكلة الرق ويدعو إلى الحرص على كيان الاتحاد وفق مبادئ ~~الدستور. # وشملت المعركة أمريكا كلها، فما مر بالبلاد في تاريخها الحر معركة كان لها من الخطر مثل ~~ما لهذه المعركة الدائرة، ورددت الألسن اسم أبراهام لنكولن في الشمال والجنوب والشرق والغرب ~~على نحو لم يسلف بمثله الزمن لاسم آخر، وكان لنكولن عند أنصاره الرجل الذي جاء على قدر من ~~الله ليمسك البناء أن ينهار، فهو المتمم لما فعل وشنطون، وكان عزاؤهم في المحنة التي تتهدد ~~البلاد أن الأقدار قد هيأت لها هذا الرجل، وكان عند خصومه هو المحنة التي يخافون، فلئن أصبح ~~الرئيس فلسوف يكون للجنوب رئيس غيره، ومن هنا يستطيع أن يتصور المرء مبلغ ما كان لهذه ~~المعركة من عظيم الخطر، ومبلغ ما شغل الأذهان من أنبائها وضوضائها، وما ملأ البلاد من مظاهر ~~نشاطها وجلبتها. # وجاء يوم الفصل وهو اليوم السادس من شهر نوفمبر، وترقب الناس النبأ العظيم، فإذا هو فوز ~~فالق الأخشاب! وأصبح لنكولن الخليفة الخامس عشر للرئيس وشنطون العظيم بطل ms246 الاستقلال، وكأنما ~~أرادت الأقدار أن تقرن اسمه باسم وشنطون في تاريخ بلاده، فلئن كان هذا قد أقام الصرح فعلى ~~أبراهام اليوم أن يمسك بنيانه أن يخر من القواعد. # وكان نجاح أبراهام محققا قبل يوم الفصل؛ بما كان لحزبه من جاه ونفوذ في أهل الشمال، وهم ~~أحكم سياسة من أهل الجنوب، وذلك فضلا عن اتحاد كلمة هذا الحزب بينما كان يتنازع ~~الديمقراطيون كما رأينا كأن بينهم عداوة. # حصل لنكولن على قرابة مليوني صوت من عدد أصوات الناخبين جميعا، وكانوا نحو أربعة ملايين ~~ونصف مليون رجل، وقد زاد على دوجلاس أقوى منافسيه بنحو أربعمائة صوت، وحصل المنافسان ~~الآخران مجتمعين على نحو مليون من الأصوات. # وأما باعتبار مندوبي الولايات المتحدة، وهم الذين ينتخبهم الناس في كل ولاية لينتخبوا ~~بدورهم الرئيس حسب قواعد الدستور، فقد ظفر لنكولن منهم - وكان عددهم ثلاثمائة رجل وثلاثة - ~~بمائة وثمانين هم الذين اجتمع فيهم المليونان، وظفر دوجلاس باثني عشر رجلا فحسب، وهم الذين ~~اجتمع فيهم المليون ونصف المليون، وظفر بركنردج باثنتين وسبعين، وبل بتسع ~~وثلاثين. # ومما هو جدير بالملاحظة أن لنكولن لم يظفر بمندوب واحد من خمس عشر ولاية، وفي عشر ولايات ~~لم ينل صوتا واحدا، ولقد ظفر بأغلبية المندوبين في ولايات الشمال الثماني عشرة ما عدا ~~نيوجيرسي؛ حيث تعادلت الأصوات فيها بينه وبين دوجلاس، ولم ينل إجماع المندوبين إلا في ولاية ~~مسوري. # وراح خصوم أبراهام يعيرونه بهذا الفوز؛ إذ كانوا لا يعدونه فوزا إلا إذا نظر إليه ~~باعتبار ما ظفر به من أصوات المندوبين، فإذا نظر إليه باعتبار أصوات الشعب، فإن لنكولن لم ~~يفز إلا بأقل من النصف. # ولكن أصحابه لا يعبئون بهذا الكلام، وعندهم أن العبرة بعدد أصوات المندوبين لا بما يكون ~~وراء هذه الأصوات من أعداد تقل أو تكثر حسب إقبال الناس على الانتخاب، ولقد ناله لنكولن من ~~أصوات المندوبين ما قلما ظفر بمثله رئيس قبله إذا قيس ذلك إلى ما ناله كل من منافسيه، ~~وبخاصة دوجلاس ذو الخطر والمكانة. # | دوي العاصفة! # كان على أبراهام أن ms247 يقضي أربعة أشهر أخر قبل أن يحتفل بتسلمه أزمة الحكم، فقضاها في ~~سبرنجفيلد، بينما كان الرئيس بوكانون يكمل مدته بقضاء تلك الأشهر في البيت الأبيض في ~~وشنطون. # ولبث أبراهام في سبرنجفليد يلقى زائريه كل يوم، ويمشي كعادته في الطرقات بين الناس لا ~~يجعل بينه وبينهم كلفة، ولا يتخذ من دونهم حجابا، يحييهم فيدعوهم بأسمائهم ويردون فيدعونه ~~بأحب أسمائه إليه؛ فمنهم من يناديه أيب العجوز، ومنهم من يقولها مجردة من النعوت، وتبدو ~~«أيب» يومئذ أقرب النعوت منه وأعلقها به؛ فإن على محياه لكآبة شديدة هي من أثر ما يهجس في ~~نفسه، وإنه اليوم لكثير التأمل والإطراق لا يسمع الناس من أقاصيصه ما كانوا قبل يسمعون، ولا ~~يشهدون من عذوبة روحه ما كانوا يشهدون. # أما امرأته فمرحة طروب لا تملك نفسها من الزهو إذ تقف إلى جانب بعلها في شرفة الدار وهما ~~يطلان على الجماهير الهاتفة، وإن كانت لتكره منه وتتبرم بهذا الوجوم وهذا الصمت، وإن كانت ~~لتنكر عليه ما يظهر فيه من ملابس، وبخاصة قبعته التي ألحت عليه وما تفتأ تلح أن يستبدل بها ~~أخرى جديدة فلا يطيع. # وحق له أن يبتئس وأن يرتاع؛ فما تزال تترامى إليه الشائعات والأنباء المزعجات؛ فهذه صحيفة ~~من صحف الجنوب تعلن نبأ اختياره للرياسة تحت عنوان «أخبار خارجية»، وهذا حاكم كارولينا ~~الجنوبية يتناول المعول فيهدم أول حجر من بناء الاتحاد، فقد استقال أعضاء مجلس الشيوخ من ~~هذه الولاية وانسحبوا من وشنطون، وأخذ ذلك الحاكم يعد ما استطاع من معدات الحرب وتذيع صحفه ~~في صراحة أن قد صار الاتحاد أثرا بعد عين، وإنه ليسعى بالتفرقة ويحرض الولايات الجنوبية ~~على الانسحاب من الاتحاد، بعد أن أعلن بلسان المجلس التشريعي في ولايته أن لا صلة اليوم ~~لهذه الولاية بالاتحاد، وأخذ يقيم لولايته حكومة مستقلة. # وإنه ليدور بعينيه في هذه المحنة باحا عمن عسى أن يشد أزره من الرجال، فيرى والأسى يرمض ~~فؤاده أن كثيرا من رجال حزبه لا يرون رأيه، فهم يميلون إلى مصالحة أهل الجنوب، وكان على ms248 ~~رأس القائلين بذلك سيوارد نفسه. # ولكن أبراهام يعلن إليهم في ثبات عجيب أن مصالحة أهل الجنوب معناها التهاون في المبادئ، ~~والتسليم بانتشار الرق، والاعتراف بحقهم في اتباع القوة وفي الانسحاب من الاتحاد، وهو لا ~~يأمن أن يعودوا إلى مثل ذلك في أي وقت. ويسمع أصحابه ذلك الكلام ويعقلونه ولكنهم خائفون، ~~وإنهم ليحملونه كل ما عساه أن ينجم بعد ذلك من مصائب. # والنذر لا تني تأتي من الجنوب بما يقلق المضاجع ويزعج النفوس؛ فها هي ذي ست ولايات أخرى ~~تنسحب من الاتحاد، وتنضم إلى كارولينا الجنوبية فتؤلف من بينها تحالفا، وتجعل له حكومة ~~يرأسها جفرسون دافز. وهكذا يقع ما طالما تخوف أبراهام أن يقع؛ ففي البلاد اليوم حكومتان، ~~وينهار البناء على هذا النحو حجرا بعد حجر، والرئيس الجديد ما يزال في سبرنجفيلد يشهد ما ~~تفعل العاصفة. # ويحمل البريد إلى أبراهام كل يوم آلافا من الرسائل، بينها نوع تنفر نفسه منه كل النفور، ~~وإن كان لا يجزع ولا يرتاع، نوع ملؤه الوعيد والسباب، وتفصيل صور الموت التي تنتظره إن هو ~~مضى فيما هو فيه وأصر على عناده، وهو يطوي تلك الرسائل ليلقي بها في النار مخافة أن تقع عين ~~امرأته على ما يتوج الكثير منها من صور الخناجر وأسلحة الموت. # ويتطلع أبراهام في هذا الهول إلى وشنطون ليرى ما عسى أن يفعله بوكانون الرئيس القائم، ~~ولكن هذا الرجل يسلك مسلكا عجبا؛ فهو يتراخى ويتهاون ويدع الأمر كله للرئيس القادم، فما ~~هي إلا أيام حتى يأوي إلى عزلته، وليته يحافظ على الحال كما هي، إذن لخفت تبعته وقل وزره، ~~ولكنه يدع أنصار الجنوب يفعلون ما يشاءون ويعدون ما يستطيعون من قوة ومن عتاد الحرب، ثم ~~يزيد فداحة الخطب بتصريح له خطير، مؤاده أنه وإن لم يكن للولاية حق الانسحاب من الاتحاد، ~~فليس لحكومة الاتحاد حتى ردها إليه بالقوة إذا هي انسحبت، ويكون بوكانون بتصريحه هذا كمن ~~يلقي بالحطب على النار حين يجدر به أن يلقي عليها الماء! # وتشيع الخيانة في وزرائه، فيرسل بعضهم ms249 الرجال والمال إلى الولايات الجنوبية، ويستقيلون من ~~مناصبهم، ومن ذلك ما فعله وزير الحرب؛ إذ أرسل أكثر رجال الجيش إلى الجنوب كما أرسل إلى ~~هناك ما استطاع إرساله من العتاد والمؤن، وكذلك ما فعله وزير المال؛ إذ أرسل ما وسعه إرساله ~~من مال الخزانة العامة إلى الجنوب، حتى أوشكت أن تصبح خالية، وما فعله وزير الشئون ~~الداخلية؛ إذ عمل على سحب الجند من بعض المواقع الهامة وتسليمها إلى أهل الجنوب! وهكذا يبيت ~~الأمر فوضى، حتى لكأن البلاد بغير حكومة. وليس أدل على مبلغ هذه الفوضى من كلمة قالها أحد ~~الشيوخ من ولاية كارولينا الشمالية يومئذ؛ فقد حدث وزير الشئون الداخلية هذا الشيخ قائلا ~~له إنه انتدب ليعمل على أن تنسحب كارولينا الشمالية من الاتحاد، وفهم الشيخ أن ذلك معناه أن ~~الوزير استقال حتى يكون له أن يفعل ذلك، ولكن ما كان أعظم دهشة الشيخ إذ نفى الوزير ~~استقالته، قائلا إن الرئيس بوكانون يريده على أن يبقى حتى اليوم الرابع من شهر مارس، ~~وتساءل الشيخ في دهشة، أيعلم بوكانون ماذا يصنع الوزير في كارولينا الشمالية؟ وأجاب الوزير ~~أنه يعلم ذلك، فصاح الشيخ قائلا: «لم أعلم من قبل أن حاكما يرسل عضوا من أعضاء وزارته ~~ليصنع ثورة ضد حكومته.» # وتقدم أحد الوزراء إلى بوكانون ساخطا يعلن له احتجاجه فما أصاخ إليه، فقال له ذلك الوزير ~~الأمين: «إن واجبي كناصحك الشرعي هو أن أنبئك أنه ليس لك من حق في أن تسلم شيئا مما هو من ~~أملاك الدولة، ولا أن تدع أعداءك يأخذون جيشها وسفنها، وإن ما سلكه وزير الأمور الداخلية في ~~هذا الشأن لهو من الخيانة، ولوسف يشركك ومن كان له يد في هذا فيما ينطوي عليه ذلك الفعل ~~من معنى.» ثم ناوله الوزير استقالته. # ويشتد عدوان أهل الجنوب، وقد اتخذ الاتحاد الجديد هناك دستورا جديدا يقر الرق، ويعلن ~~أنه أمر مشروع من وجهة الدين ومن وجهة الخلق، وكذلك من وجهة النظام الاجتماعي؛ ويعظم بذلك ~~هياج العاصفة ويشتد دويها. # وأبراهام في سبرنجفيلد ms250 كالسنديانة العظيمة لا تهز العاصفة إلا فروعها؛ يخوفه سيوارد عاقبة ~~الأمر فلا يخاف ولا يلين، ويسخط بعض أهل الشمال أنفسهم على أبراهام وينكرون عناده وإصراره ~~على موقفه من الرق فلا يحجم ولا يتراجع. قال ذات مرة لرجل يحاوره: «اذهب إلى شاطئ النهر وخذ ~~معك غربالا متينا فاملأه بالحصى، فسترى بعد هزات قوية أن الرمل وصغيرات الحصى تنفذ من ~~الثقوب وتتوارى عن الأعين؛ إذ تضيع على الأرض وتبقى في الغربال القطع التي تزيد عنها حجما؛ ~~إذ إنها لا تنفذ من بين الخيوط ... وبعد هزات أخرى متكررة يتبين لك أنه من بين القطع الباقية ~~في الغربال تصل كبرياتها إلى القمة، وهكذا فإنه إذا لم يكن من الحرب بد، وأن هذه الحرب سوف ~~تهز البلاد من وسطها إلى جوانبها، فإنك ستجد صغار الرجال يتوارون عن الأنظار في هزاتها، ~~بينما ترتكز الكتل على قواعد ثابتة ويرتقي أكابر الرجال إلى القمة، ومن بين هؤلاء يبرز ~~أعظمهم فيكون منه قائد القوم في الصراع القائم.» # هذا هو العز الذي لا يعرف التردد، ولكن من وراء هذا العزم نفسا شاعرة وقلبا عطوفا ~~وطبعا ينفر من الشر، وما كانت هموم نفسه إلا مما يريد أن يدفعه عن بلده من شر وبيل يوشك أن ~~يملأها من بعد أمنها خوفا، أما عن نفسه فهو لا يبالي أن يذوق الموت بعد أن جمع للجهاد عزمه ~~وجعل لقضية الاتحاد همه. # وها هو ذا قد وصل في بلاده إلى القمة، فهل ابتغى من وراء ذلك جاها أو تلهى بالعرض عن ~~الجوهر؟ هل تنفس الصعداء واستكان إلى الدعة وجعل من المنصب متعة وغرورا؟ كلا، فها هو ذا ~~يجعل من وصوله إلى هذه المرتبة مبدأ مرحلة جديدة في جهاده المرير، وإنه ليحس أنه هالك في ~~الجهاد لا محالة، ففي نفسه من المعاني ما يشير إلى ما سوف يلقاه من خطوب وويلات، تحدث هذا ~~الصنديد الجلد إلى صديق له بعد فوزه بالرياسة بسنوات، يصف ما كان يهجس في خاطره عقب ذلك ~~الفوز، فذكر أنه نظر ذات مرة ms251 يومئذ، وقد جلس متعبا على مقعد إلى مرآة أمامه، فرأى فيها ~~لوجهه صورتين، فوثب في مكانه يستوثق من ذلك فامحت الرؤيا، ولكنها عادت كما كانت حين عاد ~~فجلس، وكانت إحدى الصورتين تخالف الأخرى في أنها تبدو مصفارة مخيفة، ولقد أوجس أبراهام في ~~نفسه خيفة، ولم يكن خوفه مما رأى في ذاته، بل كان لما انبعث منه من معان في نفسه. ولقد ~~تكرر ذلك المنظر بعد أيام ثم انقطع على رغم محاولاته أمام المرآة، أما امرأته فإنها فسرت ~~ذلك بأنه سيختار للرياسة مرة أخرى ثم يموت في تلك المرة! يالله ما أعجب نبوءات هذه ~~المرأة! # هكذا كان أبراهام يحس ما يخبئه له الغد من مكروه؛ ولذلك فهو يقدم على علم بما ينتظره، فلا ~~يتهيب ولا ينكص وإنما يحذر ويتدبر أن تصيب بلاده دائرة. # وظل يمني نفسه أن يثوب أهل الجنوب إلى رشدهم وأن تخشع للحق قلوبهم، ولكنهم في شطط من ~~عنفهم وغرورهم، فها هي ذي الأنباء تأتي بجديد من كيدهم، وبيان ذلك أنه كانت لحكومة الاتحاد ~~حصون في الولايات الساحلية، بها جند تحميها، وكان من تلك الحصون في كارولينا حصنان؛ أهمها ~~حصن سمتر، فأرادت كارولينا أن تستولي على الحصنين لتتم سيادتها فلم تفلح إلا في أحدهما، ~~وكان ذلك عقب إعلان انفصالها. # واحتمى الجند في حصن سمتر وأرسلوا إلى الرئيس بوكانون أن يمدهم بالعون والذخيرة، فلم ~~يستطع بوكانون أن يصم أذنيه عن هذا الطلب وأرسل سفينة تحمل المئونة والرجال، ولكن أهل ~~كارولينا أطلقوا النار عليها في ميناء شارلستون وأجبروها على الرحيل، وطلبت حكومة الاتحاد ~~الجنوبي تسليم حصن سمتر، فرفضت الحامية بقيادة أندرسون أن تسلمه، فضرب عليه الحصار، وبات في ~~الواقع أهل الشمال وأهل الجنوب في حرب. # وعاد سيوارد يلح على أبراهام أن يتفق أهل الشمال وأهل الجنوب على شروط تخفف من غضبهم، ~~فرفض أبراهام ذلك وأعلن أنه مصر على الرفض مهما يكن من الأمر. ولما يئس سيوارد من إقناعه ~~عرض عليه أن يزحف على العاصمة في جيش من المتطوعين، ويأخذ بيده زمام ms252 الأمور من بوكانون قبل ~~أن يستحفل الشر، فرفض أبراهام أن يفعل ذلك لما فيه من خروج على الدستور. # وازداد الموقف شدة حين ترامى إلى سمع لنكولن أن كثيرا من الناس يودون لو ينسحب ويدع ~~تقرير الأمور إلى رئيس غيره يختار. ولو أن رجلا غيره كان في موقف مثل موقفه هذا لخارت ~~عزيمته وانكسرت نفسه، ولكنه ما وهن ولا استكان، وما زادته الشدائد إلا صبرا وعزما ولا ~~المحن إلا رغبة في النضال والجلاد. # وظل في سبرنجفيلد يعد الأيام بل يعد الساعات وفي مسمعيه بل في أعماق نفسه دوي العاصفة، ~~ولكنه لا يستطيع اليوم أن يفعل شيئا؛ الأمر الذي يؤلمه ويكربه. قال ذات ليلة لأحد أصحابه ~~وقد جلس إليه يحدثه ويسري عنه: «إني أرحب أن أفقد من عمري من السنين ما يساوي عدده ذينك ~~الشهرين الباقيين لي هنا؛ كي أتسلم مقاليد منصبي وأقسم اليمين الآن.» ولما سأله صاحبه لم ~~ذلك أجاب بقوله: «لأن كل ساعة تمر علي هنا تزيد تلك المصاعب التي انتدبت لمواجهتها، وما ~~تفعل الحكومة الحاضرة شيئا لمقاومة هذا الاتجاه نحو الانهيار، وأنا الذي دعيت لكي أضطلع ~~بهذه التبعة الخطيرة يتحتم علي أن أبقى هنا لا أعمل شيئا ... وإن كل يوم يمر إنما يزيد في ~~حرج الموقف وصعوبته.» # على أنه يحاول أن يفعل شيئا وهو في سبرنجفيلد، فإن له صديقا من أهل الجنوب؛ ألا وهو ~~ألكسندر ستيفن زميله في الكونجرس، ذلك الديمقراطي الذي ألقى خطابا ذات يوم في صدد حرب ~~المكسيك دمعت له عينا صاحبه، وأشار إلى شدة إعجابه به فيما كتب يومئذ إلى صديقه هرندن، ولقد ~~ظلت صلته وثيقة بهذا الديمقراطي منذ أن عرفه قبل اثنى عشر سنة. # ولقد قرأ لنكولن بعد انتخابه بشهر خطبتين لصديقه الجنوبي، جاء فيهما أن اختيار لنكولن عمل ~~دستوري، وأن الثورة خطة غير مضمونة، وإذا وقعت الحرب فقد تؤدي إلى القضاء على الرق. وكان ~~صوت ستيفن نذيرا لأهل الجنوب، وسرعان ما ذاع في الأمة كلها، وكان وقعه عظيما في نفس ~~لنكولن، فكتب إليه أبراهام ms253 يساله أن يرسل إليه الخطبتين، فرد عليه ستيفن يعتذر بأنه لم ~~يحتفظ بنصيهما وجاء في رده قوله: «إن الأمة في خطر عظيم حقا، ولم يقع قط على كاهل رجل من ~~التبعات ما هو أعظم مما يقع على كاهلك في هذه الأزمة القائمة.» # وكتب إليه لنكولن في كياسة وحسن سياسة يقول: «هل يعتنق الناس في الجنوب الخوف حقا مما ~~عسى أن يؤدي إليه قيام حكومة من الجمهوريين من تدخل في شئون الرقيق، أو تدخل في شئونهم هم، ~~فيما هو من الرق بسبب؟ إذا كان الأمر كذلك، فإني أود أن أؤكد لك - وقد كنت صديقي ذات مرة ~~ولست كما أرجو حتى اليوم من عدوي - أن هذه المخاوف لا تقوم على شيء، لن يكون الجنوب اليوم ~~في هذه الحال أقل أمنا مما كان في عهد وشنطون، وإني أظن أن هذه المخاوف لا تتفق والقضية ~~القائمة، إنكم ترون أن الرق صواب وينبغي أن يتسع نطاقه، ونحن نرى أنه خطأ وينبغي أن يمنع ~~اتساعه، وهذا هو الاحتكاك، إنه حقا هو الخلاف الوحيد الملموس بيننا وبينكم.» # ولكن ستيفن الذي طالما ذهب مذهب صاحبه فيما مضى في سبيل الإنسانية، وإن اختلفا من الوجهة ~~الحزبية، ما لبث اليوم أن انساق في تيار الجنوب، حتى لقد أصبح نائب الرئيس في الاتحاد ~~الجنوبي، وعدم لنكولن في هذه المحنة معونة رجل كان يرجو على يديه أن تضيق هوة الخلاف بين ~~شقي الأمة. # ويشتد ضيق الرئيس الجديد وهو لا يستطيع أن يفعل شيئا، وكلما لمح له ما يأمل فيه أن يكون ~~معينا له على أمره سعى إليه ولو بدا أنه غير ذي خطر، ها هو ذا يعلم أن جريلي الصحفي الذي ~~طالما تنكر له من قبل يمر بالمدينة ويقيم بفندق من فنادقها، فلا يستنكف الرئيس أن يذهب إليه ~~بنفسه، وقد رأى منه أنه لم يطلب مقابلته، وقد كان خليقا أن يغضب لقعود هذا الصحفي عن السعي ~~إليه وهو اليوم رئيس الولايات المتحدة، ويمضي الرئيس إلى الفندق فيقابل جريلي ويحاول أن ~~يقنعه بأن ms254 يسدي إلى الأمة صنيعا لا ينسى؛ بدعوة أهل الجنوب إلى الرشد وتأييد قضية الرئيس ~~الجديد بقلمه وبما له من صيت ومكانة، ولكن جريلي لا يقتنع. ويخرج الرئيس من عنده وعلامات ~~الأسف على محياه. # وأخذ الرئيس يختار مجلس وزرائه، وقد قرب موعد سفره إلى واشنطون ليحتفل بتلسمه أزمة ~~الحكم، ووقع اختياره أول ما وقع على سيوارد، وقد وقف إلى جانب أبراهام بعد أن رأى من ثباته ~~وعزمه ما لم يتعلق به من قبل وهمه، ورضي سيوارد بادئ الرأي أن يعمل معه في منصب يعادل منصب ~~وزير الشئون الخارجية في الحكومات الحالية، يضاف إلى ذلك أنه كاتم سره ومستشاره وحامل ~~أختامه، وأخذ أبراهام يبحث عن غيره ممن يأنس فيهم الكفاية في مثل هاتيك الشدة. # وكان قد كتب إليه تشيس أحد منافسيه من الجمهوريين عقب فوزه يهنئه ويشير إلى عظم العبء ~~الملقى على عاتقه ويرجو له التوفيق، فاختاره لنكولن أحد وزرائه وقبل هذا بعد أن تدبر في ~~الأمر ثلاثة أشهر. # وقال الرئيس ذات يوم لبعض جلسائه، لو أنه استطاع أن يؤلف مجلس وزرائه من المحامين الذين ~~كانوا يصحبونه في إحدى جولاته القضائية، لأمكن أن يتجنب الحرب، فقال أحد الجالسين: «ولكن ~~أكثرهم كانوا ديمقراطيين.» فأجاب الرئيس: «لأن أعمل مع ديمقراطيين أعرفهم خير لي من ~~العمل مع جمهوريين أنا في جهل من أمرهم.» # وكان يشغل الرئيس في تلك الأيام طالبو المناصب ومتصيدوها ممن يمشون بالزلفى بين يدي كل ~~رئيس جديد، وقد ضاق بهم فندق المدينة، والرئيس يصغي لكل قادم إليه لا يتأفف ولا يضيق به ~~ذرعا مهما ألح ولج في إلحاحه، حتى ليعجب أصدقاؤه من طول صبره وعظيم دماثته، ويظهرون له ~~ألمهم وضجرهم، فيبتسم قائلا إنه لا يستطيع أن يعنف ذا حاجة، وإنه وقد نشأ بين عامة الناس ~~لا يسعه الإفلات منهم أو التكره لهم. # ولكن الرئيس لا يعد أحدا على حساب الصالح العام، ومهما يكن من طول صبره فهو لا يعدو أن ~~يصرف الطالبين بالحسنى، أو يعد من يستحق بإجابة مطلبه متى جاء وقت ms255 ذلك، ولا يحب أن يحيل ~~أحدا على مرءوسيه من الموظفين تخلصا منه؛ لأن في هذا التواء لا يتفق مع طبعه. # ويعلن الرئيس أنه لن يبعد عن منصبه أحدا ممن يخالفونه في السياسة، بل إنه ليذهب إلى أبعد ~~من ذلك، فيبدي رغبته في أن يضع في بعض المناصب فريقا ممن كانوا خصوما للحزب الجمهوري إبان ~~المعركة! بل إنه ليود لو جعل من وزرائه رجلين من أهل الجنوب. # ويعجب الناس من أمره هذا كل العجب، فقد جرى العرف أن يختار كل رئيس أعوانه في الحكم من ~~مؤيديه، وأن ينأى بجانبه عن مخالفيه في الرأي وخصومه في السياسة. # وقابل ذات يوم صديقه القديم سبيد، ذلك الرجل الذي آواه عنده يوم أن دخل سبرنجفيلد يريد أن ~~يحترف المحاماة، ومتاعه في جوالق يحمله على ذراعه ولا يجد له مسكنا، والذي توثقت بينه وبين ~~لنكولن عرى الصداقة والمحبة منذ ذلك اليوم، ويسأله الرئيس ضاحكا عن حاله فيفطن سبيد إلى ~~غرضه فيقول له: «أيها الرئيس، يخيل إلي أني أفطن إلى ما تريد أن تقول، إني بخير ولك شكري، ~~فما أظن أني في حاجة إلى أي منصب تريد أن تقدمه إلي.» # وتتندى عينا الرجل العظيم ويبتهج قلبه؛ فها هو ذا سبيد يقدم دليلا جديدا على صدق محبته ~~ونزاهة صداقته. # وقرب يوم الرحيل ودوي العاصفة ملء نفسه، لكنه كلما أخطر بباله عظم ما هو بسبيل أن يضطلع ~~به ازداد عزما ويقينا، وما أندر ما غاب عن باله هذا العبء الجسيم الذي قل مثله فيما ~~تمتحن به بطولة الرجال. # | الرجل القادم من الغرب # جال أبراهام جولة في البلاد التي قضى فيها صدر شبابه، وزار من لا يزالون أحياء من أهلها، ~~وحج إلى قبر والده وأوصى بأن يعنى به، وكأنما كان يطوف بهاتيك الجهات طواف مودع لها لن ~~تراها بعد عيناه أبدا، فهل كان يحدثه بذلك قلبه؟ # وكان ممن رآهم في تلك الجهات زوج أبيه، وقد عانقته عناق الوداع وفي وجهها أمارات الخوف، ~~وإنها لتدعو الله أن ينجيه من كيد أعدائه ms256 ، وكذلك فعلت زوج آرمسترونج، وقد قال لها ضاحكا: ~~«إنهم إذا قتلوني فلن أذوق الموت مرة ثانية.» # وكان الشيوخ الذين رأوه في صدر شبابه يضحكون فيما بينهم فرحين برؤيته ذاكرين قصصه ~~وأحاديثه ونكاته العذبة، يتحدثون عن ذلك الفتى القوي الطويل القامة، الذي كان يقطع الأشجار ~~في مهارة ويسحب أزمة الثيران في قوة وخفة حركة، ويعجبون وهو اليوم في نحو الثانية ~~والخمسين من عمره كيف تغير حاله كل هذا التغير حتى غدا الرئيس لنكولن، وهم لم يعرفوه إلا ~~باسم أيب لنكولن. # ولما أزف يوم الرحيل لاحظ أهل المدينة على وجهه ما يبدو على وجه من يوشك أن يرحل عن وطن ~~اشتد حبه له وعظم تعلقه به، ولقد زاده هذا نحولا على نحوله وهما على همه، وكذلك اشتد أسف ~~الناس فهم لا يدرون كيف يصبرون على رحيله عنهم، ولقد كان لصغارهم الأب العطوف الرءوف ~~ولكبارهم الصديق الوفي والناصح الأمين، ولكنهم يتأسون عن فراقه بما باتوا يأملونه من خير ~~للبلاد جميعا على يديه. # ويعتكف أبراهام قبل رحيله ليكتب الخطبة التي يلقيها في وشنطون غداة تسلمه أزمة الحكم، ~~ويطلع على خطب بعض الرؤساء الذين خلوا من قبله مثل جاكسون ووبستر، كما يضع أمامه دستور ~~الولايات المتحدة، ويقول هرندن إن صاحبه هو الذي أعد تلك الخطبة وحده، وفي هذه الشهادة ما ~~يقضي على ما ذكره بعض حاسديه من أن لزميله الفضل في صوغها، قال هرندن: «لم أكتب له قط سطرا ~~واحدا، ولم يسألني مرة أن أفعل ذلك ... لقد كان يستشيرني فيما يتصل بالأسلوب أو باستعمال لفظ ~~أو عبارة، وكنت إذا طلبت إليه أن يغير كلمة يحس أنها تعبر خير تعبير عن شعوره لا يطيعني ولا ~~يتحول عن رأيه.» # وذهب في مساء ليلته الأخيرة بالمدينة إلى مكتبه؛ حيث كان ينتظره صديقه هرندن، ولندع هرندن ~~يقص علينا حديث تلك الليلة، قال: «حضر لنكولن إلى المكتب ليفحص بعض الأوراق وليشاورني في ~~بعض المسائل القانونية التي كان لا يزال مهتما بها، وكان قد أشار إلي في بعض مناسبات سالفة ~~أنه ms257 سوف يأتي إلى المكتب ليحدثني حديثا طويلا، على حد تعبيره، وقد نظرنا في السجلات، ~~ورسمنا ما نعمله لإتمام ما لم يتم من المسائل ... وبعد أن فرغنا من هذه الأمور ذهب إلى حيث ~~جلس على تلك الأريكة القديمة، أريكة مكتبنا التي اضطررنا أن نسندها إلى الحائط وقد تطاول ~~عليها العهد، وقد رفع وجهه ونظر في السقف لحظات دون أن يتكلم أحدنا، ثم ما لبث أن قطع الصمت ~~قائلا: «بلي - وإنه ليدعوني دائما بهذا الاسم - كم سنة قضيناها ها هنا معا؟» وأجبته ~~قضينا ما يزيد عن ست عشرة سنة، فسألني هل كانت بيننا قط كلمة شديدة طوال هذه المدة؟ فأجبته ~~في حماسة كلا، ثم أخذ يستعيد من الماضي بعض حوادث عهده الأول بالمحاماة ... ثم قال فجمع عددا ~~من الكتب وبعض الأوراق التي أراد أن يأخذها معه وتهيأ ليخرج، ولكن قبل أن يبرح المكان طلب ~~إلي طلبا غريبا؛ وذلك أن تبقى اللافتة التي تحمل اسمي واسمه حيث هي، قائلا: «دعها معلقة ~~هنا لا تتحول عن موضعها، ودع أصحاب القضايا يفهمون أن انتخاب رئيس لا يغير شيئا من مكتب ~~لنكولن وهرندن، وإذا قدر لي أن أعيش فسأعود ثانية، ويومئذ نزاول عملنا في المحاماة كأن لم ~~يحدث شيء.» ثم تلكأ لنكولن قليلا كما لو كان ذلك ليلقي آخر نظرة على تلك الأشياء القديمة ~~من حوله، ثم خرج من الباب إلى الدهليز الضيق، وصاحبته حتى قرار السلم، وقد تحدث في طريقه عن ~~المكاره التي تحيط بمنصب الرئيس قائلا: «إني منذ الآن يحيط بي السأم من ولاية المنصب، ~~وإني لأرتعد كلما ذكرت ما ينتظرني من عمل في غدي»، وقال إن ما يخالجه من أسى على فراقه ما ~~ألف من الناس والأشياء أعمق مما يستطيع أن يتخيل بعض الناس، وكان هذا الأسى أكثر وضوحا في ~~وقفه هذا لما كان يهجس في نفسه من شعور يلح عليه بأنه لن يعود حيا، وعارضته في هذه الفكرة ~~التي لا تتفق وما يرسمه رئيس من مثل أعلى ذاع في الناس، ولكنه رد ms258 في سرعة قائلا: «ولكنها ~~تتمشى مع فلسفتي ...» ثم شد على يدي في اهتمام وقال في حماسة: «إلى اللقاء»، واختفى شخصه في ~~الشارع ولم يعد بعد ذلك إلى المكتب أبدا.» # وكان لنكولن قد أجر بيته، ووضع متاعه عند جار من جيرانه، وكان يقيم هذه الليلة في فندق ~~المدينة، وهناك أخذ يعد حقائبه بنفسه ويحزم ما يريد أن يحمل معه من المتاع بيده حتى فرغ من ~~ذلك، فكتب على تلك الحقائب بخطه «أبراهام لنكولن بالبيت الأبيض بوشنطون»، ثم أوى إلى مضجعه ~~فنام. # وأسفر الصبح فركب وجماعة من أصدقائه مركبة أقلتهم إلى المحطة، وقد تلاقى هناك جمع كبير من ~~أهل المدينة جاءوا يحيونه، فما رآهم حتى وقف في مؤخرة العربة وأطل عليهم وقد شحب لونه ~~وتبادر دمعه، فقال: «أي أصدقائي، لن يستطيع أي رجل لم يكن في مثل موقفي هذا أن يدرك مبلغ ما ~~يخالجني من حزن لدى هذا الرحيل. إني مدين بكل شيء لهذا البلد ولكرم أهله، ولقد لبثت فيه من ~~عمري ربع قرن، ودرجت فيه من شاب إلى رجل مسن ... هنا ولد أبنائي، وهنا دفن واحد منهم، وها أنا ~~ذا أرحل ولست أدري ما إذا كنت عائدا إليكم بعد اليوم ... أرحل وأمامي عمل هو أعظم من ذلك ~~الذي ألقي على كاهل وشنطون، ولا نجاح لي ما لم أصب معونة الله الذي كان معه أبدا ... ولئن ~~ظفرت بهذه المعونة فلن أخيب، فلنأمل في حسن المنقلب، مخلصين واثقين في الله الذي هو معي ~~ومعكم، والذي يكون منه الخير في كل مكان، وإني إذ أكلكم إلى عنايته - كما آمل أن تكلوني ~~إليها في صلواتكم - أقرئكم وداعا حارا.» # وانطلق القطار يمشي الهوينا وهم ينشدون للرئيس نشيدا كانوا أعدوه، وقطرات المطر تنزل على ~~رءوسهم الحاسرة كأنها دموع منصبة من السماء، وهو في مؤخرة العربة ينظر إليهم خلال دموعه، ~~ولكم التقت ساعتئذ قطرات السماء بما فاض من المآقي، حتى غاب القطار وغاب في مؤخرة العربة ~~شخص الرئيس ... ورحل أبراهام ليعود بعد جهاد شديد ومراس، فإذا هو شهيد ms259 تذرف الدموع عليه أمة ~~بأسرها. # ذهب أبراهام ليواجه العاصفة، وإنه ليراها اليوم عاصفة دونها تلك العواصف التي طالما هبت ~~في الغابة هوجاء عاتية، فزعزعت باسقات الدوح وشعثت كثيفات الألفاف وأفزعت الرجال والدواب. ~~إنه يراها اليوم عاصفة من عمل الإنسان لا من عمل الطبيعة، وما أهول ما يفعل بنو الإنسان حين ~~ينسون إنسانيتهم، فتستيقظ فيهم غرائزهم التي دبت فيهم أول ما دبوا على هذه الأرض! # رحل «الرجل القادم من الغرب»، كما اعتاد أن يسميه أهل العاصمة وغيرهم من أهل المدن ~~الشرقية السابقة في المدنية، وتقدم الربان ليقود السفينة ودوي الأنواء في مسمعيه. # وقضى في رحيله إلى العاصمة اثنى عشر يوما. وعلم الناس بهذا الرحيل، فكانوا يلقونه في ~~المدن التي يمر بها مرحبين، وقد تلاقت جموعهم على نحو لم تشهده البلاد من قبل، فما في الناس ~~إلا من ملكه حب الاستطلاع، وكثير منهم كانت تدفعهم المحبة إلى هذا اللقاء. # وكان قد عقد النية على أن يظل صامتا إلا ما يكون من تحية يرد بها على ما كان يلقاه من ~~تحيات، ولكن إصرار الناس في كل مكان على أن يسمعوا حديثه جعله يتحلل مما اعتزم، ثم إنه رأى ~~أن هذه كانت آخر فرصة يتحدث فيها إلى عامة الناس، وهم الذين يعول عليهم ويطمع أن يتخذ منهم ~~ظهيرا فيما هو مقدم عليه من كفاح. # وكانت له في خطبه أثناء ذلك المسير خطة رشيدة، فقليلا ما كان يبرم أمرا، أو يقطع في ~~المسائل القائمة برأي، وإنما كان يشرح الأمور حتى تستبين، ثم يتساءل عن أوجه الصواب تاركا ~~الناس يتدبرون حتى تأتيهم البينة، تتمثل ذلك في مثل قوله في إنديانا بولس: «أي مواطني، ~~لست بمبرم أمرا إنما ألقي عليكم أسئلة لتتدبروها ...» # ولقد تكلم في هذه المدينة فأشار إلى ما كان يجري على الألسن يومئذ حول الاتحاد في رد ~~الولايات الخارجة عليه بالقوة، ولقد عد أنصار الجنوب ذلك العمل عدوانا، فتساءل الرئيس: هل ~~يكون في الأمر عدوان إذا لجأت حكومة الاتحاد إلى المحافظة على ما تملك هناك ms260 من عقار، أو إذا ~~حافظت على سبل مواصلاتها وحرصت على جباية المال المقرر على البضائع المستوردة؟ # واستقبل أبراهام في سنسناتي استقبالا لم تر هذه المدينة لأحد من قبل نظيرا له، وتزاحم ~~الناس عليه يريدون رؤيته وباتت المدينة في مثل فرحة العيد؛ ففيها الأنوار الوضاءة والأناشيد ~~الصداحة والجموع الغفيرة المستبشرة، وفيها ما هو أسمى من سمات العيد هذه؛ ألا وهو الحب ~~الصادق تفيض به القلوب. # ومر بحدود كنطكي وهي ولاية من ولايات الرق تشتد فيها الدعوة إلى الانسحاب من الاتحاد، وهي ~~تلك الولاية التي نشأ فيها أول ما نشأ، فقال يوجه الكلام إلى أهلها: «أي مواطني أهل كنطكي، ~~هل لي أن أدعوكم بما أدعوكم به؟ إني في موقفي الجديد لا أجد حادثا ولا أحس ميلا يدعوني أن ~~أغير كلمة من هذا، فإذا لم تنته الأمور إلى الخير فثقوا أن الخطأ في ذلك لا يكون خطئي ~~...» # وفي بيتسبرج أفصح عن سروره؛ إذ كان استقباله استقبالا شعبيا لا أثر للحزبية فيه، ثم ~~قال: «إذا لم تجتمع كلمتنا الآن لننجي سفينة الاتحاد القديمة الطيبة في رحلتها هذه، فلن ~~يكون ثمة من فرصة بعدها لقيادتها إلى رحلة غيرها.» # وفي محطة من المحطات الصغيرة وقف لنكولن بعد أن قرت حماسة المستقبلين، فقال إنه يذكر أن ~~كتابا جاءه من فتاة هذه بلدتها تسأله فيه أن يطلق لحيته، ولقد فعل كما أشارت فهو ذو لحية ~~اليوم كما يراه الناس، ثم عبر عن رغبته في رؤية تلك الفتاة إن كانت حاضرة، فبرزت من بين ~~الجموع تلك الفتاة ومشت على استحياء حتى وصلت إلى الرئيس، فقبلها قبلة على جبينها والناس ~~بذلك معجبون فرحون. # وفي ألبني عاصمة ولاية نيويورك العظيمة كانت حفاوة الناس به شديدة، وكذلك كان شأنه في ~~مدينة نيويورك التي سبق أن زارها لأول مرة من قبل ليخطب الناس، فأصاب من النجاح ما سلفت ~~الإشارة إليه. # ووقف في ترنتن على مقربة من ميادين القتال التي سالت فيها دماء الثورة غداة حرب ~~الاستقلال، فأخذه جلال الموقف، وهزته روعة الذكرى، فجرى ms261 لسانه بما اختلج في نفسه، قال: «إني ~~لأرجو أن تسامحوني إذا ذكرت في هذه المناسبة أني في أيام طفولتي وفي مستهل عهدي بالقراءة قد ~~تناولت كتابا صغيرا يدعى حياة وشنطون، تأليف ويمز، وإني أتذكر كل ما جاء فيه عن ميادين ~~القتال وعن مواقف النضال من أجل الحريات في هذه البلاد، ولكن ما من حادثة تركت في نفسي من ~~أثر مثل ما تركه موقف النضال هنا في ترنتن ونيوجيرسي.» وبعد أن أشار إلى بعض الحوادث قال: ~~«وإني لأذكر الآن أني فكرت يومئذ ولما أزال غلاما صغيرا، أنه لا بد أن يكون أمرا غير ~~عادي ذلك الذي كافح من أجله هؤلاء الناس، وإني لأحس رغبة ملحة قوية أن أرى هذا الذي كافحوا ~~من أجله، وأرى شيئا آخر هو أعظم من الاستقلال القومي، شيئا ينطوي على وعد للناس جميعا في ~~هذا العالم في كل ما هو آت من العصور ... أقول إني شديد التطلع أن أرى الوحدة والدستور وحرية ~~الناس؛ بحيث تصبح أبدية مقترنة بتلك الفكرة الأصلية التي من أجلها قام الكفاح، ولسوف أكون ~~جد سعيد إذا أصبحت الأداة المتواضعة في يد القوي العلي وأيدي هؤلاء الذين يكادون أن يكونوا ~~شعبه المصطفى، للعمل على أن يدوم ذلك الذي انبعث من أجله ذلكم النضال العظيم.» # وكان الكتاب الذي يشير إليه لنكولن في هذه الذكرى هو بعينه ذلك الكتاب الذي أعاره إياه ~~أحد معارفه، والذي بللته قطرات المطر فأصابته ببعض العطب، وتركت الصبي الفقير في حال شديدة ~~من الغم، حتى لقد سار يحمله إلى صاحبه وهو شديد الحيرة، فلما جاءه عرض عليه أن يأجره عنده ~~بما يساوي ثمن الكتاب، ذلك هو الكتاب الذي قرأ فيه الغلام النجار في الغابة حياة وشنطون ~~العظيم، ولم يك يدور بخلده أنه سيجلس يوما حيث كان يجلس وشنطون، ويسدي إلى بني قومه وإلى ~~الإنسانية جميعا من صنيعه ما لو شهده ذلك البطل العظيم لتمنى لو كان مما قدمت يداه فوق ما ~~قدمتا. # واستأنف الرئيس لنكولن ومن معه سيرهم إلى العاصمة حتى ms262 وصلوا فيلادلفيا، وهناك علم أن ~~فريقا من بني جنسه يأتمرون به ليقتلوه! سمع أبراهام أن أمامه الخطر يوشك أن يحدق به، وما ~~كان أبراهام بدعا من العظماء، فكم من أماثل خلوا من قبله لاقوا مثلما يلاقي اليوم من عنت ~~ودبر لهم مثلما يدبر له، فما وهنوا ولا انصرفوا عن وجهتهم حتى أدركوا الغاية أو أدركهم ~~الموت. # وارتاب لنكولن أول الأمر، فما كان يظن أن أحدا تحدثه نفسه بإتيان هذا العمل، ولكن جاءه ~~رسول من صديقه سيوارد ينبئه أن قائد الجيش حدثه أن مكيدة تدبر له، وأن عليه أن يحذر حتى لا ~~يكون ضحية للغادرين، فلما سمع لنكولن هذا لم يعد يرتاب وبات على حذر وإن لم تأخذه ~~خيفة. # وكانت لفيلادلفيا، وهي المدينة التي كتب الثوار فيها وثيقة الاستقلال وصاحوا صيحة الحرية، ~~منزلة عظيمة في نفسه وفي نفس كل أمريكي من أنصار الحرية، وكان أبراهام قد رضي أن يخطب ~~الناس في تلك القاعة التاريخية التي ولدت في ساحتها الحرية، وكأنما توافقت الذكريات لتزيد ~~من جلال الموقف، فقد تصادف أن كان ذلك اليوم هو يوم ميلاد الزعيم وشنطون، ورغب الناس أن ~~يرفع العلم على القاعة الزعيم لنكولن، وقبل لنكولن مغتطبا فرحا، كما قبل أن يخطب الناس ~~مساء ذلك اليوم في مدينة هرمسبرج، وكانت تقع غير بعيد من فيلادلفيا. # وخشى أصحاب أبراهام أن يفتك به المجرمون في زحمة الناس في ذلك اليوم المشهود في أي من ~~المدينتين، وأشاروا عليه أن يقتصد في الاتصال بالناس، فيفوت على الغادرين مقصدهم، ولكنه أبى ~~إلا أن يفي بوعده ولو كان في ذلك هلاكه. # ورفع أبراهام العلم في فيلادلفيا وكان موفقا في ذلك، فقد صعد في ثبات إلى حيث يقوم ~~العمود الذي يثبت فيه العلم، فشد الحبل فانبسط العلم ورفرف، وصفق الناس واستبشروا وهم ~~ساعتئذ جموع خلفها جموع إلى غاية ما يذهب فيهم البصر، وكلهم يحيون الرئيس في حماسة ~~وغبطة. # وخطب في القاعة التاريخية فأفصح عن شيء من سياسته على غير ما جرى عليه في خطبه السالفة، ~~قال ms263 : «كثيرا ما سألت نفسي ما ذلك المبدأ أو ما تلك الفكرة التي حفظت الاتحاد هذا الزمن ~~الطويل؟ إنها لم تك مجرد انفصال المستعمرات عن الأرض الأصلية، ولكنها كانت تلك العاطفة التي ~~ولدت الحرية، لا لهذه الأمة فحسب، ولكن للناس جميعا في كل عصر مقبل كما أرجو، إنها كانت ~~تلك العاطفة التي بشرت أنه متى حان الوقت المناسب رفع العبء عن كواهل الناس جميعا، ومنح كل ~~امرئ فرصة بقدر ما يمنح أخوه ... تلك هي العاطفة التي انطوى عليها إعلان الاستقلال. والآن إني ~~أسائلكم يا أصدقائي هل يتسنى خلاص هذه البلاد على هذا الأساس؟ إذا أمكن ذلك فإني أعد ~~نفسي، إن استطعت أن أساعد على خلاصها، من أسعد الناس في هذا العالم. أما إن كان من المستحيل ~~إلا أن يضحى بهذا المبدأ، فإني أفضل أن أقتل هنا على أن أضحي به ... والآن أرى أنه ليس ثمة من ~~ضرورة إلى سفك الدماء والحرب، ليس ثمة ضرورة إليها، وإني لا أميل إلى اتجاه كهذا، وأضيف إلى ~~ذلك أنه لن تقوم حرب إلا إذا أجبرت الحكومة عليها، ولن تلجأ الحكومة إلى القوة إلا إذا شهر ~~في وجهها سلاح القوة ... أي أصدقائي! هذه كلمات جاءت على غير ترتيب سابق ألبتة، فأنا لم أك ~~أتوقع قبل وصولي أني سوف أدعى إلى الكلام هنا، لم أك أحسب إلا أني سأرفع العلم فحسب، وعلى ~~ذلك فربما كانت كلمتي هذه ينقصها الحرص، ولكني لم أقل إلا ما أريد أن أعيش عليه وما أريد - ~~إذا كانت هذه مشئية الله - أن أموت عليه.» # وذهب لنكولن في المساء إلى هرمسبرج وخطب الناس كما وعد، وكانت بلتيمور هي المدينة التي ~~اعتزم المجرمون أن يقتلوه فيها، وهي في طريقه إلى العاصمة، فعاد لنكولن إلى فيلادلفيا قبل ~~الموعد المضروب، وركب ومن معه قطارا عاديا، كان قد استبقى بناء على إشارة قادمة ليحمل ~~«طردا» هاما إلى وشنطون، وترك لنكولن القطار الخاص الذي كان معدا لسفره، فمر ببلتيمور ~~قبل الموعد المعروف، ففوت بذلك على الكائدين كيدهم فكانوا هم ms264 المكيدين. # وفي الساعة السادسة من صباح اليوم التالي بلغ الرجل القادم من الغرب ومن معه وشنطون، فدخل ~~المدينة على حين غفلة من أهلها، اللهم خلا سيوارد ورجلا آخر كانا على علم بمقدمه فلقياه، ~~وركب لنكولن إلى فندق لينتظر بضعة أيام حتى يحتفل بتسلمه أزمة الحكم. # دخل الزعيم لنكولن عاصمة البلاد في مثل تلك الساعة المبكرة وفي مثل تلك الحال المتواضعة، ~~ليجلس في كرسي الرياسة الذي جلس فيه من قبل وشنطون، دخل ليحمل العبء وليبدأ في حياته مرحلة ~~من الجهاد والجلاد دونها كل ما سلف من جهاد وجلاد. # | هدية الأحراج إلى عالم المدنية # أقام لنكولن في الفندق ينتظر يوم الاحتفال، وإنه ليحس أنه كالغريب في هذه المدينة ~~العظيمة، ولقد كان كثير من أهلها يتوقعون قبل وصوله أن تصلهم الأنباء عن مقتله في الطريق، ~~فلما فوت على الماكرين قصدهم ودخل المدينة ولم تزل غافية، أصاب المؤتمرين به كمد وغم، ولكن ~~هل فاتت الفرصة فلا سبيل لهم إليه بعدها؟ كلا، فما يزال الكائدون يتربصون به حتى لقد سرت في ~~الناس إشاعة قوية أنه لن يحتفل بالرئيس الجديد، وأنه راجع إلى سبرنجفيلد قبل ذلك اليوم ~~حيا أو ميتا. # وكانت المدينة إلى أهل الجنوب أكثر ميلا منها إلى أهل الشمال، وكان سادتها وكبراؤها ممن ~~يقتنون العبيد ويتمسكون بنظام العبيد، وكانت تقع عين القادم إلى المدينة على العبيد رائحين ~~غادين، ولقد كان هذا منظرا تنفر منه عينا لنكولن وهو يطل من الفندق على المدينة، وكان ذوو ~~النفوذ من أهلها يكرهون الجمهوريين ولا يشيرون إليهم إلا بقولهم الجمهوريين السود؛ لذلك أحس ~~أبراهام أنه في جو غير جوه، كالنبات نقل إلى حيث لا يجدي معه ري ولا ينفع غذاء. # وجلس أبراهام يفكر ويتدبر؛ فإذا امتد إلى الحاضر فكره رأى كيف تشيع الفتنة، وكيف يستفحل ~~الشر، وكيف يزلزل بناء الاتحاد حتى لينهار حجرا بعد حجر؛ وإذا استشرفت للمستقبل نفسه، رأى ~~ظلمات فوقها ظلمات؛ فالحرب - كما يبدو له - واقعة لا محالة، ما لم يحدث ما ليس في حسبان ~~أحد، وهي ms265 إذا شبت نارها واستعرت اكتوى بسعيرها أبناء الوطن الواحد وأصحاب المصلحة الواحدة، ~~إنها حرب سوف تكون بين نصفي شعب لن يكون بقاؤه وسعادته إلا في اتحاد كلمته والتئام ~~شمله. # وليت الفتنة اقتصرت على الناس ولم تمتد إلى الحكومة، إذن لكان أهون على الرئيس وعلى ~~الشعب، فها هي ذي كما رأينا قد اندست حتى تغلغلت في وحدات الجيش والبحرية والسادة المسئولين ~~من رجال الدولة، ولقد وقف بوكانون حائرا لا يدري ما يأخذ مما يدع، حتى لم يعد في إمكانه أن ~~يحسم الشر، فكان وجوده حتى ذلك اليوم على رأس الحكومة شرا على شر. # ولكن أبراهام لم يك من طراز بوكانون، وحسبه عزمه المصمم الجبار في هذا الموقف الرهيب، هذا ~~إلى إخلاصه وكراهته للعدوان، ويقينه الذي لا يداخله شك ولا يحوم حوله شيء مما ينسج الباطل ~~من وهم، وما يصور من ريبة. # ولقد أشفق من لم يكونوا يعرفونه، بل لقد جزع بعض الناس من أن تلقى أزمة الحكم في مثل ~~هذه الظروف في يدي رجل هو، في زعمهم، لم تحسن يداه أن تقبضا على شيء غير المعول. وعجبوا أن ~~تترك الأمور للرجل القادم من الغرب، لذلك المحامي الذي كان من قبل يخطط الأرض ويوزع البريد، ~~والذي نشأ بين الأحراج ونما كما ينمو وحشي النبات. وسخط أعداؤه ممن لا يجهلون مقدرته، واشتد ~~بهم الغيظ ألا يجلس في كرسي الرياسة يومئذ إلا هذا الجمهوري الأسود، كما شاء لهم حنقهم أن ~~ينعتوه، هذا الذي يعد - كما يزعمون - في الجمهوريين كبيرهم الذي علمهم ما يلوكونه من عبارات ~~تؤذي الأسماع وتخز القلوب وتقبض الصدور! # أما الذين عرفوا لنكولن وخبروا خلاله، فما خالطهم شك في أنه الرجل الذي ليس غيره في ~~الرجال تكون على يده السلامة ويتم الخلاص. والحق لقد خلقت الحوادث هذه الأزمة، وخلقت في ~~الوقت نفسه الرجل الذي ينهض لها، والذي لا يقوى على حمل أعبائها سواه، ولو لم يكن في أمريكا ~~يومئذ ذلك الرجل الذي أخرجته أحراجها، لتغير تاريخها باتخاذه وجهة غير التي سار ~~فيها ms266 . # وإنا لنرى في أبراهام أحد الأفذاذ الذين يبرهنون بأعمالهم على فساد الرأي القائل بأن ~~الظروف هي التي تكون العظماء؛ فهذا رجل نجم عن أبوين فقيرين، ودرج بين أحراج الغابة ~~وألفافها، فلما واجه الحياة وأخذ يعول نفسه، راح يشق طريقه في زحمتها ومفاوزها كما كان يشق ~~طريقه بين الأدغال، ولا عاصم له مما كان يحيط به إلا عزيمته وفتوته. # راح أبراهام يستقبل الحياة ويمشي في مناكبها، وكأن الظروف كلها من عدوه، فما زال يغالب ~~الظروف وتغالبه ويعركها وتعركه، حتى بلغ موضع الرياسة في قومه دون أن يستمد العون مرة من ~~أحد، أو أن تكون له وسيلة من جاه أو مال أو حظوة عند ذي قوة، أو غير هذا وذاك مما يبتغي به ~~الناس الوسائل إلى ما يطمحون إليه من غايات. # ولما أن بلغ هذا الموضع كانت البلاد تتوثب فيها الفتنة ويتحفز الشر، فكانت الظروف يومئذ ~~كأسوأ ما تكون الظروف، ولكنه على الرغم من ذلك سار إلى غايته غير خائف ولا وان ولا منصرف ~~عن وجهته إلى وجهة غيرها، حتى عقد له النصر وتم له أداء رسالته. # وكيف لعمري تخلق الظروف العظماء؟ وكيف يسمى عظيما ذلك الذي تخدمه الظروف، فلا يكون له من ~~فضل إلا ما يجيء عن طريق المصادفة؟ ألا إن العظيم الحق لهو الذي تخاصمه الظروف فينجح على ~~الرغم مما تكيد به الظروف، وتتجهم له الأيام فيقدم على العظائم على الرغم من تجهم الأيام، ~~وتعترضه الصعاب الشداد، فلا تثني عزيمته أشد الصعاب، بذلك تكون الظروف هي التي تخلق ~~العظماء، فيكون الرجل الذي يظهر عليها ويظفر على الرغم منها هو العظيم، ويكون في ذلك كالدر ~~تظهر النار حقيقة جوهره. # لبث أبراهام في الفندق ينتظر حتى يتخلى له بوكانون الشيخ عن قيادة السفينة، وكان أبراهام ~~يستمع إلى دوي العاصفة يزداد يوما بعد يوم، فيتلفت فلا يرى حوله غير سيوارد، ولكن سيوارد ~~لا يلبث أن يدب بينه وبين صاحبه خلاف شديد، فلقد كبر على سيوارد ألا يشاوره أبراهام في ~~الخطبة التي أعدها ليوم ms267 الاحتفال، وكان قد كتبها قبل أن يسافر من سبرنجفيلد. # وعلم أبراهام بالأمر فألقى بالخطبة بين يدي صاحبه، فاقترح عليه سيوارد أن يغير فيها أشياء ~~وأن يضيف إليها أشياء، فلم ير أبراهام رأيه، على أنه قبل أن يضيف إلى الخطبة خاتمة كتبها ~~سيوارد وتناولها أبراهام بالتغيير، ليلتئم أسلوبها مع أسلوب الخطبة، وظن أبراهام أنه أرضى ~~بذلك صديقه، ولكنه فوجئ في اليوم السابق ليوم الاحتفال بكتاب من عند صاحبه، ينبئه فيه أنه ~~يتحلل من وعده الذي سبق أن قطعه على نفسه بالاشتراك معه في الحكم! وطوى أبراهام الكتاب ~~متألما مكتئبا؛ ألا ما أشد عنت الأيام! حتى سيوارد ذلك الذي ليس غيره ترجى منه المعونة ~~تكون من جانبه العقبات؟ # وأشرقت شمس اليوم الرابع من مارس عام 1861، وكان يوما من أيام الربيع طلق المحيا رخي ~~النسائم، فخرج الناس يشهدون موكب الرئيس الجديد، وكان موكب الاحتفال بولاية الرئيس من أعظم ~~ما تهتم به البلاد، وهو في هذه المرة أجل قدرا منه في كل ما سلف من الأيام؛ وذلك لما كان ~~يحيط بولاية أبراهام من معان تجيش بها نفوس الخصوم والأنصار! # وقضى أبراهام صباح ذلك اليوم يقرأ خطبته ويهذبها بالحذف والإضافة، حتى متع النهار فجاء ~~الرئيس بوكانون في عربة إلى الفندق، فركب إلى جانبه أبراهام والناس على جانبي الطريق إلى ~~الكابتول، تقع أعينهم على الرجلين، فهذا هو الرئيس القديم يشيع في رأسه الشيب، ويبدو على ~~بدنه ومحياه الهزال من أثر السنين، ومن أثر ما حمل من عبء أوشك أن يلقيه عن كاهله، ~~وقد أربى اليوم على السبعين، وهذا هو الرئيس الجديد يبدو فتيا قويا وهو يومئذ في ~~الثانية والخمسين، هذا هو الرجل القادم من الغرب! هذا هو ابن الغابة! تملأ الأعين قامته ~~الطويلة التي تلوح أكثر طولا إلى جانب صاحبه الشيخ الضئيل الجرم، وهو يرتدي اليوم حلة ما ~~ارتدى مثلها من قبل، حلة ارتضتها له ماري وهيأتها لذلك اليوم، ثم هو يقبض على عصا جميلة ~~أنيقة بيده الضخمة التي أكسبها في صدر أيامه حمل المعول كبرها ms268 وخشونتها. # وضاقت الناس بالطرقات، وكان رجال الشرطة قد أبعدوا الجموع قليلا عن حافتي الطوارين، ~~وقد أمرهم كبيرهم ألا يسمحوا بأي عبث بالنظام مهما خيل إليهم أنه تافه، وكان كبير الشرطة ~~يخاف أن تمتد أيدي الآثمين إلى الرئيس بالعدوان؛ إذ كانت الإشاعات قد اتخذت مجراها في كل ~~سبيل، وملأ الهمس بها الآذان ووجفت من هول ما تتصور الجريمة قلوب الكثيرين من ~~المخلصين. # وبلغ الرئيس مكان الاحتفال، وهو مرتفع أعد لهذا الغرض، وقد امتلأت الساحة المحيطة به ~~بجموع من الناس حي ما تتسع لقدم. وكان على مقربة من المكان تمثال وشنطون المنحوت من المرمر ~~الأبيض، يتلألأ في ضوء الشمس وتنبعث منه معاني العظمة والبطولة والحرية والفداء. # ووقف الرئيس لنكولن يوجه الكلام للشعب جميعا لأول مرة، وقف ابن الأحراج أمام هاتيك ~~الجموع ثبت الجنان، مستوي القامة، مرفوع الهامة، وألقى نظرة أمامه على علية القوم من الشيوخ ~~والأعيان ورجال الجيش ورجال الدين والقضاة وغيرهم وغيرهم، ثم مد بصره في الجموع وقد سكنت ~~ريحهم فتهيأ للكلام، ولكن ماذا عراه؟ لقد وقف يمسك بإحدى يديه قبعته وبالأخرى عصاه، فكيف ~~يمسك الورق ليتلو منه خطبته؟! ها هو ذا يسند العصا إلى الحاجز الخشبي أمامه، فأين يضع ~~القبعة؟ لقد أوشك أن يقع في ورطة وأوشك أن يثير ضحك الخصوم بحيرته، ولكن ها هو ذا رجل يثب ~~من مكانه - وكان يجلس منه في سمت بصره - فيأخذ القبعة من يده، ومن هو ذلك الرجل؟ إنه دوجلاس ~~خصمه القديم ومنافسه بالأمس ذو البأس الشديد. # وكان دعاة الانسحاب من أنصار الجنوب يأملون أن يتهدد لنكولن الولايات الجنوبية ويتوعدها؛ ~~فيشتد بذلك الهياج في تلك الولايات ويتعذر بعدها أن يجنح أهلها للسلم، ولكن لنكولن خيب ~~ظنونهم وزادهم بحكمته وحصافته ويقظته وبعد نظره غما على غم. # كانت خطبته خير مثال للاعتدال في غير تفريط، وللتواضع في غير استخزاء أو استسلام، ~~وللتحذير في غير إثارة أو استفزاز، وللمرونة في غير رياء أو التواء، وللعدالة في غير جفاء ~~أو عداء، كما كانت كالسلسل العذب سهولة لفظ وفصاحة ms269 عبارة، هذا إلى ما امتازت به من نصوع ~~البرهان ومتانة الحجة واستقامة المنطق، وبراعة السياق ودقة الإلمام بالموضوع والإحاطة به من ~~أقطاره جميعا، وحسن التفطن إلى ما كان يشغل يومئذ الأذهان. # وكان الخطيب رنان الصوت، قوي الجرس، حسن الإشارات بيديه، على محياه الجد والهيبة والعزم، ~~وفي كلماته حرارة الإيمان وقوة اليقين وصدق الإخلاص؛ ولذلك كانت عباراته تنفذ إلى قلوب ~~أنصاره وخصومه على السواء، وإن كان خصومه ليكرهون فوزه وينكرون مبادئه. # قال يشير إلى مخاوف أهل الجنوب: «يظهر أن المخاوف تنتشر في الولايات الجنوبية، ومبعثها أن ~~قبولهم حكم الجمهوريين من شأنه أن يعرض أملاكهم وسلامتهم وأمنهم على أشخاصهم للمخاطر، ألا ~~إنه ليس ثمة من سبب معقول لهذه المخاوف، بل لقد قامت بينهم أقوى شهادة على نقيض ذلك، وكانت ~~دائما تحت أسماعهم وأبصارهم، إنها كانت توجد في كل خطبة من خطب محدثكم الآن، وإني لأقتبس ~~من إحدى تلك الخطب؛ إذ أقول إنه ليس لي من غرض مباشر أو غير مباشر للتدخل في نظام الرق في ~~الولايات التي يقوم فيها هذا النظام، وإني لأعتقد أنه ليس من حقي أن أفعل ذلك، وأن الذين ~~رشحوني وانتخبوني إنما فعلوا ذلك وهم على أتم علم بأني كثيرا ما صرحت بمثل هذا، وما تزحزحت ~~مرة عما قلت.» # ولم يقف الرئيس في اعتداله عند هذا الحد، بل لقد ذهب إلى التصريح بأن العبد الآبق إلى ~~الولايات الحرة لا تمنح له الحرية، ولقد أشفق كثير من أنصاره من هذا التصريح، ولكن لنكولن ~~يستند في ذلك إلى مبادئ الحزب، التي لا يمنح بمقتضاها العبد حريته إلا إذا ذهب مع سيده غير ~~آبق إلى ولاية حرة فأقام فيها. # وتكلم لنكولن عن انسحاب الولايات من الاتحاد فقال: «لن يخول القانون لأية ولاية حق ~~الانسحاب ...» ثم أردف قائلا إن القسم الذي أقسمه على المحافظة على الدستور يجعل لزاما عليه ~~أن يؤدي واجبه، فيعمل على أن يكون قانون الولايات المتحدة نافذا في جميع الولايات، واختتم ~~الحديث في هذا الموضوع بقوله: «إني واثق من أنكم ms270 لن تحملوا على التهديد كلامي، بل إنها كلمة ~~الاتحاد يعلن أنه سوف يحمي بناءه ويدعمه على أساس من الدستور، وهو إذ يفعل ذلك لا يرى ثمة ~~حاجة إلى سفك الدماء أو العنف، ولن يكون شيء من هذا إلا إذا أجبرت عليه السلطة ~~القومية.» # وأشار إلى الوحدة من الوجهة العضوية، فقال إن نصف الشعب لا يستطيع أن يقوم بغير النصف ~~الآخر، وإذا كان في الدستور عيب فمن الممكن إصلاحه بمؤتمر يجتمع فيه ممثلو الشعب، فإذا رأى ~~الشعب الانفصال حقا لكل ولاية فله رأيه وليفعل كما يرى، أما هو فما يملك من قوة إلا ما ~~منحه الشعب. # وتكلم عن الداعين إلى الثورة، فقال إنه لا مبرر للثورة إلا إذا لجأت الأغلبية إلى ~~الطغيان، ومثل هذا المبرر لا وجود له، وإن الانسحاب معناه الفوضى، ولا نتيجة للفوضى إلا ~~الاستبداد. # واختتم لنكولن خطبته بتلك العبارة التي اقترحها سيوارد وتناولها هو بالتعديل قال: «لسنا ~~أعداء بل نحن أصدقاء، ويجب ألا نكون أعداء، ولو أن الغضب قد جذب حبال مودتنا إلا أنه يجب ~~ألا يقطعها، وإن الأناشيد الخفية التي ترن في الذاكرة منبعثة من كل ميدان من ميادين القتال، ~~ومن كل قبر من قبور الوطنيين، إلى كل قلب حي وإلى جانب كل موقد في هذه البلاد العريضة، ~~لتزيد جوقة الاتحاد إذا ما مسها ثانية وحي من طبيعتنا، كما نثق أنه واقع.» # وأقسم أبراهام ويمناه على الإنجيل، وتولى صيغة القسم القاضي تين، صاحب قضية دردسكوت ~~الشهيرة، وكان يومئذ القاضي الأعلى للبلاد. وبعد أن أدى أبراهام القسم على أن يحترم الدستور ~~ويحافظ على قوانين البلاد، سار إلى البيت الأبيض، وكان أول عمل له عقب وصوله أن تناول القلم ~~فكتب إلى سيوارد الكتاب الآتي: # سيدي العزيز # تسلمت رقعتك المؤرخة في اليوم الثاني من الشهر الحالي، والتي تسألني فيها أن أقبل ~~انسحابك من الاشتراك معي في إدارة شئون الحكم، ولقد كانت رقعتك هذه سببا لأعظم ~~القلق عندي إيلاما، وإني لأشعر أني مضطر إلى أن أرجو منك أن تلغي هذا الانسحاب ms271 . إن ~~الصالح العام ليدعوك أن تفعل هذا، وإن شعوري الشخصي ليتجه في قوة نفس الاتجاه، ~~أرجو أن تتدبر في الأمر وأن يصلني رد منك في الساعة التاسعة من صباح الغد ~~... # خادمك ~~المطيع أبراهام # جلس أبراهام ينتظر رد سيوارد بصبر فارغ وفؤاد قلق، فإنه ليعجب كيف يقف منه صاحبه مثل هذا ~~الموقف، على أنه لن يحجم عن مواجهة العاصفة وحده مهما بلغ من شدتها، وإن كان ليرجو بينه ~~وبين نفسه أن يظل سيوارد إلى جانبه في تلك الشدة التي تطيش في مثلها أحلام الرجال، وإن كانت ~~تزن الجبال. # يود أبراهام أن يستعين بصاحبه، فهو واثق من كفايته مطمئن إلى إخلاصه. وما بال الرئيس ~~تزداد سحابة الهم كدرة على محياه حتى ليبدو للأعين كمن أخذته غاشية من حزن أليم؟! ما باله ~~طويل الإطراق كثير الصمت، لا يستمع إلى حديث زوجته إلا قليلا، ولا يشاطرها جذلها ومرحها، ~~ولا يشاركها فيما دب في قلبه من الزهو بما باتا يتلقبان فيه من نعمة ويحظيان به من ~~جاه؟! # إنما يكرب الريس ما آلت إليه حال بلاده، فما به خاف أو تردد وما هو عن بذل روحه بضنين، ~~وإنه ليحزنه أن يكون بنو قومه بعضهم لبعض عدوا في غير موجب لذلك، وهم في عماية عن الحق من ~~تبلبل أفكارهم وتسلط العناد على نفوسهم، وما له إلى هديهم بالتي هي أحسن، حيلة. # ورضي سيوارد آخر الأمر أن يعمل مع أبراهام، وقد كان سيوارد قليل الثقة في كفاية صاحبه في ~~إدارة أمور الحكم؛ لأنه لم يسبق له أن شغل منصبا إداريا قبل هذا المنصب الخطير؛ ولذلك ~~كان يطمع سيوارد أن تكون له السلطة فعلا وتكون للرئيس الرياسة فحسب، وبهذه الروح بدأ العمل ~~مع صاحبه. # واختار لنكولن رجالا للحكومة كون منهم مجلسه، ومن أشهر هؤلاء تشيس، وكان من أعظمهم كفاية ~~بعد سيوارد، غير أنه لوحظ على الرئيس أن أربعة من رجال مجلسه كانوا من منافسيه في الرياسة؛ ~~مما يخشى معه أن ينسوا الصالح العام وأن يعمل كل منهم على توطيد ms272 مكانته توطئة للانتخاب ~~القادم، ولكن لنكولن يرد على ذلك بما أملاه عليه بعد نظره، فلكل من هؤلاء شيعة وأعوان، وكل ~~منهم يمثل ولاية من الولايات الشمالية، هذا إلى ما يعلمه من كفايتهم، وإنه ليركن إليهم ~~مطمئنا إلى وطنيتهم، قائلا إن الوقت عصيب فما يظن أن أحدا تحدثه نفسه أن يعمل لصالحه ~~الشخصي في ظروف كتلك الظروف. # ولما جلس لنكولن بينهم حول المنضدة عرف كيف يؤلف بين ~~قلوبهم، وكيف يحملهم على احترامه وعلى محبته، ثم على الإذعان له والتسليم بالتفوق، ولقد ~~باتوا جميعا يعجبون؛ كيف يدبر الأمور - كما يرون ويلمسون - رجل لم يعهد إليه مثل هذا ~~العمل من قبل، ولولا أنهم جميعا يعرفونه ما صدقوا أن هذه أول مرة يضطلع فيها بمثل هذا ~~العمل. # رأوه يخفض لهم جناحه ويبسط مودته ويوسع صدره، يستمع لآرائهم جميعا ولا يتكلم حتى يفرغوا ~~من أقوالهم، فإذا أعجبه رأي قبله مغتبطا، وإذا خالف أحدا في رأيه أظهر له في دماثة سبب ~~مخالفته إياه، مع شدة الحرص على احترام شخصية من يخالفه، وإظهار الاستعداد للاقتناع إذا ~~استطاع محدثه أن يزيده إيضاحا أو يسوق له الجديد من الحجج. # وعرفوا خلاله من كثب، فأعجبوا بأدبه وعذوبة روحه ونقاء سريرته وطيبة قلبه، ولمسوا شجاعته ~~في الحق، وأنسوا نكرانه لذاته ونسيانه كل شيء إلا رسالته التي يستمد منهم العون في ~~أدائها، وبلوا بأنفسهم صبره في الشدائد وعزيمته إذا هم بما اقتنع بصوابه، وتبينوا حصافته ~~وأناته وبعد نظره، وبهرهم فوق هذا ذهنه المصفى ومنطقه المستقيم، وأعجبتهم فصاحته وفطنته، ~~تلك الخلال التي جعلته أقدر الناس فيهم على أن يفصح عن آرائه لمن يستمع إليه، وأن يتبين ما ~~يأخذ مما يدع في كل ما يعرض له من الأمور، مهما تعقدت على غيره والتوت الأمور. # ولقد عد كثير من المؤرخين إدارة لنكولن مجلسه على ~~هذه الصورة مظهرا قويا من مظاهر عظمته، وناحية بارزة من نواحي نجاحه، وسلكوه بها في ثبت ~~كبار الساسة في تاريخ الأمم، ولا عجب؛ فإنه ليندر أن نجد في سجل الأيام مجلسا ms273 حكوميا شعر ~~أعضاؤه بمثل ما شعر به أعضاء هذا المجلس من معاني الاحترام نحو رئيسهم، لا يستثنى منهم أحد ~~حتى سيوارد ذلك الذي كان يدل أول الأمر بتجاريبه ودرايته بأساليب الحكم والسياسة، فإنه ما ~~لبث أن اعترف في نبل وكرم نفس أن صاحبه أقدر على ذلك المنصب وأجدر به منه. # لنكولن ومجلس وزرائه. # | في مهب العاصفة # كان أول ما تلقاه الرئيس من البريد في صباح اليوم التالي لتسلمه العمل خطابا من الجنرال ~~أندرسون في حصن سمتر، ينبئه فيه أنه ما لم يصل مدد إلى الحصن فإنه لا يقوى على الدفاع عنه ~~أكثر من أسبوع. # وكان أهل الجنوب وأهل الشمال على اتفاق ألا يهاجم أنصار الانسحاب الحصن إلا إذا رأوا من ~~أهل الشمال ما يبرر ذلك، وماذا عسى أن يفعل الرئيس إذن؟ أيترك حامية الحصن بلا مدد، أم يرسل ~~المدد فيتحدى بذلك أهل الجنوب؟ إن عليه أن يختار بين أمرين أحلاهما مر. # لذلك أخذ الرئيس يتدبر عله يجد مخرجا، وهو على عادته طويل الأناة لا يخطو خطوة قبل أن ~~يحسب لكل أمر حسابا. ولكن سيوارد يضيق ذرعا بهذه الأناة، وينصح للرئيس أن يأمر بإخلاء ~~الحصن، وكذلك يشير عليه سكت رأس جنده، وهو لا يرى ما يريان، فالمسألة دقيقة شائكة، أوليس ~~التخلي عن الحصن معناه الاعتراف ضمنا لأهل الجنوب بصواب دعوتهم إلى الانسحاب؟ ثم أليس في ~~ذلك خروج على ما أعلن الرئيس في خطبة الاحتفال؟ وهو إن أرسل المدد إلى الحصن ألا يعتبر عمله ~~هذا تحديا للثائرين، فيكون بذلك هو الذي خطا أول خطوة نحو الحرب، الأمر الذي يحرص أشد ~~الحرص أن يتجنبه؟ إذن فلا بد من الروية والتدبر والصبر. # وجاء رجلان من الجنوب إلى العاصمة الشمالية كممثلين لدولة أجنبية يطلبان أن يفاوضا لنكولن ~~على هذا الأساس، ولكنه رفض أن يلقاهما، ولم يفعل أكثر من أن يرسل إلى كل منهما نسخة من ~~خطبته. ولقد طلب إليه بعض الناس أن يحبسهما على أنهما خارجان على القانون، ولكنه رفض أن ~~يفعل ذلك حتى لا ms274 تزداد الفتنة، وبقي الرجلان في العاصمة يجمعان الأنباء ويرسلانها إلى أهل ~~الجنوب. # والصحف تهيب بالرئيس أن يأتي عملا، ولكنه صامت يفكر، والرأي العام يغلي كالمرجل، حتى لقد ~~أطلق بعض الناس ألسنتهم فيه بالسوء من القول، فهو غر جبان متورط لا رأي له ولا بصيرة ولا ~~حزم، إلى غير ذلك مما باتت تنوشه به الألسن. # وتفرق الناس في الشمال شيعا؛ فمنهم من يرى وجوب الحرب، ومنهم من لا يرضى إلا المسالمة ~~والاتفاق، وأكثر هؤلاء من التجار والصناع الذين لا يستغنون عن الجنوب، ومنهم من يتذمر ~~ويتبرم، ولكنه لا يرى شيئا ولا يحس غير القلق والخوف، والرئيس لا يجيب إلا بقوله: «إذا ~~أخلى أندرسون حصن سمتر فسيكون علي أنا أن أخلي البيت الأبيض.» # ويهتدي ابن الأحراج بعد طول روية إلى رأي فيه دليل قوي على حنكته السياسية، حتى لكأنه ~~مارس السياسة طول حياته، وذلك أنه يزمع أن يرسل القوت فحسب إلى الحصن، وحجته أن ذلك عمل ~~إنساني لا عدوان فيه، فإذا قبل الثائرون هذا حلت المشكلة، أما إذا قابلوا ذلك بالقوة فعليهم ~~إثم ما يفعلون؛ فهم بذلك يكونون بادئ العدوان ومشعلي نار الحرب. ولأهل الشمال بعد ذلك أن ~~يدفعوا عن أنفسهم العدوان إن كانت في نفوسهم حمية وفي رءوسهم نخوة الرجال. # وتسير السفن محملة بالقوت، بعد أن يرسل الرئيس نبأ عنها إلى قائد الثوار حول الحصن، ولكن ~~القائد لا يكاد يبصر السفن من بعد، حتى يطلق النار على الحصن فيسقط علم الاتحاد، وتنسحب ~~الحامية بعد دفاع مجيد. # ووثب أهل الشمال وثبة واحدة، فلا خلاف بينهم بعد ذلك ولا تنازع، وما فيهم إلا من يريد ~~الدفاع عن الاتحاد، ورد الإهانة التي لحقت العلم الذي طالما خفق على رأس وشنطون وجنوده ~~البواسل غداة حرب الاستقلال. # وما حدث في تاريخ أمريكا كله أن تحمس الشعب إلى الدعوة للجهاد كما تحمس أهل الشمال يومئذ، ~~فلقد كان الشيوخ قبل الشباب يريدون خوض غمار الحرب، ولم يتخلف النساء ولم يقعدن عن شحذ ~~العزائم واستنهاض الهمم، وإن لم تكن ms275 هناك حاجة إلى سعيهن. أما الشباب البواسل فقد استحبوا ~~الموت على الحياة، فساروا مغتبطين يطرحون نفوسهم تحت المنايا، كأنما يسيرون إلى نزهة لا إلى ~~مثل عذاب الجحيم. # وهكذا تقع الحرب بين نصفي شعب واحد، ولقد كان الرئيس أكثر الناس في الشعب جميعا تألما، ~~وكان قلبه الإنساني يكاد يتفطر، ولكن ما الحيلة وهو يرى بناء الاتحاد أمام عينيه ينهار ~~حجرا بعد حجر؟ # وكان الموقف قبل وصول المتطوعين إلى العاصمة أشد ما يكون هولا وخطرا، فلم يكن لدى ~~لنكولن سوى ثلاثة آلاف، ولن يستطيع هؤلاء الدفاع عن العاصمة مهما يكن من استماتتهم ~~وشجاعتهم؛ لذلك سري الخوف في المدينة، وأيقن أهلها أنها واقعة في يد الأعداء لا ~~محالة. # والرئيس يرتقب قدوم المتطوعين لإنقاذ المدينة من الخطر المحدق بها، وأخذ ذلك الخطر تشتد ~~وطأته تبعا لمسلك الولايات المحايدة وبخاصة فرجينيا؛ إذ كانت تلك الولايات تقف من النزاع ~~موقفا مبهما ظن من أجله أنها تلتزم الحيدة، وإن كانت في الواقع لتنزع إلى أهل الجنوب، ~~وكانت فرجينيا أقربها موقعا من وشنطون لا يفصلها عنها إلا نهر ضيق، فإن هي أعلنت انضمامها ~~إلى الاتحاد الجنوبي بات العدو بذلك على أبواب أهل الشمال، بل وأصبح البيت الأبيض على مرأى ~~من الجند؛ لذلك شاع في الناس أن الجند عما قريب سيعبرون النهر فيستولون على مركز الحكومة ~~ويسوقون لنكولن ومجلسه أسرى بين أيديهم. # وامتلأت العاصمة بالفزع حين تهامس الناس أن الانفصاليين، كما كان يسمى أهل الجنوب، يريدون ~~إحداث فتنة فيها وإحراقها ليضعوا الرئيس بين نارين، ثم حين أخرجت الحكومة النساء والأطفال ~~والمرضى والضعفاء من المدينة. # وتزايد القلق وعظم الهول واشتد بالناس الكرب، والرئيس يسأل عن المتطوعين فلا يجد جوابا ~~شافيا من أحد، ولن يزال في ترقبه وقلقه يذرع ردهات البيت الأبيض جيئة وذهابا وهو مطرق ~~يتفكر، ويسأل موظفيه فلا يظفر منهم إلا بتقليب الأكف والصمت، وينزل الرئيس إلى الشارع وما ~~يزال يمشي حتى يصل إلى مقر جنده، فيسألهم عما إذا كان لديهم نبأ عن المتطوعين ومتى يصلون ~~فلا يجد عندهم ms276 شيئا، ويحس الرجل بحرج بالغ، ويرى أنه في أشد ما عرف من محنة حتى يومه هذا، ~~ويبلغ به الضجر أن يصيح قائلا: «بدأت أعتقد أن لا شمال هناك!» # ويصل إلى العاصمة بعد بضعة أيام قطار يهرول الناس إلى المحطة على صوت صفيره، فتقع أعينهم ~~على أول فرقة من فرق المتطوعين وهي فرقة نيويورك، وتعظم حماسة الجميع فيتصايحون ويرددون ~~الأناشيد، وينتعش الأمل في النفوس وهي ترتقب وصول فرق أخرى. # ويبحث الرئيس عن القائد الذي يكل إليه أمر هذه الحرب فلا يجد خيرا من قائد يدعى «لي»، ~~وكان يومئذ غالبا في فرجينيا وقد حدثه الثقات أنه الرجل الذي ينهض بهذا العبء في ساعة ~~العسرة هذه، ولكن لي يرفض قيادة الجيش فيجزع لنكولن ويكتئب، ويصور القائد سكت للرئيس ~~الخسارة بقوله إن رفض لي أشد ضررا مما لو فقد الشمال عشرين ألف رجل. # ويستقيل لي من منصبه وقد انسحبت فرجينيا من الاتحاد وإن لم تنضم بعد إلى الجنوبيين، ويوضع ~~لي على رأس جنود فرجينيا للدفاع عنها، ولن يلبث إلا قليلا حتى يصبح القائد العام للجيوش ~~الجنوبية، وقد انضمت فرجينيا إلى الاتحاد الجنوبي ونقلت إلى عاصمتها رتشمند حكومة ~~دافيز. # وبينما كان يبحث الرئيس عن قائد غيره ينذره أهل بلتيمور عاصمة ماري لاند - وهم الذين ~~تآمروا من قبل على قتله - أنهم لا يسمحون بمرور جند من ولايتهم لأنهم محايدون. ويتعجب ~~الرئيس قائلا إنه لا بد من المدد، ولا يستطيع الجنود أن يطيروا فوق ماري لاند ولا أن ~~يزحفوا تحت أرضها، فكيف يمنعهم أهلها أن يمروا خلالها؟ # وينقض أهل بلتيمور بعد ذلك على فرقة قادمة من مساشوست، كانت من أقوى الفرق وأعظمها ~~نظاما، فيقتلون عددا منها ويجرحون عددا، ويحمل الجرحى على محفات إلى وشنطون، فتلهب ~~جراحهم حماسة القوم وتثير حميتهم وتزيد بأسهم. # ولم يكتف الثوار في بلتيمور بما فعلوا، فحطموا الجسور التي تصلهم بالشمال والغرب، وعطلوا ~~خطوط الحديد المؤدية إلى وشنطون، ولكن أحد القواد البواسل الموالين للرئيس لنكولن خرج من ~~وشنطون على رأس فريق من المتطوعين وباغت ms277 المدينة ليلا، وقبض على كثير من الثوار، وقتل ~~نفرا منهم ففت ذلك في عضدهم، ثم أعلنت ولاية ماري لاند - وقد خضعت عاصمتها على هذا النحو - ~~انضمامها صراحة إلى الاتحاد، وكانت هذه الخطوة من جانب المتطوعين أولى خطواتهم ~~الموفقة. # وأعلن الرئيس لنكولن الحصار البحري على موانئ الاتحاد الجنوبي ليقطع الصلة بينها وبين ~~العالم، ثم أهاب بالولايات الخاضعة له أن تمده بمدد جديد من المتطوعين، فما لبث أن أمدته ~~بما طلب، حتى لقد غصت وشنطون بهؤلاء المستبسلين الذين أراد لنكولن أن يستعيض بحماستهم عما ~~يعوزهم من التدريب والنظام. # وفي تلك الأيام العصيبة نرى دوجلاس خصم لنكولن القديم يسعى إلى البيت الأبيض، ويقابل ~~الرئيس ويفضي إليه بإعجابه بما انتهج من خطة، ويعده أن يظل إلى جانبه خادما لقضية الاتحاد، ~~وتتوثق عرى المودة بين الرجلين، ويستأذن الرئيس صديقه الجديد أن يذيع في الناس هذا النبأ، ~~فيأذن دوجلاس مغتطبا بعد أن يقرأ ما أعد للنشر، ويقابل الجمهوريون هذا النبأ بالابتهاج، ~~ويشعرون بقوة جديدة يظفر بها أهل الشمال. # ولا يني دوجلاس يدافع عن الرئيس وسياسته، يخطب الناس في المدن يستحثهم إلى البذل ~~والتضحية، ولا يفتأ يضع بين يدي الرئيس من نصحه ومشورته ما يحرص الرئيس على الانتفاع ~~به. # ولكن يد الموت لا تمهل دوجلاس أكثر من شهرين فيلقى حتفه! ويتلقى لنكولن نبأ الفجيعة فيذرف ~~الدمع السخين، ويشتد به الغم حتى يرمض فؤاده. # ولقد امتدت يد الموت قبل دوجلاس إلى شاب مجاهد كان أول أمره يعمل في مكتب لنكولن أيام كان ~~يحترف المحاماة، ولقد أعجب لنكولن بذكاء هذا الشاب وملك قلبه شدة محبته له، فلما سار الرئيس ~~إلى العاصمة سار معه، ولما تحرجت الأمور برز هذا الشاب الباسل الذكي يجمع الفرق ويدربها ~~ويعدها للنضال، إلى أن كان ذات يوم فأرسله لنكولن إلى ضفة النهر المواجهة للعاصمة ليحتل ~~المرتفعات هناك. # ثم إن هذا الشاب - وكان يدعى إلزورث - ذهب على رأس جنده فاحتل الأماكن المعينة، وهناك بصر ~~بعلم من أعلام الثوار يخفق على جدار فندق في مدينة صغيرة تسمى ms278 الإسكندرية، فتسلق الحائط في ~~بسالة عجيبة وانتزع العلم من موضعه، وبينما هو نازل من أعلى الجدار إذ أصابته رصاصة فانكب ~~على وجهه، وتدفق الدم من قلبه على هذا العلم، فكانت ميتته هذه ميتة بطل، تركت في نفوس ~~أصحابه ما لا يتركه النصر في معركة حامية. ولا تسل عما أصاب الرئيس يومئذ من هم وحسرة؛ لقد ~~حزن على هذا البطل كما كان يحزن لو أن الميت كان وحيده، وجاءت بعده منية دوجلاس، فكانت ~~المنيتان فاتحة الكوارث في هذا النضال العظيم. # كانت أولى المعارك الكبيرة معركة حدثت في فرجينيا بعد ثلاثة أشهر من سقوط حصن سمتر، عرفت ~~باسم بول رن، وبيان خبرها أن جنود الاتحاد التقوا بجموع الثائرين، وكانت الحماسة والاستبسال ~~هي كل ما لدى هؤلاء المتطوعين من عدة، وكان لأهل الجنوب - وإن كان معظمهم من المتطوعين كذلك ~~- قواد مدربون كانوا قبل ذلك في الجيش النظامي للبلاد وتسللوا منه إلى الجنوب حيث تفرقت ~~الكلمة! # وبدا أول الأمر أن النصر في جانب الشماليين، ولكن موجتهم ما لبثت أن انحسرت، ثم ولوا ~~بعدها هاربين على صورة منكرة تبعث على الرثاء، حتى لقد قيل إن بعض الفارين لم يقفوا عن ~~العدو حتى دخلوا منازلهم في وشنطون. # ودخلت فلول المنهزمين المدينة في حال شديدة من الذعر والهلع، وطافت بالناس الشائعات أن ~~المدينة واقعة لا محالة في أيدي الجنوبيين، فألقى الرعب في قلوب السكان وبخاصة حينما وقعت ~~أعينهم على أكثر من ألف من الجرحى، وحينما علموا أنه قد قتل في هذا اللقاء الأول خمسون ~~وأربعمائة. # ولو أن أهل الجنوب تقدموا غداة انتصارهم لأخذوا المدينة، ما في ذلك شك، ولكنهم نكصوا ~~ورضوا من الغنيمة بفرار خصومهم على هذا النحو، وحسبوا أنهم بعد ذلك أحرار فيما يفعلون فلا ~~خوف عليهم من أهل الشمال، ثم إنهم قد خيل إليهم أن عدد أعدائهم يبلغ خمسين ألفا أو يزيدون، ~~مع أنهم لم يتجاوزوا ثمانية عشر ألفا. # وكثيرا ما يكون التاريخ في تطوره رهينا بحادث صغير، ومن أروع الأمثلة على ذلك وقوف أهل ms279 ~~الجنوب عن الزحف على وشنطون، ولو أنهم فعلوا لكان للولايات المتحدة وجود غير هذا الوجود، ~~وتاريخ غير هذا التاريخ. # وكذلك كان يتغير وجه التاريخ لو أن القنوط يومئذ تمكن من نفوس الناس، ولولا أن كان على ~~رأسهم أبراهام لذهبت ريحهم وخارت عزائمهم وتفرقت كلمتهم، فلقد صمد ذلك الصنديد للنبأ كشأنه ~~في كل ما مر به من الحادثات، ولئن ابتأس للهزيمة وتحسر على الفشل في أول لقاء علق عليه ~~الكثير من آماله، فإنه صبر وصمم ألا يني عن الجهاد مهما بلغ من هول الجهاد. # وسرعان ما سرت روح ابن الغابة في الناس، فعادت إليهم ثقتهم بأنفسهم، وازدادوا حماسة على ~~حماسة، فما يقر لهم قرار بعد اليوم حتى يغسلوا عن أنفسهم هذه الإهانة الجديدة، وينصروا حقهم ~~على باطل أعدائهم. # ولقد استطاعت قوة الشماليين البحرية بعد ذلك أن تستولي على حصنين بالساحل في موانئ أهل ~~الجنوب، كما استطاع القائد ماكليلان أن يفصل بقوته البرية الجزء الغربي من فرجينيا عن جزئها ~~الشرقي ويضمه إلى الاتحاد، وكان أكثر أهله ممن يرفضون الانسحاب من الاتحاد، فكان ذلك ردا ~~على الهزيمة في معركة بول رن. # وكان لنكولن قد دعا الكونجرس ليشاور ممثلي الأمة في الأمر، وليطلعهم على الموقف من جميع ~~نواحيه، ولقد بعث إلى الكونجرس برسالة كانت من خير ما كتب من الرسائل، تناول فيها كل ما يهم ~~الناس يومئذ معرفته. # بدأ لنكولن يسرد الحوادث حتى انتهى إلى موقف أهل الجنوب، فذكر أنهم وضعوا البلاد بين ~~أمرين: فإما الحرب وإما تفكك الاتحاد. ثم قال إن الأمر لا يقف عند هذه الولايات المتحدة، بل ~~إنه ليتعداها إلى مبدأ عام هو مبلغ نجاح الحكومات الديمقراطية القائمة على إرادة ~~الشعب. # ولقد كان لنكولن جد موفق في إشارته هذه إلى ذلك المبدأ العام، كما كان يصدر في ذلك عن ~~طبع، فهو من أشد أنصار الحرية ومن كبار العاملين على تقرير سيادة الشعب. # وتكلم الرئيس عن الولايات الوسطى التي تظاهرت بالحياد، فقال: «إنها تقيم سدا لا يجوز ~~اختراقه على الحد الفاصل بيننا ms280 ، ومع ذلك فليس هو بالسد الذي لا يخترق، فإنها تحت ستار ~~الحياد تغل أيدي رجال الاتحاد، بينما هي تبيح الطريق في غير تحرج للأمداد ترسل من بينهم إلى ~~الثوار، الأمر الذي ما كانت تستطيع فعله أمام عدو صريح.» # ورد الرئيس على دعوى جفرسون دافيز زعيم الولايات الجنوبية، الذي يقول إن مبدأ الانسحاب حق ~~يبيح القانون الحرب من أجله، ولقد عد الرئيس هذه الدعوى من لغو الكلام، قال: «إن الستار ~~الذي يستترون وراءه وهو أن ذلك الحق المزعوم لا يستعمل إلا مع وجود مبرر عادل، بلغ من ~~التفاهة حدا لا يستحق معه أية ملاحظة، وهم سيكونون الحكم في عدالة ذلك المبرر أو عدم ~~عدالته.» # وكان رد الرئيس على جفرسون من الخطوات التي ارتاح لها أهل الشمال، فلقد أشفقوا أن تجد ~~مزاعم جفرسون سبيلها إلى قلوب الأغرار والأغفال. # ثم أهاب الرئيس بالكونجرس أن يمده بالمال والرجال، فهو في حاجة إلى أربعمائة مليون من ~~الدولارات وأربعمائة ألف من الرجال، وسرعان ما أجابه الكونجرس إلى ما طلب في حماسة جعلته ~~يزيد العدد في المال والرجال عما طلبه الرئيس. # وأيقن الناس في طول البلاد وعرضها، وقد رأوا من صلابة الرئيس وعزمه ما رأوا، أن الحرب ~~سيطول أمرها، فتألفت في البلاد كلها جماعات للنجدة، حتى لكأنما نسي الناس أحوالهم فليس ما ~~يشغل أذهانهم ويستدعي جدهم ونشاطهم إلا هذه الحرب. # ولقد تغلغلت تلك الروح في جميع الطبقات؛ الكوخ والقصر في ذلك سواء، والقرية الحقيرة لا ~~تفترق فيه عن المدينة العظيمة، وأصبح النشيد الذي يتردد على كل لسان ذلك الذي جعل مطلعه: ~~«نحن قادمون إليك يا أبانا أبراهام ... ستة آلاف من الأشداء ... نحن قادمون.» # والرئيس لا يعرف الراحة ولا يذوق طعمها، يصل إلى ديوانه في الصباح الباكر قبل أن يطرق ~~البيت الأبيض أحد، ويظل هناك حتى يهبط الليل فيقضي طرفا منه بين أوراقه، وامرأته تضيق بذلك ~~وتعلن إليه غضبها، ولكنه في شغل عنها بما هو فيه من عظيمات الأمور، وأنى له في مثل ذلك ~~الموقف بلحظة من هدوء ms281 البال! # هكذا وقفت أمة واحدة فئتين تقتتلان؛ فهنا الوحدة والحرية، وهنالك الفرقة والعبودية، وهنا ~~وهناك من مظاهر الحماسة والتضحية ما يضيع في ضجيجه وصخبه صوت الحق ويتبدد دعاء الإنسانية. ~~وكانت الدماء التي تجري على الأرض دماء شعب واحد، فمن كل قاتل ومقتول صورة جديدة لقابيل ~~وأخيه هابيل. # كان البيض في الشمال يبلغون قرابة عشرين مليونا، وكانت عندهم الصناعة والتجارة الخارجية، ~~وكانوا يعتقدون أنهم يدافعون عن حق، ويناضلون في سبيل غاية ترتخص لها الأموال والأنفس، فهم ~~يمسكون بناء الوحدة الذي أقامه أجدادهم الأولون. # وكان اعتمادهم في الحرب على المتطوعين الذين تمتلئ قلوبهم حماسة وإن كانت تعوزهم الخبرة ~~بفنون الحرب وأساليب القتال، كما كان لأسطولهم بأس وأثر قوي في مغالبة أهل الجنوب ~~ومضايقتهم. # ولكن هؤلاء الشماليين كانوا في حاجة إلى مهرة القواد الذين يمشون إلى النصر من أقرب سبله، ~~ولقد ظل لنكولن زمنا ليس بالقصير يبحث عن نفر من القواد يركن إليهم ويطمئن إلى كفايتهم، ~~حتى كاد اليأس يشيع في النفوس لولا ما كان من صدق عزمه وبعد همته. # وكان البيض في الجنوب لا يزيدون عن خمسة ملايين، ولكنهم كانوا أوفر عدة بما تسرب إليهم ~~على أيدي بعض وزراء بوكانون منذ انتخب للرياسة لنكولن، وكذلك كانوا أكثر مالا. # وكانوا قد اتخذوا الأهبة للكفاح فأعدوا ما استطاعوا من قوة ودربوا جنودهم منذ أن انتخب ~~أبراهام، في حين لم يتأهب الشماليون ولم يدربوا أحدا. # وكانت أهم ميزة امتاز بها أهل الجنوب وجود عدد من أكفأ القواد على رأس جيشهم، ومن هؤلاء ~~«لي» الذي انحاز مع ولاية فرجينيا إلى الجنوبيين بعد أن انسحبت هذه الولاية من ~~الاتحاد. # وكان يطمع الجنوبيون أن تدب الفرقة بين الشماليين فتذهب ريحهم ويفشلوا، وكذلك كانوا ~~يطمعون أن يقع ما ليس في حساب أحد فتتدخل في الحرب قوة أجنبية، وأقرب الدول إلى التدخل ~~إنجلترة؛ وذلك لأن حصار الشماليين موانئ الجنوب يمنع وصول مزروعاته وخاماته إليها. # | في البيت الأبيض # ما كان للرئيس أن يركن إلى الراحة ولو شيئا قليلا حتى يؤدي رسالته ms282 ؛ لذلك فهو يجعل للعمل ~~وقته جميعا لا يكاد يدعه لحظة، وكان له في جهاده الأكبر خير عون من عافيته وقوة بدنه؛ فلقد ~~بنته الغابة كما تبني دوحاتها العظيمة، كأنما كانت تهيئه لهذه العظائم. # وكثيرا ما كان يستعين على همه بالضحك وبما يأخذه الجاهلون بحقيقة أمره على أنه ضرب من ~~اللهو وعدم المبالاة، وما كان إلا تعلة يمسك بها نفسه أن تذهب حسرات. كان مرحه وضحكه وما ~~يسرد في أحلك الساعات من نكاته وأقاصيصه تجلد القوي يستكبر أن يذعن للهم، ويحب أن يوحي ~~القوة والأمل إلى كل من يرونه! # ولم تكن الحرب وحدها هي كل ما يحمل الرئيس من عبء؛ فلقد كان له ممن يعملون معه من الرجال، ~~كما كان له من اختلاف الأحزاب وتبلبل الرأي العام؛ أثقال فوق أثقاله. # وهناك فوق ذلك موقف الولايات الوسطى التي عرفت باسم المحايدة، فكان يخشى الرئيس أن تنضم ~~إلى الاتحاد الجنوبي فتزيدهم قوة وعزما، ولن تكون تلك القوة في الوقت نفسه إلا خسرانا ~~لأهل الشمال. # ثم هناك موقف أوروبا من هذا النزاع، وهو أمر له خطره، يحسب الرئيس له ألف حساب، وإن كان ~~سيوارد لا يرى له أول الأمر ما يراه الرئيس من خطر. ~~••• # لم يترك الناس رئيسهم كي يتفرغ لقضيتهم الكبرى، فقد راح الكثيرون منهم يطرقون بابه يرجونه ~~ويسألونه إلحافا؛ فهذا ممن ساعدوا الحزب الجمهوري يطلب من طريق خفي أن يكافأ على خدماته، ~~وذاك يطلب وظيفة يأكل من راتبه فيها، أو يدفع إليه ظلامة، أو يوصيه بقريب له، أو يشتكي إليه ~~حاكما من الحكام! # جانب من حجرة الرئيس في البيت الأبيض. # الرئيس أبراهام لنكولن. # والموظفون في البيت الأبيض يعجبون من هذا الرئيس الجديد الذي لا يجعل كبير فرق بين قاعة ~~الحكم هناك وبين حجرة مكتبه في سبرنجفيلد! # وقد جعل الرئيس للناس يومين كل أسبوع يلقاهم فيهما، لا يوصد بابه في وجه أحد، وإنه ليستمع ~~إلى كل ذي حاجة، فإن استطاع أن يعينه على أمره دون أن يجور على القانون، فعل ذلك في غير ms283 ~~تردد أو تكره، وكثيرا ما كان يجعل الرحمة فوق العدل، إذا رأى نفسه بين أن يعدل فيقسوا أو ~~يرحم فيميل بعض الميل، ولكنه في ذلك لا يسيء إلى الخلق أو يتهاون في قاعدة جوهرية، وحاشاه ~~أن يفعل ذلك أو ما هو دونه. # ولن يضيق صدره أبدا بذوي الحاجات لديه، مع أنهم كانوا يلقونه على السلم، أو يقفون أمام ~~غرفته صفوفا خلف صفوف، بل كثيرا ما كانوا يستوقفونه في الطريق ويزحمونه! وهو من الكاظمين ~~الغيظ، ولن يستطيع قلبه الإنساني الكبير أن ينهر السائل فيزيده بؤسا على بؤسه وهو الذي عرف ~~اليتم منذ حداثته، وذاق الشقاء ألوانا. # على أنه مهما بلغ من رحمته وبره بالمساكين، يعرف أساليب الماكرين إذا مكروا، فلا ينخدع ~~بما يقولون وإنما يصرفهم بالحسنى، وإلا فبشيء من الشدة يشبه التأنيب ويراد به الزجر. دخل ~~عليه رجل كسرت ساقه يسأله معاشا إذ قد كسرت في الحرب رجله، فسأله الرئيس أيحمل أية شهادة ~~أو دليلا على صدق دعواه؟ ولكن الرجل لم يكن يحمل شيئا! فصاح به الرئيس قائلا: «ماذا؟ ليس ~~لديك أية أوراق، أو أية شهادات، أو أي شيء يرينا كيف فقدت رجلك! ... فليت شعري ... كيف أتبين ~~أنك لم تفقدها في فخ وقعت فيه وقد سطوت على بستان جارك؟!» # ويعجب القائمون على أمر الحكومة كيف يطيق الرئيس - وقد ملأت وقته الأحداث الجسام - أن ~~يلقى هؤلاء الناس، ويستمع إلى مثل هذه الأمور الصغيرة، وكان جديرا به أن يكلها إلى غيره؟ ~~ولكن، أليس هو من الناس؟ أليس خادم الجميع قبل أن يكون رئيس الجميع؟ وهل يغير المنصب ما ~~فطرت عليه نفسه الكريمة من كريم الخصال؟! # ها هو ذا النجار الذي خرج من الغابة، تراه في البيت الأبيض ولم يزل هو هو؛ وداعة في قوة، ~~وتواضع في عزة، ورقة في وقار ... ومن وراء ذلك قلب تسع رحمته شكوى الناس جميعا، قلب لا يتهنأ ~~ولا يفرح إلا إذا صنع المعروف وأولى الجميل، فأفرح القلوب وأدخل عليها الهناءة. # وما كان أعظم الرئيس إذ ينزل إلى الشارع ms284 في الصباح الباكر فيستوقف أحد المارة قائلا: ~~«نعم صباحك يا صاحبي ... ألم يصادفك أحد باعة الصحف؟ إن صادفك أحدهم فأرجو منك أن ترسله إلي.» ~~وقد يعرف هذا أن الذي يرجوه هو الرئيس أبراهام لنكولن ... فيرد تحيته بقوله: «سعد صباحك يا ~~أبانا أبراهام»، أو «طاب يومك يا أبا الناس!» وينطلق الرجل وفي نفسه كل معاني الإجلال ~~للرئيس العظيم. # أما الرئيس فيعود لا إلى جناح إقامته وأسرته في البيت الأبيض، ولكن إلى جناح عمله في ~~الناحية الجنوبية والصحيفة في يده، فما يفرغ من قراءتها حتى يشمر عن ساعديه قبل أن يحضر ~~الموظفون، فيقرأ كثيرا من الأوراق، ويقطع برأي في بعض المسائل. # وما كان أعظم الرئيس وأجمل تواضعه حين كان يلقى في الطريق إلى حجرة الرياسة، أو إلى مقر ~~أسرته، أحد معارفه ممن لاقاهم في مضطرب الحياة، فيصافحه في حماسة، ويناديه باسمه، ثم يضع ~~يده على كتفه ويقف وإياه، ويضحك من فرط سروره إذ يسأله عن حاله وحال أسرته. ولقد يأخذه معه ~~إلى قاعة الرياسة، فيذكر له الأيام الماضية، حتى ما يشعر الرجل أنه بين يدي رئيس الولايات ~~المتحدة، فهذا الرئيس يقول له: «أتذكر إذ كنا ببلدة كيت وأنا أطوف بالبريد حين وقع لنا كيت ~~وكيت؟» أو يقول: «أتذكر حين كنت أسحب الأبقار في الغابة ولقيتني ففعلنا كيت وكيت؟» أو يقول: ~~«أتذكر حين كنت أترافع في كيت وكيت من القضايا، وحين كنت ترشدني وتعينني على أمري وتنصح ~~لي؟» # وما كان أعظم الرئيس وأنبله حين كان الفقراء يستوقفونه في الطريق، فيقف ليستمع إليهم ~~وليكلمهم كأنه أحدهم، فلا ترفع ولا كبرياء ولا غلظة. # ولن يستنكف الرئيس أن يطيل الحديث أحيانا عله يستطيع أن يكفكف بكلامه شيئا من دموعهم، ~~ويخفف بالعطف عليهم بعض آلامهم. ولئن كانت له حيلة إلى إجابتهم إلى ما سألوا، فما هو عن ذلك ~~بضنين. # ولقد كان ينكر عليه مسلكه هذا بعض موظفي البيت الأبيض، ولكنهم حين كانوا يزعمون أنه لا ~~يليق بمن كان في مثل مركزه كان يغيب عنهم أنه لا مسلك ms285 غيره لمن كان له مثل قلبه، على أنهم ~~لم يلبثوا أن أكبروا الرئيس وأعجبوا بخلاله، وأصبحوا لا يرون أي مأخذ عليه، وأصبح من ~~المناظر المألوفة عندهم أن يدخل أحدهم ببطاقة للرئيس، فيراه ينهض بنفسه إلى خارج الحجرة ~~يلقى مرسلها مرحبا ضاحكا، أو أن يروه يأتي بنفسه إلى الحاجب فينهره حين يسمعه يمنع ~~طالبي الدخول عليه. # أما الوزراء وكبار الموظفين وقواد الجيش، فقد تعودوا أن يروا الرئيس يسعى إليهم أحيانا ~~بدل أن يدعوهم إليه، وكثيرا ما كان يلتفت الواحد منهم، فإذا حاجبه مقبل يعلن إليه أن ~~الرئيس على السلم، أو في الردهة في طريقه إليه. # ويدخل الرئيس فيجلس إلى مرءوسه يستفهمه عما يريد وينصت إليه، فإن كلمه مرءوسه في أمر فني ~~كلام الأخصائي، لا يستنكف الرئيس أن يستوضحه وكأنه منه التلميذ حيال أستاذه، ويعجب ~~المرءوسون من هذا الرجل الذي لا يدعي أبدا العلم في أمر يجهله، والذي يفهم ما يبين له في ~~فطنة وسرعة. ~~••• # أما أبهة المنصب والتمتع فيه بالحياة الدنيا وزينتها، فقد ترك الرئيس ذلك كله لزوجه، ~~لعزوفه عن ذلك بطبعه أولا، ثم لانشغاله بما هو فيه من عظائم ما عرف تاريخ قومه مثلها ~~قط. # وكانت ماري تضيق منه بانصرافه عنها إلى ما كان يشغل البلاد كلها، ولا تزال تعنف عليه ~~وتغلظ له وهما في البيت الأبيض كما كانت تفعل ذلك وهما في سبرنجفيلد، وإنه لأهون عليه أن ~~يقابل ما يقابل من عواصف هذه الحرب الأهلية، من أن يقابل عاصفة من حربها الأهلية ~~الداخلية. # وكانت ماري تضيق أكبر الضيق بهذه الحرب التي تعصف بالبلاد؛ لأنها حرمتها كثيرا مما كانت ~~تتمنى إقامته من الحفلات والولائم، فما يجدر كما يقول الرئيس أن تنصب معالم الفرح والموت ~~يتخطف أبناء الأمة في الحرب الدائرة. # لهذا كانت تتطلع ماري إلى اليوم الذي تضع فيه الحرب أوزارها لتنصرف إلى ما منت به نفسها ~~أعواما طويلة من الولائم والحفلات، فلقد أصبح حلمها القديم بالبيت الأبيض حقيقة واقعة، ~~ولكن أف لهذه الحرب التي تكدر عليها صفوها كثيرا، وأخوف ms286 ما تخافه أن تنقضي السنوات الأربع ~~والحرب قائمة تحول بينها وبين ما تشتهي. # وتجد ماري نفسها وسط مظاهر الجاه والأبهة، وتحس أنها ملكة ينقصها التاج إذ تنتقل في ردهات ~~القصر وأفنائه وحجراته، وإذ تنظر إلى أثاثه ورياشه وما فيه من خدم وحراس وحجاب ووصيفات ~~لها يتبعنها ويتقدمنها أينما سارت، وتكره ماري ألا يعبأ زوجها بهذا كلما وجهت الحديث إليه، ~~ولقد يغيظها معابثا فيذكر الغابة وحياة الغابة، حتى لتهتاج وتوشك أن تصرخ، فيدعها لتوه ~~فيما هي فيه من أبهة وزينة ويذهب ليلقى القواد والوزراء. # ويدع لها زوجها أحيانا أن تمتع نفسها بشيء من الولائم والحفلات في بعض المناسبات ~~القومية، فإنها تستتر وراء هذه المناسبات وتأخذ ما تحب من متع الحياة، ويقرأ بعلها ما تلغط ~~به صحف خصومه، فيخفي في نفسه ما لا يحب أو ما لا يجرؤ أن يبديه لها من العتب ~~والملامة. # وكان يؤلم الرئيس ويكاد يفقده صبره أن يعلم أن ماري تتدخل فيما ليس من شئونها؛ فتتصل ~~بالوزراء تشفع لفلان، أو تطلب تعيين فلان في أحد المناصب أو ترقيته، وبخاصة ذوي قرباها ~~الذين أغدقت عليهم النعمة ومدت لهم أسباب الجاه. # كانت ماري تحب الملق وتطرب لعبارات الإطراء والثناء يزجيها إليها في غير خجل أو اقتصاد ~~طلاب الحاجات، وسرعان ما كانت تعنى بأمرهم وتيسر لهم ما صعب عليهم من المسائل في دواوين ~~الحكومة، وكان يندس بين هؤلاء بعض المتجسسين الذين اتخذوا الملق وسيلة إلى جمع ~~الأنباء. # ولم يكن يعلم لنكولن إلا بالقليل مما تصنع، فلا يفعل في أكثر الأحيان أكثر من أن يبسط ~~أمامها الصحف التي تعيب عليه ضعفه، وتعيب على زوجته تدخلها في شئون الدولة، ولقد يغلظ لها ~~في القول أحيانا، فما كاد يفعل حتى يجن جنونها فيغادرها حتى يذهب عنها الغضب. # الرئيس وأسرته في البيت الأبيض. # بهذا وبغيره مما تفعل ماري حرم لنكولن من أسباب الراحة والعزاء ما كان حريا أن يجده بين ~~يدي زوجته. # وكان لنكولن يطلب العزاء بعض الوقت في الجلوس إلى ابنيه ومداعبتهما، وكان لأبراهام ms287 عند ~~مجيئه إلى البيت الأبيض ثلاثة بنين: روبرت وكان في الثامنة عشرة، وكان أبوه لا يلقاه إلا ~~قليلا لوجوده في جامعة هارفارد؛ حيث كان يدرس القانون؛ وولي وكان فوق العاشرة بقليل؛ ~~وتوماس أو تاد كما كان يسمى في البيت، وكان في نحو الثامنة. # وكان يتسلل لنكولن أحيانا إلى حيث يشهد بعض المسرحيات، وكان يحرص أن يذهب بصفته الشخصية ~~في بساطة ودعة فليس معه إلا بعض الخلان. # ولقد يكون له في الموسيقى بعض ما يخفف همه، وفي الكتب مسلاة له أحيانا إذا خاف من وساوس ~~النفس وأوهامها في ساعات الفراغ، إن كان ثمة له من فراغ! # | جنون العاصفة! # لم يكد يمضي ثلاثة أشهر على اشتعال نار هذه الحرب الأهلية التي انبعثت شرارتها الأولى في ~~الثاني عشر من شهر أبريل سنة 1861، حتى ماجت وشنطون بالمتطوعين، وأصبحت المدينة معسكرا ~~عظيما. # ولكن الرئيس يعوزه القواد، وإنه ليطيل التفكير فيمن عساهم يصلحون للقيادة في هذا النضال ~~الهائل. لقد كان على رأس القوات سكوت، وهو شيخ كبير ناهز الخامسة والسبعين، والموقف يتطلب ~~قائدا فتيا يبث من روحه في قلوب جنده ويمشي بهم إلى النصر، ألا بئس ما يفعل لي! لقد رفض ~~ما عرض عليه ثم انضم إلى الثائرين وأصبح أكبر قوادهم. # فكر الرئيس وتدبر، وأخذ يقلب الأمر على وجوهه، والرأي العام من حوله يزيد موقفه صعوبة، ~~فلكل حزب رأي ولكل جماعة فكرة، ولحكام الولايات آراؤهم وإلا توقفوا عن إرسال الجنود. # والرئيس يتمنى أن يهيئ له الناس بسكوتهم أن يختار قواده على أساس الكفاية، ولكنهم لا ~~يفعلون وهو لا يستطيع أن يغضب هاتيك الجهات في مثل هذه الظروف القاسية، بينما هو لا يستطيع ~~كذلك أن يرضيهم جميعا. # ويستعرض الرئيس الموقف الحربي فيجد القائد ماكليلان قد وفق في أعماله في فرجينيا الغربية، ~~ويسمع الثناء عليه من جهات كثيرة حتى لقد سماه بعض الناس نابليون الجديد؛ ولذلك يدعوه ~~الرئيس إليه ويعينه قائدا عاما للقوات في فرجينيا. # وتتجه الأنظار كلها إلى القائد ماكليلان؛ فهو شاب في الرابعة والثلاثين، وفيه كثير ms288 من ~~الصفات التي تحمل الناس على محبته، فله حسن السمت وهيبة الطلعة وروح الشباب، وله من صغر ~~جرمه ما يشبه به نابليون، وكذلك له من صفات نابليون بريق عينيه وما يبدو من مضاء عزيمته ~~وتوقد حماسته. # وسرعان ما تعظم شهرته حتى يجري اسمه على الألسن جميعا، وكم له في الحياة من أشباه ممن ~~قامت شهرتهم على أوهام الجماعات، ولكن لعل الأيام تثبت جدارته، فإن الأعين والقلوب متفقة ~~على الإعجاب به. # على أن للشباب نزعاته ونزواته، فهذا القائد يدل بجاهه من أول الأمر، ومرد ذلك إلى أنه ~~بات يعتقد أنه الرجل الذي يستطيع أن ينقذ البلاد مما هي فيه، وشايعه في هذا الزعم كثير من ~~الناس حتى بعض الوزراء، فلقد عظمت ثقة هؤلاء فيه حتى ليميلون إلى جانبه أحيانا إذا هو رأى ~~من الأمر ما لا يراه الناس، والرئيس يتذرع بالصبر ويتغاضى عن ذلك في سبيل ما يعقد من الآمال ~~على ما عسى أن يأتي به ذلك الشاب. # وأخذ القائد الشاب يدرب مائتي ألف رجل على حدود فرجينيا، وقام بذلك العمل على خير ما ~~يرجى، ولكنه أطال التدريب وأطاله حتى تسرب الملل إلى الرأي العام فضاق بما يفعل، فإن الناس ~~كانوا يستعجلون الزحف، وكذلك ضاق الرئيس ذرعا، ولكن ماكليلان يعد الناس أنه يستعد لحركة ~~عظمى سوف تطفئ نار الثورة. # وشاع في الناس اسم قائد آخر هو فريمونت، أول مرشحي الحزب الجمهوري للرياسة عند نشأته، ~~ولقد كانت له جهود محمودة في الجهات الغربية يومئذ، وكان لهذا الرجل قبل ذلك في الناس ~~منزلته وخطره، وله في قلوب الساسة وأولي الرأي نفوذ كبير. # ولن يقل فريمونت عن ماكليلان اعتزازا وترفعا، فهو يحيط نفسه بفرقة من الحرس، ويرقى بعض ~~الجند دون أن يرجع إلى الرئيس الذي هو بحكم منصبه القائد الأعلى لقوات الدولة. وكذلك يتباطأ ~~فريمونت في الرد على البريد القادم من العاصمة، ولن يقف أمره عند ذلك، بل تأتي الأنباء أن ~~فريمونت ينوي إقامة اتحاد ثالث في الجهات الشمالية الغربية! # ولكن الرئيس لا يصدق ms289 هذه الشائعات، فهو واثق قبل كل شيء من إخلاص الرجلين لقضية الاتحاد، ~~وإلا فما كان ليضعهما حيث وضع مهما يكن من الأمر. # وأحاط فريمونت نفسه أول الأمر بجو من الكتمان، ولكنه ما لبث أن أذاع قرارا خطيرا اهتز ~~له الرئيس وتبرم منه وضاق به؛ وذلك أن القائد أنذر أهل ولاية مسوري في آخر شهر أغسطس سنة ~~1861؛ أي بعد قيام الحرب بنحو أربعة أشهر، أنه منفذ قانون الحرب في الولاية؛ ولذلك فهو يحدد ~~منطقة فيها يجعلها محرمة، فيعدم كل من يحمل السلاح فيها ضد حكومة الاتحاد، وكذلك يعلن ~~القائد أن كل من تحدثه نفسه بالثورة من أهل الولاية جميعا يكون جزاؤه مصادرة أملاكه وتحرير ~~عبيده إن كان له عبيد. # ارتاع لنكولن للقرار وتربد وجهه وأوشك أن ينفد صبره، وكان يلاحظ من رأوه ساعة أن علم به ~~علامات الهم الشديد على محياه، ولكنهم رأوا كذلك أمارات العزم والصلابة ودلائل الحزم ~~والثبات. # انزعج الرئيس لإثارة مسألة العبيد في تلك الآونة؛ فلقد جعل المبدأ الذي قامت عليه هذه ~~الحرب من أول الأمر المحافظة على الاتحاد، حتى تكون قضية دستورية لا عيب فيها، وبذلك تجد ~~سبيلها إلى القلوب، وتستنهض الهمم بما تثيره عدالتها من حماسة، ولا تدع سبيلا لأحد أن يتهم ~~أهل الشمال بأنهم أوقدوا نار الحرب من أجل أغراضهم، وبدافع عواطفهم في مسألة الرق. وكذلك ~~كان يتحاشى الرئيس إثارة تلك المسألة حتى لا تثور الولايات المحايدة وتنضم إلى أهل الجنوب، ~~ويفقد الرئيس بذلك كل أمل في ضمها إلى جانبه، ومن تلك الولايات مسوري نفسها؛ فقد كان فيها ~~كثيرون ممن يقتنون العبيد، وأهم منها وأعظم خطرا كانت ولاية كنطكي التي ينتمي إليها الرئيس ~~منذ نشأته، ولقد بذل الرئيس كل ما في وسعه للمحافظة على مودة أهلها لتنضم إلى جانبه أو ~~لتبقى على الأقل محايدة، فلموقعها الجغرافي في هذه الحرب شأن أي شأن. # ولكن هذه السياسة الرشيدة العاقلة التي جرى عليها الرئيس ما لبثت أن طاح بها ذلك القرار ~~الطائش، فسرعان ما هاجت الخواطر في تلك ms290 الولايات المحايدة، وسرعان ما جزع كثير ممن يسلمون ~~بنظام الرق من أهل الولايات الشمالية. # وعظم خطر هذا القرار حتى أصبح نقطة تحول جديد في الموقف كله. ونظر الرئيس فإذا هو تلقاء ~~عاصفة شديدة من هياج الرأي العام، فإن دعاة التحرير وأعداء نظام الرق ما لبثوا أن هتفوا ~~بالقائد الجريء الحازم، وراحوا يمتدحون خطته بقدر ما أخذوا يعيبون على الرئيس تردده، بل ~~وخوره كما كانوا يزعمون! # وانطلقت الصحف تدعو الرئيس أن يقر فريمونت وأن يحذو حذوه؛ فيعلن قرارا عاما ينطبق على ~~الولايات الثائرة جميعا، ولما وجدوا منه الإعراض والغضب، عصفت برءوسهم النزوات حتى لقد راح ~~بعضهم يدعون إلى إرغام الرئيس على اعتزال منصبه ووضع فريمونت مكانه. # ويتطلع الرئيس بعينيه الواسعتين فإذا بوادر الفرقة والتنازع تكاد تقضي على قضية البلاد، ~~وإذا العاصفة تشتد وتشتد، وإذا هو تلقاء أمر لا يقل خطرا عن الحرب الدائرة. # ولكنه الرجل الذي لم يعرف الفزع يوما ما، وهل يذكر أنه خاف العاصفة مرة حين كانت تنطلق ~~مدوية عاتية فتهتز لها أرجاء الغابة، وتكاد تجتث من شدتها عظيمات الدوح؟ كلا، بل كان يقف ~~منها موقف المتفرج، وذلك الموقف الذي ما كان يطيقه صبي في مثل سنه إلا إذا كان مثله من بني ~~الأحراج الذين ألفوا ملاقاة العواصف. # لم يتردد الرئيس في العمل على إبطال قرار فريمونت، على الرغم مما بدا له من تحمس الرأي ~~العام له، ومظاهرته إياه فيه على نحو ما بينا. ولقد كان من أبرز خلال أبراهام أنه كان لا ~~يعرف التردد أو النكول إذا عقد النية على أمر اقتنع بصوابه ووثق من مقدرته على الاضطلاع به. ~~وما جرب عليه من عملوا معه أنه صمم قط على رأي ثم انصرف عنه، وذلك أنه كان لا يصمم إلا عن ~~بينة وطول أناة وحسن مشاورة، فإذا عزم أذعن له مرءوسوه طوعا وكرها، فما لهم من ذلك ~~بد. # وتصرف لنكولن تصرف السياسي الحكيم، فكتب إلى فريمونت يشير عليه بأن يعدل قراره بنفسه، وأن ~~يظهر للناس أنه يفعل ذلك من ms291 تلقاء نفسه، ولكن فريمونت لم يذعن لذلك وكبر عليه أن ~~يتراجع. # ولم ير الرئيس بدا من أن يعلن قرارا يلغي به قرار فريمونت غير عابئ بدوي العاصفة في ~~مسمعيه وفي نفسه، ولا وجل من تصايح الصائحين من دعاة التحرير. # وبذلك العمل الخطير الحازم قضى الرئيس على سبب خطير من أسباب التنابذ والفرقة، وكسب بذلك ~~وقوف ولاية كنطكي إلى جانبه. # وما كان أبراهام، كما تقول عليه خصومه ومخالفوه في الرأي من أنصاره، متخذا بما فعل ~~سبيلا رجعية، كلا، إنما هي السياسة الحكيمة تقضي عليه ألا يتنكب الطريق التي رسمها منذ شبت ~~الحرب؛ ألا وهي جعل المحافظة على الوحدة أساس هذا الصراع القومي، أما مسألة العبيد فما هو ~~عنها بغافل، وإنما يؤثر الأناة حتى تتهيأ الفرصة. ~~••• # هذا ما كان من أمر فريمونت، أما ماكليلان فلقد ظل يدرب جيشه على حدود فرجينيا وهو لا يفتأ ~~يرسل إلى الرئيس يطلب فرقا جديدة، ولا يفتأ يتبرم بأي استفهام يأتيه من قبل الرئيس عما هو ~~عسي أن يفعله، ولقد كان هذا القائد يكره من الحكومة ما يعده تدخلا في شئونه، بل لقد ~~كان يزدري أعضاء مجلس الوزراء ويرميهم بالغباء، أو كما يقول في تهكم: «إني أشاهد أكبر نوع ~~من الأوز في هذا المجلس.» # ولقد بلغ به الذهاب بنفسه حدا جعل الناس يظنون به الظنون حتى ليحسبونه يتطلع إلى ~~الرياسة، فهو ينتظر لا يعمل عملا حتى تواتيه الفرصة إلى انقلاب يأتي به على غرة. # ولكن الرئيس على الرغم من تلكؤ ماكليلان يعينه قائدا عاما للقوات بعد أن يترك سكوت ~~العمل لكبر سنه. # ولا يقف صلف ماكليلان عند حد، فانظر كيف بلغ به الشطط كل مبلغ؛ فلقد ذهب الرئيس إليه مرة ~~يستنبئه عن أمر، فتركه القائد لحظة قبل أن يلقاه! وشاع ذلك في الناس وأشارت إليه الصحف، ~~واجتمعت الآراء على استنكاره، ولكن الرئيس العظيم لم يعبأ بما حدث، فما كان أبراهام بالذي ~~تلهيه الأمور الشخصية عما هو فيه، ولم يزد على أن رد على فعل القائد بقوله: «إني ms292 لأمسك ~~لماكليلان زمام جواده إذا هو جاءني بنصر.» # ولم يفطن الناس إلى حصافة ابن الغابة وبعد نظره وعمق سياسته، فإنه يدع القائد المدل الذي ~~افتتن به الناس ويصابره حتى يعلم الناس حقيقة أمره؛ فإن سار إلى النصر فذلك ما يبغي الرئيس ~~ويبغي الناس، وإن قعد عن ذلك وتبين أنه في مسلكه لم يكن إلا متلكئا، نبذه الناس وخلعه ~~الرئيس في غير ضجة. # وحدث بعد ذلك أن ذهب الرئيس ومعه كبير وزرائه إلى مقر القائد فلم يجداه، فجلسا ينتظران ~~حتى رجع، وأنبأه بعض الجند بانتظارهما إياه، ولكنه بدل أن يخف للقائهما صعد إلى غرفته وأرسل ~~إليهما رسالة يأسف فيها لعدم استطاعته أن يراهما، معتلا بأنه متعب! واستشاط سيوارد من ذلك ~~غضبا، ولكن الرئيس راح يهون الأمر، على أنه كف بعدها عن زيارة ذلك القائد المدل ~~بنفسه. ~~••• # وعادت العاصفة تهب من ناحية أخرى، وقدر على الرئيس أن يجد عنتا جديدا من الرأي العام، ~~فقد راح الناس يأخذون عليه مسالك القول والعمل في مسألة جديدة، كانت نتيجة لما أدت إليه ~~الحوادث بين حكومة الاتحاد الشمالي وبين الحكومة الإنجليزية. # كان يخشى لنكولن أن تسوء العلاقات بين حكومته وبين إنجلترة؛ إذ كانت الأنباء تنذر بذلك، ~~فكثير من رجال الحكومة الإنجليزية كانوا يرون أن تعترف حكومتهم بالاتحاد الجنوبي كحكومة ~~مستقلة؛ حتى يتسنى لإنجلترة أن تدخل سفنها الموانئ الجنوبية، وبخاصة موانئ القطن، دون أن ~~يكون في ذلك تصادم مع قرار الحصار المضروب عليها من الشماليين. وأخذت الحكومة الإنجليزية ~~تدعو إلى ذلك وتلح في الدعوة غير عابئة بما ينطوي عليه ذلك من تحد لأهل الشمال. # واشتد غضب حكومة الاتحاد الشمالي بقدر ما عظم فرح الجنوبيين؛ إذ كان كل فريق ينظر باهتمام ~~شديد إلى ما عسى أن يحدث من جانب إنجلترة. وبلغ من استياء سيوارد أنه كتب احتجاجا عنيفا ~~إلى الحكومة الإنجليزية، لم يخفف من عنفه ما أدخله عليه الرئيس من تعديل؛ فلقد كان يحرص ~~الرئيس أشد الحرص على أن يفوت على الجنوبيين ما يأملونه من انضمام إنجلترة إليهم ms293 . # وفي هذا المأزق الشديد يأتي أحد القواد البحريين من الشمال عملا تزداد به الأمور تحرجا، ~~حتى ليحسب الناس أن الحرب واقعة بين إنجلترة والولايات الشمالية ما من ذلك بد. # وبيان ذلك أن القائد البحري ولكس داهم سفينة إنجليزية كانت تحمل رسولين من قبل الولايات ~~الثائرة: أحدهما إلى إنجلترة والثاني إلى فرنسا؛ ليسعيا سعيهما لدى الحكومتين الإنجليزية ~~والفرنسية كي تأخذا بيد الاتحاد الجنوبي، وأرغم ولكس الرسولين على النزول من السفينة ~~وأسرهما، على الرغم من احتجاج قائدها. # ووصلت الأنباء إلى واشنطون فراح الناس يعلنون إعجابهم بولكس ويثنون على عمله، وما لبثت أن ~~انهالت عليه رسائل الإعجاب والثناء، ولقد أثنى عليه فيمن أثنوا المجلس التشريعي نفسه، وكثير ~~من الزعماء ورجال الصحافة، وهكذا ينحاز الرأي العام إلى ولكس كما انحاز إلى فريمونت من قبل، ~~لتزداد الأمور بذلك تعقدا وخطرا. # أما عن موقع النبأ في إنجلترة، فلك أن تتصور مبلغ ما أثار من سخط واستنكار في ظروف كتلك ~~التي تتحدث عنها، وكذلك كان للنبأ في فرنسا موقعه الشديد وأثره السيء. # اعتبرت إنجلترة هذا العمل من جانب القائد ولكس إهانة للعلم البريطاني، الذي كان يخفق في ~~سارية تلك الجارية التي كانت تحمل الرسولين، وأسرعت لندن فأرسلت احتجاجها إلى وشنطون ~~وأنذرتها أنها تقابل العدوان بمثله إلا أن تتلقى الترضية الكافية! ولن ترضى إنجلترة بأقل من ~~إطلاق الرسولين وعدم التعرض لها أينما اتجها، ثم الاعتذار عما حدث. # عندئذ اشتد هياج الولايات الشمالية، ورأت في إنذار إنجلترة إياها على هذه الصورة معاني ~~الإذلال وسوء النية وقبح استغلال الحادث، وأصر الناس على المقاومة مهما يكن ثمنها. وأمدت ~~إنجلترة حامية كندة، وأخذت الولايات تزيد في قوة ثغورها الشمالية، ودوت العاصفة في أذني ~~الرئيس وفي نفسه من جديد، فلن يرضى الناس إلا بإعلان الحرب. # على أن بعض العقلاء استطاعوا أن يطيلوا الوقت المحدد للإنذار بضعة أيام؛ عل أهل ~~الولايات وخصومهم في إنجلترة يجدون حلا تحقن به الدماء. # وأخذ الوقت يتصرم، ولكن أهل الولايات مصرون على موقفهم لا يثنيهم عنه شيء! ورئيسهم ~~ووزراؤه ms294 يتفكرون في هذا الخطر الداهم، وكان سيوارد يميل إلى خوض غمار الحرب ضد هؤلاء ~~الإنجليز، الذين تنطوي قلوبهم على الحقد والحنق منذ خلعت الولايات الأمريكية نير إنجلترة في ~~عزة وإباء. # وهكذا يجد لنكولن نفسه في شدة ما مثلها شدة؛ فهو بين أن يجاري الرأي العام، وبذلك يجر على ~~البلاد حربا خارجية طاحنة تأتي مع الحرب الداخلية القائمة في وقت واحد؛ أو يطلق الرسولين ~~ويقضي على أسباب الخلاف بينه وبين إنجلترة؛ وبذلك يجنب البلاد خطرا محدقا، وإن تعرض بعدها ~~للوم اللائمين وسخط الساطين واتهامات المبطلين. # ولكنه لنكولن الذي لا يعرف الخور والذي لا يطيش في الملمات صوابه، إنه الرجل الذي تزداد ~~عزيمته مضاء بقدر ما تزداد الحادثات عنفا وخطرا، والذي تزداد قناته صلابة كلما ازدادت ~~الخطوب فداحة والأعباء ثقلا واستفحالا. # عقد أبراهام مجلس وزرائه وأخذ يناقش الأعضاء ويناقشونه، وهو من أول الأمر لا يؤمن بعدالة ~~ما فعله ولكس، وبعد جهد استطاع أن يحمل المجلس على قبول رأيه، ثم أعلن بعدها في شجاعة وحزم ~~إطلاق الرسولين! وأجاب على إنذار الحكومة الإنجليزية برسالة متينة، جاءت دليلا قويا على ~~حكمته وبعد نظره، رسالة احتفظ فيها بكرامة بلاده وعزة قومه، وجنبها بها في الوقت نفسه خطرا ~~ما كان أغناها عنه يومئذ. # ذكر لنكولن في رده على الحكومة الإنجليزية أنه إنما يعتذر عما حدث لأنه يتنافى مع مبادئ ~~أمريكا نفسها، ولئن كان ما فعله ولكس عدوانا، فإن حمل إنجلترة رسولين من الجنوبيين في ~~سفينة من سفنها عمل فيه معنى العدوان؛ وذلك لأنه خروج على مبادئ الحياد. # وما كان لإنجلترة أمام هذا المنطق القوي وهذا العمل المنطوي على الشجاعة والكياسة، إلا أن ~~تبدي ارتياحها، وإن كانت لتخفي غيظها من إفلات الفرصة التي كانت تؤدي بها إلى محاربة ~~الولايات الشمالية، وقلما واتت إنجلترة فرصة لتعكير المياه إلا عكرتها؛ لأنها تحسن الصيد في ~~الماء العكر. # ولكن الرئيس لقي في بلاده من السخط والاستياء ما لم يكن يقوى على مواجهته غيره، ولو كان ~~في مكانه غيره لخيف على مكانته في ms295 القلوب أن تتزعزع؛ فلقد أخذ يرتاب فيه حتى أشد أنصاره ~~تحمسا له، أما المبطلون فقد وجدوا فرصة يصفون فيها عمله بالجبن والخور. # ولكنه بينه وبين نفسه يعتقد أنه أسدى صنيعا إلى قومه لا يدركه إلا العقلاء، الذين لا ~~يجعلون للعواطف في كل وقت سلطانا على أعمالهم. قال مرة يرد على الساخطين: «لقد حاربنا ~~بريطانيا العظمى مرة لأنها فعلت عين ما فعله الكابتن ولكس، فإذا ما رأينا إنجلترة تحتج على ~~هذا الفعل وتطلب إخلاء سبيل الرسولين، فواجبنا ألا نخرج على مبادئنا التي ترجع إلى عام ~~1812، يجب أن نطلق هذين السجينين وحسبنا حربا واحدة في وقت واحد.» # ومضى الرئيس بعدها يؤدي للإنسانية وللوطن رسالته، وإننا لنرى هذا الجبار الذي درج من بين ~~الأحراج والأدغال يحمل العبء وحده في الواقع، بل إنه كما ذكرنا ليلاقي مما يفعل كثيرا من ~~أكابر رجاله أعباء تضاف إلى أعبائه، ولكنه معود حمل الأعباء ومواجهة الأنواء. # وإنه ليسأل نفسه: ألم يأن لهؤلاء الرجال أن يعملوا كما تحتم الظروف؟ وماذا كان يضير ~~فريمونت لو أنه رجع إليه؟ ثم ماذا كان يضير ماكليلان لو أنه خفض جناحه وألان جانبه وأخذ ~~الأمور بالشورى؟ # على أن العاصفة لا تهدأ في جهة إلا لتنبعث من جهة أخرى؛ فها هو ذا قائد آخر يفعل مثل ما ~~فعل فريمونت أو أشد منه، وذلك هو هنتر الذي كانت له القيادة في كارولينا الجنوبية. # كان هنتر أكثر جرأة من فريمونت أو على الأصح أكثر نزقا، فلقد أعلن أن العبيد في فرجينيا ~~وفلوريدا وكارولينا الجنوبية أحرار بعد اليوم إلى الأبد. # وهال الرئيس هذه الخطوة البالغة الجرأة، فلم يسعه إلا أن يعجل بنقض هذا القرار في غير ~~مجاملة أو هوادة؛ فلقد كان هنتر خليقا أن يعتبر بما كان من أمر صاحبه فريمونت. وكان مما ~~أعلنه الرئيس قوله: «إن حكومة الولايات المتحدة لم تمنح القائد هنتر، ولا أي قائد أو شخص ~~سواه، من السلطان ما يعلن معه تحرير العبيد في أية ولاية من الولايات، وإن هذا الإعلان ~~المزعوم سواء أكان ms296 حقيقيا أم زائفا، هو إعلان باطل.» # ولكن الرئيس لا يكاد ينتهي من نزق إلا ليواجه نزقا غيره، وما يذكر ابن الغابة أنه شهد في ~~مجاهل الأرض، حيث نبت ونما، عاصفة متعددة نواحي الهبوب كهذه العاصفة التي يواجهها، فها هي ~~ذي تنذر بهبة جديدة؛ وذلك أن وزير حربيته نفسه، كامرون، يرسل رسالة إلى بعض الضباط شبيهة ~~بما أعلن فريمونت وصاحبه هنتر! ولولا أن تدارك الرئيس الأمر لأحدثت من سوء الأثر ما يصعب ~~بعد علاجه، فلقد أبرق إلى مكاتب البريد لترد نسخ تلك الرسالة المطبوعة، وحال بذلك دون ~~وصولها إلى وجهاتها. # ألا ليت هؤلاء يفطنون إلى أن رئيسهم أشد عداوة منهم للرق، وأنه يتمنى بينه وبين نفسه لو ~~قضى عليه بكلمة يحبسها في نفسه، وأنه لأكثر منهم تحرقا إلى ساعة إعلانها. # | الربان # بدأ العام الجديد؛ أي عام 1862، وقد مضى على قيام الحرب نحو ثمانية أشهر ولا يزال ~~ماكليلان حيث هو لا يعمل أكثر من تدريب جنده، ولا ينفك يطلب فرقا جديدة، وقد بلغ السأم ~~بالرئيس وبالناس كل مبلغ من تردده وتلكؤه، ولكن الناس لا يزالون يعلقون عليه أكبر ~~الآمال. # وحق لأهل الولايات الشمالية أن يضيقوا بهذا الركود، ولولا أن جاءتهم أنباء بشيء من ~~التوفيق صادفه أحد قوادهم، وهو القائد جرانت في جنوبي كنطكي، لأوبق أرواحهم هذا الركود؛ فقد ~~استطاع هذا القائد - الذي سوف يلتمع اسمه شيئا فشيئا حتى يصبح بطل هذه الحرب - أن يأخذ ~~عنوة حصنين من حصون الجنوبيين، وأن يرغمهم على التراجع في شهر فبراير. # ولما أن يئس الرئيس من ماكليلان، رأى أن الموقف يقضي عليه أن يدرس فنون الحرب والتعبئة! ~~أليس هو بحكم مركزه القائد الأعلى للقوات البرية والبحرية؟ وإذن فعليه أن يتعلم فن الحرب ~~اليوم كما تعلم مسح الأرض من قبل وتخطيطها، وكما تعلم القانون حتى حذقه، بل كما تعلم ~~القراءة والكتابة قبل ذلك جميعا وهو يشق الأخشاب في مطارح الغابة. # شمر الرئيس عن ساعده وراح يدرس ويتعلم لا يني ولا يكل ساعات طويلة من النهار وساعات من ~~الليل ms297 . الخريطة مبسوطة أمامه، ومعلموه الحربيون يتناوبون تعليمه الواحد بعد الآخر حتى فهم ~~بعض الفهم وأصبح له شيء من الرأي! يا عجبا لهذا العبقري الجبار الذي يحمل فوق كتفيه ما كان ~~ينوء بحمله أطلس أو آخيل. # واستطاع الرئيس بعد زمن أن يدلي للقواد برأي في فنهم، ولكنه كان حذرا يعرض الفكرة ويترك ~~القطع للقائد الذي أرسلت إليه. ولقد كتب ذات مرة إلى أحدهم برأيه ثم شدد عليه ألا يتقيد به، ~~قائلا إنه يلومه أكبر اللوم إن تحيز له أو تردد في العمل بما تمليه عليه خبرته إذا كان ذلك ~~الرأي لا يتفق وهذه الخبرة. # على أنه يكتب لماكليلان نفسه ذات مرة يشير عليه بما يجب أن يعمل في خطة رسمها على أساس من ~~الفن، ولما رد ماكليلان عليه برفض تلك الخطة لم يقره الرئيس، وعاد فكتب إليه يسأله أسئلة ~~تدل على فهم دقيق وإلمام شامل، ودعاه إلى أن يجيب على تلك الأسئلة الفنية إجابة صريحة ~~نزيهة، وهو مستعد بعدها أن يقره، ثم تحاكما إلى أخصائيين، فما زال الرئيس يدلي لهم بحججه ~~ويريهم أن خطته أضمن وأسلم من خطة القائد ماكليلان، ولكنهم آخر الأمر أقروا خطة القائد، ولم ~~يسع الرئيس إلا أن يذعن وإن كان لا يزال يرى وجاهة آرائه. # وتعجب ماكليلان وتعجب الناس معه من هذا المحامي الذي يدلي برأي في الخطط الحربية، كأنه من ~~أصحاب الحرب وممن لهم بفنونها خبرة، وما عرف عنه أنه شهد حربا من قبل، اللهم خلا تلك ~~المعركة الصغيرة التي اشترك فيها وهو في صدر شبابه ضد الصقر الأسود. # ولكن الذين يؤمنون بسر العبقرية لم يروا في الأمر عجبا، وكذلك كان الذين تربطهم بالرئيس ~~صلة من كثب، والذين رأوا رجاحة عقله وسلامة منطقه وقوة لقانته. ومن ذا الذي يقول إن الكتب ~~هي التي أوحت إلى نوابغ العالم في شتى مناحي الحياة ما أتوا به من المعجزات؟ إنما يسير ~~هؤلاء على نهج من فطرتهم وعلى هدي من نور عبقريتهم. # وهل التوت الأمور على ذلك الرجل في السياسة ms298 ولم تكن له بأسبابها من قبل صلة؟ أولم ~~يحمل الذين أشفقوا أول الأمر من رياسته على الإعجاب به ثم على محبته والإجلال له؟ وإذا كان ~~هذا شأنه في السياسة ولم يتعلمها، فلم لا يكون كذلك في أمور الحرب، وقد استعان بالأخصائيين ~~في تعرف مداخلها بادئ الرأي؟ # أخذت الأزمة تشتد في الميادين، وذلك بتوالي الهزائم على أهل الشمال؛ إذ كان هؤلاء ينقصهم ~~القادة القادرون، ولولا أن كان لهم لنكولن في كرسي الرياسة يومئذ لحاق بهم الفناء، ولقد شهد ~~الذين تتبعوا أطوار هذه الحرب حتى نهايتها أن النصر فيها كان مرده إلى شخص الرئيس وقوة ~~يقينه، فلقد كان وحده جيشا مغالبا، وكان وهو رجل أمته وحده أمة في رجل! # وظل ماكليلان على حاله يدرب جنده ويطلب المزيد من الفرق، والرئيس صابر لا ينفد صبره وإن ~~أوشك أن ينفد صبر الناس، فلقد باتوا جميعا يستعجلونه بالزحف على رتشمند عاصمة ~~الجنوبيين. # ومع أن الرئيس أمره بهذا الزحف في نهاية شهر يناير سنة 1862؛ أي بعد نحو تسعة أشهر منذ ~~بدأت الحرب، فإنه لبث في مكانه حتى شهر مارس، ثم أخذ يتحرك ولكن في حذر وبطء؛ مما دعا ~~الرئيس أن يطلب إلى وزير الحرب أن يستحثه؛ لأنه أوشك أن ينفد صبره عليه، ولكن ما كان أعظم ~~دهشتهما إذ كتب إليهما ذلك القائد يطلب المزيد من الرجال؛ لأن العدو متكاثر أمامه! ~~••• # وفي مثل هاتيك الظروف التي كانت تتطلب من الرئيس ما أشرنا إليه من صبر وجهد، يأبى القدر ~~إلا أن يصوب إليه سهما يصمي مهجته، ويوشك أن يذهب بلبه ويزعزع فؤاده؛ فلقد غالت المنية ~~ابنه ولي، ولقد كان مع أخيه يواسيان الجند في مستشفى من مستشفيات الحرب، فسرت إليهما ~~العدوى ولم يقو الصغير على المرض فذوى كما تذوي الريحانة الغضة. # الرئيس الحزين. # لقد ارتاع الرئيس ووهى جلده أمام هذه المصيبة، ورأى الناس ذلك الجبل الشامخ يتمايل ~~ويتخاذل من الوهن ولا يستطيع أن يخفي عن الناس جزعه وحزنه، وإنه ليجهش كما يجهش الصبي وفي ~~عينيه حزن وحسرة وفي ms299 وجهه كدرة وصفرة. قال لمن حوله ذات مرة: «لقد أذهلتني هذه الضربة، ولقد ~~أطلعتني على ضعفي في صورة لم أر مثلها من قبل.» وقال لصديق له بعد ذلك: «ألم تر في منامك ~~ذات مرة صديقا عزيزا عليك، وشعرت أنك تنعم بلقاء حلو مع هذا الصديق، في حين أنه كان يمازج ~~شعورك هذا شعور آخر حزين بأن ذلك اللقاء لم يكن حقيقة؟ ... هذا يا صاحبي هو حالي، فعلى هذه ~~الصورة أحلم بلقاء ولدي ولي.» وعلم من الممرضة أنها فقدت زوجها وولديها، فسألها هذا الطود ~~الذي يحمل أعباء قومه كيف تحملت هاتيك المصائب؟ فأجابته أنها تحملت ضربات الدهر ضربة ضربة، ~~وأنها تثق في رحمة الله، فمنه تستمد العزاء والسلوان ... وهنا يجيبها الرجل العظيم الشديد ~~البأس إنه سيحاول أن يتعلم منها الصبر، وأنه لم ييأس من رحمة الله، وأن الله سوف يهبه ~~العزاء، ثم يردف قائلا: «أتمنى لو كان لي مثل إيمان الأطفال، هذا الإيمان الذي تتحدثين ~~عنه، وسوف يمدني الله به.» ويعود فيعبر عن مبلغ حزنه بقوله: «إنها أعظم محنة لاقيتها في ~~حياتي. لم كان هذا؟! ... لم كان هذا ...؟!» ~~••• # أجاب الرئيس ماكليلان إلى ما طلب وأمده بالرجال؛ لكيلا يكون للقائد حجة عليه، فلقد كان ~~يشيع في الناس من أول الأمر أن عدم تحرك القائد إنما يرجع إلى أن الحكومة تضن عليه بالمال ~~والرجال. ولقد كتب إليه الرئيس كتابا كان مما جاء فيه قوله: «أحسب أن القوات التي سيرت ~~إليك قد بلغتك، وإذا كان الأمر كذلك فإنك الآن في الوقت الذي ينبغي أن تضرب فيه ضربة، إن ~~العدو يكسب بتأخرك.» # ولم يسع القائد إلا أن يصرح في رسالة له أنه واثق بعد ذلك من النتيجة، وأنه آخذ من فوره ~~في الزحف، ولكنه في الوقت نفسه راح يشتكي من المطر الهطال والمسالك الوعرة، فكان هذا جهد ما ~~فعل. # ولم ير الرئيس بدا من أن يبرق إليه في الخامس والعشرين من مايو يقول: «أظن أنه قد أزف ~~الوقت لكي تهاجم رتشمند، أو تدع هذا العمل ms300 جانبا وتأتي للدفاع عن وشنطون نفسها.» # وكأنما أراد ماكليلان في ذلك الوقت أن يكيد للرئيس، أو كأنما أراد أن يخلق مشاكل جديدة ~~يتخذ منها علة لهذا الجمود، فكتب إليه ينتقد الموقف الحربي كله في جميع الميادين، بل إنه لم ~~يقتصر على شئون الحرب فراح ينتقد الحكومة في جميع شئونها. # وتقدم القائد بعد ذلك إلى رتشمند تقدما بطيئا وذلك في شهر يونيو، وكان معه من الرجال ~~والعتاد ما كان حريا أن يكسب به معركة كبرى كما أجمع النقدة فيما بعد، ولكن نابليون ~~الجديد ما كاد يتصل بطلائع الجنوبيين حتى أزمع الارتداد بعد سبعة أيام في قتال غير شديد، ~~ولقد هيأ بهذا التردد للجنوبيين أن يرسلوا المدد إلى جيش لهم كان في طريقه إلى وشنطون يريد ~~تهديدها. # وتلقى وزير الحرب من ماكليلان رسالة فيها دليل يأسه وحيرته، قال: «لو أتيح لي عشرة آلاف ~~أخرى لاستطعت أن أكسب معركة كبيرة في غد. ينبغي ألا تعدني الحكومة مسئولا، وإنها لن ~~تستطيع ذلك. إذا أنا نجيت هذا الجيش فإني أقول لك في بساطة إني في ذلك لن أدين لك بشيء من ~~الشكر، لا ولا لأي شخص في وشنطون، فلقد بذلتم قصارى جهدكم في تضحيته.» # وكان قائد الثوار الكبير، لي، في ذلك الوقت يزحف على وشنطون، وكان على الدفاع عنها بوب ~~أحد قواد الشمال ومعه ثمانية وثلاثون ألفا من الرجال، ولكن جيش لي كان أكثر عددا وأشد ~~بأسا، وتبين أن خير وسيلة لرد لي عن وجهته أن يبادر ماكليلان بالزحف على رتشمند، لا أن ~~يتباطأ ويتراجع كما فعل. # ولما يئس الرئيس منه في هذا السبيل عاد فأرسل إليه يدعوه لحماية العاصمة، وهو لا يدعوه في ~~لهجة الأمر كما كان عسيا أن يفعل غيره من الرؤساء، مخافة أن يغضب القائد في هذا الوقت ~~العصيب، والناس يعجبون من تردد ماكليلان بقدر ما يعجبون من ضبط الرئيس نفسه على هذه الصورة، ~~وطول صبره في موقف لو طاش فيه حلم الحليم لكان له عن طيشه العذر كل العذر، ولن يفوت ms301 الرئيس ~~أن يضحك ليهون الأمر على نفسه وعلى الناس، فيقول ذات مرة لمن حوله: «إذا لم يكن القائد ~~ماكليلان في حاجة إلى جيش بوتوماك، فإني أرجو منه أن يعيرني إياه فترة من الزمن.» # ورد ماكليلان على الرئيس بقوله إنه سوف يجيبه إلى ما طلب «إذا رأى الظروف تسمح به»، وكان ~~ذلك في شهر أغسطس. # وعاد الرئيس فكتب يطلب إليه القدوم بكل ما في وسعه من سرعة. وأوفد إليه القائد هاليك ~~يستحثه، ولكنه لم يأبه لذلك كله، ولم يصل إلا بعد قرابة شهر من هذه الدعوة. # وكان أمرا طبيعيا أن تنزل الهزيمة بالقائد بوب، وأن تبيت وشنطون معرضة للسقوط، ولقد ~~عاود الذعر هذه المدينة على نحو ما حدث غداة الهزيمة في معركة بول رن، بل لقد كان الموقف ~~يومئذ أشد هولا؛ إذ اختلفت وجهات النظر في مجلس الوزراء، واحتدم الجدل في المجلس التشريعي، ~~وارتفعت الأصوات بطلب عقد الصلح مع الجنوبيين، الأمر الذي خيف منه أن يؤدي إلى انحلال ~~العزائم. # ولكن لنكولن وحده بقي على عزمه وثباته، يعالج الموقف بالصبر والحزم، ويهيب بالرجال ألا ~~يتخاذلوا وينكصوا على أعقابهم. # ولقد كان للناس من هذا الصبر وهذا الثبات مثل ما يكون من النصر في معركة، وبذلك قل فزعهم ~~وعادت الثقة إلى نفوسهم ووقفوا إلى جانب رجلهم. # ثم إن الرئيس ضم عددا من الجيوش بعضها إلى بعض، وجعل منها جيشا جديدا وضعه تحت قيادة ~~ماكليلان، وطلب إليه أن يقابل لي بهذا العدد الهائل الذي زاد عن مائتي ألف، ولكن ماكليلان ~~لم يفعل، فأصاب أهل الشمال هزائم أخرى في أكثر من جهة. # ولقد كانت هذه السنة الثانية للحرب أسوأ الأيام التي مرت بالرئيس في حياته كلها، وأي شيء ~~أكثر سوءا من الهزيمة والخذلان؟ وإن الرئيس ليخشى أن تنحل العزائم وتخور القوى، وبخاصة حين ~~أحس الناس أن الحرب لا بد أن يطول أمدها ويشتد سعيرها، وها هو ذا تهامس الأمهات بدأ يصل إلى ~~مسمعيه، وليته كان تهامس الأمهات فحسب، فإن كثيرا من الرجال قد أخذوا يبدون تململهم ms302 ~~وتذمرهم، ويعلنون عن رغبتهم في وضع حد لهذه المحنة القومية. # وكان مما يكرب الرئيس ويوجع نفسه أن كثيرا من الناس كانوا يلومونه ويردون سبب الهزائم ~~إليه، ويغفلون عما كان يفعل قواده وبخاصة ماكليلان، ذلك الذي كانت محبته والثقة به من أخطاء ~~الجماعات وأوهامها. # رجحت كفة الجنوبيين في البر ولكنهم في البحر كانوا أذلة، وذلك أنهم لم يكن لهم مثل ما كان ~~للشماليين من الجاريات المواخر فيه، ولقد استطاع أحد القواد البحريين، وهو فراجت، أن يسير ~~في أبريل بسفنه إلى نيو أورليانز فيصليها من ناره ويأخذها عنوة، وكان انتصاره هذا وإذلاله ~~أهل الجنوب على هذا النحو، مما خفف على الشماليين بعض ما راحوا يلاقونه في البر من هوان ~~وذلة. ولسوف تكون هذه القوة البحرية في النهاية عاملا من أهم عوامل النصر، الأمر الذي لم ~~يفطن إليه أهل الجنوب إلا بعد فوات الفرصة. # وظل الرئيس لنكولن في محنة قومه ثبت الجنان حتى لتتزعزع الجبال ولا يتزعزع، ولكنه كان مع ~~ذلك رءوفا عطوفا يكره الحرب ويتألم منها أكثر مما يتألم الناس جميعا، ويتمنى أكثر مما ~~يتمنى غيره أن تضع أوزارها في أقرب وقت؛ ولذلك كان ينكر على المتشددين تشددهم ولا يقر أحدا ~~على قسوة أو يطاوعه في صرامة، فإذا أنس الرئيس من محدثه غلظة على العدو تجهم وأشاح عنه، في ~~حين أنه كان يقبل على من يطلب إليه اللين والمغفرة، وهو يقول له وللناس جميعا إنه يمقت تلك ~~الحرب من أعماق قلبه، وإنه ما دخلها إلا وهو موقن أنه شر لا بد منه، وما أراد بها إلا أن ~~تكون علاجا لمعضلة باتت تهدد كيان بلاده، أما أن تكون انتقاما وعلوا في الأرض ~~واستكبارا، فليس هو من ذلك في شيء. # وكثيرا ما كان يصدر من الأوامر ما يتعجب منه القواد ولا يشايعونه فيه وإن نفذوا ما يأمر ~~به. قدموا إليه في تلك الأيام ورقة بشأن شاب كانت عليه الحراسة ووجد نائما في الخطوط، ~~ليوقع عليها بإعدامه حسب قوانين الحرب، فنظر الرئيس في الورقة مليا ms303 ثم أمر فأحضر ذلك ~~الشاب، وكان اسمه وليم سكت، ونظر إليه الرئيس وقال له: «لن ينجيك إلا الصدق فقل الحق، هل ~~نمت في الخطوط؟ وما سبب نومك؟» فقال الفتى: «أجل نمت أيها الرئيس، فلم تكن على النوبة تلك ~~الليلة، ولكني وجدت صاحب النوبة ينتفض من الحمى، وهو من بلد قريب إلى بلدي، فحملت السلاح ~~عنه لأحرس الخطوط، فغلبني النوم، وقد كانت علي النوبة الليلة السالفة فقضيتها ساهرا، وعلى ~~ذلك فلم أستطع السهر ليلتين متتاليتين.» وسأله الرئيس عن بلده وعن بلد صاحبه، فعرف البلدين ~~وذكر طوافه بهما أيام كان يعمل في البريد، ثم سأل الرئيس القواد عن بعض ما جاء في كلام ~~وليم، وأمسك القلم فصاح به الفتى: «من فضلك ... من فضلك أيها الرئيس لا تقتلني ... لا تقلتني.» ~~فنظر إليه الرئيس وقال: «لن أقتلك وإنما أرسلك إلى الخطوط لتجاهد مع المجاهدين.» ونظر الفتى ~~إلى الرئيس والدموع في مقلتيه، فقال له لنكولن: «ولكني أتقاضاك دينا على هذا، فماذا تصنع ~~لسداد هذا الدين؟» فاضطرب الفتى ولم يفطن إلى ما يريد الرئيس، ثم قال في تلعثم وارتباك: ~~«لست أدري ما إذا كان لدينا ما يكفي من المال لأداء هذا الدين، فنحن فقراء، على أن لدينا ~~قليلا منه اقتصدناه، ويستطيع أبي أن يبيع مزرعته، وربما مد إلينا الأصدقاء يد العون، فنجمع ~~بذلك ألفين أو ثلاثة آلاف من الفرنكات، فإذا انتظرت ...» وضحك الرئيس، وزاد عطفه على هذا ~~الفتى، ولم يتكره له لجهله أو ينهره على غباوته، وقال له في رفق: «كلا يا بني، فإن ديني ~~عظيم وليس أداؤه في طوق أسرتك ولا مزرعتك ولا أصحابك، وإنما هناك شخص واحد يملك أن يؤدي هذا ~~الدين، وذلك هو وليم سكت، فإذا أدى وليم واجبه على خير ما يؤدي الجندي واجبه، واستطاع عند ~~موته أن يقول «لقد وفيت بوعدي للرئيس لنكولن»، فعند ذاك يؤدي ما عليه من دين.» وأدى الفتى ~~التحية ومضى إلى الخطوط، واحتج القواد، فقال الرئيس مغضبا: «أيكون جزاء مروءته الإعدام؟ ~~إني لا جلد لي أن أفكر ms304 أنني ألقى الله ودم هذا الشاب المسكين على يدي.» وهكذا يأبى الرئيس ~~أن يتقيد بقوانين الحرب، وما يستمد قوانينه إلا من قواعد الإنسانية. # لنكولن وماكليلان. # ونظر الرئيس بعد ذلك بأيام في أسماء القتلى فوقعت عيناه على اسم وليم سكت، فاكفهر وجهه ~~وسأل كيف مات، فأخبر أنه كان يهجم هجوما شديدا على العدو بهر القواد جميعا، وما زال في ~~هجومه حتى صرعته رصاصة، ووجد أصحابه ورقة علقها على صدره، وقد كتب عليها «ليحمي الله الرئيس ~~أبراهام لنكولن»، وما سمع الرئيس حتى ذلك أسرع إلى حجرة قريبة، ودخل عليه بعض قواده بعد حين ~~فوجدوه يبكي! # وعفا الرئيس مرة أخرى عن ضابط تأخر عن المعركة لأنه ذهب للقاء خطيبته، ولما احتج القواد ~~قال لهم الرئيس ضاحكا، عفوت عنه لأني أفعل فعله لو كنت في مثل سنه! # وحمل إليه البريد فيما حمل من الكتب كتابا من سيدة تقول إنها أرسلت إلى ابنها كتبا ~~كثيرة فلم يرد عليها، فإن يكن مات ففي سبيل وطنه، وإن كان لا يزال حيا فإنها تحب أن يكتب ~~إليها، وإنها لتلجأ إلى الرئيس؛ إذ لم تبق لديها حيلة، وشكت الأم من غلظة ابنها إن كان ~~حيا، وشرحت للرئيس كيف ربته بعد موت أبيه حتى تخرج ضابطا في المدرسة الحربية. # والرئيس خير من يدرك بقلبه الإنساني الكبير كيف تكون حال أم في هذا الموقف، فأرسل إلى ~~قائد الفرقة التي حددتها الأم في كتابها يأمر بإرسال هذا الضابط إلى البيت الأبيض في غير ~~إبطاء، ولما حضر الفتى أدخلوه على الرئيس فحيا ووقف أمام مكتبه دهشا، فقال له الرئيس في ~~شيء من العنف: «قص علي يا فتى كيف تعلمت بعد وفاة أبيك ولا تخف عني شيئا إن كنت من ~~الصادقين.» فقص الفتى عليه قصته كما جاءت في كتاب أمه، وقاطعه الرئيس يصحح له واقعة فقال: ~~«وماذا بعتم أيضا غير متاع البيت، وكان بيعه شديدا على نفس أمك؟» وتفكر الفتى وقال في ~~شيء من الخجل: «بعنا ساعة أبي.» ونظر الرئيس إليه بعد أن فرغ ms305 من قصته، ثم قال: «هل جاءتك في ~~الصفوف كتب من أمك؟» وقال الفتى: «أجل جاءتني.» وتكره له الرئيس وعبس ووضع يديه على جانبي ~~صدره تحت ياقة حلته - وهي عادته حين يغضب - وقال: «أيكون جزاء أمك على ما فعلت هذا العقوق ~~فلا ترد على كتبها؟» وأراد الفتى أن يعتذر فقاطعه الرئيس قائلا: «اجلس على هذا الكرسي.» ~~وناوله بيده ورقة لمح الفتى في زاويتها العليا كلمة البيت الأبيض، مكتب الرئيس، وأعطاه ~~الرئيس ريشته ومحبرته وقال له: «اكتب كتابا لأمك.» ومشى الرئيس إلى النافذة فأطل منها وهو ~~يردد شعرا لشكسبير أوله: «اعصفي يا ريح الغرب الهوجاء فلست أقسى من قلب منكر ...» وتناول ~~الرئيس الكتاب فأعطاه إلى من يلقيه بالبريد، وقال للضابط: «كن بارا بأمك لتكون بارا ~~بوطنك.» ولم يشأ أن يظل عنيفا عليه وهو يحارب من أجل قضية البلاد، فربت على كتفه في رفق ~~وهو يصرفه. # ولقد كان أبراهام يتلقى الأنباء عن عدد القتلى والجرحى وهو أكثر الناس إشفاقا وجزعا، ~~ولقد كان يسأل عن عدد من صرع من الفريقين المتحاربين لا من أهل الشمال فحسب، فيحزن لهؤلاء ~~وهؤلاء جميعا كأبناء أمة واحدة. # وكثيرا ما كان يذرف الرئيس الدمع على ما يصيب رجاله في تلك الحرب الهائلة. ذهب ذات مرة ~~إلى مقر أحد الجيوش فعلم بموت صديق له كان من جلسائه في سبرنجفيلد، فأسرع إلى العودة ~~مضطربا ويداه على صدره كأنما يمسكه أن يتصدع، وعيناه تفيضان، وعلى وجهه شحوب وكدرة، وإنه ~~ليسير بين الجنود لا يلتفت إلى تحياتهم فلا يردها من شدة الغم، وتكاد لا تقوى على حمله ~~رجلاه. # وكان لا يفتأ يقرأ شكسبير، ففي مآسيه صدى لنفسه الحزينة وعزاء لها، على أن عينيه تقعان ~~ذات مرة على تساؤل أم ولهى في إحدى هذه المآسي تقول: «لقد سمعتك أيها الأب الكاردينال ~~تذكر أننا سنرى أصدقاءنا في السماء ونعرفهم، ولئن كان هذا حقا فلسوف أرى ابني ثانية ...» ~~فانظر إلى هذا الرجل القوي يضع الكتاب ويكب بوجهه على كفيه فيملؤهما من روافد دمعه. # ذلك هو الربان ms306 الذي قدر أن يكتوي فؤاده بنار هذه الحرب الطاحنة، وإنه ليحس كل ضربة أو ~~طعنة فيها موجهة إليه قبل غيره، ولكن من كان يقوى غيره على حمل هذه الأهوال والصبر على ~~مكاره هذا النضال؟ # | المحرر! # في هذه السنة الثانية للقتال؛ أي سنة 1862، بينما كانت الحرب تتأجج نارها ويتفجر بركانها، ~~وتتوثب في البر والبحر شياطينها، اشتدت الدعوة إلى حل معضلة الرق، وارتفعت الأصوات من كل ~~جانب بوجوب إعلان قرار التحرير، ونشطت الصحف والمجلات تطالب الرئيس أن يخطو هذه الخطوة، ~~وانهالت على الرئيس الكتب يحبذ فيها أصحابها أن يقطع العقدة فذلك أيسر من حلها. # ووقع الرئيس على كلمة عظم تأثيرها في نفسه وتدبر فيها طويلا، وهي قول أحد الكتاب ~~المؤرخين: «إن هذه الحرب الأهلية هي الأداة التي سخرها الله لاقتلاع جذور العبودية، وإن ~~أعقابنا لن يرضون عن نتيجتها إلا إذا كان مما تحدثه الحرب ازدياد عدد الولايات الحرة، هذا ~~ما يتوقعه الجميع، وهذا هو الأمل الذي تنشده جميع الأحزاب.» # وكتب جريلي في صحيفته نيويورك تريبيون يدعو الرئيس إلى العمل، وكانت عبارته صارمة أخذ ~~فيها على الرئيس تردده، واختتمها في لهجة أقرب إلى الأمر منها إلى الرجاء أن يعلن تحرير ~~العبيد. # وأرجف المرجفون أن نابليون الثالث سوف يتدخل إلى جانب الجنوبيين، فإذا أعلن التحرير ~~اكتسبت قضية الشماليين معنى يقدره أحرار أوروبا، وبهذا يحجم نابليون عن التدخل. # والرئيس يتدبر في هذا كله، ولكن المحافظة على الاتحاد ما زالت عنده أساس هذا الصراع ~~القائم، ولو كانت جيوشه ظافرة لجازله على أن يقدم على هذا العمل، فكيف والفشل يلاحق ~~الشماليين في كل جهة وماكليلان في موضعه لا يريد أن يتحرك؟ # لذلك يؤثر الرئيس التريث والصبر، وكان يقول في نفسه دائما منذ أوائل تلك السنة الثانية: ~~«ألا ليت ماكليلان يخطو خطوة نحو النصر ...» وكلما اشتدت الدعوة إلى التحرير اشتد تألم الرئيس ~~من هذا القائد، الذي لا يريد أن يعمل شيئا إلا أن يطلب المزيد من الجند كما بينا. # وعجب الناس أن رأوا الرئيس يرد بنفسه على جريلي ms307 ، وذلك في صحيفته، ومما جاء في رد الرئيس ~~قوله: «إذا كان في الناس من لا يحافظون على الوحدة إلا أن يحافظوا على الرق، فإني لست منهم، ~~وإذا كان في الناس من لا يحافظون على الوحدة إلا أن يقضوا على الرق، فإني لست منهم؛ إن غرضي ~~الأسمى هو أن أحفظ بناء الاتحاد وليس هو أن أحفظ العبودية أو أن أقضي عليها ... فإذا تسنى لي ~~أن أنقذ الاتحاد دون أن أحرر عبدا واحدا فعلت ذلك، وإذا كان في وسعي أن أنقذه بتحرير جميع ~~العبيد فعلت ذلك ... وإذا استطعت أن أحافظ عليه بتحرير بعض العبيد وترك البعض فعلت ذلك ~~أيضا.» # الحق أن الرئيس لم يغفل يوما عن مسألة العبيد، ولم ينس ذلك النظام المنكر البغيض الذي ~~نشأ على مقته وازدرائه، والذي طالما تمنى أن تنجو البلاد من آثامه، ولكنه كان يحرص ألا تفسد ~~مسألة العبيد عليه قضية الحرب. # ولم يهمل الرئيس مسألة الرق كل الإهمال، وإنما سار فيها بقدر؛ ففي أوائل تلك السنة ~~الثانية للحرب أرسل في السادس من شهر مارس إلى الكونجرس مقترحا، مؤداه أن يصدر ذلك المجلس ~~قرارا به تعوض الولايات التي تقضي على الرق فيها تعويضا ماديا عادلا. وأصدر المجلس هذا ~~القرار ولكن الولايات المحايدة عارضته ورفضته، وهي المقصودة به قبل غيرها. ودعا الرئيس ~~ممثليها وحاول إقناعهم، ولكنهم لم يقتنعوا فمنيت الفكرة بالفشل، ولم يفد الرئيس إلا تعرضه ~~لنقد هذه الولايات ولومها، ثم للوم دعاة التحرير من جهة أخرى؛ لأنهم رأوا في الفكرة ترددا ~~وتقاعدا، وهم لا يقنعون بأقل من التحرير الكامل في غير تراجع أو تحفظ. # وفي شهر أبريل أصدر الكونجرس قرارا بتحرير العبيد في العاصمة وما حولها، ولما وقع لنكولن ~~على هذا القرار قال: «عندما تقدمت باقتراح إلى الكونجرس سنة 1849 للقضاء على الرق في هذه ~~العاصمة، ولم أكد أجد من يستمع إلى ذلك الاقتراح، لم أكن أحلم أنه سوف يتحقق بهذه ~~السرعة.» # ودعا الرئيس ممثلي الولايات المحايدة إلى مؤتمر في آخر يوليو، وحاول أن يقنعهم بقبول ~~التعويض، ولكنهم ms308 أعرضوا عنه وأصروا على عنادهم. # وظلت الدعوة إلى التحرير تشتد يوما بعد يوم، وظل الرئيس يتدبر ويقلب الأمر على وجوهه. ~~ولقد كان من أجل مواهبه كما ذكرنا أنه كان يتبين الأمور على حقيقتها، مهما التوت عليه ~~سبلها واختلطت وشائجها، ثم يسدد خطاه على هدى مما يرى دون أن تفوته صغيرة أو كبيرة مما تقع ~~عليه عيناه. # كان يخشى الرئيس أن يغضب التحرير الشامل العاجل الولايات المحايدة فتنضم إلى الاتحاد ~~الجنوبي، وكان يعد ذلك والحرب قائمة كارثة عظيمة. ثم إنه يخشى أن يتهم أنه ما أثار هذه ~~الحرب الضروس إلا من أجل القضاء على الرق مع أن الدستور يقره، وهو لم يخض غمار هذه الحرب ~~إلا للمحافظة على الاتحاد. # وإذا أقدم الرئيس على التحرير خرج بذلك على الدستور وهو الحريص على مبادئه، العامل منذ ~~اشتغاله بالسياسة على المحافظة عليه وتقديسه. # ولكن الرئيس يرى للمسألة وجوها أخرى، فالتحرير في ذاته هو العمل الإنساني الجليل الذي ~~طالما تاقت نفسه إليه منذ حداثته، وقد كان الرق أبغض شيء إلى نفسه، وهو في الوقت نفسه يرى ~~أن تحرير العبيد سوف يدعوهم إلى التمرد على سادتهم في الجنوب، فتضعف شوكة هؤلاء السادة في ~~الحرب، هذا إلى ما يرجى من رفضهم في العمل في فلاحة الأرض بعد تحريرهم، فيضطر البيض إلى ~~العمل مكانهم، فتتضاءل جيوشهم وتضعف مواردهم، فضلا عن أن التحرير من شأنه أن يكسب الرئيس ~~وحكومته عطف الأحرار في أوروبا، فلا تناوئه بالتدخل في هذه الحرب. وأما عن الدستور فالتحرير ~~ضرورة تدعو إليها الضرورة الحربية، ولن يجد الرئيس صعوبة كبيرة في حمل ممثلي الأمة على ~~تعديله فيما يتصل بهذا الأمر. # وتفكر الرئيس وأطال التفكر، وكلما مر يوم ازداد ميله إلى التحرير وبعد عن تردده، ولكن ~~شيئا واحدا لا يزال يقوي ميله إلى التريث؛ وذلك هو الموقف الحربي وما فيه من خذلان وضعف ~~وجمود من جانب ماكليلان حتى صيف هذا العام الثاني للحرب، عام المحنة والخوف. # ولكن دعوة التحرير تشتد، وكلما بلغت مسامع الرئيس هزت نفسه إلى ms309 هذه الخطوة الإنسانية ~~الكبرى، فيكاد ينسى كل اعتبار غيرها، وإنك لتجد ما يهجس في نفسه واضحا في هذه العبارة التي ~~كتبها بخط يده: «إني بطبيعتي أمقت الرق، وإذا لم يكن الرق خطأ فما في الدنيا من خطأ قط، ~~ولست أذكر لحظة لم أفكر فيها هذا التفكير وأشعر هذا الشعور، ولكني في الوقت نفسه لم أذهب ~~إلى أن الرياسة أكسبتني حقا لا يدفع أن أعمل رسميا وفق هذا التفكر وهذا الشعور، لقد ~~كان هذا القسم الذي أقسمته ينطوي على أن أحافظ على دستور الولايات المتحدة، وأن أحميه وأن ~~أدافع عنه، وما كنت لأشغل هذا المنصب بدون قسم، وما اتجهت قط إلى أني أؤدي القسم الذي به ~~أصل إلى السلطة، ثم أقضي على هذا القسم أثناء استعمالي هذه السلطة. وكذلك كنت أفطن إلى أنه ~~في الأحوال المدنية العادية يمنعني هذا القسم من أن يكون لمجرد اعتباري الخلقي تجاه الرق ~~أثر عملي في مسلكي، أكان من الممكن أن أفقد الأمة وأحافظ على الدستور؟ إن القوانين العامة ~~تقضي بأن أحمي حياتي وساقي، ولكن الساق يضحى بها في العادة لإنقاذ الحياة، ولن يتمشى مع ~~العقل أن يضحى بالحياة لإنقاذ الساق. وشعرت بأن بعض الإجراءات وإن عدت غير دستورية في ~~مواقف أخرى، إلا أنها تجد ما يبررها من حيث إنها لا بد منها للمحافظة على الدستور، وذلك ~~بالمحافظة على الاتحاد ذاته.» # وتبين الرئيس موقفه فأخذ يتحفز ويستجمع قوته ليقدم، ثم عزم وصمم فليس من الإقدام بد، وليس ~~لما عسى أن يلقاه من معارضة أي وزن عنده. ومتى عقد أبراهام النية على أمر ثم تخاذل عنه أو ~~تهاون في العمل على إنفاذه؟ # صمم الرئيس أن يضرب الضربة التي طالما تمنى أن يضربها، أجل أراد أبراهام لنكولن اليوم أن ~~يضمن تاريخ البلاد، بل وتاريخ الإنسانية، أجل عمل قام به؛ ألا وهو تحرير العبيد في أمريكا، ~~وإنه لن يحجم اليوم أن يعلن رسميا في مجال واسع ما أنكره قبل عام من فريمونت وهنتز، ولن ~~يتردد أن يأخذ بما رفض ms310 من قبل مهما يكن من غرابته، وهو كفيل أن يوضح للناس قضيته وأن يحمله ~~على قبول حجته. # وفي الثاني والعشرين من شهر يوليو دعا الرئيس إليه مجلس الوزراء، ولم يكن يعلم أحد منهم ~~الغرض من الاجتماع. ولما اكتمل عقدهم، نظروا فإذا على وجه الرئيس من أمارات الجد ما لا عهد ~~لهم بمثله، حتى في أخطر ما سلف من المواقف. وأخرج الرئيس من جيبه ورقة طلب إليهم أن يستمعوا ~~إلى ما جاء فيها، وراح يتلوها في حزم وثبات: «أنا أبراهام لنكولن رئيس الولايات المتحدة ~~الأمريكية والقائد الأعلى للقوات البرية والبحرية للاتحاد ...» وأنصت الوزراء فإذا به يتلو ~~عليهم قرار التحرير. # وتعجب الوزراء ونظر بعضهم إلى بعض، فهذا الرئيس لم يدعهم ليشاورهم، ولكن ليعلن إليهم ما ~~عقد عزمه عليه، وقطع سيوارد الصمت بأن رجا من الرئيس أن يرجئ إعلان ذلك إلى حين؛ فإنه إن ~~فعل اليوم والحرب على ما هي عليه والشماليون يلاقون الهزائم، عد ذلك ضربا من اليأس، وأخذ ~~على أنه خطوة مهزوم مستضعف. # وتدبر لنكولن في قول سيوارد فرأى وجاهته، ثم وافق على التأجيل على ألا ينكص على عقبيه إذا ~~ظفر الشماليون بأول انتصار لهم؛ لأنه يرى تأييدا لكلام سيوارد أن التحرير والشماليون في ~~ضعفهم معناه «آخر صرخة في الهروب.» # وطوى الرئيس ورقته ثم وضعها في قمطره حتى يظفر الشمال بأول انتصار، وللمرء أن يدرك ~~مبلغ ما كان لما عسى أن يأتي به ماكليلان يومذاك من خطر. # ووقع في نفس الرئيس أسوأ وقع ما حل بالشماليين من الهزائم في شهر أغسطس، على نحو ما بينا ~~حين كان جيش الجنوبيين يزحف إلى وشنطون بقيادة لي. ~~••• # وتحرك ماكليلان آخر الأمر في سبتمبر، والتحم الجيشان: جيش لي وجيش ماكليلان، في أنتيتام، ~~وحمي القتال وتوالى بين الجيشين الجزر والمد، ولم يقو الجنوبيون على مواصلة القتال ~~فانسحبوا من المعركة انسحابا يشبه الهزيمة، وكان ذلك في اليوم السابع عشر من شهر سبتمبر، ~~وعدت أنتيتام أولى المعارك التي تبشر بالنصر؛ فهي - وإن لم تكن نصرا كما يكون النصر ms311 - قد ~~بثت العزم في نفوس الشماليين، وأوحت إليهم أنهم إن عملوا فسيظفرون بالجنوبيين. # المحرر. # وفي الثاني والعشرين من هذا الشهر دعا الرئيس الوزراء إلى الاجتماع، ولما اكتمل جمعهم كان ~~في يد الرئيس كتاب فلم يشأن أن يلقيه دون أن يقرأ عليهم منه قصة أعجبته، وكان يضحك أثناء ~~قراءته والوزراء يضحكون إلا ستانتون؛ فقد كان يضيق بكثير مما يفعله الرئيس وبما يأتيه من ~~ضروب المزاح، وهو لا يدري أن مثل هذا الرجل في شدة كهذه الشدة أحوج ما يكون إلى أن يرفه عن ~~نفسه ويخفف عنها بعض ما بها، وإلا فكيف كان يستطيع أن ينهض بذلك الحمل الذي يئود حمله ~~الجبال؟ # ولما فرغ الرئيس من تلاوة القصة غامت أسارير وجهه، وبدت عليه أمارات الجد ودلائل الاهتمام ~~والحزم، وأخرج من جيبه تلك الورقة التي كتب عليها بخط يده قرار التحرير. # أعلن الرئيس أن العبيد في الولايات الأمريكية جميعا أحرار منذ اليوم الأول من السنة ~~الجديدة سنة 1863؛ وذلك لكي يتيح فرصة للولايات المتمسكة بالرق حتى ذلك التاريخ، وأعلن أن ~~الحكومة ستعين كل عبد على بلوغ حريته وأنها ستعوض الولايات الموالية عما تطلقهم من ~~العبيد. # بهذا الإعلان ضرب الرق الضربة القاضية، وأتيح لذلك الفتى الطويل النحيل، الذي وقف في صدر ~~شبابه ذات مرة في مدينة نيو أورليانز يشهد سوق العبيد، أن يحقق ما اعتزمه يومئذ حين تهدد أن ~~يضرب بشدة إذا أتيح له أن يضرب هذا الرق البغيض. وصح حلم طالما منى به أبراهام نفسه، ورأى ~~ذلك النجار الذي خرج من الغابة أن معوله اليوم يهوي على الظلم فيقتلعه من جذوره، فها هو ذا ~~يعلن باسم حكومة هو رئيسها أن لا عبودية بعد اليوم المحدد، وأن الشعب الأمريكي كله شعب حر، ~~وأن أمريكا دولة حرة وأمة حرة. # أعلن الرئيس كلمته وأدى رسالته، وشهد ابن الغابة اليوم الذي ينطق فيه باسم الشعب في أمر ~~طالما شغل بال الأحرار في هذا الشعب، ورأى العالم نوعا جديدا من الحركات الكبرى تضاف إلى ~~سجله وينتقل بها التاريخ من ms312 فصل إلى فصل. # وهزت البلاد من أعماقها فرحة عظيمة، وراح أعداء الرق يعلنون عن ابتهاجهم بالزينات ~~ينصبونها والليالي يقيمونها ويملئونها بأفراحهم ومظاهر حبورهم. # وانهالت على الرئيس وسائل التهنئة وبرقيات الإعجاب يحملها البريد والبرق من أمريكا ومن ~~خارج أمريكا؛ فلقد تلفتت أوروبا تنظر ما تفعله الدنيا الجديدة للمرة الثانية من أجل الحرية، ~~فهذه الدنيا التي ولدت الديمقراطية في القرن الماضي تئد العبودية في هذا القرن، وتضع اسم ~~رجلها وهدية أحراجها لنكولن إلى جانب اسم بطلها ومحررها وشنطون، الذي انتزع لها استقلالها ~~بحد السيف من الغاصبين من أعدائها. # والرئيس خافض الجناح لا يعرف إلا الزهو كما لا يعرف الخور، يتلقى تهاني المهنئين وإعجاب ~~المعجبين في سكون وتواضع، وإنه ليحس أنه لا يزال بينه وبين يوم الراحة جهاد وجلاد مظهرهما ~~هذه الحرب التي ما فتئ يزداد سميرها. # | السنديانة! # اضطر لي أن يعبر نهر بوتوماك متراجعا، فكان على ماكليلان ألا يضيع هذه الفرصة، فيتعقب ~~الجيش المتراجع ويعركه في تراجعه ويوقع به هزيمة تفت في عضده، ولكنه قعد دون ذلك على الرغم ~~من إلحاح الرئيس عليه أن يفعل، وراح يطلب المدد من جديد! # وعادت شئون الحرب تكرب نفس الرئيس؛ فقد كان عليه وعلى رجال حكومته بعد قرار التحرير أن ~~يبذلوا قصارى جهدهم ليضعوا حدا لتلك الحرب، فإنه لو أتيح النصر لأهل الجنوب كان معنى ذلك ~~القضاء على كل شيء؛ إذ تصبح الحرية مجرد أمنية، وتصير الوحدة ضربا من الوهم. # وبات يكرب نفس الرئيس شيء آخر؛ فإن الحزب الديمقراطي في الشمال بعد أن فرغ الناس من ~~حماستهم لقرار التحرير، أخذ يندد بسياسة الرئيس، وأخذت صحف الديمقراطيين تكرر القول أن ~~الجند يبذلون دماءهم من أجل شيء واحد؛ هو حرمان الجنوبيين من ملك يبيحه لهم ~~الدستور. # أما الجنوبيون فما برحت صحفهم تتهكم على قرار التحرير، وتعلن أن البيض لم ينصرف منهم واحد ~~عن القتال، فإن السود يعملون في الحقول هادئين، وفي هذا أكبر دليل على أنهم ما كانوا في ~~حاجة إلى أحد يحررهم. # على أن لنكولن لا يعبأ ms313 بقول الجنوبيين؛ فما يسكت العبيد إلا من الخوف، فها هم أولاء يفرون ~~ألوفا من جيوش الجنوبيين حيث يلوذون بجيش الشمال ليعملوا تحت راية مسيحهم، كما كانوا يسمون ~~الرئيس لنكولن الذي منحهم الحرية والذي جعلهم ناسا من الناس. ولكم كان من أقبح الظلم أن ~~يساق هؤلاء العبيد إلى القتال ليقتلوا قوما يحاربون ليحرروهم، وكثيرا ما كان يوضع هؤلاء ~~السود بحيث تحصدهم المدافع، فيكونون بذلك دريئة لسادتهم الجنوبيين! # وأخذ يتبين السر فيما يبدو من مسلك ماكليلان؛ فقد جاءه رسول من الديمقراطيين قبيل معركة ~~أنتيتام يعرض عليه ترشيح الحزب إياه للرياسة في انتخاب سنة 1864! وكتب ماكليلان عقب المعركة ~~يقبل هذا الترشيح. # وراح الجمهوريون يذيعون أن ماكليلان يسلك في الحرب مسلك الهوادة ليرضي الجنوبيين، وقالوا ~~إن ذلك لا يبعد كثيرا عن تهمة الخيانة العظمى! # وتدبر الرئيس في الأمر، ولم يعد يطيق صبرا على تلكؤ ماكليلان، وأخذت تصدر منه عبارات ~~تعبر عما في نفسه نحو القائد، ومن ذلك قوله: «حقا إن ماكليلان لا يريد أن يحطم جيش ~~العدو.» ومن ذلك أيضا ما كان منه ذات مرة وقد كان يبيت في المعسكر؛ إذ سأل ذات صباح وهو ~~يستقبل الشمس المشرقة قائلا: ما هذا كله؟ فلما أجابه أحد القواد: إن هذا هو جيش بوتوماك. ~~صاح قائلا: كلا إنه الحرب الخاص للجنرال ماكليلان. # جمع الرئيس عزمه على أمر، وظل نحو خمسة أسابيع يستحث ماكليلان على العمل، ولما لم يجد ~~ذلك أصدر الرئيس في شهر نوفمبر أمره بعزل ماكليلان من قيادة جيش بوتوماك ووضع مكانه القائد ~~بيرنسيد! ~~••• # راح أهل الشمال يعلقون الآمال على تغيير القيادة، ففي أنفسهم أن ما حل بهم من الهزائم ~~فيما سلف إنما يرجع إلى سوء تدبير ماكليلان. # ولكن في الجيش عددا كبيرا من الجند قد آلمهم أن يفارقهم قائدهم، أو أن يحال بينهم وبينه ~~على هذه الصورة؛ لذلك لم يحسنوا لقاء القائد الجديد، أو لم يشعروا تحت رايته بما كانوا ~~يشعرون تحت راية ماكليلان من حماسة. # وزحف القائد الجديد على رأس جيش ليحتل فردريك سبرج ms314 على الضفة الأخرى للنهر، حيث كان يرابط ~~لي قائد الجنوبيين العظيم، ووقف القائد الشمالي تجاه خصمه يفصل بينهما نهر بوتوماك، وقف ~~ينتظر أن توافيه إليه هناك تلك المعابر المتنقلة التي لا بد له منها ليعبر النهر، ولكن ~~المعابر وصلته متأخرة فاستطاع خصمه القوي أن يحصن المرتفعات حول المكان، فلما أخذ يعبر ~~النهر هو وجنوده انصبت عليهم النيران الحامية من كل صوب، ونظر القائد فإذا كثير من جنده ~~حوله صرعى، لا يقل قتلاهم عن الجرحى، فكان لا بد أن يتراجع، وكانت هزيمة جديدة تضاف إلى ~~سلسلة الهزائم في هذا العام المشئوم. # وحمل الجرحى إلى وشنطون فضاقت بهم المستشفيات، حتى لقد حول عدد كبير من الكنائس وغيرها من ~~الأبنية إلى أمكنة للجرحى، وطافت النذر بالمدينة وانعقدت فيها سحب الهم مركومة سوداء، وأخذت ~~الناس غاشية من الحزن ورجفة من الذعر، زاغت لهما الأبصار وبلغت القلوب الحناجر! # وأخذت الأنظار تتجه إلى البيت الأبيض وليس فيها من معاني الأمل بقدر ما فيها من معاني ~~اللوم والغيظ، وكأنما كانت ترف حوله أرواح القتلى فتلبسه كآبة وتشيع فيه ما يكرب النفوس ~~ويؤلم الصدور. وأخذ يظهر في العاصمة حزب جديد يرمي إلى وضع حد لهذه الحرب بأية وسيلة، وألفى ~~الرئيس نفسه بين تصايح المتصايحين؛ فهنا من ينادون بوضع حد لهذه المحنة، وهنا من يطلبون ~~إعادة ماكليلان إلى القيادة والسير في الحرب، ولكن في سرعة وحمية وإقدام، وغير هؤلاء وهؤلاء ~~قوم يطالبون بتغيير القواد والبحث عما يكفل النجاح من وسائل جديدة، وقوم آخرون خيل إليهم أن ~~الفرصة قد سنحت لهم لإعلان رأيهم في مسألة تحرير العبيد، وكانوا يرون ألا يمس ذلك النظام ~~بما يغير من أصوله، وعلى الرئيس أن يراجع نفسه قبل حلول اليوم الأول من العام الجديد؛ وهو ~~يوم التحرير. # وترامى إلى الناس فضلا عن مزعجات الحرب وشائعاتها أن المجلس التشريعي منقسم بعضه على ~~بعض، وأن مجلس الوزراء نفسه قد فشا الخلاف في أعضائه، ورأى الناس مما يشاع ويذاع أنهم على ~~حافة الكارثة! # ولكن السنديانة ثابتة وقد جن ms315 جنون العاصفة، لا تنال الريح العاتية شيئا من ثبوت أصلها ~~وسموق فرعها، أولم يك في الغابة منبتها وكان فيها غذاؤها وريها؟ # أجل إن رجلا واحدا هو الذي بقي أمام هذه الشدة رابط الجأش، فقد وقف أبراهام عزيزا لا ~~يهون، صلبا لا يلين، بصيرا لا يطيش حلمه، أمينا لا يخون العهد الذي قطعه على نفسه، ~~مؤمنا لن يقعد حتى يتم رسالته أو يموت في سبيلها، وكان موقف الرئيس هذا كل ما بقي للقضية ~~من عناصر القوة، وأية قوة أعظم وأبقى من هذه القوة؟ وليت شعري ماذا كان يحدث لو لم يكن على ~~رأس البلاد هذا الذي درج من بين أدغالها؟ أجل ماذا كان يحدث في هذه الظروف لولا هذا الصبر ~~العظيم من جانب الرئيس، وأي صبر أعظم وأجمل من صبر هذا الطود الراسخ الأشم؟ # وكان من قواد الحرب يومئذ قائد يدعى هوكر، وقد كان بلي بيرنسيد في المرتبة، وكانت بينه ~~وبين هالك المستشار الحربي للرئيس بغضاء وشحناء، فراح يذيع في الجند أن البلاد أشد ما تكون ~~حاجة إلى ديكتاتور يقضي على المنازعات، ويرغم الأحزاب على أن تحبس هذرها وتدفن خلافها، وأن ~~الجيش لن يقوده إلى النصر إلا مثل ذلك الرجل الذي يقبض بيد قوية على أزمة الأمور في ~~الدولة وفي الميادين جميعا! # ولقد ذاعت أفكار هوكر حتى لقد اجترأ ضابط كبير أن يعلن «أن الجيش وعلى رأسه ماك الصغير ~~يستطيع أن يطهر الكونجرس والبيت الأبيض»، قالها في غير تحرج وإن كان قد قبض عليه من ~~أجلها. # وكتب لنكولن إلى هوكر يعاتبه ويحذره العاقبة، وقد عينه في الوقت نفسه قائدا لجيش ~~فرجينيا، ونجد في كتابه إليه شيئا من تهكمه قال: «لقد علمت علما يحملني على أن أصدق ما ~~قلته حديثا؛ ألا وهو أن الجيش والحكومة في حاجة إلى ديكتاتور، ولقد عينتك لا بسبب هذا ~~القول بالضرورة، وإنما على الرغم منه، إن القواد الذي يكسبون نجاحا هم وحدهم الذين يقيمون ~~الديكتاتوريين، وغاية ما أرجوه منك الآن هو النجاح الحربي، أما الديكتاتورية فدعني أنا ms316 ~~أجازف في هذا السبيل. إنك لن تستطيع، لا ولن يستيطع نابليون نفسه أن يرجع بخير من جيش هذه ~~هي روحه، ألا حذار من التعجل ... ولكن أقدم في نشاط وحمية لا تخبو، واكسب لنا النصر.» ~~••• # انقضى العام الثاني لهذه الحرب الهائلة، وقد لاقى الشماليون ما لاقوا من الهزائم، ولقي ~~الرئيس من عنت الظروف والرجال ما لاقى. # وحل العام الثالث فلقي الرئيس وفود المهنئين بالعام الجديد وباليوم الذي حل فيه موعد ~~التحرير، ويجد الناس على وجه الرئيس من أمارات الجهد ما تأخذهم به من أجله الرأفة كل ~~الرأفة، ففي هذا الوجه كآبة وكدرة، وفي صفحته سمرة عجيبة تخالطها صفرة، حتى لكأنهم منه حيال ~~رجل غيره، وما يرون وجهه الذي ألفوه إلا حين يشرق بنكتة أو بنادرة مما يسري به عن ~~نفسه. # والرئيس مشغول أكثر وقته بالحرب، يتفكر ويطيل التفكير، ويسأل نفسه ماذا عسى أن يفعل هوكر، ~~وما نصيب القضية في عامها الثالث. # وكان يزور الرئيس ميدان القتال على نهر بوتوماك، فيقضي بين الجند أسبوعا أو أسبوعين في ~~خيمة، لعل في قربه من الجند ما يذهب عنه شيئا مما يساوره من قلق. # وفي شهر أبريل تحرك جيش بوتوماك، ولكنه ما لبث في شهر مايو أن هزم هزيمة منكرة في شانزلو ~~رزفيل، بعد أن أبلى في المعركة بلاء حسنا أول الأمر. # ثم انقطعت أنباء الجيش عن العاصمة بعد هذه الهزيمة حتى بات الناس في حيرة شديدة، ورضى ~~لنكولن من الغنيمة بأوبة الجيش، وتمنى لو عاد إلى موضعه الأول ليمنع الطريق إلى العاصمة. ~~ووصلت إليه بعد حين رسالة من القيادة أن الجيش قد عاد إلى موضعه، وقرأ الرئيس الرسالة فتندت ~~جفونه، وهو يقول لمن حوله ماذا عسى أن يقول الشعب؟ ماذا عسى أن يقول الشعب؟ واشتد به الغم ~~حتى ما يفلح كلام في الترفيه عنه. # وركب الرئيس وجماعة من صحبه زورقا بخاريا إلى حيث يرابط الجيش، فاستطلع القائد ~~واستفهمه عن سبب الهزيمة، ثم رجع إلى المدينة وقد عقد النية على أمر. # أعلن الرئيس ما يشبه ms317 الأحكام العرفية، فحد من حرية الصحافة ومن حرية القول، وأنذر من يعمل ~~على عرقلة قضية الاتحاد بتقديمه إلى المحاكم العسكرية لتنظر في أمره، ولم يعبأ الرئيس ~~بالانتقاد الشديد يوجه إليه من كل جانب، فلقد كان مستندا إلى أحكام الدستور الذي يخول له ~~أن يتخذ عند الخطر ما تتطلبه مصالح البلاد من أحكام. # وحل الورق محل الذهب والفضة في المعاملة؛ إذ كانت الحكومة في حاجة إلى المال لتنفق منه ~~على هذه الحرب الضروس، ولقد التجأت من أجلها إلى القرض. # وعمت الضائقة حتى شملت الناس جميعا، وهكذا ظهر للناس أن العام الجديد أشد هولا مما ~~سبقه. # ولكن هذه السياسة العنيفة لم تأت بالغرض منها، فلقد وجد أعداء الحرب وأعداء القضية فيها ~~فرصة لنشر آرائهم، وسرعان ما تألفت في نواح كثيرة من البلاد جمعيات سرية تعمل على مقاومة ~~الرئيس وحكومته بكل ما يمكن من الوسائل. # وجهر فريق من ذوي الرأي والمكانة بمقاومتهم هذه السياسة، ومن هؤلاء ولندنجهام، وهو نائب ~~عن أوهايو في الكونجرس، ولقد أخذ هذا الرجل يعمل في نشاط وقوة على معارضة كل مشروع في ~~المجلس يراد به نصرة قضية الحرب، وفي خارج المجلس راح يسخر ويطلق لسانه في الرئيس بكل فاحش ~~من القول؛ فتارة يسميه الملك لنكولن، وتارة يضحك من «ذلك الرجل الذي يريد أن يخلق الحب ~~بالقوة، وأن ينمي شعور الإخاء بالحرب»، وتطرف ذات مرة فهتف بسقوطه في مجتمع احتشد فيه عدد ~~ممن أعجبوا به من الديمقراطيين. # وكان بيرنسيد يقود الجيش في الجهات التي تقع فيها أوهايو، مدينة ذلك النائب العائب، وأعلن ~~القائد هناك أن كل شخص يعرقل قضية الحرب وقضية الاتحاد، فجزاؤه أن يقدم إلى محكمة عسكرية ~~لينال عقابه. ورد ولندنجهام على هذا بخطبة حماسية احتشد الناس في تلك الولاية لسماعها، ودعا ~~الناس إلى رفض هذا القرار وعصيانه، ولم يسع القائد إلا أن يقبض عليه ويسوقه إلى المحكمة ~~العسكرية، فقضت بحبسه في أحد الحصون هناك. # وارتفعت الأصوات بالاحتجاج على هذا الفعل الذي يتجلى فيه - كما زعموا - خفق الحرية، فغير ms318 ~~لنكولن حكم الحبس بالنفي إلى خارج مناطق النفوذ الشمالي، وأرسل ذلك النائب المتمرد إلى ~~الولايات الجنوبية في حراسة نفر من الجند. # تكاتفت السحب واكفهر الجو، ولم يعد يرى الناس بصيصا من نور الأمل، فيئسوا من النصر، ~~وتحرجت الأمور حتى ما يعرف لنكولن نفسه ماذا يفعل! ألا هل من قائد يكسب معركة واحدة فيعيد ~~الرجاء إلى النفوس والأمن إلى الخواطر، والعزم إلى القلوب؟ # إن هزيمة الشماليين في شانزلو رزفيل، كانت أقسى ما لاقوا من محن، حتى لقد عد مايو - وهو ~~الشهر الذي وقعت فيه الهزيمة - أشد الأيام هولا في تاريخ هذه الحرب الأهلية الكبرى. ولقد ~~كانت خسائر الشماليين في تلك المعركة بعد ما ذاقوا من الهزائم قبل مما يثبط الهمم ويحل ~~العزائم، بينما خرج منها الجنوبيون ولم يخسروا كثيرا، اللهم إلا ما لحقهم من خسارة فادحة ~~بموت قائدهم الكبير جاكسون، الذي أودته رصاصة طائشة في ظلمة الليل من يد أحد جنوده. # ها هو ذا الرئيس يفكر ويدور بعينيه يتلمس القائد الذي يرجى على يديه النصر. ألا من له ~~بهذا القائد؟ من له بهذا القائد؟ ولكن أين جرانت؟ إنه ذلك الرجل! إن قلب الرئيس ليلتفت إليه ~~كأنما يلتفت عن إلهام. # لقد برهن جرانت على كفايته في بعض المواقع وإن لم تكن مواقع ذات بال، ولكن حسبه النصر ~~فيها على أي حال، ولعله لا يتخلف عنه النصر إذا ألقيت على عاتقه القيادة في المعارك ~~الكبيرة. إن الرئيس لا ينسى أنه استطاع أن يستولي على حصني هنري ودونلسن في فبراير سنة ~~1862، وهي سنة الكروب والهزائم، واستطاع كذلك أن يحمل الجنوبيين على التراجع في معركة حامية ~~خاضها في أبريل من تلك السنة. # وكان الرئيس لا يعرف جرانت معرفة شخصية، ولكن هاتيك الانتصارات في أوقات عز فيها النصر ~~تنم عن كفاية، وتدل على بطولة، ألا إن قلب الرئيس ليحس أنه الرجل المرجو، وإنه ليتحدث عنه ~~حديث الواثق من كفايته كلما جاء ذكره، وإن القواد ليلمسون أن الرئيس شديد الإقبال عليه، ~~وأنه ليبدو لهم أنه مرسل إليه ms319 عما قريب فمعطيه الراية؛ ولذلك أخذ يدب الحسد في بعض القلوب، ~~فبينما كان الرئيس يثني عليه ذات مرة إذ قال بعض جلسائه إنه لا يكاد يفيق من السكر، فاستمع ~~إلى الرئيس الذي لا تفارقه النكتة أبدا، قال لنكولن: «أرجو أن تدلوني أي نوع من أنواع ~~الويسكي يحب ذلك الرجل؛ لأرسل منه برميلا كبيرا إلى كل قائد آخر!» # وأيقن لنكولن وقد اتجه قلبه إلى جرانت أنه اهتدى إلى القائد الذي يكون في ميدان القتال ~~مثل هذا الرئيس في البيت الأبيض؛ رشيدا لا يزوغ بصره، قويا لا يكل عزمه، ثابتا لا يخف ~~حلمه، حكيما يعرف ما يأخذ مما يدع، جريئا مؤمنا يرى الحياة الحق أن يموت في سبيل ~~مبدئه. # هكذا يفكر الرئيس أن يعطي جرانت لواء القيادة، ولكنه يؤثر أن يتريث قليلا، كشأنه في كل ~~ما يفكر فيه من أمر. ~~••• # أراد الجنوبيون أن يهجموا هجوما قويا على العاصمة الشمالية فيضربوا الاتحاد الضربة ~~القاسمة، فزحف قائدهم الكبير لي بجيشه وعبر نهر بوتوماك، وسار حتى أصبح على خمسين ميلا أو ~~نحوها من وشنطون في مكان يدعى جتسبرج، وهناك التقى به جيش الشماليين، وكان على رأسه القائد ~~ميد وقد جعله لنكولن قائدا لجيش بوتوماك لعله يصيب النجاح. # ودارت في هذا المكان معركة عنيفة دامت ثلاثة أيام، وقد استبسل الفريقان فيها واستقتلوا ~~وتوالى بينهما الجزر والمد، وكأنما طلب لهم الموت فتسابقوا إليه جماعات، وانتهى الصراع ~~بانسحاب لي ولكن في ثبات واطمئنان، وكان ذلك في اليوم الثالث من يوليو سنة 1863. # وعدت هذه المعركة التي سقط فيها أكثر من عشرين ألفا من الضحايا فاتحة الانتصارات الكبيرة ~~لأهل الشمال؛ فقد يئس لي من الزحف على عاصمتهم وأيقن أنهم قوة لا تغلب، وسوف ينصرف بعدها عن ~~الهجوم إلى الدفاع. # وما إن وصل إلى وشنطون نبأ ارتداد لي مكرها حتى تدفق الناس إلى حيث يجلس الرئيس، وهم من ~~فرط ما قد سرهم من النبأ لا يدرون ماذا يفعلون للتعبير عما في نفوسهم نحو هذا الحصن الحصين ~~وهذا العتاد المتين؟ # ونام الرئيس ms320 ليلته ملء جفونه لأول مرة منذ قامت الحرب، وفي اليوم التالي حمل إليه البرق ~~رسالة من جرانت، وكانت له القيادة على ضفاف المسيسبي، وفض الرئيس البرقية وقلبه يخفق؛ فإن ~~له في جرانت أملا، وقرأ الرئيس فإذا جرانت ينبئه نبأ عظيما؛ فقد سقطت في يده فكسبرج. ~~وكانت هذه المدينة لمناعتها ولأهمية موقعها تسمى جبل طارق المغرب؛ إذ كانت مفتاح النهر إلى ~~الجنوب، ولقد جمع فيها أهل الجنوب ما استطاعوا من قوة وعدة، وكان جرانت قد اتجه إليها منذ ~~فاتحة ذلك العام، وكان هو وجنوده يلقون النار الحامية من المدافعين عنها، ولكنه لم يعبأ بما ~~كان يلقى، ولبث يعمل في هدوء حتى أحكم الخطة فأحاط بالمدينة، ثم أتى حاميتها من فوقهم ومن ~~أسفل منهم، وما زال بهم حتى أجبروا على التسليم تاركين في يده ثلاثين ألفا من الأسرى، ~~وعددا هائلا من البنادق والأسلحة، ومقدارا كبيرا من المئونة والزاد. # ولا تسل عما فاض في العاصمة الشمالية من مظاهر الجذل والحبور، فلقد شعر الناس بقرب انكشاف ~~الغمة، والتمعت في سمائهم بوارق الأمل في النصر النهائي بعد هذا العذاب الشديد. # واشتدت العزائم الخائرة، ورأى المستضعفون كما رأى الذين استكبروا ما كانوا قبل في عمى ~~عنه؛ رأوا فضل الثبات والصبر، فراحوا يتوبون إلى رئيسهم ويهنئونه بما صبر. # والرئيس يشارك القوم جذلهم، ولكن نشوة النصر لا تصرف عينيه عما هو فيه، كالربان الماهر ~~الحاذق لن يدير عينيه عن البحر إذا هو اجتاز جنادله، ولن يزال محدقا متيقظا حتى تلقي ~~السفينة مراسيها. # وكان في نفس الرئيس شيء يكاد ينسيه فرحة النصر؛ وذلك أن ميد وقف فلم يتعقب لي عند ~~انسحابه، فسهل عليه بذلك عبور النهر إلى فرجينيا كما فعل ماكليلان في موقف مشابه من قبل، ~~ولكن ميد كان يرى الجيش في حال من الإعياء يستحيل معها أي زحف مهما هان، فلقد جاء نصره بشق ~~الأنفس، وأحس القائد المنتصر الحرج من موقف الرئيس حياله، فطلب إليه أن يعفيه من القيادة، ~~فرد عليه الرئيس ملاطفا في صفح يشبه الاعتذار. # وكأنما ms321 جاء انتصار الشماليين في المعركتين على قدر من الظروف، فلقد كانت تأتي الأنباء من ~~خارج أمريكا بسوء موقف الحكومة الإنجليزية من قضية أهل الشمال! تلك الحكومة التي كان يعتقد ~~لنكولن أنها سوف تحمد له قضاءه على العبودية، فأعلن قرار التحرير وفي نفسه هذا الرجاء، ولشد ~~ما آلمه بعدها أن يرى الحكومة تتذبذب وتلتوي، ولا تخطو إلا على هدي من مصالحها ~~المادية. # على أنه كان مما يخفف وقع الجحود في نفس الرئيس ما كانت تأتي به الأنباء من موقف فريق من ~~أحرار الشمائل من الشعب الإنجليزي حياله؛ فلقد علم أن اجتماعات عقدت في مانشستر ولندن هتف ~~فيها باسم الرئيس هتافا عاليا، حتى لقد وقف الناس في أحدها دقائق يلوحون بقبعاتهم في ~~الهواء عند ذكر اسمه، وظل هذا شأن أحرار الإنجليز حتى بلغ إنجلترة نبأ انتصاره، فاستخزى ~~الطامعون وذوو الأغراض من رجال الحكومة والبرلمان، هؤلاء الذين كانوا يريدون أن يتخذوا من ~~انتصار الجنوبيين ذريعة لإعلان اعترافهم بهم أمة مستقلة، والذين بلغ بهم الحقد على لنكولن ~~وحكومته أن جهزوا سفنا لمناوءة تجارة الشماليين في المحيط، وأرسلوا بعضها فعلا لهذا ~~الغرض. # تلك هي نتائج الانتصار في المعركتين وما كان له من أثر في الداخل والخارج. قال لنكولن حين ~~قرأ رسالة جرانت: «الآن يستطيع أبو المياه أن يذهب من جديد إلى البحر وليس في سبيله ~~عائق.» # واجتمع الناس في حفل كبير عند موضع جتسبرج ليمجدوا ذكرى ضحاياها، وطلبوا إلى الرئيس أن ~~يخطبهم في هذا الحفل المشهود، فكان مما قاله: «منذ سبعة وثمانين عاما أقام آباؤنا في هذه ~~القارة أمة جديدة، نشأت على الحرية وعلى ما نودي به من أن الناس خلقوا جميعا متساوين، ونحن ~~الآن في حرب أهلية هي بمثابة اختبار لنا، لنرى هل تستطيع هذه الأمة أو أية أمة نشأت نشأتها ~~أن تعيش طويلا ... ونحن نجتمع هنا لنمجد موضعا منها نجعله مقرا أخيرا لهؤلاء الذين بذلوا ~~أرواحهم كي تستطيع أمتهم أن تعيش، وهذا عمل خليق بنا أن نعمله، ولكنا لن نستطيع في معنى ~~أوسع ms322 من هذا أن نخلد أو نقدس هذه البقعة مهما فعلنا ... ذلك أن البواسل من الرجال سواء في ذلك ~~الأحياء والأموات الذين ناضلوا هنا، قد خلدوها بما لا نستطيع أن نزيد عليه أو ننقص منه، وإن ~~العالم لن يهتم كثيرا بما نقول ولن يذكره طويلا، ولكنه لن ينسى ما فعل هؤلاء ...» ثم زاد ~~الرئيس على ذلك فقال: «يجب أن نعقد العزم على ألا ندع هؤلاء يذهبون عبثا، وعلى أن تمنح هذه ~~الأمة في عناية الله مولدا جديدا؛ هو مولد الحرية، وعلى أن تكون حكومة الشعب التي قامت ~~بإرادة الشعب لتعمل للشعب، بحيث لا تزول أبدا من فوق هذه الأرض.» # هذا خطاب الرئيس الذي سمعه الناس في تلك البقعة التي صبغتها دماء المجاهدين، وقد وصلت ~~كلماته إلى أعماق نفوسهم فهزتها هزا، ولم يتمالك الكثيرون أن يحبسوا دموعهم من فرط ما ~~أحسوا. # ولاحظ المتصلون بالرئيس أن الشدائد قد نالت من جسده وإن لم تنل من عزمه، ورأوا السنديانة ~~يمشي إليها الذبول شيئا فشيئا حتى ليخافوا أن تذوي فتسقط. أجل، فزع الناس أن يروا أبراهام ~~تتجمع وتتزايد في وجهه الغضون والخطوط، وأن يلمحوا في صفحة هذا الوجه المحبوب أمارات الجهد، ~~وفي نظرات تلكما العينين البريئتين أثر السهر وطول العناء، ولكن روحه أعظم من أن يتطرق ~~إليها الوهن. ذهب إليه أحد كبار السياسة في أمر من أهم الأمور، فأخذ الرئيس يقص عليه من ~~قصصه ويضحك ضحكات عالية، فلم يطق الرجل صبرا ووثب من مكانه قائلا وفي لهجته شدة وفي ~~عبارته حدة: «أيها الرئيس، إني ما جئت هذا الصباح لأسمع قصصا ... إن الوقت عصيب.» ونظر إليه ~~الرئيس نظرة عتب وقال له في رزانة وأدب: «أجلس يا أشلي ... إني أحترمك كرجل مخلص ذي حمية ... ~~وإنه لن يبلغ اهتمامك بما نحن فيه أكثر مما بلغ اهتمامي الذي ما فارقني منذ أن بدأت هذه ~~الحرب، وإني لأقول لك الآن إنه لولا هذا الذي أنفس به أحيانا عن نفسي لحاق بي ~~الموت.» # وسار العام الثالث إلى نهايته والبلاد يزداد أملها ms323 في النجاح، بعد أن كاد اليأس يعصف ~~بالقضية كلها فيأتي عليها؛ ولذلك كانت جتسبرج وفكسبرج صخرتي النجاة، فها هي ذي نيويورك ~~تنبعث منها بوادر فتنة، لولا هذا النصر لجرف تيارها كل شيء، وبيان هذه الفتنة أن حاكم ولاية ~~نيويورك - وكان من أكبر المنادين بوضع حد لهذه الحرب - ما فتئ يحرض الناس حتى هبت ثورة ~~عنيفة في مدينة نيويورك، اقترف فيها المشاغبون ودعاة الفوضى أفعالا منكرة، وبالغوا في ~~تمردهم وعصيانهم حتى اضطرت الحكومة أن ترسل عليهم فريقا من الجند فقضوا على الفتنة. ومن ~~غريب أمر هؤلاء العصاة أن قامت حركتهم التي دبروها من قبل عقب الانتصار في جتسبرج وفكسبرج. ~~ولقد كانت تلك الحركة من مآسي هذا العام، ولولا أن جاء النصر كما ذكرنا وأشرق نور الأمل في ~~ظلمات اليأس، لجاز أن تمتد الفتنة فتأتي على كل شيء. # | الأب أبراهام! # افتتح العام الرابع والبلاد تتأهب للانتخاب! فلقد قرب موعد الانتخاب للرياسة، ورأى ~~المخالفون الفرصة تواتيهم ليعلنوا ما في نفوسهم نحو الرئيس لنكولن وسياسة حكومته. # وظهرت في الصحف، وتواترت على الألسن أسماء مرشحين جدد لينافسوا الرئيس، فإن الديمقراطيين ~~كانوا يقدمون ماكليلان، ذلك الذي انسحب من الحرب على نحو ما رأينا، وكان بعض الجمهوريين ~~يرشحون جرانت، وبعضهم يميلون إلى تشيس وزير المالية، وأيد هؤلاء جريلي الذي ما برح ينتقد ~~الرئيس ويسدي له ما سماه نصحا، ورشح فريق فريمونت لهذا المنصب العظيم. # ولبث الرئيس ساكنا مطمئنا إن خاف على شيء فخوفه على قضية الوحدة فحسب، ومتى ذاق أبراهام ~~طعم الراحة منذ أن ولي الرياسة؟ كان يخشى أن يترك قيادة السفينة لربان غيره وهي لما تزل في ~~مهب الأنواء وفي مسالك الصخر، ولو أنه كان موقنا من وجود غيره ليقودها ما تردد أن يكلها ~~إليه، فحسبه أن تصل إلى المرفأ. وكثيرا ما كان يقول إنه لو وجد في الرجال من يحسن إدارة ~~الأمور خيرا منه لتنازل له عن طيب خاطر، بل لقبل ذلك مبتهجا؛ إذ يرى فيه وسيلة من وسائل ~~النجاح. # على أنه يترك الأمور للبلاد ms324 فلها القول الفصل، قال لبعض جلسائه يوما: «إن انتخابي ~~للرياسة مرة ثانية شرف عظيم كما أنه عيب عظيم، وإني لن أجفل منهما إذ قدر لي ذلك.» # ولكن البلاد لم ترض عن رجلها بديلا، وما لبث أن أدرك مخالفوه أنهم كانوا واهمين، وكيف ~~تتخلى البلاد عن ذلك الذي تدين بنجاحها له على الرغم مما يحيط بها من شدة، ولماذا ينصرف عنه ~~الناس ومكانته في صميم قلوبهم؟ ألأنه أبلى فأحسن البلاء وصبر فأوشك أن يجتني من الصبر ~~الظفر، وسهر فلم يشك يوما من السهر؟ لقد كان الناس يدعونه بقولهم الأب أبراهام، وكانوا ~~يخاطبونه فيقولون: يا أبانا ماذا ترى في كيت وكيت. وما كان أشد تأثره بهذا اللقب الذي ~~أضافوه إلى ألقابه! # ألا إن الناس ليحرصون على أبيهم هذا، لا تدور أعينهم إلى غيره، ولا تتسع قلوبهم لسواه، ~~فها هي ذي العرائض بترشيحه تترى على الحزب من أنحاء البلاد ومن ميادين القتال في كثرة عظيمة ~~تليق بجلال قدره وخطورة شأنه وعظيم ما قدمت يداه. ~~••• # ولندع حديث الانتخاب لنعود إلى الحرب وشئونها، وأول ما نذكره أن الرئيس قد اتفق مع ~~الكونجرس على إسناد القيادة العليا للجيوش جميعا إلى القائد جرانت، ثم كتب إلى جرانت يدعوه ~~إلى العاصمة فحضر إليها، وتوجه إلى البيت الأبيض فلقيه الرئيس وأسمعه عبارات الإطراء ~~والثناء، ثم تلقى منه جرانت نبأ تعيينه في منصبه الخطير. # وكان لهذا القائد الذي بزغ نجمه كبير شبه بالرئيس في نشأته وفي كثير من طباعه؛ كلاهما ~~واجه الحياة ولما يزل في سن اللهو واللعب، وكلاهما شق طريقه فيها بنفسه، فكان كالنبتة ~~القوية المستقيمة، لا كتلك الألفاف التي لا تعرف من معنى النماء إلا أن تتسلق على غيرها وهي ~~في ذاتها هزيلة نحيلة. # كان جنديا في سني يفاعته، ثم انصرف عن الجندية إلى الزراعة حينا، ثم إلى التجارة بعد ~~ذلك، وظل بضع سنين حائرا يضرب في الأرض في طلب الرزق، ولو لم تقم هذه الحرب الأهلية ما وعى ~~التاريخ عنه إلا بقدر ما يعي عن الآلاف غيره ms325 من البشر، الذين يعبرون هذا الوجوده وكأن لم ~~يخلقوا. # ولقد تزاحم الناس وتدافعوا بالمناكب حول البيت الأبيض وفي قاعته؛ ليروا هذا القائد الذي ~~تعلق عليه بعد زعيمهم الآمال، ولقد علق جرانت على هذا اللقاء العظيم بقوله: «هذه معركة أشد ~~حرا مما شهدت في الميادين من معارك.» # وبعد أن درس القائد خططه المقبلة مع الزعيم ورجاله، استأذن في الرحيل، فطلب إليه الرئيس ~~أن يبقى قليلا ليحضر وليمة أعدتها زوجته له، ولم يكن يعلم الرئيس بها من قبل ليدعوه إليها، ~~فاعتذر عن عدم قبوله بقوله: «حسبي ما لاقيته من تلك المظاهر أيها الزعيم.» وفرح الزعيم أيما ~~فرح بما يسمع، فما يهدم الرجال شيء في رأيه أكثر مما يهدمهم الغرور. # ورحل جرانت إلى الميدان وقد زوده الرئيس بقوله: «أنت رجل همة وعزم، ولست أريد - وقد سرني ~~منك ما تقول - أن أضيع وقتك أو أن أضع في طريقك ما يعوقك، وإذا كان في طاقتي أي شيء يمكنني ~~أن أمدك به فدعني أعرف ذلك. والآن سر في عون الله على رأس جيش باسل وفي سبيل قضية ~~عادلة.» ~~••• # برز جرانت إلى الميدان وفي نفسه من العزم بقدر ما في فؤاده من الأمل، وكأنما سرت عزيمته ~~إلى قواده وجنوده؛ فما منهم إلا من وطد النفس على أن يخوض أهوال القتال إلى النصر، ونبغ من ~~هؤلاء البواسل قائدان صار لهما في هذه الحرب خطر عظيم؛ وهما شيرمان وشريدان. # وزحف جرانت بجيشه في مايو سنة 1864، وكانت خطته أن يواصل الزحف ما وسعه القتال حتى يأتي ~~رتشمند عاصمة الجنوبيين فيحصرها، ولقد لازمه النصر في هذا الهجوم على الرغم من مقاومة ~~أعدائه، وما زال يدفعهم أمامه حتى أصبح على مقربة من عاصمتهم، وكانت تصل أنباء انتصاره إلى ~~العاصمة فتهزها هزا، وكان الناس يجتمعون حول البيت الأبيض فيطل الرئيس عليهم ويخطبهم، وقد ~~سره أن ذهب عنهم الروع. # وكذلك سار شيرمان مبتدئا من الغرب، وراح يدفع أعداءه أمامه، وإنهم لينازعونه الأرض شبرا ~~شبرا ويعركون جيشه عركا شديدا، حتى واتاه النصر عليهم في اليوم ms326 الثاني والعشرين من شهر ~~يوليو، فسقطت في يده مدينة أتلنتا بعد أيام، وهي موقع حصين ومركز حربي خطير، وكان على رأس ~~الجنوبيين في تلك الجهة قائدهم هود، وهو من ذوي البأس، ولقد لم شمل جيشه وخاض الحرب مرة ~~أخرى ولكنه ما لبث حتى عاودته الهزيمة. وسر الرئيس وأصحابه أيما سرور بانهزام هود وجنوده ~~فلقد كانوا يوجسون منه شرا. # ونشط الشماليون في البحر وضيقوا الخناق على أعدائهم، وشدوا الوثاق فأذاقوهم لباس الجوع ~~والخوف، وكانت سيطرة فراجت على البحر وثيقة، فكان موقفه بذلك من أكبر عوامل النصر. # وراح جرانت يبذل كل ما في وسعه ليحيط بالقائد الكبير لي، فإنه يدرك أن تطويقه خير وسيلة ~~لهزيمته وإجباره على التسليم، وكان يدرك جرانت أن عدته وجنده أوفر مما هو لدى عدوه منهما؛ ~~ولذلك عول أن يشد عليه الوثاق. # وكان لنكولن وأصحابه يتلقون هاتيك الأنباء الطيبة فتطمئن نفوسهم، ولكن الرئيس كان لا يفتأ ~~يبدو مهموما ضائق الصدر، وكيف يطيق قلبه الكبير أن يعلم نبأ هاتيك الضحايا دون أن يتحرك؟ ~~لقد كان يجزع أشد الجزع لمرأى الأمهات والزوجات يقفن في طريقه أو يتجمعن حول البيت الأبيض ~~متسائلات، وإنه ليسأل الله أن يجعل للناس من هذا البلاء مخرجا. # وبينما كانت جرانت وشيرمان يروعان بجيشهما أهل الجنوب على هذه الصورة، إذ زحف أحد قواد ~~الجنوب - ويدعى إيرلي - زحفا مباغتا على وشنطون حتى بات منها على سبعة أميال! ولقد كان ~~عمله هذا من أسوأ ما لاقته المدينة في هذه الحرب، فما أقبح الخوف بعد الأمن! وما أوجع الغم ~~بعد الفرح! # ولكن جرانت لم يلبث أن أرسل شريدان فأقصى العدو ورماه بهزيمة كبيرة، وكان ذلك في أوائل ~~سبتمبر عقب سقوط أتلنتا بيوم واحد. # ولندع جرانت وأصحابه فيما هم فيه من جهاد ونصر لننظر ماذا كان من أمر الانتخاب. ~~••• # لقد كان انتصار الجيوش على هذا النحو مما قضى على كيد الكائدين من خصوم الرئيس، إذ كانت ~~البلاد تتأهب لمعركة الرياسة. # وكان الديمقراطيون يذيعون في الناس أن من المصلحة العامة اختيار رئيس ms327 غير هذا الرئيس، ~~وراحوا يقولون إن الحكومة من الوجهة الحربية قد منيت بالفشل منذ قامت الحرب، ولا محيص من أن ~~يتبع في الحرب سياسة أقوى وأسرع من سياستها، وتارة أخذوا يطالبون بمصالحة أهل الجنوب ووضع ~~حد لهذا البلاء، وهم في ذلك يرشحون ماكليلان للرياسة، ولقد اختاره لذلك مؤتمرهم الذي انعقد ~~في شيكاغو في أغسطس من ذلك العام. # وكان بعض الجمهوريين من حزب لنكولن يدعون إلى انتخاب رجل غيره؛ إذ كانوا يزعمون أنه ابتعد ~~عن مبادئ الحزب وعن روحه، فهم يخالفونه فيما أعلن غداة تحرير العبيد من أن ذلك كان من أجل ~~ضرورة حربية، متجاهلين أنه كان يبرر بذلك تصادمه بالدستور الذي أباح الرق، وهم يعيبون عليه ~~مسلكه تجاه الولايات الوسطى وتجاه أهل الجنوب. كما أنهم يقولون إن الحرب لا تسير على خير ما ~~يرجى. # وكان هؤلاء الجمهوريون يرشحون جرانت تارة وفريمونت تارة، ولكن معظمهم كانوا يميلون إلى ~~تشيس وزير المالية، وكان تشيس هذا من أكفأ الرجال، وكان الرئيس يحترم آراءه ويحرص على أن ~~ينتفع بها، كما كان يشهد له بالذكاء ويقر بفضله. ولكن تشيس كان دائم الشكوى من الرئيس ~~وكثيرا ما ضايقه بتقديم استقالاته من الوزارة، وذلك أن تشيس كان ينفس على الرئيس منصبه ~~ويعتقد أنه أحق به منه وأجدر. # وما كان الرئيس كما أسلفنا يحرص على الحكم إلا أن يكون وسيلة لتحقيق غرضه. قال ذات مرة ~~يرد على الداعين إلى ترشيح جرانت: «إذا كان الناس يعتقدون أن القائد جرانت في منصبي يكون ~~أسرع مني في القضاء على الثورة، فإني أتخلى له عنه.» # وعلى الرغم من ذلك كان خصومه يدعون أنه حريص على الحكم مولع بالرياسة، وكان من أقدر هؤلاء ~~الخصوم وأنشطهم جريلي، ذلك الذي طالما حرص الرئيس على مودته وعمل على إرضائه، على أن الرئيس ~~كان على علم بهذا كله فلم يعبأ به؛ وذلك لأنه كان يجعل اعتماده على عامة الناس، وهل اعتمد ~~على غيرهم منذ كان يقطع الأشجار ويسحب الأبقار معهم في الغابة؟ # وجاءت بعد ذلك أنباء انتصار ms328 جنده، فكان ذلك أبلغ رد على ما يزعم المخالفون ~~والخوارج. # ولقد كان مؤيدو الرئيس من الجمهوريين أعز نفرا وأعلى في البلاد صوتا، وهؤلاء أجمعوا ~~أمرهم على ترشيحه في مؤتمرهم الذي عقدوه في الثامن من يونيو سنة 1864، وكانت حماستهم له ~~جديرة به شديدة على كارهيه وخصومه. وحمل إليه نبأ ذلك فتلقاه على عادته في دعة، قال: «إنهم ~~رشحوني لا لأنهم رأوني أعظم رجل في أمريكا وأفضل رجل، وإنما كان ذلك لأنهم لم يروا من ~~الحكمة أن يغيروا الخيل أثناء عبور الماء، ولأنهم رأوا بعد ذلك أني لست فرسا بلغ من السوء ~~مبلغا لا يمكن معه استخدامه، ولو في مشقة أثناء محاولة ذلك العبور.» # وكان المؤتمر قد عبر عن رغبته في تعديل الدستور، بحيث لا يكون من مواده ما يتضمن الاعتراف ~~بالرق؛ حتى لا يتعارض قرار التحرير مع نصوص الدستور، ولقد وافق الرئيس على ذلك قائلا: «إن ~~مثل هذا التعديل المقترح يجيء خاتمة مناسبة ضرورية للنجاح النهائي لقضية الاتحاد، وهذا وحده ~~يقف ردا على كل تجن، وإن الذين يوافقون على الوحدة بلا شرط من الشماليين والجنوبيين ~~يدركون خطورته ويتعللون به، فباسم الحرية والوحدة مجتمعتين دعونا نعمل لنكسبه صفة شرعية ~~وأثرا عمليا.» # وسمع أن ولاية ماري لاند قد عدلت دستورها على هذا الأساس فعلا، فاغتبط قائلا: «إن ذلك ~~يساوي عندي انتصارات كثيرة في الميدان.» # وحسب جريلي أنه واجد غميزة أخرى في سياسة الحرب، فراح يندد بها وبتطاولها ويدعو إلى ~~الصلح، قائلا إن البلاد على شفا جرف هار، وإن السلم على شروط معقولة خير من هذه الحرب ~~التي ضجت البلاد منها ورزحت تحت أعبائها. ومما ساقه في هذا المجال قوله إنه على صلة بقوم من ~~الجنوب يقبلون الصلح على أساس الوحدة والقضاء على الرق، وهنا لم يتردد الرئيس أن يرسل إليه ~~يقول إنه على استعداد أن يلقى أي رجل أو جماعة من الجنوب يفاوضونه على هذا الأساس، على أن ~~يكونوا مسئولين، وليكن جريلي شاهدا على ذلك، وعاد جريلي مستخذيا، وقد رأى أن الذين دعوه ms329 ~~إلى السلم من الجنوبيين قوم لا أهمية لهم. # وتطلبت الحرب عددا جديدا من الرجال، وأشفق أنصار لنكولن أن يدعوا البلاد إلى رجال في ~~مثل هاتيك الظروف، ولكن هل كان مثله يحجم عن أمر يعتقد صوابه، وبخاصة إذا كان هذا الأمر ~~يتصل بالحرب، بله الحرب تحت قيادة جرانت؟ لم يحجم الرئيس ولم يتردد، وأصدر أمره في ثبات ~~وجرأة. # وجاء يوم الانتخاب فكان فوز الرئيس عظيما. قال، وما أجمل ما قال: «إني أعرف قلبي، وأرى ~~غبطتي لا يشوبها شائبة من الفوز الشخصي، وإني لأعترض على بواعث أي شخص ضدي، وليس مما يسرني ~~أن أظفر على أحد، ولكني أشكر الله على هذا البرهان الشاهد على اعتزام الناس أن يؤيدوا ~~الحكومة الحرة وحقوق الإنسانية.» # وكان الداعون إلى السلم ينشرون مبدأهم في العاصمة ~~الشمالية، حتى لقد أخذوا على الرئيس أنه يصم أذنه عن هذه الدعوة. وحدث أن أرسل جفرسون دافز ~~رسولا إلى السلم، ويقترح عقد مؤتمر لتقرير ذلك. وكتب الرئيس لنكولن ردا حمله ذلك الرسول ~~إلى جفرسون، وفيه يوافق الرئيس على عقد المؤتمر، واجتمع في مركز قيادة القائد جرانت ثلاثة ~~من قبل أهل الجنوب، وناب عن الشماليين سيوارد ثم لحق بهم الرئيس، وعرض الشماليون شروطهم ~~فلم تحز قبولا لدى خصومهم، ورأى الرئيس أن في الأمر خداعا، وأنهم لا يبغون سوى أن يكسبوا ~~الوقت بالمفاوضة ريثما يعدون ما يستطيعون من قوة؛ ولذلك نراه ينصح لجرانت ألا يتهاون أو ~~يخفف من وطأته، وانفض المؤتمر ولم يصل إلى رأي. # وفي اليوم الرابع من شهر مارس 1865 احتفلت وشنطون الاحتفال التقليدي بتسلم الرئيس أزمة ~~الحكم، وشهد وفد من السود هذا الحفل، فكان بهذا أول حفل من نوعه في تاريخ الولايات المتحدة، ~~وأطل الرئيس على القوم فراعهم ما مشى في بدنه من سقم ونحول، وما تجمع في محياه الكريم من ~~خطوط وغضون، وبدا لهم كأنه شيخ في السبعين وهو لم يتجاوز السادسة والخمسين. # وأوضح الرئيس سياسته في خطابه الرسمي، وإنك لتجد هذه السياسة واضحة في هذه العبارة التي ~~اختتم بها هذا ms330 الخطاب، قال: «والآن فمن غير موجدة على أحد، بل مع نية الإحسان للجميع ~~والثبات على الحق كما يطلب الله أن نرى الحق، دعونا نجاهد كي نفرغ من هذا العمل الذي نحن ~~بصدده، وأن نضمد جراحات الأمة، وأن نعنى بهؤلاء الذين جاهدوا وبأراملهم وأيتامهم، وأن نبذل ~~قصارى جهدنا لنصل إلى السلام الدائم، وأن نعزه بين أنفسنا وبين جميع الأمم.» # في رئاسته الثانية. # | الشهيد! # جعل الرئيس ينتظر أخبار الميادين، وكثيرا ما كان يقضي الوقت الطويل في غرف البرق يترقب ~~ويتوقع، وكثيرا ما كان يشخص بنفسه إلى مراكز الجند فيزورها واحدا بعد الآخر، ففي الحادي ~~والعشرين من ديسمبر سنة 1864 أخذ شيرمان مدينة سفانا عنوة، فأبرق إلى الرئيس يقول: «أرجو أن ~~تسمح لي أن أقدم إليك مدينة سفانا هدية عيد الميلاد.» واستمر شيرمان في زحفه فاستولى على ~~كولومبيا وشارلستون، وما زال حتى دخل ولاية كارولينا الشمالية وأصبح على اتصال بجنود جرانت، ~~وبذلك أوشكت جنودهما أن تحيط بجيش الجنوبيين. # وكان جرانت يثخن في أرض الجنوبيين لا يألوهم نزالا كأهول ما يكون النزال، وكانت ضحاياه ~~كثيرة يدمى لها قلب الرئيس، ولكنه كان لا يلين، وما لبث هو وأعوانه أن هزموا الجنوبيين في ~~كل مكان حتى لم يبق في الميدان غير لي. # وحاصر جرانت مدينة رتشنمد، ودام حصاره طوال أشهر الصيف من سنة 1864 وأشهر الشتاء من سنة ~~1865. وفي السابع والعشرين من شهر مارس التقى لنكولن وجرانت وشيرمان على زورق في نهر جيمس ~~على مقربة من مركز القيادة، وتداول ثلاثتهم في الأمر، ولشد ما تألم الرئيس أن علم أنه لا ~~يزال دون النصر معركة حامية، وراح يتساءل في جزع: «ألا يمكن تجنب تلك المعركة؟ ألا يمكن ~~تجنب تلك المعركة؟» # وأمكن تجنب تلك المعركة كما تمنى الرئيس؛ فلقد تمكن شريدان - وكان إلى ميسرة جرانت - أن ~~يقطع على لي آخر منفذ للهرب فتم لهما تطويقه، وبات تسليمه أمرا لا بد منه. # وفي اليوم الثالث من شهر أبريل سنة 1865 سقطت رتشمند طراودة هذا الصراع المتصل الطويل، ~~وهيهات أن يصف الكلام مبلغ ms331 ما كان بالعاصمة من شعور الفرح والحبور. لقد بات الناس وأفاقوا ~~على مثل مظاهر العيد، وأي عيد أجمل من هذا الذي يبشر الناس فيه بقرب انفراج الغمة واتحاد ~~الأمة؟ # وغادر جفرسون دافز والقائد لي مدينة رتشمند، وأحرق الجيش المنسحب المستودعات وكل ما يمكن ~~أن ينتفع به الفاتحون، وشاعت الفوضى في المدينة على صورة خيلت للناس أن جهنم فتحت ~~أبوابها. # وأرهف الناس آذانهم على صوت بعيد سمعوه، صوت لا يكون مثله في الجحيم، فإذا هو لحن الجيش ~~الجمهوري تعزف به موسيقاه، وتقدم هذا الجيش وكان في طليعته عدد ممن كانوا يسمون بالأمس ~~الرقيق، فدخل المدينة وأعاد فيها الأمن، وعني بالجرحى وأطفأ الحريق. # وجاء القواد يدعون الرئيس لنكولن لتسلم المدينة التي حاربتها جيوشه خمسة أعوام، وأنصت ~~الرئيس إلى برنامج الاحتفال، وكيف يتألف الموكب الرسمي، وماذا يختار من الفرق لتسير في ~~طليعته وفي مؤخرته، ومن هم القواد الذين يصحبون الرئيس، وماذا يفعل الرئيس بالمدينة ~~المفتوحة، إلى آخر ما أعد القواد من مظاهر الزهو والأبهة. وكان يخيل إليهم أن الرئيس يقرهم ~~على ما يقولون. # وقبل أن يحل اليوم الموعود قصد الرئيس المدينة وحده يمسك بيده يد ابنه الصغير تاد، وعبر ~~إليها النهر في قارب حربي كان يرسو على مقربة منها ولم يعلم أحدا، فلا موكب ولا فيالق ~~ولا شرطة يفسحون الطريق. # ودخل الرئيس العظيم المدينة في الصباح وفي يده تاد الصغير وهو يمشي على الأرض هونا وليس ~~في وجهه زهو ولا تطاول! # ورآه بعض السود وكانوا يكنسون الشوارع، فعرفه أحدهم؛ إذ كان يرى صورته في إحدى الصحف، ~~فأشار إليه وإلى الصورة وأطلع زملاءه على الصورة قائلا هذا هو الرئيس! وضحك الرئيس فأقبلوا ~~عليه ومنهم من يضحك ومنهم من يبكي، فمد إليهم يده مصافحا في تواضع ورفق وهم يلثمون يديه ~~وأطراف ثوبه، ويمسحون بأكفهم حلته كما لو كان أحد القسيسين. # وما إن شاع النبأ حتى هرع الناس من كل مكان يشهدون الرجل الذي دوت باسمه البلاد، وتزاحموا ~~حوله وهو بينهم رابط الجأش يبدو للأعين قوامه ms332 الطويل، وأسرع بعض الشرطة والجند فحفوا ~~به. # وتلفت الرئيس فإذا جموع السود تتقاطر من كل صوب وهم يملئون الجو بهتافاهم باسم مخلصهم ~~ومحطم أغلالهم أبراهام لنكولن، وكانوا من حوله يرقصون ويثبون في الهواء لا يدرون ماذا ~~يفعلون للتعبير عما في نفوسهم نحو هذا المحرر الأعظم، ثم تقدموا متزاحمين فتلاقوا على الأرض ~~أمامه يقبلون قدميه، وهو يرفعهم بيديه ويمسح بها على جباههم وأكتافهم والدموع تتساقط كبيرة ~~ساخنة من عينيه الواسعتين، فتجري على محياه الكريم وتقطر بها لحيته. # وحار الرئيس لحظة فلم يدر ماذا يقول، وهو الذي ما عرف قبل عيا ولا حصرا، ثم ناداهم ~~قائلا: «أي أصدقائي المساكين، أنتم أحرار ... أحرار كهذا الهواء ... وإنكم لتستطيعون أن تطرحوا ~~اسم العبودية وتطئوه بأقدامكم، فإنكم لن تسمعوه بعد اليوم ... إن الحرية حقكم الذي منحكم ~~إياه ربكم كما منح غيركم.» وتألم الرئيس من أن يخروا سجدا على قدميه، فقال: «لا تسجدوا لي، ~~هذا ليس بصواب؛ إنما أنا رجل مثلكم ولا فرق بيني وبينكم إلا هذا المنصب، وعما قريب أعود ~~فأكون واحدا منكم، يجب أن تسجدوا لله وحده وأن تشكروه على الحرية التي سوف تتمتعون بها منذ ~~اليوم.» # وعاد الرئيس إلى وشنطون وفي وجهه مثل ما يكون في وجوه الأبرار الصالحين، والناس حول ركابه ~~جموع خلف، وهم يهتفون باسم الأب أبراهام بطل الحرية ومحطم الأصفاد، ومعيد الوحدة إلى البلاد ~~وحامي دستورها ورسول حاضرها إلى غدها. # وفي اليوم التاسع من هذا الشهر المشهود وضعت الحرب الأهلية أوزارها؛ فقد سلم لي سيفه ~~للقائد جرانت علامة الهزيمة، ولكم كان جرانت عظيما إذ أبى أن يتسلم السيف من خصمه قائلا: ~~أبقه في يمينك أو في منطقتك فهذا أجدر موضع به. # وتلقت العاصمة النبأ وتلقاه الرئيس، وأحس الناس أول الأمر كأنما أفاقوا من حلم مخيف لا ~~تزال في نفوسهم مخاوفه. # وتنفس أبراهام الصعداء، وتنفس معه الناس، وأحس ابن الأحراج بعد هذا الكفاح الطويل الشاق ~~أن قد آن له أن يستريح بضعة أيام. وتزاحم الناس حول البيت الأبيض وهم من فرط سرورهم ms333 يبدون ~~كأنما طاف بهم طائف من الجنون، وأطل عليهم الرئيس وهم يتصايحون ويتواثبون ويقذفون بقبعاتهم ~~في الهواء، وعظمت حماسة هذا البحر الزاخر من الخلق زمنا طويلا، وهم تحت شرفة الرئيس يموج ~~بعضهم في بعض. # الرئيس وابنه تاد. # لم يدر الرئيس ماذا يقول وهو الخطيب الذي لم يعرف تاريخ بلاده ندا له، وما زاد على أن ~~مسح بيده الدموع المنحدرة من عينيه، ثم طلب إلى الناس أن يهتفوا ثلاثا بحياة القائد جرانت ~~وجنوده وحياة القواد البحريين ورجالهم، وأحنى للجموع رأسه الأشم ثم عاد إلى حجرته. # وظلت العاصمة منذ هذا اليوم التاسع من أبريل ومظاهر الفرح تملأ جوانبها وتشيع في البلاد. ~~وفي اليوم الرابع عشر كان على مجلس الوزراء أن ينعقد ظهرا، وكان جرانت ممن سوف يشهدون ~~الاجتماع، وفي صباح هذا اليوم ظل الرئيس معتكفا وقد اعتذر عن لقاء من طلبوا لقاءه، وجلس ~~يتحدث إلى ابنه الكبير روبرت وقد عاد من الميدان صحبة جرانت، وظل أبوه يخبر مدى استعداده ~~بأسئلة ألقاها عليه، وهو لم يجلس إليه منذ زمن طويل؛ لتغيبه في الجامعة، ثم لذهابه من ~~الجامعة إلى الميدان. # ولاحظ بعض المقربين إلى الرئيس أن التفاؤل في المستقبل أخذ يملأ جوانب نفسه، وأنه كان ~~منشرح الصدر ضحوكا، يقص عليهم أنه رأى حلما لا يراه إلا قبيل العظيم السار من ~~الأحداث، ولقد رآه قبيل جتسبرج وفكسبرج وأنتيتام، وهو حلم عجيب، قوامه ركوب الماء في قارب ~~غريب لا يوصف ينطلق بالرئيس في سرعة شديدة إلى شاطئ مظلم مجهول، ولكن الرئيس يصحو قبل أن ~~يبلغ الشاطئ. ألا ليته يصحو قبل أن يصل به القارب مساء هذا اليوم إلى ذلك الشاطئ المخيف، ~~فلقد أعد المجرمون الآثمون عدتهم وبيتوا كيدهم. # واجتمع مجلس الوزراء ليرى ماذا تفعل الحكومة لإصلاح ما أفسدته الحرب، وعارض الرئيس أشد ~~المعارضة القائلين بالانتقام من الجنوب، وصاح بهم: «كفانا ما ضحينا من الأنفس، يجب أن نعمل ~~على شفاء الجراح كما يجب أن نطفئ في قلوبنا السخائم إذا أردنا أن نقيم الوحدة والوفاق.» ألا ~~ليت المؤتمرين ms334 به سمعوه إذ يقول ذلك! ألا ليتهم سمعوه! # يجب أن تسجدوا لله. # وركب الرئيس وزوجته في نزهة عصر ذلك اليوم، وكانت ماري فرحة بانتهاء الحرب، تحدث نفسها ~~بما تقيم غدا من ولائم، وكانت تقول لزوجها إنها تعتزم بعد انتهاء مدة هذه الرياسة الثانية ~~أن تزور أوروبا فتقضي هناك سنة، ويضحك لنكولن قائلا: «أما أنا فسأزور كليفورنيا الجديدة ~~والأصقاغ الغربية.» # ولما عادا لمح أبراهام وهو ينزل من العربة قوما خارجين من البيت الأبيض، فعرف بعضهم وهم ~~من أصحابه القدماء من أهل إلينوي، فناداهم من بعد وأشار إليهم بيده كما كان يفعل في ~~سبرنجفيلد قائلا: «هالو ... ارجعوا إلي أيها الرفاق ... مرحبا يا أصحابي ...» وفتح لهم ذراعيه ~~وبسط كفه، وإنهم ليعجبون أشد العجب أنه لا يزال على عهدهم به، ومشى الرئيس معهم إلى إحدى ~~الحجرات وهو يضحك بينهم ويمزح كما كان يفعل بالأمس، وسألهم عن أشخاص ممن يعرف، ثم جلس بينهم ~~يقص عليهم قصصا مضحكة ويضحك ضحكات مدوية، وقد رفع بينه وبينهم الكلفة كأنما يجلسون أمام ~~دكان من دكاكين سبرنجفيلد، وظل الرئيس يتلو نكاته ويضحك ملء نفسه، ويضحك سامعوه، وكلما جاء ~~الخادم يدعوه إلى الطعام صرفه بإشارة من يده وأخذ في حديثه، إلى أن جاءه ما يشبه الأمر من ~~ماري، فنهض ومد إليهم يده مودعا. # وفي المساء ذهب الرئيس وزوجته ليشهدا رواية تمثيلية في المسرح، وكانت الصحف قد نشرت ~~اعتزامه الحضور ومعه القائد جرانت، وتخلف القائد لأنه أراد السفر، فذهب مع الرئيس وزوجته ~~ضابط وخطيبته وجلسا معهما في المقصورة الخاصة. # وما أطل الرئيس من مقصورته على الجمهور حتى دوت جنبات القاعة بالتصفيق والهتاف، وأحنى ~~الرئيس رأسه للجميع وجلس يشهد التمثيل. # وانقضت ساعتان، وتسلل إلى المقصورة في منتصف الساعة الحادية عشرة الممثل ولكس بوث رأس ~~المؤامرة ليغتال الرئيس، وكان على اتصال بنجار المسرح، وكان هذا النجار عضوا في المؤامرة، ~~فصنع له أثناء النهار ثقبا في باب المقصورة لينظر منه، وأعد له رتاجا خشبيا لباب الردهة ~~المؤدية إلى المقصورة من الداخل. # وحمل الحارس الواقف بباب ms335 الردهة الخارجي بطاقة من المجرم إلى الرئيس، تظاهر بها أنه رسول ~~يحمل إليه نبأ، وسمح له الرئيس بالدخول، فأغلق من الداخل باب الردهة بذلك الرتاج الخشبي، ~~ونظر من الثقب، ثم فتح الباب وأطلق رصاصة إلى رأس أبراهام، وطعن الضابط بخنجره حين هم أن ~~يمسكه، وقفز إلى المسرح الذي طالما مثل أدوارا عليه، ولكن ثوبه علق بخشبة العلم، فهوى ~~وانكسرت ساقه، ووثب على الرغم من ذلك وخرج يعدو، وكان شركاؤه قد أعدوا له حصانا فهرب على ~~ظهره عدوا. # وحاول أبراهام أن ينهض فلم يستطع، وخر على مقعده، وهوت السنديانة من هذه الضربة، وطالما ~~استعصت من قبل على الضربات! # وحمل الرئيس إلى بيت قريب من المسرح، واجتمع حول سريره الوزراء ورجال الدولة وخاصة ~~أصدقائه، وهو لا يسمع ولا يعي شيئا مما حوله، وفي الساعة السابعة والدقيقة الثانية ~~والعشرين من صباح اليوم التالي، وهو الخامس عشر من شهر يوليو مات أبراهام لنكولن! # وساد في الحجرة صمت رهيب كان يقطعه بكاء ماري، ووقف ابنه روبرت مصفار الوجه على رأس ~~سريره، ثم قال الوزير ستانتون: «الآن أصبح أبراهام لنكولن ملكا للزمان ودخل في ~~التاريخ!» # وروعت العاصمة بالنبأ الفاجع، وتلاقت أمة بيضها وسودها تحمل شهيدها الأكبر ومحررها العظيم ~~إلى حيث يستريح راحته الأبدية، وذهبوا بجثمان البطل إلى سبرنجفيلد في قطار كبير مجلل ~~بالسواد يقل مرافقي جثمانه من رجال الدولة، وسار في نفس الطريق الذي جاء منه إلى العاصمة ~~قبل ذلك بأربع سنوات، والناس اليوم على جانبيه يجهشون ويشهقون، ولا يملكون غير الدمع في هذا ~~الخطب الفادح، وكان السود أكثر الناس بكاء عليه وأشدهم خشوعا وهم يطوفون بنعشه في البيت ~~الأبيض قبل نقله إلى سبرنجفيلد! # ودفن الرئيس إلى جانب ابنه الصغير، ولما هموا بوضع تابوته في التراب، ارتفعت أصوات الناس ~~جميعا بضجة عظيمة من البكاء، الكبراء والعامة في ذلك سواء، وانصرف السود وهم يرددون قولهم: ~~«لقد رفع مسيحنا الجديد إلى السماء!» # ألا ليتهم حملوا ابن الغابة إلى الغابة ليدفن حيث نشأ وحيث شب! ms336