######OpenITI# #META# URI: 1383CabbasMahmudCaqqad.AbuCala.Hindawi84914209 #META# Tags: biographies :: literary.criticism #META# ID: 84914209 #META# Title: أبو العلاء #META# AuthorID: 64642852 #META# Author: عباس محمود العقاد #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # علامات الخلود‏ # تمهيد‏ # وفد‏ # صاحب الجلالة المعري‏ # عالم السريرة‏ # أبو العلاء هو أبو العلاء‏ # بساط الريح‏ # حكم السيف‏ # المستشرقون‏ # مع المشيعين‏ # في بلاد الشمال‏ # جر الذيول‏ # المرأة‏ # الحكيمان‏ # حكم وحكمة‏ # خليفة دانتي‏ # لعب العبقرية‏ # الاختراع‏ # أقصى المغرب‏ # أقصى المشرق‏ # زعيم الصين‏ # زهدان‏ # في مصر‏ # نشيد وداع‏ # علامات الخلود‏ # تمهيد‏ # وفد‏ # صاحب الجلالة المعري‏ # عالم السريرة‏ # أبو العلاء هو أبو العلاء‏ # بساط الريح‏ # حكم السيف‏ # المستشرقون‏ # مع المشيعين‏ # في بلاد الشمال‏ # جر الذيول‏ # المرأة‏ # الحكيمان‏ # حكم وحكمة‏ # خليفة دانتي‏ # لعب العبقرية‏ # الاختراع‏ # أقصى المغرب‏ # أقصى المشرق‏ # زعيم الصين‏ # زهدان‏ # في مصر‏ # نشيد وداع‏ # | أبو العلاء # | أبو العلاء # تأليف # عباس محمود العقاد # | علامات الخلود # ثلاث علامات من اجتمعن له كان من عظماء الرجال، وكان له حق في الخلود: # فرض الإعجاب من محبيه ومريديه، وفرط الحقد من حاسديه والمنكرين عليه، وجو من الأسرار ~~والألغاز يحيط به كأنه من خوارق الخلق الذين يحار فيهم الواصفون ويستكثرون قدرتهم على ~~الأدمية، فيردون تلك القدرة تارة إلى الإعجاز الإلهي، وتارة إلى السحر والكهانة، وتارة ~~إلى فلتات الطبيعة إن كانوا لا يؤمنون بما وراءها. # وهذه العلامات الثلاث مجتمعات لأبي العلاء على نحو نادر في تاريخ الثقافة العربية، لا ~~يشركه فيه إلا قليل من الحكماء والشعراء؛ فهو في ضمان الخلود منذ أحبه من أحب، وكرهه ~~من كره، وتحدث عنه من تحدث كأنه بعض الخوارق والأعاجيب. ~~••• # بلغ من منزلته بين مريديه أن وقف على قبره نيف وثمانون شاعرا يرثونه بعيد وفاته، ~~فكان بلاغ قولهم مطلع قصيدة لأحدهم - أبي الفتح الحسن بن عبد الله بن حصينة - حيث ~~يقول: # العلم بعد أبي العلاء مضيع # والأرض خالية الجوانب بلقع # وهو مثل من أمثلة الإعجاب الذي اتفق عليه أولئك الشعراء، وكانوا فيه ترجمانا لمئات، أو ~~ألوف من المعجبين، لم ينظموا الرثاء ولم يقفوا على ثراه. # وبلغ من إنكار حساده والجاهلين به أنهم جعلوه من أهل الجحيم، وألحقوه بأحقر ما يسب من ~~الحيوان، واستجهلوه غاية الجهل، واتهموه في فهمه وذكائه! # قال رجل وقد عثر به ms01 : من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين ~~اسما! # وذكر ياقوت بعض كلامه في معجمه ثم قال: «كان المعري حمارا لا يفقه شيئا، وإلا فالمراد ~~بهذا بين!» # وسئل عنه علي بن الحسن المعروف بشميم وهو من نحاة القرن السادس، فغضب وقال لسائله ~~ناهرا: «ويلك! كم تسيء الأدب بين يدي؟ من ذاك الكلب الأعمى حتى يذكر بين يدي في ~~مجلسي؟!» ~~••• # وهناك أناس استعظموه ولكنهم لم يفهموه ولا حقدوا عليه! وحسبوا أن قدرة الإنسان لا ترتقي ~~هذا المرتقى، وأن سر بني آدم لا يخفى هذا الخفاء، فألحقوه بعالم المجهول ووصلوا بينه ~~وبين سيطرة الفلك وقضاء الأقدار. # قالوا إن محمود بن صالح صاحب حلب اتهمه بالزندقة، فأمر بحمله إليه من المعرة، وبعث ~~خمسين فارسا ليحملوه، فدخل عليه عمه مسلم بن سليمان وقال: يا ابن أخي! قد نزلت بنا هذه ~~الحادثة، فإن منعناك عجزنا، وإن أسلمناك كان عارا علينا عند ذوي الذمام، ويركب تنوخ ~~الذل والعار. فقال أبو العلاء: هون عليك يا عم! ولا بأس عليك، فلي سلطان يذب عني. ثم ~~قام فاغتسل وصلى إلى نصف الليل، ثم قال لغلامه: انظر إلى المريخ أين هو؟ فقال في منزلة ~~كذا وكذا ... فقال: زنه واضرب تحته وتدا، وشد في رجلي خيطا واربطه إلى الوتد. ففعل ~~غلامه ذلك، وسمعوه وهو يقول: يا قديم الأزل! يا علة العلل! يا صانع المخلوقات وموجد ~~الموجودات. أنا في عزك الذي لا يرام، وكنفك الذي لا يضام ... الضيوف الضيوف! الوزير ~~الوزير! ثم ذكر كلمات لا تفهم ... وإذا بهدة عظيمة! فسأل أبو العلاء عنها فقيل: وقعت ~~الدار على الضيوف الذين كانوا بها فقتلت الخمسين ... وعند طلوع الشمس وقعت بطاقة من حلب ~~على جناح طائر: لا تزعجوا الشيخ فقد وقع الحمام على الوزير. # ومن لم يكن عندهم ساحرا أو قديسا من ذوي الكرامات كان خارقة من خوارق التكوين أو طرفة ~~من طرف الزمان. ~~••• # رووا عن تلميذه أبي زكريا التبريزي أنه كان قاعدا في مسجده بمعرة النعمان بين يدي ~~الأستاذ يقرأ ms02 عليه شيئا من تصانيفه، وكان قد أقام عنده سنين لم ير أحدا من أهل بلده، ~~فدخل المسجد بعض جيرانه فرآه وعرفه فتغير من الفرح وأحس أبو العلاء بشيء فسأله: أيش ~~أصابك؟ فحكى له ما رآه. # قال أبو زكريا فيما رووا عنه: فقال لي أبو العلاء: قم وكلمه! فقلت: حتى أتمم السياق. ~~فقال: قم. أنا أنتظر لك. فقمت وكلمته بلسان الأذربية - أهل أذربيجان - شيئا كثيرا، إلى ~~أن سألت عن كل ما أردت. فلما رجعت وقعدت بين يديه قال لي: أي لسان هذا؟ قلت: هذا لسان ~~أهل أذربيجان، فقال لي: ما عرفت اللسان ولا فهمته. غير أني حفظت ما قلتما. ثم أعاد علي ~~اللفظ بعينه، من غير أن ينقص عنه أو يزيد عليه في جميع ما قلت. فتعجبت غاية التعجب! كيف ~~حفظ ما لم يفهم؟ # وحدث أبو الحسن الدلفي المصيصي الشاعر، قال: لقيت بمعرة النعمان عجبا من العجب. رأيت ~~شاعرا ظريفا يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل، يكنى أبا العلاء، ~~وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر. # تلك هي العلامات الثلاث مجتمعات لأبي العلاء: إطناب في الإعجاب، ونهاية في الزراية، ~~وحيرة في كلام واصفيه كحيرة المتحدثين عن خوارق الغيب وعجائب الأساطير. # وإذا بلغ من تعدد الجوانب برجل واحد أن يقول قوم إنه فخر بني الإنسان، ويقول قوم إنه ~~كلب وحمار، ويسلكه أناس في زمرة الشيطان ويحسبه أناس وليا مستجاب الصلاة، ويخيل إلى ~~فريق أنه ساحر وإلى فريق أنه طرفة من الطرف وأسطورة من الأساطير؛ فذاك هو الأفق الواسع، ~~وتلك هي العظمة الباقية ... ومن شهده في زمانه فلا حاجة به أن ينتظر ألف عام ليعلم أنه ~~باق إلى ألف عام، وأنه محتفل به بعد ألف عام، أو ينبئ الدنيا بامتداد خبره ما بقي ~~لعصره خبر بين سجلات العصور. ~~••• # وها قد مضى اليوم ألف سنة هجرية على اليوم الذي ولد فيه أبو العلاء لثلاث بقين من ~~شهر ربيع الأول سنة ثلاثمائة وثلاث وستين. ولد كثيرون ms03 في هذه السنين الطوال كما ولد، ~~ومات كثيرون كما مات، وتكررت الولادة والوفاة في الأمم العربية مئات الملايين من المرات، ~~ولكن ذلك المولد النادر لم يتكرر قط في هذه السنين، ولم يزل مولد ذلك الوليد حادثا ~~فردا بين ثمرات الأصلاب والبطون، يستحق أن يعاد إليه من سنة إلى سنة، ومن جيل إلى جيل، ~~ومن ألف عام إلى ألف عام. # وبين الذين كررتهم الدنيا ألوف من أمثال ذلك المسكين المغرور الذي أغضبه السؤال عن أبي ~~العلاء بين يديه، ورأى من سوء الأدب في مجلسه أن يعاد له اسم على مسمع منه، ولكن التاريخ ~~الذي كررهم كثيرا ومل من تكرارهم طويلا لم يدركه الملال من ترديد اسم أبي العلاء ~~المغضوب عليه وعلى من سأل عنه. ولم ير من سوء الأدب أن يصبح ويمسي بتمجيده، وأن يحصي ~~الأحقاب بعد الأحقاب لملاقاته في يوم عيده. بل رأى من سوء الأدب أن تمضي ألف سنة ولا ~~يستوقف الزمن الماضي محتفلا بذكراه، مستعيدا لميلاده، مشيرا إلى مطلعه كما يشار إلى ~~ظواهر الكون التي تستعاد، لأنها قلما تعود. # ولقد وقف على قبره - يوم وفاته - ثمانون شاعرا أو يزيدون، وتقف على قبره اليوم أمم ~~العروبة جمعاء، وأمم شتى من جميع الأقطار والأنحاء، مئين أو فوق المئين، ينوب منها ~~الشاهدون عن الغائبين. # وإذا عدل الزمان، فهذا الوفاء هو سواء الميزان، بين أناس وسموه بعزة القدر، وأناس وصموه ~~بخسة الحيوان. ~~••• # تسلفت هذه الذكرى قبل ست سنوات. # وكانت الصحف السورية قد نقلت إلينا في ذلك الحين أن حكومتها فرغت من مراجعة رسم التابوت ~~الذي أزمعت إقامته في المعرة على قبر أبي العلاء، وأنها تعد العدة للاحتفال بانقضاء ألف ~~سنة هجرية على وفاة الشيخ، والصواب على مولده كما هو ظاهر، وكما نشير إليه بعد ~~سطور. # فخطر لنا أن أبا العلاء قد دعي من حظيرة الخلود إلى شهود ذكراه، وأن الأمد لا يزال ~~فسيحا بيننا وبين ذلك اليوم المشهود؛ ففي ذلك الأمد متسع لرحلة علائية حول الكرة ~~الأرضية، يرى فيها ما يعنينا أن ms04 يراه، ويقول فيها ما ينبغي أن يقول، أو نقول نحن على ~~لسانه ما يشبه مقاله في أوانه، قياسا على ما صنع هو في السماء حين حدثنا في رسالة ~~الغفران بلسان الأدباء والشعراء، وجعل لهم من كلامهم وأخبارهم دليلا له في كلامه ~~وأخباره. # فكتبنا يومئذ سلسلة هذه الفصول التي سميناها «رجعة أبي العلاء»، وعرضنا فيها حوادث ~~الدنيا كما تتمثل له ولمن ينظرون إلى أمور العصر الحاضر مثل نظرته في سائر الأمور. ونحسب ~~أننا أتينا بصفوة الآراء التي توافقه وتستخلص من جملة تفكيره، ما لم يكن قد تغير نظره ~~بعد موته، وهو مستحيل! # ونحسب كذلك أننا لم ننحله رأيا ينكره لو أنه عاد إلى هذه الحياة الدنيا في زماننا هذا، ~~لأننا شفعنا آراءه الحاضرة بأقواله المحفوظة فيما عرض له من خطوب زمانه، فتشابهت الأقوال ~~وتقاربت الأحكام، وبقي على من يخالفنا أن يزعم أن هذه الآراء غريبة عن منحى أبي العلاء ~~في تفكيره، ويثبت ذلك بكلامه وآرائه في مثل ما نحلناه. ويومئذ يظهر أن الإنكار هو ~~الدعوى التي تفتقر إلى الشواهد والبينات. ~~••• # وقد مضى الآن زهاء ست سنوات منذ كتبنا هذه الفصول، دارت فيها الأيام دورتها واضطربت ~~فيها الحوادث اضطرابها. فلا شك أننا حين وصفنا الحوادث كما وصفناها واستطلعنا العواقب ~~كما استطلعناها، لم نقحم على حكيم المعرة رأيا كذبه الواقع وأنكره الحق الصادع، ولم ~~ننحله قولا يزري بصائب فهمه أو يقدح في صادق حكمه. فإن كنا وافقناه فقد أرضيناه، وإن ~~كنا خالفناه فما أخجلناه. # ومن محاسن الاتفاق أن تحتفل الأمم العربية بتمجيد أبي العلاء وهي تتطلع إلى استقلال ~~كريم يرضي الحكيم العربي الصميم، وتنهض إلى مجد طريف يستجد لها معالم المجد القديم، وأن ~~تعاد «رجعة أبي العلاء» في طبعتها الثانية والدعوة إلى الاحتفال جارية إلى مجراها، ووفود ~~الحجيج المعري مستبقة إلى ملتقاها، فهي تحية في الأوان، وقربان على ذلك المحراب ... مزاجه ~~الشكر والعرفان. # عباس محمود العقاد # | تمهيد # منذ سنة وشهور نشرت الصحف من أنباء سورية «أن حكومتها فرغت من مراجعة رسم التابوت الذي ms05 ~~أزمعت إقامته في المعرة على قبر أبي العلاء، وأنها تعد العدة للاحتفال بانقضاء ألف ~~سنة هجرية على وفاته، أو على ميلاده كما هو الأصوب ...» فالمعري كاره الحياة يعاد طوعا أو ~~كرها إلى الحياة كرة أخرى! # خطر لي هذا الخاطر فأحببت أن أتخيل «رهين المحبسين» يجوس بيننا خلال الديار، ويتمرس ~~بأحوال الأمم في عالمنا الحاضر، فماذا هو قائل؟ وماذا هو فاعل؟ # لا شك أن أحوالا كأحوال العصر الحاضر قد كانت مشهودة معهودة في أيام أبي العلاء، ولا ~~شك أننا واجدون في كلامه حكما مكشوفا أو ملفوفا على جميع تلك الأحوال، فأما ما يختلف ~~من شئون زماننا وزمانه فهل يستطاع قياسه والنفاذ إلى رأي أبي العلاء فيه وفاقا لذلك ~~القياس؟ وهل في مقدورنا نحن أبناء هذا الزمن أن ندعو الحكيم للجهر برأيه فيه؟ # ذلك ما قد حاولناه في هذه الصفحات، # 1 # ونحسب أننا قد أصبنا فيه بعض التوفيق، إن تعذر التوفيق كله في مجال الفرض ~~والتخمين. # ومضت فترة ولم نسمع خبرا عن المحفل المنظور: هل تم بناء الضريح؟ وهل تم نحت التابوت؟ ~~وهل تمت العدة؟ وهل شريت الدور التي تحجب قبر الحكيم؟ الأرجح أن هذا كله ماض في ~~طريق التمام، وأن المحفل المنظور قائم في موعد قريب، لكن أبا العلاء الذي بعثناه وأطفناه ~~بالعالم كله مع بعض تلاميذه قد بلغ غاية المطاف، وسئم المضيفين والأضياف، وأحب أن ~~يثوب إلى داره وأن يقر في قراره. فنحن هنا مثبتون قصيدا لأبي علائنا يودع به من سوف ~~يستقبلونه، ويعتذر به لمن يمسكونه في الدنيا ولا يرسلونه، ويقول أو نقول في مكانه، ما ~~ينبغي أن يجري على لسانه. وذلك هو نشيد الوداع في ختام هذه الصفحات، أنابنا في نظمه على ~~سنة اللزوميات، فله الحسنة منه، وعلينا نحن السيئات. ~~••• # قيل إن بعض المكتبات الإيطالية أهابت بالأدباء من العرب أن يوافوها باسم الأديب الذي ~~تجتمع فيه خصائص العبقرية العربية، فأجمعت الآراء على أنه هو أبو العلاء. # وقواعد الانتخاب ليست بمقطع الرأي في مزايا الفنون والآداب، ولكنا نراها في هذه ms06 الفتوى ~~قد حكمت بالصواب، وأجابت أحسن الجواب، إذ الحقيقة أن حكيم المعرة خير من يمثل الذهن ~~العربي والسليقة «السامية» غير مستثنى في ذلك أحد حتى صاحبه أبو الطيب؛ لأن تمثيل الذهن ~~غير تمثيل «الطبيعة العملية» التي يرشح فيها أبو الطيب للمكان الأول بين شعراء الضاد. ~~وأبو العلاء هو الذي يمثل الذهن العربي في تفكيره وفي مقاييسه وفي نظرته إلى الدنيا، دون ~~سائر المفكرين من الشعراء. ~~••• # وعسى أن تكون هذه الآراء التي وضعناها على لسانه وقسناها إلى المعهود من كلامه هي ~~ترجمان الذهن العربي حين ينظر إلى حقائق العالم في زماننا الحديث. # | وفد # نقلت الصحف من أنباء سورية أن حكومتها فرغت من مراجعة رسم التابوت الذي أزمعت إقامته في ~~المعرة على قبر حكيمها وحكيم العرب أبي العلاء، وأنها تعد العدة من اليوم للاحتفال ~~بانقضاء ألف سنة هجرية على وفاة الشيخ، والصواب على مولده كما هو ظاهر، فإن الأمد لا ~~يزال بعيدا بيننا وبين ذكرى وفاته، إلا إذا كان الغرض التقريب لا التحقيق، ولا حاجة إلى ~~ذاك لقرب ذكرى الميلاد. ~~••• # تمثلت مندوبي الحكومة السورية يحملون قرارها إلى شيخ المعرة، ويبلغونه أنه سيبنون ~~تابوتا على قبره، وأنهم سيدعون علماء المشرق والمغرب إلى موطنه للاحتفال بذكرى ميلاده. ~~فماذا يقول؟ وماذا يقولون؟ # إن الشيخ ليتململ في مضجعه بعد أن استراح فيه مئات السنين، وإنه ليخاطب جدثه اليوم كما ~~خاطبه وهو في قيد الحياة وقيد المحبسين: # يا جدثي حسبك من رتبة # أنك من أجداثهم معزلا # أملني الدهر بأحداثه # فاشتقت في بطن الثرى منزلا # ثم يسأل متثاقلا: من أنتم؟ وماذا تبغون؟ فلا يعلمونه من هم وماذا يبغون حتى يتهاتف ~~قائلا: أتبنون لي تابوتا؟ أما قرأتم أو سمعتم قولي: # إن التوابيت أجداث مكررة # فجنب القوم سجنا في التوابيت # فيحار الجماعة، ولا يدرون بماذا يجيبون. ولكنهم حريصون على إقامة التابوت، وعلى تمجيد ~~الرجل وتشريف مدفنه وتشريف ذكره، وسيكون بينهم ولا ريب أناس ممن عركوا السياسة وحذقوا ~~أساليب الخطاب والتدرج في المجاملة والإرضاء، فيقول قائل منهم: أيأبى مولانا الكرامة ~~والتشريف ms07 ؟! # فيجيب الشيخ: # لا تكرموا جسدي إذا ما حل بي # ريب المنون فلا فضيلة للجسد # ثم يقول: # إذا أنا واراني التراب فخلني # وما أنا فيه، فالتراب مئونتي! # ثم يقول كما قال من قبل: # أأرغب في الصيت بين الأنام # وكم خمل النابه الصيت # وحسب الفتى أنه مائت # وهل يعرف الشرف الميت؟ # فيلهم أحدهم أن يراجعه ببيت من كلامه، وأن يذكره أنه ليس بميت وإنما هو حي خالد، أوليس ~~هو القائل: # وجدت الناس ميتا مثل حي # بحسن الذكر أو حيا كميت # فيأنس أبو العلاء إلى ما سمع، ويعجبه أن يروى له شعره بعد مئات السنين، ويسألهم: ~~وماذا تريدون الآن من جمع الجموع حول هذا التابوت الذي تبنونه؟ أتراكم تمدحونني وأنا ~~القائل: # إن مدحوني ساءني مدحهم # وخلت أني في الثرى سخت # فيجيبه أريب كيس من القوم يعرف كيف يتسلل إلى كمين الرضى من سريرة الشيخ، ويقول له: ~~بل نثني على أنفسنا وعلى بلادنا بما أنجبت من فضلك وأحيت من ذكرك وحفظت من أثرك، فإنما ~~يعيبنا ولا يعيبك أن ننسى هذا ونتمادى في نسيانه، ولن يضيرك أن نكف عن مديحك وأنت القائل ~~عرفانا بقدرك: # فلا وأبيك ما أخشى انتقاصا # ولا وأبيك ما أرجو ازديادا # ولكنه يضيرنا كل الضير أن يثني عليك الغرباء ونحن سكوت، وأن يمدح الناس من ملل الأرض ~~حكماءهم وشعراءهم ولا نمدحك ونشيد بمناقبك وسجاياك. # وكأنما يطلق ألسنتهم إصغاء الشيخ وارتياحه وما يعهدونه فيه من حب الصراحة والفكاهة، ~~فيقول منهم قائل: ثم ماذا يخيفك اليوم من المديح، وقصاراك من خوفه أن تحسب أنك سخت في ~~باطن الأرض؟! لقد أصبح الخيال حقا والحسبان واقعا، وجربت بطن الثرى مئات السنين؛ فلا ~~ضير عليك اليوم أن تسمع من المديح الدواوين والأسفار! ~~••• # فيضحك الشيخ ويتفسح للحديث ويجري معهم في مجراهم فيقول: لا يغرنكم يا أبنائي أنني ~~أزهد في المديح وأنني أسكن إلى الزهد فيه وفي المجد والسلطان، فما أبرئ نفسي من كبرياء، ~~وما أزعم أنني اخترت العزلة والفاقة عن صغر في المطامع أو قناعة بالحظ الوضيع، ولكنني ms08 لا ~~أرى لأحد عيشا في هذه الدنيا إلا أن يسودها أو يستخف بها ويعرض عنها: # ذر الدنيا إذا لم تحظ منها # وكن فيها كثيرا أو قليلا # وأصبح واحد الرجلين: إما # مليكا في المعاشر أو أبيلا # وما أتيح لي أن أصبح مليكا في المعاشر، فأصبحت باختياري راهبا متبتلا أعرض عن ~~الدنيا ولا أريها أنها هي التي أعرضت عني وبخست من حقي! # إذا كان هذا الترب يجمع بيننا # فأهل الرزايا مثل أهل الممالك # فيقول قائل منهم: نعم أيها الإمام. لقد كررناك حتى فهمناك كما قلت في بعض شعرك: # يكررني ليفهمني رجال # كما كررت معنى مستعادا # فما تخفى علينا خافية من هواجس ضميرك ولا تغيب عنا خالجة من خوالج طبعك، وإنك لمناضل ~~مكبوح ومغامر محبوس، وإن نفس الزاهد منك لمقرونة بنفس السيد الذي لا يدين في الحياة لغير ~~حكمه، ويأنف أن يموت حتف أنفه، وقد عشت هكذا في عالم الرأي آمرا لا يأمرك الحاكمون، ~~وأبيا لا يخضعك المغلوبون، وتمنيت يوما: # من السعد في دنياك أن يهلك الفتى # بهيجاء يغشى أهلها الطعن الضربا # فإن قبيحا بالمسود ضجعة # على فرشه يشكو إلى النفر الكربا # وترددت بين القلم والسيف فقلت: # وإن العز في رمح وترس # لأظهر منه في قلم ودرج # وما أختار أني الملك يجبى # إلي المال من مكس وخرج # فدع إلفيك من عرب وعجم # إلى حلفيك من قتب # 1 # وسرج # سراجك في الدجنة عين ضار # وإلا فالكواكب خير سرج # ويقول الشيخ مبتسما: لقد أحصيتم علي فلتات اللسان وشوارد الأماني وشطحات الأوهام، ~~وعملتم بوصيتي حين قلت: # اقرأ كلامي إذا ما ضمني جدثي # فإنه لك ممن قاله خلف # ولكني كنت أوثر لو نسيتم بعضه ومنه هذا الذي ذكرتموه، فما أحسب إلا أنني حاذفه من جملة ~~كلامي لو تمكن من تلك الأوراق التي حفظتموه فيها، فاحذفوه! ~~••• # ثم يخطر لبعض الحاضرين أنها فرصة لا تضيع، فيسألونه: ألا نحمل إليك تلك الأوراق ~~فنراجعك فيما تغير منها وما تأمر بمحوه، بعد أن تنظر في الدنيا نظرة وتطلع منها على ~~ما استجد من ms09 حالها وتبدل من خلائق أهلها! # فإذا الشيخ يتجهم هنيهة وقد عاودته سوداؤه وانقباض صدره وذهب يقول: أما خلائق أهل ~~الدنيا فإنما يتبدل الرأي فيها لمن يراهم على إحدى حالتين: فمن قال إنهم كانوا في غابر ~~زمانهم أهل ورع وصلاح وأصحاب كرم وتقوى. ثم عدت عليهم عوادي الزمن فصدوا عن سبيل الخير؛ ~~فذلك خليق أن يصف منهم شأنا، ثم يعود بهم إلى شأن غير الذي وصف. # ومن قال إنهم اليوم جاهلون وغدا يعلمون، وإنهم اليوم على عوج وغدا يستقيمون، فذلك ~~أيضا خليق بتبديل الرأي في الناس عصرا بعد عصر وأمة بعد أمة. # وما أنا هذا أو ذاك؟ أنا قد بلوتهم فعلمت أنهم هكذا كانوا منذ كانوا: # وهكذا كان أهل الأرض مذ فطروا # فلا يظن جهول أنهم فسدوا # ثم بلوتهم ورجوت صلاحهم واستأنفت الرجاء فيهم وعجبت من أمري معهم على شدة علمي بهم، وما ~~زلت أستغرب من تلك الحال التي أحاولها وتحاولني: # وأعجب مني كيف أخطئ دائما # على أنني من أعرف الناس بالناس # حتى انتهيت إلى رأي لا يتبدل: # فلا تأمل من الدنيا صلاحا # فذاك هو الذي لا يستطاع # نعم ذاك الذي ما استطعته ولن تستطيعوه، ولكن: # نزول كما زال آباؤنا # ويبقى الزمان على ما ترى # وتذهبون في كل مذهب وتطمعون في كل مطمع، ثم تعلمون بعد خطأ لا تزالون ترجعون إليه ~~أنه: # حكم جرى للمليك فينا # ونحن في الأصل أغبياء! # فهو داء عياء ليس له شفاء، وكنت أزعم أن الموت يبرئ الخلائق منه فهأنذا معكم لم أكد ~~أشعر بظل الحياة حتى استرجعت من دائها كل ما كنت أشكوه وأعالجه وأرجو الغلبة عليه. كلا ~~يا أبنائي: لا تحذفوا حرفا مما كتبت في خلائق الناس، أو احذفوه كله فما هو بضائركم أن ~~تجهلوه، وهو منا ومنكم في الصميم، وإنه لباق في النفوس إن زال من الطروس. # تمثلت هذا الحديث بين شيخ المعرة وبعثة الحكومة السورية إليه، وأخال أنني على صواب حين ~~أزعم أن الشيخ في طليعة الحكماء الذين لا يغيرون ما قالوه في ms10 هذا المعنى بعد آلاف ~~السنين، لأنه لم يؤمن بالنكسة بعد العلاج، ولم يؤمن بالتقدم والارتقاء، فيتطرق الخلاف من ~~أحد البابين إلى مجمل ما قال. لكن شيمة واحدة في حكيم المعرة أخالها لو تغيرت قليلا ~~لتغيرت فلسفته جميعا من الألف إلى الياء، ولألغى كثيرا من سقط الزند وكثيرا من ~~اللزوميات، ولخرج بديوان يقرأه القارئ فلا يهجس في خاطره ذكر المعري المعهود؛ لأن تغيير ~~تلك الشيمة يخرجه خلقا جديدا لا يمت بقرابة ذهن ولا بآصرة نسب إلى ذلك الحكيم الذي ~~عرفناه. # | صاحب الجلالة المعري # قلت في ختام الفصل السابق: «إن شيمة واحدة في حكيم المعرة أخالها لو تغيرت قليلا ~~لتغيرت فلسفته جميعا من الألف إلى الياء، ولألغى كثيرا من سقط الزند وكثيرا من ~~اللزوميات ...» # فما هي تلك الشيمة؟ # هي السمت والوقار، أو هي كما نقول في لغة العصر الحاضر أدب البيئة وأصول ~~«اللياقة». # وهذه الشيمة في الواقع وازع قوي عظيم الهيمنة على جميع النفوس، وإن عدها بعضهم ثانية أو ~~ثالثة أو رابعة في ترتيب الزواجر الأخلاقية والنفعية؛ لاعتقادهم أن الزواجر إنما تفعل في ~~الطباع فعلها على مقدار ما يحيط بها من ضجيج وطنين، أو على مقدار ما لها من أسماء ~~وعناوين، لا على مقدار بواعثها من الطبع ومن قوانين الاجتماع. # إن جميع الزواجر والأوامر والنواهي لا تخرج دانقا ولا سحتوتا من كنز المرأة العجوز ~~الذي تجمعه من الدوانيق والسحاتيت، ليكون لها بعد وفاتها مشهد «يليق» ويجري مع العرف ~~الشائع بين البيوت. # وإن الرجل ليقدم على جميع المحظورات غير حافل بالعقاب أو سوء المآب، حاشا المحظور الذي ~~«يسقطه» في نظر الناس ويخل بقواعد المروءة في البيئة التي هو منها، فذلك حد لا يتخطاه ~~إلا وقد تخطى قبله جميع الحدود واجترأ على جميع المنكرات. # وإن الخمر والزنا والسرقة لفي درجة واحدة من التحريم في بعض الشرائع السماوية، ولكن ~~الناس يجانبونها أو يستبيحونها على حسب نصيبها من الزراية في البيئات التي يعيشون بينها، ~~ونعني بها بيئة المعيشة وبيئة المعاشرة وبيئة التفكير. وربما وجد من الناس ms11 من يباهي ببعض ~~تلك المحظورات في بعض بيئاته، وإن كانت في بيئات أخرى مجلبة العار والمذمة ~~والنفور. # وربما استخف المرء أو المرأة بكل منكور وممنوع، إلا أن يزف بنته أو بنتها مثلا في شوار ~~أقل من الشوار المصطلح عليه، مع أنه غير ممنوع في دين ولا في قانون ولا في شرع معقول، ~~ولكنه ممنوع في أدب البيئة أو أدب اللياقة ... فهو إذن أصعب الممنوعات. ~~••• # والخلاعة هي غاية السقوط عند العرب أو عند المتكلمين باللغة العربية، وإنما الأصل في ~~الخليع أنه الرجل الذي يخلعه أهله ويبرأون منه، فهو من ثم يجلب على نفسه أكبر العار، ~~وإن لم يقارف شيئا من معاصي الدين والقانون على حسب العرف الحديث. # وإنهم ليجدون متسعا من القول في كل عاص، وكل جارم، وكل آثم، إلا الخليع فلا متسع فيه ~~من القول بعد الخلاعة. وما عسى أن يقول القائل في خليع؟ تلك غاية الغايات وقصارى ~~الموبقات، فلا ملامة ولا عتاب! # المعري مثل من الأمثلة البالغة على سلطان البيئة أو على سلطان أدب «اللياقة» وأدب ~~العرف والتقاليد. # فهذا الحكيم الذي عرض على فكره كل أصل من أصول الحكمة وكل مذهب من مذاهب الدين، فلم ~~يقبل منها إلا ما ارتضاه برهانه، ولم يتخذ له إماما غير العقل في صبحه ومسائه، هو ~~بعد هذا كله أسير «أدب اللياقة» يمنعه هذا الأدب ما ليس يمنعه شرع ولا فلسفة ولا عقيدة، ~~وهذا القائل: # وسيان من أمه حرة # حصان ومن أمه زانية! # هو هو الذي يأبى أن يدخل الوليد على النساء بعد بلوغه العاشرة، ويأبى أن تذهب المرأة ~~إلى الحمام، ويخشى على عرضها أن تخرج إلى الحج فلا يعده فريضة على عجز النساء ولا ~~العذارى! # ذلك هو «السمت اللائق» بالمرأة في شريعة البيئة؛ فالسيدة الحصان تنجبها الأسرة الوقور ~~لن تكون إلا على هذه الصفة، ومتى وصلنا إلى السمت اللائق أو إلى أدب اللياقة فأبو العلاء ~~وسائر أبناء البيئة سواء، والفيلسوف الذي قال: # كذب الظن لا إمام سوى العق # ل مقيما في صبحه والمساء ms12 # لا يعنيه من إمامة العقل هنا إلا ما يعني قعائد البيوت وعجائز الأمهات والجدات، ذوات ~~البنات يلتمسن الأزواج في ستر وحشمة وصيان! ~~••• # ولعلنا تسهلنا بعض التسهل إذ قلنا: إن أبا العلاء وسائر أبناء البيئة سواء ... فإنه ~~لأشد تحرجا من كثيرين، وإنه ليحظر على نفسه ما يبيحه آخرون، وإنه ليحسب الوقار جمالا ~~لا يدانيه جمال في الرجال، فإن حذر من الشيخوخة آفة فإنما يحذر أن يدركه الخرف: # وما أتوقى والخطوب كثيرة # من الدهر إلا أن يحل بي الهتر # وإذا رثى أباه في صباه وهو يتخيل موقف الحشر ورهبة القيامة وزحام العطاش على الحوض فليس ~~ينسى أن يسأل عن ذلك الأب: # ألا ليت شعري هل يخف وقاره # إذا صار أحد في القيامة كالعهن # وهل يرد الحوض الروي مبادرا # مع الناس أم يأبى الزحام فيستأني؟ # فكأنه يقف بالدين والفلسفة عند باب العقل، ثم يقف بالعقل عند باب الوقار أو أدب ~~اللياقة، ثم لا يسأل هذا السلطان الجائر سؤالا واحدا من تلك الأسئلة التي كان يشنها من ~~كل جانب على جميع السلاطين وجميع الدولات وجميع الأحكام، ولو أنه سأل وأباح نفسه الجواب ~~الصريح لما أخذها بكل تلك الصرامة ولا أحال عليها كل تلك القيود. # أما مرجع ذلك السلطان الجائر من حياة أبي العلاء فهو أسباب كثيرة وليس بسبب ~~واحد: # مرجعه إلى تربية الأسرة: # فقد كان أبوه وأمه من ذوي الوجاهة والصلاح، وكان آل أبيه يتوارثون ~~القضاء في بلده ويعيشون بين الناس كما يعيش رجال الدين ورجال الحكم على ~~شعائر المروءة والتعفف والأنفة من غشيان مواقع الشبهات، وعلى الهيبة ~~التي لا غنى عنها لمن يسوسون الرعية باسم الله واسم السلطان. # ومرجعه إلى الخليقة العربية: # فقد كان أبو العلاء عربي النجر عربي الطبيعة، يفهم أن العرض قوام الشرف ~~والعزة، وأن الابتذال هو الهوان الذي ما بعده هوان، وأن الرجل الذي يجترئ ~~عليه المجترئ بمذمة أو سخرية هو حمى مستباح، وأن من لا حياء له لا حياة ~~له ولا خير فيه، وأن السنة ما سنه الآباء وجرى ms13 عليه العرف وسارت به ~~الأمثال وحسنت به القدوة. # ومرجعه إلى فقد بصره: # فإن الضرير قد يصيبه السخر والملام لأمور يواقعها البصير ولا من يسخر به ~~أو يلومه، وإن البصير قد يمارس من الشهوات ما يأمن الفضيحة فيه، لأمانه ~~من أن يطلع عليه أحد غيره، وليس ذلك في مقدور الضرير؛ فإما الفضيحة ~~والعار وإما الزهد والوقار. # ومرجعه إلى كبريائه وعزة نفسه: # فإن الأعمى قد تهون عليه الفضيحة في سبيل الشهوة، إلا أن تكون له كبرياء ~~تأبى له المهانة والابتذال، فيهون عليه فقد الشهوات واقتناء ~~الكرامة. # ولقد رأينا أن أبا العلاء كان لا يرضى من الدنيا إلا بالسيادة عليها أو ~~بالإعراض عنها، فإما الملك وإما الرهبانية ولا توسط عنده بين الأمرين، ~~فلا يحسبن أحد أن «فكرة الملك» عارضة في ذهنه كما يعرض الخاطر في خلد ~~الشاعر، فإن «للمجد الدنيوي» لنزعة مكبوتة في قرارة ضميره يدل عليها شعره ~~ونثره، ولا تزال غالبة عليه في جمحات الأهواء وفلتات اللسان. فسرعان ما ~~يثب إليها كلما عرضت لها لمحة ظهور، وله في ذلك أبيات تعد بالعشرات ~~منها: # لا ملك لي وأرى الدنيا تحاصرني # وما حججت وقد لاقيت إحصارا # ومنها: # ما سرني بقناعة أوتيتها # في العيش ملكا غالب وذمار # ومنها: # لو شاء ربي لصاغني ملكا # أو ملكا، ليس يعجز القدر! # ومنها: # وزهدني في هضبة المجد خبرتي # بأن قرارات الرجال وهود # ومنها: # لا كانت الدنيا فليس يسرني # أني خليفتها ولا محمودها # ومنها: # محمودنا الله والمسعود خائفه # فعد عن ذكر محمود ومسعود # ملكان لو أنني خيرت ملكهما # وعود صلب، أشار العقل بالعود # ومنها: # ما سرني أني إمام زمانه # تلقى إلي من الأمور مقالد # ومنها: # أسر إن كنت محمودا على ضعتي # ولا أسر بأني الملك محمود # وقد أعجبه أن يراه راء في الكرى يلبس تاجا فقال: # رآني في الكرى رجل كأني # من الذهب اتخذت غشاء راسي # قلنسوة خصصت بها نضارا # كهرمز أو كملك أولي خراس # فقلت معبرا: ذهب ذهابي # وتلك نباهة لي في اندراسي # ولعل الرائي هو أبو العلاء نفسه ms14 قد أظهر له المنام ما أخفاه العقل ~~الباطن من نوازع الكبرياء، أو لعله صاحب خبيث قد استطلع طلعه وعرف شموخ ~~طبعه فرأى المنام حقا أو لفقه له ليغنم رضاه. # وكأنه لما فاته التاج وسوس له «عقله الباطن» في المنام فرأى تلك الرؤيا، ~~ووسوس له في اليقظة فقال في المفاضلة بين تاج الملك وتاج الزاهد: # والتاج تقوى الله لا ما رصعوا # ليكون زينا للأمير الفاتح # وأمثال هذه الأبيات وعشرات مثلها لا تبدر من رجل يمزح حين يقول: كن في ~~الدنيا كثيرا أو قليلا، فإما مليكا أو راهبا ... ثم تدركه الأنفة أن ~~يأكل من رزق غيره مع الرهبان فيقول: # ويعجبني فعل الذين ترهبوا # سوى أكلهم كد النفوس الشحائح # كلا! ذلك الرجل قد تغلغلت الأنفة في أعماق طبعه، فما هي عنده كلمة مجاز ~~أو كلمة مزاح أو شطحة خيال. # تلك مراجع شتى لعادة السمت أو «أدب اللياقة» في خلائق أبي ~~العلاء. # ومرجع آخر نضيفه إليها ولا نحسبه قليل الأثر في تكوين تلك العادة: أنه ~~كان ضعيف البنية ضعيف الخوالج الجسدية؛ فلم تغلبه شهوات اللحم والدم ولم ~~يعسر عليه ضبطها في عنان السمت مدى تلك السنين الطوال. # على هذه المراجع جميعها قام «أدب اللياقة» في خلائق أبي العلاء، أو قامت ~~تلك الشيمة التي قلنا إنها لو تغيرت قليلا لخرج أبو العلاء رجلا آخر: ~~من يقرأه لا يهجس في خاطره ذكر المعري المعهود. ترى هل كان تغييرها من ~~المستطاع؟ # وماذا كان المعري صانعا لو قدر على تغييرها؟ # | عالم السريرة # قلنا في ختام الفصل السابق إن الخصلة التي لو تغيرت في أبي العلاء غيرت معيشته كلها أو ~~غيرت مذهبه في الحياة كله، هي خصلة الوقار وكراهة السخر والمهانة، أو هي خصلة «اللياقة» ~~كما نسميها في العصر الحديث. # وقلنا إن هذه الخصلة مردودة فيه إلى مراجع كثيرة، وهي التربية في بيت العلم والوجاهة، ~~والسليقة العربية، وفقد البصر، والكبرياء، وضعف البنية ضعفا أتاح له أن يكبح نوازع ~~اللحم والدم ويقمع دوافع الشهوات. # وسألنا: هل كان من المستطاع تغيير ms15 هذه الخصلة؟ وماذا كان المعري صانعا لو أنها تغيرت ~~بعض التغيير أو كل التغيير؟ ~~••• # وعندنا أن تغييرها كان مستطاعا كما يستطاع كل تغيير في عوارض الصفات. # فإن تلك المراجع التي أنشأت فيه حب الوقار ليس من شأنها أن تنزع بصاحبها إلى النسك ~~والزهد في الحياة إلا إذا اجتمعت في وقت واحد. # أما إذا افترقت ولو بعض الافتراق فليس النسك لصاحبها بلزام، وليس حتما عليه أن يأنف من ~~نعيم الحياة. # إذ ليس كل من تربى في بيت من بيوت العلم والدين والوجاهة بصادف عن اللذات والشهوات، ~~أو بعاكف على الصوامع والدور التي يسميها المحابس، والأمثلة فيما نراه وفيما نقرأه ~~كثيرات. # وليس كل عربي تمنعه صيانة العرض أن يعاقر الخمر ويستطيب المجون، فإن امرأ القيس وطرفة ~~والأعشى عرب في الصميم من العروبة، ومجونهم مع ذلك كمجون الشعراء من أبناء الأمم الأخرى ~~في عهود الجاهلية وعهود الأديان. # وليس كل ضرير عازفا من مواقع الشبهات، فإن بشارا قد ولد ضريرا وإنه لأسبق إلى ~~الشبهات من المبصرين. # وليس كل ضعيف البنية معرضا عن حظوظ الأقوياء والأشداء؛ إذ ربما كان ضعف البنية ~~سببا إلى الإفراط في التماس تلك الحظوظ، لأنه يضعف الإرادة فلا تقوى على كبح سورات ~~الطبع ووساوس الإغراء، وكذلك ليس المتكبر مترفعا أبدا عن الطرب والسرور؛ لأنه إذا كان ~~بصيرا لم يكن في طربه وسروره ما يجلب عليه السخر والمهانة، أو يعرضه للتغامز والتقريع ~~بل لعله يرضي كبرياءه أحيانا من طريق غزوات الحب ومظاهر البذخ والثراء. ~~••• # أما إذا اجتمعت هذه الأسباب كلها فمن الصعب أن يفلت الطبع الواحد من أوهاقها، ومن ~~الصعب أن يوفق بينها جميعا إلا كما وفق بينها أبو العلاء، أي باجتناب الدنيا والتزام ~~العزلة والقناعة. # لكن افتراقها كان ميسورا لا استحالة فيه، فلم يكن ضربة لازب أن يصاب أبو العلاء ~~بالجدري في طفولته الباكرة، ولم يكن ضربة لازب إذا أصيب به أن يفقد بصره وأن يعيش بعد ~~ذلك رهن المحبسين. وماذا يبقى من معيشة أبي العلاء أو من فلسفته في المعيشة ms16 إذا لم يكن ~~رهن المحبسين؟ # أكبر الظن في هذه الحالة أنه كان يجمع بين النواسية والخيامية في نمط واحد، أو كان ~~يخرج لنا نمطا جديدا يضاف إلى نمط النواسي ونمط الخيامي في ديوان الآداب الشرقية، ~~ويكون لا ريب نمطا بديعا خليقا بذلك الذهن الوقاد وذلك الطبع الأصيل. # وفي المعري جميع العناصر التي تخرج منه ذلك النمط البديع، ونعني به النمط الذي يذكرك ~~عمر الخيام أو يذكرك الحسن بن هانئ قبل أن يذكرك أبا العلاء الذي عهدناه ودرسناه. # عنده الشك في أخلاق الناس وعقائدهم، فهو القائل: # ما فيهم بر ولا ناسك # إلا إلى نفع له يجذب # وهو القائل: # توهمت يا مغرور أنك دين # على يمين الله: ما لك دين! # وهو القائل: # يحرم فيكم الصهباء صبحا # ويشربها على عمد مساء # وهو القائل: # وما يحجون من دين ولا نسك # وإنما ذاك إفراط من الأشر # وهو القائل وفيه كل سخرة بخلائق الناس وخلائق نفسه: # عرفتك فاعلم إن ذممت خلائقي # ورابك بعضي: أن كلك رائبي! # وعنده الرغبة في الحياة والشغف بمتاع الدنيا، وكلامه في ذلك كثير. # منه قوله: # تناهبت العيش النفوس بغرة # فإن كنت تسطيع النهاب فناهب # ومنه قوله: # والمرء ليس بزاهد في غادة # لكنه يترقب الإمكانا # ومنه قوله وهو أصرح مما تقدم: # ولم أعرض عن اللذات إلا # لأن خيارها عني خنسنه # وعنده الشك في عقبى النفس وما يستتبعه ذلك الشك من قلة المبالاة والمساواة بين المحامد ~~والمثالب، ولعل أوجز كلامه في هذا المعنى قوله: # وقد زعموا الأفلاك يدركها البلى # فإن كان حقا فالنجاسة كالطهر # أما الخمر فلا أستبعد أن الشيخ قد ذاقها في بعض الأديرة التي كان يغشاها للدرس ومراجعة ~~المذاهب، فإن أوصافه لها أوصاف من لا يقتصر في العلم بها على السماع. # بل لا أستبعد أنه كان يذوقها من حين إلى حين في بعض أيام العزلة كما ينم عليه ~~قوله: # فلم تشربنها ما حييت، وإن تمل # إلى الغي فاشربها بغير نديم # وإنك لتقرأ نهيه الكثير من الخمر فتلمس فيه نزاعا شديدا إليها يغالبه ms17 ويعاوده في معظم ~~أيامه كما يؤخذ من قوله: # تمنيت أن الخمر حلت لنشوة # تجهلني كيف اطمأنت بي الحال # أو في قوله: # أيأتي نبي يجعل الخمر طلقة # فتحمل شيئا من همومي وأحزاني؟ # وهيهات لو حلت لما كنت شاربا # مخففة في الحلم كفة ميزاني # أو من قوله: # لو كانت الخمر حلا ما سمحت بها # لنفسي الدهر لا سرا ولا علنا # أو من قوله: # لا أشرب الراح أشري طيب نشوتها # بالعقل أفضل أنصاري وأعواني # أو من قوله: # لو كان قدسا # 1 # ثم هبت ريحها # بهضابه لم يبق فيه وقار # لو يحمل الشرب الرواسي أوهموا # أن ليس فوق ظهورهم أوقار # أو من قوله: # وما قصرت لي أم ليلى بشربها # حنادس أوقات علي طيال # أو من قوله: # لا ينزلن بأنطاكية ورع # كم حلل الدين عقد للزنانير # بها مدام كذوب التبر تمزجه # للشاربين وجوه كالدنانير # أو من قوله: # لقد خدعتني أم دفر # 2 # وأصبحت # مؤيدة من أم ليلى بسلطان # إذا أخذت قسطا من العقل هذه # فتلك لها في ضلة المرء قسطان # أو من قوله: # لا أشرب الراح ولو ضمنت # ذهاب لوعاتي وأحزاني # مخففا ميزان حلمي بها # كأنني ما خف ميزاني # إلى أضعاف هذه الأقوال وما شاكلها في اللزوميات خاصة، وهي من بعض الوجوه أشبه الأشياء ~~بمفكراته الشخصية، وهذا عدا ما جاء في رسالة الغفران من وصف مجالس الشراب ولذات ~~الشاربين في الدنيا والآخرة. # فإن لم يكن في كل ما تقدم دلالة على أن الشيخ قد ذاق الخمرة وعاد إلى مذاقها بعد لزوم ~~المحبسين ففيه دلالة على اشتهائها ومغالبة نفسه عليها، مغالبة ليس بالهين نسيانها وصرفها ~~من ذهنه وهواجس ضميره. ~~••• # ويرجح الظن بنزوع المعري هذا النزعة بين الخيامية والنواسية أنه كان يعيش في عصر فتنة ~~واضطراب، وجزع على الأنفس والأعراض، وتلك عصور يشيع فيها الفساد وتندر فيها العصمة ويكثر ~~فيها اغتنام الفرص والتهافت على اللذات، ولا سيما على ملتقى الطريق بين حضارة الروم ~~وحضارة العرب وحضارة الفرس، وكلها في ذلك العهد حضارات أخذت في الزوال ولم تستبق من ~~المناعة ms18 والتماسك ما يزجر النفوس ويعصم الأخلاق ويحيي شرائع الآداب. # لكن لماذا نقول الخيامية والنواسية ونفرق بين الطريقين وكلا الرجلين الخيام وأبو نواس ~~معاقر كأس مقبل على متعة، مستخف بالذم والثناء؟ # نقول ذلك لأنهما على اتفاقهما في العمل مختلفان في أسبابه ودواعيه وغاياته. # فالخيام يشرب وينعم لأنه عالج مشكلات الوجود فاستعصى عليه حلها فقنع بالساعة التي هو ~~فيها وعمد إلى الكأس يغرق فيها شكوكه وأسفه على بطلان الحياة وعاقبة الحياة. # أما أبو نواس فلا شكوك عنده ولا مشكلات، وإنما هو شارب خمر لأنه يشتهيها ويتصدى لعقاب ~~الآخرة في سبيلها، فالآخرة عنده حقيقة مفروغ منها وليست قضية في طريق الحل والجلاء، كما ~~كانت في مذهب عمر الخيام. # أما أبو العلاء فهو قريب من أبي نواس في الثقافة العربية وقريب من الخيام في التفكير ~~والبحث عن أصول الأشياء، فهو لا يكون كهذا ولا كذاك حين يستسلم لمتاع الحياة، ولكنه يكون ~~نمطا وحده يأخذ من كليهما بما هو قريب إليه، وقد يترجم هذا النمط بعض الترجمة ~~بقوله: # السيف والرمح قد أودى زمانهما # فهل لكفك في عود ومضراب # إلا أننا نسأل ويحق لنا السؤال: هل كان حتما لزاما على المعري إذا هو سلم من الجدري ~~وعاش بصيرا بين أهل زمانه أن يدرس الدراسة التي تشككه وتدفع به إلى البحث في أصول ~~الأشياء؟ ألم يكن من الجائز أن استغراقه في الدراسة إنما كان نتيجة لفقد بصره وانصرافه ~~عن الدراسات الأخرى التي يشتغل بها طلاب المناصب والمساعي الدنيوية؟ ألم يكن من الجائز ~~أن يدرس - وهو طفل بصير - تلك الدروس التي ترشحه للقضاء كما رشحت بعض أهله من قبله؟ ألم ~~يكن من الجائز إذا علمه أهله ليرشحوه لوظيفة القضاء أن يكتفي بدروسه الفقهية ولا يسترسل ~~في دروس الحكمة والفلسفة وشكوك الأديان؟ # كل ذلك مما يجوز، وقد ذكر هو المراتب والتطلع إليها في مواضع من شعره، وذكر الفتيا ~~فقال: # قلدتني الفتيا فتوجني غدا # تاجا بإعفائي من التقليد # وقال يخاطب أبناء بلده: # يا قوم لو كنت أميرا لكم # ذممتم في ms19 الغيب ذاك الأمير # فإذا قنع الطفل أبو العلاء بدروس الوظائف والمساعي الدنيوية فربما ولي القضاء وعاش عيشة ~~القضاة في زمانه، فلا يطيل الدرس ولا يتشعب في مناحيه بعيدا من فقه الدين وفتاوى ~~القضايا الشرعية، وإذا تمادى به البحث مرة ودعاه إلى ذلك بعض ما يسمع ويرى من حوله فما ~~هي إلا خطرة عارضة، لا تلبث أن تذهب كما جاءت أو تنطوي في خبايا النفس مزوية عن الأسماع ~~والأبصار. # لقد كان إذن يجد الوظيفة والبصر ولكنه يعيش بعد موته في ظلام التاريخ. # لقد كان يعيش إذن جاهلا حقيقة نفسه ويموت مجهولا بين عارفيه منذ قضى نحبه إلى أن يشاء ~~الله. # | أبو العلاء هو أبو العلاء # قال الرسول: ألم يجمع شيخنا العظيم رأيا فيما اختار من تلك الشخوص؟ # قال أبو العلاء: شيخنا العظيم قد اختار وفرغ من اختياره. # قال الرسول: أفيأذن مولاي أن أسأله عما اختار منها؟ # قال أبو العلاء: بل هو يسألك ماذا أنت مختار له من تلك الشخوص؟ فلعله يهتدي منك بهدى ~~فيما يؤثره لنفسه، من شكول حياته وأحوال وجوده. # قال الرسول: عفوك اللهم وغفرانك! أفمثلي يهدي أبا العلاء؟ وفيم أهديه - تعاليت ربي ~~وتباركت - فيما يأخذ من شأنه وفيما يدع؟! وفيما يؤثر لنفسه وفيما يأبى؟! ماذا أسمع منك ~~مولاي؟ وهل بلغ من قدري أن أصبح هدفا لسخرك إن كنت ساخرا، وغرضا للتهكم منك إن طاب لك ~~أن ترجع إلى تهكمك القديم؟ # قال أبو العلاء: ولا كل هذا يا بني ... ما أنا بساخر منك ولا متهكم، وإنما يعجز الإنسان ~~غاية العجز حين يختار لنفسه، ويقدر غاية القدرة حين يختار لغيره، وليس صاحب الحكمة بدعا ~~في هذه السنة التي شملت أبناء آدم وحواء، بل لعل الحيرة أعظم والتردد ألزم حين يختار ~~الحكيم وينظر في مختلف الشئون؛ قياسا على كثرة ما يرى وكثرة ما يستوعب من المزايا ~~والنقائص، وكثرة ما يعلم للمسألة الواحدة من وجوه وأطوار. فلا جرم تكون أهلا للسؤال ~~الذي سألتك وأنا أحوج إلى جوابه منك إلى جوابي، فإنما أنظر إلى ms20 شخوصي كما ينظر الأب إلى ~~أبنائه، فلا أدري من منهم الأثير الراجح ومن منهم المزوي المرجوح. وأنا بعد صاحب ~~الاختيار ومن يقع عليه الاختيار، وأنا بعد الشاهد والمشهود عليه، فما بالك تستغرب مني أن ~~آنس إلى خاطر يخطر لك أو ظن يحوم في خلدك! قل يا بني ولا حرج عليك من حكمة حكيمك العظيم ~~كما تدعوه. ما أنت بجاهل وما أنا بعليم: # وما العلماء والجهال إلا # قريب حين تنظر من قريب # قل الرسول وهو مأخوذ: ذلك علم أستفيده منك إذ أنت تنكر العلم يا مولاي على نفسك، ~~وقصاراي أن أسألك عن شخص من شخوصك التي تعرض عليك، وأن تقول لي ما تحمده منها وما ليس ~~عندك بحميد، وأنا الرابح بما أسمع، وإن لم يبلغ من رأيي أن يضاهي رأي الشيخ فيما يريده ~~وما يأباه. # قال أبو العلاء: قل على بركة الله ... # قال الرسول: ذلك قاضي قضاة المعرة أول تلك الشخوص، أتمثله سيدا جليلا ينظر إلى ~~الدنيا وتنظر الدنيا إليه، وينعم بنصيب من الحياة يعلن منه ما يعلن ويبطن منه ما يبطن، ~~ويسأله الناس في العلم والدين، ويقصده القاصدون فيما يشكل عليهم من قضايا الفكر، وقضايا ~~المصالح والحاجات ... # ومضى الرسول يطنب في مآثر قاضي القضاة وهو ينظر إلى وجه أبي العلاء فيراه يبتسم ويصغي ~~في غير قليل من الرحمة والحدب، وغير قليل من العجب والاستجهال، ويتأنى الرسول في كلامه ~~ويكفكف بعض الشيء من إطنابه وغلوائه، فيعمد الشيخ إلى الكلام كمن لا ينشط إليه، ويقول ~~للرسول سائلا: في أقاليم الهند والصيد ألوف وألوف من أجيال البشر الأحياء في هذا ~~الزمان، أفتراني لو عدمت الحياة أحسب نفسي حيا لأنهم أحياء، وأزعم أنني أعيش لأنهم ~~يعيشون؟ # قال الرسول: كلا يا مولاي، فإن لهم حياتهم وللشيخ حياته، ولهم أعمارهم المعدودة وللشيخ ~~عمره المعدود. # قال شيخ المعرة: فتح الله عليك. فما أنا وذلك القاضي الذي وصفت؟ وما نصيبي من الحياة إن ~~عاش هو وسمى نفسه أبا العلاء؟ هو رجل من أهل الصين ما سمعنا به في ms21 الأولين! # إنما أبو العلاء هو أبو العلاء حين يمعن في أغوار ضميره فيلمح هناك هواجس قلبه وشكوك ~~عقله، ومادة علمه واختباره وآثار نعمته وحرمانه، وما حصل أو ضيع من أحلامه وأشجانه، ~~وغاية ما ينتهي من ظنه أو يقينه، فما أنا وقاضي قضاتك يا بني؟ ذره وما اختاره يعيش ~~كما اختار له أمراؤه وطلاب عدله وإنصافه، فإن الصلة بيني وبينه كما قلت لك كالصلة بيني ~~وبين ألوف ممن عاشوا أو يعيشون في أرجاء الهند والصين، فما اجتاز صاحبنا من حقيقة أبي ~~العلاء عتبة الدار، ولا صعد منها إلى ذروة ولا هبط إلى قرار. # قال الرسول: فما قول شيخنا أفاده الله في الشاعر النواسي يحيا حياته وينعم نعيمه، ويرتع ~~في لذات العيش كما رتع، وينظم الشعر كما نظم، ولا يحرم الشهرة بعد زمانه، ولا الحظوة بين ~~معاصريه وأقرانه؟ # قال أبو العلاء متهانفا مستكرها: لو سرني أن أعيش عيشه لسرني أن أخلد خلوده وأن اشتهر ~~اشتهاره في زمانه وبعد زمانه: ذاك نديم يا بني وتلك غاية مرتقاه، فكيف تراني أوثر مكان ~~النديم ومن فوقه مكان من ينادمه ويرجو مسرته ويبتغي صلاته وعطاياه؟ # رحم الله ابن هانئ، ما اقترب من الأفق إلا حين قال: # إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت # له عن عدو في ثياب صديق # ثم أبى أن يمتحنها وامتحنتها أنا في كل يوم، وشرب من يدها الخمر لذة للشاربين وكرهت ~~أنا أن أقبل الضيافة من عدو بغيض، ولو لقيته لسألته: ما بالك لم تمتحنها يرحمك الله ~~تركتها محنة لك لا تألوك امتحانا في ليل ولا نهار؟ # خذه يا بني إلى جانب قاضيك فما كان لي من أرب في هذا ولا ذاك. ~~••• # فوجم الرسول التلميذ هنيهة، ثم قال وهو يقدم ويحجم: هل أسأل الشيخ عن الفارسي عمر ~~الخيام؟ # فهش أبو العلاء وقال: نعم تسأل، فبماذا تخالني مجيبا إن سألت عنه؟ # قال التلميذ: أحسب أنني فطنت لاختيار أستاذنا من تلك الشخوص التي عرضت عليه. # إن أستاذنا ليختار الفيلسوف الفارسي وإنه ليرضى عن بحثه وزهده، وإنه ms22 ليقنع كما قنع ~~برغيفه وقدحه وحبيبه، وإنه لينظر بعد ذلك في السماوات والأرضين بعلم المنجم وخبرة ~~الحكيم، وإنه ليتبوأ من سيرة الخلف بعد زمانه مكان الهداية والتعليم، لا مكان السمير ~~والنديم! # فبدا على وجه الحكيم الضرير قطوب يسير، ولكنه قطوب الروية والمراجعة لا قطوب الكدر ~~والانقباض، وهمس بين شفتيه كأنه في حديث نجوى: أتراني أكون نسخة منقولة من أحد كائنا ~~ما كان؟ # ثم جهر قائلا: كلا يا بني! لقد كنت أختاره لو أنني خيرت فيه قبل ميلادي وميلاده، أما ~~اليوم فما لي في هذا الشبه من أرب: رضي الله عنه فهو أقرب من آثرت وأصعب من أبيت. # ثم عاد يقول: لئن حظي بلذة التعاطي لما حظي بقوة الامتناع، ولئن سكر بخمر الدعة لما سكر ~~بخمر الأنفة، ولئن جرب اتباع الدنيا خطوة واحدة لما جرب الإعراض منها خطوات، له طريق ولي ~~طريق، وربما التقينا في بعض الطريق! # ثم صاح الشيخ بتلميذه ورسول القوم إليه: ما بالك يا بني ترضى لي كل صورة إلا الصورة ~~التي رضيتني من أجلها؟ # قال التلميذ: تعني يا مولاي صورة أبي العلاء؟ # قال الشيخ: نعم، إياها أعني ولا أعني سواها. # فعجب التلميذ عجبا لم يدر له منفذا ولا منصرفا: أيقضي الشيخ حياته في التبرم ~~والإنكار ثم لا يختار حين يختار إلا ما تبرم به وأغرق في إنكاره؟ # هذا والله لهو العجب العجاب والحيرة جد الحيرة في قضاء الناس مع الأقدار وقضاء الأقدار ~~مع الناس. # وكأنما أدرك الشيخ ما يهجس به ضمير التلميذ، فقال له: تراه عجيبا؟ أليس كذلك؟ # قال التلميذ: لا أكتمك عجبي فأنت به أعلم، وما أدري كيف شكوت الدنيا ثم كيف تختار اليوم ~~ما كنت تشكوه؟ # قال: أضرب لك مثلا، فإنما بالأمثال تنجلي المشكلات والمشابهات: # هبك خرجت إلى العالم العريض الرحيب فجعلت لا ترى مزية ولا حسنا ولا فضيلة في أحد من ~~الناس إلا تمنيت ذلك لنفسك، هبك تمنيت من هذا عينيه، ومن هذا أنفه، ومن هذا قوامه، ومن ~~هذا فكره، ومن هذا عافيته، ومن ms23 هذا أرزاقه وأمواله، ومن هذا ماضيه، ومن هذا حاضره ~~ومستقبله، ومن هذا ملكة الشعر أو ملكة الغناء أو ملكة الحكم أو ملكة التدبير. # وهبك جمعت كل هذا في شخصك فأين تكون أنت بين جميع هذه الشخوص؟ # لا تجب فإني مغنيك يا بني عن الجواب: إنك يومئذ لا تكون. # إنك تكون أنف زيد وعين بكر ولون خالد وسطوة فلان ومال آخرين، ولكنك أنت لن تكون وأنت ~~أنت الذي يعنيك أن تكون جميع هؤلاء، وإذا كنت جميع هؤلاء فلا أنت ولا هؤلاء ~~كائنون. # وقال التلميذ: ألا يتسنى لي أن أحتفظ بأساس وجوهر ثم أتمنى النوافل والعروض؟ # قال الشيخ: ذلك خطؤكم القديم. فما من عرض إلا وهو داخل في صميم الجوهر، وما من شرفة ~~في أعلى البناء إلا وللأساس منها عماد، وإن بصري الذي فقدته لجزء من تكويني لا أنزعه ~~إلا انتزعت كلي معه فلم يبق لي ما أختار به ولا ما أختاره ... ولقد يكون من عوارض الحياة ~~مال يذهب ومال يجيء، ودار تسكنها هنا ودار تسكنها هناك، ولكنك إذا كسبت المال وفيك طبع ~~الفقير فكأنما وقع الدرهم في يمين غير يمينك. وإذا سكنت الدار وخلفت فيها ذكريات شبابك ~~فأنت ساكنها وإن تحولت منها إلى العدوة الأخرى، وإذا وجدت مرة فلن توجد إلا على صورة ~~واحدة في هذه المرة، وكل ما تختاره بعد ذلك فإنما هو من وحي تلك الصورة، ليس منه محيص ~~ولا محيد. # كلا يا بني، لن يكون أبو العلاء إلا أبا العلاء! # | بساط الريح # قال الشيخ: الحمد لله استطعنا وفعلنا. # قال الرسول: إن الفضول ذميم في كل شيء يا مولاي إلا في طلب العلم والسؤال عنه. أفيأذن ~~لي أستاذنا في سؤال؟ # قال الشيخ: أحسبك تسألني عما استطعت وفعلت؟ # قال الرسول: نعم. هو ذاك! # فصمت الشيخ قليلا كمن يستحضر نغما بعيدا أو كلاما منسيا ثم أنشد: # وماء بلادي كان أنجح مشربا # ولو أن ماء الكرخ صهباء جريال # فيا وطني إن فاتني بك سابق # من الدهر، فلينعم لساكنك البال # فإن أستطع في ms24 الحشر آتك زائرا # وهيهات لي يوم القيامة أشغال # هذا الذي استطعناه وفعلناه: عودة إلى الوطن وزيارة للمعرة في هذا الحشر الذي حشرتمونا ~~إليه. # فأخذت الرسول شيطنة التلاميذ في كل سن وفي كل مقام، وراح يقول لأبي العلاء: ومع هذا ~~أنت القائل: # فيا ليتني هامد لا أقو # م إذا نهضوا ينفضون اللمم # فأدار الشيخ رأسه ناحية وزم شفتيه قليلا ثم أجابه: نعم! ليتني هامد لا أقوم. أما وقد ~~قمت فأي مكان أحق بالحنين من: # بلاد بها نيطت علي تمائمي # وأول أرض مس جلدي ترابها # بل أصبح جسمي من ترابها، واختلط فوق صعيدها وبين أحشائها. هذه هي المعرة! نعم هذه هي ~~المعرة عرفتها وما كدت أعرف غيرها؛ فالحمد لله على البعث فيها. # فهجم التلميذ بسؤال جديد، وعول على الإكثار من السؤال؛ إذ لا محيص من مساءلة الشيخ ~~وإن ضجر بعض الأحيان، فربما كان ضجر الإجابة خيرا من ضجر السكوت سنوات، ريثما يعقد ~~الاحتفال ويجتمع المقبلون إلى المعرة لتحية حكيمها في ذكراه. # قال التلميذ في سؤاله الجديد: أليس من عجب هذا الحب للمعرة ممن عاف الدنيا ~~بأسرها؟ # فأجاب الشيخ في غير ضجر ولا تأفف، كأنه كان يتوقع سؤالا كهذا من تلميذ: «ما أكثر عجب ~~الناس مما لا عجب فيه! إنما يحب الوطن الصغير من يعاف الوطن الكبير، ومن كره الدنيا كره ~~التقلب فيها وكره السعي وراءها في نواحيها؛ فإلى أي منقلب يصير غير المكان الذي لا عناء ~~فيه يتجشمه، ولا جديد فيه يفجأه بما يسوءه، ولا يزال فيه قريبا من عهد صباه قبل أن يذوق ~~مرارة العيش ويمتحن ببلواه؟ وما أحرى من اتخذ في المعرة محبسا لا يفارقه أن يتخذ في ~~الدنيا بأسرها محبسا هو هذه القرية ولو فعل غير ذلك لعجبتم منه، فاعجبوا واخلقوا ~~العجائب فلعلكم تستروحون الحياة ببعض ما تعجبون له، ولعلكم أطفال القدر يضحك منكم حين ~~تسألون ثم يضحك منكم حين تقنعون بالجواب، أوتحسبون أنكم في غنى عن السؤال؟ يا بني سل ما ~~بدا لك. فقد سألت الغيب كثيرا وسألني ms25 الناس كثيرا، وعالجت السؤال في الدنيا والآخرة، ~~فلا أدري ماذا أصنع إن لم أكن سائلا أو مجيبا لسائل، وما أخالك ساكتا لو دعوتك إلى ~~السكوت، فتكلم مأذونا فأنتم أزهد الخلق في مباح وأرغبهم في ممنوع، وقد يريحني الإذن لك ~~أضعاف ما يريحني الإعراض عنك، فلو صدقني من قبلك حين قلت لهم إنني أجهل ما يجهلون لطمعت ~~في تصديقك إياي حين ألوذ بالصمت أو أقر بالغباء.» # واضطرب الرسول لا يدري أهذا ترخيص في السؤال أم نهي عنه، وانقباض من الشيخ أم تبسط ~~وانطلاق، وإنه لكذلك إذ عاد الشيخ يتكلم كأنما قد سرت في نفسه حرارة الثورة على الناس، ~~وإنها لحرارة ترضي صاحبها عمن يثيرها ساعة تسخطه عليه، كما يعدو الجواد فزعا فيشعر ~~بنشاط العدو وجفلة الفزع في آن، وأبو العلاء ثائر يرضيه الإعراب عن ثورة نفسه ولا يرضيه ~~طول الكتمان لطباعه. فعاد يقول: ألا تنبئني يا بني ماذا تظنون حين تسألون رجلا متهما ~~بالعلم فيعجز عن الجواب أو يأباه؟ أتحسبون الغيب سلطانا يجتبي بأسراره الحاشية ~~المقربين؟ أتحسبون من يصحبه مطلعا لا محالة على كل أمره فلا يخفي شيئا إلا اتهمتموه ~~بالضن أو الدهاء والروغان؟ إن كان هذا ما تحسبون يا بني فالغيب ليس بسلطان، والعلماء ~~ليسوا بحاشية سلطان، وأحرى أن يكون العالم كالمدلج في الظلام يحمل مصباحه على قدر ضيائه ~~فهو يرى ما هناك ولكنه لن يرى ما ليس هناك. فإن سألتم فاسألوا عما يجوز علمه أو ما ~~يجوز وجوده حيث يراه المدلج وحيث يقع عليه شعاع المصباح. أما ما وراء ذلك فالعلماء ~~والجهلاء فيه كما قلت لكم قريب من قريب. # فتنفس التلميذ الصعداء، وعلم أنها غضبة ليست من غضبات الجفاء والنقمة، وقال وهو يتلعثم: ~~لقد علمت ما لم أسأل عنه، فما أسعدني بقربك أيها الحكيم سائلا وغير سائل، وسترى أيها ~~الحكيم أنني لن أسألك إلا عما هو في علمك ولن أطلب منك إلا ما هو عندك. فهل أحسب الشيخ ~~آذنا في هذه الساعة بسؤال، أو أعفيه حتى يأذن ويستريح إلى ms26 الجواب. # فتبسم أبو العلاء وقد راجع نفسه واسترجع حلمه وأناته، والتفت إلى تلميذه ملاطفا وهو ~~يقول: إن كنت قد تعودت مني ما رأيت وفهمت أنني لا أغضب منك ولا عليك فنحن على وفاق. ولك ~~إذن أن تسأل ولي أن أجيبك أو أغضب كما غضبت منذ هنيهة، ولا حرج علينا معا في هذا ولا في ~~ذاك. # قال التلميذ: جزاء الله خيرا يا مولاي في غضبك ورضاك، فما قول الأستاذ في اقتراح لا ~~يشق عليه أن يجيبه؟ ما قوله في رحلة بين آفاق الأرض ثم تعود إلى قريته العزيزة في موعد ~~الوفود؟ # فاعتدل أبو العلاء في مجلسه وهو يقول: أوتدعوني إلى الرحلة وما فرغنا بعد من الكلام على ~~الوطن والقبوع فيه؟ إنك لا تضيع فرصتك يا بني، وإنك لسريع الهجوم. # فلم يحجم التلميذ ولم يتردد، بل راح يقول: إن يومك يا مولاي غير أمسك، وإن المعرة ~~اليوم لعلى مسافة ساعات من بغداد، وإن الأرض كلها لتطوى الآن في أيام معدودات. فلو لم ~~يكن في السفر إلا تجربة هذه العجيبة المستحدثة في زماننا لكان ذلك شفيعي في اقتراحه ~~وشفيع الشيخ حفظه الله في قبوله. # فطال إنصات الشيخ كالمستريب المتوجس، وخطر له أن الفتى يغرر به ولا يصدقه المقال، ثم ~~سأل في صوت خفيض: ماذا تقول؟ المعرة على مسيرة ساعات من بغداد! والأرض كلها تطوى في أيام ~~معدودات؟! هل عادت المعجزات؟ وهل رجع بساط الريح؟ هل أصدقك والعقل أولى بتصديق؟ # قال التلميذ: ما على الشيخ إلا أن يقبل الساعة وسيصدقني ويصدق العقل معا بعد ~~ساعات. # قال الشيخ: قبلت، فأين بساط الريح؟ وأين سليمان بن داود؟ # ثم مضى التلميذ يشرح للشيخ ما يريده، والشيخ مقبل عليه ظاهر العجب من كلامه، حتى فرغ من ~~شرحه وهما على اتفاق أن يجوبا بقاع الأرض في مشرقها ومغربها، وأن يشهدا الأجيال التي لم ~~يشهدها أبو العلاء ولم يسمع بخبرها، وأن يتعلم كلاهما من صاحبه ما عنده من علم، ويتخذه ~~دليلا له فيما يجهل؛ فلا حرج من سؤال ولا حرج ms27 من جواب، وسنسمع - بعد - ما قال أبو ~~العلاء وما قيل له في كل مكان وصلا إليه. # | حكم السيف # ألم أقل لك يا بني إنني لا أملك أن أرى رأيا جديدا ولا أن أحيا حياة جديدة؟ # قصارى ما يملك المرء في هذه الدنيا عمر واحد يعلم فيه كل ما قدر له من العلم ويعمل فيه ~~كل ما وسعه من العمل؟ ويختبر فيه اختباره، ويستوفي منه أحواله وأطواره. فإذا قضاه فتلك ~~حصته من الزمن لا حصة له بعدها، ولا نصيب له من أعمار الدنيا وراءها. # قال الرسول: والشهرة يا أستاذنا، أليست هي عمرا متجددا وحصة مزدادة؟ # قال أبو العلاء: كلا يا بني الشهرة استطالة لعمر الشهير، فيها تكرار له وليس فيها تجديد ~~لشيء منه. ختمت حصتي من الوقت فلا تنتظر مني قولا غير ما قلت، أو رأيا غير ما رأيت. ~~ولو أطلعتني كل يوم من دنياك هذه على جديد. ~~••• # فأحس الرسول شيئا من خيبة الرجاء، أولا يسمع من أبي العلاء كلمة فيها معنى من المعاني ~~غير ما سطرته الأوراق وفرغ منه الحافظون والشراح؟ لقد كان يحسب أنه ظافر بأبي علاء ~~جديد، أو بطبعة منقحة من أبي العلاء القديم، فإذا به يسمع مرة بعد مرة أن أبا العلاء ~~هو أبو العلاء، وأن حجاب الزمن قد هبط بعده، فلا منفذ من ورائه إلى علم غير ذلك العلم، ~~ولا إلى حكمة غير تلك الحكمة. وأوشك أن يقتضب الرحلة لولا أنه استدرك وتدبر، فعلم أن ~~مشاهدة الدنيا في صورة علائية أمر يستحق النظر ومعرفة تستحق العرفان، فانطلق يقول: إذن ~~يا مولاي أنا أعلم رأيك في هذه الحكومات العسكرية التي تركنا بلادها، أو هذه الأمم التي ~~يجرون على وتيرة لا يشذون عنها ونظام لا يهاودون فيه. أنت تحمدها بعض الحمد لأنك ~~تقول: # واخش الملوك وياسرها بطاعتها # فالملك للأرض مثل الماطر الساني # 1 # إن يظلموا فلهم نفع يعاش به # وكم حموك برجل أو بفرسان # وهل خلت قبل من جور ومظلمة # أرباب فارس أو أرباب غسان # وهذه الحكومات المجندة تحمي ms28 من الفوضى ولها نفع يعاش به في أزمان القلاقل، وهي تزعم ألا ~~حرية للناس في قديم من الزمن أو حديث، ففي كل حكومة جور ومظلمة. والحكم هكذا يكون، أو لا ~~فهو فتنة وظلم مكنون. # فأصغى أبو العلاء طويلا. ثم قال: ولكني كما قلت هذا كذاك: # ومن شر البرية رب ملك # يريد رعية أن يسجدوا له! # وهؤلاء الحاكمون يقولون إنهم معصومون وإنهم لا يحاسبون، وإنهم أرباب يدان لها بطاعة ~~الساجدين الراكعين. فما أحمق هذا وما أحراه ألا يكون بين أناس يعقلون. # قال الرسول: الحق ما تقول مولاي، لولا أن الرعية تحب هؤلاء الحاكمين ولا تطيعهم إلا وهي ~~راضية بما تطيع. # فلم يزد أبو العلاء على أن أعاد بيته القديم: # تلوا باطلا وجلوا صارما # وقالوا: صدقنا. فقلنا نعم # فعاد تلميذه يحاوره وكأنه ذو هوى في تعظيم مذاهب الحكم عند هؤلاء العسكريين، وقال فيما ~~قال: إن هؤلاء القوم لا يخضعون على كره منهم، ولكنهم يخضعون لأنهم يؤمنون إيمان الحاكمين ~~ويفكرون تفكيرهم ويريدون مرادهم ويفرحون بعظمتهم كأنها عظمة لهم فيها نصيب، وكأنهم شركاء ~~في السيادة حين يخضعون لأولئك السادة. # قال أبو العلاء: # وما أعجبتني لابن آدم شيمة # على كل حال من مسود وسائد # ذلك أدهى وأمر، وليتهم فكروا وخالفوا وخضعوا مرغمين، فذلك أكرم لعقل الإنسان ~~وأدنى إلى الرجاء في الخلاص، أما أن يسلب الإنسان الفكر حتى لا يفكر إلا بأمر حاكميه ~~وعلى وفاق الهوى من رؤسائه، فذاك آلة من الآلات وحيوان من العجماوات، وليس بآدمي له عقل، ~~والعقل إمام للآدميين أولى بالاتباع من كل إمام. ~~••• # قال أبو العلاء ذلك وزوى وجهه كأنه قطع القول وحسم الجدل، وقال ما لا رجعة فيه ولا ~~مزيد عليه. # إلا أن التلميذ قد طاب له أن يسترسل في النقاش والسؤال فانثنى يقول: أولا تغفر الطاعة ~~من الرعية حتى لو أفلح الرعاة في سياسة الأمور وشاهد الناس فلاحهم آنة بعد أخرى، فعلموا ~~أنهم راشدون وأنهم لا يخطئون، وأن خطأهم آمن في عقباه من خطأ الكثيرين؟ # فسأل أبو العلاء: من القائل ms29 : # يسوسون الأمور بغير عقل # وينفذ أمرهم فيقال ساسة! # فأجاب التلميذ: كيف؟ إنك أنت قائل هذا يا مولاي! # قال أبو العلاء: ذلك فحوى كل جواب على كل سؤال من قبيل ما سألت. فلا تنظر يا بني إلى ~~فلاح هؤلاء الساسة حين ينفذ أمرهم ويستقر سلطانهم وتمضي مشيئتهم. بل انظر إليهم حين ~~يفشلون وحين يريدون فلا يقدرون. انظر إليهم يومئذ تعلم أنهم يخطئون كما يخطئ سائر الناس ~~وأكثر مما يخطئ سائر الناس، بل تعلم أن الناس يرون لهم من الخطأ يومئذ أكثر مما صنعوه ~~وأكثر مما يستطيعونه أو استطاعوه. ولا تنس أبدا قول الحكيم القديم: # والناس من يلق خيرا قائلون له # ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل # واذكر يا بني أن هؤلاء الجيوش المجندين يتعلمون الجبن حين يتعلمون ما تحسبه شجاعة، وإن ~~أشجعهم لن يجرؤ على كلمة يغضب بها سيده وصاحب أمره، وما بقي بعد ذلك من إقدام على ~~القتال أو الشجار فهو إقدام اضطرار أو إقدام مخمور بحميا الضجيج والفخار. # وما أبرئ نفسي يا بني. لقد عرفت هذا الجبن وقلت فيه: # لجأت إلى السكوت من التلاحي # كما لجأ الجبان إلى الفرار # ويجمع مني الشفتين صمتي # وأبخل في المحافل بافتراري # هؤلاء كلهم يا بني فارون من المنطق والكلام، جبناء يهربون من الميدان إلى السمت الذي ~~تدعوه طاعة أو تدعوه شجاعة، وما هو من الطاعة والشجاعة إلا كالرجل وصورته في ~~المرآة. ~~••• # قال التلميذ: وإجمال ذلك كله في كلمة واحدة يا مولاي. # قال أبو العلاء: إجمال ذلك كله يا بني في بيت واحد، وهو: # ساس الأنام شياطين مسلطة # في كل أرض من الوالين شيطان # وانفض بذلك الجدال بين الشيخ وتلميذه، وهما قافلان من بلاد الحاكمين العسكريين. # | المستشرقون # هؤلاء الذين استغربت أمرهم يا مولاي، هم من سميناهم نحن بالمستشرقين! وهم أناس لم يسمع ~~بهم الأستاذ لأنهم نشأوا أول نشأتهم في عصره، فكان أقدمهم يتعلم العربية والحكمة على عرب ~~المغرب يوم كان الأستاذ يملي دروسه القيمة في المعرة قبل عشرة قرون، وكانوا قسيسين ~~ورهبانا يدرسون علوم العرب ms30 ليفقهوا أسرار القرآن ويستعدوا لها بالحجة والبرهان، ثم شاع ~~أمر الدولة المسيحية وأمر الخلاف على الأناجيل بين حبرها الأعظم ومن خرجوا عليه ~~واعتزلوه. فمن ثم كثرت طوائفهم في بلاد الجرمان ولا يزالون أكثر ما يكونون بين هؤلاء ~~القوم، ولا سيما وهم قوم مشغوفون باللغات والبحث في الأصل واللهجات. فهذا علة ما استغربه ~~الأستاذ من شيوع الاستعراب هنا حيث نحن الآن مقيمون، وأنهم من أجل هذا يحومون حول هذا ~~الورد ويغتنمون هذه السانحة، ولا يريدون أن يعبر بهم حكيم المعرة دون أن يوسعوه حفاوة ~~وسؤالا ويتخذوا من كلامه بيانا يعتصمون به ودعاية يدعون إليها. فإن شاء الأستاذ أن ~~يصابرهم ويستقصي خبرهم فله الرأي الأعلى فيما يشاء. # ذلك كان حديث التلميذ لأستاذه بعد رحلة ليست بالقصيرة قضياها في بلاد الجرمان، ولقيا ~~فيها فئات من المستشرقين سمعوا برهين المحبسين فزاروه واستزاروه، وسألوه وأجابوه، ~~وعجب أبو العلاء من شأنهم في بلاد الغرب فسأل تلميذه عنهم على سبيل الاستطلاع أو على ~~سبيل القصاص، لكثرة ما أطال عليه من سؤال، وكثرة ما التمس عنده من فائدة، وكثرة ما كلفه ~~من تجوال. # فلما أنبأه التلميذ نبأهم قال أبو العلاء: # استعجم العرب في الموامي # بعدك واستعرب النبيط # ثم قال: # أين امرؤ القيس والعذارى # إذ مال من تحته الغبيط # وجعل يردد: أين؟ أين؟ # ثم عاد يقول: هيهات! هيهات! # هذه فئة عهدنا لها أشباها بين رهبان زماننا، يدرسون العلم دراسة رهبان ولا يزالون ~~رهبانا في كل ما يدرسون. فهم يحجون إلى العلم من طريق الدين، وقلما يعرفون العربية ~~إلا بلسان أعجم ونفوس أشد عجمة، وأقربهم إلى البصر بها من كان للعلم قصده وكانت له في ~~لغة قومه قدم، وهم جامعون ومحيطون، دأبهم كدأب كل محيط يقف عند الأطراف ولا ينفذ منها ~~إلى القلب، ولهم على ذلك ما استحقوا من جزاء وثناء. ~~••• # ثم قال: ومن هؤلاء الذين تسألني أو تأمرني أن ألقاهم الساعة؟ # قال التلميذ: أستغفر الله يا مولاي، فالأمر والرأي لك، وإنما هو اقتراح أو رجاء، وأنت ~~ما ترضاه من ms31 قبول أو إباء. # هؤلاء الصحفيون يسألون، وقد عرفت طريقتهم في السؤال، فإن أذنت لقيتهم جميعا مرة واحدة ~~وأفضيت لهم بخبر ما هم مستخبرون، فلا نجاة منهم قبل أن نرحل من هذه الديار. # فاستسلم أبو العلاء، وأومأ قائلا: علي بهم مجتمعين! فما أتمها حتى كان واحد منهم على ~~الباب، وكان يتلو خطابا قد استظهره وتصنع لإلقائه، وجاء منه بعد كلام طويل: # إننا نستقبل منك في بلاد الجرمان رجلا من أهل الشمال وإن كان مولده في ~~الجنوب، وعقلا من عقول الآريين وإن كان منسوبا إلى الساميين، وشاهدا جديدا ~~على صدق علم الأجناس الذي كشف لنا حقيقة النبوغ ودخيلة المزايا والأخلاق بين ~~الشعوب. فلا فضل ولا عبقرية ولا ارتقاء في الآداب والفنون، ولا في العقائد ~~والأخلاق إلا أن يكون مردها جميعا إلى أبناء الشمال، وإن خفيت مصادر النسب ~~واختلفت مواقع الميلاد. # ولو لم تكن أيها الرجل العظيم من سلالة الآريين لما اتصل الروح بينك وبين ~~الهند فرأيت ما رآه البوذيون وحرمت ما يحرمون، وأبحت ما يبيحون، فأنت الناهي ~~عن أكل الحيوان وجناه حيث تقول: # تق الله حتى في جنى النحل شرته # فما جمعت إلا لأنفسها النحل # وأنت الناصح بإحراق الموتى وإن عجبت منه حيث تقول: # فاعجب لتحريق أهل الهند ميتهم # وذاك أروح من طول التباريح # إن حرقوه فما يخشون من ضبع # تسري إليه ولا خفي # 1 # وتطريح # والنار أطيب من كافور ميتنا # غبا وأذهب للنكراء والريح # وأنت المنكر كل ما ذهب إليه البشر إلا مذهب الهند حيث تقول: # عجبت لكسرى وأشياعه # وغسل الوجوه ببول البقر # وقول النصارى إله يضا # م ويظلم حيا ولا ينتصر # وقول اليهود إله يحب # رشاش الدماء وريح القتر # 2 # وقوم أتوا من أقاصيى البلاد # لرمي الجمار ولثم الحجر # فوا عجبا من مقالاتهم # أيعمى عن الحق كل البشر؟! # ولاح على الرجل أنه منطلق في تحيته إلى غير نهاية؛ فلم يمهله أبو العلاء حتى يأتي على ~~شواهده وأمثاله ويستطرد إلى نتائجه وغاياته. ومال إلى تلميذه ورسوله يقول وكأنه ~~يساره: أين يذهب عن هذا ms32 الثرثارة قولي: «وغسل الوجوه ببول البقر» أليس لأهل الهند ~~فيه نصيب؟ ثم قاطع الصحفي الخطيب قائلا: ماذا تعني بساميين وآريين وأهل شمال وأهل ~~جنوب؟ # فأسرع التلميذ يجيبه قبل إجابة الصحفي: «إنهم يا مولاي يعتقدون اليوم في بلاد الجرمان ~~أن البشر جنسان: جنس مخلوق للسيادة والحكم، وجنس مخلوق للطاعة والتسخير. وإن أهل السيادة ~~منبتهم في الشمال ثم انحدروا منه إلى الهند، فهم المعروفون بالهنديين الآريين، وأن أهل ~~الطاعة والتسخير منبتهم في الجنوب فهم الساميون أبناء سام أو الحاميون أبناء حام، ومن ~~شاكلهم في السحنة والسواد، وأنه ما من نابغ عظيم إلا وهو مردود إلى أهل الشمال في معدنه ~~وعنصره القريب، وإن ظهر بين أبناء الجنوب. ولعل شبهتهم في انتمائك إلى الشماليين يا ~~مولاي، إنك مولود على مدرجة الصقالبة والروم ...» # فانتفض أبو العلاء انتفاضة العربي المسبوب في نسبه وصاح بالتلميذ: ويح الرجل! ماذا عساه ~~أن يريد مني بعد هذا التخليط؟ قل له إن كان لا يسمع مني. قل له أنا القائل: # لا يفخرن الهاشمي # على امرئ من آل بربر # فالحق يحلف ما علي # عنده إلا كقنبر # وذلك حسبه من جواب. ~~••• # ثم هجم صحفي آخر يبدو عليه الاغتباط بما سمع من زجر زميله، وأقبل يقول: تحية الإخوان ~~إلى العربي العظيم، أنا ابن من أبناء سام. # فهم أبو العلاء بالنهوض وهو يكاتم السخط والضجر، وقال: أما فرغنا بعد من سام وحام؟ من ~~هذا يا بني؟ وهو يوجه السؤال إلى التلميذ الحائر بين أستاذه وبين طلاب الزيارة والسؤال، ~~من صحفيين ومستشرقين ومستطلعين، فبادر الصحفي الآخر إلى جواب أبي العلاء، وتلطف في ~~تسكين غضبه والترفيه في ضجره، وأنبأه أنه من أبناء إسرائيل، وأنهم والعرب أبناء عمومة، ~~وأنه يريك منه كلمة الفصل في خصومة الآريين والساميين، وأنها قلما تنفع في بلاد الجرمان ~~وقلما يجسر على نشرها بينهم أو نشر كلام يخالف ما يروجونه من أقوالهم، ولكنه يبعث بها ~~خفية إلى أناس يذيعونها في الخافقين، ويعتزون بها في خصومة الجنسين، وفي كل خصومة بين ~~طرفين، أحدهما آل إسرائيل ms33 ! # وهنا أدركت أبا العلاء فكاهته المطبوعة وسخره من (تزاحم الأضداد) على قديم الأجداد، أو ~~على ميراث المال والعتاد، وهم يلهجون بميراث الآباء والأولاد، وقال وقد تهيأ للمسير ~~وتلميذه يعتذر بموعد القطار ووشك الرحلة وخوف التأخير: يا أخي، تلك خصومة لا يفصل فيها ~~غير الله! أنتم شعب الله المختار في القديم، والجرمان شعب الله المختار في الحديث، ~~فاسألوه ولا تسألوني أيكما صاحب الحظوة الآن؟ # | مع المشيعين # هبطت السكينة على نفس أبي العلاء. # وقيل له: إنك في أمان، ليس لأحد عليك من سلطان، وإنك ممن قيل فيهم # لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ~~، خرجت من العالم الفاني ~~فلا تمتد إليك يد ولا ينالك أحد من الناس بعدوان. فقل ما بدا لك من رأي، ولا تطل ~~همسك إن نطقت بالحق ولا ترفع رأسك إن نطقت بالمحال. أنت اليوم غيرك بالأمس: أنت اليوم من ~~الخالدين! # وإنما قيل له ذلك لأنه صارح بعض الجرمان وهو في بلادهم بمذهبه في اختلاف الأجناس ~~وتفاوت الأقوام، فشجبوه وهموا أن يبطشوا به على تخوم بلادهم، لولا أن ردتهم عنه هذه ~~الحصانة التي لا حصانة مثلها للمجالس النيابية ولا للهيئات الوزارية، وهي حصانة ~~الخلود. # لهذا كان مسلكه مع جماعة المشيعين أو الشيوعيين حين نزل بأرضهم غير مسلكه المعهود من ~~التقية والمداراة والصمت والفرار، فقال ما أراد أن يقول، ولم يعبأ منهم بزمجرة ولا صخب ~~ولا وعيد. # وقف رفيق من رفقائهم يخطب في حفل جمعوه للترحيب بأبي العلاء، أو للشيوعي العربي القديم ~~كما أسموه، فقال بعد إسهاب وترديد: هذا أيها الرفاق رجل منا قد سبقنا بكل رأي من آرائنا ~~وكل دعوة من دعواتنا، فنحن ننكر التفاوت في قسمة الأرزاق وهو ينكره في كل صورة من صوره، ~~وكل منحى من مناحيه، فيقول عن التفاوت بين العاملين وأصحاب الأموال: # لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته # فقير معرى أو أمير مدوج # وقد يرزق المجدود أقوات أمة # ويحرم قوتا واحد وهو أحوج # ويقول عن التفاوت بين الشاب الفقير وهو أولى بالمال وبين الشيخ الموسر وهو مدبر ms34 عن ~~الحياة: # يعيش الفتى في عدمه عيش راغب # ويثري مسن للمعيشة سائم # ونحن ندعو إلى التآزر الاجتماعي والتكافل بين العاملين في الأمة، وهو قد نادى بذلك من ~~قبل فقال: # الناس للناس من بدو وحاضرة # بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم # ونادى بخدمة الحاكمين للرعية فقال: # إذا ما تبينا الأمور تكشفت # لنا وأمير القوم للقوم خادم # وقال: # مل المقام فكم أعاشر أمة # أمرت بغير صلاحها أمراؤها # ظلموا الرعية واستباحوا كيدها # وعدوا مصالحها، وهم أجراؤها # واستطرد إلى أبعد من هذا في التكافل بين أعضاء المجتمع الإنساني فقال: # وكل عضو لأمر ما يمارسه # لا مشي للكف، بل تمشي بك القدم # بل استطرد إلى أبعد من هذا المساواة فقال: # إن شقا يلوح في باطن البر # ة قسم بيني وبين الضعيف # ولقد بينا نحن للناس أن الآداب والعقائد إنما هي مصالح الطبقة الحاكمة تصوغها على ~~هواها لتدعم سلطانها والغلبة على من دونها، وهذا الحكيم العربي قد بين ذلك حق بيانه ~~حين قال: # إنما هذه المذاهب أسبا # ب لجلب الدنيا إلى الرؤساء # وحين قال في إظهار سطوة المال وقدرته على تحويل الآداب وتخويل الحقوق: # المال يسكت عن حق وينطق في # بطل، وتجمع إكراما له الشيع # وجزية القوم صدت عنهم، فغدت # مساجد القوم مقرونا بها البيع # ونحن بشرنا بدين العقل، وهو مبشر به في قوله: # سأتبع من يدعو إلى الخير جاهدا # وأخرج منها ما أمامي سوى عقلي # ومثل ذلك قوله وهو يسير من كثير: # كذب الظن لا أمام إمام سوى العق # ل مقيما في صبحه والمساء # بل نحن قررنا تفسير التاريخ «تفسيرا ماديا» كما سميناه وهو قد أشار إلى ذلك ~~فقال: # الناس للأرض أتباع إذا بخلت # ضنوا وإن هي جادت مرة جادوا # وألمع إلى ذلك مرة أخرى في هذا البيت على سبيل الرواية: # قالوا البرية فوضى لا حساب لها # وإنما هي مثل النبت والشجر # وزاده توضيحا وتقريرا حيث قال: # لم تجدبوا لقبيح من فعالكم # ولم يجئكم لحسن التوبة المطر # ولا أبالغ إذا قلت إنه ذكر الاشتراكية بلفظها ms35 في اللغة العربية ببيت من أبياته العامرة ~~يقول فيه: # لو كان لي أو لغيري قدر أنملة # من البسيطة خلت الأمر مشتركا # وأنه قد أنحى على طبقات الفضوليين المتطفلين على المجتمع الإنساني بغير عمل ينفعونه به ~~حيث قال: # ويعجبني دأب الذين ترهبوا # سوى أكلهم كد النفوس الشحائح # وأطيب منهم مطعما في حياته # سعاة حلال بين غاد ورائح # فهو يأنف من التطفل الاجتماعي أيا كان المتطفلون ولا يبيح القوت إلا لمن يكسبونه ~~ويستحقونه، وهو قد فرق في قصائده ما اجتمع من مبادئ المذهب الاشتراكي في كتب الأساطين ~~ومباحث الدعاة العلميين، وتلك مرتبة ترفعه على أبناء عصره درجات، وتجعله من أئمة الفكر ~~في تاريخ الإصلاح بين الأقدمين والمحدثين. # ثم اقترح الخطيب على سامعيه أن يقفوا جميعا ليشربوا نخب الشاعر الذي جمع من مبادئهم في ~~منظوماته ومنثوراته ما لم يجتمع قط في كلام أحد من الشعراء. # فنهضوا جميعا وشربوا أقداحهم وقوفا، ثم جلسوا يترقبون وقفة الشيخ بينهم ليجيب على ~~التحية والتكريم ويجيب على بحث الخطيب بجديد من مقاله أو قديم، والشيخ لا يعلم أنه ~~مطالب بالوقوف أو مطالب بالتعقيب، حتى نبهه الرسول الذي يصاحبه في كل مكان إلى ما ~~يترقبه القوم، ثم أخذ بيده إلى المنصة فنزل الصمت على الحاضرين، وانقضت هنيهة لم يسمع ~~بعدها إلا شيخ المعرة وهو يقول بصوت رقيق ولكنه ليس بالضعيف: أنتم مشكورون على جميل ~~ثنائكم واحتفائكم بهذا العاجز الماثل بين أيديكم. لكنه حائر في موقفه هذا لا يدري ما ~~تبغونه بمذهب الاشتراكيين أو بمذهب التفسير المادي للتاريخ، فأما قوله: # لو كان لي أو لغيري قدر أنملة # من البسيطة كان الأمر مشتركا # فإنما يعني به التوحيد الإلهي ويريد به أن الناس أغنياءهم وفقراءهم على حد سواء لا ~~يملكون في جانب الله أرضا ولا يستعبدون أحدا، وهو من قوله: # ويقول داري من يقول، وأعبدي # مه؛ فالعبيد لربها والدار # أو هو من قوله: # ما في بني آدم من غني # فكلهم مقتر عديم # يغنى الذي ما له فناء # وذلك الواحد القديم # أو هو ms36 من قوله: # فقير كل من في الأر # ض؛ إن العبد لا يملك # أو هو من قوله: # إله الأنام ورب الغما # م لنا الفقر دونك والملك لك # فما أدري من أين تسربت «الاشتراكية» إلى معناه كما تصفونها فيما سمعت من خطب وقرأت من ~~بحوث وشروح. # ما أردت إلا الرفق بالناس، بل ما أردت إلا الرفق بجميع الأحياء؛ فكنت أوصي السيد أن ~~يرفق بعبده. وأقول له: # إذا كسر العبد الإناء فعده # أذاة له، إن الأناء إلى كسر # وكنت أوصي العبد والفقير أن يرفقا بالبهيمة الخرساء. ويريبني منهما ما قلت إنه ~~يريبني: # لقد رابني مغدى الفقير بجهله # على العير ضربا. ساء ما يتقلد # وما دار في خلدي يومئذ إلا الزكاة يؤديها أهل السعة للمضيقين. # إذا وهب الله لي نعمة # أفدت المساكين مما وهب # جعلت لهم عشر سقي الغما # م وأعطيتهم ربع عشر الذهب # وكنت أعجب: # كيف لا يشرك المضيقين في النع # مة قوم عليهم النعماء # وأوصي بما وصى به دين الحنيفية: # وأحسب الناس لو أعطوا زكاتهم # لما رأيت بني الإعدام شاكينا # أما أن يأتي زمان ينقطع فيه الفقر ويبطل فيه الغنى وتئول فيه السيادة إلى العاملين ~~المستضعفين على سنة التساوي وشرعة المزاملة فذلك ما أنبأ به بعض المنبئين في زماننا ~~فقلت راويا ومجيبا: # يقال أن سوف يأتي بعدنا عصر # يرضى، فتضبط أسد الغابة الخطم # 1 # هيهات هيهات. هذا منطق كذب # في كل صقر زمان كائن قطم # 2 # ما دام في الفلك المريخ أو زحل # فلا يزال عباب الشر يلتطم # يلتطم وأقولها اليوم مرات: هيهات هيهات! وما أنتم فيه مصدق لما أقول، وإن أعجبكم أن ~~تسمعوا مني خلاف المعقول والمنقول. وأين لومي الرؤساء على اتخاذهم المذاهب أسبابا لجلب ~~الدنيا إليهم من قولكم إن المذاهب لا ينبغي أن تكون إلا كذاك؟ إنما أقول على سبيل ~~الإنكار وأنتم تقولون على سبيل الإقرار، وشتان ما أردتم وما أريد. # بل ما لكم لا تدعون أنني ناديت بمذهب الفوضى حين قلت: # إن أكلتم فضلا وأنفقتم فض # لا فلا يدخلن وال عليكم ms37 # لا تولوا أموركم أيدي النا # س إذا ردت الأمور إليكم # وما ناديت بالفوضى ولكني أردت اتقاء الوالين بالعفة والزهادة. # قال المعري ذلك وكأنما كان متجليا عليه في تلك الساعة قوله: # إن عذب المين بأفواهكم # فإن صدقي بفمي أعذب # ولم يكن متجليا عليه قوله إنه يفر بالصمت في المحال. # أما ما حدث من أثر هذا الجواب في نفوس السامعين من معاشر الشيوعيين فغني عن السرد ~~والإفاضة، وحسبك منه صيحة الرسول في أذن الحكيم: كفى كفى أيها الأستاذ الرحيم! فإنك إن ~~كنت على نجوة في حصانة الخلود، فما أنا بين القوم من الناجين! # | في بلاد الشمال # خرج المعري وتلميذه من أرض الشيوعيين وهما يلعنان الديار والديارين، وأصبح التلميذ ولا ~~هم له بعد إفلاته من براثن القوم إلا الوصاة بالتقية والمحاذرة، قائلا ومعيدا ما ~~قال: مولانا الشيخ! إنك في حرز من ضيم الأقوياء، وأمان من سطوة أبناء الفناء. أما تلميذك ~~ومريدك فلا حرز له منهم ولا قوة له معهم، ولا أمان أن يبطشوا به بطشة واحدة، فإذا أنت يا ~~مولاي قد فقدته في منتصف الطريق. وكان الشيخ يداعبه فيظهر الإصرار على المناقشة ~~والمناوشة ويردد ما أنشد في سابق أيامه بدار الفناء: # إن عذب المين بأفواهكم # فإن صدقي بفمي أعذب # قائلا: يا بني! ما أنا بصاحب الرحلة بل أنت؛ فاصبر على بلائك واحتمل عاقبة رأيك. ~~فينتفض التلميذ خوفا وحيرة ويعيد الوصاة والرجاء، مناشدا مولاه الرحمة التي أرادها ~~لبني الإنسان وبني الحيوان. # فلما أطال التلميذ في وصاته قال الشيخ: ما بالك يا هذا تخاف وتوصي وتلحف في الوصاة؟ ~~ألعلك ذاهب بنا إلى معشر من الناس كأولئك الذين كنا بينهم؟ إن كان ذاك فعد بنا إلى ~~المعرة واختصر بنا مسافة هذه السياحة، فلا طاقة لي بسخافة قوم آخرين كأولئك الذين ~~فارقناهم في بلاد الشيوعيين ولا بسخافة قوم كأولئك الذين فارقناهم في بلاد الطغاة ~~العسكريين. # قال التلميذ: كلا يا مولاي الجليل. ما إلى هذه البلاد وأمثالها نرحل وإنما أخاف ما ليس ~~في الحسبان. إنما رحلتنا بعد اليوم ms38 إلى أقوام يحجرون على المقال حجر أولئك الأقوام، ولا ~~يقسرون الناس على رأي واحد وضمير واحد، ولكنهم يقولون ما يشاءون ويفكرون كما يشاءون؛ فإن ~~خامرني الخوف ونحن مقبلون عليهم فذلك يا مولاي خوف الحبل بعد خوف الثعبان. # وطالت الرحلة في تلك البلاد بلاد الشمال، وتقلب المعري وتلميذه بين أهل النرويج وأهل ~~السويد وسائر تلك الأنحاء، فحمدا كثيرا من الأحوال، وشهدا أنماطا من الحكم والعلم ~~لم يشهداها في البلدان الغربية كافة، فطاب السرى وطاب المقام. # ونزلا آخر المطاف ببلاد الدانيين أو الدنمركيين، فهما الآن في مدرسة جامعة دعي إليها ~~حكيم المعرة بأمر من مليك البلاد ووزرائها، على عادة القوم في اغتنام كل فائدة وتسجيل كل ~~شاردة وواردة، ليسألوا الشيخ ويستطلعوا طلعه، ويساجلوه القول ويظفروا بما شاء من ~~جواب. # قال طالب علم: أيأذن الشيخ في سؤال عن حكومة ذلك المعشر الذي كان بينهم قبل أن يرحل إلى ~~أقطار الشمال، وأعني بهم معشر الشيوعيين؟ # قال الشيخ: تلك حكمة كلها ظواهر تخفي ما دونها من البواطن، كاتبها يفعل فيها ما يريد، ~~ولو جرى أمرها على القول الصراح لما كان لهذا الكاتب من صولجان، إلا القلم ~~والقرطاس. # فعاد الطالب يسأل: أوليس الأمر بين ذلك الكاتب وزملائه على سنة الشورى ~~والمساواة؟ # فامتعض الشيخ وأدرك الطالب بالجواب قبل أن يسترسل في السؤال: مه يا بني مه! أي شورى ~~وأية مساواة؟ لقد سمعنا بعضهم يلوم من يخاطب ذلك الكاتب بكاف الخطاب كما يخاطب سائر ~~الناس! أعندك يا صاحبي قصيدة شاعر القازاق الذي أنشده مديحه ونحن هناك؟ قال الشيخ هذا ~~والتفت إلى التلميذ الرسول. فوقف التلميذ الرسول مائلا على المنصة وقال: نعم يا مولاي! ~~... ثم مضى ينشد قصيدا يقول فيه ناظمه: # هل أشبهك بالأنبياء؟ كلا فبعض الأنبياء يكذبون. # هل أشبهك بالبحر المحيط؟ كلا! ففي البحر المحيط صخور يتصدع عليها ~~السفين. # هل أشبهك بالجبال؟ كلا! فما من جبل إلا وقمته في مرأى العيون. # هل أشبهك بالقمر؟ كلا! فالقمر لا يضيء إلا في لياليه. # هل أشبهك بالشمس؟ كلا! فالشمس إنما تشرق ms39 في يوم صحو لا غمام فيه ... # وفرغ التلميذ الرسول من إنشاده فعاد المعري يقول لطالب العلم الذي سأله ذلك السؤال: ~~أوسمعتم أعجب من هذا الدهان في مديح عاهل أو سلطان؟ ما أخالكم سمعتموه، وما أخالكم ~~تذكرون في الملوك ملكا واحدا كان له من الأمر النافذ في الرقاب والأذهان، ما يأمر به ~~كاتب الشيوعيين فيطاع. # وسأل سائل: أولم ينصفوا الأجراء من أصحاب الثراء؟ # قال المعري: لا يا بني. إنهم ظلموا أصحاب الثراء ولم ينصفوا الأجراء، ولقد أخذوا المال ~~من ذويه ثم أفرغوه في مصانع الدولة، وما الفرق بين مال في أيدي التجار ومال في أيدي ~~الولاة؟ # ورجع السائل إلى سؤال لاحق بما تقدم فقال: لكنهم على ما يقولون قد عدلوا في الأجور بين ~~العاملين، فأجر اليوم واحد لا اختلاف فيه. # قال المعري: أجر اليوم واحد لا خلاف فيه ولكن العامل المحظوظ عندهم قد يعطى عدة أجور، ~~فهي مساواة من ناحية واختلاف من عدة أنحاء. # وفرغ السائلون عن معاشر الشيوعيين فنهض السائلون عن أمم الشمال. # قال طالب علم: ألعل الأستاذ قد حمد من قومنا ما ليس يحمده من أولئك الأقوام؟ # قال المعري: نعم ولا أداجيك يا بني؛ فقد رأيت أنكم أبعد الناس عن مداجاة، وإن بقيت منها ~~أثارة في جميع بني حواء. # قال الطالب: وماذا حمد الأستاذ مما شهد فينا؟ # قال المعري وهو يوجز في جوابه: حمدي منكم يا بني تجارتكم التي بنيتموها على التعاون ~~بين البائعين والشارين، فما منكم إلا من يأخذ كفايته ويعطي كفاية الآخرين، ولا ربح لأحد ~~منكم خاصة، بل أنتم جميعا رابحون، لأنكم بائعون شارون. # ذلك يا بني سبيل قوام بين احتكار المحتكرين وبين اشتراك الشيوعيين، فإذا اهتدى إليه ~~الناس جميعا فلعلهم يستريحون من تفريط هؤلاء ومن إفراط هؤلاء. # وحمدت منكم يا بني أنكم لا تفتحون البلدان ولا تقتحمون الأسواق، وأنتم مع هذا غانمون ~~رائجون، لكل سلعة من أرضكم طالب غير مغبون. # وحمدت منكم يا بني تعليم الفقير وتعليم الضعيف، فما من طفل بينكم إلا وله مدرسته وله ms40 ~~معلموه، وإن أهمله أناس في بلاد أخرى لضعف فيه أو لقصور ظاهر عليه. # وحمدت منكم نظافة وصحة ورخاء تعم الأكثرين ولا يحرمها إلا القليل. # وحمدت منكم رعاية الشيخ الكسير، فلا يقلى عندكم ولا تبخلون عليه بالرزق الكفاف. # وحمدت - وعرشكم أعرق العروش في أرض المغرب الحديث - تواضعا في الملك لا يرى من أحدث ~~العروش. # حمدت منكم هذا كله فهل هو كثير أو يسير؟ # فصاحوا جميعا: بل هو كثير كثير، من الشيخ الكبير. # قال المعري وهو يبتسم: أفتأذنون لي - بعد - أن أحمد منكم شيئا آخر فوق ما حمدت؟ ~~أتأذنون لي أن أحمد منكم الإيجاز في السؤال والقصد في المقال؟ # فكان سكوت، وكان ضحك ودعاء، وكان ذلك جواب الشيخ الكبير من سائليه. # | جر الذيول # قال أبو العلاء: ما كنت أحسب أن سأرى هذا يوم قلت في مساوئ ذرية البنات: # وإن تعط البنات فأي بؤس # تبين في وجوه مقسمات # يردن بعولة ويردن حليا # ويلقين الخطوب ملومات # ولسن مدافعات يوم حرب # ولا في غارة متغشمات! # فها نحن أولاء في أرض أندلس نراهن مدافعات يوم حرب، ومتغشمات في غارة، بل ~~غارات. # كنا نسمع عن هذه الأرض - أرض أندلس - فنحضر في أخلادنا الجنة وحورها ونعيمها، فاليوم ~~نشهدها شهادة القرب فإذا هي جحيم مسجور، وإذا بالحور فيها زبانية يقذفون بالشرر ~~ويتقلدون السيوف. ما أعجب ما تريني يا بني! وما أعجب الظباء يقطعن بأظافر النمورة ~~وينهشن بأنياب الذئاب! # قال التلميذ: أوحق يا مولاي أنه عجيب؟ ألم يقل به أفلاطون في الحكمة القديمة؟ حسبت يا ~~مولاي أنك على ذكر مما قال حكيم يونان ومعلم أرسطاليس! # فتأوه الشيخ في استذكار طويل ثم قال لتلميذه: ما سمعت بهذا من كلام يونان وحكمائها. ~~فلعل من عجائب زمانكم أن يكون هذا الزمان أقرب إلى أفلاطون من زماننا نحن السابقين ~~الأقدمين! ماذا قال معلم أرسطاليس في حرب النساء أصلحك الله؟ # فترجم له التلميذ كلمة من قوانين أفلاطون، يقول فيها: # على البنات أن يتعلمن صناعة الحرب بأجمعها، وعلى النساء أن يعالجن الرياضة ~~ونظام الجيوش واستخدام السلاح ms41 ، ليستطعن - بين أسباب شتى - أن يحرسن ديارهن ~~وأطفالهن حين يندب الرجال للحرب في أرض بعيدة، وقد يقتحم البلاد جيش مغير كما ~~يتفق في كثير من الأجيال، فيكون خزيا للدولة أن يبلغ من جهل النساء بفنون ~~الحرب أن يعجزن عن القتال والاستماتة في الذود عن الأطفال، وألا يكون لهن من ~~عمل في هذه الغارة إلا أن يهرعن ناحبات ناجيات إلى الهياكل والمحاريب! # فأوشك أبو العلاء أن يؤمن بصدق ما قال الفيلسوف، ونزعت فيه نوازع العقل مرة فكادت أن ~~تطغى على نوازع الطبع والعادة، لولا أن غلبته النحيزة العربية وغلبه تراث الشرق العريق ~~فالتفت إلى تلميذه منشدا: # وحمل مغازل النسوان أولى # بهن من اليراع مقلمات! # نعم وأولى من الحديد والنار. ~~••• # ثم استرسل منشدا: # إن من أكبر الكبائر عندي # قل حوراء غادة عطبول # كتب القتل والقتال علينا # وعلى الغانيات جر الذيول # ذلك يا بني حكم ابن أبي ربيعة، وهو أولى بالحكم في هذه القضية من معلم يونان. أكثير يا ~~بني أصحاب هذا الرأي في زمانكم الحديث؟ # فأجابه التلميذ وقد لبس لبوس الأستاذ هذه المرة: هم غير قليلين في المغرب والمشرق ... ~~فمنهم في أرض الصقالبة ومنهم في أرض الصين وما وراءها وكل من يؤمن بالمساواة بين الرجل ~~والمرأة خليق أن يرى ما رآه هؤلاء. فما بال المرأة لا تحارب والحرب اليوم آلات تدار ~~أسهل من إدارة المغزل ومن شكة الإبرة في الثياب؟ # قال الشيخ: هي صناعة قتل سهلت أو صعبت، فما لكم لا تتركون للمرأة صناعة الولادة وتدعون ~~صناعة القتل لغيرها كما قال أخو مخزوم؟ وما لكم لا تجعلون جيشها كله على مثال تلك الجيوش ~~التي حدثتني أنهم يحشدونها في بعض البلاد، لتقويم الأبدان والصولة ببأس الجمال؟ # فأسرع التلميذ يقول: لعلها الضرورة يا مولاي! لعل المقاتلين لا يستغنون عن مدد من ~~النساء إذا قل الرجال. # فأدركه الشيخ قائلا: بل إذا قلت الرجولة وأصبحت الحرب وليست هي من الفروسة ولا من ~~البطولة، ما أحسب الآفة عندكم أن النساء أصبحن كالرجال، وإنما الآفة فيما أخال أن ms42 الرجال ~~أصبحوا كالنساء، فلا حرج إذن من المساواة في القتال! # ثم سأل الشيخ: ما هذا الغرام بالحرب في كل شعب من شعوبكم حتى استنفدت رجالكم وجارت على ~~نسائكم، واستنفدت سلاحكم وجارت على أدوات السلم في أيديكم؟ ما هذه الحاجة الملحة إلى ~~إزهاق الأرواح وتمزيق الأبدان؟ أهي فرط كراهة منكم للحياة أم هي فرط خوف من المنية؟ أم ~~أنتم مدفوعون إلى حيث لا تعلمون وأنتم تحسبون أنكم تعلمون؟ ~~••• # وكأنما خشي التلميذ أن يحاسبه الحكيم على سيئات عصره، وأن يسأله في هذا السؤال المتهم ~~عن وزره، فأجابه وهو لا يفقه ما يعنيه: عن هذا أسألك أيها الحكيم العليم! فهي معضلة من معضلات الزمن الأخير تسأل عنها وليس لها ~~من مجيب! # فشك الشيخ غير قليل. وغاب عن صاحبه في تأمل طويل، وكأنما أفاق من غيبوبة علوية حين ~~أقبل يقول: إنما الحرب يا بني حيلة من ليست له حيلة، يقدم عليها من يأمن شرها أو من يخاف ~~جميع الشرور فلا يبقى له ما يأمن ... وإنما يستميت في الخصومة من يخاصم الأقدار وإن حسب ~~أنه يخاصم إخوانه من بني الإنسان. إنما يستميت في خصومته من يطلب الدوام لشيء لا يمكن ~~دوامه أو يطلب التبديل لشيء لا يمكن تبديله، فهم يحاربون القدر ولا يحاربون أبناء آدم، ~~ومن حارب القدر يا بني لم يحاربه بنصف عزمه ولا بنصف سلاحه ولا بنصف رأيه. من حارب القدر ~~فأيسر جهده أن يستجمع، وأن يستميت، وأن يخسر في الجانبين وينهزم في الصفين. # وهؤلاء أبناء أندلس يريد فريق أن يعيد أمس، ويريد فريق أن يستعجل الغيب، وليس هذا ولا ~~ذاك في يد إنسان، ولو كان في يد إنسان لكان، ولم يستعر بينهم كل هذا الشنآن. # قال التلميذ: ألا دواء لهذا الشنآن بين الفريقين؟ قال الحكيم: حتى يفقد كلاهما كل قوته، ~~أو يفقد كلاهما نصف اعتقاده. فإذا انقصم السيف الأخير في أيدي هؤلاء وهؤلاء فهناك رجاء ~~في سلام! وإذا شك كلاهما في حقه واعتقد أن نصف الحق معه ونصف الحق مع خصمه فهناك ms43 رجاء في ~~سلام. أما وهناك بقية من قوة في الصفين، وإيمان بالحق الكامل في الجانبين فلا سلام ولا ~~رجاء فيه! ~~••• # قال التلميذ وكأنه يمزح: أولا يسفر الشيخ بينهما ليظهر لكليهما نصف باطله ونصف الحق ~~عند خصومه؟ # ففطن أبو العلاء لموضع المزاح من كلامه وتمتم بين شفتيه: # بعثت شفيعا إلى صالح # وذاك من القوم رأي فسد # فيسمع مني سجع الحما # م وأسمع منه زئير الأسد # ولأفسد من ذاك أن أذهب شفيعا في حرب الأقدار، وسفيرا بين الإعصار والنار. # | المرأة # نشط الشيخ في ذلك اليوم للبحث والمساجلة، فأقبل على تلميذه يسأله: ألا تحدثني يا بني عن ~~تلك الفلسفات التي ذكرت لي أنهم يدورون بها حول المرأة في الغرب الحديث، وفي زمانكم هذا ~~الأخير؟ فقد أنبأتني بالقليل منها يوم حدثتك برأيي في جنديات الأندلس المقاتلات، وقد لاح ~~لي مما أنبأت أن فلسفات القوم في هذا المجال تشتمل على كثير، وإن آراءهم اليوم توشك أن ~~تنصرف كلها إلى فلسفة الزواج وفلسفة العشق وفلسفة الإباحة وما شاكل ذلك من الفلسفات. ~~وإني - كما تعلم - امرؤ قد عنيت بهذا الأمر وأفرطت في العناية به حتى لزمت الرهبانية، ~~فماذا يقول القوم فيه؟ وعلام يقع الخلاف؟ وكيف يختلفون؟ # قال التلميذ: إني لأستحي أن أقوم من الشيخ مقام الأستاذ ولو في هداية الطريق، فكيف ~~بالهداية في الحكمة وأقاويل الحكماء! # قال أبو العلاء: اعتبرها يا بني هداية طريق في بلد أنت به أعلم وأنا فيه غريب. فالغربة ~~قد تكون في الزمان كما قد تكون في المكان، وأنت صاحب الدار يا بني في زمانك، فقل ولا ~~عليك من مقام الأستاذ ومقام التلميذ. ألست أنا القائل: # رب شيخ ظل يهديه إلى # سبل الحق غلام ما احتلم # فقل يا بني ولا تتحرج. وإن أبيت إلا مقام التلمذة فاقنع منها اليوم بالطاعة فيما أدعوك ~~إليه. # فلم يسع التلميذ إلا أن يجيب سؤال الشيخ، وأنشأ يقول وهو متلعثم في المقال: هذه ~~الفلسفات يا مولاي كثيرة كما لاح لك من بوادر الإشارة العارضة، فمن أصحابها من يجعل ms44 حب ~~المرأة الحب كله ومرجع الأهواء بحذافيرها. ويزعم أنه حب يضمره الطفل في طبعه وهو يرضع من ~~ثدي أمه أو يحبو إلى لعبته أو يتواثب مع لداته، وإنه ما من خبيئة يبطنها الإنسان إلا ~~ومناطها هوى من هذه الأهواء مكبوت، ونزعة من هذه النزعات يختلف فيها التفسير والتأويل، ~~وقد تفصح عنها الأحلام يناجي بها الإنسان سريرته في المنام، وإن كانت المناجاة هنالك ~~بالرموز والأشكال دون المعاني والأفكار. # ومن أصحاب هذه الفلسفات من نشأ على المذهب الأول ثم عدله ونقحه بإضافة حب القوة إلى حب ~~المرأة، أو بإضافة المجد والجاه إلى الشهوة والغرام. ~~••• # ومنهم من يقول إن الأخلاق ينبغي أن تختلف بين أفراد الرجال والنساء كما تختلف أنواع ~~الغذاء، فالناس في حاجة إلى غذاء متشابه العناصر متقارب التركيب، وليس من طعام مع هذا هو ~~صالح لجميع الأبدان مطلوب في جميع الأحوال، فكذلك الأخلاق في جملتها من عمل الخير ~~والدعوة إلى الصلاح قريبة العناصر متشابهة الأوصاف، ولكنها قد تختلف مع اختلاف المزاج ~~كما يختلف الطعام على حسب البنية، حتى يكون دواء لهذا ما هو سم قاتل لذاك. فليس لجميع ~~الناس قانون واحد ولا خلق واحد ولا طعام واحد، بل ينبغي أن يحرم على أناس ما يباح ~~لآخرين. ~~••• # ومن أصحاب هذه الفلسفات من يدعو إلى الإباحة لأنها حالة الطبيعة، ومنهم من ينكر عليه ~~هذا الزعم فيقول إن الإباحة هي أبعد الأحوال عن طبيعة الأحياء: ألا ترون إلى العجماوات ~~تمانع وتقاتل ثم تعتصم بالعفة والزهادة طوال العام؟ ألا ترون إلى قبائل الفطرة الأولى ~~كيف تحوط العلاقة بين الرجل والمرأة بالمراسم والشعائر وكيف تحفها بالتمائم والشعوذات؟ ~~فالطبيعة أحجى أن تكون إلى جانب الامتناع والاعتصام دون الإباحة والانطلاق، ولا سيما في ~~غرائز الحب ودوافع الشهوات. والحضارة قد علمتنا أنه حيث تكون القيود في الحب تكون نهضة ~~الشعوب، وحيث تكون الإباحة في الحب يكون الركود ثم الدثور. ~~••• # ومن أصحاب هذه الفلسفات من يدعو إلى الإباحة لأنها الحل الصالح عنده لمشكلات الأمم في ~~العهد الحديث. فالناس يتقاتلون لأنهم ms45 يتنافسون على المال، والناس يتنافسون على المال ~~لأنهم يشترون به الشهوات والمظاهر التي هي كالأشراك لاقتناص النساء. فإذا بطلت قيود ~~الجنسين بطل في زعمهم كل ذاك وخفت حدة الزحام والعداء وقلت بواعث الفتنة ~~والإغراء. ~~••• # ومنهم - وقد كان رئيسا لحكومة كبيرة في دولة عظيمة - من يوصي الرجل أن يجرب كثيرا من ~~النساء ويوصي المرأة أن تجرب كثيرا من الرجال قبل الإيواء إلى حرم البيت وحصن الزواج. ~~فإن الرجل والمرأة إذا قضيا الشطر الأول من الحياة في التطواف والتجوال سكنا إلى الزواج ~~وهما جانحان إلى استقرار يعين على الوفاء، وقناعة تعين على العصمة، وأصبحا زوجين رشيدين ~~وأبوين صالحين مدى الحياة. # قال المعري: حسبك! حسبك! # قال التلميذ: نعم حسبي حسبي. فقد تعبت من «دور» الأستاذ وشاقني أن أصغي إليك إصغاء ~~التلميذ؛ فخذ دورك الساعة يا مولاي وقل لنا ماذا ترى في هذه الآراء، وماذا تقول في هذه ~~الأقاويل؟ # ووجم الشيخ قليلا ثم أنشد من كلامه القديم: # لو أن كل نفوس الناس رائية # كرأي نفسي تناءت عن خزاياها # وعطلوا هذه الدنيا فما ولدوا # ولا اقتنوا واستراحوا من رزاياها # ثم راح يقول: إن ما سمعته يا بني بعضه سديد، وبعضه حق، وبعضه هراء. # حق أن المرأة هوى النفوس وفتنة المطامع: # والمرء ليس بزاهد في غادة # لكنه يترقب الإمكانا # وإنها تفتن من هجر الدنيا كما تفتن من غاص في غمارها وتقلب في أوزارها. # راحت إلى القس بتقريبها # وبيتها أولى بقربانها # وزارت الدير وأثوابها # ضامنة فتنة رهبانها # وإنها مقياس الحياة لا يعافها إلا من عافته الحياة: # وإذا الفتى كره الغواني واتقى # مرضا يعود وضره ما يطعم # فقد انطوت عنه الحياة، وكاذب # من قال عنه يبيت وهو منعم # يقال أن سوف يأتي بعدنا عصر # يرضى، فتضبط أسد الغابة الخطم # وإنها خفية المسارب في دخائل الشهوات: # وإنما الخود في مساربها # كربة السم في تسربها # وإنه لا يؤمن منها على صغير ولا يؤمن عليها من صغير: # إذا بلغ الوليد لديك عشرا # فلا يدخل على الحرم الوليد # كل هذا حق وكل ms46 هذا سديد في مذهب صاحبكم الحديث وفي مذهب الحكمة القديم، إلا أن المرأة ~~ليست كل ما يثير النفس ويوسوس في الضمائر وينبعث مع الغواية، وليست كل ما رامه ~~الرجل: # وإنما رام نسوانا تزوجها # بما افتراه وأموالا تمولها # أو قل مرة أخرى: # وإنما رام عزا في معيشته # أو خاف ضربة ماضي الحد قلام # أو شاء تزويج مثل الظبي معلمة # للناظرين بأسوار وأعلام # ذلك قوام الرأيين ووفاق الخلافين. أما الرأي في الزواج: # فلا يتزوج أخو الأربعي # ن إلا مجربة كهلة # على أنني أقول كما كنت أقول: # إن الأوانس أن تزور قبورها # خير لها من أن يقال عرائس # وأقول كما كنت أقول: # تزوج بعد واحدة ثلاثا # وقال لعرسه يكفيك ربعي # فيرضيها إذ قنعت بقوت # ويرجمها إذا مالت لتبع # ومن جمع اثنتين فما توخى # سبيل الحق في خمس وربع # وأقول كما كنت أقول: # خير النساء اللواتي لا يلدن لكم # فإن ولدن فخير النسل ما نفعا # وأقول كما كنت أقول: # وأصبحت في الدنيا غبينا مرزءا # فأعفيت نفسي من أذاة ومن غبن # ثم أقول كما كنت أقول: # شر النساء مشاعات غدون سدى # كالأرض يحملن أولادا مشاعينا # ولا أكتمك مع هذا أنني: # تنازعني إلى الشهوات نفسي # فلا أنا منجح أبدا، ولا هي # فأسرع التلميذ يمتحن الأستاذ، ويهمس في أذنه قائلا: «وفيم المنازعة ونحن في بلاد الغرب ~~والشيخ قد أفرط في الصيام.» # فقهقه الشيخ وهو يصيح به: إليك عني أيها الخبيث! قد خرجنا من هذه المحنة وصارعنا فيها ~~أستاذك القديم إبليس. والله يعلم أكنا فيها صارعين أو مصروعين! ذلك سر مكتوم وحديث ~~مختوم! # | الحكيمان # كان آخر الخطباء في الجمع العظيم يقول: # إنها مصادفة عجيبة ولا ريب. فهل أقول إنها مصادفة سعيدة؟ أخشى أن أغضب ~~الحكيمين المحتفى بهما إذا أنا قلت ذلك، فليس المعري حكيم المشرق ولا شوبنهور ~~حكيم المغرب ممن يدينون بالسعادة، وليس اجتماعهما اليوم في عالم الذكرى من ~~دواعي التفاؤل والاستبشار؛ فالعالم مقبل على خطوب وكروب وأهوال وحروب، ولم يكن ~~مذهب التشاؤم قط أدنى إلى الصدق والإقناع ms47 مما كان في هذا العصر المرهوب ~~الجوانب المحذور العواقب، فإذا سعد الحكيمان بتحقيق ما رأياه وإثبات ما ~~قرراه وإنجاز الوعيد وتقريب البعيد، فهو اجتماع سعيد. # غد - وهو الثاني والعشرون من شهر فبراير - هو تمام مائة وخمسين عاما مضت على ~~مولد الإمام الأكبر في مذهب التشاؤم بين الغربيين، وهو أرثر شوبنهور، فما أعجب ~~المصادفة التي جمعت بينه وبين الإمام الأكبر في هذا المذهب، عند الناطقين ~~بالضاد، على ملتقى ألف عام من مولده المجيد إن لم يأذن لنا أن نقول: ~~السعيد. # أنقول إن روح العالم في شدائده وبأسائه قد استحضر روحيهما فحضرا، وقرب بين ~~أفقيهما فاقتربا، أنقول إنها مؤاساة من عالم الخلود لعالم الشقاء والبأساء؟ ~~أنقول إنهما نذيران أو بشيران؟ # على أننا نكرم زماننا هذا ونكبره ونرفع من قدره إذا نحن وصفناه بزمان التشاؤم ~~وإن حقق لنا مخاوف المتشائمين. # فالتشاؤم - كالتفاؤل - إنما يكون مع الحب والاهتمام، أو مع الظن الحسن والأمل ~~المشبوب، تجيء خيبة الأمل حين يكون الأمل معقولا أو شبيها بمعقول. أما إذا ~~غلب اليأس من البداية فلا تشاؤم ولا إخلاف ظنون. # الذي يهجو المرأة يحبها كالذي يثني عليها، والذي يملأه الغيظ منها كالذي ~~يملأه الشوق إليها: كلاهما يعتد بها ويشتغل بأمرها ويحسب الحساب لإقبالها ~~وإعراضها، أما الذي يلهو بها فلا شوق ولا غضب! ولا فرح بلقائها ولا حزن ~~لغيابها، فليس ذلك من العشاق المدلهين ولكنه من طلاب الفراغ العابثين. ~~••• # كذلك الحياة في زماننا قلما تتسع فيها النفس لتفاؤل أو تشاؤم، وقلما ~~ترى فيها إلا مزجيا لفراغ أو لاهيا بحاضر مبتور، لا يرجع إلى ماضيه ولا ~~يترقب عقباه. # كانت الحياة حليلة نحاسبها على الأمانة والخيانة، وكانت في بعض أجيالها عشيقة ~~نحاسبها على العطف والمودة، فأصبحت عندنا بنتا من بنات الهوى لا نحاسبها على ~~شيء ولا نغار عليها من أحد، ولا ننحي عليها بلوم ولا نخصها بثناء. # فنحن كما قلنا: نكرم زماننا هذا ونكبره ونرفع من قدره إذا نحن وصفناه بزمان ~~التشاؤم. ليتنا كنا متشائمين، وليتنا نحفل بالحياة! ما أخالنا نخطئ إذ ms48 نقول إن ~~تشاؤم أبي العلاء وتشاؤم زميله في الغرب سعادة بالقياس إلى ما نحن فيه. # كان هذا القائل آخر الخطباء في الجمع العظيم الذي التقى من بلاد المشرق والمغرب لتحية ~~الحكيمين في إحدى العواصم. فكان في هذه التحية تزكية للمذهب المحتفى بصاحبيه، كما كان ~~فيها مناقضة له وتشكيك فيه، لأنها جاءت في إبانها دليلا جديدا على اتساع أفق الحياة ~~واستغراقها لجميع ما يقال فيها من تشاؤم وتفاؤل، كما تهضم البنية القوية ما ينفع وما ~~يضير. # وقد خرج حكيم المعرة وهو يعجب ويسأل تلميذه من فرط العجب: أحق أن التشابه بيني وبين ~~الرجل على هذا المدى من القرب والتجاور، مع ما بيننا من مسافة الزمان ومسافة العنصر ~~ومسافة الفكر واللسان؟ # قال التلميذ: بل هو أقرب من ذاك يا مولاي؛ فلا عجب أن يتفق الرجلان في النظرة إلى ~~الدنيا على تباعد الجيرة وتفاوت السيرة، ولكن العجب العاجب أن يتفقا على التفصيلات ~~ويتشابها في الدقائق والعرضيات، وفيما ليس هو من جوهر المذهب ولا من الضروريات التي يقضي ~~بها التوافق في الأصول، والتماثل في العقول. # قال أبو العلاء مستفهما: ومثال ذلك؟ # قال التلميذ: مثال ذاك أن الرجل يقول: إن المرء يعيش إلى السادسة والثلاثين من عمره كما ~~يعيش التاجر الذي ينفق من ربحه ونوافله، ثم ينحدر وينقص ولا يزال في نقصه وهبوطه حتى ~~ينفق من رأس ماله إلى يوم إفلاسه ووفاته. وأنت يا مولاي تقول: # إذا ما تقضى الأربعون فلا ترد # سوى امرأة في الأربعين لها قسم # فإن الذي وفى الثلاثين وارتقى # عليهن عشرا للفناء به وسم # زمان الغواني عصر جسمك زائد # وهن عناء بعد أن يقف الجسم # والرجل يقول بغلبة الإرادة على الفكرة، وضياع العقول مع الشهوات وأن العقل يكف عن ~~العمل، وأن العمل لمن لا يعقلون، وأنت يا مولاي تقول: # وتفكر الإنسان يثني غربه # ويرد جامحه إلى الإقصار # وتقول: # اذا ما أشار العقل بالرشد جرهم # إلى الغي طبع أخذه أخذ ساحب # وتقول: # وقد غلب الأحياء في كل وجهة # هواهم، وإن كانوا غطارفة ms49 غلبا # وتقول: # والعقل زين ولكن فوقه قدر # فما له في ابتغاء الرزق تقدير # والرجل يرى أن النوم سلفة مستعارة من الموت، وهذا رأيك في أبيات كثيرة منها: # ونومي موت قريب النشور # وموتي نوم طويل الكرى # ومنها: # وموت المرء نوم طال جدا # عليه، وكل عيشته سهاد # ومنها: # وفضيلة النوم الخروج بأهله # عن عالم هو بالأذى مجبول # والرجل يعطف على الحيوان، ويؤثر صحبة الكلب على صحبة الإنسان، وأنت مع تحريمك أكل ~~الأحياء تقول في الكلب خاصة: # سببت بالكلب فأنكرته # والكلب خير منك إذ ينبح # والرجل يقول إن الإرادة تورث من الآباء، وإن الذكاء يورث من الأمهات، وقد أوشكت يا ~~مولاي أن تقول ذلك حين قلت: # كأن حواء التي زوجها # آدم لم تلقح بشخص أريب # قد كثرت في الأرض جهالنا # والعاقل الحازم فينا غريب # والرجل يرفع من أقدار نساك الهند، وأنت كذلك ترفع من أقدارهم، ويذكر مذاهب المجوس ~~في الخير والشر، وأنت تذكرها كما جاء في قولك: # فكر «يزدان» على غرة # فصيغ من تفكيره «اهرمن» # والرجل يقول في الزمان: «نحن نسلب يوما كل مغرب شمس» ويقول فيه: «إن وجودنا مستقر على ~~الحاضر الذي ما يني أبدا متسربا طائرا فلا بد له - أي لوجودنا - أن يتلبس بالحركة ~~الدائمة الدائبة بلا أمل في الوصول إلى الراحة التي ينشدها، مثلنا في ذلك مثل ~~المنحدر من جبل عال فهو يسقط إذا حاول الوقوف.» # وذلك شبيه يا مولاي بقولك: # نفس بعد مثله يتقضى # فتمر الدهور والأحيان # وقولك: # أما المكان فثابت لا ينطوي # لكن زمانك ذاهب لا يثبت # وغير ذلك التشابه كثير، يدل عليه تناقض التعبير بينكما كما يدل عليه التقارب في ~~التفكير. # فالرجل يسأل: «ما هو التواضع إلا أن يكون ذلة مزيفة يلتمس بها المرء غفرانا لفضائله ~~ومزاياه في عالم مكظوظ بالحسد والضغينة؟» # ومولاي قد تلفع بالتواضع كثيرا لاتقاء الشر والملاحاة، وخلع التواضع كثيرا في ~~قصائد الفخر والمباهاة، وشغلته هذه المسألة من حيث شغلت صاحبه في جانبي الإقرار ~~والإنكار. # قال أبو العلاء: إن هذا لعجيب، وإن الرجل إلي ms50 لجد قريب، وما أحسبها إلا قرابة في ~~الطباع لا قرابة في الرأي والاطلاع، فإن تشابه الطباع هو الذي يوحي القول الواحد إلى ~~أفواه الكثيرين، أما المتشابهون في العقول فقلما يتفقون، وقد يتنابذون، لأنهم ~~متشابهون. # | حكم وحكمة # كان أبو العلاء قد أقام في بلاد الإنجليز بضعة أيام، شهد في خلالها مجامع العلم ~~والأدب ومعاهد الفن والرواية، وسمع الكثير من أنباء السياسة العالمية، وأنباء الأزمة ~~التي أخرجت وزير الشئون الخارجية، وأعجبه نمط الحكم وانتظام الأمور بين الحكام والرعايا، ~~فجلس يحاور تلميذه وتلميذه يحاوره، ويأبى التلميذ إلا أن البرلمان هو أساس هذا النظام ~~وسبب هذا الاعتدال في تدبير الأحكام، ويأبى الحكيم إلا أن الأمة التي تنجب البرلمان تعرف ~~الحكم الصالح بغير برلمان، فلو لم يكن فيها نواب وناخبون، لكان فيها الحكم كما ينبغي أن ~~يكون، لأنها هي المرجع وهي الأساس، وكل ما عدا ذلك فهو صور وأشكال، يأخذها أناس وينبذها ~~أناس. # قال التلميذ: بل الرأي هنا للكثرة من سواد الأمة، وما على الحكام إلا أن يطيعوا ما يأمر ~~به هؤلاء. # قال أبو العلاء: وهل للكثرة من السواد رأي؟ إن الله يقول: # بل ~~أكثرهم لا يعقلون # ويقول: # وإن تطع ~~أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ~~. # قال التلميذ: ويقول: # وأمرهم شورى ~~بينهم ~~. # قال أبو العلاء: ونسيت أنه جل جلاله يقول: # فاسألوا أهل ~~الذكر # ويقول: # هل يستوي الذين ~~يعلمون والذين لا يعلمون ~~. # قال التلميذ: فماذا يسمي الشيخ هذه الحكومة التي يسمونها هنا بالحكومة النيابية؟ # قال الحكيم: أسميها الحكومة النيابية واختلف ما شئت في معنى النيابة وفيمن ينوب وفيمن ~~ينيب. فالرأي لأهل الرأي والحكم لأولي الحكم، والطاعة لمن يستطيعونها، ولا مشقة في ~~الطاعة على سواد الناس إذا صلحت الأحوال وتقابلت الأهواء، فلا غلبة من هنا ولا هزيمة من ~~هناك، ولا بأس من تبدل الأمور كلما اشتدت سطوة فريق واشتدت معها شكاية فريق. ~~••• # قال التلميذ: أكاد يا مولاي أن أتابعك في قولك وإن كنت تنظر إلى زمان غير زمانك، فالحق ~~أننا هنا بين أمة توازنت جوانبها ms51 فقل فيها الجور وكثر فيها الاعتدال: إن طغى النبلاء ~~صمد لهم كبار التجار، وإن تجبر العلية أو تمرد السفلة صمد لهم أوساط الناس، وإن ~~تحكم رجال الدين قابلهم رجل العلم، وإن صال الجند والقادة في البر فهناك الجند والقادة ~~في البحار؛ تقابل وتوازن لا يطغى فيه جانب على جانب، ولا فصل فيه لتدبير فئة على فئة، ~~وإنما هو من صنع الجغرافية ومن صنع التاريخ ومن صنع الفئات كافة، وما داموا على هذا فهم ~~في صلاح دائم، وأخشى أنهم لا يدومون. # وإن التلميذ ليوشك أن يمضي في مقاله إذا بحاجب الباب يحمل إليه رسالة من وزير الشئون ~~الخارجية المستقيل، وإذا بالوزير يطلب الإذن في مقابلة الحكيم، وإذا بالحكيم يسأل ~~التلميذ ويعجب: ما خطب الرجل وهو في أزمات محرجات لا يفرغ فيها الساسة للأدب والأدباء ~~ولا للشعر والشعراء؟ والتلميذ يشرح له بعض ما يعلم من شأن ذلك الوزير، ومن شئون سائر ~~الوزراء في تلك البلاد. # قال التلميذ فيما قال: إنه يا مولاي يعرف اللغة الفارسية. # قال أبو العلاء: ولكني لا أعرفها. # قال التلميذ: أعلم ذلك، ولكنه يا مولاي قد اطلع على شعر حكيم الفرس الخيام ويعنيه أن ~~يلقى حكيم العرب أبا العلاء، وهو فيما يسحبه بعض أدباء الغرب أستاذ الشاعر الفارسي، ~~وفاتح هذا الطريق في آداب المشرقيين. # قال أبو العلاء: أوكثير من وزراء هذا البلد من يعنى بهذه المطالب؟ # قال التلميذ: غير قليل؛ فمنهم من يكتب في الحكمة والعلوم، ومنهم من يكتب في نظام الشعوب ~~وتدبير الممالك، ومنهم من يكتب في الخطابة والتاريخ، ومنهم من يكتب في الطير والسمك، ~~ومنهم من يكتب في مشاهد الطبيعة ومحاسن الفنون، ومنهم من ينقد أهل الفن والأدب فيتفق له ~~من صائب النقد ما ليس يتفق لرجال هذا المقام وفرسان هذا الميدان كما يقولون. أيذكر مولاي ~~تلك الروايات التي شهدناها في معاهد التمثيل فأعجب الأستاذ ببعضها وسأل عن ~~كاتبها؟ # قال المعري: تعني الرجل المسمى «برناردشو»؟ # قال التلميذ: إياه أعني. ~~••• # فعاد المعري يسأل: وما شأنه في هذا السياق ms52 ؟ أهو وزير من أولئك الوزراء؟ # فأجابه التلميذ: كلا بل هو أديب كتب عنه عشرات من الأدباء، فلا أذكر أن واحدا منهم ~~أصاب في نقده ما أصاب الوزير الذي قال في شخوص رواياته: «إنها تظهر في الحياة لا لما ~~تعمل أو تكون، ومع هذا هي صالحة للحياة.» # قال أبو العلاء: صدقت يا بني فما أعرف لذلك الكاتب المقوال صفة أوجز ولا أصدق من هذه ~~الصفة. فمن يكون الوزير القائل هذا؟ أهو زائرنا اليوم؟ # قال التلميذ: ذاك يدعى شرشل وزائرنا يدعى إيدن، وكلاهما في ميدان الأدب ومناصب الحكم ~~سواء، وإن كان هذا أدنى إلى المسالمة وذاك أدنى إلى الصرامة والنضال. # فأطرق المعري هنيهة ثم أدار وجهه إلى تلميذه وقد اطمأن إلى حديثه، وقال له: «ما أحسب ~~اشتغالهم بهذه المطالب إلا من الخير؛ فإن التفرغ للحكم - بل لعمل واحد كائنا ما كان - ~~سبيل إلى العنت وضيق النظر وقلة السماحة، ومن تعددت مطالبه كان خليقا أن يتسع أفقه ~~للخصومة والخلاف، وأن يعود وهو أدنى إلى المودة والإنصاف.» # ثم هتف بالتلميذ: لقد أطلنا على الرجل لحظات الانتظار، فأسرع! أسرع إليه بالدعوة ~~وبالاعتذار. ~~••• # ويطول سرد الحديث الذي جرى بين الحكيم والوزير، فحسبنا منه ما استطردا من السياسة ~~وتدبير الشعوب؛ فقد أفاض الرجلان في مقاصد القول حتى استنفذا منها كل ما يخوضان فيه ~~ويشاركان في مناحيه، وإنهما ليهمان بالافتراق إذ يقحم التلميذ سؤالا كان من حقه أن يسأل ~~لولا أن شغل عنه المتحدثان بأفانين الأدب والثقافة، ولعل التلميذ قد عز عليه أن يرى في ~~سياسة العصر رأيا لا يقره عليه شيخه وأستاذه، فاندفع يقول: ألا يسأل مولاي زائرنا الكريم فيما طرقناه من حديث الحكومة والبرلمان؟ فما ينبئنا مثل ~~خبير؟ # ووافق السؤال هوى من نفس الحكيم فأوجز الأمر للوزير وأنصت يترقب منه الجواب. # قال الوزير: سر التوفيق في حكومة هذه الأمة أن يتم فيها الأمر الجليل كما يتم الأمر ~~الصغير، وليس فيها من يعتقد أنه يريده كل الإرادة أو يأباه كل الإباء، وإنهم قد أحسنوا ~~الخصومة في الجد ms53 ؛ فالغالب منهم والمغلوب في رياضة لا توغر الصدور ولا تحفظ ~~القلوب. # | خليفة دانتي # قضى المعري أياما في البلاد الإنجليزية وهو يستمع إلى الأنباء التي تفيض بها الصحف ~~رثاء لشاعر الطليان «جبريل دننزيو» وتعقيبا على أدبه ومغامراته في الحب والحرب ~~والسياسة. فسأل صاحبه: من يكون الرجل الذي يلغطون به هذا اللغط في بلاد ليس بينها وبين ~~بلاده صفاء، ويوشك أن يستعر بينهما لهيب الجفاء والبغضاء؟ # قال صاحبه: هو خليفة دانتي! # قال المعري: الآن زدتني به معرفة! ومن دانتي يرحمك الله؟ # فثاب التلميذ إلى نفسه وهو يعتذر من فلتات وهمه! فقد طالما اقترن اسم المعري باسم دانتي ~~في قراءاته حتى حسب أنهما متعارفان، وأن المعري لا يجهل اسم قرينه ولا يغيب عنه أثره ~~وتاريخه، فقال: حسبتك يا مولاي تعرفه وتعرف الصفة بينك وبينه، فقد زعم بعض الأدباء من ~~أبناء الأندلس المحدثين أنه تلميذك وأنه اقتبس منك روايته المقدسة؛ لما بينهما وبين ~~رسالة الغفران من المشابهة. فهي رحلة بين الأرض والفردوس والجحيم، ومقابلة للأدباء وذوي ~~الشهرة من الصالحين والغاوين، وحكاية لما يصنعون في الدار الآخرة قياسا على ما كانوا ~~يصنعون في الدار العاجلة. وقد سبقني الوهم حتى كدت أسألك: أصحيح أنه أخذ منك تلك ~~الرواية؟ وإنما الصواب أن أسأل «دانتي» لو لقيته كما لقيتك، فهو أقمن بجواب ذلك ~~السؤال. # قال المعري: وماذا فعل خليفته؟ أتراه كتب رسالة أخرى على نمط رسالة الغفران؟ # قال التلميذ: كلا يا مولاي وإنما يسمونه خليفة «دانتي» لأنه أشهر شعراء الطليان في ~~العالم الحديث كما كان أشهرهم في زمان. أما مادة الأدب فلا مشابهة فيها ولا مقاربة، بل ~~لعلهما أقرب إلى المناقضة والمباينة في كثير من الأقوال والنزعات والأخلاق. ~~••• # واسترسل التلميذ في شرحه وهو لا يحسب إلا أن الحكيم مسترسل في صمته ليستزيده من الشرح ~~والتفصيل، فجعل يقول: لقد كان دانتي عذريا في هواه متدينا في شعره صارما في حياته. ~~أما خليفته فمذهبه في الحب إشباع الشهوات واستنفاد متعة الحياة، ومذهبه في الدين مذهب ~~أهل العصر من الشك والإباحة ms54 ، وسجيته أقرب إلى العربدة منها إلى الصرامة وإلى الضحك ~~الثائر أقرب منها إلى العبوس الرصين. وكان دانتي أحرى بالحظوة عند النساء ولكنه لم يحظ ~~منهن بطائل، أما خليفته فهو بين الصلع والقماءة، ولكنه مجدود عند الشواذ من بنات الفن ~~ورائدات الغرائب والبدوات. على أنه كان من الشهوانيين بالأعصاب ولم يكن من الشهوانيين ~~باللحم والجسم، وكانت لذاته رعدة تهز الأوصال ولم تكن أكلة يملأ بها ماضغيه ويحشو بها ~~أحشاءه، فهي وليدة القلق والحركة وليست وليدة الترب والاستنامة، وكأنها قد أصبحت بذلك في ~~زعمه أقرب إلى الطموح والمثل الأعلى، وأبعد من الغواية والإسفاف. # فقاطعه المعري منشدا: # جهلت أقاضي المصر أكبر مأثما # بما ناله، أم شاعر يتغزل؟ # ألهذا يا بني قد شهروه وقدروه، وبهذا يا بني قد أكبروا ذكره وسيروه؟ # فأحس التلميذ لهجة التأفف والاستنكار في سؤال الحكيم المعرض عن الشهوات واللذات، ~~وجاراه من حيث لا يشعر قائلا: بل لعلهم قد شهروه لمغامراته في الحرب والسياسة كما شهروه بمغامراته في الحب ~~والغواية. # قال المعري: وما ذاك؟ # قال التلميذ: إنه كان من أهل بلد صغير فصلوه من موطنه الكبير، فلما كانت الحرب التي ~~يسمونها بالحرب العظمى طمع في رجعة ذلك البلد وسعى إلى الوصل بين منشأ أهله ومستقر قومه، ~~فحالت الحوادث دون ما طمع فيه وسعى إليه، فحمل السلاح وغزا ذلك البلد وأقام نفسه حاكما ~~عليه وأبى أن يبرحه إلا وهو قتيل، بل جعل يصيح على مسمع العالم كله: إنه لن يبرحه وهو ~~قتيل، لأنه أقسم ليموتن فيه وليدفن في ترابه، بل أقسم ليكونن هناك نصيرا لكل من أضاع ~~وطنا أو غضب على وطن، ونادى بدعوته فإذا هي كما قال: «أعظم الدعوات وأجملها وأشدها نقمة ~~على خسة العالم الشائخ وهتره وتخريفه في هذه الأيام، لأنها تمتد من أيرلندة إلى مصر، ومن ~~مصر إلى الروسيا فأمريكا، ومن رومانيا إلى الهند: تجمع الشعوب البيضاء والشعوب ذات ~~الألوان، وتصلح بين وحي الإنجيل ووحي القرآن، وتمشي بالوئام بين أتباع عيسى وأتباع محمد، ~~وتمزج في إرادة واحدة كل ما ms55 وسعته الأمم في نخاعها وفي عروقها من ملح وحديد لإمداد ~~النفوس بغذاء العمل والحركة. وسننتصر لا محالة! وسينضوي الثائرون من جميع الأمم بين جميع ~~أبناء آدم إلى أعلامنا، وسينتضي العزل المظلومون سلاحنا، وسندفع العنف بالعنف والشدة ~~بالشدة، ونشنها غارة جديدة كغارة الصليبيين لنصرة المساكين وإغاثة الأمم الفقيرة ~~المنزوفة، ونرسلها شعواء على المرابين والمبتزين الذين غنموا بالأمس أسلاب الحروب ~~ويغنمون اليوم أسلاب السلام.» # قال المعري: أضغاث أحلام، وشطحات أوهام. ثم ماذا كان من شأنه في ذلك البلد، وماذا كان ~~من شأنه مع المظلومين والمستضعفين؟ # فابتسم التلميذ وقال: هو ما تقول أيها الحكيم. فما هي إلا أضغاث أحلام وشطحات أوهام، ~~وما هو إلا أن تبدل الوزراء في حكومة بلاده حتى خرج حيا من البلد الذي أقسم ليموتن فيه ~~وليدفنن في ترابه، وما كان قد دخله من قبل إلا وهو على تواطؤ مع قادة الجيش ورجال ~~الدولة، فلم يمنعوه، ولم يقفوا في طريقه. # فابتسم الحكيم ابتسامته المرة وعاد يسأل وكأنه يعلم جواب ما سأل عنه قبل الإفضاء به ~~إليه: والمساكين المستضعفين؟ # فقهقه التلميذ ناسيا أدبه ووقار شيخه، وقال: أما المساكين المستضعفون فقد جردت عليهم ~~حكومته جيشا يزيدهم مسكنة وضعفا. ~~••• # فتعجل الشيخ سائلا: فماذا صنع خليفة دانتي وخليفتي يرحمك الله؟ هل أعطاهم من سلاحه ما ~~ينتضونه؟ # قال التلميذ: بل أرسل عليهم شواظا من شعره يحض به الجيش الزاحف على حسن البلاء وتشديد ~~النكير. # فوجم المعري مهموما ولم يزد على أن قال: صدق الله العظيم: # يقولون ما لا يفعلون ~~. # | لعب العبقرية # كان أبو العلاء في أيامه الأخيرة بين أمم الغرب كثير السآمة من لقاء الناس، كثير النفور ~~من المجامع والمحافل، كثير الإعراض عن الجدل في المذاهب والآراء والفلسفات التي سمع من ~~أخبارها في أيام ما لم يسمعه في أعوام كان بقيد الحياة. ~~«ما النحو؟ ... ما الشعر؟ ... ما الكلام؟» كما قال في بعض أبياته # 1 # كلها ككل شيء في هذه الدنيا: # تعب غير نافع واجتهاد # لا يؤدي إلى غناء اجتهاد # وكانت للأمر في أول عهده بالقوم جدة ms56 وغرابة، فكان يحتمل المجامع والمحافل ما بقيت الجدة ~~والغرابة، ثم نصلت الطلاوة وزالت الغشاوة فإذا الجديد كالقديم وإذا العجم كالعرب، وإذا ~~الدنيا هي الدنيا والناس هم الناس والحياة هي الحياة! وكل يوم دعوة، وكل يوم خروج على ~~غير طائل، أو على ضجة ما كان أغنى عنها تينك الأذنين اللتين حجبهما الرجل عن الصوت، بعد ~~أن حجبت الأقدار عينيه عن الضياء. # قال يوما لصاحبه: كنت أحسب الدنيا بنية مطمورة في القدم فكلما غاص الإنسان فيها كان ~~أدنى إلى حقائقها وأسرارها، فلما بعثت في هذا العصر الحديث حسبتها منجما مقبلا كلما ~~أمعن الإنسان في غده بعد يومه كان أدنى إلى تلك الحقائق والأسرار. # فأسرع صاحبه يسأله: فالآن ماذا تحسبها؟ # قال: أحسبها متاهة مغلقة، فكلما رجعت فيها أو تقدمت فأنت في مكان واحد من المدخل أو من ~~المخرج، وقد أغلقت فلا مدخل ولا مخرج هناك. # وكان صاحبه أو تلميذه من أبناء العصر المنشئين على تربيته وعاداته: كل دعوة تأتيه ~~فإما لحضور وإما لاعتذار، وكانت عنده دعوة من مؤتمر الفلسفة والأديان، ينتظر أصحابها ~~الإجابة من حكيم العرب وحكيم القرون الوسطى، فبماذا يجيب؟ والحكيم لا يريد الحضور ولا ~~يريد الاعتذار؟ ~~••• # تلك فرصة سانحة يوم عرض الحكيم للدنيا وشبهها تارة بالبنية المطمورة وتارة بالمنجم ~~المحفور، وتارة بالمتاهة المغلقة. # فعاد التلميذ إلى المفاتحة في أمر الدعوة إلى مؤتمر الفلسفة والأديان، وعاد الحكيم إلى ~~الرفض والإعراض وزاد متهكما ساخرا: مؤتمر يشاور فيه بعضهم بعضا فيما يدينون به من ~~عقيدة! ليوشك القوم غدا أن يتشاوروا فيما يحبون من وجه جميل وفيما يأكلون من فاكهة ~~لذة! وهل يرجع المرء فيما يحبه من جمال وفيما يشعر به من لذاذة وفيما يعتقده من طمأنينة ~~اليقين إلى مشاورة الآخرين؟ # فعلم التلميذ أن نوبة النفور أصلح هنا للخوض في مسائل المؤتمر من نوبة الإقبال ~~والموافقة، واقترح على الشيخ أن يسأله وأن يدون جوابه، وأن يستخلص من الحديث ما يلقيه ~~على المؤتمرين، نائبا عن الشيخ، والشيخ معافى من مشقة الذهاب ومشقة السؤال ~~والجواب. # قال التلميذ ms57 : أأنت من العقليين يا مولاي أم من الفطريين؟ # فسأله مولاه: ما العقليون وما الفطريون هداك الله؟ # فلخص التلميذ مذهب العقليين ومذهب الفطريين في كلمات موجزات، وقال إن العقليين يحسبون ~~أن الإقناع هو سبيل الإصلاح والهداية، والفطريين يحسبون أن البداهة قبل التفكير وأن ~~الإقناع قلما يغالب الأهواء، فمن أي الفريقين يا ترى يكون الشيخ الجليل؟ # قال أبو العلاء: من كلا الفريقين! # أنا من العقليين حين أقول: # كذب الظن لا إمام سوى العق # ل مشيرا في صبحه والمساء # وأنا من الفطريين حين أقول: # العقل يسعى لنفسي في مصالحها # فما لطبع إلى الآفات جذاب # وأنا لست من هؤلاء ولا هؤلاء حين أقول: # وبصير الأقوام مثلي أعمى # فهلموا في حندس نتصادم! # قال التلميذ: خرجنا من البنية المطمورة ومن المنجم المحفور ودخلنا المتاهة المغلقة يا ~~مولاي. هذا تناقض والحق لا يتناقض. فماذا أقول للمؤتمرين من رأي الشيخ في حقيقة الحق بين ~~هذه الأمور؟ # فهتف به الشيخ ضاحكا وقد سرى عنه بعض السآمة: بل التناقض للحقائق يا بني لا ~~للأباطيل. ~~••• # إن الأباطيل تتغير وتتبدل فيسهل التوفيق بينها بقليل من النقص هنا وقليل من الزيادة ~~هناك، أما الحقائق فهي التي تقف في سبيلنا وقفة الصخور. لا تحيد من يمين ولا من شمال، ~~وعلينا نحن أن نسلك بينها ونتحول من حولها، فإن أردت أن أتحول بك في دروبها قليلا فاعلم ~~إذن أننا نتبع العقل فيما هو للعقل من رأي وتفكير وتجربة ومشاهدة، وأننا نتبع الفطرة ~~فيما هو للفطرة من ذوق وطمأنينة وتسليم، وأننا لا نطلب من الفطرة أن تصبح عقلا ولا من ~~العقل أن يصبح فطرة، وإنما نستشير كليهما حيث يشير. ~~••• # وبدا لأبي العلاء أن تلميذه المصغي إليه يستريح ويستقر على ما سمع، فأدركته عارضة من ~~لعب العبقرية ولعب الطفولة الخالدة. وهل العبقرية الخالدة إلا حياة متجددة؟ وهل يلعب ~~الطفل إلا لما يدركه من جدة الحياة وإقبالها؟ فكما يرى الطفل من ينامون إلى جانبه ~~وهو يقظان فتأبى عليه شيطنة الحياة العارمة إلا أن يوقظهم معه ويعديهم بمساس من ms58 القلق ~~الذي يشتمل عليه، كذلك العبقري لا يطيب له أن يأرق وحده والناس هادئون؛ فمن ثم إن شئت ~~يقظات الأحلام والناس نيام، وشيطنة الخلود والفانون سادرون في موت الجمود، قل إن شئت ~~إنها جدة تلطف جدها، وإنها حلاوة تخالط مرارتها، ولكنها - بعد كل ما يقال - لا تخلو من ~~جانب اللعب فيها وجانب الرياضة، ولن يستحق الجد ما ليس فيه لعب ولا رياضة. ~~••• # بدا ذلك لأبي العلاء فأومأ إلى تلميذه يسأله وقد كف هو عن سؤاله: أراك صدقت وآمنت. ~~فما لك لا تسأل: ومن الذي يستشير العقل؟ ومن الذي يستشير الفطرة؟ أفي الإنسان شيء خارج ~~العقل وخارج الفطرة فهو الذي يكون منه السؤال ثم يكون الجواب إما من العقل المسئول أو من ~~الفطرة المسئولة؟ وما الرأي إذا كان السائل هو الفطرة والمجيب هو العقل؟ # وما الرأي إذا وقع الخلاف على السؤال وعلى الجواب؟ # وفوجئ التلميذ، ولكنها مفاجأة وقعت منه موقع السرور والتأهب، لأنه انتظر بعدها مزيدا ~~من الاستفسار ومزيدا من التفسير. فقال: إذن أنت يا مولاي من الجبريين؟! ولا أدري كيف ~~فاتني الساعة أن أذكر ذلك وأنت القائل: # والعقل زين ولكن فوقه قدر # فما له في ابتغاء الرزق تقدير # قال أبو العلاء ولا تزال فيه تلك العارضة من لعب العبقرية: ولا تدري أيضا كيف فاتك ~~الساعة أنني لست من الجبريين ولا من القدريين لأنني أنا القائل: # لا تعش مجبرا ولا قدريا # واجتهد في توسط بين بينا # قال التلميذ وكأنما شملته تلك العارضة التي استولت على أستاذه في تلك الساعة: # وهل هذه إلا الجبرية بعينها؟ لا تريد أن تقول إن الإنسان مجبر ولا تريد أن تقول إنه ~~مخير. ولا تفصل في المشكلة بل تدع الفصل فيها لعالم الغيب أو عالم الشهادة. ماذا يكون ~~الجبريون إن لم يكونوا هكذا غير مختارين فيما يفكرون وفيما يعتقدون؟ # فأصغى المعري وأعجبه ما سمع من تلميذه فأومأ موافقا: نعم هي الجبرية في أرجوحة ذاهبة ~~آيبة. وهي خير من الجبرية في قيد مقيم. # قال التلميذ: # لقد عدم التيقن ms59 في زمان # حصلنا من حجاه على التظني # فهتف به المعري: ويحك إنك لتتعقبني بكلامي القديم تعقب المذنب بإقراره؛ فهلا أغناك ~~حفظك عن مطاردتي بالسؤال والاستقصاء؟ # فلاحقه التلميذ قائلا: المدى يا مولاي في هذه المسائل فسيح، والتعب لا يضير، وخطوة ~~واحدة إلى الأمام أو خطوة واحدة إلى الوراء لن تضيق النطاق، ولن تقرب اللحاق. # قال الشيخ مترقبا: ثم ماذا؟ # قال التلميذ مجاريا: ثم علام الجزاء إذا كنا فيما نحسن أو نسيء مجبرين ~~مسيرين؟ # قال الشيخ: إذا كانت النفس تعمل الخير مكرهة فما حقها في الجزاء؟ # وإذا كانت النفس تعمل الخير مختارة لأنها تؤثره وترضاه وتجد فيه الغبطة وفي غيره الندم ~~والحسرة فما حقها أيضا في الجزاء؟ فأحر بنا ألا نشغل بالنا بمثوبة أو عقوبة. # ولتفعل النفس الجميل لأنه # خير وأحسن لا لأجل ثوابها # إن الطفل يا بني يؤجر بالدرهم ليأكل الطعام وفيه مصلحته ونماؤه، فإذا كبر الطفل بذل هو ~~الدرهم وصبر على بذله وتحصيله ليأخذ به طعامه ويشبع به نهمته وأوامه. وكذلك تصغر النفس ~~فتؤجر على خيرها الذي تجهله، وتكبر النفس فتبدل هي الأجر على ما تعمل من خير، وذلك هو ~~الجميل وذلك هو الثواب: # أدين برب واحد وتجنب # قبيح المساعي حين يظلم دائن # ثم أنشد: # وليس اعتقادي خلود النجو # م ولا مذهبي قدم العالم # ثم عاودت الشيخ تلك العارضة من لعب العبقرية الخالدة فصاح بالفتى: أسرع! أسرع يا بني ~~مؤتمر الفلسفة والدين، أسرع إليهم فقد طال بهم الانتظار، في طلب هذا الحوار، والذي لا ~~يستقر عليه قرار، ولا يزيد به عدد الأبرار، ولا ينقص به عدد الفجار. # ثم تمتم بين شفتيه: ما النحو؟ ما الشعر؟ ما الكلام؟ # كلام في كلام في كلام. # | الاختراع # السفينة في طريقها إلى المشرق والمعري وصاحبه على مقدمها يستقبلان الهواء، والمذياع ~~يغني الأنشودة المشهورة على لسان امرأة لاهية تقول بالفرنسية: # عندما تضمني بين ذراعيك، أنا أعلم الكلمة التي ستقولها. ستقول إني أحبك! وهي ~~كلمة كاذبة ولا شك، ولكني مع هذا أحب أن أسمع صوتك ... # والفيلسوف يسأل ms60 : ماذا تقول هذه المرأة؟ والتلميذ يترجم الأنشودة ويتخابث في سؤال الشيخ ~~عن رأيه في هذه المناجاة العصرية، على لسان امرأة تخاطب رجلا، أو على لسان النساء ~~يخاطبن الرجال. # والشيخ يتأمل باسما ويجيب تلميذه راضيا رضى القانطين المستسلمين: «هو الغرب كله يا ~~بني ماثل في هذه الأنشودة اللاهية: هو الغرب الذي يأخذ من الحياة ما تعطيه، ويطلب ~~السرور، ثم لا يسوم دنياه طلب الوفاء والكمال، هو الغرب الذي يأخذ كل شيء بقيمته وكل شيء ~~على حقيقته، ثم يصقله ويحببه إلى نفسه ليستسيغه ويستمرئ مذاقه، هو الغرب ذو النفس ~~الناطقة التي لا تقول كلمة في جدها ولا لهوها إلا جمعت فيها خلاصة ما عندها من حضارة ~~وأخلاق وفلسفة وشعور.» # قال التلميذ: أوليست كل النفوس ناطقة؟ ألا تفصح كل نفس عن دخيلتها في غنائها ~~ومناجاتها؟ # قال الشيخ: بلى، ولكن شتان تعبير اللسان الذي يقول فيجمع حياته فيما يقول، وتعبير ~~الثمرة التي ترى قشرتها فترى من لونها وتشم من رائحتها أنها ناضرة أو ذاوية، وصحيحة أو ~~معطوبة: ذلك تعبير الفضل كله فيه للقائل، وهذا تعبير الفضل كله فيه للناظر، وكلاهما ~~تعبير ولكن المسافة بينهما كالمسافة بين الحياة والجمود، والحركة والركود. # فصاح التلميذ: اليوم سيدي الشيخ عربي وهو يفارق الغرب إلى الشرق! فهلا كان غريبا وهو ~~في بلاد القوم مستريح؟ أم كتب على الإنسان أن يحب ما يفارق ولا يزال ساخطا على ما هو ~~فيه؟ # فصمت الشيخ هنيهة، ثم راح يمضغ بين شفتيه: # يا ماء دجلة ما أراك تلذ لي # شوقا كماء معرة النعمان # اطمئن يا بني. ما أنا إلى الغرب ولا أنا إلى الشرق. أنا إلى معرة النعمان فهلا آن ~~الأوان؟ ~~••• # فأراد التلميذ أن يطاوله ويصرفه عما ورد على نفسه في تلك اللحظة من الحنين إلى وطنه، ~~وعاد يحاوره وكأنما يتحداه ليستثيره ويجنبه غاشية السوداء التي هو مقبل عليها: أفي ~~المعرة مثل هذه السفينة ومثل هذا المذياع ومثل هذا الصوت الجميل ومثل هذه ~~الأعاجيب! # وكان المعري قد ركب السفائن والطائرات، وعرف مطايا الكهرباء ومطايا ms61 البخار، وقال في كل ~~منها قولة عارضة وهو يركبها أو يترجل منها. إلا أنها رحلة العودة ففيها خلاصة المقال ~~ونهاية المآل، فيما رأى من هذه الصنوف والأشكال، فقال: وما حاجة المعرة إلى سفائن البحار ~~فيها السيارة وتحوم على فضائها الطيارة؟ ولو كان فيها بحر لكان فيها مثل هذه السفينة ~~ومثل هذه الضوضاء. # قال التلميذ: وكلها من صنع الغرب الذي ما أدري أيبرم به الأستاذ أم هو مشوق ~~إليه؟ # قال المعري: الآن فهمت ما تريد، فهلا أنبأتني يا بني ماذا صنع الغرب من هذه الآلات يوم ~~كنا نعيش حياتنا الدنيا في المعرة؟ لعمرك يا بني ما صنعوها اليوم إلا لأنهم قد ~~احتاجوا إليها، وإلا لأنهم قد بنوا على أساس ما سبقها وهيأ أسبابها من صناعات القرون ~~الأولى. يا بني لا تهولنك المظاهر ولا تعجبك كثرة الأعداد، فلعل مبتدع الشراع والدولاب ~~أحذق من مبتدع البخار والكهرباء، ولعل القوس والسهم أبرع في اختراعهما من المدفع ~~والقذيفة، ولعلهم كانوا يعيشون على عهد الشراع خيرا من هذه العيشة، ولعلهم كانوا يموتون ~~على عهد القسي والسهام أكرم من هذه الميتة! ولعل متعة الحالم بالطيران أحب إليه من متعة ~~الطائر بالجثمان. ~~••• # قال التلميذ: ولا أحسبني مع هذا مخطئا إذا قلت إنني لمحت دلائل الدهشة على وجه الأستاذ ~~يوم ركبنا الهواء أول ما ركبناه. # قال أبو العلاء: تلك دهشة تغني عن دهشات. # فسأل التلميذ: أيحب مولاي أن أفهم من هذا أن الكهرباء والبخار وما صنع الإنسان منهما لا ~~تستحق دهشة الحكيم كما يستحقها الإنسان الطائر في الهواء؟ # قال أبو العلاء: لا أحب أن تفهم هذا ولا أكرهه، ولكنني دهشت لمعنى ما رأيت حين رأيته ~~أول لمحة، ثم أغناني ذلك عن دهشتي للمصنوعات المكررة والظواهر المختلفة، أتحسب أن من ~~يدهش للطيران في الهواء خليق أن يدهش لكل متحرك بالبخار والكهرباء؟ أفمن شهد الشراع مرة ~~خليق أن يدهش له مرات كلما حركته ريح شمال أو ريح جنوب؟ ذلك معنى واحد في ألفاظ شتى، أو ~~ذلك جسد واحد في مختلف الثياب ms62 ، وحسبك أن تعلم أن تسخير القوى التي يسمونها بالقوى ~~الطبيعية مستطاع لتزول عنك الدهشة من كل ما يستطاع من هذا الطراز. # فاندفع التلميذ سائلا: أفكل هذه الآلات إذن ليست بالفتح الجديد؟ أليس فيها ما يستوقف ~~الحكماء من تاريخ بني الإنسان فيما يرى سيدي الأستاذ؟ # فلم يمهله أبو العلاء هنيهة، وأجاب: لا فتح ولا إقفال! # وربما فتحت هذه الآلات لإنسانك يا بني فتحا جديدا لو أنه سخر الآلات ثم أطلق نفسه من ~~العقال، أو لو أنه ملك نفسه يوم ملك آلات الأرض والهواء، ولكنه سخر الآلات المصنوعة ~~ليصبح شبيها بها، ثم ازداد في التسخير ليزداد في الشبه. فهو أسير ما صنع ورهين ما ~~ابتدع، فإن سميت هذا فتحا فالله يفتح عليك. ~~••• # ولم تخف لذعة السخر والمرارة في كلمة الشيخ الأخيرة على فطنة تلميذه الملحاح، فقال وهو ~~لا يتعمد الإطالة في الحوار: أخال إنسان اليوم على جميع حالاته أطلق من آبائنا ~~الأولين! # فتمتم أبو العلاء هامسا: أكذاك؟ # ثم انثنى يقول: لأمر ما كان الأوائل يروضون الحيوان وكنتم في زمانكم هذا تروضون ~~الجماد: كل قريب إلى ما يروض! وما أحسبكم تفلحون في رياضة حيوان واحد بعد الذي راضه ~~آباؤكم المتقدمون، ولكنكم كلما قاربتم الآلات خرجتم من رياضتها في كل يوم بجديد. ~~••• # وتعمد التلميذ المناوأة الخفية فقال: ومع هذا يغبط مولاي الجماد ويسبح الله الذي ~~أعفاه من الطعام والكساء ومن الرحلة والشقاء. # ولم يرفض أبو العلاء هذه المناوأة بل جرى في مجراها فقال متمنيا أو متهكما على حد ~~سواء: لو عوفيتم كما عوفي الجماد! # فأنس التلميذ إلى هذا التهكم الرقيق وراح يسأل: وهل عوفي الأقدمون؟ # قال أبو العلاء: كلا. على هذا مضيتم ومضى السلف، إلا أنهم صبروا حيث تضجرون، وطلبوا من ~~الدنيا دون ما تطلبون، فإذا كانوا مثلكم في الشقاء فلقد كانوا أقل منكم في الشكاة، وإذا ~~كان نصيبهم كنصيبكم من الخير فالذي يطلب الألف ويجد المائة محروم، والذي يطلب العشرة ~~ويجد الخمسين مجدود لا تحسبه من أهل الحرمان. # | أقصى المغرب # قاتل الله المجاز ms63 ! # كان هذا أول ما فاه به المعري لتلميذه بعد أن علم سبب الكارثة التي أودت بمئات النفوس ~~من ركاب السفينة؛ إذ كانا يركبانها ويتحدثان فيها ذلك الحديث المروي في الفصل السابق، ~~وكانا قد بلغا شواطئ الأندلس حين وقعت الواقعة. وما هي الواقعة؟ قذيفة أطلقتها على ~~السفينة غواصة من غواصات الثوار فهبطت بها إلى القرار، ثم نجا المعري بعصمة الخلود، ونجا ~~تلميذه ببعض المجهود، وهما الآن على متن سفينة أمريكية تمخر بهما بحر الظلام، إلى بلاد ~~العم «سام». # ومال التلميذ إلى الأستاذ يسأله: أعلمت يا مولاي ما سبب الكارثة؟ # فقال الأستاذ: وما سببها؟ # قال: أنت يا مولاي! # قال: ويحك! وكيف أكون أنا سببا لإغراق سفينة أنا راكب فيها! أهي دعوة صائبة؟ # قال التلميذ: بل هو مجاز خائب. كتبت بعض الصحف أن سفينة من السفن تفارق الشواطئ ~~الأندلسية وعليها ذخيرة عربية نفيسة، ومن تكون الذخيرة العربية النفيسة غير أبي العلاء؟ ~~فلما تواترت الأنباء بهذا المجاز النفيس حسب الثائرون على حكومة الأندلس أن هذه الحكومة ~~تبعث بالتحف العربية الغالية إلى بلاد أجنبية، لتودعها أو ترهنها هناك فطاردتنا وأغرقتنا ~~لتحرمها هذه الذخيرة، أو تستولي عليها إذا أدركتها قبل أن تبتلعها اللجة، فغرقت السفينة ~~وهلك من هلك من جراء أبي العلاء. # قال أبو العلاء: قاتل الله المجاز، بل هو الذي أهلك القوم كما أهلك من قبلهم أمما ~~خالية أغرقها المجاز في بحار من الكلام، وأنا مع ذلك القائل: # لا تقيد علي لفظي فإني # مثل غيري تكلمي بالمجاز # نعم وأنا القائل أيضا: # بني الدهر مهلا إن ذممت فعالكم # فإني بنفسي لا محالة أبدأ # ثم قال: وإلى أين تمضي سفينتنا الآن بالذخيرة العربية النفيسة؟ أتراني سأغرقها مرة ~~أخرى؟ # قال التلميذ: بل إلى بر السلامة إن شاء الله، إلى بلاد العم سام! # قال أبو العلاء: وما عسى أن نشهد هناك غير ما شهدنا؟ أو نسمع هناك غير ما سمعنا؟ # قال التلميذ: كثيرا يا مولاي؛ سنرى قبل كل شيء ملكا عظيما على الطريقة ~~الأمريكية. # فتمهل أبو العلاء قليلا ثم ms64 قال: أراني سأقضي منك ديون السؤال كلها في هذه الرحلة. فما ~~هي هذه الطريقة الأمريكية التي نسمع بها في كل شأن من شئون هؤلاء الناس؟ وكيف يكون الملك ~~العظيم ملكا عظيما على هذه الطريقة. # قال التلميذ: بالامتحان والكشف الطبي، كأنه موظف في الخدمة اليومية! فهذا الرجل الذي ~~يحكم الدولة العظمى في الديار الأمريكية قد كان مشلولا في كهولته ثم تقدم إلى الشفاء، ~~فلما أذاع خصومه أنه لا يصلح للحكم عرض نفسه على الأطباء الثقات ليشهدوا له بصحة العقل ~~وصحة الضمير. وقد شهدوا له وجاز الامتحان عند أبناء وطنه فانتخبوه. أليست هذه طريقة ~~أمريكية في الحكومة كالطرق الأمريكية في الصناعة والتجارة، وفي كل شأن من شئون هؤلاء ~~الناس؟ # قال أبو العلاء: وهل أفلح الرجل وصدق الأطباء؟ # فأجاب التلميذ: نعم أفلح غاية ما يستطاع الفلاح، وعالج الشلل في قومه كما عالجه في ~~جسمه. # فأدركه أبو العلاء متهانفا وصاح به: غرقة أخرى يا بني! ومجاز آخر يوشك أن يرسل ~~بالسفينة إلى القرار! أفصح يا بني ودعنا من المجاز! ~~••• # فاستضحك التلميذ، ولكنه شغل بالجد فيما هو فيه عن سخرية الشيخ وارتيابه، فطفق ~~يقول: # لقد صعد «روزفلت» العظيم إلى كرسي الرئاسة والأمة الأمريكية كالجسم الذي له نصف محتقن ~~بالدم الغزير ونصف منزوف مشلول لقلة الدم فيه، فكان كالقلب الذي لا تنتظم به دورة الدم ~~في جميع العروق، وأخذ من النصف المحقون للنصف المشلول، فدار الدم دورته في جميع العروق، ~~وأوشكت الحركة أن تعود إلى جميع الأعضاء. # قال أبو العلاء: أتراه أثار الفقراء على الأغنياء كما صنعوا في بعض الديار ~~الأوروبية؟ # قال التلميذ: لو صنع ذلك يا مولاي لكان من الفاشلين، فإن هذه البلاد على تقدم الصناعة ~~فيها وكثرة الصناع بين أبنائها تعتصم من ثورة الفقراء على الأغنياء بشتى العواصم، ~~وتحتمي منها بكثير من الحصون: منها يا مولاي أن باب الغنى مفتوح لكل فقير مستطيع، فكل ~~فقير فيها يمني نفسه بالثروة بعد حين، ولا يشعر باحتكار الثروة في أيدي طائفة من الناس ~~تتوارث المراتب وتتوارث الأموال ms65 ؛ فمن هنا يحسب الفقير أنه يثور على نفسه أو يثور على ~~أمله حين يثور على الأغنياء. # ومنها أن الأمريكيين قوم ورثوا المغامرة والمراهنة من أجدادهم الأولين الذين غامروا ~~بالهجرة إلى الغرب المجهول منذ قرون، فمن شغفهم بالمغامرة والمراهنة أنهم يحبون الانتخاب ~~وينتظرون السباق فيه بين الأحزاب، ولا يلجأون من أجل ذلك إلى الإضراب والاغتصاب. # ومنها أن الزراعة عندهم توازن الصناعة، وأن الريف بينهم يوازن المدينة وأن ازدحام ~~الحواضر لا يخلي القرى من الحارثين الحاصدين، وهؤلاء أقرب إلى جانب الاستقرار منهم إلى ~~جانب الثورة والثوار. # ومنها أن حب الدين فيهم قديم؛ لأن آباءهم الأولين كانوا أناسا متنطسين متطهرين نقموا ~~معيشة الفساد في أوروبا فهجروها إلى الغرب متعففين متورعين، وإنما يثور الإنسان على ~~الأرزاق حين يثور على الأقدار. ~~••• # قال أبو العلاء: أرحتني من الأستاذية في هذه الرحلة المباركة أراحك الله، غير أني أراك ~~قد ذكرت لنا ما منع رئيس القوم أن يثور بالفقراء على الأغنياء ولم تذكر لنا ما صنع لعلاج ~~ذلك الجسم المحقون المشلول، أتراه رجع فيه إلى الأطباء؟ # قال التلميذ: عفوا يا مولاي. أحسبها غلطة من غلطات الحداثة في الأستاذية، أو أحسبها ~~أسلوبا مبتكرا على الطريقة الأمريكية، ومن كان أستاذا لأبي العلاء فمغتفر له ما شاء ~~من إمهال وإبطاء. # فاعلم يا مولاي إذن أنه أجزل من الأجرة والوقت للصناعين، وأكثر من الأرزاق للشيوخ ~~والعاطلين، فأكثروا من الإنفاق وراجت بهم الأسواق. # فسأل أبو العلاء: ومن أين جاء بالمال؟ # قال التلميذ: بعضه من أرباح الأغنياء والفقراء، وبعضه من الضرائب على رءوس ~~الأموال. # فعاد أبو العلاء سائلا: وكيف رضوا بما فرض عليهم؟ # قال التلميذ: رضوا كارهين أو كرهوا راضين، فإن كثرة البيع والشراء خير من كساد السلع ~~والخوف الدائم من ثورة العاطلين والمطرودين، والمال الذي يذهب ويعود خير من المال الذي ~~يفسده الركود. ~~••• # فسأل أبو العلاء مرة أخرى: وهب التجار لم يخرجوا من بضائعهم إلا بمقدار، فأمنوا بذلك ~~مغبة البوار، وقنعوا باعتدال الأسعار. فهل تزن الأرض غلاتها، وهل تحكم الحكومة ~~نباتها؟ # قال التلميذ ms66 يقرظ أستاذه العجيب: ما أعجبك يا مولاي من أستاذ وما أعجبك من تلميذ. إنك ~~لتحسن السؤال كما تحسن الجواب. فاعلم إذن يا مولاي أن الأرض قد أخرجت ما شاءت وأن ~~الحكومة قد أتلفت منه ما شاءت، وهو النصف من جميع الغلات. # قال أبو العلاء: وهل رضي الزارعون؟ # قال التلميذ: رضوا كارهين أو كرهوا راضين، ثم حمدوا المغبة بعد حين. ~~••• # وانطلقت السفينة في عبابها وأبو العلاء يقول وكأنه يحدث نفسه ولا يعنى تلميذه بما يقول: ~~لئن نجح الرجل نصف نجاح لقد نجح في حقيقة الأمر كل النجاح، فما من الصواب أن نسوم ~~إنسانا واحدا كل الصواب، وأن نمضي من حوله كلنا مخطئين. # | أقصى المشرق # قل إنهم يحبون العجلة! قل إنهم يكرهون الوقت! قل إنهم حائرون فيما يحبون وما يكرهون. ~~أما إنهم يحبون المال وكفى، فإن من يحب المال للمال لا يتحرك ولا يعيش، بل يجلس كما تجلس ~~العجوز على القدر المدفونة، أو كما يجلس الصيرفي على خزانة الذهب، وهؤلاء لا يجلسون ~~جلسة العجوز ولا جلسة الصيرفي، ولكنهم يتحركون ويعيشون. # كان ذلك حكم المعري على الأمريكيين أو قل «حكم المعري للأمريكيين» وهو خارج من بلادهم، ~~وكان قد حضر مع تلميذه عيد الاستقلال في عاصمتهم ورأى بذخ القوم وإسرافهم في بذل أموالهم ~~لإزجاء أوقاتهم والحفاوة بذكرياتهم، فلما برحا الشواطئ الأمريكية من أقصى المغرب واستويا ~~على مكانهما في السفينة يعرضان ما عبرا وعبر بهما، ويجمعان ما تفرق من الوقائع ~~والمشاهدات قال التلميذ: هذه أمة تحب المال ولا تعمل إلا للمال، فأبى المعري أن يجاري ~~تلميذه في حكمه، وقال عن القوم ذلك المقال. # ولا ندري لم لم يطب المقام في بلاد الشمس المشرقة لرهين المحبسين كأنما كان هناك في ~~حبس أشد عليه من محبسيه. # فكان في أرض «نيبون» يتأفف ويتبرم من كل شيء ومن غير شيء، ولم يزل مع تلميذه على حذر ~~وامتعاض حتى هجرا أرض نيبون إلى أرض الصين، وأقاما فيها برهة بين الفتن والثورات ~~والمجاعة تارة والقحط تارات، ولكنهما كانا أقرب شيء إلى ms67 راحة البال والإقبال على شهود ~~الأحوال، لأنهما كانا يشهدان في الصين جهدا يسر الناظرين أن يبلغ تمامه. أما الجهد ~~الذي كانا يشهدانه في أرض نيبون فقل أن يكون في تمامه سرورا للناظرين، ولا سيما ~~الحكماء. # قال التلميذ يستفز أستاذه للكلام: أوليس القوم في أرض نيبون على جانب من الشجاعة عظيم؟ ~~قال المعري: بلى! إن كنت تعني شجاعة الغريزة ولا تعني شجاعة النية والإرادة. # قال التلميذ متجاهلا: وما شجاعة الغريزة وما شجاعة النية والإرادة يا مولاي؟! # فأجابه الحكيم غير متأفف ولا متبرم: إن الشجاع الحق هو من يعرف الخطر ويخشاه ثم يغلبه ~~بعزيمة هي أعظم من الخطر وأعظم من الخشية. أما الشجاع الذي يقتحم الخطر لأنه مدفوع إليه ~~بعادات الأقدمين وسنن الآباء والأجداد فذلك أسير لا فرق بينه وبين من يقتحم النار مسوقا ~~إليها بسلسلة من الحديد، ولا فرق بينه وبين الأسير الذي يقدمه آسروه في الطليعة وهو لا ~~يملك الفرار، وقد توجد هذه الشجاعة في الحيوان كما توجد في أبناء آدم، فهي من أصول لا ~~ارتفاع فيها ولا تعلق لها بالتكليف والضمير. ~~••• # وقال التلميذ: لو أن الأستاذ قد شهد أسراب الطير وهي تعبر البحر المحيط كل عام فيغرق ~~منها من يغرق ويسلم منها من يسلم ثم تعود إلى الهجرة ولا تخاف الموت ولا تعرف ما هو ~~لحسبت أنه يعني هذه الشجاعة حين يذكر شجاعة الغريزة وشجاعة الحيوان. # فقال المعري: ما رأيت هذه الأسراب، ولا أحسبنا في حاجة إلى رؤيتها لنعرف أن الشجاعة ~~التي تتعلق بالعادات الموروثة غير الشجاعة التي تتعلق بإرادة المريد، وكل من شهدنا في ~~أرض نيبون من باقري بطونهم وباخعي أنفسهم فإنما هم قالب واحد لا يختلف باختلاف البيئات ~~ولا باختلاف الأفراد، وليست هكذا تكون الصفات التي مرجعها إلى مزية في الإنسان ومزية في ~~الخلق والتكليف. ~~••• # قال التلميذ: أوليس القوم خيرا من هؤلاء الصينيين الذين ترضى عنهم ولا تضيق ذرعا ~~بعشرتهم ومراقبة أحوالهم؟ # قال المعري: أما إن أردت أنهم أفلحوا حيث أخفق الصينيون فأنت على صواب، وأما إنهم ms68 ~~يفلحون هكذا لو كانت أرضهم هي أرض الصين وأحوالهم هي أحوال الصينيين فذلك هو البعيد؛ إن ~~القوم قد أخذوا قديمهم من الصين وأخذوا حديثهم من الغرب ووجدوا في عزلتهم من وراء بحرهم ~~وعلى خصاصة عيشهم متسعا من الوقت يأخذون فيه ما يأخذون ويدعون ما يدعون. فإن أردت ~~الإنصاف فضعهم حيث وضعت الدنيا أبناء الصين وأنت ترى الفرق بين الأمتين! ~~••• # قال التلميذ: يعني الأستاذ الفرق بين المنتصرين والمنهزمين؟ # قال المعري: نعم! وما يدريك لعل أهل نيبون يخدمون أهل الصين بهذه الهزيمة وهم لا ~~يشعرون؟ لقد كان هؤلاء المنهزمون شتيتا من الخلق فجمعتهم الهزيمة فأصبحوا أمة تنضوي إلى ~~لواء واحد، فإذا بالمنتصرين يخافونهم بعد خمس سنوات تجردوا فيها لاتخاذ الأهبة وتوحدوا ~~أو كادوا، فكيف يكون شأنهم لو تجردوا لاتخاذ الأهبة متوحدين خمسين سنة لا خمس سنوات، ~~ومن ذا الذي يهزمهم في المشرق أو المغرب لو تهيأ لهم الوقت كما تهيأ لأعدائهم ~~المنتصرين؟ علم الله لولا أن أهل نيبون يخافونهم ويفزعون من غدهم لما عاجلوهم بالعدوان، ~~وما أخالهم مع ذلك آمنين عقبى الأمور. ~~••• # قال التلميذ: من يسمعك يا مولاي يحسبك من دعاة «الكومنتاج» أو من غلاة المتشيعين لإنجيل ~~«سون ياتسين». # ولو كان أبناء نيبون قد أساءوا استقبالك لزعمت أن في نفسك أثارة من سوء ما استقبلوك، ~~ولكنهم جمعوا لك المسلمين في عاصمتهم واستمعوا لك في معبدهم ومسجدهم، وصحبوك وبجلوك، ~~ومللتهم ولم يملوك، فأعجب العجب أن تبغضهم هذه البغضاء وأن تألف الصينيين هذه ~~الألفة. # فقاطعه الحكيم قائلا: لعلهم أساءوا من قبل هذه الحفاوة! # فابتدره التلميذ مستغربا: كيف أيها الحكيم؟ أيأبى مولاي الكرامة وهو كريم؟! # فأجاب المعري: نعم آباها إذا كانت تجارة وكنت أنا فيها سلعة من السلع المعروضة أو ذريعة ~~من ذرائع الترويج والخديعة، هؤلاء الناس لم ينشئوا مسجدهم لله ولا للعبادة ولا للمسلمين ~~ولا لأبي العلاء، ولكنهم أنشأوه للبيع والتجارة، وما نحن بالسلعة الرخيصة في أسواق ~~التجار. ~~••• # فقال التلميذ متسائلا: وحفاوة المسلمين في الصين ما شأنها وما شأن التجارة والكرامة ~~فيها؟ # قال أبو ms69 العلاء: تلك حفاوة قريب بقريب. وأظن المحتفين بنا هنا قد كانوا مسلمين منذ ~~قرون! # فصاح التلميذ كأنما فوجئ بكلام لم يخطر له على بال: تظن يا مولاي؟ لقد حسبت أن عندك من ~~خبر المسلمين هنا ما ليس عندنا، وأننا نسمع من تاريخهم لديك فوق ما سمعنا! # قال: وما سمعتم؟ # قال: سمعنا حديثا يشبه الأحاجي والأساطير، سمعنا أنهم دخلوا الصين قبل زمان مولاي بعهد ~~طويل، وأن قتيبة بن مسلم الباهلي قد غزا أطرافها في عهد بني أمية، فكتب إليه ملك الصين ~~أن ابعث إلي رجلا شريفا يخبرني عنكم وعن دينكم، فانتخب قتيبة عشرة رجال لهم جمال ~~وألسن وبأس وعقل وصلاح، وكان منهم هبيرة بن مشمرج الكلابي، فقال لهم: إذا دخلتم عليهم ~~فأعلموه أني قد حلفت أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي خراجهم. # فقال لهم ملك الصين: قولوا لصاحبكم ينصرف فإني قد عرفت قلة أصحابه، وإلا بعثت إليكم من ~~يهلككم. قالوا: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ ~~وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل؛ لسنا نكرهه ولا نخافه. ~~وقد حلف أميرنا ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم وتعطوا الجزية. # قال ملك الصين: فإنا نخرجه من يمينه ونبعث تراب أرضنا فيطأه، ونبعث إليه بعض أبنائنا ~~فيختمهم ونبعث إليه بجزية يرضاها. # ثم أجازهم وبعث بما ذكر إلى قتيبة فقبل الجزية وختم الغلمان وردهم ووطئ التراب، وأنشد ~~شاعر في ذلك: # لا عيب في الوفد الذين بعثتهم # للصين أن سلكوا طريق المنهج # كسروا الجفون على القذى خوف الردى # حاشى الكريم هبيرة بن مشمرج # أدى رسالتك التي استدعيته # فأتاك من حنث اليمين بمخرج # فأصغى أبو العلاء ثم قال: ولا كل هذا سمعنا! فلا تعجب أن يكون المحدثون أعلم بالزمن ~~القديم من الأقدمين. # | زعيم الصين # جلس الشيخ في فرضة الصين الكبرى «شنغهاي» وإلى جانبه تلميذه يترجم له الخطاب الذي ألقاه ~~زعيم الصين الكبير شيانج كاي شيك عن السيد المسيح صلوات الله عليه. # وكان ms70 الشيخ - وهو من المعنيين بأمر الأديان والمشغولين بعقائد ذوي الآراء - قد سمع أن ~~الزعيم الصيني تحول عن عقيدة آبائه وأجداده مع حرص أهل الصين على تراث الآباء والأجداد، ~~وآثر المسيحية كما آثرها من قبله أستاذه وأستاذ الصين الحديثة «سون ياتسين»، فعجب لهذا ~~التحول واشتاق أن يعرف أسبابه وبواعثه من السياسية أو من خطرات الضمائر وبدوات النفوس. ~~فلما أنبأه تلميذه أن الزعيم يتكلم عن السيد المسيح أصغى إليه وقال: أسمعني ما ~~يقول! # وانطلق التلميذ يترجم ما عدده الزعيم من أسباب حبه المسيح وإيثاره عقائد النصرانية وهي: ~~أن المسيح كان قائد ثورة وطنية نهض بأمته فأحياها بعد أن أماتها طمع الرومان وعسف الطغاة ~~من الأمراء والكهان. وأن المسيح كان قائدا لثورة الإصلاح الاجتماعية كما كان قائدا ~~لدعوة النهضة السياسية، فأنحى على الفساد والمفسدين وبشر بالطهارة من الرجس والرجاء في ~~الخير والاستقامة. وأن المسيح كان مع دعوته القومية والاجتماعية داعيا إلى الثورة ~~الدينية متمردا على الشعائر البالية والخرافات الموروثة والرياء الشائع بين أئمة الدين ~~وأحباره، وأنه قد استطاع ما استطاعه وهو رجل فقير من بيت فقير في بلد فقير، فلم يكن وارث ~~ألقاب وأموال، ولم يكن سليل أحبار وأقطاب، ولا كان له مظهر من مظاهر الدراسة الخاوية ولا ~~التعليم الموقر بالنفايات والقشور، بل كان صاحب قلب كبير يستوحي العناية الربانية ~~ويستلهم الفطرة السليمة، ويروي عن صفحات الكون ولا يروي ما حشيت به الأوراق وامتلأت به ~~قماطر الهياكل. # قال المعري: أرأيت؟ # قال التلميذ: ماذا أيها الحكيم؟ # قال: إن الرجل قد دان بالمسيحية لأنه قد آخى بين حياته وحياة المسيح. واعتد نفسه ~~مسيحا جديدا قام من سلالة الفقراء ومن لا يحسبون بين العلماء واختاره الله لإحياء ~~الصين بما ابتعثه فيها من ثورة قومية على الطغاة والمغيرين ومن ثورة اجتماعية فيما ~~سماه «الحياة الجديدة» وأوصى فيه بالتطهر والاستقامة والفداء، ومن ثورة دينية فيما ~~أنكره على الكهان والشيوخ، فهو قد آمن بالمسيح لأنه يؤمن بنفسه، وهو قد أبغض الرومان ~~لأنه يبغض «المانشو» واليابان وزمرة المتجرين بالأديان. ~~••• # قال ms71 التلميذ: أوتأذن أيها الحكيم بإضافة قليلة؟ # قال المعري: أو كثيرة؟ # قال التلميذ: لعله آمن بالمسيح لأنه آمن بنفسه وآمن معها بزوجه. # فسأله المعري: وماذا تعني؟! # قال: أعني أن «شيانج كاي شيك» يتيم تكفلت به أمه وأنفقت عليه من سم الخياط ومن فضل ~~الطوى والقناعة، رجت فيه الخير يوم يئس منه الأقربون ونفضوا الأيدي من حاضره ومؤتنف ~~أمره. وما زال يستمدها العون حتى بعد أن كبر وتولى القيادة وباء بالهزيمة وفر إلى ~~اليابان وهو لا يملك قوت أيام. فللمرأة شأن أي شأن في قلبه وعقله، وخليق بمن كان كذلك ~~ثم رزق الزوجة الصالحة الرشيدة أن يركن إليها ويطمئن إلى عطفها وخلوص طويتها، ويحسب ~~الصلاح في صلاحها، والدين في دينها والإيمان في إيمانها، فإذا كانت مسيحية فما أقربه مع ~~الأيام أن يتسلل إلى الإيمان بالمسيحية، وإذا كانت من أسرة قديرة على المذهب المسيحي فما ~~أولاه أن يعيش في كنف الأسرة وأن يشعر بشعورها! ولقد كانت لأستاذه «سون ياتسين» زوجة ~~مسيحية فحسن على يديها إيمانه بدينها. وما كانت زوجة الأستاذ العظيم إلا شقيقة زوجة ~~المريد العظيم. فما أعجب هذه الأسرة التي أنجبت بنتين يدين بدينهما زعيمان من زعماء ~~الصين كبيران، ورجلان من رجال العالم خطيران، عدا من أنجبت من أبناء وبنات كلهم علم من ~~أعلام هذا الجيل في هذه البلاد! ~~••• # قال المعري: لا عجب إذن أن يؤمن الرجل بالعقيدة التي توافق إيمانه بنفسه، وإيمانه ~~بزوجته، وإيمانه بأستاذه، وإيمانه برجاء بلاده. # فعاد التلميذ يسأل: وما رأي الحكيم في رجاء بلاده؟ # قال المعري: إن نقصت مساحات أرضها فقد تزيد قوة نفوسها، وإن تقاربت مسافاتها وأطرافها ~~فقد تتقارب علاقات سكانها وأواصر أبنائها، وإن غلبوها بالسلاح فقد تغلبهم بالكثرة، وإن ~~طال الزمن على رجائها فما هو بأطول من أزمانها في القنوط والجمود، هي ناجحة فيما أرجوه ~~ويرجوه لها المنصفون. # قال التلميذ: تلك بشرى يفرح بها القوم إذا سمعوها فهل من وصاة أوصيهم بها، وهل من آفة ~~أحذرهم عواقبها؟ # قال المعري: آفة القوم أنهم بين الحضر والبادية، فلا ms72 هم جادون في الحضارة ولا هم ~~جادون في البداوة. فليجدوها في إحداهما فذلك خير من حيرة المنبت لا أرضا قطع ولا ~~ظهرا أبقى. # قال التلميذ: لكأنك يا مولاي قد عشت في الصين منذ عشت في الدنيا. لو رأيت بناءهم لرأيت ~~قصورا في أشكال خيام. وذلك شأن كل «بناء» في الصين. # | زهدان # شتان زهد الهند وزهد نجد. # ذاك زهد السآمة من الوفر والإغراق والابتذال، وهذا زهد الأنفة في وجه الضنك ~~والضرورة. # زهد الهند الذي اكتظ من صنوف المائدة حتى عافها وأعرض عنها. # وزهد نجد زهد الذي لم ير المائدة وأنف من مذلة الحاجة إليها. ~~••• # كان هذا حديث المعري لتلميذه وقد وصلا إلى جدة وقفلا من مدن الحجاز، بعد طواف طويل في ~~الصين والهند وفارس والعراق. # وكان التلميذ يسأل أستاذه عن شظف النجديين من أتباع عبد الوهاب، إذ يحرمون على أنفسهم ~~كل ما يعز عليهم وجوده في الصحراء النجدية. وهو ينتظر رأي المعري في هذا الشظف، وقد علم ~~أنه أخذ نفسه بمثله أيام الحياة. # فلما قال المعري إن القوم في الصحراء يزهدون زهد الأنفة في وجه الضرورة فهم أن حكيم ~~المعرة يستكبر أن يساويه في زهده مئات وألوف، وأحب أن يحسب القوم مضطرين غير مخيرين، أو ~~مسوقين غير سائقين، فرجع إليه سائلا: أفترى كل محتاج زاهدا فيما يحتاج إليه، آنفا من ~~الإقرار بالحاجة والحرمان؟ # قال الشيخ: كلا، إنما تفعل ذلك الأمم التي لها عزة وليست لها وفرة. فهي إذن تفرض على ~~نفسها القناعة وتنفض عنها شعور المذلة، ولو ضعفت ولانت لجمعت على نفسه حرمان الفقر ~~وحرمان الذل والاستكانة، فترى أنها محرومة وأنها دون من يستمتعون بالخير والبذخ ~~والرفاهة، ولا ترى كما يرى هؤلاء النجديون أنهم محرومون وأنهم مع ذلك خير من ~~المستمتعين. # قال التلميذ: لا غرو. إنني لأسمع المعري الهندي! # قال الشيخ: ويحك! هل عدنا إلى قديم هذه الدعوى؟ فمن ذاك المعري الذي ولد في الهند أو ~~الهندي الذي ولد في المعرة؟ # قال التلميذ: هو الذي قال: # غدوت مريض العقل والدين فالقني ms73 # لتسمع أنباء الأمور الصحائح # فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالما # ولا تبغ قوتا من غريض الذبائح # ولا بيض أمات أرادت صريحه # لأطفالها دون الغواني الصرائح # ولا تفجعن الطير وهي غوافل # بما وضعت فالظلم شر القبائح # ودع ضرب النحل الذي بكرت له # كواسب من أزهار نبت فوائح # فما أحرزته كي يكون لغيرها # ولا جمعته للندى والمنائج # مسحت يدي عن كل هذا فليتني # أبهت لشأني قبل شيب المسائح # بني زمني هل تعلمون سرائرا # علمت ولكني بها غير بائح # سريتم على غي فهلا اهتديتم # بما خبرتكم صافيات القرائح # وصاح بكم داعي الضلال فما لكم # أجبتم على ما خيلت كل صائح # متى ما كشفتم عن حقائق دينكم # تكشفتم عن مخزيات الفضائح # فإن ترشدوا لا تخضبوا السيف من دم # ولا تلزموا الأميال سبر الجرائح # ويعجبني دأب الذين تراهبوا # سوى أكلهم كد النفوس الشحائح # وأطيب منهم مطعما في حياته # سعاة حلال بين غاد ورائح # فما حبس النفس المسيح تعبدا # ولكن مشى في الأرض مشية شائح # أليس في بعض هذا ما ينسب الرجل إلى أمة الهند ودين البرهميين؟ ألست يا سيدي قد رضيت أن ~~تهلك ولا يهلك فروج من بنات الطير لتتداوى بالسليق من لحمه ومائه، وقلت لهم: ~~«استضعفتموه فتداويتم به، ولو كان شبل أسد لما وصفتموه؟» # فجرى السخط في مجراه من قلب الشيخ الكظيم، ومن مجراه في قلبه أن ينقلب هزؤا كلما أوشك ~~أن ينفجر غضبا. وقال: لو صح هذا لما بقيت أمة في الأرض إلا نسبت إليها. ما لكم لا ~~تصدقون أنها الفاقة وأنها الرحمة؟ أبلغ من سوء ظنكم بأنفسكم ألا تفرطوا في أكلة إلا ~~خوفا من غضب معبود؟ وماذا يضيرني من برهما إن غضب وما هو بصاحب نار ولا بصاحب نعيم؟ وما ~~لي ولدين أناس يؤمنون بقداسة بعض الحيوان ونجاسة بعض الإنسان؟ ذلك لا يلمسونه من هيبة ~~ووقاية وهذا لا يلمسونه من كبر وزراية! ويحك! أينسب إلى الهند من يحقن الدماء؟ فما قولكم ~~في الحسام وهو من الهند في المعادن والأسماء؟ # ثم قال: ماذا ms74 تقولون فيما قلت: # وجدت الشر ينفع كل حين # ومن نفع به حمل الحسام # وليس الخير في وسع الليالي # فكيف نسومها ما لا لا يسام؟ # إنني إذن لمن أتباع صاحبكم نيتشه؟ أو من أتباع أصحابه الفاشيين؟ وما لك لا تحسب على ~~إنكاري لزعم الهند حين أنقض ما يقولون: # يقولون إن الجسم ينقل روحه # إلى غيره حتى يهذبها النقل # فلا تقبلن ما يخبرونك ضلة # إذا لم يؤيد ما أتوك به العقل # وأشفق التلميذ أن تكون غضبة فسكون، وقد علم أن صاحبه أصعب ما يكون مراسا إذا سكن بعد ~~غضبة. فيومئذ لا كلام ولا حوار ولا جواب غير الوجوم والازدراء، ولكنه إذا انتقل من ثورة ~~إلى ثورة أو تدرج من سخرية إلى فكاهة ففي استطالة الحديث معه رجاء. # قال التلميذ: أمن النسبة إلى الهند ينفر مولاي كل هذه النفرة؟ فمن قال إنه من الفرس كيف ~~يجاب؟ ومن زعم أنه من المجوس ماذا يسمع من زجر وعقاب؟ # قال المعري: يقال له صدقت وبررت، وإنه مع ذلك لعلى دينهم لأنه يعجب منهم إذ ~~يقول: # عجبت لكسرى وأشياعه # وغسل الوجوه ببول البقر # فمن التقية أن ينكر الإنسان ما به يدين، وأن يكون نكرانه علامة اليقين. أليس ~~كذاك؟ ~~••• # وتلطف التلميذ اللبق في نقل الحديث إلى فارس والفرس وما كان فيه ما وما يكون، وتذاكر ~~ما مر بهما ومرا به في تلك البلاد، فسري عن الشيخ بعض ما اعتراه من غضب وامتعاض ~~لنسبته إلى البراهمة والمجوس. وضحك الشيخ وتلميذه كثيرا حين ذكرا ذلك الكرسي الذي كان ~~يجلس عليه بعض الشاهات - عند قضاء الحاجة - فيعزف النشيد الملكي تحية للجالس عليه! وقال ~~الشيخ: حسنا صنع عاهل الفرس الجديد أعانه الله على ما تصدى له من خير وتهذيب. إنه أراح ~~أمته من هذه المراسم وهذه التفخيمات التي أفسدت عليهم ما أفسدت، ونسوا كل شيء ليذكروها ~~وحدها حتى حين ينسى الإنسان كل تفخيم وتبجيل. إن المراسم آفة هذه الأمة الطيبة ~~الرضية، فلا أدب لهم ولا علم ولا دين ولا شريعة إلا وفيها ms75 آية المراسم ظاهرة، ~~وتحية المراسم ناطقة، وديوان المراسم معقود ومشهود. ولئن خلصوا منها لقد خلصوا من قيود ~~تحبس الرءوس قبل الأعضاء والأقدام. ~~••• # فسأل التلميذ: وماذا بقي منها فيستحب لهم الخلاص منه؟ # قال المعري: إنهم يقتدون بالأمم الكبرى في أزيائها وشعائرها، وإن أخوف ما نخاف عليهم أن ~~يحسبوا القوة والمنعة في هذه الأزياء وفي هذه الشعائر، فيتقيدوا بها من جديد ويخلصوا من ~~تقليد إلى تقليد، ولئن هداهم عاهلهم السديد في مسعاهم المجيد، لقد بلغ بهم ما لم يبلغه ~~الأكاسرة ولا الهرامزة الأولون. # | في مصر # على مقربة من سيناء قال حكيم العربية لتلميذه كأنما هو الذي يقوده: هذه هي ~~البادية! # قال التلميذ: أوقد عرفتها؟ قال: كيف لا أعرفها. وإن الشمس لتتغير وما غير الله ~~البادية منذ خلقها، ولا يغيرها حتى يطويها مع الأرض والسماء! # قال التلميذ: فعلى اليمين بيت المقدس وعلى الشمال أرض مصر، فأيهما يؤثر الأستاذ ~~بالزيارة؟ # وكان شيخنا قد سمع شيئا عن متاعب فلسطين والشرق العربي، وسمع شيئا عن عجائب مصر. ~~فأنشد: # أما الحجاز فما يرجى المقام به # لأنه بالحرار الخمس محتجز # والشام فيه وقود الحرب مشتعل # يشبه القوم شدت منهم الحجز # وبالعراق وميض يستهل دما # وعارض بلقاء الشر يرتجز # ثم قال: لا أدخل أرضا يجلى عنها العرب، فلندخل مصر آمنين. # قال التلميذ: إن أبيت أن تدخل أرضا يجلى العرب عنها فهلا بعثت إليهم بتحية أو ~~نصيحة! # قال الشيخ: النصيحة لهم أن يصاولوا بالقوة والمال من يغلبونهم بالقوة والمال؛ فهم هم ~~الظافرون، قصر الزمان أو طال. # وسأله التلميذ: ومن أين لهم بقوة ومال؟ # قال: من العزم والإباء. من أبى ما هو فيه استمد العزم من إبائه، وجاءته القوة والثروة ~~إلى موطئ قدميه. # قال التلميذ: وهبهم بلغوا منهما جهد الطاقة أفيبلغون منهما يا مولاي مبلغ الدول ~~الكبار؟ # فأجابه الشيخ: بل يبلغون منهما ما يتعب الدول الكبار، وحسبهم أن يتعبوها فيستريحوا، أو ~~يرجعوا إلى حال خير من قبول الضياع والفناء. ~~••• # ودخلا مصر فقضيا أياما بين ترحيب وتسليم، وبين ربوع وآثار، وسأل الشيخ ms76 بلسان أبي الطيب ~~الذي كان يتعصب له ويستعيد شواهده: # أين الذي الهرمان من بنيانه # ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟ # ثم أنشد: # تتخلف الآثار عن أصحابها # حينا ويدركها الفناء فتتبع # ثم قال: أشهد وأنا بينهما أنهما لم يفنيا ولم يتبعا. فما أعظم يقين أبي الطيب بفعل ~~الزمن ودولة الفناء! # قال التلميذ: ما هو بأعظم يقينا بالزمن والفناء ودولته من القائل: # زحل أشرف الكواكب دارا # من لقاء الردى على ميعاد # ولنار المريخ من حدثان ال # دهر مطف وإن علت في اتقاد! # فرد عليه الشيخ خاشعا وهو يجمجم بين شفتيه: نعم، وتهون الأعمار عند ذاك ويهون ~~الخلود. # واسترسل التلميذ في نغمته الأولى فقال: هذا لحد أبى أن يصير لحدا مرارا، وأبى أن ~~يضحك من تزاحم الأضداد. # قال الشيخ وهو في جمجمته الأولى: لقد دخله الأحياء فأبى أن يكون لحدا مرة بله ~~المرات، وضحك من صاحبه الأول قبل أن يضحك من أضداده. وإني والله لأسأل عن هذا الطور ~~المشيد كما سألت عن الورقاء: # أبكت تلكم الحمامة أم غن # نت على فرع غصنها المياد # فما أدري هنا أهو عنوان غلبة الموت أم عنوان غلبة الحياة، إنما هو على الحالين عنوان ~~شقاء الإنسان، وعبث الطغيان. # وعاود الشيخ وجومه على أشد ما يكون بين أطلال الفراعنة ومروج وادي النيل، وإنه ليروض ~~نفسه على إقامة أيام إذ حانت له الطرفة التي سماها أعجب العجائب في بلاد العجائب، فانتوى ~~الهجرة من قريب. ~~••• # كان ذلك في ناحية من الصحراء وقد تردد عليه رجل من كتاب الصحف فسأل الشيخ تلميذه: ماذا ~~عساه يريد؟ # قال التلميذ: إنه يعتذر. # قال: ومم الاعتذار؟ # قال: إن الرجل لكاتب المقال الذي أطلعتك عليه تفكهة وعبرة يوم وصلنا إلى هذه ~~الديار. # قال: تعني الرجل الذي نعى على حكومة هذا البلد أنها احتفلت بمن سماه إمام الملحدين ~~وشيخ الكافرين، وأنها من أجل ذلك خليقة بإغضاب المسلمين والمروق من حظيرة الدين. # قال التلميذ: هو بعينه. # فعجب الشيخ وسأل: وما اعتذاره اليوم؟ # قال: اعتذاره أنه سيلقي عليك المقال الذي ms77 أعده للإنحاء على الحكومة لو أنها قصرت في ~~لقائك، وأحجمت عن استقبالك. فهم خصوم الحكومة ينعون عليها كل ما تفعل ويقدحون في كل ما ~~تنوي، فإن هي أكرمت وفادتك قالوا ما قد علمت، وإن هي قصرت في حفاوتها فهم قائلون ما ~~ستسمعه الآن. # قال المعري: أحسبهم كانوا قائلين يومئذ إن هذه الحكومة تنكرت للعرب وآداب العرب، وقطعت ~~ما بينها وبين لغة القرآن من سبب، وباعت نفسها للفرنجة، وحادت عن سواء المحجة، وغير ذلك ~~مما ينتظم في هذا النظام! # قال التلميذ: أحسنت يا مولاي. إنك اليوم لفي طليعة المرشحين للكتابة في الصحب السيارة، ~~وعلى رأس المقدمين للخوض في غمار السياسة المصرية. هكذا كتبوا، وعلى هذا دأبوا، ولهذا ~~أقبلوا يعتذرون وفي هذه اللجاجة تنقضي عليهم الأيام والسنون. # فردد المعري قوله القديم: # ما خص مصرا وبأ وحدها # بل كائن في كل أرض وبأ # لكن هذا هو الطاعون الذي يحمد عنده كل وباء. # إلى المعرة يا بني فقد ختمنا المطاف، وشبعنا من المضيفين والأضياف. # وكان «كاتب هذه الأسطر» في محضر الفيلسوف فقال: إن أسوان تدعوك أن تجعل الأوبة من طريق ~~الجنوب، وإن طالت المسالك واختلفت الدروب. # فدارت على لسان الفيلسوف نوبة الاستشهاد بكلامه القديم، وأجابه ببيت من لزومياته يذكر ~~فيه أسوان إذ يقول: # أسوان أنت لأن الركب نيتهم # أسوان أي عذاب دون عيذاب؟! # لقد زرتك فيها قبل اليوم يا بني، فاحتسب دعوة اليوم في تلك الزيارات، وخلنا في عالم ~~الفكر من هذه المجاملات والمصانعات. أما دعوتني فيها وأنت يافع تحسب أنك تكره الحياة ~~لأنك مملوء اليدين بالحياة؟ أما دعوتني فيها وأنت فتى تثور وتحسب أنني معك حين تثور؟ أما ~~دعوتني فيها وأنت كهل تصالح الدنيا لأنك أنفت من مخاصمة الدنيا؟ أما دعوتني فيها وأنت ~~تزعم أنك تناقضني بإنكار الأحزان وما أنكرتها إلا ترفعا عن الشعور بالحرمان؟ إنك ~~دعوتني كثيرا وإنني أجبتك كثيرا، وإنني لألقاك حيث أنت خير لقاء، إنك لتلقاني وتسمعني ~~حين تشاء. # | نشيد وداع # بناة ضريحي طال بالصخر إبطاء # فهل وطأوه أو تعداه ms78 إيطاء؟ # وهل لان أو يأبى على اللين نخوة؟ # وهل رقطوه أو سرت فيه رقطاء؟ # عرفت انتظار الموت. أما منية # وطول انتظار، فهو للقصد أخطاء ~~«متى ينقضي الوقت والله قادر» # فتغطيني الدنيا ويحمد إغطاء # 1 # أراني لديكم كالمعرى معرضا # لمن شاء والركبان حولي خبطاء # 2 # أقمتم لذكراي المآدب فاستوى # بمأدبة النسيان منع وإعطاء # وما نضجت تلك الثمار فما لكم # دعوتم ولم تخرج من الزرع أشطاء # 3 # ذروني فلي فيكم كتاب وسيرة # جديد صباها وهي في الدهر شمطاء # إذا حان يومي بينكم فهي عندكم، # وعندي لكم شكر لراعيه طأطاء # 4 # وهذا وداعي لازم غيري لازم # 5 # إذا عاب بعض الشعر عي وإيطاء # 6 # لعلي أراكم بعد ألف وبينكم # ألوف لهم ذكرى من الحمد عيطاء # 7 # عن المعري # عباس محمود العقاد ms79