######OpenITI# #META# URI: 1383MuhammadYusufMusa.AbuHanifaWaQIyamInsaniyya.Hindawi69179508 #META# Tags: biographies #META# ID: 69179508 #META# Title: أبو حنيفة والقيم الإنسانية في مذهبه #META# AuthorID: 69426913 #META# Author: محمد يوسف موسى #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # افتتاح‏ # مقدمة ومنهج‏ # عصر أبي حنيفة‏ # حياة أبي حنيفة وترجمته‏ # طريقة أبي حنيفة وفقهه‏ # اتجاهات فقه أبي حنيفة‏ # صور من الخلاف بين أبي حنيفة وغيره‏ # أثر أبي حنيفة ومآل مذهبه من بعده‏ # خاتمة البحث ونتائجه‏ # افتتاح‏ # مقدمة ومنهج‏ # عصر أبي حنيفة‏ # حياة أبي حنيفة وترجمته‏ # طريقة أبي حنيفة وفقهه‏ # اتجاهات فقه أبي حنيفة‏ # صور من الخلاف بين أبي حنيفة وغيره‏ # أثر أبي حنيفة ومآل مذهبه من بعده‏ # خاتمة البحث ونتائجه‏ # | أبو حنيفة والقيم الإنسانية في مذهبه # | أبو حنيفة والقيم الإنسانية في مذهبه # تأليف # محمد يوسف موسى # | افتتاح # بسم الله الرحمن الرحيم # الحمد لله ~~رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك ~~يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت ~~عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ~~. # والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. # أحمده حمدا كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا ~~به، وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه، وأستغفره لما أزلفت. # 1 # وأخرت، استغفار من يقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو. # 2 # وأصلي وأسلم على من كان خيرته المصطفى لوحيه، المنتخب لرسالته، المفضل على جميع ~~خلقه بفتح رحمته وختم نبوته، المرفوع ذكره مع ذكره في الأولى، والشافع المشفع في الأخرى؛ ~~أفضل خلقه نفسا، وأجمعهم لكل خلق رضية في دين ودنيا، وخيرهم نسبا ودارا؛ محمد عبده ~~ورسوله. # 3 # | مقدمة ومنهج # ليس التاريخ، مهما كان موضوعه: رجلا أو دولة أو فنا أو علما، إلا صنعة شخص أو أشخاص ~~في إطار من الزمن؛ فما من حدث من أحداث التاريخ إلا كان من ورائه شخص أو أشخاص، وما من ~~دولة قامت أو سقطت إلا كان ذلك نتيجة عمل شخص أو أشخاص، وما من نظام زال ليحل مكانه نظام ~~آخر إلا كان ذلك ثمرة أعمال رجال كانوا هم العامل الأول فيه، وهكذا إلى سائر الموضوعات ~~والجوانب التي يتناولها التاريخ والمؤرخون. # ومن ثم، كانت الأهمية البالغة ms001 للتراجم والمترجمين؛ لأن هذه التراجم هي التي تفسر ~~التاريخ تفسيرا صحيحا، وهي التي تعين على فهمه حقا، وهي أولا وأخيرا التي تبعث فيه ~~الحياة، ما دام التاريخ ليس إلا وصفا صادقا لسير هذه الحياة بما تشمل من كائنات. # ومن ثم أيضا، كانت دقة المؤرخ أو المترجم، وكان عمله يقتضيه حذرا بالغا يقيه الوقوع ~~في الخطأ، واعتماد كل ما يقع لديه من أقاصيص ومأثورات تتناول من يترجمه من هذه الناحية أو ~~تلك. # كما تقتضيه بذل الجهد في فهم من يترجم له من كل نواحيه، بما في ذلك النواحي العقلية ~~والنفسية والأخلاقية وما يتصل بها، والبصر بالعصر الذي نشأ فيه، والبيئة التي تقلب في ~~أرجائها، والعوامل التي تأدت به إلى ما عرف به من أفكار وآراء تتمثل في المذهب الذي ~~أثر عنه، والآثار التي كانت لهذا المذهب. # من أجل ذلك كله، رأينا أن نسير في هذا البحث طبقا لهذا النهج الذي نوجزه في هذه البحوث ~~أو الفصول: ~~(1) # دراسة العصر الذي عاش فيه. ~~(2) # دراسته باعتباره إنسانا منذ نشأ حتى صار صاحب مذهب أصبح خالدا في ~~الفقه. ~~(3) # دراسة طريقته وفقهه. ~~(4) # نزعاته أو اتجاهاته الفقهية، وبخاصة الإنسانية منها. ~~(5) # صور من الخلاف بينه وبين الفقهاء الآخرين. ~~(6) # وأخيرا، أثره ومآل مذهبه. # وفي كل هذه المباحث لن نألو - بفضل الله تعالى ومشيئته - جهدا في استقراء المراجع ~~الأصلية، وتحري الأمارات والقرائن والدلائل، للوصول منها جميعا إلى الحقائق التي لا شك ~~فيها، وسنحاول أن نكون منصفين طالبين الحق وحده، والله يهدي إلى سواء السبيل. # | عصر أبي حنيفة # تمهيد # عاش أبو حنيفة الشطر الأكبر من حياته العلمية في ظل الدولة الأموية، كما عاش الشطر ~~الآخر تحت كنف الدولة العباسية، وبذلك شهد ما كان من أحداث في كل من هذين العصرين من ~~عصر الدولة الإسلامية، وصاحب أرباب النحل والآراء والمقالات فيهما، سواء في ذلك ~~الناحية الدينية والناحية السياسية، وأحس ما كان من تفاعل الثقافة الإسلامية ~~والثقافات الأجنبية التي تسربت إلى المحيط الإسلامي أو نقلت إليه، وكان لكل ذلك أثره ~~فيه وفي غيره ms002 من رجال الفكر والرأي بلا ريب. # نعم! لقد رأى أبو حنيفة النور في زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، ونشأ في ~~ولاية الحجاج الثقفي على العراق، هذا الوالي الذي يعرفه التاريخ بالقسوة والشدة في ~~معاملته للثائرين على سلطان سادته الأمويين، ثم عاصر وهو شاب الخليفة العادل عمر بن ~~عبد العزيز. # وأخيرا، رأى ما صار إليه الأمويون من سوء حال يؤذن بزوال دولتهم، وساير بدء الدعوة ~~للعباسيين التي اتخذت العراق - وطن أبي حنيفة - مهدا لها، والتي انتهت بانتقال الخلافة ~~إليهم على أيدي نفر من بني جلدته الفرس، ثم كان أن عاصر أيضا خروج محمد بن عبد الله بن ~~الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وأخيه إبراهيم على الخليفة العباسي أبي جعفر ~~المنصور، بعدما رأوا أن العباسيين أخذوا الأمر لأنفسهم، على حين كانت الدعوة باسم ~~العلويين، ثم كانت خاتمة حياته في أيام المنصور عام 150ه بعد أن استقر الأمر تماما له ~~ولذويه دون أبناء عمومتهم العلويين. # لا جرم إذن أن يتأثر أبو حنيفة تأثرا كبيرا بهذه الأحداث التي نشأ فيها، وعاش ~~بينها، وأسهم في بعضها؛ وأن يعمل فيها فكره، وأن تكون عاملا هاما - بجانب العوامل ~~الأخرى التي سنتكلم عنها فيما بعد - في طبع تفكيره بطابع خاص، وفي توجيهه الوجهة التي ~~اتجه إليها، وجعلته إماما من أئمة الفقه الإسلامي. # وهذا العصر، الأموي والعباسي معا، الذي عاش فيه أبو حنيفة، كان مليئا بالحركات ~~الفكرية وأرباب المقالات والمذاهب المختلفة - من سياسية ودينية وفلسفية وكلامية - من ~~المسلمين الأصلاء، أو من غيرهم من أبناء الأمم المختلفة الذين دخلوا في الإسلام غير ~~متناسين ما كان لهم من ديانات وتفكير، وكذلك من غير المسلمين الذين كانوا يعيشون في ~~المملكة الإسلامية. # كما كانت هناك مراكز زاهرة للعلوم الإسلامية التي بلغت الذروة أيام العباسيين، وهذه ~~المراكز نجد أعلاها شأنا في العراق، وفي الحجاز، وفي الشام، وفي مصر. # وكان العراق موطن أبي حنيفة، ومجاله الأول، من أوفر هذه الأقطار حظا من تلك ~~الحركات والمقالات والأفكار المختلفة؛ وذلك لما كان ms003 يزخر به من أولئك الأقوام والأجناس ~~الأجنبية الذين دخلوا في الإسلام، أو عاشوا حينا من الدهر تحت ظل الإسلام ولوائه، ~~وكانت لهم مذاهبهم في الدين والفكر وطرقهم الخاصة في التفكير. # وكذلك أيضا؛ لأن العراق - على ما هو معروف - كان حلقة الوصل الكبرى بين الثقافة ~~الإسلامية والثقافة الأجنبية، وذلك حين نقلت الفلسفة اليونانية وكثير من العلوم ~~والآداب الأجنبية إلى العربية أيام العباسيين. # إلا أن الإسلام، وهو دين الأمة الغالبة الحاكمة، استطاع أن يجعل من كل هذه الثقافات ~~العديدة المختلفة، ثقافة واحدة مشتركة، وهي ما سميت بعد وما نسميها اليوم الثقافة ~~العربية الإسلامية؛ كما جعل من كل هذه العناصر التي يتكون منها جسم الدولة الإسلامية ~~أمة واحدة، تسري فيها الروح العربية القوية الغالبة، ولها أدب واحد، وعلوم واحدة مشتركة ~~ألفت بين الجميع؛ وبذلك صار الجميع يتكلمون لغة واحدة، هي اللغة العربية، ويتعاونون ~~في إقامة صرح ثقافة واحدة، هي الثقافة الإسلامية بأوسع معانيها؛ أي بما تشتمل عليه من ~~آداب وفلسفات وعلوم مختلفة. # وصف هذا العصر # ولكل عصر سماته وخصائصه التي تميزه من غيره من العصور، سواء في هذه الناحية السياسية ~~والناحية الاجتماعية والناحية العقلية، وفي كل ناحية من هذه النواحي تعمل مؤثرات وعوامل ~~مختلفة، ولكل من هذه المؤثرات والعوامل آثارها ونتائجها في النواحي التي ~~ذكرناها. # ونحن هنا لا نحاول تأريخ ذلك العصر من جميع نواحيه؛ ولكن همنا هو وصفه من الناحية ~~العقلية وحدها؛ ولهذا لن نتناول النواحي الأخرى إلا بقدر ما يكون لها من أثر في الناحية ~~العقلية التي هي موضع العناية في هذا البحث؛ ولذلك لن نلم بالناحية السياسية والناحية ~~الاجتماعية إلا بمقدار ما يعيننا على ما نحن بسبيله؛ نعني تجلية الناحية العقلية من ~~جانبها الخاص بالفقه الذي نبغ فيه الإمام أبو حنيفة. # البيئة العامة # إذا كان للبيئة بمختلف نواحيها أثر كبير في الإنسان الذي يتناوله المؤرخ بالبحث، فإن ~~هذا لا يصدق على رجل السياسة أو الأدب ونحوهما فحسب، بل يصدق أيضا على الفقيه؛ فإن ~~الفقيه، وهو يعنى بالفقه والتشريع معا، يجب ms004 أن يكون عارفا بالبيئة التي يعيش فيها ~~معرفة طيبة، متصلا بها اتصالا قويا، ما دام من أهم ما يعنيه أن يعمل على إيجاد حلول ~~لمشاكلها وحوادثها بالتشريع. # ولذلك يكون من الواجب على من يؤرخ فقيها من الفقهاء، ويتصدى لبيان مذهبه الذي ذهب ~~إليه في الفقه، أن يتناول هذه البيئة بالبحث بالقدر الذي لا ينبغي الاستغناء عنه في ~~بحثه. # عاش أبو حنيفة - كما عرفنا - في عهد الأمويين وفي عهد العباسيين، وكانت الدولة ~~الإسلامية في أيام هاتين الأسرتين تحكم الشرق كله من ضفاف المحيط الأطلنطي غربا إلى ~~الصين شرقا والهند جنوبا، كما وصل سلطانها - أيام الأمويين بالأندلس - إلى جزء غير ~~قليل من بلاد أوروبا. # وتبع هذا أن كانت رقعة البلاد الإسلامية المترامية الأطراف تضم خليطا من الشعوب ~~المختلفة الأصول والتقاليد والعادات: فهناك العرب الفاتحون الأصلاء، وهناك الموالي من ~~أبناء البلاد المفتوحة الذين أظلهم الإسلام، وعاشوا تحت لوائه وكنفه. # وهؤلاء الموالي كانوا فيما بينهم أخلاطا من عناصر شتى؛ ففيهم الفارسي، وفيهم الرومي، ~~وفيهم التركي، وفيهم الهندي، وفيهم المصري ... وهكذا إلى سائر الأجناس التي دخلت في ~~الإسلام، وصارت تحت حكمه. # ومن ثم نستطيع أن نقرر أن المجتمع الإسلامي في ذلك العهد لم يكن متجانسا، وإن جمع ~~الإسلام بين أفراده وطبقاته وألف بينهم؛ فإنه ليس من الميسور، ولا مما يتفق وطبائع ~~الأشياء أن ينسلخ الإنسان تماما من خصائص أصله ومواريثه العقلية والاجتماعية؛ لأنه دخل ~~في دين جديد، وأصبح تابعا لحكومة جديدة تقوم على أسس من هذا الدين ومثله التي يدعو ~~إليها. # وهؤلاء الموالي كانوا باعتبار مركزهم الشرعي، وهو أنهم أرقاء، مادة للفقه ~~والفقهاء، ومن نراهم يتناولون بحث أحوالهم وأحكامهم المختلفة في أبواب معروفة من كتب ~~الفقه الإسلامي. # فهناك باب العتق وأحكامه، والمكاتبة وأحكامها، والتدبير وأحكامه، ثم هناك بحوث تتعلق ~~بالشهادة، وهل تجوز من العبد أو لا تجوز؟ باعتبارها من باب الولاية، والعبد لا يلي أمور ~~نفسه، فبالأولى لا تكون له ولاية على غيره؛ إلى جانب بحوث أخرى تتعلق بالزواج والطلاق ~~والعدة، وبالجنايات تكون من العبد ms005 أو عليه، وبالبيوع إذا كان موضوع العقد عبدا ~~خالصا لصاحبه أو مشتركا بينه وبين غيره، وهكذا إلى سائر البحوث التي اشتدت عناية ~~الفقهاء بها بسبب كثرة الرق والأرقاء في هذا العصر. # ومما يتصل بسبب قوي بهذه الناحية الاجتماعية من تلك البيئة العامة، ما كان من العناية ~~بأحكام الغناء وما هو من هذا السبيل، وذلك بسبب كثرة المغنيين والمغنيات من العبيد ~~والجواري الذين كثر اتخاذهم في هذا العصر، والذين فشا إعدادهم لهذه الحرفة وما يتصل ~~بها. # ومن الناحية السياسية، نرى أبا حنيفة يعاصر الدولة الإسلامية، وهي دولة واحدة، ~~عاصمتها دمشق تحت حكم أسرة الأمويين، ثم يشاهد هذه الدولة، وقد صارت دولتين: دولة ~~العباسيين في الشرق وعاصمتها بغداد، ودولة الأمويين في الأندلس وعاصمتها قرطبة. # وهذه الدولة الإسلامية، في الشرق والغرب، قد اتسعت رقعتها وآفاقها، وتعددت وتباعدت ~~البلاد والأقاليم التي تحكمها، وكان لها - بلا ريب - قواعد تقوم عليها في النواحي ~~الإدارية والمالية؛ ولكن هذه القواعد لم تكن من الإحكام والإحاطة والشمول بدرجة تكفي ~~لإقامة حكم على أساس ثابت دائم. # فكان لا بد إذا من النظر الجاد الشامل لهذه الناحية، ومن ثم نجد الحاجة تظهر ~~شديدة لوضع تلك القواعد على أسس وطيدة قوية شاملة. # وكان من مظاهر هذه الحاجة، ما نعرفه من طلب الخليفة هارون الرشيد من الإمام أبي يوسف ~~وضع كتاب يعتبر دستورا للدولة في الناحية المالية. كما كان من مظاهرها أيضا ما ظهر ~~من بحوث منثورة، صارت فيما بعد موضوع كتب خاصة مستقلة، في النواحي الإدارية، ومن هذه ~~النواحي بيان السلطات العامة وتوزيعها وعلاقات بعضها مع بعض. # 1 # ثم هذه الدولة، وقد بلغت من الامتداد ما عرفنا، كان لا بد لها أن تدخل في ~~علاقات خارجية مع الممالك الأجنبية الغربية، وهذه العلاقات لا بد لها من تقاليد تقوم ~~عليها، وقواعد تحكمها، سواء في ذلك حالة السلم وحالة الحرب. # وهذه القواعد كان الكثير منها موضع عناية القرآن الكريم وسنة الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~؛ ولكن ~~في العصر الذي نتكلم عنه، ظهرت الحاجة ماسة لتفصيل ms006 هذه القواعد، وإضافة قواعد وأصول ~~أخرى يتطلبها الحال. # فكان لا بد إذا من عمل الفقهاء بقوة في هذه الناحية، على ما نجده في أبواب الجهاد ~~والسير من كتب الفقه، وكان من ذلك أن أظهر فيما بعد كتاب «السير الكبير» لإمام محمد بن ~~الحسن الشيباني، مؤسس القانون الدولي العام بحق في العالم كله، وبلغ من إعجاب الخليفة ~~هارون الرشيد بهذا العمل المجيد أن أرسل أولاده إلى مجلس الشيباني ليسمعوا منه هذا ~~الكتاب الخالد. # البيئة العقلية # قد لا يجد الباحث فروقا ذات بال من الناحية العقلية والعلمية ترجع فحسب إلى انتقال ~~الحكم من الأمويين إلى العباسيين؛ اللهم إلا ما يستطاع رده إلى عامل الزمن واطراده، ~~واستبحار العمران، والأخذ بأسباب الحضارة بنصيب أكثر، أيام العباسيين منه أيام ~~الأمويين. # فإن من شأن هذا، أن يتيح للناس حياة أكثر استقرارا ودعة، ويوفر لهم من الزمن ما ~~ينفقونه في الإقبال على العلوم وتدوينها والكتابة فيها، وهذه نقلة طبيعية كان لا بد ~~منها. # أما أصل الميل إلى المعرفة والبحث، وتشجيع العلماء والباحثين، فهو أمر يسير مع الزمن، ~~وهو يشتد متى استقر أمر الدولة، وفرغت من توطيد نفوذها وسلطانها. # ولعل من آيات هذا الذي نقول، أن الباحث في التاريخ الفكري للمسلمين في عهد هاتين ~~الدولتين يجد الفرق والمذاهب والمقالات الدينية - من شيعة وخوارج ومعتزلة - هي هي، ~~وأن تدوين العلوم بدأ يأخذ صورته العامة الشاملة في عهد الدولة الأموية نفسها، وأنه لما ~~استقر الحكم للأمويين في الأندلس ازدهر البحث والعلم إلى درجة تكاد تكون منقطعة ~~النظير. # ومهما يكن فقد نشأ أبو حنيفة في بيئة عقلية تموج بالعلم والعلماء، وتزخر بأصحاب ~~المذاهب والمقالات الدينية المختلفة في الأسس والأهداف والغايات، وكان من الطبيعي أن ~~يتأثر بهذا الجو، وأن تكون له مشاركة فيما يضطرب فيه من آراء وأفكار. وسنعرف بعض هذا ~~عندما نتكلم عن ترجمته وحياته بصفة عامة. # على أن هذا لا يمنعنا الآن من الإشارة إلى ما كان يسود هذا العصر من نزعتين أو منهجين ~~في الفقه والتشريع؛ وهما منهجان نرى ms007 لهما آثارا واضحة في غير الفقه؛ أي في التفسير ~~والحديث واللغة والأدب مثلا. # هذان المنهجان هما: المنهج النقلي، والمنهج العقلي. ونستطيع أن نعبر عنهما، فيما يتصل ~~بالفقه خاصة، بمنهج أهل الحديث ومنهج أهل الرأي. # وهما منهجان أو نزعتان قديمتان ظهرتا أيام الصحابة أنفسهم؛ بل إن لنا أن نقرر أنهما ~~ظهرتا في السنوات الأولى من وفاة الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~. # 2 # لقد التقى هذان المنهجان في الفقه إذا، وكان كل منهما يعرف من الآخر وينكر، ويوافق ~~ويخالف، ويؤثر ويتأثر، وكان لكل منهما أسباب تشد من أزره وتقويه، وكان من أسباب ~~المنهج العقلي ما كان من تسرب التفكير اليوناني إلى البلاد الإسلامية في بطء وعلى ~~استحياء زمن الأمويين، وفي انسياب وجرأة أيام العباسيين، بسبب ما كان من كثرة النقل ~~والترجمة لفلسفات وتفكير القدامى، وبخاصة اليونان. # وفي هذا العصر إذا سرى في التفكير الإسلامي لقاح علمي جديد، وتفاعل المنهج النقلي ~~والمنهج العقلي، وقوي شأن العقل ونظره ونفوذه، وكثر بحث الفقهاء عن العلل التي تقوم ~~عليها الأحكام الشرعية؛ ومن ثم يكون من الممكن قياس المجهول على المعلوم، ويكثر فرض ~~الفروض وترديدها، ولا يطمئن الفقيه إلا إلى ما يرضي عقله، ويقوم عليه الدليل من ~~الأحكام، إن لم يجد نصا من القرآن المحكم، أو السنة الصحيحة. # والعراق وهو مهد أبي حنيفة ومجال حياته وتفكيره، كان أهم المراكز العلمية التي ~~توزعتها الأمصار الإسلامية، ولا عجب! فهو وارث الحضارات القديمة التي توالت عليه، وإليه ~~عندما فتحه العرب هرع كثير من المسلمين، واتخذوه لهم وطنا ومقاما، وبفضل غناه ~~وثروته كان العيش فيه ميسورا والحياة رغدة، وكان لأهله من الوقت ما يسمح لهم بالإقبال ~~على البحث والتفرغ للعلم. # ولما انتهت الدولة إلى العباسيين، واتخذوا بغداد عاصمة لهم، ونقلوا فلسفة القدامى ~~وعلومهم وبخاصة اليونان، كان العراق طبعا هو المنبع الذي انسابت منه هذه الفلسفة ~~والعلوم إلى العالم الإسلامي، وكان هو الإقليم الذي أخذ علماؤه منها بأوفر نصيب، وكان ~~لذلك أثر في التفكير الإسلامي ومنه التفكير الفقهي والتشريعي. # وبجانب هذه الخاصة للعراق ms008، وعاصمته بغداد مقر سلطان العباسيين، نجد خاصة أخرى فيما ~~يتعلق بالفقه والتشريع، ونعني بها أن العراق كان مهد أهل الرأي، أو أصحاب المنهج ~~العقلي؛ وذلك لعوامل يسهل فهمها مما تقدم، فضلا عن بعد هذا الإقليم عن الحجاز، المركز ~~الأول للسنة والحديث، وعن تعقد الحياة في ذلك الإقليم وكثرة النوازل والمسائل ~~المتنوعة التي تحتاج إلى تشريع. # ويكفي أن نذكر أن من شيوخ «أهل الرأي» هؤلاء، ثلاثة، وكلهم من العراق: ~~(1) # علقمة بن قيس النخعي الكوفي الفقيه، وقد توفي عام 62ه. ~~(2) # إبراهيم بن يزيد النخعي «فقيه العراق بالاتفاق» كما يذكر العماد الحنبلي. # 3 # وقد كان يذهب إلى أن أحكام الشريعة لها معان معقولة، كما قامت ~~على علل تفهم من الكتاب والسنة، وأن على الفقيه إدراك هذه العلل، ليجعل ~~الأحكام تدور معها، وقد توفي عام 95، أو عام 96ه. ~~(3) # حماد بن أبي سليمان الأشعري المتوفى عام 120، وعنه أخذ أبو حنيفة الفقه ~~والحديث، وكان فقيه الكوفة مع حبيب بن أبي ثابت، كما يذكر ابن العماد. # 4 # الفقهاء وأصحاب السلطان # لم يكن الفقهاء في ذلك الزمن يعيشون على هامش الحياة، كما هو الغالب في فقهاء اليوم؛ ~~بل كانوا - إلا قليلا - يخالطون أصحاب السلطان، كما كانوا يسهمون إلى حد كبير في توجيه ~~هؤلاء إلى طريق الخير، ويشاركون في إقامة الدولة على أسس ودعائم من الدين وشريعة الله ~~ورسوله؛ وبخاصة في العصر الذهبي للدولة العباسية الذي عاش فيه الأئمة الأربعة ~~الكبار. # وكان ذلك كله لا بد منه، وكان مما تقتضيه الحياة وطبيعة الأمور في ذلك الزمن، فقد ~~كانت الدولة دولة دينية، وكان لا بد لخلفائها وولاتها وأمرائها من الحفاظ على هذا ~~الدين، والإفادة من حملة علومه وكسبهم بجانبهم؛ وكان لا بد لهؤلاء من الجهر بالحق، ~~وتقويم العوج، وإرشاد من ينحرف أو يبتعد عن شريعة الله. # وكان الفقهاء يعرفون من الخلفاء والولاة وينكرون، وكان من هؤلاء من يقبل النصح ومن ~~يصد عنه، ومن ثم كان من الفقهاء من أوذي في سبيل الجهر بما يراه حقا، ومن ~~الميسور أن نأتي بمثل لهذا أو ms009 ذاك في عهد الدولة الأموية وفي عهد الدولة ~~العباسية: ~~(1) # هذا مروان بن الحكم، أحد الولاة من الأسرة الأموية ووالد الخليفة عبد ~~الملك، يريد أن يقطع يد عبد سرق فصلة من النخل من حائط رجل، وغرسها في ~~حائط سيده؛ ولكنه رجع عن رأيه وأمر بتخلية العبد حين سمع من رافع بن خديج ~~أن رسول الله # صلى الله عليه وسلم # قال: «لا قطع في ثمر ولا كثر.» والكثر ~~الجمار. وكان مروان نفسه فقيها. # 5 ~~(2) # ويروي الإمام مالك. # 6 # أنه بلغه أن صكوكا خرجت للناس من طعام الجار في زمن مروان بن ~~الحكم، فتبايع الناس هذه الصكوك قبل أن يستوفوها، فدخل زيد بن ثابت ورجل من ~~أصحاب الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~، وقالا لمروان: أتحل بيع الربا يا مروان! فقال: ~~أعوذ بالله! وما ذاك؟ فقالا: هذه الصكوك تبايعها الناس قبل أن يستوفوها. ~~فبعث مروان الحرس ينزعونها من أيدي الناس، ويردونها إلى أهلها. ~~(3) # اشترى مخلد بن خفاف غلاما، فاستغله ثم ظهر منه على عيب، فرفع ~~أمره إلى عمر عبد العزيز، فقضى برد الغلام للبائع، ورد ما أفاده ~~المشتري منه. ولكن عروة بن الزبير يذهب إلى عمر يخبره أن الرسول # صلى الله عليه وسلم # قضى بمثل ما قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان، وحينئذ أبطل عمر حكمه، ~~وقضى بمثل ما قضى به الرسول، # 7 # ومن المعروف أن عمر بن عبد العزيز كان فقيها أيضا. ~~(4) # ذكر الإمام النسائي في سننه في البيوع أن مروان بن الحكم (الذي تقدم ~~ذكره آنفا) كتب لأسيد بن حضير الأنصاري، وكان عاملا على اليمامة، بأن ~~معاوية كتب إليه أن من سرق منه متاع فهو أحق به حيث وجده. فكان جواب ~~أسيد لمروان: أن النبي قضى بأن من ابتاع متاعا مسروقا وكان غير متهم ~~كان لصاحبه أن يأخذه من المشتري بثمنه أو يرجع على السارق. وعرف مروان أن ~~هذا الحكم هو الواجب اتباعه، لصدوره عن الرسول، ولعمل أبي بكر وعمر وعثمان ~~به، فبعث بكتاب أسيد إلى معاوية، فكتب إليه: إنك لست أنت ولا أسيد ms010 ~~تقضيان علي؛ ولكني أقضي عليكما. فأنكر ذلك أسيد حين علمه، وقال: لا ~~أقضي ما وليت بما قال معاوية. ~~(5) # وحين استلحق معاوية «زياد ابن أبيه» مقرا بأخوته له، مستجيبا في هذا ~~لعوامل سياسية على حين أن الشريعة لا تبيحه، لم يستطع الفقهاء أن يتقبلوا ~~هذا الصنيع منه، فكان أحدهم، وهو سعيد بن المسيب، يقول: قاتل الله فلانا ~~- يريد معاوية - كان أول من غير قضاء الرسول، وقد قال: «الولد للفراش ~~وللعاهر الحجر.» والحديث # 8 # معروف. # هذه المثل، ولو شئنا لأتينا بالكثير منها، ترينا كيف كان الفقهاء حفاظا على ~~شريعة الله ورسوله، وكيف كانوا لهذا ينكرون كثيرا على الخلفاء والأمراء والولاة ما لا ~~يرونه حقا، وكيف لم يكونوا يحيون على هامش الحياة والمجتمع الإسلامي كما ~~قلنا. # وهناك عامل آخر سياسي كان من شأنه أن يثير تدخل الفقهاء في الشئون العامة للدولة، ~~وكان سبب أذى غير قليل منهم؛ لأنعم وقفوا دون ما يريده لها الخليفة، أو لأن منهم من ~~خرج مع من خرج عليهم، وسواء في ذلك الأمر أيام الأمويين أو أيام العباسيين، فهم جميعا ~~يشتركون في جعلهم الخلافة ملكا عضوضا لهم ولأسرتهم، ونكتفي هنا بهذه المثل القليلة ~~التي تغنينا عن الكثير: ~~(1) # يأبى سعيد بن المسيب، وهو - كما يقول ابن خلكان وغيره من المؤرخين - ~~«من الطراز الأول، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع.» أن ~~يبايع الوليد وسليمان ابني عبد الملك بن مروان بولاية العهد، فيأمر ~~الخليفة بعرضه على السيف، وجلده خمسين جلدة، والتشهير به في أسواق المدينة، ~~ومنع الناس أن يجالسوه. # ومع هذا فقد طلب منه الخليفة عبد الملك أن يزوج ابنته لابنه وولي عهده ~~الوليد، فرفض، وآثر عليه أحد مريديه الفقراء، ونعتقد أن الغرض من هذا ~~الزواج - لو رضي به ابن المسيب - أن يظهر للناس أن هذا الفقيه راض عن ~~الخليفة وحكمه؛ ولكن، كيف يمكن أن يرضى، وهو يعد بني مروان ظلمة، وكان ~~يقول: لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم؛ لكيلا تحبط أعمالكم. # 9 ~~(2) # وهناك بعد ابن المسيب، سعيد بن ms011 جبير المقرئ والفقيه وأحد الأعلام، رأى ~~أن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على حق في خروجه على عبد الملك بن مروان ~~فأعانه، فما كان من الحجاج الثقفي عامل عبد الملك إلا أن قتله لما ظفر به، ~~وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه، كما يذكر ابن العماد الحنبلي. # 10 ~~(3) # وسفيان الثوري راعه كثرة ما اقترفه أبو جعفر المنصور من ظلم، وكثرة ما ~~أراقه من دماء في سبيل دولة أسرته العباسية، فجاهر بالنيل منه بكلامه، ~~فهم به الخليفة وأراد قتله، فما أمهله الله. # وحدث أن دخل على الخليفة المهدي، بعد أن ولي الخلافة بعد أبي جعفر ~~المنصور، فسلم عليه تسليم العامة (يظهر أنه لم يلقبه بخليفة المسلمين)، ~~فأقبل عليه بوجه طلق، وقال: تفر ها هنا وها هنا، أتظن أن لو أردناك بسوء ~~لم نقدر عليك، فما عسى أن نحكم الآن فيك؟ فقال سفيان: إن تحكم الآن في، ~~يحكم فيك ملك قادر عادل يفرق بين الحق والباطل. فقال الربيع مولى الخليفة: ~~ألهذا الجاهل أن يستقبلك بهذا؟ ايذن لي ~~بضرب عنقه، فقال المهدي: ويلك! اسكت، وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن نقتلهم ~~فنشقى بسعادتهم، اكتبوا عهده على قضاء الكوفة؛ ولكن «سفيان» رفض هذا العمل ~~لهذه الدولة، ورمى بالكتاب في دجلة وهرب. فطلب فلم يقدر عليه، وظل ~~متواريا حتى مات بالبصرة عام 161ه. # 11 ~~(4) # وأبو حنيفة نفسه ناله أذى شديد في أيام الأمويين، ثم في أيام العباسيين، ~~وربما كان السبب الحقيقي لذلك، أن ميله كان لأحد العلويين الذي خرج على ~~العباسيين، وهو إبراهيم بن عبد الله، فإنهم ليذكرون أنه أعانه في ~~خروجه. # ومن هذه الأمثلة الأخرى، نلمس أن الفقهاء، وبجانبهم المحدثون القوام على سنة ~~الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~، كانوا في هذا العصر - الذي ينفرد فيه بالحكم أسرة معينة؛ بل فرد من ~~أسرة - يشعرون بواجبهم في إقامة الحق، ويعملون على أن يقوموا بهذا الواجب مهما نالهم في ~~هذا السبيل من أذى الخلفاء وعنت الأمراء والولاة أحيانا غير قليلة. # فمنهم من يخرج مع ms012 الخارجين عليهم، ومنهم من يعظهم فلا يبالي أيسخطون عليه أم يرضون ~~عنه، ومنهم من يرفض أن يشاركهم في بعض أعمالهم مخافة أن يصيبه جانب من غضب الله لمخالطة ~~الظلمة وعونه لهم. # وهكذا نرى القراء والمحدثين والفقهاء يحاولون أن يجعلوا لأنفسهم سلطة مقابل سلطة ~~الخلفاء ومن إليهم، حينما رأوا منهم استبدادا لا يتفق والمنهج الإسلامي الرشيد في ~~الحكم وولاية أمور المسلمين، وصار يجري على ألسنة الناس أحاديث تروى عن رسول الله # صلى الله عليه وسلم # تؤكد هذه الروح وتقويها؛ وذلك مثل: «صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس، وإذا ~~فسدا فسد الناس: الأمراء والفقهاء.» «العلماء أمناء الرسول على عباد الله، ما لم ~~يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسول فاحذروهم واعتزلوهم.» ومن ثم ~~أيضا، قيل: العلماء ورثة الأنبياء. # الموالي والفقه # تكلمنا، ونحن بصدد الحديث عن البيئة الاجتماعية في هذا العصر، عن أثر «الرق» ~~ووجود الأرقاء في الفقه؛ إذا استتبع وجودهم أحكامهم في مختلف النواحي. والآن ~~نشير إلى أثر هؤلاء الموالي في الفقه من ناحية أخرى، ~~وهي ناحية جدهم في تحصيل العلم بعامة وبروزهم فيه، وذلك إلى درجة تجعلنا نحس أننا ~~مدينون لهم في تأسيس كثير من العلوم الإسلامية وازدهارها. # وهذه ظاهرة نجد من الباحثين من اكتفى بتسجيلها، كما نجد من عني أيضا بتفسيرها، ومن ~~هؤلاء ابن خلدون إذ يقول: # 12 # وهو يتكلم عن حملة العلم في الإسلام وأكثرهم العجم ما نذكره بتصرف ~~يسير. # من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم إلا القليل النادر، ~~وإن كان منهم العربي نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته؛ مع أن الملة عربية، ~~وصاحب شريعتها عربي. # والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة ~~والبداوة، وإنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله ونواهيه كان الرجال ينقلونها في ~~صدورهم، وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة، بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه، والقوم ~~يومئذ لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف، ولا دفعوا إليه، ولا دعتهم إليه حاجة ms013، وجرى ~~الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين ... # ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة، وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع ~~القوانين النحوية، وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباطات والتنظير والقياس، ~~واحتاجت إلى علوم أخرى هي وسائل لها ... فاندرجت في جملة الصنائع، وقد قدمنا أن الصنائع ~~من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها، فصارت العلوم لذلك حضرية، وبعد عنها ~~العرب وعن سوقها. # والحضر في ذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي، وأهل الحواضر الذين هم ~~يومئذ تبع في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف؛ لأنهم أقوم على ذلك؛ للحضارة ~~الراسخة فيهم منذ دولة الفرس ... # وذكر بعد ذلك أن حملة الحديث كان أكثرهم عجما أو متعجمين باللغة والمربى، وكذلك ~~علماء أصول الفقه وعلم الكلام وأكثر المفسرين. ثم قال: وأما العرب الذين أدركوا هذه ~~الحضارة فقد شغلتهم الرياسة في الدولة العباسية وما دفعوا إليه من القيام بالملك، عن ~~القيام بالعلم والنظر فيه ... فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم ~~من العجم. # ومن الواضح أن مؤسس علم الاجتماع يتكلم هنا عن العصر العباسي الذي قام على أكتاف ~~الموالي، فوصلوا فيه إلى الدرجات العلى في السياسة والوزارة وفي إدارة شئون الدولة؛ ~~ولكنه يصدق بلا ريب على أواخر العصر الأموي؛ أي على التابعين ومن جاء بعدهم؛ وذلك أن ~~أبا إسحاق الشيرازي المتوفى عام 476ه ينقل عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال: # 13 ~~«لما مات العبادلة - عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن ~~عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهم - صار الفقه في جميع البلدان إلى ~~الموالي؛ فقيه أهل مكة عطاء (ابن أبي رباح)، وفقيه أهل اليمن طاوس، وفقيه اليمامة يحيى ~~بن أبي كثير، وفقيه البصرة الحسن (البصري)، وفقيه الكوفة إبراهيم النخعي، # 14 # وفقيه الشام مكحول، وفقيه خراسان عطاء الخراساني. إلا المدينة، فإن الله عز ~~وجل من عليها بقرشي فقيه من غير مدافع، سعيد بن المسيب رضي الله عنه ms014.» # 15 # وبعد ذلك جاء في العقد الفريد أن ابن أبي ليلى قال، قال لي عيسى بن موسى (توفي سنة ~~168 عن شذرات الذهب ج1: 266، وكان من الأمراء العباسيين المعروفين) وكان ديانا شديد ~~العصبية: من كان فقيه البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن. قال: ثم من؟ قلت: محمد بن ~~سيرين. قال: فما هما؟ قلت: موليان. قال: فمن كان فقيه مكة؟ قلت عطاء بن أبي رباح، ~~ومجاهد، وسعيد بن جبير، وسليمان بن يسار. قال: فما هؤلاء؟ قلت موال. قال: فمن فقهاء ~~المدينة؟ قلت: يزيد بن أسلم، ومحمد بن المنكدر، ونافع ابن أبي نجيح. قال: فما هؤلاء؟ ~~قلت: موال. فتغير لونه ثم قال: فمن أفقه أهل قباء؟ قلت: ربيعة الرأي ~~وابن أبي الزناد. قال: فما كانا؟ قلت: من الموالي، فاربد وجهه، ثم قال: فمن فقيه ~~اليمن؟ قلت طاوس، وابنه، وابن منبه. قال: فمن هؤلاء؟ قلت: من الموالي. فانتفخت أوداجه ~~وانتصب قاعدا، وقال: فمن كان فقيه خراسان؟ قلت: عطاء بن عبد الله الخراساني. قال: فما ~~كان عطاء هذا؟ قلت: مولى. فازداد وجهه تربدا واسودادا حتى خفته. ثم قال: فمن ~~كان فقيه الشام؟ قلت: مكحول. قال: فما كان مكحول هذا؟ قلت: مولى، فتنفس الصعداء، ثم ~~قال: فمن كان فقيه الكوفة؟ فوالله لولا خوفي لقلت: الحكم بن عتبة وحماد بن أبي سليمان؛ ~~ولكني رأيت فيه الشر فقلت: إبراهيم «النخعي» والشعبي. قال: فما كانا؟ قلت: عربيان، ~~فقال: الله أكبر. وسكن جأشه. # 16 # وهكذا كان الأمر، سواء أكان ذلك للسبب الذي ذكره ابن خلدون، أو لسبب آخر يجب أن يضاف ~~إلى ذلك السبب في رأينا؛ وهو أن العرب في ذلك الزمن لم يكن ينقصهم شيء من أسباب الجاه ~~والمجد؛ فهم السادة، ومنهم الخلفاء والأمراء والولاة؛ أما الموالي فكان ينقصهم من هذه ~~الأسباب كل شيء، وهم مع ذلك أبناء أمم لهم في الحضارة والسيادة عرق قديم أصيل؛ فكان ~~طبيعيا أن يعملوا على تعويض ما يشعرون به من نقص، ووصلوا إلى ذلك عن طريق العلم الذي ~~كانت أسبابه ميسرة لهم. # فقد كان الصحابي ms015 يخلط مواليه بنفسه، فكان هؤلاء يعينون سادتهم، ويأخذون عن ~~المحدثين والمفسرين والفقهاء منهم علومهم. ومن هنا - مع حسن استعدادهم - كان نبوغهم؛ ~~ومن أمثلة ذلك نافع مولى عبد الله بن عمر، وعكرمة مولى عبد الله بن عباس. # استحقاق درجة الفقه # وهؤلاء الذين عرفوا بالفقه من الموالي أو العرب، والذين أقر لهم هذا المصر أو ذاك ~~بالإمامة فيه، كيف كانوا يصلون إلى هذه المنزلة لدى الناس، فيقرون لهم بالإمامة في ~~الفقه؟ # لم يكن في ذلك العصر معاهد علمية تمنح من الدرجات العلمية ما تمنح معاهد اليوم، ~~وإنما كانت هناك المساجد وحلقات الدروس فيها، وكل حلقة يتصدرها أحد الشيوخ ويختلف من ~~يحضرونها قلة وكثرة بحسب منزلة صاحب الحلقة. # إلا أن ما للعلم من جلالة، وما لمجلس التعليم من هيبة، يقتضينا القول بأن الأمر لم ~~يكن متروكا بلا ضابط أو تقاليد؛ بل لعل نظام «الإجازة» يعطيها الشيخ لمن يراه أهلا ~~لها، هذا النظام الذي كان معروفا في الأزهر - وأمثاله من المعاهد العلمية - قبل أن ~~يعرف نظام الامتحانات والدرجات العلمية التي تمنح حسب نتائج هذا الامتحان، قد عرف في ~~ذلك العصر بصورة عملية. # وهذا أبو حنيفة نفسه نراه يلازم حماد بن أبي سليمان طويلا، ثم يتشوق للرياسة في حياة ~~شيخه؛ ولكنه وجد نفسه بعد الاختبار ليس بهذه المنزلة، فعزم ألا يفارق شيخه حتى يموت، ~~وكان ذلك فعلا. # 17 # ويذكر حماد بن سلمة أن حماد بن أبي سليمان كان مفتي الكوفة والمنظور إليه في الفقه ~~بعد موت إبراهيم النخعي، وكان الناس به أغنياء، فلما مات خاف أصحابه أن يموت ذكره، ~~ويندرس العلم، وكان له ابن حسن المعرفة، فأجمعوا عليه وصاروا يختلفون إليه، إلا أنه لم ~~يصبر على القعود لهم؛ لأن الغالب عليه كان النحو وكلام العرب. # فسألوا أخيرا أبا حنيفة فجلس لهم وصاروا يختلفون إليه، ثم صار يختلف إليه من بعدهم ~~آخرون، منهم أبو يوسف وزفر بن الهذيل، فلم يزل كذلك حتى استحكم أمره، واحتاج إليه ~~الأمراء وذكره الخلفاء. # 18 # ومن بعد أبي حنيفة نجد مالك بن أنس ms016 يقول: بعث إلي الأمير في الحداثة أن أحضر ~~المجلس، فتأخرت حتى راح ربيعة (هو ربيعة الرأي ابن أبي عبد الرحمن فروخ المديني، وكان ~~من شيوخ مالك) فأعلمته وقلت: لم أحضر حتى أستشيرك، فقال لي ربيعة: نعم، فقيل له: لو لم ~~يقل لك احضر لم تحضر؟ قال: لم أحضر، ثم قال: لا خير فيمن يرى نفسه بحالة لا يراه الناس ~~لها أهلا. # 19 # وبعد ذلك ينقل صاحب الديباج المذهب أن «مالكا» قال: ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد ~~للأحاديث والفتيا جلس حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة من المسجد، فإن ~~رأوه أهلا لذلك جلس. وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخا من أهل العلم أني أهل ~~لذلك. # من هذين المثالين، نفهم أن درجة الفقه والفتيا فيه كان لا يصل إليها المتفقه إلا إذا ~~آنس من نفسه أنه أهل لها، ثم يحدث بعد هذا أن يشهد له طائفة من مشيخة العلم أنه جدير ~~بالجلوس للتعليم وإقرار الناس وإفتائهم، وحينئذ يجوز له أن يقوم من الناس مقام الشيخ ~~والمفتي. # ولعل مما يشهد لذلك أن صاحب الديباج المذهب أيضا يذكر أن رجلا سأل «مالكا» عن ~~مسألة، فبادره ابن القاسم فأفتاه، فأقبل عليه مالك كالمغضب وقال له: جسرت علي أن ~~تفتي يا عبد الرحمن! يكررها عليه، ثم قال، ما أفتيت حتى سألت: هل أنا للفتيا موضع؟ ~~فلما سكن غضبه قيل له: من سألت؟ قال: الزهري وربيعة الرأي. # 20 # العباسيون والفقه # مهما كان، من الحق - كما قلنا من قبل - أنه لا فوارق ولا حدود فاصلة من الناحية ~~العقلية في هذا العصر؛ أي بين الفترة التي عاشها أبو حنيفة في ظل الحكم الأموي، والأخرى ~~التي عاشها في ظل الحكم العباسي، وأن العلوم الإسلامية كانت ستأخذ طريقها إلى النمو ~~والتطور والازدهار تحت حكم الدولة الأموية لو طال بها الزمن ولم تقم الدولة العباسية - ~~مهما كان ذلك - حقا، فإنه مما لا ريب فيه أن حالة الفقه والفقهاء في هذا الفترة من ~~العصر العباسي تختلف عنها أيام الأمويين ms017. # وقد عالجنا من قبل في كتابنا : «عصر نشأة المذاهب» أمر الفقه والفقهاء تحت الحكم ~~الأموي، ثم تحت الحكم العباسي، وبينا هناك الأسباب التي أوقعت النفرة بين الفقهاء ~~وبين الحكم الأموي، ثم ما كان من رعاية العباسيين للفقه والفقهاء، وأسباب ذلك ونتائجه؛ ~~ولهذا وذاك لا نرى أن نكرر ما سبق أن قلناه، ونكتفي هنا أن نحيل عليه. # 21 # ومع ذلك نرى من الخير أن نشير إلى أن نمو الفقه وتطور التشريع في العصر العباسي ~~الأول كانت له عوامله وأسبابه، كما كانت له نتائجه التي علينا تسجيلها. # ومن هذه العوامل ما يرجع إلى طبيعة الإقليم الذي اتخذته الدولة العباسية قاعدة ~~لملكها، ومنها ما يرجع إلى الأسس التي قام عليها حكمها، ومنها ما يرجع إلى طبيعة الزمن ~~نفسه وتطوره. # اتخذ العباسيون العراق مقرا لملكهم، والعراق إقليم يختلف عن الحجاز وعن الشام ~~اللذين كانا مقرا للخلافة الراشدة وللدولة الأموية؛ فهو إقليم زراعي يرويه دجلة ~~والفرات، ولأهله نظم في زراعاتهم درجوا عليها من قديم الزمان؛ فكان لا بد من قواعد ~~شرعية قانونية تنظم ري الأرض، وتبين ما يجوز من المعاملات الشرعية فيما يتصل ~~بالزراعة، وتحدد الخراج الذي من حق الدولة أن تأخذه على الناتج من الأرض، ~~وهكذا. # وأهل هذا القطر الكبير كانوا مع ذلك أخلاطا من أمم مختلفة، كالفرس والروم وغيرهم، ~~ولكل من هذه الأجناس عادات وتقاليد في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية ~~وغيرهما، وفيه تركزت الحضارة الإسلامية بعد أن اشتدت وقويت أسبابها، وفيه المال والترف ~~والتمتع بلذائذ الحياة وألوانها، بما في ذلك الشراب والغناء والسماع. # وكل هذا ألقي على الخلفاء واجبا ثقيلا، وهو النظر في هذه العادات والتقاليد، وفيما ~~يكون عن الحضارة والترف من أحداث ومشاكل، وبيان حكم الشريعة فيها، وذلك ما يتطلب كثرة ~~الاجتهاد في الأحكام والفتاوي؛ لعدم كفاية ما لديهم من أحاديث الرسول # صلى الله عليه وسلم # وسنته ~~لذلك كله، # 22 # ومن ثم، رأينا اللجوء إلى القياس والرأي يشتد في هذه الفترة، والبحث فيه ~~وفي مقوماته يزيد. # والعباسيون أسرة تنتسب إلى البيت النبوي الكريم ms018، ويعتزون بأن صاحب الشريعة ~~الإسلامية كان منهم، فلا عجب إذا أن تقوم سياستهم في الحكم على أسس من الدين وشريعته، ~~وأن يظهر خلفاؤهم بأنهم رجال حكم وسياسة ودين معا، ومن ثم، رأيناهم يزيدون عن ~~الأمويين في الاتصال بالفقهاء ورجال الدين وحملة علومه، ويقربونهم ويصلونهم ~~بالصلات السنية، على نحو ما نعرف عن أبي جعفر المنصور - على بخله المأثور - ~~والرشيد. # وهنا نسجل أمرين جديرين بالتسجيل: الأول أن تقريب الخلفاء العباسيين للفقهاء نتيجة ~~لطبيعة أسرتهم وحكمهم وعملا بسياستهم، تجعلهم حذرين من الميول السياسية للفقهاء ~~الكبار، وذلك مخافة أن يكون لبعضها لدى الأمة ما لا يرضون من الأثر. # فهذا ابن جرير الطبري يذكر أن مالك بن أنس استفتى في الخروج مع محمد بن عبد الله ~~الحسن، وقيل له: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر. فقال: «إنما بايعتم مكرهين، وليس على ~~مكره يمين.» فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته. # 23 # وقد كان هذا الموقف العظيم سببا في أذى شديد له، مع إجلال الخليفة أبي جعفر المنصور ~~له، وعرضه عليه حمل فقهاء الأمصار على كتابه «الموطأ» على ما هو معروف. فقد روى ابن ~~خلكان أنه «سعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، رضي الله عنهما، ~~وهو عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء. فغضب أبو جعفر ~~ودعا به، وجرده، وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه، وارتكب منه أمرا ~~عظيما، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة.» ثم ذكر بعد ذلك أن ابن الجوزي، وهو ~~يذكر أحداث سنة 147ه، قال: وفيها ضرب مالك بن أنس سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض ~~السلطان. # وقد يعين على فهم هذا التصرف الشنيع؛ وهو إيذاء فقيه كبير هو موضع الإكرام والإجلال، ~~كلمة موجزة محكمة لأبي جعفر المنصور نفسه، وهي: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاث خلال: ~~إفشاء السر، والتعرض للحرم، والقدح في الملك. وأي قدح في رأيهم أكبر من إفتاء ~~إمام من أئمة الفقه بتجويز الخروج ms019 عليهم وتشجيعه! # والأمر الثاني، هو أن الصلات الطيبة الوثيقة بين كثير من الفقهاء وبين الخلفاء ~~العباسيين ومن إليهم من الأمراء والوزراء، والرغبة في التوفيق بين القواعد الفقهية ~~النظرية وبين الحياة العملية التي كانوا يحيونها حينذاك؛ هذا وذاك، كانا من الأسباب ~~القوية التي جعلت فنا فقهيا يظهر ويزدهر؛ وهو «فن الحيل» لدى فقهاء مدرسة الكوفة ~~بعامة، ثم مدرسة أبي حنيفة بخاصة. # ونسمي هذا فنا، ولا نسميه علما؛ لأنه يقوم على الصنعة والتعمل، وعلى تخريج ~~للقواعد الفقهية المسلم بها حتى تتسع لكثير مما كانت تزخر به الحياة العملية في ذلك ~~العصر. ولعل اشتهار الأحناف بهذا الفن، كان سببه شديد اتصالهم بأصحاب الدولة القائمة؛ ~~ولذلك كان إليهم القضاء. وكان أبو يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة هو قاضي القضاة أيام ~~الرشيد، فهو أول من دعا بذلك. # ولا نريد هنا ذكر الكتب التي ألفت في هذا الفن، ولا بعض المثل التي استعملت ~~فيها تحقيقا لرغبة خليفة أو وزير مثلا؛ ولكن نشير إلى شيء مما كان من ذلك من الإمام ~~أبي يوسف للخليفة هارون الرشيد وزوجته السيدة زبيدة. # 24 # ونصل أخيرا للعامل الثالث، من العوامل التي عملت على نمو الفقه وتطوره وازدهاره أيام ~~العباسيين، وهو عامل الزمن الذي ليس للباحث أن يغفل نصيبه عند تقدير الأمور، ووزنها ~~الوزن الصحيح. # ذلك بأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يرجعون في آرائهم وأحكامهم إلى كتاب الله ~~المحكم وسنة رسوله الصحيحة، ثم ضم التابعون من بعدهم إلى هذين المرجعين الأصليين ما ~~أثر لديهم من أقوال فقهاء الصحابة وآرائهم. # فلما جاء أتباع التابعين - ومنهم أبو حنيفة - وجدوا هذه الثروة تزيد بالمأثور من ذلك ~~عن التابعين. وهكذا وجدوا بين أيديهم ثروة كبيرة يعملون فيها عقولهم، وتساعدهم على ~~الاجتهاد بالرأي للوصول إلى حلول وأحكام للمسائل والمشاكل التي واجهوها أو واجهتهم في ~~زمانهم. # هذه العوامل كانت تعمل إذا مجتمعة على نمو الفقه وازدهاره، وعلى ظهور تشريعات لم تكن ~~موجودة من قبل؛ لأنه لم تكن ظهرت الحاجة إليها. # ولعل نظرة نافذة لما كان من الفقه في ms020 هذه الفترة، ومقارنة له بما كان موجودا من قبل، ~~تظهرنا على ما كان لهذه العوامل والأسباب من آثار ضخمة في حياة الفقهاء والفقه نفسه، ~~تجعلنا نرى كثيرا من الجديد الذي حدث في هذا العصر العباسي من ناحية التشريع. # هذا، ولنستكمل رسم صورة ذلك العصر نشير إلى أنه كان الاجتهاد طابعه، كما كان من ~~ميزاته التدوين للسنة والفقه معا. # والآن، وقد فرغنا من الكلام عن عصر أبي حنيفة، ننتقل إلى البحث الثاني الخاص ~~بترجمته. # | حياة أبي حنيفة وترجمته # كلمة عامة # أبو حنيفة علم من أعلام المسلمين، وإمام من أكبر أئمة الفقه الإسلامي، ما في ذلك من ~~ريب، فعلى هذا يجمع المؤرخون من تناولوا نواحي تفكيره وثقافته الواسعة بالبحث والتحليل ~~والتمحيص، على أن القارئ لما كتبه المؤرخون عنه - وما أكثره! - لا يعدم أن يجد من ~~يتناوله بشيء من التجريح والذم، وتلك سنة الزمن مع كل عظيم؛ فإنه ليوجد دائما حول ~~العظماء من يفرطون في التعصب لهم، ومن يفرطون في التعصب عليهم؛ ولكن يظهر بين هذين ~~الطرفين الغاليين وجه الصواب لعين الباحث المدقق المتثبت الذي ينشد الحقيقة ~~وحدها. # ونلمس هذه الحقيقة بالنسبة لإمام أهل الرأي وفقيه العراق، في قول الإمام الشافعي فيه، ~~على ما يرويه الذهبي: «الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة.» وقوله على ما يرويه الخطيب: ~~«من أراد أن يعرف الفقه فليلزم أبا حنيفة وأصحابه؛ فإن الناس كلهم عيال عليه في الفقه.» # 1 # كما نلمس هذه الحقيقة أيضا من قول أحد معاصريه عنه، على ما يكون عادة بين المتعاصرين ~~من تنافس، وهو عبد الله بن المبارك: إن كان الأثر قد عرف واحتيج إلى الرأي، فرأي مالك ~~وسفيان «الثوري» وأبي حنيفة. وأبو حنيفة أحسنهم وأدقهم فطنة، وأغوصهم على الفقه، وهو ~~أفقه الثلاثة. يقول: «إن كان أحد ينبغي أن يقول برأيه، فأبو حنيفة ينبغي له أن يقول برأيه.» # 2 # مولده ونشأته # ولد أبو حنيفة النعمان بن ثابت عام ثمانين من الهجرة، وتوفي عام مائة وخمسين. وفي ~~رواية أنه ولد عام 61. ويقول الموفق المكي: وهذه الرواية ms021 تخالف ما تقدم (أي أن ~~مولده كان سنة 80). والصحيح هي الرواية الأولى، وهي المجمع عليها. # 3 # وعلى كل، فقد عاش في ظل الدولة الأموية ثم في ظل الدولة العباسية، وشهد ما كان ~~لانتقال الخلافة والسلطان من بيت إلى بيت من نتائج وآثار على الإسلام بعامة؛ وفي حياة ~~كثير من الناس بخاصة. إلا أنه - كما سنعرف من سيرته - ثابت الخلق، قوي الشخصية، ماض ~~قدما في سبيل تحقيق رسالته التي أعد نفسه لها، وكان في تحقيقها خير للإسلام ~~والمسلمين وشريعة الله ورسوله. # ولذلك يحسن بنا - قبل التعرض لفقهه وآرائه في التشريع ومذهبه الذي عرف به - أن ~~نستعرض سيرته ونشأته في إجمال، وأن نعرف بيئته الخاصة التي اضطرب في أرجائها، والعوامل ~~التي كان لها أكبر الأثر في توجيهه الوجهة الطيبة التي اختارها. # كان النعمان بن ثابت بن زوطي من أصل فارسي؛ إذ كان جده من أهل «كابل» كما يروون، # 4 # وقد نشأ تاجرا في الخز، وله دكان معروف في دار عمر بن حريث، # 5 # وكان أمينا في تجارته، لا يغش ولا يخدع أحدا، حتى كان لا يبيع شيئا ~~معيبا إلا بين ما فيه من عيب. # ويذكرون عنه (البغدادي ص358) أنه وكل إلى شريك له، وهو حفص بن عبد الرحمن، متاعا ~~ليبيعه، وأعلمه أن في ثوب كذا وكذا منه عيبا، وطلب منه أن يبين هذا العيب للمشتري؛ ~~ولكن هذا الشريك نسي أن يظهر المشتري على العيب، ولم يعلم به من باعه، فما كان من ~~أبي حنيفة إلا أن تصدق بثمن المتاع كله. # ويظهر أنه استمر على تجارته بعد أن علق بالعلم وبالفقه خاصة، وأقبل بهمته عليه؛ ~~فهذا قيس بن الربيع يحدث - كما يروي الخطيب البغدادي # 6 ~~- أنه كان يبعثه بالبضائع إلى بغداد، فيشتري بها الأمتعة، ويحملها إلى ~~الكوفة، ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة فيشتري بها حوائج الأشياخ المحدثين ~~وأقواتهم وكسواتهم وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي الأرباح من الدنانير إليهم ويقول: ~~أنفقوا في حوائجكم ولا تحمدوا إلا الله؛ فإني ما أعطيتكم من مالي شيئا؛ لكن من فضل ms022 ~~الله علي فيكم، وهذه أرباح بضائعكم، فإنه والله مما يجريه الله لكم على يدي، فما في ~~رزق الله حول لغيره. # اتجاهه للعلم # كان لا بد أن يتجه النعمان للعلم، ويأخذ منه بنصيب كبير؛ فقد نشأ بالكوفة وكانت ~~ثاني المصرين العظيمين بالعراق في ذلك العصر، وكان العراق قطرا يموج موجا بأصحاب ~~المقالات الدينية والفلسفية والآراء والنحل المختلفة، كما كان يزخر بالعلماء والفقهاء ~~وأصحاب المعارف الإسلامية على اختلاف ضروبها. # وكان صاحبنا فتى طلعة متصلا بالناس، راغبا في المعرفة، يسعفه استعداد طيب، وطبع ~~موات، فما لبث أن أخذ من تلك الثقافات بقدر محمود، ومال إلى مجالس العلماء يأخذ عنهم ~~وينظر معهم ويجادل أحيانا. # وهنا، ينبغي أن نتساءل: ما العلم الذي اتجه إليه أول أمره بطلب العلم؟ وما العلم ~~الذي أقبل عليه بكليته وقصر نفسه أخيرا عليه؟ يذكر بعض المؤرخين للفكر الإسلامي ~~ورجالاته، أن النعمان بن ثابت طلب النحو أول أمره، ثم حملته نزعته للقول بالرأي أن ~~يستعمل فيه القياس، فلم يتأت له؛ إذ أراد أن يجمع «كلب» على «كلوب» كما يجمع «قلب» ~~على «قلوب»، فقيل له إنه يجب جمعه على «كلاب»، فترك النحو إلى الفقه الذي له أن يقيس ~~فيه، بخلاف اللغة التي هي سماعية لا قياسية. # 7 # ويذكرون أيضا أنه «لم يكن يعاب بشيء سوى قلة العربية، ذلك ما روي أن أبا عمرو بن ~~العلاء المقرئ النحوي سأله عن القتل بالمثقل: أيوجب القود أم لا؟ فقال: لا. كما هو ~~قاعدة مذهبه خلافا للإمام الشافعي رضي الله عنه، فقال له أبو عمرو: ولو قتله بحجر ~~المنجنيق؟ فقال: ولو قتله «بأبا قبيس»؛ يعني الجبل المطل على مكة حرسها الله تعالى.» # 8 # وسواء أصح هذا الذي يروونه فيما يتصل بأبي حنيفة والنحو أم لم يصح، وأنه لو كان ~~صحيحا لكان السبب في إعراضه عن دراسة النحو الذي لا يتأتى القياس فيه؛ فإنه من ~~المؤكد أنه اتجه فيما بعد لعلم الكلام، وأخذ منه بنصيب موفور، كما كانت له فيه كتب ~~أثرت عنه، ومن هذه الكتب: الفقه الأكبر، الرد ms023 على القدرية، العالم والمتعلم، ورسالته ~~إلى البستي. # 9 # اتجاهه للفقه # وقد أراد الله له أخيرا أن يقبل على علم الفقه، وأن يجعله همه من حياته، فكان أن ~~انصرف إليه بكليته، واتصل بشيوخ الفقهاء يأخذ عنهم وبعض المؤرخين له يروون أنه قصد ~~إلى اختيار الفقه عن علم بعظيم جدواه، وذلك بعد أن نظر فيما يمكن أن يكون من خير في ~~دراسة العلوم الأخرى. # هذا هو الخطيب البغدادي يروي عن أبي يوسف أن أبا حنيفة قال: لما أردت طلب العلم جعلت ~~أتخير العلوم وأسأل عن عواقبها، فقيل لي: تعلم القرآن، فقلت: إذا تعلمت القرآن ~~وحفظته فما يكون آخره؟ قالوا: تجلس في المسجد ويقرأ عليك الصبيان والأحداث، ثم لا يلبث ~~أن يخرج فيهم من هو أحفظ منك أو يساويك في الحفظ فتذهب رياستك. قلت: فإن سمعت الحديث ~~وكتبته حتى لم يكن في الدنيا أحفظ مني؟ قالوا: إذا كبرت وضعفت حدثت واجتمع عليك ~~الأحداث والصبيان، ثم لا تأمن أن تغلط فيرموك بالكذب فيصير عارا عليك في عقبك. فقلت: ~~لا حاجة لي في هذا. ثم قلت أتعلم النحو. فقلت: إذا حفظت النحو والعربية ما يكون آخر ~~أمري، قالوا: تقعد معلما، فأكثر رزقك ديناران إلى ثلاثة. قلت: وهذا لا عاقبة له؛ قلت: ~~فإن نظرت إلى الشعر فلم يكن أحد أشعر مني ما يكون من أمري؟ قالوا: تمدح هذا فيهب لك، أو ~~يحملك على دابة، أو يخلع عليك خلعة، وإن حرمك هجوته فصرت تقذف المحصنات. قلت: لا حاجة ~~لي في هذا. قلت: فإذا نظرت إلى الكلام ما يكون آخره؟ قالوا: لا يسلم من نظر في الكلام ~~من مشنعات الكلام، فيرمى بالزندقة؛ فإما أن تؤخذ فتقتل، وإما أن تسلم فتكون مذموما ~~ملوما. قلت: فإن تعلمت الفقه؟ قالوا: تسأل وتفتي الناس، وتطلب للقضاء وإن كنت ~~شابا. قلت: ليس في العلوم أنفع من هذا، فلزمته. # 10 # وأخيرا يذكر الخطيب أيضا بعد ذلك، # 11 # عن الحسن بن زيد، عن زفر بن الهذيل، أن أبا حنيفة كان ينظر في علم الكلام ~~حتى بلغ فيه مبلغا ms024 يشار إليه فيه بالأصابع، وكان جلوسه قريبا من حلقة حماد بن سليمان ~~الفقيه، وحدث أن جاءته امرأة سألته عن مسألة فقهية فلم يعرفها، فأمرها أن تسأل حمادا، ~~ثم ترجع فتخبره برأيه، فلما علم إجابة حماد قال: لا حاجة لي بعلم الكلام، وأخذ نعله ~~فجلس إلى حماد. # 12 # وهنا يقول أبو حنيفة: فكنت أسمع مسائله فأحفظ قوله، ثم يعيدها من الغد ~~فأحفظها ويخطئ أصحابه، فقال: لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة. ثم تكلم بعد ~~ذلك عن ملازمته لحماد حتى مات، وإن نازعته نفسه حينا لاعتزاله والاستقلال بحلقة لنفسه. # 13 # هكذا يروي أولئك المؤرخون. ونحن إن استطعنا أن نصدق هذا النقل الثاني، فإننا لا ~~نستطيع أن نؤمن لما رووه أولا على النحو الذي نقلوه؛ وهذا لأمور تحيك في النفس وتقف ~~دون اليقين به. # فإنه من المستبعد أن يكون أبو حنيفة نفعيا إلى هذه الدرجة، فيرفض الاشتغال بغير ~~الفقه، كالقرآن والحديث والنحو؛ لأنه لا جدوى تعود عليه منها، ولأن لبعضها مغبة ~~يخشاها كذهاب رياسته إن اشتغل بالقرآن وحفظه وخرج من تلاميذه من يفوقه في الحفظ أو ~~يساويه فيه، مع أنهم قد أجمعوا على تقواه وورعه وزهده وانصرافه عن الرياسات. # ثم نراه يقرر في هذا الحديث الانصراف عن النحو وعلم الكلام، مع أنه قد اشتغل بالأول ~~ولم يصرفه عنه - كما روينا في نقل سابق - إلا أنه لم ير القياس جائزا فيه، كما اشتغل ~~بعلم الكلام حتى صار من أعلامه، وحتى بلغ فيه مبلغا يشار إليه فيه بالأصابع. # وبعد هذا وذاك، نرى أن ذلك الحديث الأول يفترض أن أبا حنيفة كان عنده استعداد لكل هذه ~~العلوم حتى أخذ يختار لنفسه منها حتى الشعر، مع أنه لم يؤثر عنه مطلقا شيء منه مهما ~~كان قليلا؛ والمعروف أن من كان شاعرا بطبعه واستعداده لا بد أن يقرض شيئا من الشعر ~~مهما كانت حرفته، ومهما كان العلم الذي أخذ نفسه به. # نزعته الفقهية وشيوخه # عرف أبو حنيفة فيما بعد بأنه «إمام أهل الرأي» لكثرة اجتهاده وعمله بالقياس ms025 فيما لا ~~نص ثابتا لديه فيه، ونعتقد أن هذه النزعة كانت أصيلة فيه؛ فقد رأيناه ينصرف، كما ~~يقولون، عن الاشتغال بالنحو لما رآه من أن القياس لا يجري فيه. # ولذلك نراه يلازم من بين شيوخ الفقهاء الذين أخذ عنهم حماد بن أبي سليمان الذي انتهت ~~إليه في عصره رياسة الفقه في العراق، وقد تلقى هذا فقهه عن إبراهيم النخعي، وكلاهما من ~~مشيخة فقهاء الرأي في مقابل فقهاء الحديث والأثر. # وإن الذي يتصفح ما كتبه تلاميذ أبي حنيفة المباشرون. يرى أن الواحد يذكر رأي الإمام ~~في المسائل التي يتناولها، وأنه يذكر مع ذلك شيوخه الذين أخذ عنهم، وكثيرا جدا ما ~~يكون هؤلاء هم: حماد بن أبي سليمان، ثم شيخه إبراهيم النخعي اللذين ذكرناهما آنفا، ~~واللذين يذكرهما محمد بن الحسن الشيباني في كتابه «الآثار» مثلا. # وليس معنى هذا وذاك، أنه لم يأخذ في الفقه إلا عن حماد بخاصة، أو عن فقهاء أهل الرأي ~~بعامة، بل إنه من الثابت تاريخيا بلا ريب، أنه قد اتصل كثيرا بفقهاء ذوي نزعات ~~مختلفة، وربما أفاد من غير قليل منهم في تكوين آرائه وبناء مذهبه. # فقد أخذ - مثلا - عن عطاء بن أبي رباح فقيه مكة، وعكرمة مولى عبد الله بن عباس ~~ووارث علمه، ونافع مولى ابن عمر وحامل علمه، كما التقى بالمبرزين في الفقه والعلم من ~~أئمة الشيعة ومن هؤلاء الإمام زيد بن علي الذي قتل شهيدا في عام مائة واثنين وعشرين، ~~والذي ينسب إليه كتاب «المجموع» في الفقه. ومنهم أيضا الإمام جعفر الصادق الذي توفي ~~قبل أبي حنيفة بعامين اثنين، وكان على جانب عظيم من الفقه والبصر به؛ حتى ليقول صاحبنا ~~نفسه: والله ما رأيت أفقه من جعفر الصادق! ومن أجل ذلك نرى الخطيب البغدادي يقول في تاريخه. # 14 # محدثا عن الربيع بن يونس: دخل أبو حنيفة يوما على المنصور (يريد أبا ~~جعفر الخليفة العباسي) وعنده عيسى بن موسى، فقال للمنصور: هذا عالم الدنيا اليوم. فقال ~~له: يا نعمان! عمن أخذت العلم؟ قال: عن أصحاب عمر عن ms026 عمر، وعن أصحاب علي عن علي، وعن ~~أصحاب عبد الله عن عبد الله (يريد عبد الله بن عباس) وما كان في وقت ابن عباس على وجه ~~الأرض أعلم منه، قال: استوثقت لنفسك. # وفي رواية أخرى أنه أجاب عن سؤال المنصور: عمن أخذ الفقه؟ بقوله: عن حماد (بن ~~أبي سليمان)، عن إبراهيم (النخعي)، عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن ~~مسعود، وعبد الله بن عباس؛ وعندئذ قال له الخليفة: بخ بخ! استوثقت ما شئت ~~يا أبا حنيفة، الطيبين الطاهرين المباركين، صلوات الله عليهم. # 15 # جلوسه للتعليم # هكذا اتجه أبو حنيفة للفقه، وهكذا جد في طلبه عن شيوخه المبرزين، فمتى رأى نفسه ~~أهلا لأن يكون أستاذا له حلقة خاصة به؟ ومتى كان ذلك؟ ذكرنا من قبل ونحن نتكلم عن ~~اتجاهه للفقه، أنه اتصل بحماد بن أبي سليمان يأخذ عنه الفقه، وأنه ظل مصاحبا له حتى ~~مات. والآن نتكلم عن كيف جلس للتعليم بعد وفاة شيخه، وكيف خلفه حقا بعد أن لحق ~~بربه. # يقول أبو حنيفة محدثا عن نفسه: # 16 ~~«فصحبته عشر سنين، ثم نازعتني نفسي الطلب للرياسة، فأردت أن أعتزله، وأجلس ~~في حلقة لنفسي، فخرجت يوما بالعشي وعزمي أن أفعل، فلما دخلت المسجد فرأيته، لم تطب ~~نفسي أن أعتزله، فجئت وجلست معه، فجاءه في تلك الليلة نعي قرابة له قد مات بالبصرة وترك ~~مالا وليس له وارث غيره، فأمرني أجلس مكانه. # 17 # فما هو إلا أن خرج حتى وردت علي مسائل لم أسمعها منه، فكنت أجيب وأكتب جوابي، فغاب ~~شهرين، ثم قدم، فعرضت عليه المسائل، وكانت نحوا من ستين مسألة، فوافقني في أربعين منها ~~وخالفني في عشرين، فآليت على نفسي ألا أفارقه حتى يموت، فلم أفارقه حتى مات.» # ويروي الخطيب البغدادي أيضا بعد ذلك، أن أبا حنيفة قال: قدمت البصرة فظننت أني لا ~~أسأل عن شيء إلا أجبت فيه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلت على نفسي ~~ألا أفارق حمادا حتى يموت، فصحبته ثماني عشرة سنة. # هكذا، رأينا ms027 أبا حنيفة يرى حينا أنه صار أهلا للإجابة عن كل ما قد يوجه إليه من ~~سؤال في شريعة الله ورسوله، وتنازعه نفسه حينا أن يعتزل شيخه، ويستقل بحلقة يكون ~~شيخها وإمامها؛ ولكنه لا يلبث أن يعرف أنه لا زال في حاجة لشيخه، وأن من الخير أن ~~يتأنى ولا يتعجل الأيام التي يكون فيها إماما بلا منازع. # ثم تمر الأيام، ويموت شيخه حماد رضي الله عنه عام 119ه، وحينئذ لا يرى أصحابه ~~وتلاميذه غير أبي حنيفة أهلا للجلوس مكان الشيخ، فيقبل كما أشرنا إلى ذلك من ~~قبل. # وهنا نزيد المسألة تفصيلا بالرجوع إلى المناقب للمكي والمناقب للبزاز الكردي. # 18 # وهذه ليست إلا اختصارا للأولى في شيء من الدقة، وإن كانت تشاركها في ~~الإسراف في تعداد «المناقب» إلى درجة توجب الحذر والفتنة من الباحثين، فيذكرون أنه لما ~~مات حماد، وكان مفتي الناس بالكوفة، رأى أصحابه أن يجلس لهم ابنه إسماعيل مكانه، فكان ~~ما أرادوا حتى لا يندرس العلم، ويموت ذكر الشيخ؛ ولكنهم لما اختلفوا إليه رأوا أن ~~الغالب عليه النحو والشعر وأيام الناس: وحينئذ أجمعوا أن يجلس لهم مكان الشيخ أبو بكر ~~النهشلي، وسألوه ذلك فأبى، وسألوا غيره ذلك أيضا فأبى. فما كان إلا أن ذكروا أبا ~~حنيفة، وقالوا: إنه حسن المعرفة، وسألوه أن يتولى حلقة الشيخ؛ وكان أبو حنيفة رجلا ~~موسرا سخيا ذكيا، فأجابهم وصبر نفسه عليهم، وأحسن مواساتهم وحباءهم، وأكرمه ~~الحكام والأمراء وارتفع شأنه، فاختلفت إليه الطبقة العليا. # ثم جاء بعدهم كثير غيرهم، أمثال: أبو يوسف، وزفر بن الهذيل، وأبو بكر بن الهزلي، ~~والوليد بن أبان، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وداود الطائي، ~~ومحمد بن الحسن الشيباني، ثم كان أن جعل أمره يزداد ~~علوا، وكثر أصحابه حتى كانت حلقته أعظم حلقة في المسجد، وصار هو أوسعهم في الجواب، ولم ~~يزل كذلك حتى استحكم أمره، واحتاج إليه الأمراء، وذكره الخلفاء. # محنته # على أن هذه المنزلة الرفيعة التي بلغها أبو حنيفة في العلم، والتي جعلت منه إماما في ~~الفقه، لم تشفع له عند الأمويين ms028، كما لم تشفع له من بعد عند العباسيين؛ فقد ناله من ~~هاتين الأسرتين والدولتين أذى كثير. وهذا شأن العلماء ذوي الخلق والصلابة في الحق في ~~كل عصر، العلماء الذين لا تلين قناتهم لكل غامز، ولا يسيرون في ركاب كل صاحب سلطان، كما ~~نرى اليوم. # فقد أراده يزيد بن عمر بن هبيرة، وكان عامل مروان على العراق في دولة بني أمية، على ~~أن يلي له قضاء الكوفة، فأبى، فضربه مائة وعشرة أسواط في كل يوم عشرة أسواط، وهو على ~~الامتناع، فلما رأى تصميمه على الرفض خلى سبيله. # 19 # ويذكرون أيضا أن الربيع بن عاصم، وهو مولى لبني فزارة. قال: أرسلني يزيد ~~بن عمر بن هبيرة فقدمت بأبي حنيفة، فأراده على بيت المال فأبى، فضربه أسواطا عشرين. # 20 # هذا في زمن بني أمية، وكذلك كان الأمر في زمن العباسيين، وفي أيام أبي جعفر المنصور ~~نفسه، هذا الخليفة الذي أعجب - كما رأينا - بعلم الإمام وأظهر له عرفانه بقدره. # فقد أشخصه الخليفة من الكوفة إلى بغداد، وأراده على أن يلي القضاء، فأبى، فحلف عليه ~~ليفعلن، فحلف أبو حنيفة ألا يفعل، فقال الربيع الحاجب: ألا ترى أمير المؤمنين ~~يحلف! فقال أبو حنيفة: أمير المؤمنين على كفارة أيمانه أقدر مني على كفارة أيماني. وأبى ~~أن يلي، فأمر به إلى الحبس في الوقت. # 21 # ويحدث سليمان بن الربيع عن خارجة بن مصعب بن خارجة، قال: سمعت مغيث بن بديل يقول: ~~قال خارجة: دعا أبو جعفر أبا حنيفة إلى القضاء، فأبى عليه، فحبسه، ثم دعا به يوما ~~فقال: أترغب عما نحن فيه؟! قال: أصلح الله أمير المؤمنين: لا أصلح للقضاء. فقال له: ~~كذبت. قال: ثم عرض عليه الثانية، فقال أبو حنيفة: قد حكم علي أمير المؤمنين أني لا ~~أصلح للقضاء؛ لأنه ينسبني إلى الكذب؛ فإن كنت كاذبا فلا أصلح، وإن كنت صادقا، فقد ~~أخبرت أمير المؤمنين أني لا أصلح. قال: فردوه إلى الحبس. # 22 # وأخيرا يروي البغدادي بعد ما تقدم عن الربيع بن يونس أنه قال: رأيت أمير المؤمنين ~~المنصور ينازل # 23 # أبا ms029 حنيفة في أمر القضاء وهو يقول: اتق الله ولا ترع أمانتك إلا من ~~يخاف الله، والله ما أنا بمأمون الرضا، فكيف أكون مأمون الغضب! ولو اتجه الحكم عليك، ~~ثم هددتني أن تغرقني في الفرات، أو أن تلي الحكم. # 24 # لاخترت أن أغرق. ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك، فلا أصلح لذلك. فقال ~~له: كذبت، أنت تصلح. فقال: قد حكمت لي على نفسك؛ كيف يحل لك أن تولي قاضيا على ~~أمانتك وهو كذاب! # 25 # المسألة كما يروون كانت مسألة طلب أن يتولى القضاء، وهو يأبى فيعاقب بالضرب والسجن ~~على هذا الإباء؛ ولكننا نرى الأمر كأن شيئا وراء ذلك، وأن السبب الحقيقي لهذا الأذى ~~الذي ناله الإمام، أيام الأمويين والعباسيين على السواء هو ما كان معروفا من ميله لآل ~~البيت بعامة زمن الأمويين، ثم للعلويين بخاصة زمن أبناء عمومتهم العباسيين. # 26 # ولعل من دلائل هذا الذي نرى، قولة الخليفة أبي جعفر العباسي له، وهو يجادله أو ~~ينازله: أترغب عما نحن فيه! هذا فضلا، عما عرف به من الورع ويسر الحال إلى درجة ~~القدرة على صلة إخوانه وأصحابه بالمال الكثير، فلا حاجة له إذا لعون ذوي السلطان في ~~أمر يلابسه كثير من الشبهات. # أخلاقه وسجاياه # تطيل كتب التاريخ وكتب «المناقب»، وبخاصة هذه الأخيرة، في الثناء على الإمام ~~أبي حنيفة، وفي بيان ما فطر عليه من السجايا الفاضلة، وما أخذ به نفسه من الأخلاق ~~الحميدة، فهو ورع عظيم الخشية لله، وهو صبور على ما يلقى من الأذى في ذات الله، وهو ~~صلب في الحق يستهين بكل ما يلقى في سبيله، وهو عظيم البر بوالديه وأستاذه، وهو شديد ~~العناية بأصحابه وتلاميذه، وعظيم في مواساتهم وصلتهم، وهو فطن وألمعي في ذكائه، وهو ... ~~إلى آخر ما يذكرون، حتى لتكاد تتمثله أكمل الناس في زمنه أو غير زمنه، حاشا رسول الله # صلى الله عليه وسلم # وأصحابه رضوان الله عليهم. # ونحن هنا، لا نجد ضروريا أن نستقصي كل ما ذكره في هذه النواحي، ولا نجدنا في حاجة ~~لتحقيق كل ما جاءوا ms030 به؛ لنعلم مداه من الصدق والدقة وتحري ما كان واقعا فعلا. # ومن أجل ذلك، نكتفي بأن نتكلم عن بعض أخلاقه وسجاياه الاجتماعية، والتي تتصل بأوثق ~~الروابط بعلمه، نعني ما كان منها نابعا من تحققه بعلم الفقه وشريعة الله ورسوله، وبذلك ~~يكون عالما عاملا وجامعا لفضيلة العلم والعمل به؛ ولهذا نتكلم عن: ~~(1) # صلته بأصحابه وتلاميذه ومواساته لهم. ~~(2) # ورعه وخشيته لله. ~~(3) # صلابته في الحق، أو فيما يعتقد أنه حق. # فعن صلته بتلاميذه، نرى كل من كتبوا عنه يجمعون على أنه كان شديد الكرم، حسن ~~المواساة لإخوانه، وقد قدمنا صنيعه في شراء حوائج الأشياخ المحدثين وأقواتهم وكسوتهم ~~سنة بعد سنة. وأشرنا فيما سبق أيضا، ونحن نتحدث عن جلوسه للتعليم، إلى حسن مواساته ~~لإخوانه، وفي هذا يقول المكي في مناقبه: «وأسبغ على كل ضعيف منهم، وأهدى إلى كل موسر.» ~~كما يقول في موضع آخر: «وكان ... معروفا بالإفضال على كل من يطيف به.» # وهذ خلق يرجع، فيما نعتقد، إلى ما كان من صلة وثيقة بين علم أبي حنيفة وعمله؛ ~~فالعالم الحق بدين الله وشريعته يرى في العلم لذة لا تدانيها لذة المال، كما يرى في ~~بذله من جاهه وماله لإخوانه فضلا لا يدانيه أي فضل، وهكذا كان أبو حنيفة رضوان الله ~~عليه. # وعن ورعه وخشيته الله تعالى، فلاحظ أولا أن الأصول التي لا بد للفقيه من الرجوع ~~إليها معروفة؛ ومن هذه الأصول اثنان نقليان؛ وهما: الكتاب والسنة. ومع هذا لا بد ~~للفقيه من استعمال عقله غاية الجهد، ليصح له أن يوصف بأنه فقيه من أهل الاجتهاد. # ثم هناك مسائل - وما أكثرها - تحير الفقيه في إيجاد حلول فقهية لها، ومن ثم، ~~فهو في حاجة ماسة إلى عون الله وحسن توفيقه للحق. # ومما يجعل الإنسان حريا بهذا العون الإلهي، أن يكون قلبه عامرا بالله وخشيته ~~وتقواه، بعيدا كل البعد عن المعاصي ومظانها، مراقبا لله في سره وعلنه؛ أي أن يكون ~~ورعا؛ فإن القلب متى كان فارغا من الاشتغال بما لا ينبغي، كان مستعدا لقبول فيض ~~الله وعلمه ms031 كما يقول المتصوفة؛ ولهذا نراهم يجعلون ذلك طريقا للوصول للمعرفة والعلم ~~الحقيقيين. # وقد كان أبو حنيفة وافر الحظ من ذلك كله، حتى لو بالغنا في الحذر من إفراط أصحاب ~~المناقب وأمثالهم؛ فإن المؤرخين يكادون يتفقون على أنه كان حسن الليل يقطعه بالصلاة ~~وقراءة القرآن، حتى ليقول يحيى بن أيوب الزاهد: كان أبو حنيفة لا ينام الليل. كما يقول ~~عنه أبو الجويرية: لقد صحبته أشهرا فما منها ليلة وضع فيها جنبه: وبلغ من خوفه لله ~~تعالى وخشيته له أنه قام ليلة بهذه الآية: # بل الساعة ~~موعدهم والساعة أدهى وأمر # يرددها ويبكي ويتضرع؛ ولهذا ~~يقول عبد الله بن المبارك: «ما رأيت أحدا أورع من أبي حنيفة، وقد جرب بالسياط ~~والأموال.» # وقدمنا أنه حين باع شريك له متاعا، ولم يبين للمشتري عيب ثوب معين منه ~~نسيانا، ثم لم يعلم بعد لمن باعه، تصدق بالثمن كله، حتى لا يدخل شيء فيه شبهة في ~~ذمته. # ونكتفي في ورع أبي حنيفة بهذه النقول؛ ففيها كفاية للتدليل على ما أجمعوا عليه من ~~ورعه وخشيته لله تعالى؛ الأمر الذي لا بد منه للتفرغ للعلم في إخلاص، كما لا بد منه ~~ليكون المرء أهلا لفيض الله تعالى وزيادته من علمه. # 27 # أما عن صلابته في الحق، أو فيما يرى أنه حق، فنرى هذا الخلق ينبع أيضا من العلم الحق ~~الذي تحقق به الإمام، فالعالم الذي يطلب الحق لذاته. يرى نفسه سعيدا متى هدي إليه، ~~ومن هنا يستمسك به استمساكا شديدا، ولا يبالي في ذلك غضب السلطان وأصحاب السلطان، ~~ويتحمل في هذا السبيل كل ما يلقى من عنت وأذى وبلاء؛ لأنه يؤثر رضا الله عنه في كل ~~ما يأتي ويذر. # وفي هذا يذكر مليح بن وكيع أنه سمع أباه يقول: «كان والله أبو حنيفة عظيم الأمانة، ~~وكان الله في قلبه جليلا كبيرا عظيما، وكان يؤثر رضا ربه على كل شيء، ولو أخذته ~~السيوف في الله لاحتمل.» # 28 # وقد ذكرنا آنفا ما كان من رفضه ولاية القضاء رفضا باتا، مستهينا بكل ~~ما لقيه ms032 من أذى في سبيل ذلك. # ألمعيته وفطنته # وأخيرا كان أبو حنيفة ذكيا ألمعيا فطنا، وهذه سجية فطر عليها، لا خلق ~~اكتسبه، وهي سجية كانت من العوامل الفعالة فيما بلغه من علم صار فيه إماما في عصره، ~~وإلى يومنا هذا، بعكس الأخلاق التي ذكرناها من قبل؛ فقد كانت نتيجة لهذا العلم وتحققه ~~به. # وليس من اليسير للباحث أن يستقصي أسباب هذه السجية ودلائلها؛ ولكن من اليسير علينا أن ~~نسجل هنا بعض مظاهرها، نفعل ذلك أخذا من حوادث خمسة، وهي: ~~(1) # الحادثة الأولى يرويها يحيى بن معين فيقول: دخل الخوارج مسجد الكوفة، ~~وأبو حنيفة وأصحابه جلوس، فقال أبو حنيفة (لأصحابه): لا تبرحوا، فجاءوا حتى ~~وقفوا عليهم، فقالوا لهم: ما أنتم؟ فقال أبو حنيفة: نحن مستجيرون: فقال ~~أمير الخوارج: دعوهم وأبلغوهم مأمنهم. # 29 ~~(2) # والثانية: كانت مناظرة بين أبي حنيفة وبين الضحاك الشاري، وكان من ~~الخوارج أيضا؛ فقد قدم الكوفة، ولقي أبا حنيفة وقال له: تب. فقال: مم ~~أتوب؟ قال: من قولك بتجويز الحكمين. فدعاه للمناظرة؛ ولما أقبل الشاري، ~~قال أبو حنيفة: فإن اختلفنا في شيء مما تناظرنا فيه، فمن بيني يحكم وبينك؟ ~~قال الضحاك: اجعل أنت من شئت. فقال أبو حنيفة لرجل من أصحاب الضحاك: اقعد ~~فاحكم بيننا فيما نختلف فيه إن اختلفنا. ثم قال للضحاك: أترضى بهذا بيني ~~وبينك؟ قال: نعم. فقال أبو حنيفة: فأنت قد جوزت التحكيم! فانقطع الضحاك. # 30 ~~(3) # وأما الثالثة فقد دخلها عنصر السياسة، وبهذا العنصر الذي فطن له ~~أبو حنيفة انتصر على خصمه، ويرويها أبو يوسف. # 31 # فيقول: دعا المنصور أبا حنيفة، فقال الربيع حاجب الخليفة وكان ~~يعادي الإمام: يا أمير المؤمنين! هذا أبو حنيفة يخالف جدك؛ كان عبد الله بن ~~عباس يقول: «إذا حلف على اليمين ثم استثنى بعد ذلك بيوم أو يومين جاز ~~الاستثناء.» وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاستثناء إلا متصلا باليمين! فقال ~~أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين! إن الربيع يزعم أن ليس لك في رقاب جندك بيعة، ~~قال: وكيف؟ قال: يحلفون لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون، فتبطل ms033 أيمانهم. ~~فضحك المنصور وقال: يا ربيع! لا تعرض لأبي حنيفة! ~~(4) # والرابعة يرويها ابن شبرمة الفقيه. # 32 # فيقول: كنت شديد الإزراء على أبي حنيفة (وهذه حالة ترى كثيرا ~~بين الزملاء المتعاصرين) فحضر الموسم وكنت حاجا يومئذ، فاجتمع عليه قوم ~~يسألونه، فوقفت من حيث لا يعلم من أنا، فجاءه رجل خراساني، فقال: ~~يا أبا حنيفة، قصدتك أسألك عن أمر قد أهمني وأعجزني. قال: ما هو؟ قال: ~~لي ولد ليس لي غيره، فإن زوجته طلق وإن سريته أعتق، وقد عجزت عن هذا، ~~فهل من حلة؟ فقال له للوقت: اشتر لنفسك الجارية التي يرضاها هو ثم ~~زوجها منه؛ فإن طلق رجعت مملوكتك إليك، وإن أعتق أعتق ما لا يملك. وهنا ~~يقول ابن شبرمة: فعلمت أن الرجل فقيه، فمن يومئذ كففت عن ذكره إلا ~~بخير. ~~(5) # وأخيرا، هذه حادثة تكشف لنا أيضا عن فطنته لما يراد منه، وسرعة خاطرة ~~في التخلص، وقد وقعت بينه وبين فقيه معاصر، وكان بينهما ما يكون عادة بين ~~المتعاصرين الزملاء في العمل، وهو محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى الفقيه، ~~قاضي الكوفة، المتوفى عام 148ه وهو على القضاء. # ويروي هذه الحادثة يوسف بن خالد السمتي في حديث طويل، يذكر فيه قدومه ~~على أبي حنيفة من البصرة، إلى أن يقول: # 33 # خرجنا مع أبي حنيفة في نزهة إلى ناحية بالكوفة، وأمسينا ~~فرجعنا، فإذا نحن بابن أبي ليلى راكبا على بغلته قد أقبل، فسلم علينا ~~وساير أبا حنيفة، فمررنا ببستان فيه قوم متنزهون، ومعهم مغنيات وعوادات ~~وغير ذلك، وهن مقبلات، حتى حاذيناهن فسكتن، فقال أبو حنيفة: قد أحسنتن، ~~ومضينا إلى مفرق الطرق فتفرقنا. # فأضمر ابن أبي ليلى في نفسه أنه وجد فرصة في أبي حنيفة؛ يقول للمغنيات: ~~أحسنتن! فبعث إليه في شهادة عنده، فأتاه وأقام الشهادة على ما ينبغي، فما ~~كان من ابن أبي ليلى إلا أن قال له: شهادتك ساقطة، فقال أبو حنيفة: لم؟ ~~قال: لقولك للمغنيات أحسنتن؛ لأن هذا رضا منك بمعاصي الله تعالى. فقال ~~أبو حنيفة: متى قلت لهن: أحسنتن، حين ms034 غنين أو سكتن؟ فقال لا، بل حين ~~سكتن. فقال: الله أكبر، إنما أردت بقولي: أحسنتن، في السكوت، لا في ~~الغناء! فسكت ابن أبي ليلى وأثبت شهادته. ثم قرأ أبو حنيفة هذه الآية: # ولا يحيق المكر السيئ إلا ~~بأهله ~~. # قال: فكان ابن أبي ليلى يحذر أبا حنيفة بعد ذلك حذرا شديدا، وكان إذا ~~وقعت له مسائل غلاظ شداد دس بها إلى أبي حنيفة، فكان يفطن لها ~~ويقول: # وإذا تكون عظيمة أدعى لها # وإذا يحاس الحيس يدعى جندب # هكذا كان أبو حنيفة في حياته وسيرته: ذكيا ألمعيا، وفقيها فطنا، ورعا عظيم ~~الخشية لله تعالى، صلبا في الحق وعلى خلق عظيم ... ولا عجب في شيء مما نقوله؛ فهذا ~~الفضيل بن عياض يقول عنه، كما يروي المكي في مناقبه: # 34 ~~«كان أبو حنيفة رجلا فقيها معروفا بالفقه، مشهورا بالورع، واسع المال، ~~معروفا بالإفضال على كل من يطيف به، صبورا على تعليم العلم بالليل والنهار، حسن الليل، ~~كثير الصمت قليل الكلام، حتى ترد مسألة في حرام أو حلال، فكان يحسن أن يدل على الحق، ~~هاربا من مال السلطان.» # وهذه الخلال التي اجتمعت له، كانت حرية حقا أن تجعل منه عالما فذا، ومفكرا ~~سليم التفكير، وطالبا للحق لا يعدوه إلى غيره، وهكذا كان رضوان الله عليه. وقد بلغ من ~~إخلاصه للعلم، ومن طلبه للحق فيما ينظر فيه، أنه لم يكن بالرجل الذي يفتن برأيه فلا ~~يرى الحق إلا فيه، فيعمل على أن يفرضه على غيره فرضا. وقد عبر هو نفسه عن هذا ~~المعنى، بهذه القولة المأثورة عنه، وهي: «قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن ~~جاء بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا.» # علينا بعد ذلك أن نتكلم عن طريقته وفقهه، لنعرف إن كان له مذهب خاص واضح للعالم، ~~وماذا يقوم عليه هذا المذهب إن كان. # | طريقة أبي حنيفة وفقهه # هل له طريقة خاصة به؟ # نعم! علينا أن نتساءل أولا قبل الكلام عن فقه أبي حنيفة: هل له طريقة خاصة في ~~استنباط الأحكام الشرعية؛ أو ms035 بعبارة أخرى: هل كان التاريخ والمؤرخون على حق حين نسبوا ~~لأبي حنيفة مذهبا خاصا صار يعرف به؟ وإذا كان هذا حقا، فما هذه الطريقة التي ~~عرفت بأنها مذهبه؟ وإذا ما هذه الأسس والأصول التي يقوم عليها؟ # وهنا نجد الآراء تختلف، ونرى لبعض المستشرقين رأيا في هذه المسألة، أخذه بعض من ~~كتبوا من المسلمين في تاريخ الفقه وتبنوه وأخذوا يدافعون عنه، كما نرى آراء أخرى ~~للمستشرقين وغيرهم تخالف ذلك الرأي تماما. # ها هو ذا «جوينبل» المستشرق الإنجليزي المعروف، يؤكد - فيما كتبه عن أبي حنيفة في ~~دائرة المعارف الإسلامية - أنه لا أساس لما يراه كثير من الكتاب الأوروبيين من أنه ~~اصطنع أصولا مبتكرة، وأنه أسس مذهبا اعتمد فيه كل الاعتماد على القياس. ثم نراه بعد ~~ذلك يعمم الحكم على أئمة الفقه جميعا، فيقول: إنه لا يوجد بصفة عامة أي فارق بين ~~المذاهب الفقهية المختلفة في الإسلام من ناحية الأصول التي تقوم عليها. # وإذا، فليس لأبي حنيفة مذهب خاص به يستحق أن ينسب إليه، على رأي هذا المستشرق؛ بل ~~ليس لسائر الأئمة مذاهب فقهية يختلف الواحد منها عن الآخر، من ناحية الأصول التي تقوم ~~عليها. وبذلك يكون من المبالغة في القول والتجني على تاريخ الفكر أن ننسب لكل منهم ~~مذهبا فقهيا خاصا به! # وهذا الرأي نراه ماثلا بوضوح في كتابة أحد المسلمين المعاصرين، فقد تبناه دون ~~إشارة إلى من ذهبوا إليه، وردده في بضع صفحات من كتابه عن تاريخ الفقه الإسلامي. # 1 # فإن القارئ لهذه الصفحات يجد هذا التعبير بعد أن تحدث عما هو حق من تطور الفقه ~~الإسلامي، كما هو معروف من تاريخه: فهو - أي أبو حنيفة - لم يكون طريقة، وإن ما ارتبط ~~باسمه من الآثار والمعارف - كما نراه في مثل كتاب الآثار والمبسوط للشيباني - يرجع إلى ~~أصل قديم ... ولكن ما هي طريقة أبي حنيفة؟ فهل أوجد لنا حقيقة طريقة فقهية؟ الحق، أن هذا ~~موضع بحث ونظر؛ ليس من أجل أن الإمامة في هذه المسألة يجب أن تكون لغير أبي حنيفة؛ ولكن ~~من ms036 أجل أنه لا توجد في الفقه الإسلامي طريقة بالمعنى الحقيقي ! # وقد كان من اليسير أن نفهم أن الطريقة التي ينكرها الأستاذ الكاتب هنا على أبي حنيفة، ~~وعلى غيره من أئمة الفقه أيضا، هي ما يريده الغربيون بكلمة # Méthode # وما ترجمناه نحن العرب بكلمة «خطة». # نعم! كان فهم هذا سهلا ميسورا، وحينئذ لا يكون الأمر من الخطر بدرجة تدعو ~~لمناقشته؛ ولكنه أفصح عن مراده ومراد من أخذ عنهم، وهو أن المراد بالإنكار هو «المذهب» ~~لا خطة البحث والكتابة والتأليف، فقد ذكر بعد ذلك أنه: «تحت كلمة طريقة أبي حنيفة # Sysrème ~~، يترجم علميا بلفظ: مذهب أو نظام، على ما ~~هو معروف.» # نعم لأبي حنيفة مذهب # وعلى الضد من ذلك الرأي الخاطئ قال آخرون من كبار المستشرقين الأعلام بأن أبا حنيفة ~~جدير بأن ينسب إليه المذهب الذي عرف ولا يزال يعرف به، ونكتفي هنا بذكر آراء اثنين ~~من هؤلاء الأعلام، وهما: إدوارد سخاو، وجولدتسهير. # 2 # فقد جاء عن الأول، في بحث نشر بمدينة «فيينا» عام 1780م عنوانه: «حول أقدم تاريخ ~~للفقه الإسلامي» أن أبا حنيفة هو «إمام أصحاب الرأي» كما يسميه الخطيب في تهذيب النووي ~~«صاحب الرأي» كما يذكر ابن قتيبة في كتابه «المعارف». وأشار بعد ذلك إلى أن ابن النديم ~~ذكره على رأس العراقيين «أصحاب الرأي»، وأورد في هذا أبياتا لمسعود الوراق يمدح الإمام ~~بها؛ وهي: # إذا ما الناس يوما قايسونا # بآبدة من الفتيا طريفة # أتيناهم بمقياس صحيح # تلاد من طراز أبي حنيفة # إذا سمع الفقيه بها دعاها # وأثبتها بحبر في صحيفة # وإذا كان «سخاو» يرجع هنا إلى آراء مؤرخي الفكر الإسلامي ورجاله، فإن الذي يعنينا أنه ~~يقر هذه الآراء فيما نحن بصدده؛ على أنه يصرح بعد ذلك بالرأي الذي نراه، وذلك إذ يقول ~~ما نصه: # وهنالك ثلاثة رجال على وجه الخصوص هم الذين تناولوا بادئ ذي بدء ما جمع من ~~المواد منذ تأسيس الإسلام، حتى أواسط النصف الأول من القرن الثاني الهجري، ~~ووحدوه، وجعلوا منه نظما فقهية كاملة ... وقد انتشرت تعاليمهم عن طريق عدد ms037 كبير ~~من التلاميذ في أقطار برمتها من دولة الخلافة، ولقيت اعتبارا شرعيا، ~~وهؤلاء هم: أبو حنيفة في العراق، المتوفى عام 150ه. والأوزاعي (وهو أقلهم شهرة) ~~في سوريا، المتوفى عام 157ه، ومالك بن أنس في الحجاز، المتوفى عام 159ه. # وبعد «إدوارد سخاو» نجد «جولدتسهير»، في بحث ضخم قيم له عن أهل الظاهر، نشر بمدينة ~~«ليبزج» عام 1884م، يتحدث عن مدى نجاح استعمال القياس والاستحسان في عهد أبي حنيفة، ~~وإنه من العسير تقدير مدى هذا النجاح تقديرا دقيقا، وذلك - كما يقول - لعدم المصادر ~~المحايدة لتاريخ أقدم مراحل النمو في الفقه الإسلامي. # ثم يذكر بعد ذلك أن كل ما يمكن أن نعلمه هو أمران: # أولا: # أن الفقه المبني على الرأي، الذي لا يعترف بأهمية راجحة للمواد ~~المأخوذة عن المصادر المأثورة، لم يصل إلى ازدهار قبل ~~أبي حنيفة. # ثانيا: # أن أبا حنيفة قام بالمحاولة الأولى في البناء على الأعمال السابقة، ~~لتقنين الشرع الإسلامي على أساس القياس، فذلك ما لم يحصل من قبل إلى ~~زمنه، فقد ظهر في عهده عرض منهجي للفقه الإسلامي المبني على أساس ~~القياس. # رأي الفقهاء والمعاصرين فيه # وبعد رأي هذين المستشرقين في أبي حنيفة، وفي أنه كان صاحب طريقة ومذهب في الفقه يقوم ~~على الرأي والقياس، ينبغي أن نأتي على شيء من آراء الفقهاء والمعاصرين له في فقهه ~~وأسسه، وحينئذ يتبين لنا بوضوح أن المذهب الذي عرف حري أن ينسب حقا إليه، ~~وسنكتفي هنا بمرجع واحد، وهو الخطيب البغدادي؛ # 3 # وذلك لأننا سنتكلم فيما بعد بتفصيل عن هذه الأسس والأصول لمذهب أبي حنيفة؛ ~~ولأن الخطيب جمع لنا في كتابه ما قيل عن الإمام مدحا وذما في غير محاباة بطي إحدى ~~الناحيتين. # ها هو ذا محمد بن سلمة يذكر أن خلف بن أيوب قال: «صار العلم من الله تعالى إلى محمد # صلى الله عليه وسلم ~~، ثم صار إلى أصحابه، ثم صار إلى التابعين، ثم صار إلى أبي حنيفة وأصحابه، فمن ~~شاء فليرض، ومن شاء فليسخط.» # 4 # ثم نرى الإمام الشافعي يقول - كما يحدث عنه ms038 حرملة بن يحيى: «من أراد أن يتبحر في ~~الفقه فهو عيال على أبي حنيفة.» ويذكر أبو عبيد أنه سمع الشافعي يقول: «من أراد أن يعرف ~~الفقه فليلزم أبا حنيفة وأصحابه، فإن الناس كلهم عيال عليه في الفقه.» ويذكر عبد الله ~~بن الزبير الحميدي أنه سمع سفيان بن عيينة يقول: «شيئان ما ظننت أنهما يجاوزان قنطرة ~~الكوفة وقد بلغا الآفاق؛ قراءة حمزة، ورأي أبي حنيفة.» # ويحدث علي بن المديني أنه سمع عبد الرزاق ~~يقول: «كنت عند معمر فأتاه ابن مبارك، فسمعنا معمرا يقول: ما أعرف رجلا يحسن أن ~~يتكلم في الفقه، أو يسعه أن يقيس ويشرح لمخلوق طريق النجاة في الفقه، أحسن معرفة من ~~أبي حنيفة ...» وكذلك يحدث عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنه سمع أباه يقول: «ما رأيت ~~أحدا أفقه من أبي حنيفة ...» وفي الموازنة بينه وبين ~~معاصره سفيان الثوري يقول أبو مطيع الحكم بن عبد الله: «ما رأيت صاحب حديث أفقه من ~~سفيان الثوري، وأبو حنيفة أفقه منه.» وقد سئل يزيد بن هارون: أيما أفقه، أبو حنيفة أو ~~سفيان؟ فقال: «سفيان أحفظ للحديث، وأبو حنيفة أفقه.» # وبعد ذلك كله، آن لنا أن نأخذ مما نقله الخطيب من هذه الطعون في أبي حنيفة وذمه، وهو ~~شيء كثير، # 5 # دليلا على أنه كان حقا صاحب طريقة ومذهب يعتبر جديدا في الفقه؛ فإن ~~كثيرا من هذه الطعون يقوم على رفضه كثيرا من الأحاديث والآثار، وجنوحه إلى الرأي ~~والقياس، وهذا ما اعتبره معاصروه ومن إليهم طريقة أو مذهبا جديدا في الفقه واستنباط ~~أحكامه. # فإنه ليروى أنه خالف مائتي حديث، بل يذكر يوسف بن أسباط أنه رد على رسول الله # صلى الله عليه وسلم # أربعمائة حديث أو أكثر، ويصرح بعضهم بأن أمر الناس كان مستقيما حتى ظهر أبو ~~حنيفة بالكوفة، وعثمان البتي بالبصرة، وربيعة بن عبد الرحمن بالمدينة، فقالوا ~~بالرأي، فضلوا وأضلوا. وسيجيء الرد عن هذه التهمة في موضعه إن شاء الله تعالى، وحينئذ ~~يتبين أنه لا أساس لها. # على أنه من الأمانة في ms039 البحث أن نذكر أن «شاه ولي الله الدهلوي» يقول عن أبي حنيفة ~~ومذهبه ما ننقله حرفيا عنه: # 6 ~~«كان أبو حنيفة رضي الله عنه ألزمهم بمذهب إبراهيم النخعي وأقرانه، لا ~~يجاوزه إلا ما شاء الله، وكان عظيم الشأن في التخريج على مذهبه، دقيق النظر في وجوه ~~التخريجات، مقبلا على الفروع أتم إقبال. وإن شئت أن تعلم حقيقة ما قلنا، فلخص أقوال ~~إبراهيم وأقرانه من كتاب الآثار لمحمد رحمه الله، وجامع عبد الرزاق، ومصنف أبي بكر بن ~~أبي شيبة، ثم قايسه بمذهبه تجده لا يفارق تلك الحجة إلا في مواضع يسيرة، وهو في تلك ~~اليسيرة أيضا لا يخرج عما ذهب إليه فقهاء الكوفة.» # وإذا، فأبو حنيفة - في رأي ولي الله الدهلوي - ليس له من فضل في بناء المذهب الذي ~~ينسب إليه إلا فيما يتصل بخريج المسائل ووجوه هذا التخريج، وذلك على أصول مذهب النخعي ~~الذي عرفه عن شيخه حماد بن أبي سليمان، ثم بالمهارة في التفريع على هذه الأصول؛ وذلك ~~كله ليكون مذهبا قابلا للتطبيق، ووافيا بحاجات الحياة العملية المتجددة دائما في كل ~~زمان ومكان. # ونحن من جانبنا نرى أن في هذا القول غمطا كبيرا لقيمة أبي حنيفة في تشييد المذهب ~~الذي عرف به، والأدلة على هذا نراها قاطعة وملموسة، إذا ما أجلنا النظر في كتب الإمام ~~محمد بن الحسن التي دون فيها هذا المذهب، وهي كتب «ظاهر الرواية» المعروفة، والتي ~~تسمى أيضا بكتب الأصول، وكتب أو مسائل النوادر. # فمن هذه الكتب التي تعتبر عمد المذهب، نرى ~~الإمام لم يلتزم دائما رأي إبراهيم النخعي؛ بل كانت له آراء سرت إليه من غيره من ~~الفقهاء السابقين، كما كانت له آراء مستقلة ذهب إليها، بناء على الأصول التي كان يرجع ~~إليها والتي سنتحدث عنها بعد قليل. # ومن الأدلة على استقلاله بالرأي عن حماد وشيخه إبراهيم النخعي، هذه المثل التي نكتفي ~~بذكرها، وكلها مأخوذة من كتاب الآثار لمحمد بن الحسن الذي أشار إليه الدهلوي نفسه: # 7 ~~(أ) # يرى النخعي أن من قال لامرأته: «أنت علي حرام ms040.» ونوى بذلك الطلاق، ~~كانت طلقة واحدة رجعية، على حين يرى أبو حنيفة: أن الأمر يكون على ما نوى ~~واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، وإن نوى الكذب فليس بشيء. ~~(ب) # وإذا قال الزوج لزوجته: «أمرك بيدك.» فاختارت زوجها، كان ذلك طلقة ~~واحدة، على حين يرى أبو حنيفة أن الأمر يكون على ما نواه الزوج؛ فإن نوى ~~واحدة أو اثنتين فهي واحدة بائن، وإن نوى ثلاثا فهي ثلاث. ~~(ج) # ويرى النخعي أن من أقرض آخر شيئا من الورق ثم قضى المدين دينه بأفضل ~~منه كان ذلك مكروها؛ لأن الورق بالورق فيه شبهة الربا. ويرى أبو حنيفة ~~أنه لا بأس في هذا ما لم يكن شرطا اشترطه عليه، فإذا كان شرطا اشترطه فلا ~~خير فيه. ~~(د) # وإذا سرق رجل وقطعت يده جزاء ما اقترف، هل يضمن المال الذي سرقه؟ يرى ~~النخعي أنه يضمن. ويرى أبو حنيفة أنه لا يضمن؛ إلا أن يوجد المسروق بعينه ~~فيرد حينئذ لصاحبه. # ومع ذلك، نحن نؤمن بالتطور وبعامل الزمن في إنضاج الآراء والنظريات والمذاهب، وهذا ما ~~نجده في الفقه وفي غيره من ضروب المعارف والعلوم؛ وإلا كان أمرا يتعذر تفسيره أن نرى ~~الإمام مالك بن أنس مثلا يكتب موطأه المعروف. # لقد وقف الإمام أبو حنيفة على ما استطاع أن يقف عليه من سنة الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~، وأقوال ~~الصحابة ومن تلاهم من التابعين، وعني بالنظر في تعليل الأحكام التشريعية كما وردت في ~~الكتاب والسنة، فكان له بعد ذلك أن ينظم هذه المادة الفقهية الضخمة، وأن يجعل من ~~«الرأي» الذي عرف من قبل «القياس» الذي استخدمه وأجاد استخدامه في استنباط الأحكام ~~بقياس المجهول حكمه على ما نص على حكمه. # وبهذا، كان له فضل وضع طريقة منظمة - أو مذهب منظم - لبناء جانب كبير من الفقه على ~~أساس القياس، وصارت هذه الطريقة معترفا بها، وسار بها تلاميذه وأنصاره من بعده إلى آخر ~~المدى. والأمر في ذلك طبيعي وبدهي؛ فكل جيل ينتفع بعمل الأجيال السابقة، كما يضم إلى ما ~~ورثه من ms041 تراث، لبنات أخرى. # وبهذا أيضا يكون الفقه، قبل غيره من العلوم، يصور لنا سلسلة متصلة الحلقات من الجهود ~~والتطور الدائم الذي يجب ألا ننساه أو ننسى أثره الكبير. وأخيرا، نذكر أن باحثا ~~محدثا، هو المرحوم الأستاذ أحمد أمين، تناول أبا حنيفة وفقهه بإيجاز، وكان مما انتهى ~~إليه قوله: # 8 # مما لا نشك فيه أن أبا حنيفة خرج على الناس بمذهب جديد، فيه حرية للعقل بكثرة ~~استعمال الرأي والقياس، وبما استتبع ذلك من كثرة الفروع ورجوعها إلى أصول، وبمقدرة ~~فائقة في الاستنباط، وبشجاعة في مواجهة المسائل - حتى الفرضية منها - والإفتاء بها، ~~وبتعرف وجوه الحيل في المسائل في الحدود التي ذكرناها، وبتقريب الفقه إلى ~~الأذهان. # أصول أبي حنيفة # والآن، وقد ثبت - كما رأينا - أن لأبي حنيفة طريقة في استنباط الأحكام لها ما يميزها، ~~ومذهبا عرف به حقا، فما أسس هذه الطريقة، وما أصول هذا المذهب؟ ولعلنا نهتدي بفضل ~~الله وعونه للجواب عن هذا السؤال، إذا بحثنا أولا رأي الإمام نفسه في فقهه وأصوله، ثم ~~بحثنا آراء خصومه في بعض هذه الأصول؛ فبهذا وذاك، نصل إلى الحق الذي نرجوه. # فمن المسألة الأولى، ننقل عن ابن عبد البر صاحب الانتقاء (ص142 وما بعدها) هذه ~~الروايات، التي نراها كلها أو بعضها عند غيره أيضا وهي: ~~(أ) # سمع رجل أبا حنيفة يقول: آخذ بكتاب الله، فما لم أجد، فبسنة رسول الله # صلى الله عليه وسلم ~~، فما لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله # صلى الله عليه وسلم # أخذت بقول ~~أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، وأدع من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى ~~قول غيرهم. ~~(ب) # ويذكر ابن المبارك أنه سمع سفيان الثوري يقول بأن أبا حنيفة كان شديد ~~الأخذ للعلم، ذابا عن حرم الله أن تستحل، يأخذ بما صح عنده من ~~الأحاديث التي كان يحملها الثقات، وبما صح عنده من فعل رسول الله # صلى الله عليه وسلم ~~، ~~وبما أدرك عليه علماء الكوفة، ثم شنع عليه قوم يغفر الله لنا ولهم. ~~(ج) # ويروي يحيى ms042 بن خريس أن أبا حنيفة قال: إذا لم يكن في كتاب الله ولا في ~~سنة رسول الله، نظرت في أقاويل الصحابة، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم. ~~فإذا انتهى الأمر، أو جاء الأمر، إلى إبراهيم (النخعي) والشعبي وابن سيرين، ~~والحسن، وعطاء، وسعيد ابن المسيب، وعدد رجالا؛ فقوم اجتهدوا، فأجتهد ~~كما اجتهدوا. ~~(د) # ويروي أبو حمزة أنه سمعه يقول: إذا جاءنا الحديث عن رسول الله # صلى الله عليه وسلم # أخذنا به، وإذا جاءنا عن الصحابة تخيرنا، وإذا جاءنا عن التابعين ~~زاحمناهم. ~~(ه) # ويحدث أبو عصمة أنه سمعه يقول: ما جاءنا عن رسول الله # صلى الله عليه وسلم # قبلناه ~~على الرأس والعينين، وما جاءنا عن أصحابه رحمهم الله اخترنا منه، ولم نخرج ~~عن قولهم (لعل الصحيح: أقوالهم)، وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن ~~رجال، ثم يختم الراوي حديثه بقوله: وأما غير ذلك فلا تسمع التشنيع. # وإذا أضفنا إلى هذه النقول ما هو مجمع عليه من المؤرخين من أن أبا حنيفة كان إمام ~~أهل الرأي والقياس، يتبين لنا أن أصول مذهبه كانت القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، ~~وما إليه من الاستحسان. # تهمته بالغلو في القول برأيه # ولكن، نراه يذهب في الاجتهاد بالرأي إلى حد بعيد في مسائل كثيرة تجاوز الحصر، وذلك ~~لبيئته التي نشأ بها، وكثرة مسائلها ومشاكلها التي لا توجد في جميعها نصوص يرجع إليها ~~في إيجاد حلول وأحكام لها، ومن ثم، نرى خصومه، يكثرون عليه من التشنيع، ويرمونه ~~برفض كثير من الأحاديث والعمل برأيه، وهذه هي المسألة الثانية التي يجب بحثها. # وقد أشرنا آنفا إلى هذه التهمة، وهنا موضع الكلام عليها بشيء من التفصيل، ومرجعنا ~~الأول فيها هو الخطيب البغدادي في كتابه المعروف «تاريخ بغداد»: # 9 ~~(أ) # يروي أبو إسحاق الفزاري أنه كان يأتي أبا حنيفة، فيسأله عن الشيء من ~~الغزو، فسأله عن مسألة فأجاب فيها، فقال له إنه يروى فيها عن النبي # صلى الله عليه وسلم # كذا وكذا، فقال: دعنا من هذا. ~~(ب) # ويقول سفيان بن عينية: «ما رأيت أجرأ ms043 على الله من أبي حنيفة: كان يضرب ~~الأمثال لحديث رسول الله # صلى الله عليه وسلم # فيرده ، بلغه أني أروي: «البيعان ~~بالخيار ما لم يفترقا.» # 10 # فجعل يقول: أرأيت إن كانا في سفينة، أرأيت إن كانا في سجن، ~~أرأيت إن كانا في سفر، كيف يفترقان؟!» ~~(ج) # ويذكر أبو صالح الفراء أنه سمع يوسف بن أسباط يقول: رد أبو حنيفة على ~~رسول الله # صلى الله عليه وسلم # أربعمائة أو أكثر، فقلت له: يا أبا محمد، تعرفها؟ قال: ~~نعم. قلت أخبرني بشيء منها، فقال: قال رسول الله # صلى الله عليه وسلم ~~: «للفرس سهمان ~~وللرجل سهم.» قال أبو حنيفة: أنا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم مؤمن! ~~وأشعر رسول الله # صلى الله عليه وسلم # البدن، وقال أبو حنيفة: الإشعار مثلة ... وكان ~~النبي # صلى الله عليه وسلم # يقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر، وقال أبو حنيفة: ~~القرعة قمار. ~~(د) # ويروون أن حماد بن سلمة قال، وقد ذكر أبا حنيفة: إن أبا حنيفة استقبل ~~الآثار واستدبرها برأيه. وفي رواية أنه قال: إن أبا حنيفة استقبل الآثار ~~والسنن فردها برأيه. # ونقف إلى هذا الحد في نقل هذه الطعون التي أطال فيها الخطيب، وذكر منها الكثير؛ ~~لنلتمس الطريق إلى الحق فيما نقلناه أولا عن أبي حنيفة ومن وصفوا فقهه وأصوله كما ~~سمعوا منه، وفيما نقلناه عن هؤلاء الطاعنين. # وهذا الطريق في رأينا هو أن ننظر أولا فيما يؤخذ من أقوال أبي حنيفة نفسه ردا على ~~ما اتهم به من تجافيه عن السنن والآثار، لا لسبب إلا لجنوحه إلى اجتهاده ورأيه الخاص، ~~ثم ننظر في دفاع القدامى عنه، ومنهم معاصرون له؛ وبعد هذا وذاك، ننظر فيما كتبه بعض ~~المحدثين المعاصرين لنا في هذه المسألة، وأخيرا ننتهي ببيان الرأي الذي نعتبره الحق ~~فيما اختلف فيه أولئك الناس من قدامى ومحدثين. تلك إذا، أربع نقط نتكلم عن كل منها ~~بإيجاز، ثم نعقبها النتيجة التي نستخلصها منها. # رده هو نفسه على ذلك # لقد أحس أبو حنيفة بهذه التهمة في ms044 حياته التي لهج بها كثير من الناس، فلم ير بدا ~~من أن يرد عن نفسه، وكان من ذلك ما سبق أن نقلناه من توضيح طريقته وأصول مذهبه، هذه ~~الطريقة وتلك الأصول التي يمكن إيجازها في قوله نفسه: إذا جاء الحديث عن النبي # صلى الله عليه وسلم # لم نمل عنه إلى غيره وأخذنا به، وإذا جاء عن الصحابة تخيرنا، وإذا جاء عن التابعين ~~زاحمناهم. ومن المفهوم أنه يريد «بالحديث» الذي يجيء عن الصحابة والتابعين، هو الآثار ~~التي تحمل أقوالهم وآراءهم في الفقه، لا الأحاديث التي يروونها عن الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~. # ثم نرى بعد هذا نعيم بن عمرو يحدث أنه سمع أبا حنيفة يقول: «عجبا للناس! يقولون ~~إني أفتي بالرأي، ما أفتى إلا بالأثر.» # 11 # أي متى صح عنده، وإلا اجتهد برأيه طبعا. # دفاع غيره عنه # وكان من الطبيعي أن يجد أبو حنيفة كثيرا من القدامى يدفعون عنه هذه التهمة، ومن ~~هؤلاء معاصرون له، ومنهم متأخرون عنه، وهؤلاء وأولئك كثيرون، فنكتفي من ذلك بالقليل ~~الذي له دلالته فيما نحن بصدده: # 12 ~~(أ) # يروي خالد بن صبيح أنه سمع زفر (تلميذ أبي حنيفة) يقول: لا تلتفتوا إلى ~~كلام المخالفين؛ فإن أبا حنيفة وأصحابنا لم يقولوا في مسألة إلا من الكتاب ~~والسنة والأقاويل الصحيحة، ثم قاسوا بعد عليها. ~~(ب) # ويروي عبد العزيز بن أبي رزمة، وقد ذكر علم أبي حنيفة بالحديث، أنه قدم ~~الكوفة أحد المحدثين، فقال أبو حنيفة لأصحابه: انظروا هل عنده من الحديث ~~شيء ليس عندنا؟ قال: وقدم عليهم محدث آخر، فقال (أي أبو حنيفة) لأصحابه مثل ~~ذلك. ~~(ج) # ويقول الحسن بن صالح: كان أبو حنيفة شديد الفحص عن الناسخ من الحديث ~~والمنسوخ، فيعمل بالحديث إذا ثبت عنده عن النبي # صلى الله عليه وسلم # وعن أصحابه، وكان ~~عارفا بحديث أهل الكوفة وفقه أهل الكوفة، شديد الاتباع لما كان عليه الناس ~~ببلده. ~~(د) # ويحدث أحمد بن المفلس أنه سمع يحيى بن آدم، وكان من كبراء المحدثين ~~بالعراق يقول: إن للحديث ناسخا ومنسوخا، كما ms045 في القرآن ناسخ ~~ومنسوخ. # وكان النعمان جمع حديث أهل بلده كله، فنظر إلى آخر فعل رسول الله # صلى الله عليه وسلم # الذي قبض عليه فأخذ به، فكان بذلك فقيها. ~~(ه) # ويقول أبو يوسف أكبر أصحابه: ما رأيت أحدا أعلم بتفسير الحديث ومواضع ~~النكت التي فيه من الفقه من أبي حنيفة، كما يقول في مناسبة أخرى: وكان هو ~~أبصر بالحديث الصحيح مني. # وقريب من هذا، ما روي عن إسرائيل إذ يقول: كان نعم الرجل نعمان! ما كان ~~أحفظه لكل حديث فيه فقه، وأشد فحصه عنه، وأعلمه بما فيه من الفقه. # وبعد هؤلاء جميعا، نرى العلامة المحقق ابن خلدون يتناول مسألة إقلال بعض أئمة الفقه ~~من رواية الحديث، وما يجري ذلك من التهمة لبعضهم، فقال في مقدمته متحدثا عن الأئمة ~~المجتهدين بعامة: # 13 # اعلم أن الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصناعة (يريد: علم ~~الحديث) والإقلال ... وقد تقول بعض المبغضين المتعسفين: بأن منهم من كان قليل ~~البضاعة؛ فلهذا قلت روايته. ولا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمة؛ لأن ~~الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة، ومن كان قليل البضاعة من الحديث يتعين ~~عليه طلبه وروايته والجد والتشمير في ذلك، ليأخذ الدين عن أصول صحيحة، ويتلقى ~~الأحكام عن صاحبها المبلغ لها. وإنما قلل منهم من قلل من الرواية؛ لأجل ~~المطاعن التي تعترضه فيها، والعلل التي تعرض في طريقها، لا سيما والحرج مقدم ~~عند الأكثر، فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض من ذلك فيه من الأحاديث ~~وطرق الأسانيد. # والإمام أبو حنيفة إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية والتحمل، ~~وضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي؛ وقلت من أجلها روايته ~~فقل حديثه، لا أنه ترك رواية الحديث، فحاشاه من ذلك. # ويدل على أنه كان من كبار المجتهدين في علم الحديث، اعتماد مذهبه بينهم، ~~والتعويل عليه، واعتماده ردا وقبولا ... فلا تأخذك ريبة في ذلك؛ فالقوم أحق ~~الناس بالظن الجميل بهم، والتماس المخارج الصحيحة لهم. والله سبحانه وتعالى ~~أعلم بما في حقائق الأمور ms046. # دفاع بعض المحدثين # وقد تعرض أخيرا لهذه المسألة الهامة في تفصيل وبحث شامل عميق، المغفور له العلامة ~~الشيخ محمد زاهد الكوثري، وذلك في كتاب صدر عام 1365ه، سماه: «النكت الطريفة في التحدث ~~عن ردود ابن أبي شيبة على أبي حنيفة». وقد جاء في صدر الكتاب هذه الكلمات: «ادعى ابن ~~أبي شيبة مخالفة أبي حنيفة لأحاديث صحيحة في مائة وخمس وعشرين مسألة من أمهات المسائل ~~الاجتهادية؛ فقام هذا الكتاب بتمحيص أدلة الطرفين، كاشفا عن كثير من الحقائق في تفاوت ~~مدارك الفقهاء، وأطوار الفقه الإسلامي، مما له خطر عند الباحثين.» # ونعرف أن المرحوم الأستاذ الأجل الشيخ الكوثري كان شديد الإجلال للأحناف وإمامهم، ~~ومن ثم كان شديد العصبية لأبي حنيفة، وكثيرا ما كان يقول لي ما معناه: إني أحب ~~الإمام أبا حنيفة، فلا تؤاخذني إن رأيت عصبية مني له. # ولكني أعرف مع ذلك، أنه كان بحاثة حقا، وقد أمده الله تعالى بكل ما ينبغي أن يكون ~~عليه الباحث حقا؛ من استعداد طيب جيد للعلم والمعرفة، وبصر بالمراجع الأصلية كان ~~موضع العجب والإعجاب، وجلد على القراءة والبحث وتحري الحقيقة، وقدرة على الموازنة ~~والنقد والترجيح والاستنباط، وكثرة الإنتاج الجيد المحمود. # وهذا الكتاب الذي بين أيدينا حقيق بالتقدير والبحث، وحري بالباحث أن يرجع إليه؛ ~~ولذلك نعتمده في هذه المسألة، ونأخذ عنه ما يعيننا على الوصول إلى الحق، في غير عصبية ~~إلا للحقيقة وحدها. ولن نستطيع هنا، والمجال محدود، أن نسايره في كل المسائل التي ~~تناولها؛ ولذلك لا نجد بدا من تخير بعضها، فتكون نموذجا لسائرها: ~~(1) # روى ابن أبي شيبة في مصنفه أن النبي # صلى الله عليه وسلم # رجم يهوديا ويهودية ~~زنيا، ثم ذكر أن أبا حنيفة قال: ليس عليهما رجم. وهذا الحديث مع ما في ~~أسانيده في رواياته المختلفة من كلام، لم يأخذ به أبو حنيفة لأنه حكاية فعل ~~من الرسول، وقد عارض هذا الفعل قول ينص على اشتراط الإسلام في المحصن إذا ~~زنى، والقول مقدم على الفعل عند التعارض، كما هو معروف، وهو قول الرسول ms047 # صلى الله عليه وسلم ~~: «من أشرك بالله فهو غير محصن.» # على أن ابن حجر العسقلاني يقول في فتح الباري: # 14 # قال المالكية ومعظم الحنفية وربيعة شيخ مالك: شرط الإحصان ~~الإسلام. ورأوا أن الرسول # صلى الله عليه وسلم # قد رجم هذين اليهوديين بحكم التوراة، ~~وكان ذلك أول دخول المدينة، وكان مأمورا باتباع حكم التوراة، حتى ينسخ ~~ذلك في حكم الإسلام. ~~(2) # من المعروف أن الرجل إذا ارتد عن الإسلام يجب قتله شرعا، وفي هذا يقول ~~الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~: «من بدل دينه فاقتلوه.» وذلك بلفظه عام في الرجل ~~والمرأة، كما يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني ~~رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه ~~المفارق للجماعة.» # وبعد أن روى ابن أبي شيبة هذا، قال: وذكروا أن أبا حنيفة قال: لا تقتل ~~إذا ارتدت. # وهنا نرى الشيخ الكوثري يجد أن ما رواه ابن أبي شيبة من أحاديث وآثار ~~بقتل المرتدة لا غبار عليها؛ ولكنه يذكر ما رواه أبو هريرة من أن امرأة ~~ارتدت على عهد رسول الله # صلى الله عليه وسلم # فلم يقتلها، وكذلك ما يرويه الطبراني في ~~المعجم الكبير، من أن رسول الله # صلى الله عليه وسلم # قال لمعاذ بن جبل: «أيما رجل ارتد ~~عن الإسلام فادعه؛ فإن تاب فاقبل منه، وإن لم يتب فاضرب عنقه، وأيما ~~امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها؛ فإن تابت فاقبل منها، وإن أبت فاستبقها.» ~~ومعنى هذا، كما جاء عن ابن عباس وغيره، أنها تحبس في السجن حتى تموت أو ~~تتوب. # وهنا، يرى أبو حنيفة أنه رويت أحاديث وآثار تدل على التسوية بين الرجل ~~والمرأة في وجوب القتل إذا أصر أيهما على ردته، وأخرى تجعل الحكم في ~~المرأة أن تستتاب، وإلا حبست حتى تموت أو تتوب؛ وأن في أسانيد بعض روايات ~~الأولى من ترك حديثه أو اتهم بالوضع، فكان أن اعتمد الأحاديث والآثار ~~الأخرى. # ذلك فضلا عن المجمع عليه من أن الحدود تدرأ بالشبهات، ومن أن الرسول # صلى ms048 الله عليه وسلم # نهى عن قتل النساء والصبيان في الحروب؛ فإذا كانت الكافرة الأصلية ~~موضع رفق، فالمرتدة الطارئة الكفر بدار الإسلام أولى بالرفق، كما يقول ~~الشيخ الكوثري، تمكينا لها من العودة إلى حظيرة الإسلام. ~~(3) # روى ابن أبي شيبة في مسألة حصة الفارس والراجل من غنيمة الحرب، وهي من ~~مسائل القانون العام، بضعة أحاديث كل منها يدل على أن للفرس سهمين وللرجل ~~سهما، ثم ذكر أن أبا حنيفة قال: «سهم للفرس وسهم لصاحبه»؛ فلو قاتل إنسان ~~على فرسه كان له سهمان، سهم له وسهم لفرسه، ولو قاتل راجلا كان له سهم ~~واحد. على حين أنه بحسب الأحاديث التي رواها ابن أبي شيبة يكون لمن قاتل ~~فارسا ثلاثة أسهم؛ اثنان للفرس، وواحد له. # لكن أبا حنيفة لم يقل برأيه إزاء هذه الأحاديث؛ بل رأى أحاديث أخرى تدل ~~على أن الرسول # صلى الله عليه وسلم # أعطى في بعض الغزوات للفارس سهمين وللراجل سهما، ~~وكذلك قال سيدنا عمرو رضي الله عنه حين بلغه من بعض عماله أنه فعل ذلك حين ~~غنم في حرب قام بها. # نظر أبو حنيفة إذا إلى هذه الأحاديث والآثار من ناحية، وإلى تلك من ~~ناحية أخرى، فقال: السهم الواحد - أي للفرس - متيقن به؛ لاتفاق الآثار، ~~وما زاد عليه مشكوك فيه لاشتباه الآثار؛ فلا أعطيه إلا المتيقن، ولا ~~أفضل بهيمة على مؤمن. # 15 ~~(4) # وهذه مسألة من مسائل القانون المدني، وهو أهم فروع قسم القانون الخاص، ~~وهي مسألة خيار المجلس المختلف فيه بين الفقهاء، فقد روى فيها ابن أبي شيبة ~~بضعة أحاديث، ومنها قوله # صلى الله عليه وسلم ~~: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا.» ثم ~~ذكر بعدها أن أبا حنيفة قال: «يجوز البيع وإن لم يتفرقا»؛ أي يتم البيع ~~ويصير لازما إلا إذا كان فيه خيار الشرط مثلا. # وقد بحثنا هذه المسألة في تفصيل عميق من كل نواحيها في كتاب ظهر لنا منذ أعوام. # 16 # وانتهينا من البحث إلى هذه النتائج: ~~(أ) # أن أحاديث خيار المجلس متفق عليها بين الأئمة جميعا، حتى ~~الإمام مالك بن ms049 أنس؛ فقد روى أحدها في موطئه وإن كان لم يعمل ~~به، لدليل رآه أقوى منه. ~~(ب) # أن الذين لا يرون خيار المجلس، ومنهم أبو حنيفة ومالك، يرون ~~أن آية سورة النساء التي تقول: # يا ~~أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم ~~بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن ~~تراض منكم ~~، تفيد أنه متى وقع البيع ~~بالإيجاب والقبول عن تراض كان لكل من الطرفين الانتفاع بما ~~أخذ: البائع بالثمن والمشتري بالمبيع؛ وإذا، فقد تم البيع ~~وليس لأحدهما ما يسمى خيار المجلس؛ لأن ذلك لو كان مشروعا ~~لمنع ملك البدل لكل من الطرفين وحل الانتفاع به. ~~(ج) # أن أبا حنيفة يلجأ بعد ذلك إلى أن المراد بالافتراق في ~~«الحديث» هو الافتراق بالقول، بمعنى أن للبائع أن يرجع في ~~إيجابه قبل أن يصدر القبول عن المشتري، وهذا هو معنى الخيار، ~~أما إذا تفرقا بالقول؛ أي رضيا بالبيع وصدر الإيجاب والقبول ~~بلا رجوع من الموجب قبل القبول، فقد تم البيع. ~~(د) # أن أصحاب هذا الرأي قد استدلوا لهذا التأويل مما ورد في ~~القرآن من مثل قوله تعالى (سورة البينة 98: 4): # وما تفرق الذين أوتوا ~~الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم ~~البينة ~~. وقوله: (سورة آل عمران 3: 301): # واعتصموا بحبل الله ~~جميعا ولا تفرقوا ~~؛ فإنه من الواضح أنه ~~ليس المراد بالافتراق في ذلك ونحوه الافتراق بالأبدان؛ بل ~~الأقوال. # وبعد هذه النتائج التي انتهينا إليها، لا نرى خيرا في إطالة الحديث عن ~~هذه المسألة؛ فلنتركها إلى غيرها. ~~(5) # وهذه مسألة تتعلق بشعيرة من شعائر الحج، وهي مسألة إشعار الهدي؛ فقد ~~روى ابن أبي شيبة أن النبي # صلى الله عليه وسلم # خرج عام الحديبية في بضع عشرة ومائة من ~~أصحابه؛ فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعر وأحرم، وبعد هذا، ذكر ~~ابن أبي شيبة أن أبا حنيفة قال: الإشعار مثلة. # 17 # والخطب هنا يسير؛ فإن الشيء أو العمل الواحد يتغير من حال إلى حال، أو من ~~زمن إلى زمن، فيتغير لذلك حكمه، وقد رأينا كثيرا من هذا فيما كان من صنيع ~~سيدنا عمر ms050 بن الخطاب وغيره من الصحابة والتابعين. # 18 # والإشعار، وهو موضع الحديث هنا، قد يكون برفق كما كان يصنع الرسول # صلى الله عليه وسلم # الذي غرس الله في قلبه الكبير الرحمة بالإنسان والحيوان معا، ~~فيكون إذا من سننه الشريفة، وقد يكون أحيانا بعنف، فيكون مثلة بالحيوان ~~ينبغي أن ينهى عنها، فلعل أبا حنيفة قال عنه «إنه مثلة» ويريد به ما كان ~~في زمنه. # على أن السيدة عائشة رضي الله عنها تركته، كما خير سيدنا ابن عباس رضي ~~الله عنه بين فعله وتركه. # وكذلك، ليس للمجتهد أن يتسارع إلى قبول النقل والعمل به إلا بعد تصفح ~~العلل والأسباب، وأقصى ما يرمى به المجتهد حين يخالف حديثا في مسألة ما، ~~أن يقال: لم يبلغه الحديث، أو بلغه من طريق لم يرضه. ~~(6) # وهذه مسألة من مسائل القانون المدني في القانون الوضعي، وتدرس في الفقه ~~الإسلامي فيما يصح أن نسميه قانون المرافعات، وهذا هو موضعها في رأينا؛ ~~لأنها مسألة الاكتفاء بشاهد واحد، ويمين المدعي لإثبات دعواه، ولا يطلب ~~إثبات الدعاوى إلا بعد رفعها للقضاء. # وفيها يروي ابن أبي شيبة أحاديث وآثارا تدل على جواز إثبات دعوى المدعي ~~بشاهد واحد ويمين الطالب، ثم ذكر بعدها أن أبا حنيفة قال: لا يجوز ~~ذلك. # وقد عني الشيخ الكوثري في هذه المسألة، ببيان ما في هذه الأحاديث ~~والآثار من علل في طرقها تجيز عدم الأخذ بها، وتجعلها لا حجية فيها. # ثم أشار إلى الآثار والأخبار التي تعارضها، وإلى الفقهاء الذين لم يأخذوا ~~بها وأوجبوا أن يكون نصاب الشهادة رجلين أو رجلا وامرأتين. # ونحن من جانبنا، نرى من الخير أن نأتي ببعض ما ذكرناه في هذه المسألة في ~~كتابنا «عصر نشأة المذاهب» من سلسلة تاريخ الفقه الإسلامي. # 19 # وذلك إذ نقول: # يقول الله تعالى (سورة البقرة 2: 282): # واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا ~~رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من ~~الشهداء # وإلى هذا ذهب فقهاء العراق كأبي حنيفة والثوري، ~~وآخرون غيرهم مثل عمر بن عبد العزيز بالشام، والليث بن سعد بمصر. # وهم يستدلون ms051 فضلا عن كتاب الله بسنة رسوله: فقد ثبت عن الأشعث بن قيس ~~أنه كان بينه وبين رجل خصومة في شيء، فاختصما إلى الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~، فقال: ~~«شاهداك أو يمينه.» فقال الأشعث: إذا يحلف ولا يبالي، فقال النبي: «من حلف ~~على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم، هو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه ~~غضبان.» وكذلك يحدث علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه، في أمر الحضرمي الذي ~~خاصم الكندي في أرض في يده، ادعاها، وجحد الكندي: أن النبي # صلى الله عليه وسلم # قال ~~للحضرمي: «شاهداك أو يمينه، ليس لك إلا ذلك.» # لكن الإمام مالك بن أنس يرى غير ذلك، وأن شهادة واحد للمدعي مع يمينه ~~يعتبر كافيا لإثبات دعواه، وهو يستدل بما رواه من أن الرسول # صلى الله عليه وسلم # قضى ~~باليمين مع الشاهد، وأن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد ~~الرحمن بن زيد بن الخطاب، وهو عامل على الكوفة: أن اقض باليمين مع الشاهد؟ ~~وأن أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان ابن يسار سئلا: هل يقضى باليمين مع ~~الشاهد؟ فقالا: نعم. # 20 # وفي مقابل هذا نرى - كما يقول الليث بن سعد في رسالته إلى مالك - أنه لم ~~يقض بذلك أصحاب رسول الله # صلى الله عليه وسلم # بالشام وحمص، ولا بمصر، ولا بالعراق، ~~ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون. # ولما ولي عمر بن عبد العزيز - وهو ما نعرف في إحياء السنن، والجد في ~~إقامة الدين، وفي إصابة الحق، وفي العلم بما مضى من أمر الناس - كتب إليه ~~زريق بن عبد الحكم: إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد ويمين ~~صاحب الحق. فرد عليه بقوله: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة؛ فوجدنا أهل الشام ~~على غير ذلك، فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين. # 21 ~~(7) # وهذه مسألة جواز الانتفاع بالشيء المرهون أو عدم جوازه، وهي مسألة تجري ~~كثيرا في حياتنا العملية، وقد أتى فيها ابن أبي شيبة بحديثين؛ هما: حدثنا ~~وكيع عن زكريا عن عامر عن ms052 أبي هريرة أن النبي # صلى الله عليه وسلم # قال: «الظهر يركب ~~إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ~~ويشرب نفقته.» والثاني رواه وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: ~~«الرهن محلوب مركوب.» ثم ذكر أن أبا حنيفة قال: لا ينتفع به. # وجملة ما ذكره الشيخ الكوثري هنا، هو أن انتفاع المرتهن بما رهن لديه ~~كان جائزا أولا، ثم نسخ بعد ذلك بتحريم الربا، وبتحريم كل قرض جر منفعة؛ ~~ولهذا نجد كثيرا يخالفونه من الصحابة والتابعين. # فهذا الإمام البيهقي يروي في «السنن الكبرى» أن رجلا جاء إلى عبد الله ~~بن مسعود فقال: إني أسلفت رجلا خمسمائة درهم، ورهنني فرسا ركبتها أو ~~أركبتها، فقال له: «ما أصبت من ظهرها فهو ربا.» والشعبي؛ وقد روى عن ~~أبي هريرة حديثا في جواز الانتفاع بالرهن، نراه يقول بعد: لا ينتفع من ~~الرهن بشيء. وكذلك يقول في رجل ارتهن جارية فأرضعت له: يغرم لصاحب ~~الجارية قيمة إرضاع اللبن. ومثل هذا كان من شريح القاضي، حين سئل عن رجل ~~ارتهن بقرة فشرب من لبنها، فقال: ذلك شرب الربا. # 22 # إذا، يكون حديث جواز الانتفاع بالرهن منسوخا بما ذكرنا؛ وإلا ~~لما خالفه في العمل والإفتاء هؤلاء وغيرهم. ثم هو - كما يقول الطحاوي وابن ~~عبد البر - ترده أصول مجمع عليها، وآثار لا يختلف في صحتها. # 23 # ويدل على نسخه أيضا حديث ابن عمر (البخاري في أبواب المظالم) ~~الذي فيه: لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه. ~~(8) # هذا وننتهي من هذا الاستعراض بذكر المسألة المعروفة «ببيع المصراة» ~~وهي البقرة (مثلا) التي يحبس البائع لبنها في ضرعها أياما ليظن المشتري ~~أنها غزيرة اللبن. وقد روى ابن أبي شيبة فيها حديثين هما: ~~(أ) ~~«من اشترى مصراة فهو فيها بالخيار، إن شاء ردها ورد معها ~~صاعا من تمر.» ~~(ب) ~~«من اشترى مصراة فهو فيها بخير النظرين، إن ردها رد ~~معها صاعا من طعام أو صاعا من تمر.» # ثم ذكر بعد ذلك أن أبا حنيفة قال بخلافه. # وفي المسألة ms053، وهي مسألة خيار العيب، أحاديث أخرى، ونكتفي منها بحديث من ~~الثلاثة التي ذكرها البيهقي (السنن الكبرى ج5: 320،318) وهو : «لا تصروا ~~الإبل ولا الغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛ فإن ~~رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر.» # ولا يعنينا هنا بحث المسألة من جميع نواحيها، وبيان وجه الحق فيها، فقد ~~استوفينا ذلك في بحث آخر. # 24 # وإنما الذي يعنينا هو بيان وجهة نظر أبي حنيفة في عدم الأخذ ~~بما ورد في هذه المسألة من أحاديث. # وفي هذه الناحية. يرى الشيخ الكوثري أن الحديث صحيح الإسناد بدون شك؛ ~~ولكن أفق المجتهد أوسع، ونظره في الحديث غير قاصر على ناحية واحدة؛ فربما ~~ظهر للبعض من علة تمنع الأخذ بظاهره ما لا يظهر للآخر، ويعتني هذا المجتهد ~~بموافقة الحديث للأصول المجمع عليها فوق اعتناء ذاك المجتهد بهذا. وقد خالف ~~أبو حنيفة وطائفة من الفقهاء غيرهم في الأخذ بهذا الحديث، وقالوا ليس ~~للمشتري رد المصراة بخيار العيب؛ ولكنه يرجع بالنقصان لوجود ما يمنع ~~الرد، إذ رأوا أن في الحديث اضطرابا واختلافا شديدا في مدة الخيار وفي ~~ما يرده المشتري. # 25 # ثم لا بد من سلامة المتن من ألا يخالف ما هو أقوى منه من كتاب وسنة وأصل ~~مجمع عليه؛ فالشذوذ والعلة يمنعان من الأخذ بالحديث، فيتوقف المجتهد عن ~~العمل بظاهره. وهذا الحديث معلول لمخالفته لعموم كتاب الله في ضمان العدوان ~~بالمثل، وهذا ما جاء في قوله تعالى (سورة البقرة 2: 194): # فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ~~بمثل ما اعتدى عليكم ~~، وفي قوله (سورة النحل 16: ~~126): # وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما ~~عوقبتم به ~~. والصاع من التمر ليس بمثل ولا قيمة لما أخذه ~~المشتري من اللبن. # وكذلك، هذا الحديث مخالف لحديث: «الخراج بالضمان» وهو حديث صححه الترمذي ~~وأخذ به جمهور الفقهاء، فلا يكون اللبن مضمونا حيث كانت المصراة تحت ضمان ~~المشتري مدة بقائها عنده ينفق عليها ... إلى آخر ما قال رحمه الله ~~تعالى. # والآن نكتفي بهذه المسائل الثمانية؛ ففيها تعريف بوجهة نظر أبي حنيفة حين ترك ms054 الأخذ ~~بما جاء فيها وفي أمثالها من أحاديث وآثار. وبعد ذلك نأخذ في بيان رأينا في موقفه هذا . ~~والله يهدي إلى الحق الذي ننشده دائما. # رأينا الخاص # والآن، ما هو رأينا الخاص الذي خلص لنا من التنقيب والبحث والموازنة بين الأقوال ~~والآراء التي اختلفت اختلافا شديدا في أبي حنيفة ومذهبه الذي خرج به على الناس؟ لقد ~~كان من الطبيعي أن ينقسم الناس في أبي حنيفة، شأنه في هذا شأن كل عظيم من رجالات الفكر ~~يأتي بجديد، فكان منهم في العراق نفسه، وهو وطنه الخاص - بله المدينة مثلا مهد ~~الحديث والمحدثين - من يعرف له فضله ومنزلته، فهو يثني عليه ويجله، وربما كان منهم ~~من يبالغ في هذه الناحية فهو يتزيد ويغمره بالمناقب، وكان منهم من يتطلب له العثرات، ~~ويراه قد انحرف عن السبيل السوي، فهو يقدح فيه ويبالغ في ذمه، حتى لينال من دينه. ~~ويرى منهجه ومذهبه في الفقه خطرا على الدين نفسه، وكان جمهرة هؤلاء من أهل الحديث ~~وملتزمي المأثور. # إن تهمة رده للحديث والآثار وأخذه برأيه، وأن ذلك يعتبر تكذيبا للحديث والآثار، ~~يردها كثير من الأقوال التي أثرت عنه، كما يردها كثير من الآراء التي ترك فيها رأيه، ~~اتباعا لما صح عنده من حديث رسول الله # صلى الله عليه وسلم ~~، بل اتباعا لبعض الآثار التي رويت ~~عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم: ~~(أ) # فمن الناحية الأولى، # 26 # نجده يقول في كتاب «العالم والمتعلم» وهو ما رواه عنه ~~أبو مقاتل، وعن أبي مقاتل رواه الموفق المكي في «المناقب». # 27 # لأحد سائليه من تلاميذه عن مسألة تتعلق بأصول الدين: «فردي ~~على كل رجل يحدث عن النبي # صلى الله عليه وسلم # بخلاف القرآن، ليس ردا على النبي # صلى الله عليه وسلم ~~، ولا تكذيبا له؛ ولكنه رد على من يحدث عن النبي # صلى الله عليه وسلم # بالباطل. والتهمة دخلت عليه ليس على نبي الله عليه السلام، وكذلك كل شيء ~~تكلم به نبي الله عليه الصلاة والسلام، سمعناه أو لم نسمعه، فعلى الرأس ~~والعينين، قد آمنا ms055 به ونشهد أنه كما قال نبي الله، ونشهد أيضا على النبي # صلى الله عليه وسلم # أنه لم يأمر بشيء نهى الله عنه، ولم يقطع شيئا وصله الله، ولا ~~وصف أمرا وصف الله ذلك الأمر بغير ما وصف النبي، ونشهد أنه كان موافقا ~~لله في جميع الأمور، ولم يبتدع ولم يتقول على الله غير ما قال الله تعالى ~~ولا كان من المتكلفين؛ ولذلك، قال الله تعالى: # من ~~يطع الرسول فقد أطاع الله ~~.» # ويذكر ابن عبد البر أنه قيل لأبي حنيفة: المحرم لا يجد الإزار يلبس ~~السراويل؟ قال: لا؛ ولكن يلبس الإزار، قيل له: ليس له إزار؟ قال: يبيع ~~السراويل ويشتري بها إزارا، قيل له: فإن النبي # صلى الله عليه وسلم # خطب وقال: «المحرم ~~يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار.» فقال أبو حنيفة: لم يصح في هذا عندي عن ~~رسول الله # صلى الله عليه وسلم # شيء فأفتي به، وينتهي كل امرئ إلى ما سمع، وقد صح ~~عندنا أن رسول الله # صلى الله عليه وسلم # قال: «لا يلبس السراويل» فننتهي إلى ما ~~سمعناه. قيل له: أتخالف النبي # صلى الله عليه وسلم ~~؟ فقال: لعن الله من يخالف رسول الله # صلى الله عليه وسلم ~~، به أكرمنا الله، وبه استنقذنا. # 28 ~~(ب) # وليس هذا قولا يقوله بلسانه ولا يعمل به؛ بل نرى من آرائه ما يصدقه؛ فإن ~~يحيى بن آدم، وكان من كبار فقهاء المحدثين بالعراق، وأعلم الناس بحديث أهل ~~الكوفة بعد أبي بكر بن عياش، يقول: زعم بعض الطاعنين أن أبا حنيفة رحمه ~~الله تعالى قال بالقياس وترك الأثر، وهذا بهت منه وافتراء عليه، فإن ~~كتبه وكتب أصحابه مملوءة من المسائل التي تركوا العمل فيها بالقياس، وأخذوا ~~بالأثر الوارد فيها. ثم ذكر بعد هذا بعض هذه المسائل؛ ومنها انتقاض الطهارة ~~بالضحك في الصلاة، وانتقاض الوضوء بالنوم مضطجعا، وبقاء الصوم مع الأكل ~~ناسيا، وأشباه هذا مما يكثر تعداده. # 29 # ولنا أن نضيف إلى هذه المسائل أخرى يتضح فيها شدة حرص ~~أبي حنيفة على الأخذ بالحديث متى صح عنده ms056، ومن هذه مسألة اختلف فيها في ~~الرأي مع معاصريه: ابن أبي ليلى وابن شبرمة، وكان مستند كل من الثلاثة ~~حديث مفرد اتصل به ولم يتصل به في المسألة سواه، وقد روى هذه المسألة ~~وملابساتها ... ابن السيد البطليوسي المتوفى عام 521ه، فنكتفي بالإشارة إليها: # 30 # وهي أن رجلا سأل كلا من الثلاثة هذا السؤال: ما تقول في رجل باع بيعا ~~وشرط (أي فيه) شرطا؟ وكانت إجابة أبي حنيفة: أن البيع باطل والشرط باطل، ~~وإجابة ابن شبرمة أن كليهما جائز، وإجابة ابن أبي ليلى أن البيع جائز ~~والشرط باطل. وكان من السائل أن عجب من هذا الاختلاف، وقال: سبحان الله! ~~ثلاثة من فقهاء العراق لا يتفقون على مسألة! وحين وقف كل من الثلاثة على ~~رأي كل من صاحبيه، لم يجد لأحد منهما مستندا لرأيه إلا حديثا عن الرسول # صلى الله عليه وسلم # يتمسك به إذ لم يعرف حديثا آخر مما اتصل بمعاصريه ~~الاثنين. # وعلينا بعد هذه الناحية وتلك، لتقدير موقف أبي حنيفة من الحديث والآثار ~~والرأي، أن نفطن لأمر فطن له المتقدمون، ويجب أن يضعه نصب عينيه كل من ~~يتصدى للفقه وتاريخه وتقدير رجاله. # وهذا الأمر، هو أن من الحق أن معين الفقه الأول هو كتاب الله وسنة رسوله؛ ~~ولكن هذه المواد الغزيرة لا يحسن استنباط الأحكام الفقهية منها إلا العارف ~~بعلوم القرآن وعلوم الحديث؛ وذلك ليكون على بينة حين يستند إلى هذه الآية ~~أو هذا الحديث، أو حين يتجاوز تلك الآية أو ذلك الحديث. وبهذا يكون الفقيه ~~مثله مثل الطبيب الذي يجد أمامه كثيرا من العقاقير، فيفيد مما ينبغي ~~الإفادة منها عن علم وبينة. # ولعل هذا الذي نقول هو ما جعل يزيد بن هارون، وقد جاءه مستفت، فسأله عن ~~مسألة، وعنده يحيى بن معين وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وآخرون، فقال له: ~~اذهب إلى أهل العلم، فقال له ابن المديني: أليس أهل العلم والحديث عندك! ~~فقال: أهل العلم أصحاب أبي حنيفة، وأنتم صيادلة. # 31 # وفي هذا يذكر أبو رجاء الهروي أنه سمع ms057 أبا حنيفة يقول: مثل من يطلب ~~الحديث ولا يتفقه، مثل الصيدلاني يجمع الأدوية ولا يدري لأي داء هو حتى ~~يجيء الطبيب، هكذا طالب الحديث، لا يعرف وجه حديثه حتى يجيء الفقيه! # 32 # ومن ثم، يذكر سويد بن نصر أنه سمع ابن المبارك يقول: لا ~~تقولوا رأي أبي حنيفة، ولكن قولوا تفسير الحديث. # 33 # وأخيرا فإن النتيجة التي استخلصناها من هذا التنقيب والبحث، أنه ليس لباحث منصف أن ~~يرمي أبا حنيفة بأنه كان يترك عامدا بعض ما صح عنده من الحديث والآثار ليأخذ بالرأي ~~والقياس، حاشاه أن يكون فعل شيئا من ذلك؛ وإلا لما كان مؤمنا حقا برسول الله صلى ~~الله وما جاء عنه، بله أن يكون إماما من أئمة الشريعة الإسلامية الخالدين. # غاية ما في الأمر أنه كان بصيرا بالأحاديث والآثار، وكان له أصول وقواعد في «فقه ~~الحديث» - إن صح هذا التعبير - وكان يرجع إليها فيما يأخذ ويدع. ولعل من الخير أن ننقل ~~بعض ما ذكره هذا التعبير - وكان يرجع إليها فيما يأخذ ويدع، ولعل من الخير أن ننقل بعض ~~ما ذكره العلامة الشيخ الكوثري في خاتمته لكتابه الذي ذكرناه فيما قبل وأفدنا كثيرا ~~منه، وذلك إذ يقول: # 34 # قد تبين مما بسطناه في تحقيق أدلة ابن أبي شيبة في تلك المسائل أن أبا ~~حنيفة كان يأخذ بالأحاديث الصحيحة المستجمعة لشروط الصحة المعتبرة عنده في بيان ~~مجمل الكتاب والسنة، وفيما لا معارض له أقوى: كعمومات الكتاب أو ظواهره، أو ~~الخبر الصحيح المحتف بالقرائن، أو الخبر المشهور أو التواتر. # وعند وجود معارض كهذه يأخذ بالمعارض الأقوى عملا بأقوى الدليلين، فيؤول ~~الخبر الآخر بوجوه تأويل تظهر له مما يستسيغه أهل الفقه في الدين، ويحتم ~~الأخذ بما يبرئ الذمة بيقين عند اختلاف الروايات، ويسعى جهده في عدم إهدار ~~تصرف العاقل بقدر ما يمكن ... ويرعى جانب الفقراء والأرقاء وسائر الضعفاء في ~~الأحكام المختلف فيها، جريا على الرفق بالضعيف المطلوب في الشرع، ويفسر الأدلة ~~المحتملة بما هو في مصلحة من توقع عليه العقوبات أخذا بقاعدة درء الحدود ~~بالشبهات ms058، ويعتمد على القواعد العامة، باعتبار أن القواعد العامة يقينية في ~~الشرع، وخبر الآحاد الذي له معارض في أدنى درجات النظر. ويميل إلى الأخذ ~~بالدليلين ما أمكن الأخذ بهما، ولا يحمل أحدهما على أنه منسوخ، ما لم يتعذر ~~الجمع بينهما. وعند اضطراره إلى الحكم على أحد الدليلين بأنه منسوخ، يأبى أن ~~يقول بما يستلزم تكرر النسخ حين يرى ذلك خلاف الأصل. وتلك أسس لا غبار عليها في ~~فهم أهل الفقه في الدين. # هذا، وقد بحث الحافظ محمد بن يوسف الصالحي هذا الأمر في كتابه «عقود الجمان في مناقب ~~أبي حنيفة النعمان» ودفع بحق ما اتهم به أبو حنيفة من تركه الأخذ ببعض الأحاديث ~~والآثار، وبين أصوله في ذلك، وهو بحث جيد للصالحي، فيحسن الرجوع إليه والإفادة ~~منه. # وبعد، لقد طال الكلام على طريقة أبي حنيفة وفقهه، وقد تشعب البحث فيه كما رأينا، ~~ثم انتهى بنا إلى النتيجة التي نعتقد فيها أنها الحق. وعلينا بعد ذلك، أن ننتقل إلى ~~البحث الذي يليه، وهو عرض بعض آرائه ومسائله الفقهية، وذلك حتى نتعرف النزعات أو ~~الاتجاهات التي سادت تفكيره الفقهي. # | اتجاهات فقه أبي حنيفة # اتجاهاته العامة # نقلنا عن العالم الأجل المرحوم الشيخ الكوثري، من ختام كتابه «النكت الطريفة في ~~التحدث عن رد أبي شيبة على أبي حنيفة»، أن هذا الإمام الأعظم كان يحتم الأخذ بما ~~يبرئ الذمة بيقين عند اختلاف الروايات، ويسعى جهده في عدم إهدار تصرف العاقل بقدر ما ~~يمكن، ويرعى جانب الفقراء والأرقاء وسائر الضعفاء في الأحكام المختلف فيها، ويفسر ~~الأدلة المحتملة بما هو في مصلحة من توقع عليه العقوبات أخذا بقاعدة درء الحدود ~~بالشبهات. # فهل هذه النزعات، إلى أخرى بجانبها، كانت تقوده في اجتهاده؟ أو أن اجتهاده قاد إليها، ~~من غير أن يكون الإمام قد نظر إليها وصدر عنها؟ # نحن نرى أن ترجيح هذا الجانب أو ذاك غير ميسور لنا الآن، ولن يكون ميسورا إلا إذا ~~استقصينا آراءه في المسائل التي عني ببيان وجه الحق فيها، وهيهات أن يصل باحث إلى ms059 هذا ~~الاستقصاء! فهذه المسائل بلغت من الكثرة حدا يكاد يتعذر معه الوقوف عليها جميعها، ~~وحسبنا أن نشير إلى أنها بلغت في رأي بعض من كتبوا عنه مئات الآلاف! # 1 # وذلك فضلا عن أنها منثورة هنا أو هناك في تضاعيف الكتب التي ليست بين أيدي ~~الباحثين اليوم. # ومع هذا، فإن بين أيدينا من المراجع المعتبرة ما يمدنا بكثير من آراء أبي حنيفة في ~~كثير من الوقائع والمسائل: ومن هذه الآراء ما يجعلنا قادرين على معرفة كيف كان يجتهد، ~~وعلى معرفة ما طبع آراءه من نزعات مختلفة، نكاد نراها جميعها نزعات اجتماعية تدعو إلى ~~هذه المعاني وما إليها: ~~(أ) # التيسير في العبادات والمعاملات، وذلك من أسس الشريعة الإسلامية. ~~(ب) # رعاية جانب الفقير والضعيف، وهذا ما يوصي به القرآن. ~~(ج) # تصحيح تصرفات الإنسان بقدر الإمكان. ~~(د) # رعاية حرية الإنسان وإنسانيته. ~~(ه) # رعاية سيادة الدولة ممثلة في الإمام. # على أنه يجب ألا ننسى أن المسألة الواحدة من تلك المسائل قد تتحقق فيها نزعة واحدة أو ~~أكثر، وذلك أمر نراه طبيعيا، وحينئذ نضعها في الجانب الأظهر فيها. # التيسير في العبادات والمعاملات # من الدعائم التي قام عليها التشريع الإسلامي التيسير، برفع الحرج ودفع المشقة، سواء ~~في هذا ما أتى به من عقائد وعبادات وتشريعات. وفي هذا جاء في القرآن العظيم قوله تعالى ~~(سورة البقرة آية 185): # يريد الله بكم اليسر ولا ~~يريد بكم العسر # وقوله (سورة الحج آية 78): # وما جعل عليكم في الدين من حرج ~~، كما جاء في الحديث أن ~~الرسول # صلى الله عليه وسلم # قال: «يسروا ولا تعسروا.» # 2 # لا جرم إذا، أن يراعي الفقهاء هذا الأساس فيما يذهبون إليه من آراء، وإن كانوا ~~يتفاوتون في التطبيق؛ وذلك بحسب ما يذهب إليه كل منهم من الأدلة والأصول، وبحسب ما يظهر ~~لكل منهم من وجوه التخريج والترجيح. # وهذا الأساس لم يفت طبعا أبا حنيفة، ونراه واضحا في كثير من آرائه التي ذهب إليها ~~في مسائل عديدة مختلفة، ونكتفي هنا بذكر بعض المسائل من العبادات، والبعض من ~~المعاملات: ~~(1) # ففي باب ms060 الطهارة من قسم العبادات. ~~يرى أبو حنيفة أنه إذا أصاب البدن أو الثوب نجاسة جاز غسله بكل مائع طاهر ~~يزيلها، ولا يتعين في ذلك الماء وحده؛ على حين ذهب الشافعي إلى أن الطهارة ~~لا تجوز إلا بالماء، وهذا هو قول محمد بن الحسن أيضا. # ومما احتج به أبو حنيفة في هذا، ~~قوله تعالى: # وثيابك فطهر ~~، وهذا نص ~~مطلق لا يجوز تقييده من غير دليل، وكذلك أمر الرسول # صلى الله عليه وسلم # بغسل الإناء ~~إذا ولغ فيه الكلب، والغسل غير مختص بالماء، ثم إن المطلوب هو إزالة ما ~~يعلق بالجسم أو الثوب من نجاسة، وهذا كما يكون بالماء يكون بغير الماء ~~كالخل وماء الورد ونحوه؛ بل قد تكون إزالة النجاسة بهذين ونحوهما أبلغ وأتم ~~على ما هو معروف. # 3 ~~(2) # ويحدث علي بن مسهر أنهم كانوا عند أبي حنيفة فأتاه عبد الله بن المبارك، ~~فقال له: ما تقول في رجل كان يطبخ قدرا فوقع فيها طائر فمات؟ فقال ~~أبو حنيفة لأصحابه: ما تقولون فيها؟ فرووا له عن ابن عباس أنه قال: يهراق ~~المرق ويؤكل اللحم بعد غسله. فقال أبو حنيفة: هكذا يقول؛ إلا أن فيه شريطة، ~~إن كان وقع فيها في حال غليانها، ألقي اللحم وأريق المرق، وإن كان وقع ~~فيها في حال سكونها، غسل اللحم وأكل ولم يؤكل المرق. # وهنا، يقول له ابن المبارك: من أين قلت هذا؟ فيجيء أبو حنيفة بهذا ~~التعليل المقبول المعقول؛ وهو أن اللحم والمرق سيداخلها طبعا شيء من ~~الطائر متى وقع في القدر، وهي تغلي، ولم يكن اللحم قد نضج بعد، على حين أن ~~الأمر لا يكون كذلك إن وقع الطائر في القدر حال سكونها، وقد نضج اللحم. # 4 ~~(3) # وفي الصلاة، يرى أن من صلى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة أو حالة اشتباه ~~الأمر عليه بعد أن تحرى جهده، ثم ظهر أنه أخطأ في اجتهاده، صحت صلاته ~~وليس عليه أن يعيدها؛ على حين يرى الإمام الشافعي أن عليه أن يعيد صلاته ~~متى تبين له بعد أن استدبر ms061 القبلة فيها. # ويستدل أبو حنيفة لما ذهب إليه هو وأصحابه بقوله تعالى: # فأينما تولوا فثم وجه الله ~~، وهذه ~~الآية نزلت إثر حادث يرويه الترمذي عن عامر بن ربيعة إذ يقول: كنا مع رسول ~~الله # صلى الله عليه وسلم # في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة؟ فصلى كل رجل على ~~حياله، فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله # صلى الله عليه وسلم ~~، فأنزل الله تعالى: # أينما تولوا ~~فثم وجه الله ~~؛ أي قبلته. # والمراد بهذا الحكم الذي جاء به هذا النص حالة الاشتباه، وهو نص مطلق فلا ~~يجوز تقييده بغير من صلى مستدبرا القبلة بغير دليل. ثم إنه في مثل هذه ~~الحالة ليس على الإنسان إلا التحري جهده، فهذا كل ما يستطيعه، ولا يكلف ~~الله نفسا إلا وسعها، فلا يجب عليه الإعادة، كما لو صلى بالتيمم ثم وجد الماء. # 5 ~~(4) # وهناك هذه المسألة، وهي فيمن له حق استعمال رخصة السفر والإفادة منها في ~~قصر الصلاة وفي الفطر إذا كان صائما؛ أهو المسافر في طاعة أو في معصية، أو ~~الأول فقط؟ # يرى أبو حنيفة وأصحابه أن المطيع والعاصي في رخصة السفر سواء. ويرى ~~الشافعي هذه الرخصة لا تكون للمسافر في معصية، كمن سافر لقطع الطريق ~~مثلا. # وحجة أبي حنيفة النصوص المطلقة في هذا؛ أي التي لا تفرق في الرخصة بين ~~سفر المطيع وسفر العاصي؛ وهي قوله تعالى: # فمن كان ~~منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام ~~أخر # وقوله # صلى الله عليه وسلم ~~: «فرض المسافر ركعتان.» # ومن ناحية أخرى، فإن الله لطيف بعباده جميعا، حتى إنه ليمتع الكافر ~~بكثير من طيبات هذه الحياة، فكيف يمنع الفاسق المسافر لمعصية هذه الرخصة؛ ~~وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الله يحب أن يؤتى برخصه كما يجب ~~أن يؤتى بعزائمه، وهذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.» ~~(5) # وفي باب الصوم. يرى أبو حنيفة أن من صام يوما من شهر رمضان وهو شاك ~~أنه منه أو من شعبان، ثم علم بعد ms062 ذلك أنه من رمضان، أجزاه. # وبهذا الرأي أخذ أصحاب الإمام، على حين رأى ابن أبي ليلى أنه لا يجزيه ~~ذلك، وعليه قضاء يوم مكانه. # 6 ~~(6) # وفي الزكاة يذكر أبو يوسف أنه إذا كان على رجل ألف درهم، وله على الناس ~~دين ألف درهم، وفي يده ألف درهم، فإن أبا حنيفة كان يقول: ليس عليه زكاة ~~فيما بين يديه حتى يخرج دينه فيزكيه، وكان ابن أبي ليلى يقول: عليه فيما ~~بين يديه زكاة. # 7 # وكذلك. يرى ابن أبي ليلى أن زكاة الدين تجب على الذي هو عليه؛ لأنه هو ~~الذي يستعمله وينتفع به. على حين يرى أبو حنيفة أنها على صاحب الدين متى ~~وصل إلى يديه، وحينئذ عليه أن يزكيه لما مضى. وبعد أن ذكر أبو يوسف هذين ~~الرأيين قال: كذلك بلغنا عن علي بن أبي طالب، وبه نأخذ. # 8 ~~(7) # وفي الزكاة، يجيز أبو حنيفة إخراج القيمة مكان ما نص عليه من الشياه ~~والإبل والغنم؛ وذلك لما روي عن الرسول # صلى الله عليه وسلم # من جواز ذلك، ولأن سيدنا ~~معاذ بن جبل قال لأهل اليمن حين ذهب إليهم لأخذ صدقاتهم المفروضة: «ائتوني ~~بخميس أو لبيس آخذه منكم في الصدقة؛ فإنه أهون عليكم، وخير للمهاجرين ~~والأنصار بالمدينة.» # 9 # ثم إن المقصود - كما يقول صاحب الغرة المنيفة الإمام سراج الدين أبو حفص ~~عمر الغزنوي المتوفى عام 773ه - من أخذه الزكاة هو إغناء الفقير، استجابة ~~لقوله # صلى الله عليه وسلم ~~«أغنوهم عن المسألة.» وذلك يكون بدفع القيمة، أو إخراج ~~المنصوص عليه، كما قد يكون دفع القيمة أنفع للمحتاج أحيانا كثيرة. ~~(8) # ويتصل بهذا، أن أبا حنيفة رأى أنه إذا كانت أرض خراجية (أي مما فتح ~~عنوة) في يد مسلم، فإنه ليس عليه فيها عشر؛ إذ لا يجتمع العشر والخراج في ~~أرض رجل مسلم، وهذا ما روي عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا إلى الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~، على ما يقوله الإمام السرخسي في مبسوطه. # 10 ~~(9) # وفي المعاملات، إذا اشترى رجل شيئا لغيره بأمره فوجد به عيبا، كان ~~للمشتري أن يخاصم ms063 البائع في ذلك، ولا يكلف أن يحضر الآمر الذي اشترى له، ~~كما ليس عليه أن يحلف أن من اشترى له رضي بهذا العيب، إن زعم البائع ~~ذلك. # هذا رأي أبي حنيفة، ويقول أبو يوسف: «وبه نأخذ.» أما معاصره محمد بن ~~عبد الرحمن بن أبي ليلى، فكان يقول: لا يستطيع المشتري أن يرد السلعة التي ~~بها العيب حتى يحضر الآمر فيحلف ما رضي بالعيب، ولو كان غائبا بغير ذلك البلد. # 11 ~~(10) # يجوز شراء أي نوع من الثمر قبل أن يبلغ نضجه، إذا لم يشترط على البائع ~~تركه حتى يبلغ؛ وحينئذ عليه أن يقطعه إلا إذا أذن له البائع في تركه حتى ~~يدرك. وكان ابن أبي ليلى يقول: لا خير في بيع شيء من ذلك حتى يبلغ. # 12 ~~(11) # ويجيز أبو حنيفة وأصحابه شراء شيء ~~لم يره المشتري، ويكون له حينئذ الخيار في إمضاء البيع أو فسخه. ولا يرى ~~الشافعي وغيره من الفقهاء الآخرين صحة هذا العقد أصلا. # والأحناف يروون في هذا: أن رسول ~~الله عليه الصلاة والسلام قال: «من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا ~~رآه؛ إن شاء أخذه، وإن شاء تركه.» # كما يحتجون أيضا بما روي في ذلك من أن عثمان بن عفان باع أرضا له ~~بالبصرة من طلحة بن عبيد الله، فقيل لطلحة: إنك قد غبنت. فقال: لي الخيار ~~لأني اشتريت ما لم أره. وقيل لعثمان: إنك قد غبنت. فقال: لي الخيار؛ لأني ~~بعت ما لم أره. فحكما بينهما جبير بن مطعم، فقضى بالخيار لطلحة، وكان ~~ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير، فكان إجماعا. # 13 ~~(12) # والفقهاء على اتفاق في عدم جواز أن يبيع من اشترى شيئا منقولا ذلك ~~الشيء قبل أن يقبضه ممن اشتراه منه؛ ولكنهم اختلفوا في جواز بيع العقار قبل ~~قبضه من بائعه الأول، فيرى أبو حنيفة جوازه. ويرى الشافعي عدم ~~جوازه. # والشافعي ومن معه يستدلون بأحاديث وردت في المسألة، ومنها ما وري أن حكيم ~~بن حزام قال للنبي # صلى الله عليه وسلم ~~: يا رسول الله ms064 إني أشتري بيوعا فما يحل لي ~~منها، وما يحرم علي؟ قال: «إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه.» # 14 # وهنا يرى الأحناف أن المراد بهذا الحديث هو السلعة المنقولة لا العقار، ~~بدليل أن ذلك جاء صريحا في الأحاديث الأخرى التي وردت في المسألة، ومن هذه ~~الأحاديث ما جاء في الصحيحين أن رسول الله # صلى الله عليه وسلم # قال: «من ابتاع طعاما ~~فلا يبعه حتى يكتاله.» وما رواه الإمام مالك في موطئه عن عبد الله بن عمر ~~أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى ~~يستوفيه.» وفي رواية أخرى: «حتى يقبضه.» # ثم إن النهي عن بيع المنقول قبل ~~قبضه، سببه خوف الهلاك قبل تسليمه للمشتري الثاني فينفسخ العقد، والهلاك ~~فيه مقصور في العقار فلا معنى للنهي عن بيعه قبل قبضه. ~~(13) # وأبو حنيفة وأصحابه يجيزون تصرف ~~الفضولي إذا باع شيئا مملوكا لغيره، ناظرا في هذا إلى مصلحة المالك، ثم ~~يكون العقد موقوفا على إجازة صاحب الشأن، ويرى الشافعي أن تصرفات الفضولي ~~باطلة؛ لأنه لا ولاية له تجيز الإقدام على هذه التصرفات. ويرى أبو حنيفة أن ~~عقده صحيح؛ لأنه صدر ممن له أهلية عقده، وأضيف إلى محله القابل له، وهو ~~موضوع العقد كالمبيع مثلا. # والحاجة قد تدعو إلى مثل هذه التصرفات، التي تكون فيها مصلحة يعرفها ~~العاقد الفضولي للمالك، وليس في ذلك أي ضرر بأحد؛ لأن المالك له أن يجيز ~~العقد إن كان في هذا مصلحته، وله أن يبطله إن كان الأمر بخلافه، فلا معنى ~~للتعسير بالذهاب إلى بطلان تصرفات الفضولي من أول الأمر، كما يرى الشافعي ~~وغيره من الفقهاء. # 15 ~~(14) # يرى أبو حنيفة أن الوكيل في البيع يجوز بيعه بالقليل والكثير، على حين ~~يرى الشافعي أنه لا يجوز بيعه بنقصان فاحش عن ثمن المثل. # ويحتج أبو حنيفة بأن التوكيل صدر مطلقا من الموكل؛ أي لم يقيد الوكيل ~~بالبيع بثمن المثل أو بنقصان يسير، وإذا فله أن يبيع بما يرى في غير موضع ~~التهمة، فضلا عن أن البيع بالغبن الفاحش قد ms065 يضطر إليه المالك أحيانا، في ~~حالة حاجته إلى الثمن مهما كان، فيدخل ذلك تحت التوكيل. ~~(15) # وأخيرا، يجيز أبو حنيفة الكفالة بدين غير مسمى، كأن يقول الرجل للرجل: ~~أضمن ما قضى لك به القاضي على فلان من شيء، وما كان لك عليه من حق، وما شهد ~~لك به الشهود، وما أشبه هذا. ويرى بعض الفقهاء الذين كانوا معاصرين له أن ~~ضمان هذا لا يجوز؛ لأنه ضمان شيء مجهول (الاختلاف 55). # وهنا نلاحظ أن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة، فلا تمنع من صحة العقد؛ لأن الطالب ~~المكفول له لن يطالب الكفيل إلا بما ثبت من حق قبل خصمه المكفول عنه. # رعاية الفقير والضعيف # في هذه الناحية نجد مسائل كثيرة كان في رأي أبي حنيفة في كل منها رعاية لجانب ~~الفقير والضعيف على اختلاف أنواعه، سواء أراد الإمام هذه الرعاية أو لم يردها، والمهم ~~أن أدلته قادته إلى الآراء التي فيها هذه الرعاية، وها نحن أولاء نذكر ~~بعضها: ~~(1) # اختلف الفقهاء في وجوب الزكاة أو عدم وجوبها في الحلي من الذهب والفضة، ~~فذهب الإمام وأصحابه إلى الوجوب، وهو مذهب كثير من الصحابة مثل: عمر بن ~~الخطاب، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن ~~عمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري، وهو أيضا مذهب جمهور التابعين. ويرى ~~الشافعي في أحد قوليه عدم وجوبها. ومما استدل به أبو حنيفة ما رواه أبو ~~داود والنسائي، وما قال عنه الإمام النووي إن إسناده حسن، من أن امرأة أتت ~~النبي # صلى الله عليه وسلم # وفي يد ابنتها سواران غليظان من ذهب، فقال الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~: ~~«أتعطين زكاة هذا؟» قالت: لا. قال: «أيسرك أن يسورك الله بهما يوم ~~القيامة سوارين من نار!» فخلعتهما وألقتهما إلى الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~، وقالت: ~~هما لله ورسوله. # وروى الدارقطني عن علقمة بن مسعود رضي الله عنه أن امرأة أتت الرسول ~~فقالت: إن لي حليا، وإن لي ابني أخ، أفيجزي عني أن أجعل زكاة الحلي ~~فيهم؟ قال ms066: «نعم.» ~~(2) # والمدين إذا كان دينه يستغرق ماله لا زكاة عليه عند أبي حنيفة وأصحابه. ~~وفي هذا، بلا ريب، نظر لحاله ؛ إذ يعتبر حينئذ فقيرا. وعند الشافعي الدين ~~لا يمنع الزكاة؛ مستدلا بقول الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~: «هاتوا ربع عشر أموالكم.» ~~وهو خطاب عام يتناول المدين وغيره. # والأحناف يستدلون بأن المدين بدين يستغرق ماله يعتبر فقيرا، ويحل له ~~أخذ الصدقة، فكيف تجب عليه الزكاة! ثم إن الرسول # صلى الله عليه وسلم # قال: «لا صدقة ~~إلا عن ظهر غنى.» وسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه قال في خطبة له في ~~رمضان: «ألا إن شهر زكاتكم حضر، فمن كان له مال وعليه دين فليحتسب ماله بما ~~عليه، ثم ليزك بقية ماله.» ولما قال هذا لم ينكر عليه أحد من الصحابة، ~~فكان إجماعا منهم على أنه لا زكاة في المال المشغول بالدين. # 16 ~~(3) # ويقول الطحاوي بأن من سرق سرقات مختلفة، فرفعه أحد المسروق منهم، فقطع ~~له، كان ذلك القطع للسرقات كلها، ولم يتضمن شيئا منها. وهذا قول أبي حنيفة ~~ومحمد رضي الله عنهما. وقد روي عن أبي يوسف رضي الله عنه أنه قال: لا ضمان ~~عليه فيما سرق للذي رفعه خاصة حتى قطع له، وعليه الضمان للآخرين. ثم قال: ~~وبه نأخذ؛ أي برأي أبي يوسف. # 17 # ومن الواضح أن في رأي الإمام رعاية لجانب السارق، وهو حين يسرق وتقام ~~عليه الدعوى يكون ضعيفا بلا ريب، وضعفه آت من قبل نفسه، ومن أنه صار ~~تحت رحمة المسروق منه والقضاء. ~~(4) # وفي باب السرقة أيضا، أن من سرق شيئا يجب فيه القطع، وحكم عليه القاضي ~~بقطع يده؛ ولكن المسروق منه وهب له ما سرق وسلمه إليه، يسقط عنه القطع ~~عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف في رواية عنه، وفي رواية أخرى أن القطع ~~لا يسقط عنه ما دام قد قضى عليه، وهذا قول الشافعي. # يرى أبو حنيفة أن القضاء يحتاج إلى الإمضاء والتنفيذ، وهذا في الحدود من ~~الإنصاف، فيكون ما حدث قبله كالحادث قبل القضاء، ولو ms067 أن السارق ملك قبل ~~القضاء بالقطع ما سرق، لا يمكن قطع يده؛ لأن المرء لا يقطع طبعا بأخذ ما ~~يملك ، وكذلك الأمر إذا ملكه بعد القضاء وقبل التنفيذ. # ويحتج الشافعي بما روى من أن صفوان كان نائما في المسجد متوسدا رداءه ~~فجاءه سارق بسرقة، فأتى به النبي # صلى الله عليه وسلم ~~، فأمر بقطع يده، فأخرج ليقطعها ~~فتغير وجه النبي # صلى الله عليه وسلم ~~، فقال له صفوان: كأنه شق عليك يا رسول الله؟ هو ~~له صدقة. وفي رواية: وهبته منه. فقال # صلى الله عليه وسلم ~~: «هلا قبل أن تأتيني به.» ~~وأمر بقطعه. # 18 # وهنا يجيب الأحناف بأن الموهوب له لا يملك الشيء الموهوب إلا ~~بعد قبوله وقبضه، وهذا ما لم يحصل في هذه الحادثة. ثم إنها حكاية جدل فليس ~~حتما أن يعمم الحكم فيها. ~~(5) # وقد يحدث أن يسرق إنسان فتقطع يده اليمنى، ثم يعود فتقطع رجله اليسرى، ~~ثم يعود مرة ثالثة فما الحكم؟ يرى أبو حنيفة أنه لا يقطع منه شيء، بل ~~يعزر ويظل في الحبس حتى يتوب. على حين يرى الشافعي أنه تقطع يده اليسرى ~~في المرة الثالثة، ثم رجله اليمنى في المرة الرابعة. # بل إن أبا حنيفة ذهب في الرأفة بالسارق إلى القول بأن الرجل اليسرى لو ~~كانت مقطوعة قبل سرقته ثانيا لم يقطع منه شيء، ويكون جزاؤه ضمان المسروق ~~والسجن حتى يتوب، وإن كان أشل اليد اليمنى صحيح اليسرى، قطعت اليد ~~الشلاء، وإن كانت اليمنى صحيحة واليسرى هي الشلاء، لم يقطع (أي للمرة ~~الأولى فيما نرى)؛ لأنه لو قطع صار ذاهب اليدين جميعا. # والشافعي يقول بعموم قوله تعالى: # والسارق ~~والسارقة فاقطعوا أيديهما # وقد أمكن قطع اليد ~~اليسرى في المرة الثالثة فيكون واجبا، وبقوله # صلى الله عليه وسلم ~~: «من سرق فاقطعوه، ~~فإن عاد فاقطعوه، وإن عاد فاقطعوه، فإن عاد فاقتلوه.» ويجيبون عن ذلك بأن ~~الأمر في الآية لا يقتضي التكرار، وبأن الحديث طعن فيه الطحاوي وغيره من ~~رجال الحديث ونقلته، وبأنه على تقدير صحته يكون محمولا على العقوبة من ~~باب ms068 السياسة؛ لأن القتل غير مشروع في السرقة. # وأما استدلال أبي حنيفة لمذهبه، فهو بما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه ~~في مثل ذلك، وفيه يقول: «إني لأستحي من الله ألا أدع له يدا يأكل بها ~~ويستنجي بها، ولا رجلا يمشي عليها.» وبذلك حاج بقية الصحابة فدرأ عنه ~~الحد؛ كي لا تنقلب العقوبة إهلاكا بذهاب أطرافه التي يبطش بها ويمشي عليها. # 19 ~~(6) # من المتفق عليه بين الفقهاء جميعا أن المرء إذا ملك أباه أو أمه أو ابنه ~~أو بنته يعتق عليه بمجرد ملكه إياه، رعاية لحق الولادة بينهما، فهل الأمر ~~كذلك إذا ملك أخاه أو أي ذي رحم محرم منه؟ # يرى الإمام الشافعي أن الأمر مختلف، وأن الأخ الرقيق ونحوه إذا ملكه أخوه ~~أو قريبه لا يعتق عليه بمجرد دخوله في ملكه؛ وذلك لقوله تعالى: # لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ~~، ~~وهذا الأخ من كسبه فيكون ملكا له. # على حين يرى أبو حنيفة أن في استرقاق الأخ ونحوه لأخيه أو قريبه قطعا ~~للرحم الجامعة بينهما، هذه الرحم التي يجب وصلها لا قطعها. ثم قد روى ~~ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال ~~يا رسول الله: وجدت أخي يباع في السوق فاشتريته لأعتقه، فقال # صلى الله عليه وسلم ~~: «قد ~~أعتقه الله عليك.» وقد روي هذا عن عمر وابن مسعود وغيرهما، وهو قول الحسن ~~البصري، والشعبي وغيرهما أيضا. # أما الآية التي يستند إليها الشافعي، فمعناها أن للنفس جزاء ما كسبت من ~~أعمال الخير، وعليها ما اكتسبت من سيئ الأعمال، فهي واردة في الأعمال ~~التكليفية بدليل صدرها، وهي هكذا بتمامها: # لا ~~يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت ~~وعليها ما اكتسبت # الآية. ~~(7) # إذا كان لإنسان غلام مملوك، وكان من ناحية السن يولد لمثله وقال عنه: هذا ~~ابني. عتق عليه، بلا خلاف بين الفقهاء؛ لأنه يصدق في إثبات أبوته له، وليس ~~للأب أن يملك ابنه كما هو معروف. # ولكن إذا كان الغلام في سن لا تجعل مثله يولد لمثله. يرى الشافعي ~~وأبو يوسف ms069 ومحمد رضي الله عنهم أنه لا يعتق عليه؛ لأن ثبوت البنوة عنا ~~غير ممكن، والملكية ثابتة، والأصل في كل ثابت بقاؤه على ما هو عليه، إلا ~~حين يوجد ما يزيله. وكلام المالك هنا يحتمل أن يكون المراد منه الحنو ~~والشفقة على الغلام، فيكون في الإعتاق شك، وهو لا يعارض الملكية الثابتة ~~بيقين. # ويرى أبو حنيفة أن الغلام يعتق على مالكه في هذه الحالة؛ لأن العمل ~~بالحقيقة متعذر؛ لأن السن لا تسمح أن يولد مثله لمثله، فوجب العمل بالمجاز ~~المتعين، وهو إرادته تحريره؛ إذ إعمال الكلام أولى من إهماله. وغير محتمل - ~~أو على الأقل هو احتمال بعيد - أن يكون مراده إظهار حنوه وشفقته؛ لأنه ~~أورد كلامه في صورة خبر؛ ولهذا لو ناداه بقوله: يا بني! لا يعتق ~~عليه. ~~(8) # وإذا قال إنسان لأمته: أول ولد تلدينه فهو حر، فولدت ولدا حيا صار ~~حرا بلا خلاف، وكذلك إذا ولدت ولدا ميتا ثم آخر حيا عتق الحي عند ~~أبي حنيفة؛ وذلك لأن الحرية لا تصلح إلا في الحي فيتقيد كلامه به، وكأنه ~~قال: أول ولد حي تلدينه فهو حر. # على حين يرى الشافعي أنه جعل العتق جزاء أول ولد، والذي ولد حيا هو ~~مولود ثان، فلا يعتق حينئذ. # 20 ~~(9) # وأخيرا، في باب العتق ونحوه، لو أن مملوكا شركة بين اثنين فدبره ~~أحدهما، لم يكن عند أبي حنيفة للشريك الثاني أن يبيعه؛ لأنه دخله نصيب من ~~العتق، وصار له نصيب من الحرية. # ويرى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن للشريك أن يبيع حصته من هذا ~~العبد؛ لأنه لم يصدر منه أي شيء يدل على رغبته في تحرير نصيبه؛ ولكن ~~الأحناف يرون أن التدبير يعتبر سببا لاستحقاق العبد العتق، حتى إنه ليس ~~للمدبر حينئذ أن يبيع العبد الذي دبره، فيمتنع ذلك على الشريك أيضا، ~~وبخاصة والإسلام يعمل بكل وسيلة لتحرير العبيد. # 21 ~~(10) # إذا زنى رجل مجنون بامرأة عاقلة فلا حد عليه ولا عليها عند أبي حنيفة. ~~وعند الشافعي على المرأة الحد؛ لأنها عاقلة مكلفة بالأوامر والنواهي ms070 فلا ~~يسقط عنها. # وعند أبي حنيفة أن الزنا يكون من الرجل والمرأة فعلا، إلا أنه يكون ~~حقيقة من الرجل؛ لأنه الأصل، والمرأة ليست إلا محلا لفعله؛ فيسقط الحد ~~عنه؛ لأنه غير مخاطب بالتكاليف لجنونه، ويسقط عنها لأنها تبع له. # 22 # تصحيح تصرفات الإنسان بقدر الإمكان ~~(1) نبدأ هذه الناحية بذكر مسألة طريفة حقا وهي إسلام الصبي العاقل قبل بلوغه ~~الرشد؛ هل يصح ويعتبر إسلاما صحيحا، أو لا يصح منه هذا الإسلام؟ يرى أبو حنيفة أن ~~إسلامه يصح منه، على حين يرى الشافعي عدم صحته؛ وذلك لأنه إن صح منه إسلامه لكان واجبا ~~عليه، ولو كان واجبا عليه لم يكن الشرع يجيز تركه؛ لأن ترك من وجب الإسلام عليه كفر، ~~والشارع لا يجيز تقرير أحد على الكفر. # أما أبو حنيفة فيرى أن الصبي العاقل حين يصدق بالله ورسوله وشريعته، يكون قد أتى ~~فعلا بحقيقة لا يمكن ردها؛ وإذا يكون إسلامه صحيحا. ثم إننا نجيز تصرف الصبي ~~المميز إذا كان هذا التصرف نافعا نفعا محضا له، مثل قبوله الهبة، فبالأولى نجيز ~~تصرفه الذي يحقق له السعادة في الدنيا والأخرى. على أنه من الثابت أن علي بن أبي طالب ~~رضي الله عنه أسلم وهو في سن الثامنة أو العاشرة من عمره؛ أي وهو صبي لم يبلغ، وقد صحح ~~النبي # صلى الله عليه وسلم # إسلامه، وكان علي نفسه يفتخر به، حتى روي عنه أنه قال: # سبقتكمو إلى الإسلام طرا # صغيرا ما بلغت أوان حلمي # 23 ~~(2) يذكر الإمام أبو يوسف أنه إذا أوصى رجل لآخر بسكنى دار، أو غلة أرض أو بستان، ~~وذلك ثلث تركته أو أقل، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه يقول: ذلك جائز. ثم يقول أبو يوسف: ~~وبه نأخذ. وكان «محمد بن عبد الرحمن» ابن أبي ليلى يقول: لا يجوز ذلك. ويحتج السرخسي في ~~المبسوط لابن أبي ليلى بأن الموصي يملك ذلك بإيجابه للموصى له، وذلك لا يصح فيما لم يكن ~~مملوكا له، والمنفعة أو الغلة الموصى بها تحدث بعد موته فلا تكون حينئذ مملوكة ms071 له، ~~فتكون الوصية بها إذا باطلة. # 24 # ولكن الأحناف يرون أن هذا يجوز في الوصية؛ لأن العين تبقى بعد وفاة المالك مشغولة بما ~~يكون عليه من ديون والتزامات، ومنها الوصية. والأمر في هذا كالإجارة والعارية، فهما ~~عقدان لتمليك المنفعة التي لم تكن موجودة وقت العقد؛ لأنها تحدث آنا فآنا، فكما جاز ~~هذان العقدان تجوز الوصية بالمنفعة أو الغلة بعد الموت. ~~(3) ويذكر أبو يوسف أيضا أن أبا حنيفة يجيز للوصي أن يتجر بمال الأيتام الذين تحت ~~وصايته، أو يدفعها مضاربة لمن يرى فيه الخير. وأن ابن أبي ليلى يرى أن ذلك لا يجوز ~~عليهم، والوصي ضامن لذلك. وقد أخرج هذا الرأي عن أبي حنيفة محمد بن الحسن في كتاب ~~الآثار، ثم قال: وبه نأخذ. # 25 # ويذكر السرخسي في المبسوط. # 26 # أن ابن أبي ليلى ذهب إلى ما رأى؛ لأن الموصي (أبو الأولاد اليتامى) جعل ~~الوصي قائما مقامه في التصرف في أموالهم حفظا لها، وذلك يحصل إذا كان هو الذي يتصرف ~~فيها، وإذا ليس له دفعها لغيره ليتصرف فيها. # ثم يقول: ولكننا نذهب إلى ما رأينا؛ لأن الوصي قائم مقام الموصي في ولايته في مال ~~الولد، وقد كان للموصي أن يفعل هذا كله في ماله، فكذلك الوصي. وهذا لأن المأمور به هو ~~ما يكون أصلح لليتيم وأحسن، فالله تعالى يقول: # ويسألونك عن ~~اليتامى قل إصلاح لهم خير ~~، وقد يكون الأحسن في تفويض التصرف ~~إلى غيره، إما لعجزه عن مباشرة ذلك بنفسه، وإما لقلة هدايته في التجارة ونحوها. ~~(4) وفي التصرف الوصي أيضا يذكر أبو يوسف أن الوصي يجوز أن يبيع عقارا مما تركه ~~المتوفى الذي لا دين عليه، وفي ورثته صغار وكبار، ويكون بيعه عند أبي حنيفة نافذا على ~~الصغار والكبار جميعا، وهذا استحسان منه؛ لأنه كما يذكر صاحب المبسوط لما ثبتت له ~~الولاية في بيع البعض الذي يخص الصغار تثبت في الكل؛ لأن الولاية بسبب الوصاية لا تحتمل ~~التجزؤ، ولأن في بيع البعض إضرارا بالصغير والكبير معا؛ إذ الثمن يكون أعلى في هذه ~~الحالة، بخلاف ms072 حالة التجزئة وبيع البعض. ومع هذا، فللوصي ولاية في مال الكبار فيما فيه ~~منفعة لهم، ألا ترى أنه يملك الحفظ وبيع المنقولات حال غيبة الكبير لما فيه من المنفعة ~~له؟ لكن ابن أبي ليلى يرى أن بيع الوصي العقار في هذه الحالة يجوز على الصغار والكبار ~~إذا كان ذلك مما لا بد منه. ويرى أبو يوسف ومحمد أن بيعه على الصغار جائز في كل شيء، ~~ولو لم يكن منه بد، ولا يجوز على الكبار إلا إذا كان الموصي أوصى ببيعه، أو كان عليه ~~دين يباع العقار فيه. # 27 ~~(5 و6) وهاتان مسألتان تقدمتا عند الكلام على نزعة التيسير، وهما: جواز تصرفات ~~الفضولي، وجواز بيع الوكيل بالثمن القليل والكثير، خلافا لكثير من الفقهاء، وهما ~~مسألتان تظهر فيهما نزعة تصحيح تصرفات الإنسان بقدر الإمكان أيضا. ~~(7) وهذه مسألة أخرى تظهر فيها أيضا هاتان النزعتان، وهي مسألة إجازة أبي حنيفة ~~وأصحابه عقد الزواج بلفظ تزويج ونكاح وغيرهما مما يشتق من هاتين المادتين، وبكل لفظ ~~آخر وضع لتمليك العين في الحال كلفظ الهبة والعطية والبيع والشراء، بشرط نية وقرينة ~~تعين أن المراد هو الزواج؛ وبشرط فهم الشروط المقصودة. # 28 ~~(8) وأخيرا في هذه الناحية يرى أبو حنيفة أن الرجل إذا اشترى متاعا، ثم أفلس وأصبح ~~عاجزا عن دفع الثمن لا ينفسخ العقد، بل يصبر البائع أسوة الغرماء لآخرين فيه، على حين ~~يرى الشافعي أن العقد يفسخ، ويأخذ البائع المتاع الذي ~~باعه؛ لأنه أحق به. وأبو حنيفة يرجع إلى قول الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~: «إذا مات المشتري مفلسا فوجد البائع متاعه بعينه فهو أسوة الغرماء.» وقوله: ~~«أيما رجل باع سلعة فأدركها عند رجل قد أفلس فهو ماله بين غرمائه.» على حين يستند ~~الشافعي إلى حديث آخر لا يسكت الأحناف عن الإجابة عنه، وإن كانت إجابة لا ترضي الباحث ~~تماما، لكن مهمتنا هنا ليست الترجيح بين الآراء، ولكن بيان النزعات والاتجاهات، وهذا ~~يكفي فيه ذكر الآراء حتى ولو كانت مجردة من الأدلة. # 29 # رعاية حرية الإنسان وإنسانيته # وأخيرا في هذا البحث ms073 الخاص بآراء أبي حنيفة ~~واتجاهاته ونزعاته التي تؤخذ من هذه الآراء، نعرض لصور من تفكيره تجمعها رابطة واحدة، ~~وهي احترامه لحرية الإنسان وإنسانيته: ~~(1) # يحترم أبو حنيفة في المرأة البالغة إرادتها وحريتها في الزواج بمن ترى ~~الخير في أن تتزوج به، فلا يجعل لوليها سلطانا عليها، فلها أن تباشر ~~بنفسها عقد زواجها، ما دامت أهليتها كاملة، وما دام من تتزوجه كفئا لها ~~ولأسرتها، وما دام المهر مهر مثلها. على حين يرى جمهرة الفقهاء الآخرين أن ~~لها أن تتزوج بمن ترى في زواجه خيرا لها، ولكن يتولى عنها العقد أقرب ~~أوليائها إليها. وهم يستندون فيما ذهبوا إليه إلى مثل قوله تعالى في سورة ~~النور: # وأنكحوا الأيامى منكم ~~، فقد ~~أضيف العقد إلى الأولياء لا إلى نفسها، وإلى مثل قول الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~: ~~«أيما امرأة زوجت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل.» وإن دخل ~~بها فلها المهر بما أصاب منها، وإن اشتجروا (الأولياء) فالسلطان ولي من ~~لا ولي له. # ولكن أبا حنيفة الذي يقدس الحرية يرى أن ولاية إنسان على آخر لا يصح أن ~~تفرض إلا لضرورة؛ لأنها تنافي الحرية وهي حق إنساني للناس جميعا؛ ~~ولذلك يثبت للفتى متى بلغ عاقلا حق تزويج نفسه بنفسه؛ فلا معنى للتفريق ~~بينه وبين المرأة، وبخاصة أن لها مثله الولاية كاملة على مالها. إن الإمام ~~إذا يستعمل هنا القياس، ولكنه مع هذا ~~يجد له سندا من القرآن الكريم الذي يضيف عقد الزواج إلى المرأة حين يقول ~~في سورة البقرة: # وإذا طلقتم النساء ~~فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن ~~أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك ~~يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم ~~الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم ~~لا تعلمون # كما يجد سندا من الحديث أيضا، إذ يقول ~~الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~: «ليس للولي مع السيد أمر.» هذا والمسألة حرية بالبيان ~~وتفصيل القول؛ ولهذا، نرى أن نأتي بما ورد فيها عن الإمامين أبي يوسف والسرخسي. # 30 # يذكر قاضي القضاة أن الرجل إذا ms074 تزوج المرأة بشاهدين من غير أن يزوجها ~~ولي، والزوج كفء لها فإن أبا حنيفة كان يقول: النكاح جائز؛ ألا ترى أنها ~~لو رفعت أمرها إلى الحاكم، وأبى وليها أن يزوجها كان للحاكم أن يزوجها، ولا ~~يسعه إلا ذلك ولا ينبغي له غيره، فكيف يكون ذلك من الحاكم والولي جائزا، ~~ولا يجوز منها وهي قد وضعت نفسها في الكفاءة! بلغنا عن علي بن أبي طالب رضي ~~الله عنه أن امرأة زوجت بنتها فجاء أولياؤها فخاصموا الزوج إلى علي رضي ~~الله عنه، فأجاز علي النكاح. # وكان ابن أبي ليلى (محمد بن عبد الرحمن) لا يجيز ذلك ويرى أبو يوسف أن ~~الزواج يعتبر صحيحا موقوفا على إجازة المولى أو القاضي إن رفع إليه ~~الأمر، وكان الزوج كفئا، كأن القاضي هنا ولي بلغه أن ابنته قد تزوجت ~~فأجاز ذلك. ويقول صاحب المبسوط، بعدما ذكر حديث علي رضي الله عنه الآنف ~~الذكر، إن في هذا دليلا على أن المرأة إذا زوجت نفسها، أو أمرت غير الولي ~~أن يزوجها فزوجها، جاز النكاح في ظاهر الرواية سواء كان الزوج كفئا لها أو ~~غير كفء، إلا أنه إذا لم يكن كفئا فللأولياء حق الاعتراض. # ثم ذكر صاحب المبسوط أقوالا عدة مختلفة لأبي يوسف، ومنها ما رواه ~~الطحاوي من أن الزوج إن كان كفئا أمر القاضي الولي بإجازة العقد، فإن ~~أجازه جاز، وإن أبى لم يفسخ، ولكن القاضي يجيزه. وعلى قول محمد يتوقف ~~نكاحها على إجازة الولي سواء زوجت نفسها من كفء أو من غير كفء، فإن أجازه ~~الولي جاز؛ وإن أبطله بطل، إلا أنه إذا كان الزوج كفئا لها ينبغي للقاضي ~~أن يجدد العقد إذا أبى الولي أن يزوجها منه. # وأخيرا يذكر صاحب المبسوط أن من جوز النكاح بغير ولي استدل بقوله ~~تعالى: # فلا جناح عليكم فيما فعلن في ~~أنفسهن بالمعروف # وبقوله: # حتى تنكح زوجا غيره # وقوله ~~تعالى: # أن ينكحن أزواجهن # فقد أضاف ~~العقد إليهن في هذه الآيات فدل على أنها مباشرته بنفسها، وأيضا يستدل ~~بالأخبار ومنها قوله ms075 # صلى الله عليه وسلم ~~: «الأيم أحق بنفسها من وليها.» والأيم ~~المرأة التي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا، وقوله عليه الصلاة والسلام: ~~«ليس للولي مع الثيب أمرا.» وقد ورد عن عمر وعلي وابن عمر جواز النكاح ~~بغير ولي، وإن كان المستحب ألا تباشر المرأة العقد، ولكن الولي الذي ~~يزوجها. ~~(2) # ويتصل بذلك أن الرجل إذا زوج ابنته وقد بلغت، فإن أبا حنيفة كان يقول ~~إذا كرهت ذلك لم يجز النكاح عليها؛ لأنها قد أدركت وملكت أمرها فلا تكره ~~على ذلك. وكان ابن أبي ليلى يقول: النكاح جائز عليها وإن كرهت، ومما استدل ~~به أبو حنيفة قول الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~: «البكر تستأذن في نفسها، وإذنها ~~صماتها.» وقوله: «لا تنكح البكر حتى تستأمر، ورضاها سكوتها ولا تنكح الثيب ~~حتى تستأذن.» # 31 # وذكر صاحب المبسوط في ذلك حديثا عن أبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وفيه: ~~أن الرسول # صلى الله عليه وسلم # رد نكاح بكر زوجها أبوها وهي كارهة. وفي حديث آخر أنه ~~عليه الصلاة والسلام قال في البكر: «يزوجها وليها، فإن سكتت فقد رضيت، وإن ~~أبت لم تكره.» وفي رواية أخرى: «فلا يجوز عليها.» # 32 ~~(3) # ومما هو متصل بذلك أيضا، أن الأمة إذا كانت متزوجة من رجل حر، ثم ~~أعتقت، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يجعل لها الخيار، إن شاءت اختارت ~~نفسها وإن شاءت اختارت زوجها، وكان ابن أبي ليلى يقول: لا خيار لها. # 33 # ويحتج أبو حنيفة لما ذهب إليه بأن الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~، خير «بريرة» حين ~~أعتقتها السيدة عائشة رضي الله عنها وكان زوجها حرا، لكن ابن أبي ليلى ~~يقول بأن زوجها كان عبدا، على حين يظهر أن الصحيح أنه كان حرا؛ فقد سئلت ~~السيدة عائشة عن ذلك فقالت: كان حرا، على ما أخرجه البخاري وغيره من ~~الأئمة. # ونرى الإمام السرخسي يزيد المسألة وضوحا، فيذكر أنه إذا أعتقت الأمة ~~ولها زوج فلها الخيار؛ إن شاءت أقامت معه، وإن شاءت فارقته؛ وذلك لأن ~~الرسول # صلى الله عليه وسلم # قال ms076 لبريرة بعد أن ~~أعتقتها عائشة رضي الله عنها: «ملكت بضعك فاختاري.» وكان زوجها مغيث ~~يمشي خلفها ويبكي، وهي تأباه. فقال النبي # صلى الله عليه وسلم # لأصحابه: «أما تعجبون من ~~شدة حبه لها وبغضها له!» ثم قال لها: «اتق الله! فإنه زوجك وأبو ولدك.» ~~فقالت: أتأمرني؟ فقال: «لا، إنما أنا شافع.» فقالت: إذا لا حاجة بي ~~إليه. # ثم بين السرخسي الحكم في إجازة الخيار لها، فيقول بأن ملك الزوج يزداد ~~عليها بالعتق؛ فقد كان قبل العتق يملك عليها تطليقتين، ويملك مراجعتها في ~~قرأين، وعدتها حيضتين فقط، وذلك كله يزداد بالعتق إلى ثلاث، فأثبت الشرع ~~لها الخيار لتتوصل إلى دفع هذه الزيادة عنها برفع العقد من أصله؛ ولهذا حين ~~تختار نفسها يكون ذلك منها فسخا لا طلاقا. # وأخيرا يذكر أن الأمر هكذا إذا أعتقت الزوجة، وكانت رقيقة، ويستوي إن ~~كان الزوج حرا أو عبدا؛ لأن الرسول # صلى الله عليه وسلم # قال لبريرة: «ملكت بضعك ~~فاختاري» فيكون سبب الخيار معنى في جانبها وهو ملكها أمر نفسها، وهذا ~~التعليل لا يجعل فرقا بأن يكون الزوج حرا أو عبدا. ~~(4) # ولا بد في عقد الزواج من الإسلام، وهو يكون بالشهادة عليه، وهذا أمر ~~متفق عليه؛ ولكن هل لا بد أن يكون الشهود رجلين، أو يكفي أن يكونا رجلا ~~وامرأتين؟ قال بالأول الشافعي، وقال أبو حنيفة بالثاني. # ويحتج أبو حنيفة لمذهبه بقوله تعالى: «واستشهدوا شهيدين من ~~رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان»؛ فقد ~~جاءت هذه الآية مطلقة، فتشمل الأموال والزواج. كما يحتج أيضا بما روي عن ~~ابن عمر رضي الله عنه أنه أجاز شهادة امرأتين مع شهادة رجل في الزواج والفرقة. # 34 ~~(5) # وهذه مسألة، وهي من باب الشهادة أيضا، ترينا كذلك مقدار احترام ~~أبي حنيفة لغير المسلمين وحقوقهم، وتقدير ما فيهم من إنسانية، ونعني بها ~~شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض؛ إنه يقبل شهادتهم بعضهم على بعض، سواء ~~اتفقت مللهم أو اختلفت، ما داموا عدولا في دينهم، ولم يقبلها الشافعي ~~أصلا. ~~(6) # والأصل أن الإنسان، بما هو إنسان ms077، حر في تصرفاته في حدود شريعة الله ~~ورسوله، فلا يمنع من شيء منها إلا بسبب مشروع، وأسباب الحجر عند أبي حنيفة ~~ثلاثة لا رابع لها، وهي: الجنون والصغر والرق، وهذا قول زفر أيضا. على حين ~~يرى أبو يوسف ومحمد والشافعي وعامة أهل العلم، أن للحجر أسبابا مشروعة ~~أخرى، منها «السفه»؛ ولهذا يجوز عندهم الحجر على السفيه. # يرى أبو حنيفة أن أهلية السفيه أهلية كاملة متى كان قد بلغ عاقلا، إلا ~~أنه لا يسير حسب العقل في تصرفاته المالية مكابرة منه، ثم إن السفيه - ~~باعتباره إنسانا - حر في تصرفاته، والحجر ينافي الحرية، وفيه إهدار ~~لإنسانيته، وهي أجل خطرا من المال الذي يراد حفظه له بالحجر عليه. ~~والنتيجة، أنه لا يصح تضييع حريته وإهدار إنسانيته بالحجر عليه، ولتذهب ~~أمواله كلها أو بعضها إلى من يحسن تدبيرها والتصرف فيها، وفي هذا خير ~~للجماعة بعامة. ~~(7) # والأمر كذلك بالنسبة للحجر على ~~المدين بسبب الدين، فهو مع الفقهاء الآخرين في جواز حبسه متى كان قادرا ~~على أداء ما عليه من دين؛ ولكنه يمتنع عن الوفاء مطلا منه وظلما ~~للدائن، إلا أن أبا حنيفة يخالفهم فيما ذهبوا إليه من جواز الحجر على ~~المدين دينا مستغرقا، ومن جواز بيع ماله جبرا عنه، وفاء لما عليه من ~~دين وإن لم يكن مستغرقا. # 35 # هذا وقد بحثنا هذه المسألة بحثا ~~أوفى على الغاية في كتابنا «فقه الكتاب والسنة، البيوع والمعاملات المالية ~~المعاصرة»، وبينا وجهة نظر كل فريق من المختلفين فيها ومستنده من ~~الكتاب والسنة، فلا نزيد في هذه الناحية على ما كتبناه هناك. # 36 # ولكن يبقى أن نقول هنا: إن الإمام أبا حنيفة في هذه المسألة ~~كما في سابقتها، يقدر الحرية الإنسانية ويرفعها فوق كل اعتبار؛ لأن ذهابها ~~لا يمكن تعويضه بحال، والأمر ليس كذلك في المال وما إليه من عروض هذه ~~الحياة. ~~(8) # ونذكر أخيرا مسألة أخرى نرى فيها بوضوح تقدير أبي حنيفة للإنسان، بما هو ~~إنسان؛ وهي مسألة نصيب الفارس وفرسه من الغنيمة؛ ففي هذه المسألة نجد ~~الخلاف يشتد بين الفقهاء ms078، والكل يعتمد على أحاديث عن الرسول # صلى الله عليه وسلم # وآثار ~~عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم جميعا، ولكل وجهة هو موليها. # فالإمام مالك بن أنس فقيه دار الهجرة، والإمام الليث بن سعد معاصره وفقيه ~~مصر، يريان أن للفرس سهمين ولصاحبه سهما، وللراجل سهما واحدا لنفسه، وفي ~~هذا روى الإمام مالك أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: للفرس سهمان وللراجل سهم. # 37 # ومعنى هذا أن من قاتل فارسا يكون له سهمان لفرسه، وآخر لنفسه. ~~وكذلك يقول فقهاء آخرون، ومنهم الأوزاعي، والثوري، وأبو يوسف من أصحاب ~~أبي حنيفة، والشافعي. # وهنا يذكر الإمام الشافعي أن الصحيح ما قال الأوزاعي من أن للفارس ثلاثة ~~أسهم، ثم يقول: وأخبرنا عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي ~~الله عنهما، أن رسول الله # صلى الله عليه وسلم # ضرب للفارس بثلاثة أسهم وللراجل بسهم. # 38 # أما أبو حنيفة فيقول: إن للفارس سهمين فقط؛ سهم له، وآخر لفرسه. # وقد ذهب إلى هذا الرأي، مخالفا ~~لغيره ولما رووه من أحاديث وآثار؛ لأنه رأى أن من الآثار ما يشهد لكلا ~~الرأيين، وقال في ذلك: السهم الواحد متيقن به لاتفاق الآثار، وما زاد ~~عليه مشكوك فيه لاشتباه الآثار، فلا أعطينه إلا المتيقن، ولا أفضل ~~بهيمة على آدمي. # 39 # وهذا الصنيع من الإمام يرينا ~~وجها من طريقته في استنباط الأحكام؛ فقد رأى الأحاديث والآثار متعارضة، ~~فلم يستطع أن يرجح بعضها ويجعله أولى بالأخذ به من البعض الآخر. ومن ~~ناحية أخرى نراه لا يجد من الكرامة أن يفضل بهيمة على آدمي؛ لأنه - بإعطاء ~~الفارس ثلاثة أسهم منها اثنان لفرسه وآخر له، على حين لا يعطى من قاتل ~~راجلا إلا سهما واحدا - يكون الحيوان قد فضل في العطاء على الإنسان، ~~مع أن الإنسان هو الذي يقاتل ويحوز الغنيمة! ونعتقد أن تلك طريقة حكيمة في ~~استنباط الأحكام، وأن هذا منطق مقبول مستقيم. # رعاية سيادة الدولة ممثلة في الإمام # يقوم الإسلام على الشورى، وعلى التساوي بين أبنائه في الحقوق والواجبات؛ ومن ثم ~~جاء عن ms079 النبي # صلى الله عليه وسلم # أن المسلمين تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وأنه لا فضل ~~لعربي على عجمي إلا بالتقوى. # ومع هذا فللخليفة أو السلطان باعتباره «الإمام» حقوق يتولاها هو بنفسه أو بمن ينيبه ~~عنه، وهي حقوق يجب على المسلمين رعايتها، وعدم التعدي على شيء منها، وللفقهاء الذين ~~كتبوا في «الأحكام السلطانية» أو في «الفقه الدستوري» حسب التعبير الحديث، كلام طويل في ~~هذه الحقوق وتعيينها وتعدادها، وكذلك للعلماء في الفروع أو في الفقه الإسلامي آراء ~~يختلف بعضها عن بعض في مواطن كثيرة اختلافا قليلا أو كثيرا، فيما هو من حق الإمام، ~~وفيما هو من حق غيره من سواء المسلمين أو خاصتهم. # وقد رأينا بشيء من الاستقراء أن آراء أبي حنيفة في غير قليل من المسائل تتجه إلى ~~تأكيد سيادة الأمة ممثلة في الإمام، وها هي ذي بعض المسائل التي رأينا ذكرها من كثير ~~مما وقفنا عليه: # 40 ~~(1) # إذا كان لرجل أرض خراج وعجز لسبب ما عن زراعتها، ولم يستطع أداء خراجها، ~~كان للإمام أن يدفع هذا الضرر عن بيت المال بوسيلة من هذه الوسائل؛ أن ~~يدفعها لغيره مزارعة ليأخذ الخراج من نصيب المالك ويمسك الباقي له، أو ~~يؤجرها للغير ويأخذ الخراج من الأجرة، أو يزرعها لحساب بيت المال، فإن لم ~~يتمكن من شيء من ذلك، باعها وأخذ الخراج من ثمنها. # وقال غير أبي حنيفة: ليس للإمام ذلك. وعن أبي يوسف أنه يجب أن يدفع ~~للعاجز عن زراعة هذه الأرض الخراجية كفايته من بيت المال قرضا؛ ليستطيع أن ~~يعمل فيها ويستغلها ويؤدي خراجها. # 41 ~~(2) # وللإمام وحده التصرف فيما يغنمه المسلمون من الأرضين، وقد جاء في مختصر ~~الطحاوي وشرحه أنه إذا فتح للإمام أرضا من أراضي الحرب كان الرأي فيها ~~إليه، يفعل ما فيه خير للمسلمين؛ إن شاء قسمها كسائر الغنائم، وإن شاء ~~أبقاها للمسلمين وقفا عليهم، ويجعلها أرض خراج فيصرف خراجها إلى المقاتلة ~~... وإن شاء من على أهلها بالحرية، وترك أموالهم وأراضيهم ملكا لهم، على ~~أن يدفعوا الجزية عن أنفسهم، والخراج عن الأرض ms080. # 42 # وهذا ما فعله عمر بن الخطاب بأرض السواد. فإن أسلموا سقطت ~~الجزية عنهم، ولا يسقط خراج الأرض. # 43 ~~(3) # وللإمام أن يحرض المقاتلين على القتال بكل وسيلة، فالله تعالى يقول: # يا أيها النبي حرض المؤمنين ~~على القتال # ومن ذلك أن يقول مثلا: من أصاب شيئا فله ~~ربعه أو ثلثه، أو من أصاب شيئا فهو له، أو من قتل قتيلا فله سلبه. # 44 # وهذا كله ما يسمى «التفضيل». # فإن لم ينفل الإمام شيئا فقتل رجل من الغزاة آخر من الأعداء، لم يختص ~~بسلبه عند الأحناف، وكان سلبه له عند الشافعي إن قتله وهو (أي العدو) ~~مقبل عليه مقاتل له؛ لأنه حينئذ يكون قد قتله بقوته وحده، فيختص بسلبه، ~~أما لو قتله مدبرا منهزما عنه، فيكون قد قتله بقوة الجماعة، فيكون سلبه ~~من جملة الغنيمة فلا يختص به. # 45 ~~(4) # وإذا أحيا رجل أرضا مواتا، هل يملكها ولو لم يأذن له الإمام، أو لا بد ~~من إذنه؟ هنا يختلف رأي أبي حنيفة عن رأي صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن. ~~يرى هذان أن من أحيا مواتا من الأرض فقد ملكه بذلك، أذن له الإمام أو لم ~~يأذن؛ على حين يرى أبو حنيفة أنه لا بد في الإحياء من إذن الإمام، فلو فعل ~~ذلك بلا إذنه لم يملك ما أحياه. # 46 ~~(5) # والولاية على الطفل اللقيط، في ماله ونفسه، للإمام عند أبي حنيفة؛ لقول ~~رسول الله # صلى الله عليه وسلم ~~: «السلطان ولي من لا ولي له»؛ فهو الذي يزوج ~~اللقيط، ويتصرف في ماله؛ كما له استيفاء القصاص من قاتله. ويرى غيره أنه ~~ليس له هذا، أما الملتقط فليس له شيء من ذلك؛ لأنه لا ولاية له عليه ~~لانعدام سببها وهو القرابة والسلطنة. # 47 ~~(6) # والإمام هو أولى الناس بالصلاة على الميت، ويليه في ذلك القاضي ثم إمام ~~الحي، وبعد الثلاثة إن لم يحضر أحد منهم يكون الحق في الصلاة لولي المتوفى؛ ~~وذلك لأن الإمام نائب عن النبي # صلى الله عليه وسلم ~~، والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ~~كما جاء في القرآن الكريم، فكذلك ms081 نائبه يكون أولى من غيره فيما تجب الولاية ~~فيه. # وتقديم الإمام أو الأمير أو النائب من قبله على الأقارب هو رأي أكثر ~~أهل العلم، وفي رأي آخرين أن أحق الناس بالصلاة على الميت هو من أوصى له أن ~~يصلي عليه. # 48 ~~(7) # وفي الحج نرى أن الحاج يصلي بعرفات الظهر والعصر معا؛ أي جمع تقديم في ~~وقت الظهر، جماعة عند أبي حنيفة، وهنا يشترط أن يكون الإمام هو الخليفة أو ~~نائبه، وعند الصاحبين لا يشترط الجماعة لصحة الجمع بين هاتين الصلاتين، وفي ~~الجماعة لا يشترط أن يكون الإمام هو الخليفة أو نائبه. # 49 # وفي صلاة الجمعة نجد أن أبا حنيفة يشترط لصحتها أن يقوم بها الخليفة، أو ~~من يأذن له بإقامتها من أمير أو وال ونحوهما، حتى إن من ينصبه العامة في ~~بلد من البلاد لإقامة الجمعة مع وجود أحد ممن ذكرنا ليس له أن يصلي بهم ~~الجمعة إلا لضرورة، وكذلك الأمر في إقامة الجمعة بمنى أيام الحج، فالخليفة ~~أو نائبه هو الذي له إقامتها، وليس ذلك لأمير الحج، إلا لو كان ذلك مما ~~أذن له فيه من قبل الإمام. # 50 ~~(8) # وأخيرا، على المسلم زكاة أمواله على اختلاف صنوفها من باطنة وظاهرة، ~~والأموال الباطنة هي النقود وأموال التجارة إذا كانت في مواضعها، والظاهرة ~~هي المواشي وغيرها من السلع التجارية إذا خرج بها من بلده إلى بلد ~~آخر. # وله أن يدفع زكاة الأموال الباطنة إلى الفقراء والمستحقين لها بنفسه، ~~ويصدق بيمينه إن ادعى ذلك، أما في الأموال الظاهرة، فلا يصدق قوله: ~~أديت زكاتها للفقراء؛ لأن حق المطالبة بزكاتها وأخذها - لتوزيعها على ~~مصارفها - للسلطان أو من ينيبه عنه لذلك، وإذا فللإمام أخذها ثانيا، عند ~~أبي حنيفة، خلافا لبعض الفقهاء. # 51 # وبعد، فتلك هي الاتجاهات الكبرى التي رأيناها ~~تسود تفكير أبي حنيفة الفقهي، ولا نزعم أنها كل ما كان له من اتجاهات، ولا أنه كان يقصد ~~عامدا إليها؛ ولكن رأينا ظهور كل منها بوضوح في كثير من آرائه وتفكيره، وبذلك فتحنا ~~الباب لأبحاث تظهر منا أو غيرنا في ms082 هذه الناحية الهامة التي تساعد إلى حد كبير في تجلية ~~أبي حنيفة ومذهبه الفقهي. # وإذا كان الاستثناء يؤكد القاعدة كما يقولون ، فإننا نذكر أن الباحث لا يعسر عليه أن ~~يجد من آراء الإمام ما لا يتفق مع هذا أو ذاك من الاتجاهات التي ذكرناها، وحسبنا هنا أن ~~نشير إلى هذه المسائل: ~~(1) # يرى أبو حنيفة أن المجنون إذا أفاق من جنونه في بعض شهر رمضان فعليه قضاء ~~ما مضى منه، وليس هذا من التيسير في شيء، وإنما التيسير فيما روي عن ~~الشافعي وغيره من أنه لا قضاء عليه؛ لأنه لم يكن عليه أداؤه وهو مجنون، ~~والإنسان يقضي ما كان عليه أداؤه. ~~(2) # وكذلك ليس من التيسير في المعاملات ما ذهب إليه من عدم جواز «السلم» ~~في الحيوان، ولا في منقطع الجنس من السلع وقت العقد، ومن عدم جوازه إلا ~~مؤجلا؛ ولكن التيسير فيما ذهب إليه الشافعي وغيره من الجواز في هذه ~~المسائل الثلاث. # 52 # ومثل هذا عدم إجازته رهن المشاع، على حين يرى غيره جوازه، وإن كان ~~لأبي حنيفة ما يستدل به، كما لمخالفيه أدلتهم أيضا. ~~(3) # وليس من رعاية الفقير ما يراه أبو حنيفة وأصحابه من أنه لا زكاة في مال ~~الصبي والمجنون؛ لأن كلا منهما ليس مخاطبا بأحكام الشريعة لانعدام ~~الأهلية فيهما، بل تتحقق رعاية الفقير فيما ذهب إليه الفقهاء الآخرون من ~~وجوب الزكاة في مال كل منهما، ثم على الوصي أو الولي والقيم الأداء، ~~وبذلك يصل للفقير حقه من الزكاة، وبخاصة أن كلا من الصبي والمجنون ينتفع ~~بماله، والدولة تحمي هذا المال وتعين على استغلاله، فمن الواجب أداء الزكاة ~~عنه. # هذا وقد آن أن ننتقل إلى البحث التالي، وهو عرض صور من الخلاف بين أبي حنيفة ~~ومخالفيه؛ لنعرف فيم كانوا يختلفون، ومناهج كل منهم في الاستدلال لما يذهب إليه؛ ~~ولنلمس أيضا مقدار ما كان للفقه والفقهاء من حيوية قوية في ذلك الزمان المجيد. # | صور من الخلاف بين أبي حنيفة وغيره # كان لا بد أن يختلف الفقهاء في ذلك العصر، عصر الاجتهاد ms083 لبيان أحكام الله، فيما يجد ~~من نوازل ومشاكل، وفيما يظهر من معاملات جديدة. وليس من قصدنا هنا الاستكثار من صور هذه ~~الاختلافات؛ ففي كتب «اختلاف الفقهاء» بخاصة، وكتب الفقه الأصيلة بعامة، من ذلك الشيء ~~الكثير الذي يعز على الإحصاء، والذي يرينا ما كان للفقه والفقهاء من حيوية وحياة خصبة ~~دائبة الحركة والنمو والإنتاج في ذلك الزمن. # وإذا، لنا أن نكتفي بذكر هذه الصورة الآتية لتلك الاختلافات، على أن نوجز في الحديث ~~عنها. وفي المراجع التي نأخذ عنها غنية لمن يريد الإطالة والاستقصاء. # في الحدود # إذا قذف رجل رجلا بالزنا فقال يا ابن الزانيين، فليس على القاذف إلا حد واحد. ثم ~~لا تقام الحدود في المساجد. ويرى ابن أبي ليلى (محمد بن عبد الرحمن) أن عليه حدين، وأنه ~~يصح إقامة الحدود في المساجد، وقد أقامها فعلا في المسجد. # 1 # والأصل أن المغلب في حد القذف عند أبي حنيفة هو حق الله تعالى، فعند الاجتماع تتداخل ~~الحدود، والمقصود وهو الزجر للقاذف ودفع العار عن المقذوف يحصل بحد واحد، فوجب ~~الاكتفاء به، على حين أن الغالب في القذف عند ابن أبي ليلى هو حق العبد، وهنا المقذوف ~~حقيقة اثنان هما الأبوان، فوجب على القاذف حدان. # وأما أمر عدم إقامة الحد في المسجد، فقد رجع فيه أبو حنيفة إلى قول الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~: ~~«لا تقام الحدود في المساجد.» ولأن تلويث المسجد حرام، وإليه أشار الرسول في قوله: ~~«جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم.» وقد يؤدي إقامة الحد في المسجد إلى ~~تلويثه، وعلى القاضي إذا أراد أن يقام الحد بين يديه أن يخرج من المسجد، وإلا بعث ~~أمينا ليقام الحد بحضرته خارج المسجد أيضا، وبهذا وذاك ورد الأثر عن الرسول عليه ~~الصلاة والسلام. # 2 # وقد وقع الخلاف فعلا في هذه المسألة بناحيتيها أيام أبي حنيفة؛ فقد روي أن امرأة ~~معتوهة كانت بالكوفة فآذاها رجل، فقالت له يا ابن الزانيين فأتي بها إلى القاضي ابن ~~أبي ليلى فاعترفت بما كان منها من القذف، فأقام عليها حدين ms084 في المسجد، فذكر ذلك ~~لأبي حنيفة فقال: أخطأ في سبعة مواضع؛ بنى الحكم على إقرار المعتوهة، وإقرارها هدر. ~~وألزمها الحد، والمعتوهة ليست من أهل العقوبة. وأقام عليها حدين، ومن قذف جماعة لا ~~يقام عليه إلا حد واحد. وأقام حدين معا، ومن اجتمع عليه حدان لا يوالى بينهما، ~~ولكن يضرب أحدهما، ثم يترك حتى يبرأ ثم يقام الآخر. وأقام الحد في المسجد، وليس ~~للإمام أن يقيم الحد في المسجد. وضربها قائمة، وإنما تضرب المرأة قاعدة. وضربها لا ~~بحضرة وليها، وإنما يقام الحد على المرأة بحضرة وليها، حتى إذا انكشف شيء من بدنها في ~~اضطرابها ستر الولي ذلك عليها. # في الشهادة # ويذكر الإمام أبو يوسف أن الرجل إذا شهد لامرأته فإن أبا حنيفة كان يقول: لا تجوز ~~شهادته لها، وكذلك بلغنا عن شريح، وبهذا نأخذ، وكان ابن أبي ليلى يقول: شهادته لها جائزة. # 3 # وفي هذه المسألة يبين بوضوح رعاية كثير من الفقهاء لعامل الزمن وأثره في تطور الفقه ~~وأحكامه، وذلك، بأن الله تعالى يقول في سورة البقرة: # واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين ~~فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء # ويقول في ~~سورة الطلاق: # وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا ~~الشهادة لله ~~. ومن هاتين الآيتين نرى أن القرآن لم يشترط لقبول ~~الشهادة إلا أن يكون الشاهد ممن ترضى حاله وأمانته، ومعنى هذا أن يكون عدلا يؤمن ~~على قول الحق ولا يتبع الهوى. # 4 # ولهذا - كما قلنا في بحث سابق لنا، # 5 # يذكر ابن القيم عن عبد الرزاق الصنعاني أن عمر بن الخطاب قال بجواز شهادة ~~الوالد لولده، والولد لوالده، كما يقول الزهري: «لم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح في ~~شهادة الوالد لولده، ولا الأخ لأخيه، ولا الزوج لامرأته، ثم دخل الناس بعد ذلك، فظهرت ~~منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم إذا كان من قرابة، وهم الولد ~~والوالد والأخ والزوج والمرأة، ولم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان.» # 6 # على أن فكرة تطور الفقه في هذه المسألة التي قلنا بأننا نلمسها فيما ms085 ذهب إليه ~~أبو حنيفة فيها حين لم يجز شهادة الرجل لزوجته، قد يعارضها أمران: ~~(أ) # هذا الحديث الذي يروى عن الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~، وهو: «لا تقبل شهادة الوالد ~~لولده، ولا الولد لوالده، ولا المرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته، ولا العبد ~~لسيده، ولا المولى لعبده، ولا الأجير لمن استأجره.» ~~(ب) # وما رواه محمد بن الحسن الشيباني عن شريح أنه قال: «أربعة لا تجوز شهادة ~~بعضهم لبعض؛ المرأة لزوجها، والزوج لامرأته، والأب لابنه، والابن لأبيه» ... ~~إلى آخر ما قال. # 7 # فإن معنى هذا وذاك أن عدم إجازة شهادة أحد الزوجين للآخر أمر ثابت عن الرسول نفسه # صلى الله عليه وسلم ~~، «ولهذا رد شريح نفسه أيضا شهادة سيدنا الحسن لأبيه سيدنا علي رضي الله ~~عنهما؛ وذلك في قضية كانت منه ضد يهودي، وطلب أن يزيده شاهدا مكان الحسن. إن من ~~المعروف، كما يذكر ابن القيم، أنه قد أجاز في قضية رفعت أمامه لامرأة شهادة أبيها ~~وزوجها، ولما قال له الخصم: هذا أبوها وهذا زوجها! قال له: أتعلم شيئا تجرح به ~~شهادتهما؟ كل مسلم شهادته جائزة.» # ونقول إن صاحب فتح القدير، يقول عن هذا الحديث: «وهذا الحديث غريب، وإنما أخرجه ابن ~~أبي شيبة وعبد الرزاق من قول شريح.» # 8 # وقد يعزز ما يقال من أن هذا ليس حديثا ثابتا عن الرسول، أنه لو كان كذلك ~~حقا ما وسع من قبلوا هذه الضروب من الشهادة أن يقبلوها، ومنهم عمر وغيره من سلف ~~المسلمين. # وفيما يختص بالقاضي شريح نفسه، ومخالفة قوله لقضائه، ينبغي أن نلاحظ أنه كان من ~~المعمرين؛ فقد عاش - كما يذكر ابن قتيبة في كتابه «المعارف» - مائة وعشرين عاما، ~~كما ظل قاضيا للكوفة لعمر بن الخطاب ومن بعده أكثر من سبعين عاما. وهذه مدة طويلة ~~يتغير فيها الرأي والحكم بتغير الزمن والناس، فيكون هو نفسه قد استجاب أيضا لعامل ~~التطور، فلم يجز شهادة أحد من الزوجين للآخر وإن خالف بذلك قضاءه السابق ~~بقبولها. # وقد عرض الإمام شمس الدين السرخسي هذه المسألة عرضا وافيا بين ms086 فيه رأي الإمام ~~أبي حنيفة، واحتج لهذا الرأي بالحديث الذي رويناه آنفا عن الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~، وبالنقل ~~الذي نقلناه أيضا عن القاضي شريح. # كما قرر أن سبب عدم إجازة هذا النوع من الشهادة هو ما في شهادة أحد الزوجين للآخر من ~~التهمة، وكذلك الأب لابنه أو الابن لأبيه، مستشهدا بالعادة وما عرف من إيثار منفعة ~~المشهود له في هذه الحالات على منفعة المشهود عليه الأجنبي. # وتكلم أيضا عن مخالفة الإمام مالك في الولد والوالد، إذ يجيز شهادة كل واحد منهما ~~لصاحبه، وذلك «لأن دليل رجحان الصدق في خبره، انزجاره عما يعتقد حرمته، ولا فرق في هذا ~~بين الأجانب والأقارب؛ ولهذا قبلت شهادة الأخ لأخيه، فكذلك شهادة الوالد لولده، ولا ~~معتبر بالميل إليه طبعا بعدما قام دليل الزجر شرعا.» # 9 # والسرخسي لا يرضى بحق قياس أمر الأب والابن على أمر الأخ وأخيه؛ لأن بين الأولين ~~«بعضية» قد تكون سببا كافيا للتهمة، ولأن المنافع بين الأب والابن متصلة مشتركة؛ ~~ولذلك قال الله تعالى: # آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون ~~أيهم أقرب لكم نفعا # بخلاف الإخوة وسائر القرابات. # وإذا كان مالك يخالف أبا حنيفة في شهادة الأب لابنه أو العكس، فإن الإمام الشافعي ~~يخالف في شهادة أحد الزوجين للآخر، فيقول: «تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه؛ لأنه ليس ~~بينهما بعضية، والزوجية قد تكون سببا للتنافر والعداوة، وقد تكون سببا للإيثار، فهي ~~نظير الأخوة أو دون الأخوة، فإنها تحتمل القطع، والأخوة لا تحتمل.» # والسرخسي لا يرضى بحق أيضا هذا الاستدلال، بشهادة العرف والعادة والمشاهدة؛ ولهذا ~~يرد عليه ببيان أن صلة الزوجية تعتبر حقا تهمة في شهادة كل واحد من الزوجين لصاحبه ... ~~وذلك لأن «الظاهر ميل كل واحد منهما لصاحبه وإيثاره على غيره، كما في الآباء والأولاد، ~~بل أظهر، فإن الإنسان قد يعادي والديه لترضى زوجته، وقد تأخذ المرأة من مال أبيها ~~فتدفعه إلى زوجها، والدليل عليه أن كل واحد منهما يعد منفعة صاحبه منفعته، ويعد الزوج ~~غنيا بمال الزوجة؛ ولهذا قيل في تأويل قوله تعالى ms087 (في شأن الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~): # ووجدك عائلا فأغنى ~~؛ أي غني بمال خديجة رضي الله ~~عنها.» # في المرافعات والقضاء # وهي مسألة في نطاق قانون المرافعات حسب تقسيمات القانون الوضعي، وهي مسألة ذات ~~شعبتين، وفي كل منهما اختلف أبو حنيفة وابن أبي ليلى، وقد ذكرها أبو يوسف ~~هكذا: # إذا أثبت القاضي في ديوانه الإقرار وشهادة الشهود ثم رفع إليه ذلك ولا يذكره، فإن ~~أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول: لا ينبغي له أن يجيزه. وكان ابن أبي ليلى يجيز ذلك. ~~«ثم» قال أبو حنيفة: إن كان يذكره ولم يثبته عنده أجازه، وبه نأخذ. وكان ابن أبي ليلى ~~يقول: لا يجيره حتى يثبته عنده وإن ذكره. # 10 # وهنا، ينبغي أن نلاحظ من أول الأمر: أن أبا حنيفة لم يل القضاء، وأن ابن أبي ليلى ~~كان قاضيا، وكذلك كان أبو يوسف، بل كان قاضي القضاة، والقاضي تعرض عليه المشاكل ~~العملية التي تتطلب حلولا قد يفطن لها الفقيه الذي يطبق الفقه عمليا، على حين لا ~~يفطن لها الفقيه نظريا فقط. # وفي الحق، أنه من العسير عمليا أن يتذكر القاضي كل ما مر به من الخصومات والقضايا ~~وما حصل من الإجراءات في كل منها. وما اتخذت السجلات في المحاكم إلا لإثبات ما يجري ~~في القضايا، فيجب لذلك أن تكون بهذا الاعتبار أوراقا رسمية يعتمد عليها ويؤخذ بما ~~يثبت فيها، وإلا لخلت هذه الأوراق الرسمية من الفائدة، وذهب الغرض الذي جعلت من ~~أجله، وعجز القاضي عن البت في أكثر ما يعرض عليه ويطلب منه الحكم فيه؛ لإنهاء ~~الخصومات قضائيا. # ومن ثم، كان نظر القاضيين (ابن أبي ليلى، وأبو يوسف) أدق وأنجح عمليا، ومن هنا ~~نرى كيف يستفيد الفقه من القضاء إلى حد كبير، ومن ثم أيضا، كان رأي ابن أبي ليلى ~~أدق في الناحية الثانية من المسألة، وهي أن القاضي لا يجيز الإقرار والشهادة ونحو ذلك، ~~إلا إذا كان ثابتا عنده في أوراقه الرسمية، ولا يجيز شيئا من هذا إن كان يتذكره ولم ~~يثبته؛ فالإنسان ms088 عرضة للنسيان، وذاكرته عرضة للخطأ، كما هو مشاهد وملموس. # وكأن شمس الدين السرخسي رأى الأمر بحاجة إلى ~~تبرير رأي الإمام أبي حنيفة، مع ميله لرأي أبي يوسف الذي هو رأي محمد أيضا، فقال: # 11 # وهذا منهما (أي من الصاحبين) نوع رخصة؛ فالقاضي لكثرة اشتغاله يعجز أن ~~يحفظ كل حادثة؛ ولهذا يكتب، وإنما يحصل المقصود بالكتاب إذا جاز له أن يعتمد على الكتاب ~~عند النسيان، فإن الآدمي ليس في وسعه التحرز عن النسيان، ألا ترى إلى ما ذكر الله ~~تعالى في حق من هو معصوم فقال: # سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله ~~! وفي تخصيصه بذلك بيان أن غيره ينسى، ~~وسمي الإنسان إنسانا لأنه ينسى، قال الله تعالى: # ولقد ~~عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما # فلو ~~لم يجز له الاعتماد على كتابة عند نسيانه، لأدى إلى الحرج، والحرج مرفوع، ثم ما كان ~~في قمطره تحت خاتمه، فالظاهر أنه حق ... والقاضي مأمور باتباع الظاهر. # ومذهب أبي حنيفة رحمه الله هو العزيمة، فالمقصود من الكتاب أن يتذكر إذا نظر فيه ... ~~فإذا لم يتذكر كان وجوده كعدمه، وهذا؛ لأن الكتاب قد يزور ويفتعل به، والخط يشبه ~~الخط، والخاتم يشبه الخاتم، وليس للقاضي أن يقضي إلا بعلم، وبوجود الكتاب لا يستفيد ~~العلم مع احتمال التزوير والافتعال فيه. # هكذا يرى السرخسي، وهكذا يحاول تبرير رأي الإمام أبي حنيفة، ولكن هيهات! إن هذا رأي ~~يوقع في الحرج، والحرج مرفوع بنص القرآن، فرأي ابن أبي ليلى والصاحبين أجدر بالاتباع، ~~وبخاصة في هذا العصر الذي نظمت فيه سجلات المحاكم وأوراقها، واتخذ لذلك الضمانات ~~الكافية التي توجب الاعتماد عليها، سواء تذكر القاضي ما ثبت فيها أو لم يتذكر شيئا ~~منه. # إفلاس المشتري # وهذه مسألة من مسائل القانون التجاري، وهي ما الحكم فيمن اشترى سلعة وقبضها، ثم أفلس ~~أو مات قبل دفع الثمن للبائع، أو بعدما دفع بعضه فقط، وهو مدين لآخرين؟ أيكون البائع ~~أحق بالسلعة التي باعها إذا وجدها لدى المشتري؟ أم هو أسوة بالغرماء الآخرين، فيدخل ms089 ~~المبيع ضمن ما يوجد لدى المشتري، ويباع ويقسم ثمنه بالحصص بين الدائنين؟ # يرى أبو حنيفة وأصحابه أن البائع ليس له استرداد ما باع لنفسه خاصة، بل هو والدائنون ~~الآخرون أسوة فيه، وحينئذ تباع ويأخذ كل من ثمنها بنسبة دينه من مجموع الديون. # ويرى الشافعي أن البائع أحق بما باع، وإذا، له أن يسترده ويختص به، وذلك لقول الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~: «إذا أفلس المشتري فوجد البائع متاعه عنده فهو أحق به.» ولأن البائع لو عجز ~~عن تسليم المبيع كان للمشتري حق فسخ العقد، فكذلك عجز المشتري عن دفع الثمن يجعل للبائع ~~الحق في فسخ العقد أيضا؛ لأن البيع عقد معاوضة، ومعنى المعاوضات على المساواة في ~~الالتزامات والحقوق. # ويحتج الكاساني لرأي أبي حنيفة بما روي عن الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~، قال: «من باع بيعا ~~فوجده وقد أفلس الرجل، فهو ماله بين غرمائه.» # ومن ناحية أخرى فإنه ليس للبائع حق حبس المبيع ~~عن المشتري حتى ينقده الثمن إذا كان مليئا قادرا على دفعه، فلا يكون أحق بثمنه بعد ~~موته أو إفلاسه؛ لأن الثمن بدل المبيع فيقوم مقامه. ثم يذكر الكاساني أن الحديث الذي ~~يستدل به الشافعي على ما ذهب إليه من أن البائع أحق ~~باسترداد ما باع لنفسه، محمول على ما إذا كان المشتري قد قبض المبيع بغير إذن البائع، ~~فإنه في هذه الحالة يكون البائع أحق بما باع عند الأحناف أيضا. # 12 # وهنا، نجد من الخير الرجوع إلى بحث سابق لنا - وهو «محاضرات في تاريخ الفقه الإسلامي، ~~عصر نشأة المذاهب» # 13 ~~- تعرضنا فيه للخلاف الذي ثار بين مالك والليث بن سعد فقيه مصر، في مسألة ~~ما إذا باع رجل لآخر سلعة، ثم أفلس وقد دفع بعض ثمنها أو تصرف فيها بأن أنفق شيئا ~~منها مثلا، ومن هذا البحث نعلم أن الإمام مالكا يذهب إلى ما ذهب إليه الإمام الشافعي ~~من بعده، على حين يميل الإمام الليث إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة. # البيع مع البراءة # ولو باع رجل سلعة لرجل آخر ms090 على أنه بريء من كل عيب، وقبل المشتري هذا الشرط، فما ~~حكم هذا العقد المقترن بهذا الشرط؟ يرى أبو حنيفة أن هذا العقد جائز، ولا يستطيع ~~المشتري أن يرد المبيع بأي عيب، كائنا ما كان، وكان ابن أبي ليلى يقول: لا يبرأ من ذلك ~~حتى يسمي العيوب كلها بأسمائها. # 14 # ويرى الشافعي أن شرط البراءة من العيوب المجهولة باطل، إلا أن يكون عيبا ~~في باطن الحيوان فله في ذلك قولان، وله في البيع بشرط البراءة من كل عيب قولان أيضا: ~~أحدهما أن العقد فاسد، والثاني أنه صحيح والشرط باطل. # 15 # وقد أطال صاحب المبسوط في الاحتجاج أولا للإمام الشافعي، ثم عقب عليه بالاحتجاج لما ~~يراه أبو حنيفة وأصحابه. # 16 # وذلك أن الشافعي يحتج بنهي النبي # صلى الله عليه وسلم # عن بيع الغرر، وهذا بيع غرر؛ ~~لأن المشتري لا يدري حال المعقود عليه، وأيضا فإن موجب العقد أن يستحق المشتري المعقود ~~عليه سليما، وهذا الشرط يمنع من ذلك، فيكون مثله مثل شرط يمنع الملك للمشتري؛ ولأن ~~البائع من ناحية ثالثة، يكون قد التزم بهذا الشرط تسليم المجهول بالتزامه تسليم المبيع ~~على الصفة التي هو عليها حال العقد، وهذا ما لا يعلمه المشتري؛ ومن كل ذلك يكون العقد ~~غير صحيح، بخلاف ما إذا سمى البائع العيب، فإن ما يلتزم تسليمه بالعقد حينئذ يكون ~~معلوما، فيكون العقد صحيحا. # وهكذا نرى الشافعي لا يجيز العقد بهذا الشرط، استنادا إلى قواعد الفقه العامة؛ ومنها ~~النهي عن بيع الغرر، وعدم صحة الإبراء من الحقوق المجهولة، وهذا وذاك يمنع صحة ~~العقد. # أما أبو حنيفة، فيستند إلى أمرين: قول الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~: «المسلمون عند شروطهم إلا ~~شرطا أحل حراما أو حرم حلالا.» والثاني اتفاقهم # 17 # على صحة البيع بشرط البراءة من كل عيب. فهذا يزيد بن ثابت قد ابتاع مملوكا ~~من عبد الله بن عمر، بشرط البراءة من كل عيب، ثم طعن فيه بعيب، فاختصما إلى سيدنا عثمان ~~بن عفان رضي الله عنه، فطلب أن يحلف البائع بالله أنه باعه ms091 وما به عيب يعلمه وكتمه عنه، ~~فنكل عن اليمين، فرده عليه، ومعنى هذا أنه لو كان قد حلف على صحة الواقعة ، للزم البيع ~~ولم يستطع المشتري أن يفسخه، فيدل على أن البيع بهذا الشرط إن هذا صح يكون ~~جائزا. # ثم الإبراء عن الحقوق المجهولة يصح، بدليل أن النبي # صلى الله عليه وسلم # بعث علي بن أبي طالب ~~ليصالح بني جذيمة، فأعطاهم دية ما فقدوا من دماء وأموال ثم بقي في يديه بعض المال، ~~فأعطاه لهم، وقال هذا لكم عما لا تعلمونه ولا يعلمه رسول الله # صلى الله عليه وسلم ~~، فبلغ ذلك ~~الرسول فسر منه، فهذا دليل جواز الصلح عن الحقوق المجهولة، فضلا، عن أن الإبراء عن ~~الحقوق المجهولة هو إسقاط لها، فيصح عن المعلوم والمجهول منها؛ لأنه لا يحتاج إلى ~~التسليم، فتكون الجهالة هنا غير مؤدية إلى المنازعة. # والقول بأن الشرط يمنع موجب العقد أو مقتضاه، وهو تسليم المبيع سليما - وهذا ما لا ~~يقدر عليه البائع ما دام المبيع معيبا، وكل شرط كذلك لا يصح ويفسد العقد به - قول غير ~~صحيح؛ لأن مقتضى العقد هو لزومه، والبائع بهذا الشرط قد التزم تسليم المبيع على ما هو ~~عليه، وذلك مقدور عليه بلا ريب، والقدرة على التسليم شرط جواز العقد، فكيف يقال إنه ~~يكون هنا موجبا لفساده؟ # هكذا يستدل أبو حنيفة وأصحابه، ولكننا نلاحظ أن الاستدلال بما كان من سيدنا علي رضي ~~الله عنه مع بني جذيمة غير صحيح، فإن صاحب المبسوط أشار إلى الحادثة بإيجاز شديد، على ~~حين أننا حين نرجع إليها مبسوطة كما رواها ابن هشام في سيرته، يظهر لنا أنه ليس فيها ~~إبراء عن حقوق مجهولة. # 18 # والأمر أن الرسول # صلى الله عليه وسلم # أرسل بعد فتح مكة السرايا فيما حولها يدعو إلى الله عز ~~وجل، ولم يأمرهم بقتال، وكان من بعث خالد بن الوليد، وأمره أن يسير بأسفل تهامة ~~داعيا، ولم يبعثه مقاتلا؛ لكنه وطئ بني جذيمة فأصاب منهم، بعد أن سلموا السلاح بناء ~~على طلبه، وبناء على قوله ms092 لهم: قد وضعت الحرب وأمن الناس. # فلما بلغ ذلك الرسول # صلى الله عليه وسلم # رفع يديه إلى السماء، ثم قال: «اللهم إني أبرأ إليك ~~مما صنع خالد بن الوليد.» وهنا، نترك ابن هشام يتم القصة كما رواها عن ابن إسحاق، ~~فيقول: ثم دعا رسول الله # صلى الله عليه وسلم # علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وقال: «يا علي! اخرج ~~إلى هؤلاء فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك.» فخرج علي حتى جاءهم ومعه مال ~~قد بعث به رسول الله # صلى الله عليه وسلم ~~، فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال، حتى إنه ~~ليدي لهم ميلغة الكلب. # 19 # حتى إذا لم يبق لهم شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من مال، ~~فقال لهم على حين فرغ منهم: هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا. ~~قال: فإني أعطيكم هذه البقية من المال احتياطا لرسول الله # صلى الله عليه وسلم # مما لا يعلم ولا ~~تعلمون، ففعل، ثم رجع إلى رسول الله # صلى الله عليه وسلم # فأخبره، فقال: «أحسنت وأصبت.» # إذا، ليس في الأمر - كما نرى - إبراء عن حقوق مجهولة، فإنه قد أدى إلى بني جذيمة ~~ديات كل ما أصيبوا من دماء وأموال، حتى لم تبق له حقوق مجهولة أو معلومة بإقرارهم، ~~وإنما أعطاهم ما بقي لديه من المال زيادة في تطييب خاطرهم بعدما أصيبوا به. # ومع هذا، لنا أن نقرر أننا نميل إلى رأي أبي حنيفة بصفة عامة من جواز عقد البيع مثلا ~~بشرط البراءة من كل عيب، ما دام المشتري قد قبل ذلك، والله تعالى يقول: # يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم ~~بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض ~~منكم ~~. فضلا عما في إجازة هذا من تيسير في المعاملات حيث لا ضرر ولا ~~ضرار؛ ونحن قد تعارفنا أن نبيع ونشتري في كثير من الحالات على هذا الشرط، ولا نجد في ~~ذلك ضررا، ولم يحدث عنه نزاع أو خصومة ms093. # في الشفعة # وهذه مسألة في الشفعة ذهب فيها أبو حنيفة مذهبا يكاد يكون قد تفرد به، وذهب فيها ~~الجمهور الأعظم من الفقهاء مذهبا آخر يعارضه؛ نعني من هو الشفيع؟ وهل تثبت الشفعة ~~للشريك ثم للجار، أو للشريك وحده؟ # وقد أثارت هذه المسألة خلافا شديدا بين الفقهاء من ناحية، وبينهم وبين رجال القانون ~~المدني عندنا من ناحية أخرى. ولكل من أصحاب المذاهب الفقهية أدلته التي يلجأ إليها ~~ويستدل بها، وغالب هذه الأدلة أحاديث وآثار يرويها ويجدها صحيحة، ثم يتبعها بما يراه ~~من ناحية النظر العقلي، وبعد هذا يلتفت إلى ما يستدل به معارضوه من أحاديث فيؤول ما ~~يراه صحيحا منها بما يؤيد وجهة نظره، ومن نظر عقلي فيقابله بنظر عقلي آخر. # فعند أبي حنيفة وأصحابه أن الشفعة تثبت للشريك في نفس المبيع، ثم للشريك في حق من ~~حقوق الارتفاق الخاصة به، مثل الشرب والطريق (وهذا ما قد يسمى بالخليط)، ثم للجار ~~بعد هذين، وهم يستدلون لذلك بقول الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~: «جار الدار أحق بالدار.» وبقوله: ~~«الشريك أحق من الخليط، والخليط أحق من الجار، والجار أحق من غيره.» وبقوله فيما رواه ~~عبد الملك بن مروان عن عطاء عن جابر رضي الله عنهم: «الجار أحق بسقبه.» # 20 ~~(وفي رواية: أحق بشفعته) ينتظر بها وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما ~~واحدا. # وهذا الحديث كما يقول السرخسي، من أقوى ما يستدل به، فإنه لا شبهة في صحة هذا ~~الحديث؛ لأن عبد الله بن مروان كان من أهل الحديث، وعطاء ابن أبي رباح إمام مطلق في ~~الحديث، وجابر رضي الله عنه من كبار الصحابة رضوان الله عليهم، فلا طعن في إسناد هذا ~~الحديث، ولا وجه لحمل الحديث على الشريك (كما يرى الفقهاء الآخرون على ما سيأتي)؛ فإنه ~~إذا حمل على الشريك كان هذا لغوا، وإنما يكون مفيدا إذا كان المراد جارا هو شريك. # 21 # وبعد هذا يذكر الإمام سراج الدين عمر الغزنوي الحنفي المتوفى عام 773ه، أن الصحابة ~~رضي الله عنهم أجمعوا على استحقاق الشفعة بالجوار ms094؛ حتى قال علي وابن مسعود رضي الله ~~عنهما: إنه قضى رسول الله # صلى الله عليه وسلم # بالشفعة بالجوار، وكتب عمر رضي الله عنه إلى شريح ~~أن يقضي بالشفعة للجار الملاصق. # 22 # أما الفقهاء الآخرون، نعني الشافعية والمالكية والحنابلة وأهل الظاهر، فقد أجمعوا على ~~أن حق الشفعة لا يثبت إلا للشريك في المبيع نفسه؛ أي لا للشريك في حق من حقوق الارتفاق ~~الخاصة ولا للجار بالطريق الأولى. # وهم يستدلون لما ذهبوا إليه بأن الشفعة حق ثبت على خلاف الأصل؛ لأن الأصل حرية المالك ~~في أن يبيع لمن يشاء ولو لم يكن شريكا أو جارا له؛ وإذا، فلا يصح التوسع في إعطاء ~~هذا الحق، بل يجب الوقوف في ذلك على ما ورد به النص عن الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~، وفي هذا يروون ~~أحاديث غير قليلة، ومنها: قضى رسول الله بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقفت الحدود، ~~وصرفت الطرق فلا شفعة. # وفضلا عن الإمام الشافعي نفسه، نذكر لإثبات هذا الرأي من الشافعية الإمام الغزالي إذ ~~يقول: «فلا شفعة للجار عندنا وإن كان ملاصقا.» # 23 # والرملي يصرح بهذا أيضا فيقول: «ولا شفعة إلا لشريك في العقار ولو ذميا.» # 24 # ويوجب تأويل الأحاديث التي جاءت في إثباتها للجار، وذلك بحملها على الشريك ~~لأن ملك كل شريك مجاور لملك صاحبه، فكل منهما جار للآخر. # 25 # ونحن نرى أن الحكمة في إثبات حق الشفعة للشريك، وهو دفع الضرر عنه، يوجب إثباتها ~~للجار أيضا كما ذهب إليه الأحناف، وبخاصة ولن يضار البائع ولا الأجنبي الدخيل الذي ~~اشترى المشفوع فيه: فالأول سيأخذ نفس الثمن الذي أخذ به المشتري الأجنبي، وهذا سيسترد ~~ما دفعه من ثمن وتكاليف، والشريعة الإسلامية شريعة معان وقياس، لا ألفاظ، فكيف وقد ورد ~~الحديث بإثباتها للجار! # هذا من ناحية الفقه الإسلامي، أما القانون المدني الجديد فإن المادة 936 منه جعلت ~~للجار أن يأخذ بالشفعة في حالات خاصة، ومن هذه الحالات أن يكون للأرض المبيعة حق ارتفاق ~~على أرض الجار، أو كان حق الارتفاق لأرض الجار على الأرض المبيعة؛ ومنها أن ms095 تكون أرض ~~الجار ملاصقة للأرض المبيعة من جهتين، وأن تساوي في القيمة نصف ثمن الأرض المبيعة على الأقل. # 26 # وهذه مسألة أخرى في الشفعة يختلف فيها أبو حنيفة أيضا وبعض الفقهاء، وهي خاصة ببعض ~~ما يسقط الشفعة للشفيع بعد أن ثبت له الحق فيها، وقد ذكرها الإمام أبو يوسف بقوله: وإذا ~~اشترى الرجل الدار وسمى (أي من الثمن) أكثر مما أخذها به، فسلم ذلك الشفيع، ثم علم ~~بعد ذلك أنه أخذها بدون ذلك؛ فإن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول: هو على شفعته؛ لأنه ~~إنما سلم بأكثر من الثمن، وبه نأخذ. وكان ابن أبي ليلى يقول: لا شفعة له؛ لأنه قد ~~سلم ورضي. # 27 # وقد زاد الإمام السرخسي هذه المسألة وضوحا وأتى فيها بصور قد تبدو متقاربة ولكن ~~الحكم يختلف فيها عند بعض الفقهاء، وهو كشأنه دائما يستدل لكل رأي بذكر دليله الذي ~~يستدل به صاحبه. # 28 # إنه أولا: يذكر أنه لو أخبر الشفيع أن الثمن ألف درهم فسلم الشفعة، فإن كان أكثر ~~فتسليمه صحيح، وإن كان أقل فله الشفعة. وقال ابن أبي ليلى: لا شفعة له في الوجهين؛ لأنه ~~أسقط حقه بعدما وجبت له الشفعة ورضي بمجاورة المشتري، فليس له أن يطلب الشفعة وإبعاد ~~المشتري بعد أن رضي به. # ثم يحتج بعد هذا لأبي حنيفة وأصحابه بأن الشفيع قد أسقط حقه، بشرط أن يكون الثمن ألف ~~درهم؛ لأنه بنى تسليمه على ما أخبر به، فكأنه قال: سلمت إن كان الثمن ألفا. وإنما ~~أقدم على إسقاط حقه لغلاء الثمن في رأيه، أو لعدم استطاعته تحصيل الألف، وهذا المعنى لا ~~يزول إذا كان الثمن أكثر من ألف، بل يزداد. فأما إذا كان الثمن أقل من ألف، فقد انعدم ~~السبب الذي من أجله رضي بإسقاط حقه. فيكون له أن يطلب الشفعة. # وهذا لأن الأخذ بالشفعة شراء، وقد يرغب الإنسان شراء شيء ما بثمن معين، ولا يرغب إذا ~~كان الثمن أكثر، ولو سلم الشفعة قبل الشراء كان تسليمه باطلا؛ لأنه يكون قد تنازل عن ~~حق ms096 لم يثبت له بعد، إذ لم يوجد بعد سببه، والإسقاط قبل وجود سبب الوجود يكون لغوا؛ ~~مثله في هذا مثل الإبراء عن الثمن قبل البيع فيكون لغوا لا أثر له. # وثانيا، يعرض هذه الصور: ~~(أ) # لو أخبر المشتري أن الثمن هو شيء من المكيلات أو الموزونات فرغب عن ~~الشفعة وتنازل عنها، فإذا الثمن من جنس آخر أقل أو أكثر قيمة مما أخبر به ~~أولا، فهو على شفعته وله أن يطلبها؛ لأن الإنسان قد يتيسر له في الشراء ~~جنس دون جنس من المثليات التي تدفع ثمنا، فكأنه قال: سلمت الشفعة إن كان ~~الثمن مقدار كذا مما يكال أو يوزن. ~~(ب) # وكذلك لو أخبر أن الثمن شيء من القيميات، كعبد أو ثياب أو دابة مثلا، ~~فتنازل عن الشفعة، ثم ظهر له أنه كان شيئا مكيلا أو موزونا؛ كان له أن ~~يطلب بالشفعة؛ لأن للشفيع أن يأخذ المبيع المشفوع فيه بمثل ما اشتراه ~~المشتري به إن كان الثمن له مثل، وإلا أخذ بقيمته؛ وقد يكون ميسورا للشفيع ~~- في هذه الحالة - أن يدفع الثمن مكيلا أو موزونا، ويتعذر عليه تحصيل ~~الدراهم ليدفع ثمنا. ~~(ج) # ولو قيل للشفيع: إن الثمن ألف درهم فتنازل عن الشفعة، ثم علم أنه مائة ~~دينار قيمتها ألف درهم أو أقل أو أكثر؛ فعندنا هو على شفعته إن كان قيمتها ~~أقل من الألف، وإلا فتنازله صحيح، وليس له أن يأخذ بالشفعة من جديد. وعلى ~~قول زفر، هو على شفعته على كل حال من هذين الحالين؛ وذلك لأن الدراهم ~~والدنانير جنسان من الأثمان؛ ولهذا يحل التفاضل بينهما في الصرف مثلا، ~~فكأنما قال: سلمت إن كان الثمن ألف درهم، فإذا تبين له أن الثمن دنانير ~~فهو على شفعته، كما في المكيلات والموزونات. # هذا هو رأي زفر واستدلاله عليه، ولكن أبا حنيفة ومن معه يرون أن الدنانير والدراهم ~~جنسان، وإن اختلفا صورة، فالمقصود هو المالية والثمنية، واستبدال أحد النقدين بالآخر ~~ميسور عادة، فلا يتقيد رضاه بالصورة، وإنما يتقيد بالمعنى وهو مقدار المالية؛ ولهذا ~~يكون ms097 تنازله عن الشفعة صحيحا إذا كانت مالية الثمن أقل مما قيل له، ولا يكون صحيحا ~~إذا كانت مساوية لما أخبر به أو تزيد عنه، وهذا لأن من لا يرغب في شراء الشيء بألف درهم ~~لا يرغب كذلك في شرائه بمائة دينار قيمتها ألف درهم. # 29 # ونذكر من مسائل الخلاف في الشفعة أيضا هذه المسألة، وهي إذا تزوجت امرأة على جزء من ~~دار مثلا، فهل يثبت حق الشفعة للشريك في هذه الدار، أو لا يثبت؟ يقول أبو حنيفة بأنه ~~لا شفعة لأحد في هذه الحالة. ويرى ابن أبي ليلى أن له الشفعة، وحينئذ يدفع قيمة هذا ~~الجزء. وعند الشافعي يثبت للشريك حق الشفعة، ولكن عليه أن يدفع مهر المثل لا قيمة هذا ~~النصيب. # ويحتج أبو حنيفة لمذهبه بأن الشفعة تجب في معاوضة مال بمال، وهذا الجزء الذي أخذته ~~الزوجة بدل صداقها يعتبر بمنزلة الموهوب لها؛ لأن حق متعة الزوج بزوجته لا يقدر ~~بمال، وحينئذ لا تجب الشفعة. # 30 # أما الآخرون فيرون أن الغرض من الشفعة دفع ضرر الدخيل، وهذا متحقق هنا. ثم من الممكن ~~أن نعرف ماذا يجب على الشفيع دفعه، بدل ما سيأخذه بالشفعة سواء أكان ذلك قيمة العقار ~~على رأي ابن أبي ليلى، أم قيمة بدله عند الشافعي. والخلاف كذلك يجري فيما لو جعل النصيب ~~من العقار بدل خلع، أو أجرة عمل الطبيب أو المحامي مثلا. # بيع الزرع قبل ظهور صلاحه # وقد اعتاد بعض كبار تجار الخضر والفاكهة عندنا بمصر وفي غير مصر، أن يشتري الواحد ~~منهم ثمار هذه القطعة من الأرض قبل أن تنضج وتصير صالحة للاستهلاك على أنها خضروات ~~وفواكه، فهل هذا العقد يعتبر صحيحا؟ # هذه مسألة اختلف فيها الفقهاء، بناء على اختلافهم في اشتراط وجود البيع حين العقد، أو ~~عدم اشتراطه. وقد تعرض لها الإمام أبو يوسف فقال: إذا اشترى الرجل ثمرا قبل أن يبلغ، ~~من أصناف الغلة (أو الثمار كما في المبسوط) كلها، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه قال: ~~إذا لم يشترط ترك ذلك الثمر إلى ms098 أن يبلغ فإن البيع جائز، ألا ترى أنه لو اشترى فصيلا. # 31 # يفصله على دوابه قبل أن يبلغ كان ذلك جائزا! # ولو اشترى شيئا من الطلع. # 32 # حين يخرج فقطعه كان جائزا: وإذا اشتراه ولم يشترط تركه فعليه أن يقطعه، ~~فإذا استأذن صاحبه في تركه فأذن له في ذلك فلا بأس بذلك، وبه نأخذ، وكان ابن أبي ليلى ~~رحمه الله يقول: لا خير في بيع شيء من ذلك قبل أن يبلغ. ولا بأس إذا اشترى شيئا من ذلك ~~قد بلغ أن يشترط على البائع تركه إلى أجل، وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول: لا خير ~~في هذا الشرط. # 33 # ويجب التنبه هنا إلى أن قولهم: لا خير في هذا العقد، معناه أنه فاسد، وكذلك قولهم: لا ~~خير في هذا الشرط، معناه أنه فاسد فيفسد به العقد إذا كان من العقود التي تفسد بالشروط ~~الفاسدة مثل عقود المعاوضات، فهكذا كان اصطلاح فقهاء ذلك العصر، وقد بينا ذلك في ~~كتابنا «عصر نشأة المذاهب» عند بحث مصطلحات الفقه وأصوله. # 34 # ولذلك نجد صاحب المبسوط، كما سنرى، يعبر عن تلك المسألة الأخيرة التي جاءت ~~عن كلام أبي يوسف بقوله: فإن كانت الثمار قد بلغت؛ يعني انتهى عظمها فاشتراها بشرط ~~الترك إلى أجل معلوم، فالعقد فاسد عندنا، وقال ابن أبي ليلى: العقد صحيح. # هذا وقد فرع الفقهاء من هذه المسألة فروعا عديدة يختلف في بعضها الأحناف والشافعي، ~~وفي بعضها يختلف أبو حنيفة وأبو يوسف مع محمد بن الحسن، على أنها كلها فروع تقع في ~~الحياة العملية في أيامهم وأيامنا هذه؛ ولهذا نجيز لأنفسنا أن نطيل قليلا بذكر بعضها: # 35 ~~(أ) # إن باع البائع الثمر على الشجر بعد ظهوره ولكن لم يبد صلاحه بعد، وشرط ~~أن يقطعه المشتري في الحال فينتفع به أيما انتفاع، كان العقد جائزا وإن ~~خالف في ذلك بعض الأحناف، وكذلك إذا ~~باعه مطلقا عن الشرط؛ أي لم يشترط قطعه أو بقاءه على الشجر حتى يكون ~~صالحا للاستهلاك باعتباره خضرا أو فاكهة، يكون العقد جائزا عند الأحناف ms099. # 36 # وحينئذ يجب على المشتري قطعه للحال، خلافا للشافعي، فعندنا ~~يكون العقد غير جائز؛ لأنه ما دام لم يشترط القطع للحال، يكون العرف ~~حكما، وقد تعارف الناس في هذه الحالة ترك ما يشترى على أصوله حتى يصل ~~إلى أن يصير صالحا للأكل، وإذا يكون العقد غير جائز؛ وذلك لنهي النبي # صلى الله عليه وسلم # عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، أو قال: حتى يزهي. # 37 # أو قال حتى تؤمن العاهة. # 38 ~~(ب) # ولو كان البيع من الخضر والفاكهة مثلا قد بدا صلاحه، وكان البيع وقع ~~بشرط تركه على أصوله، فإن كان لم يتناه عظمه، بأن كان لا يزداد بعد ذلك ~~ولكن لم ينضج، كان البيع فاسدا بلا خلاف؛ لأن هذا الشرط يتضمن استعارة ~~الشجر والأرض وهما ملك البائع، فيكون ذلك صفقتين في صفقة واحدة، وقد نهى ~~الرسول # صلى الله عليه وسلم # عن ذلك كما هو معروف! # وأما إذا كان تناهى عظمه، فالبيع فاسد أيضا عند الشيخين (أبي حنيفة ~~وأبي يوسف)، وفي رأي محمد أنه يجوز استحسانا لتعارف الناس هذه المعاملة ~~ورضاهم بها، ولكن الشيخين يقولان بأن شرط الترك فيه منفعة للمشتري، والعقد ~~لا يقتضيه، كما أنه شرط لا يلائم العقد (لأن مقتضى عقد البيع التسليم في ~~الحال) ومثل هذا الشرط يكون فاسدا، ويفسد العقد به. ثم إنهما بعد هذا لا ~~يسلمان بأن هذا متعارف عليه في المعاملات، وإنما المتعارف التسامح بالترك ~~من غير اشتراطه. ~~(ج) # وقد يشتري الإنسان هذه الخضراوات والفواكه، وقد بدا صلاح بعضها دون ~~البعض، فما الحكم؟ البيع فاسد، على أصل الشيخين؛ لما يقتضيه شرط الترك من ~~استعارة المشتري الأرض والشجر، فيكون هذا صفقتين في صفقة، وهو منهي عنه ~~كما ذكرنا. # وأما على رأي محمد بن الحسن من تحكيم العرف، فإنه إذا كان صلاح الباقي ~~قريب الزمن كان العقد جائزا؛ لأن العادة ألا تدرك الخضر والفواكه دفعة ~~واحدة، بل على التعاقب بعضها بعد بعض، فصار كأنه اشتراه بعد إدراك الكل، ~~ولكن لو كان يتأخر إدراك البعض عن البعض تأخيرا فاحشا وزمنا ms100 طويلا، ~~كالعنب ونحوه كما يذكر صاحب البدائع، يجوز العقد في الثمار التي أدركت، ولا ~~يجوز في الأخرى. # على أن الإمام مالك بن أنس وبعض الفقهاء الأحناف أيضا يجوزون العقد ~~فيما أدرك وما لم يدرك من الخضر والفاكهة، بل يجوزونه فيما لم يخرج منها ~~تبعا لما خرج وظهر، وذلك من باب الاستحسان وتيسيرا على الناس في ~~معاملاتهم، فإنهم تعاملوا بيع الكرم بهذه الصفة. # 39 # ولهم في ذلك عادة ظاهرة، وفي نزع الناس عن عاداتهم حرج بين. # 40 # وهذا معناه، جواز أن يكون المعدوم موضوعا لعقد البيع في الخضر ~~والفواكه متى ظهرت البواكير. # والمهم عندنا في هذه المسألة بصورها المختلفة، إبراز ما رأيناه من اعتبار العرف في ~~أحكام المعاملات، وذلك تيسيرا للناس؛ ولذلك كان العرف عند كثير من الفقهاء أصلا من ~~أصول الأحكام، ولا عجب في هذا! فالدين يسر لا عسر. # المزارعة # وهذه مسألة تتعلق ببعض وسائل استغلال الأرض الزراعية؛ فمن له شيء من هذه الأرض له أن ~~يزرعها بنفسه، وله أن يؤجرها لمن يريد بأجر معلوم مسانهة مثلا؛ ولكن هل له أن يعطيها ~~لغيره مزارعة، فيكون ما يخرج منها قسمة بينه وبين الزارع بالنصف أو الربع مثلا؟ # هذه مسألة تتعلق بضرب من استغلال الأراضي الزراعية لا تزال تجري عليه في أيامنا هذه ~~في كثير من البلاد الإسلامية، ومع هذا فهي مسألة خلافية من قديم الزمان، وقد عرضها ~~أبو يوسف فقال: «إذا أعطى الرجل أرضا مزارعة بالنصف أو الثلث أو الربع، أو أعطى نخلا ~~أو شجرا معاملة. # 41 # بالنصف أو أقل من ذلك أو أكثر؛ فإن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول: هذا ~~كله باطل؛ لأنه استأجره بشيء مجهول، «وكان» يقول: أرأيت لو لم يخرج من ذلك شيء، أليس ~~كان عمله بغير أجر؟ # وكان ابن أبي ليلى رحمه الله يقول: كل ذلك جائز، بلغنا عن رسول الله # صلى الله عليه وسلم # أنه ~~أعطى «أرض» خيبر بالنصف فكانت كذلك حتى قبض، وكذلك مدة خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ~~وعامة خلافة عمر. # ثم يقول أبو ms101 يوسف بعد هذا: وبه (أي برأي ابن أبي ليلى) نأخذ. وإنما قياس هذا عندنا مع ~~الأثر؛ ألا ترى أن الرجل يعطي الرجل مالا مضاربة بالنصف ولا بأس بذلك! وقد بلغنا عن ~~عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن عبد الله ابن مسعود وعن عثمان بن عفان رضي الله عنهما، ~~أنهم أعطوا مالا مضاربة، وبلغنا عن سعد بن أبي وقاص، وعن ابن مسعود رضي الله عنهما، ~~أنهما كانا يعطيان أرضهما بالربع والثلث.» # 42 # هذا، وقد تناول الإمام السرخسي هذه المسألة بكثير من العناية التي تستحقها؛ فذكر ما ~~جاء فيها من الأحاديث عن الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~، ومن الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم، وما ~~كان عليه العمل عندهم، ثم بين آراء كل من الفقهاء المختلفين فيها واستدلال كل منهم ~~لما ذهب إليه، وعني ببسط رأي أبي حنيفة ووجهة نظره في المسألة، ونستطيع أن نلخص هذا ~~البحث، الذي أطال فيه السرخسي، على هذا النحو: # 43 # لا خلاف في أن الرسول # صلى الله عليه وسلم # ترك يهود خيبر يعملون في أراضيهم على أن يتقاسم ~~المسلمون وإياهم ما يخرج منها مناصفة، وأن هذا استمر مدة خلافة أبي بكر، ثم في خلافة ~~عمر رضي الله عنهما، ومع ذلك يرى أبو حنيفة عدم جواز هذا العقد الذي يكون بين صاحب ~~الأرض وبين من يزرعها على نصيب معلوم مما ينتج منها، فكيف هذا مع ما عمله الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~؟ # إنه يرى أن النبي عليه الصلاة والسلام قد من على أهل خيبر برقابهم وأراضيهم ~~ونخيلهم، وجعل نصف ما يخرج من الأرض من الثمر ونحوه خراجا عليهم، وأنه قال لهم حين ~~افتتح ديارهم: «أقركم ما أقركم الله، على أن الثمر بيننا وبينكم.» وفي هذا الحديث ~~- كما يقول السرخسي - بيان ما جرى بين الرسول # صلى الله عليه وسلم # وبينهم كان ~~على طريقة الصلح، وقد يجوز من الإمام «المعاملة» بين ~~بيت المال وبين الكفار على طريق الصلح ما لا يجوز مثله فيما بين المسلمين، فيضعف من هذا ~~الوجه استدلال مجيزي ms102 هذا العقد بما كان بين الرسول # صلى الله عليه وسلم # وبين يهود خيبر. # وبعد أن أول أبو حنيفة صنيع رسول # صلى الله عليه وسلم # مع اليهود على هذا النحو، نراه يستدل ~~لمذهبه بحديثين رويا في المسألة عن رافع بن خديج رضي الله عنهما، وهما: ~~(أ) # أن النبي # صلى الله عليه وسلم # مر بحائط (أي بستان) فأعجبه، فقال: لمن هذا؟ فقال رافع ~~رضي الله عنه: لي، استأجرته. فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تستأجره بشيء ~~منه.» ~~(ب) # أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن كراء المزارع بشيء مما يخرج منها، وقال ~~لرافع هذا: ازرعها أو امنحها أخاك. # فهذان الحديثان يفيدان حقا النهي عن المزارعة والمعاملة؛ أي كراء الأرض بشيء مما ~~يخرج منها كما يرى أبو حنيفة، ولكن لنا أن نلتفت إلى أن الحديث الثاني، إذا أخذه وحده ~~قد يفيد عدم جواز تأجير المالك أرضه التي لا يستطيع أو لا يريد زراعتها بمبلغ معين من ~~النقود كما نفعل في أيامنا كثيرا، وبخاصة إذا جعلنا الأمر للوجوب في قوله # صلى الله عليه وسلم ~~: ~~«ازرعها أو امنحها أخاك.» مع أن جواز هذا أمر معروف، لا يخالف فيه إلا بعض المتعسفين في آرائهم. # 44 # ومما يدل له ما جاء في الحديث الأول من قول رافع عن البستان: لي، استأجرته. ~~واقتصار الرسول # صلى الله عليه وسلم # على نهيه عن استئجاره بشيء منه، لا عن الاستئجار ~~مطلقا. # ولهذا، لنا أن نقول إن الأمر في الحديث الثاني ليس للوجوب، وإنما المراد هنا - كما ~~يقول السرخسي - الانتداب إلى ما هو من مكارم الأخلاق، بأن يمنح الأرض غيره إذا استغنى ~~عن زراعتها بنفسه ولا يأخذ منها أجرا على ذلك. # وإذا كان السرخسي قد بين هكذا رأي الإمام أبي حنيفة، ووجهة نظره واستدلاله، فإنه ~~يتعرض بتفصيل أيضا إلى رأي مخالفيه، ويبين أدلتهم لما ذهبوا إليه. إنه يذكر أولا ~~أمر إعطاء الرسول # صلى الله عليه وسلم # أرض خيبر لأهلها على النصف من الخارج منها، وأن هذا ما كان ~~يفعل مثله كثير من كبار الصحابة بعد ms103 رسول الله. # ثم يقول بعد ذلك: «واعلم بأن المزارعة في جوازها اختلاف بين العلماء، وكان الخلاف في ~~الصدر الأول والتابعين بعدهم، واشتبهت فيها الآثار عن رسول الله # صلى الله عليه وسلم ~~؛ فجمع محمد ~~رحمه الله ما نقل من الآثار في ذلك، ثم بنى عليه بيان المسألة عن طريق المعنى.» # 45 # وبعد هذا ذكر كثيرا من القائلين بجوازها، ومنهم علي ومعاذ رضي الله عنهما، ومنهم عمر ~~رضي الله عنه الذي قال فيه رسول الله: «أينما دار عمر فالحق معه.» فهو حجة في إجازة ~~هذا العقد لمن يجيزه، وقد روى الضحاك عنه أنه كان يكري الأرض الجرز بالثلث والربع، ~~وكان لا يرى بذلك أساسا، والمراد بها الأرض البيضاء التي تصلح للزراعة، ومنهم أيضا ~~الزبير بن العوام، وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم جميعا، وقد كان ~~هذا من كبار فقهاء الصحابة. # وكان لعبد الله بن عمر موقف خاص انفرد به؛ فقد كان يرى جواز عقد المزارعة، وكان ~~يتعامل به ولا يرى في ذلك بأسا، حتى زعم - وهذا تعبير ابن عمر نفسه - رافع بن خديج أن ~~رسول الله نهى عنها فتركها، وقد كان رضي الله عنه معروفا بالزهد والفقه بين الصحابة ~~ويرى السرخسي أن هذا إشارة منه إلى أنه يعتقد في المزارعة الجواز، ولكنه تركها لمطلق ~~النهي الذي ورد عن رسول الله # صلى الله عليه وسلم ~~. وكم من حلال يتركه المرء عن طريق الزهد وإن كان ~~يعتقد الجواز. # 46 # تلك هي آراء الفقهاء في هذه المسألة العملية الحيوية، وتلك هي أدلة كل من الفريقين، ~~ولكل وجهة هو موليها، وإن كان الواضح أن رأي مخالفي أبي حنيفة هو الصحيح الواجب ~~الاتباع، فإن الآثار مشتبهة في المسألة حقا، ولكن عمل أولئك الصحابة والعرف الذي جروا ~~عليه، يجعلنا نرى أن الصحيح جواز هذا العقد، بل إنها؛ أي المزارعة، شريعة متوارثة ~~لتعامل السلف والخلف، ذلك من غير إنكار كما يقول الكاساني. # 47 # والواقع يشهد بذلك حتى اليوم. # وما تعلل به الإمام أبو حنيفة من أن صاحب الأرض ms104 يكون قد استأجر المزارع بشيء مجهول، ~~لا يصلح أن يكون دليلا لعدم صحة هذا العقد، فالأمر في هذا كالأمر في المضاربة بشيء من ~~المال يقدمه رجل لآخر يتجر به، على أن يكون الربح بينهما، فإن الربح حين العقد يكون ~~مجهولا طبعا. # وقوله: أرأيت لو لم يخرج من ذلك شيء، أليس كان عمله بلا أجر لا يمنع من صحة العقد ~~أيضا؟ كالعامل مضاربة في المال إذا لم يربح يكون قد عمل بلا شيء، وكالمستأجر للأرض ~~بمبلغ من النقود، ثم قد لا يخرج له من الأرض شيء، فيكون قد عمل بغير أجر، وقد خسر ما ~~دفعه أجرة للأرض أيضا. # رجوع المعير # وفي العارية مسائل كثيرة يختلف الفقهاء فيها، ونذكر منها مسألة جواز أو عدم جواز رجوع ~~المعير في عاريته أرضه للبناء أو للزرع، وقد عرض الإمام أبو يوسف حالة أن تكون الإعارة ~~للبناء هكذا: # 48 # وإذا أعار الرجل أرضا يبني فيها، ولم يوقت وقتا، ثم بدا له أن يخرجه منها ~~بعد ما بنى، فإن أبا حنيفة كان يقول: يخرجه، ويقال للذي بنى انقض بناءك، وبهذا ~~نأخذ. وكان ابن أبي ليلى يقول: الذي أعاره ضامن لقيمة البناء، والبناء للمعير، ~~وكذلك بلغنا عن شريح. فإن وقت له وقتا، فأخرجه قبل أن يبلغ ذلك الوقت فهو ~~ضامن لقيمة البناء في قولهما وفي بعض نسخ «الأصل» للإمام محمد بن الحسن ~~الشيباني: «في قولهم». # ويذكر هذه المسألة الإمام محمد بن الحسن في كتابه «الأصل» هكذا: # 49 # رجل استعار من رجل أرضا على أن يبني فيها، أو على أن يغرس فيها نخلا، فأذن ~~له صاحبها في ذلك، ثم بدا له أن يخرجه، فله ذلك عندنا. # ثم يشرح السرخسي ذلك، مبينا مخالفة مالك من ~~ناحية، وابن أبي ليلى من ناحية أخرى، ويذكر لكل من الجميع وجهة نظره ودليله في شيء من ~~التفصيل كما تعودنا منه. # فهو يذكر أن الإمام مالك بن أنس يرى أنه ليس للمعير أن يخرج المستعير حتى ينتهي ~~البناء أو الغراس؛ لأن المستعير لم يتعد إذ بنى أو ms105 غرس، ما دام قد أذن له صاحب الأرض ~~في ذلك، فلا يلتزم إذا بهدم ما بنى أو قلع ما غرس من الشجر ، ومن الحق أن صاحب الأرض ~~يتضرر بهذا، ولكنه قد رضي بالتزام ذلك. # ولكن أبا حنيفة وصاحبيه يقولون بأن الإعارة عقد تبرع، وعقود التبرعات من العقود غير ~~اللازمة بطبيعتها؛ لأنه ما على المحسنين من سبيل. فللمالك إذا أن ينتفع بأرضه متى شاء، ~~والمستعير يعلم أنه شغل ملك غيره من غير حق يجعل ذلك لازما له، فعليه لذلك أن يفرغ ~~الأرض مما شغلها به، متى طلب ذلك صاحبها، دون أن يضمن هذا شيئا له. # أما ابن أبي ليلى، فيرى أن لصاحب الأرض أن يأمر المستعير بهدم البناء أو قلع الغراس ~~متى شاء، ولكن عليه أن يضمن قيمة هذا وذاك، حتى لا يضار أحدهما؛ إذ بهذا تسلم الأرض ~~لصاحبها، ويأخذ المستعير قيمة بنائه أو غرسه. # هذا إذا لم يحدد صاحب الأرض زمنا للعارية، فإن فعل، ثم بدا له فسخ العقد قبل هذا ~~الأجل، كان عليه للمستعير ضمان قيمة بنائه وغرسه عند الإمام وصاحبيه. ولكن «زفر» وهو ~~من الأحناف، يرى حتى في هذه الحال أنه لا ضمان على المعير؛ لأن التوقيت بزمن معين في ~~عقد العارية لا يجعله لازما على خلاف طبيعته. # ولكن أبا حنيفة ومن معه يرون أنه بتحديد زمن العارية، ثم بطلبه فسخها قبل هذا الأجل، ~~يصير غارا للمستعير الذي ما كان ليتكلف البناء والغرس لوكان لم يوقت للإعارة وقتا ~~معينا، ولمن اغتر بفعل من غيره أن يدفع عن نفسه الضرر، وهذا يكون هنا بتضمين صاحب ~~الأرض قيمة البناء والغراس. # ومن ذلك الذي عرفناه، نرى أن الإمام أبا حنيفة يتمسك بالقواعد العامة للعقود، ومنها ~~أن عقود التبرعات غير لازمة؛ على حين أن الإمام مالكا يرى أن عقد العارية قد يكون ~~لازما أحيانا، حتى لا يضار المستعير بلا ذنب جناه؛ وأن ابن أبي ليلى يرى أن عقد ~~العارية غير لازم حقا، ولكن دفع الضرر واجب، وهذا يكون بتضمين المعير قيمة البناء ms106 ~~والغراس إذا أراد أن يخرج المستعير قبل انتهائه. # ونحن نميل إلى ما ذهب إليه غير الأحناف، وبخاصة أن الإذن بالبناء أو الغرس معناه ~~صراحة توقيت وقت للعارية، وعهد من المعير ألا يخرج المستعير قبله، ~~والله تعالى يقول: # يا أيها ~~الذين آمنوا أوفوا بالعقود ~~، ويقول أيضا: # وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ~~، ~~ورسول الإسلام # صلى الله عليه وسلم # يقول: «لا ضرر ولا ضرار.» # زواج امرأة الغائب # وفي ناحية «الأحوال الشخصية» قد يحدث أن يغيب زوج عن امرأته حتى لا يدرى مكانه، ثم ~~ينعى إليها فتتزوج من غيره وتجيء منه بولد، ثم يجيء بعد ذلك زوجها الأول الذي قيل إنه ~~مات؛ فلمن يكون هذا الولد، الزوج الأول أم للثاني؟ # هنا يقول أبو يوسف: إن أبا حنيفة كان يقول: الولد للأول وهو صاحب الفراش، وقد بلغنا ~~عن رسول الله # صلى الله عليه وسلم # أنه قال: «الولد للفراش وللعاهر الحجر.» وكان ابن أبي ليلى يقول: ~~الولد للآخر ... وكذلك بلغنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبه (هكذا يقول أبو يوسف) نأخذ. # 50 # وإذا كان أبو يوسف ذكر المسألة مجملة هكذا في العرض والاستدلال، ودون تفصيل لما إذا ~~جاءت الزوجة بالولد لستة أشهر من زواجها بالآخر، أو لأقل، أو لأكثر، فإن السرخسي تعرض ~~لهذا كله وذاك كله؛ # 51 # وذلك إذ يذكر أن الولد يكون للزوج الأول، سواء أجاءت به لأقل من ستة أشهر ~~منذ تزوجها الثاني أم لأكثر؛ لأن الأول هو صاحب الفراش الصحيح، والزوج الثاني هو صاحب ~~الفراش الفاسد إذ تزوجها وهي متزوجة بغيره، ولا معارضة بين الصحيح وبين الفاسد، بل هذا ~~يكون مدفوعا بذاك، وتكون المرأة مردودة على الزوج الأول، والولد ثابت النسب ~~منه. # أما ابن أبي ليلى فيقول: إن النسب يثبت بالفراش الفاسد، كما يثبت بالفراش الصحيح، ~~ثم الزوج الثاني أقرب إليها من الأول، والولد مخلوق من مائه حقيقة، فيترجح جانبه بسبب ~~القرب واعتبارا للحقيقة. # 52 # ثم يذكر السرخسي بعد ذلك القصة التي استشهد بها ابن أبي ليلى، وهي أن رجلا من حفص ms107 ~~زوج ابنته من عبيد الله بن الحر، ثم انحاز زوجها إلى معاوية رضي الله عنه ولحق به، ~~وأطال الغيبة على امرأته، ومات أبوها، فزوجها إخوتها من آخر، وبعد ذلك جاء زوجها ابن ~~الحر، فخاصم الزوج الثاني إلى علي رضي الله عنه، فقال له علي، أما إنك الممالي علينا ~~عدونا! فقال، أيمنعني ذلك من عدلك؟ فقال: لا. فقضى بالمرأة له، وقضى بالولد للزوج الآخر. # 53 # هذا فيما يختص بالخلاف بين أبي حنيفة وابن أبي ليلى؛ أما فيما يختص بأبي حنيفة ~~وصاحبيه، فإن أبا يوسف يفرق بين ما إذا جاءت الزوجة بالولد لأقل من ستة أشهر منذ ~~زواجها بالثاني، وما إذا جاءت به لستة أشهر فصاعدا؛ ففي الحال الأول يثبت الولد للزوج ~~الأول؛ لأنه لا يمكن فعلا أن يكون من الثاني، وفي الحال الثاني، يكون الولد للزوج ~~الثاني؛ لأن النكاح الفاسد يلحق بالصحيح في حكم النسب، فباعتراض الثاني على الأول ينقطع ~~الأول في حكم النسب، ويكون الحكم للثاني، والتقدير فيه يكون بأدنى مدة الحبل اعتبارا ~~للفاسد بالصحيح. # 54 # وعند محمد بن الحسن يجعل التفرقة بين ما إذا جاء الولد لأكثر من سنتين منذ دخل بها ~~الثاني، وبين ما إذا جاء لأقل من سنتين من ذلك التاريخ؛ ففي الحال الأولى يكون الولد ~~للزوج الثاني؛ لأنه لا يمكن حينئذ أن يتوهم أنه من ماء الزوج الأول؛ على حين أنه في ~~الحال الآخر كان هذا ممكنا، فيثبت النسب منه، لاحتمال أن الولد كانت قد علقت به أمه ~~من زوجها الأول. # ولعل الحق - في رأينا - في جانب أبي يوسف، أو في جانب محمد بن الحسن؛ لأنه في الغالب ~~من الأحوال، إن لم نقل من المتيقن به غالبا، أن يكون الولد من الزوج الثاني إذا جاءت ~~به لتسعة أشهر أو لأكثر منذ زواجها به؛ فكيف نحكم به للأول على رأي أبي حنيفة! ولأنه لا ~~يعقل أن يكون الولد قد علقت به أمه من الزوج الثاني حقيقة، ولو جاءت به لأقل من ستة ~~أشهر من زواجها به؛ فكيف نحكم به ms108 له على رأي ابن أبي ليلى؟ # في الوصية # وهذه مسألة من باب الوصية اختلف فيها محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى مع الإمام ~~أبي حنيفة وصاحبيه، وقد عرضها أبو يوسف هكذا إذ يقول: وإذا أوصى الرجل بسكنى دار أو ~~بخدمة عبد أو بغلة بستان أو أرض، وذلك ثلثه (أي ثلث ما ترك من ميراث) أو أقل، فإن أبا ~~حنيفة رضي الله عنه كان يقول: «ذلك جائز.» وبه نأخذ (أي بقول أبي حنيفة يأخذ أبو يوسف، ~~ومحمد بن الحسن أيضا). وكان ابن أبي ليلى يقول: لا يجوز ذلك. والوقت وغير الوقت في قول ~~ابن أبي ليلى سواء؛ # 55 # أي لا يجوز شيء من ذلك موقتا ولا غير موقت. # ويحتج ابن أبي ليلى لما ذهب إليه، بأن الموصي مملك ما يريد أن يملكه للموصى له ~~بإيجابه، مثل الوصية في هذا مثل كل سائر العقود، وهذا التمليك لا يصح منه فيما لا يكون ~~مملوكا له حين الإيجاب، والغلة التي تحدث بعد موته لا تكون مملوكة له بل للورثة، ~~فتبطل وصيته بها. # ولكن الإمام وصاحبيه يقولون بأن المنفعة تحتمل التمليك حال الحياة ببدل وبغير بدل، ~~فيجعل التمليك بعد الموت كذلك جائزا أيضا؛ وهذا لأن العين التي يوصى بمنفعتها تبقى ~~على ملكه حتى تكون مشغولة بتصرفه موقوفة على حاجاته، فتحدث المنفعة من هذه الناحية ~~على ملكه، وإذا تصح الوصية بها. ولا ينبغي أن نخلط بين الوصية والميراث؛ فإن الميراث ~~لا يجري في المنافع دون الرقبى؛ لأن الوارث يخلف المورث ويقوم مقامه فيما كان ملكا ~~له، وهذا لا يتصور إلا فيما يبقى وقتين أو زمنين، وليست المنافع كذلك؛ لحدوثها مع ~~الزمن آنا فآنا، على حين أن الوصية قد تكون بالرقبى، كما تكون بالغلة والمنفعة ~~فتصح إذا بما يحدث حال الوفاة من هذه. # 56 # وواضح أن العمل في هذه الأيام، كما كان فيما مضى دائما، يجري على رأي الإمام ~~وصاحبيه؛ تصحيحا لتصرفات الإنسان بقدر الإمكان، وتيسيرا على الناس في تصرفاتهم ~~ومعاملاتهم، ورفقا بالموصى لهم؛ وفي هذا ثواب للموصى ms109 بطبيعة الحال. # ميراث الأخ مع الجد # وأخيرا، نختم هذا الفصل بمسألة من باب الميراث جرى فيها الخلاف أيام الصحابة، ثم ~~امتد إلى أيام الأئمة، وقد عرضها أبو يوسف هكذا: وإذا مات الرجل وترك أخاه لأبيه وأمه ~~وجده، فإن أبا حنيفة كان يقول: المال كله للجد وهو بمنزلة الأب في كل ميراث. وكذلك ~~بلغنا عن أبي بكر الصديق، وعن عبد الله بن عباس، وعن عائشة أم المؤمنين، وعن عبد الله ~~بن الزبير رضي الله عنهم، أنهم كانوا يقولون: الجد بمنزلة الأب إذا لم يكن له (أي ~~المتوفى) أب. وكان ابن أبي ليلى يقول في الجد، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: للأخ ~~النصف وللجد النصف. وكذلك قال زيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أن الجد ~~في هذه المنزلة. # 57 # هذا وقد قال الصاحبان أبو يوسف ومحمد بن الحسن بقول ابن أبي ليلى. # ونقول: إن معنى هذا أن أبا بكر ومن ذهب إلى رأيه كانوا يرون أن الجد يحجب الإخوة فلا ~~يرثون معه، كما لا يرثون مع الأب بنص الكتاب والسنة. لكن غيره من الصحابة، مثل عمر بن ~~الخطاب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود، رضي الله عن الجميع، كانوا يرون أن الجد ليس ~~في الحقيقة أبا؛ فهو لا يحجب الإخوة، بل لهم معه في التركة نصيب معروف. ~~••• # ولعل أبا بكر نظر إلى قوله تعالى: # واتبعت ملة آبائي ~~إبراهيم وإسحاق ويعقوب ~~. مع أن يعقوب هو وحده الذي كان الأب ~~له، دون إسحاق وإبراهيم عليهم جميعا السلام؛ إذ كانا جدين. أما عمر ومن معه رضوان ~~الله عليهم، فقد نظروا إلى الحقيقة، لا إلى المجاز؛ ولذلك نرى أن رأيهم الذي استند إليه ~~ابن أبي ليلى والصاحبان هو الصحيح، والأولى بالاتباع، وهو الواقع فعلا فيما مضى وفي ~~هذه الأيام. # وبعد، تلك صور من الخلاف بين الفقهاء في عصر أبي حنيفة، وقد تناولت كثيرا من أبواب ~~الفقه ومسائله، وهناك صور غيرها لا يستطيع باحث حصرها، وقد ألفت فيها كتب عديدة ms110، ~~ولكن رأينا فيما ذكرناه منها كفاية لإثبات ما نريد. # فقد رأينا فيها: لم كانوا يختلفون، وكيف كانوا يختلفون، وكيف كان يستدل كل منهم لما ~~ذهب إليه مع تقدير رأي مخالفه واحترامه. كما رأينا ما كان للحديث والآثار وآراء الصحابة ~~والتابعين من سلطان، وأن العرف كان له سلطانه أيضا، وإلى جانب هذا كان - رعاية في ~~التيسير ورفع الحرج وبخاصة في المعاملات - له اعتباره وتقديره. # ولعلنا لمسنا من تلك الصور مقدار ما كان من حيوية للفقه والفقهاء في هذا العصر، ~~ولعلنا نأخذ من ذلك عبرة وقدوة صالحة، فلا نرى حرجا في أن نخالف أسلافنا الأمجاد، وإن ~~كانوا أعلى منا كعبا في الفقه والاستنباط، كما كان يختلف التلاميذ مع شيوخهم في ذلك ~~العصر؛ فبهذا يتقدم الفقه، وبهذا يغدو حقا صالحا لكل زمان ومكان، ونجد منه حلولا ~~لمشاكل هذا العصر وكل عصر. # وقد آن لنا أن ننتقل إلى الفصل الأخير من هذا البحث، وهو بيان أثر أبي حنيفة فيمن ~~بعده من تلاميذه المباشرين، ومن كبار الفقهاء الآخرين ثم مآل مذهبه. # | أثر أبي حنيفة ومآل مذهبه من بعده # قوة هذا الأثر # لا تزال كلمة الإمام الشافعي خالدة على الزمان، ولها دويها دائما في الأسماع، وهي: ~~«الناس عيال على خمسة؛ من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق. ومن أراد ~~أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة. ومن أراد أن يتبحر في الشعر فهو عيال ~~على زهير. ومن أراد أن يتبحر في التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان. ومن أراد أن ~~يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي.» ثم لا زلنا نذكر هذه الكلمة الأخرى أيضا: «من ~~أراد أن يعرف الفقه، فليلزم أبا حنيفة وأصحابه؛ فإن الناس كلهم عيال عليه في ~~الفقه.» # وقد يرى البعض أن في هذا مبالغة من الشافعي في تقدير أبي حنيفة وفقهه وأثره على من ~~جاءوا بعده ولكن يبقى مع ذلك أنه يعبر عن الواقع إلى حد كبير؛ فإن أثر أبي حنيفة على ~~تلاميذه المباشرين - وما ms111 أكثرهم! - وعلى من تلاهم من الفقهاء، وعلى كل من جاءوا بعدهم ~~حتى اليوم، أثر واضح غير منكور. وهذا الأثر نلمسه من أقوال تلاميذه أنفسهم التي أثرت ~~عنهم في هذه الناحية، ثم نلمسه بالرجوع إلى تراثهم الفقهي الذي وصلنا عنهم، ثم نلمسه في ~~التراث الذي وصلنا عن الفقهاء المتأخرين عنهم في الزمن. # أثره في أبي يوسف # نرى قاضي القضاة يتابع شيخه الإمام في أكثر الآراء التي جاءت عنه في كتابه «الآثار» ~~إن لم نقل في آرائه كلها، ومن ذلك رأيه في أن الذي يأكل وهو صائم، يتم صومه ولا شيء ~~عليه؛ ورأيه في الرجل يكون له الدين على آخر إلى أجل، فيعجل له بعضه قبل الأجل، ويحط ~~عنه شيئا من الدين، فيقول لا بأس بذلك، إنما هو ماله تركه له. # 1 # وكذلك روى يوسف عن أبيه أبي يوسف عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم أنه قال في العبد ~~يحرزه العدو فظهر عليه المسلمون: إن وجده صاحبه قبل أن يقسم فهو له يأخذه؛ وإن وجده قد ~~اقتسم، أخذه بالثمن، وكذلك المتاع. # 2 # وفي كتاب آخر له، يذكر فيه تفصيل الخلاف بين أبي حنيفة وبين الأوزاعي في مسألة ~~الغنائم التي يغنمها المسلمون من الأعداء؛ هل يقسمونها قبل إخراجها من أرض العدو، أو ~~ليس لهم هذا حتى يخرجوها إلى دار الإسلام ويحرزوها؟ ونحن نلخص هذه المسألة على هذا النحو: # 3 # يقول أبو حنيفة: إذا غنم جند من المسلمين غنيمة في أرض العدو فلا يقتسمونها حتى ~~يخرجوها إلى دار الإسلام ويحرزوها. وقال الأوزاعي: لم يقفل رسول الله من غزوة أصاب ~~فيها مغنما إلا خمسه وقسمه قبل أن يقفل؛ ومن ذلك غزوة بني المصطلق، وهوازن، ويوم ~~حنين، ويوم خيبر. # ثم لم يزل المسلمون على ذلك بعده، في خلافة عمر بن الخطاب وخلافة عثمان رضي الله ~~عنهما في البر والبحر، ثم هلم جرا، فلم يخرج جيش منهم من أرض الروم إلا بعدما ~~يفرغون من قسم غنائمهم. # وبعد أن ذكر أبو يوسف هذين الرأيين المتعارضين، نراه يرد على استدلال الأوزاعي ms112 ~~بقوله: إن الرسول # صلى الله عليه وسلم # في غزوة بني المصطلق افتتح بلادهم وظهر عليهم فصارت بلادهم ~~دار إسلام، حتى لقد بعث إليهم من يأخذ صدقاتهم وهو الوليد بن عقبة (كما روي). وعلى هذه ~~الحال كانت خيبر حين افتتحها المسلمون وعامل أهلها على نخيلهم، وكذلك الأمر في حنين ~~وهوازن على أنه لم يقسم في حنين إلا بعد منصرفه عن الطائف. # ثم يقول: فإذا ظهر الإمام على دار وأثخن (أي: أوهن وأضعف) أهلها، وجرى حكمه عليها، ~~فلا بأس أن يقسم الغنيمة فيها قبل أن يخرج، وهذا قول أبي حنيفة، رضي الله عنه أيضا. ~~وإن كان مغيرا فيها، ولم يظهر عليها، ولم يجر حكمه فيها، فإنا نكره أن يقسم فيها ~~غنيمة أو فيئا. وذلك، من قبل أنه لم يحرزه، ومن قبل أنه لو دخل جيش من جيوش المسلمين ~~مددا لهم شركوهم فيما استولوا عليه سابقا، ومن قبل أن المشركين لو استنقذوا ما في ~~أيديهم ثم غنمه جيش آخر من المسلمين بعد ذلك لم يرد على الأولين منه شيء. # وأما ما ذكره الأوزاعي من أن المسلمين لم يزالوا يقسمون مغانمهم في خلافة عمر وعثمان ~~رضي الله عنهما، في أرض الحرب، فإن هذا لن يقبل إلا عن الرجال الثقات، فعمن هذا ~~الحديث؟ ومن ذكره وشهده؟ وعمن روي؟ ونقول أيضا: إذا قسم الإمام في دار الحرب ~~فقسمه جائز؛ بأن لم يكن معه حمولة يحمل عليها المغنم، أو احتاج المسلمون إليها، فقسم ~~لها المغنم ورأى أن ذلك أفضل، فهو مستقيم جائز، غير أن أحب ذلك إلينا وأفضله ألا يقسم ~~شيئا، إذا لم يكن به إليه حاجة، حتى يخرجه إلى دار الإسلام. # 4 # نعرض أخيرا في هذه الناحية، ناحية تأثر أبي يوسف، في أكثر آرائه بإمامه، إلى مسألتين ~~نرى فائدة كبيرة هذه الأيام في ذكرهما، هما مسألة نصيب المرأة أو الرجل من أهل الذمة من ~~الغنيمة إذا اشتركا في بعض الأعمال الحربية، فالأولى تبين لنا نظرة الإسلام للمرأة، ~~وتكشف عن مشاركتها في كثير من الأعمال للرجل؛ والثانية تظهرنا ms113 على مقدار سماحة الإسلام ~~مع أهل الذمة، وتسويته إياهم بالمسلمين في أن لهم ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما عليهم ~~من واجبات . # ففي المسألة الأولى، # 5 # يقول أبو حنيفة في المرأة تداوي الجرحى، وتنفع الناس، لا يسهم لها، ولكن ~~يرضخ لها. # 6 # وقال الأوزاعي: أسهم رسول الله # صلى الله عليه وسلم # للنساء بخيبر، وأخذ المسلمون بذلك ~~بعده. # ويعقب أبو يوسف على هذا بقوله: ما كنت أحسب أحدا يعقل الفقه يجهل هذا! ما نعلم أن ~~رسول الله # صلى الله عليه وسلم # أسهم للنساء في شيء من غزوه، ثم يروي أن ابن عباس رضي الله عنهما ~~كتب إلى نجدة الخارجي جوابا عن سؤال له عن حضور النساء الحرب مع الرسول: كان النساء ~~يغزون مع رسول الله # صلى الله عليه وسلم ~~، وكان يرضخ لهن من الغنيمة، ولم يكن يضرب لهن بسهم. # وفي المسألة الثانية يقول أبو حنيفة فيمن يستعين بهم المسلمون من أهل الذمة فيقاتل ~~معهم العدو: لا يسهم لهم، ولكن يرضخ لهم. ويقول الأوزاعي: أسهم رسول الله # صلى الله عليه وسلم # لمن غزا معه من يهود، وأسهم ولاة المسلمين بعده لمن استعانوا به على عدوهم من أهل ~~الكتاب والمجوس. # 7 # ويقول أبو يوسف ردا على هذا: ما كنت أحسب أحدا من أهل العلم يجهل هذا ولا يشك! ~~ويروي بعد ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: استعان رسول الله # صلى الله عليه وسلم # بيهود ~~قينقاع، فرضخ لهم ولم يسهم. ثم يقول أبو يوسف: والحديث في هذا مشهور، والسنة فيه ~~معروفة. # على أن أبا يوسف كان يخالف أحيانا رأي إمامه إلى رأي يراه غيره أو يصطنعه لنفسه، عن ~~نظر واجتهاد طبعا، ومن ذلك حظ الفارس من الغنيمة له ولفرسه. # 8 # يرى أبو حنيفة أن للفارس سهمين: سهما لنفسه وآخر لفرسه، وللراجل سهم واحد. ويرى ~~الأوزاعي أن رسول الله أسهم للفرس بسهمين ولصاحبه بسهم، وأن المسلمين أخذوا بذلك بعده ~~إلى اليوم لا يختلفون فيه. # ويقول أبو يوسف: إن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يكره أن تفضل ms114 بهيمة على رجل مسلم، ~~ويجعل سهمها في القسم أكثر من قسمه! ومع هذا الذي يشعر بأنه مع إمامه، فإنه يقول بعده: ~~بلغنا رسول الله # صلى الله عليه وسلم ~~، عن غيره من أصحابه، أنه أسهم للفارس بثلاثة أسهم وللراجل ~~بسهم، ثم ينتهي بقوله: وبهذا نأخذ. # هذا، وإذا تركنا هذين الكتابين لقاضي القضاة: «الآثار» و«الرد على سير الأوزاعي» إلى ~~كتابه الآخر وهو «اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى»، نرى الحال هو الحال تماما؛ فإنه ~~يتابع في أكثر آرائه إمامه أبا حنيفة، وقد بينا ذلك من قبل، حين عرضنا كثيرا من صور ~~الخلاف بين الإمام ونظرائه ومعاصريه. ومع هذا نشير إلى اتخاذه مذهب أبي حنيفة مذهبا له ~~في هذه المسائل: # 9 ~~(أ) # فساد بيع عبد مثلا على أن يعتقه المشتري، أو يبيعه، أو يهبه إلى ~~فلان. ~~(ب) # عدم جواز أن يبيع الرجل على ابنه وهو كبير دارا أو متاعا له، من غير ~~حاجة ولا عذر. ~~(ج) # إذا باع رجل متاعا لآخر وهو حاضر، فسكت، كان ذلك البيع غير جائز عليه ~~ولا يعتبر سكوته إقرارا بالبيع ورضا به. ~~(د) # إذا استهلك الرجل مالا لولده، وولده كبير والأب غني، يكون دينا ~~عليه. ~~(ه) # لا شفعة لأحد في جزء أخذته امرأة صداقا لها. ~~(و) # إذا اشترى رجل دارا وبنى فيها بناء ثم جاء الشفيع يطلبها بالشفعة وحكم ~~له بها، يأخذ الشفيع الدار ويأخذ صاحب البناء الأنقاض. ~~(ز) # إذا كانت الشفعة ليتيم، فإن لوصيه أخذها عنه، وإن لم يكن له وصي يكون ~~للصبي أخذها متى بلغ، فإن لم يطلب الوصي الشفعة بعد علمه فليس لليتيم طلبها ~~متى أدرك وبلغ. ~~(ح) # إذا صالح الرجل الرجل، أو باع بيعا، أو أقر بدين، فأقام البينة على أن ~~الطالب أكرهه على ذلك، كان ذلك كله جائزا، ولا تقبل البينة على أنه ~~أكرهه. # ففي هذه المسائل، وكثير جدا غيرها، يتبع أبو يوسف آراء إمامه أبي حنيفة؛ ولهذا نجده ~~بعد عرض مذهبه يقول: وبه نأخذ، ثم يعرض بعد ذلك رأي محمد عبد الرحمن ms115 بن ~~أبي ليلى. # أثره في محمد بن الحسن # إذا كان موقف أبي يوسف من إمامه هو ما عرفنا، فإن الأمر كذلك بالنسبة إلى صاحبه الآخر ~~وهو محمد بن الحسن الشيباني؛ فهو موافق له في أكثر آرائه عن اجتهاد، ومخالف له أحيانا ~~قليلة، ولا نرى ضرورة في أن نكثر من الاستشهاد في هذا السبيل؛ ولذلك نكتفي بالإشارة إلى ~~هذه المسائل: # 10 ~~(أ) # يقول إبراهيم النخعي بأن شهادة النساء مع الرجال جائزة في كل شيء ما عدا ~~الحدود، ويقول محمد: ما خلا الحدود والقصاص، وهو قول أبي حنيفة. ~~(ب) # يرى القاضي شريح أن أربعة لا تجوز شهادة بعضهم لبعض؛ المرأة لزوجها ~~والزوج لامرأته، والأب لابنه والابن لأبيه، والشريك لشريكه، والمحدود حدا ~~في قذف. ويقول محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة، إلا أنا نقول: لا تجوز ~~شهادة الشريك لشريكه في غير شركتهما. ~~(ج) # يرى إبراهيم النخعي أن الزوج وزوجته بمنزلة القرابة، أيهما وهب لصاحبه ~~ليس له أن يرجع في هبته، ويقول محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة. ~~(د) # يرى أبو حنيفة أنه لا يجوز أن يبيع الإنسان ما اشتراه ولم يقبضه، إلا في ~~العقار فله بيعه قبل قبضه لأنه لا يتحول عن موضعه، ويقول محمد: وهذا عندنا ~~لا يجوز، وهو كغيره من الأشياء. ~~(ه) # ويرى إبراهيم أنه يكره أن يرد المقترض ما اقترضه مع شيء من الزيادة. ~~ويقول محمد: ولسنا نأخذ بهذا، لا بأس بهذا إن لم يكن شرطا اشترطه عليه، ~~فإن كان شرطا اشترطه فلا خير فيه، وهو قول أبي حنيفة. ~~(و) # ويرى أبو حنيفة ومحمد مثله أن للوصي أن يصنع بمال اليتيم ما يراه خيرا ~~له، فله أن يودعه، أو يتجر به، أو يدفعه لآخر مضاربة. ~~(ز) # وكذلك يرى محمد مع إمامه أنه ليس في مال اليتيم زكاة. ~~(ح) # ويخالفه فيما ذهب إليه من عدم تجويز عقد إعطاء المالك أرضه مزارعة لآخر ~~بنسبة معلومة من الناتج منها، ويقول: لا نرى بذلك بأسا. ~~(ط) # وإذا أصاب العدو لبعض أموال المسلمين، ثم ms116 انتصر هؤلاء عليه، فإن وجد صاحب ~~المال ماله قبل قسمة الغنيمة كان أحق به بعينه، وإن وجده بعد القسمة كان ~~أحق بقيمته . قال محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة. # فضل الصاحبين على المذهب # هكذا كان لأبي حنيفة فضل على صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن في تكوين آرائهما، وفي ~~طريقة استنباط هذه الآراء والأحكام الفقهية، مثلهما في ذلك مثل سائر تلاميذه وما ~~أكثرهم! ولكن كان لكل منهما أيضا فضل على المذهب وصاحبه من نواح كثيرة؛ فهما اللذان ~~وطئا للمذهب ونشراه، وذلك بما ألف كل منهما من كتب جمعت آراء الإمام وأذاعتها بين ~~الجميع شرقا وغربا. # ها هو ذا الخطيب البغدادي يقول: لولا أبو يوسف ما ذكر أبو حنيفة ولا ابن أبي ليلى، ~~ولكنه هو نشر قولهما وبث علمهما؛ ويقول عنه أيضا: وهو صاحب أبي حنيفة وأفقه أهل عصره ~~وأول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل ونشرها، وبث علم ~~أبي حنيفة في أقطار الأرض. # 11 # ومن الخير أن نلقي شيئا من الضوء على هذا الحكم لنعلم مقدار صدقه، ولنتعرف أيضا ~~أسبابه، وهو حكم، وإن كان منصبا فيما نقلناه آنفا على أبي يوسف وحده؛ إلا أنه يتناول ~~كذلك محمد بن الحسن. # إننا لا نعرف عن أبي حنيفة كتابا كتبه في الفقه، ولكن مذهبه مع هذا خلد على الزمن، ~~ولم يندثر كما اندثرت مذاهب كثيرة أخرى، وذلك بفضل تلاميذه وأتباعه، وخاصة صاحبيه: أبا ~~يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني، فبفضل هؤلاء التلاميذ والأتباع دون المذهب في كتب ~~تعز على الإحصاء، وهذه الكتب هي التي حفظت لنا أقوال صاحبه وآراءه وأصوله. # وقد ذكر ابن النديم كثيرا من الكتب التي تركها أبو يوسف ولم يبق منها شيء لدينا. # 12 # فإن الذي نعرفه له ولا يزال بين أيدينا هو: رسالته في الخراج، وكتابه ~~«اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى»، و«الرد على سير الأوزاعي»، و«الآثار»، وهذا الأخير ~~هو مسند الإمام نفسه، جمعه صاحبه أبو يوسف وأضاف إليه مروياته في مواضع منه ms117؛ ولهذا ~~ينسب إليه فيقال عنه: مسند أبي يوسف. # ومن هذه الكتب التي ذكرنا منها الكثير فيما سبق من بحوث في هذا الكتاب ومن الأخرى ~~التي حفظ لنا ابن النديم أسماءها، نرى أن أبا يوسف هو حقا صاحب الفضل الأول في نشر ~~مذهب إمامه أبي حنيفة، كما نرى أن هذا حكم يستند إلى أسباب صحيحة ملموسة بين ~~أيدينا. # أما محمد بن الحسن، فهو الذي وصلت إلينا مؤلفاته كاملة، هذه المؤلفات التي تعتبر ~~المراجع الأصلية الأولى للمذهب، وقد اشتغل بها الفقهاء فيما بعد شرحا وتعليقا، وأهم ~~هذه الكتب هي: الأصل، والجامع الكبير، والجامع الصغير، والسير الكبير، والسير الصغير، ~~والزيادات. # وهذه الكتب نجدها مجموعة في كتاب «الكافي» للحاكم الشهيد أبي الفضل المروزي المتوفى ~~عام 344ه، بعد أن حذف المكرر من المسائل فيها، ثم عني شمس الأئمة محمد بن أحمد ~~السرخسي، وهو من رجال القرن الخامس، بشرح هذا الكتاب الضخم في كتابه المشهور «المبسوط» ~~وهو في ثلاثين جزءا، فصار الكتاب بشرحه أهم الكتب الأصلية في المذهب. # ولهذين الصاحبين اللذين تأثرا كل التأثر بإمامهما، فضل على المذهب من ناحية أخرى ~~تعتبر مبدأ لتطوره قليلا؛ فقد كان كلاهما معروفا بطلب الحديث وكتابته وحفظه، ورحل ~~كلاهما إلى المدينة ولقي الإمام مالك بن أنس وأفاد منه. # 13 # وقد أفاد «المذهب» من ذلك من ناحيتين: ~~(أ) # ازداد المذهب قوة على قوته بما دخله في أصوله من الأحاديث التي اعتمدها ~~كل من أبي يوسف ومحمد، كما كان من شأن ذلك كسب أنصار له من المحدثين ~~والفقهاء الذين تغلب عليهم نزعة أهل الحديث. ~~(ب) # كان من اتصال كل من الصاحبين بالإمام مالك وفقه أهل المدينة، أن حصل ما ~~قد يكون لنا أن نسميه «عملية تطعيم» بين فقه أهل الرأي بالكوفة وبغداد ~~والعراق بعامة، وبين فقه أهل الحجاز، إذ يعتبر هذا العمل حلقة اتصال بين ~~الجهتين المتقابلتين، وفي هذا خير لكل منهما وللفقه بصفة عامة. # ومع ذلك كله، فقد أفاد المذهب من أبي يوسف بخاصة من ناحية أخرى، نعني ناحية القضاء ~~الذي ولي ms118 أمره زمنا طويلا. فإن الفقيه النظري يعمل على استنباط الأحكام الشرعية من ~~مصادرها التي يراها ويعتمدها أصولا للفقه حسب مذهبه، ولكن القاضي تعرض عليه الحياة ~~ومشاكلها العملية، فتظهر له جوانب لا يفطن إليها من يقتصر في بحثه على النظر وحده، كما ~~لا يفطن إليها كذلك المفتي الذي يستفتي في هذه المسألة أو تلك. # ومن ثم، كان القضاء مغذيا تماما للفقه، ويمده بحلول عملية لمشاكل الحياة، وكان ~~لعمل القاضي أهمية كبيرة في جعل الفقه ذا حيوية خصبة، وكانت آراؤه أجدر بالتقدير والعمل ~~بها في باب القضاء من آراء من ينظر في المسائل وهو محصور في غرفته أو في المكان الذي ~~يجلس للتعليم أو الإفتاء فيه. # هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد كان أبو يوسف قاضي بغداد؛ ومن كان كذلك يكون قاضي ~~القضاة، بل كان هو الأول الذي دعي بهذا اللقب. # 14 # كم يذكر ابن العماد الحنبلي؛ فكان بهذا له نوع من الإشراف على القضاة ~~الآخرين، وبذلك استطاع أن يمكن للمذهب بتعيين القضاة من رجاله، كما كان لذلك نتيجة ~~طبيعية أخرى، وهي نشر أصوله ومبادئه وآرائه. # فضل غيرهما # هذا، ومما لا ريب فيه أن «المذهب» أفاد أيضا من عمل التلاميذ والأتباع الآخرين غير ~~الصاحبين، ولكنا خصصنا هذين بالذكر لأنهما كانا أشهر تلاميذ الإمام، ولأنهما كانا ~~صاحبي الفضل الأول على المذهب وتدوينه ونشره. # ومن باب التمثيل للتلاميذ والأتباع الآخرين، نذكر زفر بن الهذيل بن قيس الكوفي ~~المتوفى عام 158ه، فقد كان في أول أمره من أصحاب الحديث، ثم غلب عليه «الرأي» لصلته ~~بإمامه، ومهر في القياس حتى صار أقيس تلامذة الإمام وأصحابه، ومن المعروف أن القياس ~~مصدر خصب لحيوية الفقه ونموه. # كما نذكر أيضا أبا عبد الله محمد بن شجاع الثلجي المتوفى عام 256 أو 266 حسب ~~الروايات المختلفة، ويذكره ابن النديم فيقول عنه: مبرز على نظرائه من أهل زمانه، وكان ~~فقيها ورعا ثباتا على أرائه، وهو الذي فتق فقه أبي حنيفة، واحتج له، وأظهر علله ~~وقواه بالحديث، وحلاه في الصدور. # 15 # انتشار المذهب وتغيره # وبفضل ms119 أولئك التلاميذ والأتباع، أخذ مذهب أبي حنيفة في الانتشار في العراق أولا، إذ ~~كان هذا القطر الكبير مهده ومهد رجاله، وكان هذا المذهب باعتماده على الرأي والقياس - ~~حين لا تسعف النصوص الصحيحة - أقدر على حل المشاكل التي تعرض في الحياة العملية، وبخاصة ~~أمور الزراعة والتجارة وسائر المعاملات، كما أخذ في الوقت نفسه في التغير بعض الشيء، ~~وتلك طبيعة الحياة، وكان هذا التغير وليد عوامل مختلفة. # ونشير من هذه العوامل إلى ظهور أحاديث صحت عند هؤلاء الرجال، فكان طبيعيا أن ~~يرجعوا إليها تاركين آراء إمامهم، وقد كان هذا صنيع الإمام نفسه حين يصح حديث عنه يعارض ~~رأيا سبق أن رآه قبل أن يعرف هذا الحديث، وقد عرضنا لشيء من هذا من قبل، وكان من ذلك ~~أن ضاقت منطقة الأخذ بالقياس، وأن ضاقت مسافة الخلف بين رجال المذهب وبين رجال الحديث ~~وفقه الحديث، حين قوي الاتصال بين هؤلاء وأولئك جميعا. # وقد تعرض العلامة ابن خلدون، المتوفى عام 808ه، إلى مدى انتشار كل من المذاهب ~~الأربعة المعروفة، وإلى مجال كل واحد منها، فقال عن الإمام الأعظم: وأما أبو حنيفة ~~فقلده اليوم أهل العراق، ومسلمة الهند والصين وما وراء النهر، وبلاد العجم كلها؛ لما ~~كان مذهبه أخص بالعراق ودار السلام (أي بغداد)، وكان تلاميذه صحابة الخلفاء من بني ~~العباس، فكثرت تآليفهم ومناظراتهم مع الشافعية، وحسنت مباحثهم في الخلافيات، وجاءوا ~~منها بعلم مستطرف وأنظار غريبة، وهي بأيدي الناس، وبالمغرب منها شيء قليل، نقله إليه ~~القاضي ابن العربي الباجي في رحلتهما. # 16 # وقد عني أصحاب «الطبقات» لرجال المذهب ببيان خط سيره في الأقطار والبلاد المختلفة، ~~وكيف انتشر بفضل رجاله طبقة بعد طبقة، غير أن بيان ذلك لا يدخل في نطاق هذا البحث، ~~فليرجع إلى هذه الكتب من يريد. # 17 # | خاتمة البحث ونتائجه # وبعد، هذا هو الإمام أبو حنيفة في عصره وبيئته، وفي نشأته وحياته وسيرته، وفي ثقافته ~~واتجاهه للفقه عن ترو وقصد واستعداد فطري له، وتلك هي طريقته ومذهبه في الفقه، هذا ~~المذهب الذي خلد إلى اليوم، والذي ms120 يتعبد به عشرات الملايين من المسلمين في جنبات العالم ~~وأقطاره المختلفة. # وقد وصلنا من دراسة العصر الذي كان يعي فيه، إلى أن الفقهاء لم يكونوا يعيشون على هامش ~~الحياة كما نعيش اليوم، بل كانوا يعرفون من الخلفاء والولاة وينكرون، وكان من هؤلاء من يقبل ~~النصح والتوجيه، ومن يصد عنه ويضيق به، ومن ثم، رأينا من الفقهاء عددا غير قليل أوذي ~~في سبيل بيان الحق ورفع الصوت به، وسواء في ذلك عهد الدولة الأموية، وعهد الدولة ~~العباسية. # وعرفنا أيضا أنه لم يكن في ذلك العصر ما عرفنا فيما بعد من الإجازات والدرجات العلمية ~~تمنح للمستحقين لها، ولكن لم يكن الأمر في هذه الناحية فوضى بلا ضابط؛ فهذا أبو حنيفة نفسه ~~لم يجلس للتعليم بعد وفاة شيخه إبراهيم النخعي إلا بعد أن أجمع على ذلك أصحابه وصاروا ~~يختلفون إليه للإفادة منه، ثم لم يزل أمره في صعود حتى احتاج إليه الأمراء وذكره الخلفاء ~~وأجمع الكل على إمامته في الفقه. # 1 # ثم رأينا الإمام مالك بن أنس يقول: «وليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا ~~جلس، حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة من المسجد، فإن رآه أهلا لذلك جلس، وما ~~جلست حتى شهد لي سبعون شيخا من أهل العلم أني موضع لذلك.» # 2 # ومسألة استحقاق أبي حنيفة للمذهب الذي ينسب إليه، من المسائل التي كانت موضع جدل بين بعض ~~الباحثين من المسلمين ومن المستشرقين، وقد وصلنا إلى أنه كان له مذهب خاص يتميز ببعض أصوله ~~التي قال بها وبنى عليها طريقته في الفقه واستنباط أحكامه وحل مشاكله، وذلك رغم ما يزعمه ~~بعض المستشرقين ومن قلدهم في هذا من الباحثين المسلمين المعاصرين. # 3 # وقديما اتهم أبو حنيفة بكثرة قوله «بالرأي» وإعراضه عن النصوص من أحاديث الرسول # صلى الله عليه وسلم ~~، ~~وقد وصلنا إلى براءته من هذه التهمة، وذلك بعد البحث والتنقيب والموازنة بين الآراء ~~والأقوال التي اختلفت في هذه المسألة اختلافا شديدا؛ فإن كتب أصحابه، وعماد الكثير منها ~~آراؤه الخاصة التي أثروها ms121 عنه، مملوءة بالمسائل التي تركوا العمل فيها بالقياس وأخذوا ~~بالآثار الواردة فيها، وبعض هذه الآثار كانت عن الصحابة رضوان الله عليهم، لا أحاديث للرسول ~~نفسه # صلى الله عليه وسلم ~~. # والأمر أنه كان كما يقول أبو حنيفة نفسه: «مثل من يطلب الحديث ولا يتفقه مثل الصيدلاني، ~~يجمع الأدوية ولا يدري لأي داء هو حتى يجيء الطبيب، هكذا طالب الحديث لا يعرف وجه حديثه حتى ~~يجيء الفقيه.» إذا، غاية ما في الأمر أن أبا حنيفة كان بصيرا بالأحاديث والآثار، وكان له ~~أصول وقواعد في «فقه الحديث» كان يرجع إليها فيما يأخذ ويدع لسبب يقتضي هذا وذاك. # 4 # وقد عنينا عناية شديدة بمسألة رأينا ضرورة بحثها، ونعتقد أننا لم نسبق إليها، وبخاصة ~~من أحد الباحثين المعصرين، وهي مسألة «الاتجاهات العامة لفقه أبي حنيفة» فقد حاولنا أن ~~نتعرف هذه الاتجاهات أو النزعات، وذلك بواسطة استقراء آراء الإمام في كثير من المسائل، ~~موازنين بين هذه الآراء وبين آراء غيره من أئمة الفقه وأعلامه، ووصلنا من ذلك إلى أن جماع ~~هذه الاتجاهات هي: ~~(أ) # التيسير في العبادات والمعاملات. ~~(ب) # رعاية جانب الفقير والضعيف. ~~(ج) # تصحيح تصرفات الإنسان بقدر الإمكان. ~~(د) # رعاية حرية الإنسان وإنسانيته. ~~(ه) # رعاية سيادة الأمة ممثلة في الإمام. # وكان لا بد أن يختلف الفقهاء في ذلك العصر، عصر الاجتهاد، وقد عرفنا لم كانوا يختلفون، ~~وفيم كانوا يختلفون، مع تقدير كل منهم لرأي مخالفه، وأنهم جميعا كانوا طلاب حق، وإن ~~اختلفت بهم السبل والأدلة، وفي ذلك عبرة لنا وقدوة صالحة؛ فبهذا الاختلاف عن اجتهاد يتقدم ~~الفقه، وبهذا وحده يرجع صالحا حقا لحل مشاكل هذا العصر الذي نعيش فيه وكل عصر يجيء في ~~المستقبل من الزمان. # وأخيرا رأينا مقدار أثر الإمام في أصحابه وتلاميذه وأتباعه، وفضل هؤلاء جميعا على المذهب ~~من ناحية أخرى، وكيف بدأ المذهب يأخذ طريقه للتطور والانتشار، حتى غدا على ما نعرف الآن قبل ~~أن يقف به الجمود الذي منينا به منذ قرون، والذي نرجو ونلح جاهدين أن نتخلص منه تماما ~~بفضل الله ms122 تعالى. # رضي الله عن الإمام وأصحابه وتلاميذه وأتباعه، وعن سائر الأئمة الذين بينوا شريعة الله ~~ورسوله، وقاموا على صيانتها وتثبيتها وتأييدها وأثابهم الله خير الجزاء . ms123