######OpenITI# #META# URI: 1412YusufIdris.ALaysaKadhalika.Hindawi20251808 #META# Tags: novels #META# ID: 20251808 #META# Title: أليس كذلك #META# AuthorID: 95064085 #META# Author: يوسف إدريس #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # الكنز‏ # الحالة الرابعة‏ # المحفظة‏ # الناس‏ # الوجه الآخر‏ # داووود‏ # مارش الغروب‏ # ليلة صيف‏ # أليس كذلك‏ # المستحيل‏ # التمرين الأول‏ # الكنز‏ # الحالة الرابعة‏ # المحفظة‏ # الناس‏ # الوجه الآخر‏ # داووود‏ # مارش الغروب‏ # ليلة صيف‏ # أليس كذلك‏ # المستحيل‏ # التمرين الأول‏ # | أليس كذلك # | أليس كذلك # تأليف # يوسف إدريس # | الكنز # عبد العال مخبر بوليس طويل أسمر، وعلى ظهر يده اليمنى سمكة فمها مفتوح، وذيلها مشقوق، ~~وعلى عينها نقطة. # عبد العال مخبر، ومع هذا فله عيلة وزوجة أحيانا تناكفه، وأحيانا ترضى عنه، وأحيانا ~~يحلف عليها يمين الطلاق، ونادرا ما يقع اليمين. # ولعبد العال ماهية عشرة جنيهات بما فيها كل ما ناله، وما لم ينله من علاوات. # وعبد العال سعيد جدا بحكاية المخبر. إذا ركب الأتوبيس وجاء الكمسري قال: «بوليس.» ~~وأحس بأهميته وهو يقول بوليس، والناس يرمقونه ويضربون له بعيونهم السلام. # وعبد العال مثل كل الناس يحلم بالمستقبل. وهو لا يحلم حلما عاديا مثل أن يصبح ضابطا ~~أو مساعد حكمدار. هو في الحقيقة يحلم أن يكون وزيرا للداخلية. يا سلام! يصحى الواحد، ~~ويلاقي نفسه وزيرا له عربة وله حاجب، ويقف على باب منزله عسكري على الأقل بشريطين. بسيطة! ~~وليست على الله ببعيدة؛ فالذي خلق الأرض والسموات من العدم، ألا يمكنه أن يخلق من ~~العسكري وزيرا؟ ثم لماذا لا يخلق منه وزيرا وهو دونا عن رفاقه يجيد القراءة والكتابة، ~~ويرطن أحيانا بألفاظ إنجليزية، ويلتهم الصحف ويعرف كوريا، ويستطيع أن ينطق اسم همر شولد ~~صحيحا. # وعبد العال من مدة كان معه تحقيق وسين وجيم؛ فقد اشترك مرة في ضبط واقعة، واستلم هو ~~المضبوطات وأمضى بذلك. وبعد أيام جردت الأحراز فوجدوا حرزا ناقصا، وجاءوا بعبد العال ~~وسألوه وأنكر، وألحوا في السؤال وأغلظوا وتلجلج. وشك فيه الضابط وهدده بالتفتيش. ورأى عبد ~~العال من عينيه أنه ينوي حقا تفتيشه، وحينئذ مد يده في جيبه وأخرج منها الحرز ~~المفقود. # وكان الحرز هو الدليل المادي في القضية؛ فقد كان شيكا مزورا، شيكا بمبلغ مائة ألف جنيه ~~أتقن تزويره. # واستغرب الضابط، وفتح محضرا وراح يسأل. وتوقف عند السين ms01 التي تقول: لماذا احتفظت بالشيك ~~المزور معك؟ لم يستطع عبد العال أن يدلي بسبب واضح. # وهمهم وغمغم، وقال كلاما فارغا كثيرا لم يقنع الضابط، ولم يقتنع به هو. # وفي آخر النهار عاد عبد العال من القسم منهوكا محطم القوى. عاد وقد خصم من مرتبه نصفه، ~~ونقل من المباحث، وأنذر بالفصل. # عاد وهو حزين ساخط، ومع ذلك كانت في أعماقه طراوة رضا وسعادة؛ فلا أحد قد فطن إلى أنه كان ~~قد احتفظ بالشيك المزور ليستخرج له صورة فوتوغرافية طبق الأصل، صورة كلفته كثيرا، ودفع ~~فيها خمسة عشر قرشا. # ومضى اليوم، ومضت وراءه أيام، وذهب حزن عبد العال وسخطه، ولكن بقيت صورة الشيك ~~المزور. # وللآن لا تزال أسعد لحظات عبد العال هي تلك التي يهرب فيها من زحمة الناس ويختلي بنفسه، ~~ويطمئن إلى أن أحدا لا يلحظه أو يراه، ثم يخرج حافظة نقوده بعناية، ويستخرج من جيب مخصوص ~~منها صورة الشيك، ويحس بالرعد في أذنيه والتنميل في أطرافه، وهو يرى شعار البنك والحروف ~~المطبوعة، ثم وهو يقرأ الجملة الخالدة ويلمس عليها بأصابعه: # ادفعوا لحامل هذا مبلغ ألف جنيه مصري لا غير. # ويستمر يحدق في الشيك حتى تهجمع الزوابع التي في جوفه، ثم يطويه بعناية ويعيده إلى جيبه ~~الخاص في المحفظة ويتنهد، وكأنما قد انتهى من اعتراف أو صلاة، ثم يعود هو في بطء إلى الناس ~~وزحمتهم، يعود كما كان عسكريا طويلا وأسمر، وعلى ظهر يده اليمنى سمكة فمها مفتوح، وذيلها ~~مشقوق، وعلى عينها نقطة. # | الحالة الرابعة # انتهى العشاء وهب الدكتور مازن كي يقوم بنوبتجيته في الاستقبال. كان عشاء بيت الامتياز ~~سخيفا في ذلك المساء كعادته كل مساء، كان مكونا من بطاطس مفروض أنها محمرة، ولم تكن لا ~~محمرة ولا مسلوقة ولا شيء من هذا القبيل، إنما كتل لزجة متراصة من مادة البطاطس يفصلها زيت ~~رخيص، ثم أرز باللبن، أو بطاطس باللبن، أو حجارة وحصى و«زلط» باللبن، كله ماشي، وكله لا ~~يقيم أود مخلوق. كان العشاء محنة يضطر إليها الأطباء الذين لا ms02 يملكون سوى مرتباتهم، وحتى ~~لا يملكونها كلها فجزء غير قليل منها يذهب إلى عائلاتهم التي رأت المر كي تنفق عليهم، ~~وتجعلهم في نهاية الأمر أطباء «قد الدنيا». أما الدكتور مازن، فلم يكن يحفل بالعشاء أو ~~بالغداء، أو حتى بطعام بيت الامتياز كله. كان أبوه أحد كبار الأطباء في وزارة الصحة، ومن ~~صغره وهو يذهب إلى المدرسة في عربة ويعود في عربة. وحين كان في كلية الطب لم يره زملاؤه ~~الطلبة أبدا إلا ثمة شيء جديد قد أضيف إليه، قد يكون جاكتة، وقد يكون في أحلك الأحوال ~~منديل صدر جديد. وكان العمل بالنسبة للدكتور مازن شيئا مهما حقا. اليوم الذي يأخذ ~~نوبتجيته فيه كان يسبقه إعداد أيما إعداد؛ فلا بد أن يتفق مع اثنين من زملائه «الغلابة» على ~~أن يأتوه ليسلوه في وحدة نوبتجيته. ويختارهم مازن بعناية؛ فأحدهم لا بد يجيد رواية النكت ~~ويخلق من التفاهة فكاهة، والآخر لا بد أن يكون عليما ببواطن الأمور يحدثه حديث العارف عن ~~الأسرار الرهيبة التي تدور داخل جدران المستشفى، وعن الزملاء الأطباء وعلاقاتهم الخفية مع ~~الممرضات والحكيمات، وعن الفضائح. ثم لا بد أيضا من إعداد للعشاء؛ فقبل الثامنة يرسل عبد ~~الغني فراش بيت الامتياز إلى جروبي أو الإكسلسيور ومعه قائمة معدة ومنتقاة بعناية لعدد ~~كبير من الساندويتشات. ثم لا بد آخر الأمر من إحضار عدد من المجلات المصورة الأمريكية ~~والفرنسية، تحتوي على عدد من الوجوه والأجساد الجميلة يكفي للتفرج عليها ليلة بأكملها. كان ~~لا بد من إعداد هذا كله في يوم النوبتجية؛ حتى لا يحس مازن بأي سأم أو ملل. ومع كل هذه ~~الاحتياطات، ولو فرض ووقع المحال، وأحس بشيء من الملل والسأم، فهناك التليفون، وهناك ثلاث ~~فتيات وامرأة متزوجة تملك أجمل صدر في جاردن سيتي، مستعدات أن يقضين معه الليلة في كلام ~~ودردشة وفكاهات. # هبط الدكتور مازن إلى الممر الطويل، وكل شيء على أتم ما يرام؛ البالطو أبيض ونظيف ومكوي، ~~والبنطلون الأبيض حده كحد السيف، والسماعة معلقة في صدره يلمع معدنها، والحمام الدافئ ms03 ~~الذي أخذه بعد إغفاءة الظهر يخدر وجهه، ويجعل من خلاياه دوامات صغيرة تدور بها السعادة. ~~كل شيء حتى شكله كان قد ألقى نظرة طويلة على نفسه في مرآة التسريحة الحكومية الحادة في بيت ~~الامتياز، واطمأن - كعادته - إلى الصورة التي سيكون عليها حين يراه الناس. جسده طويل رياضي ~~لا انبعاج فيه، وسنواته لم تتعد الخامسة والعشرين، ووجهه أبيض حليق ناعم جميل، والشعر موزع ~~توزيعا أنيقا على رأسه. أربعة أخماسه تتموج إلى اليمين، والخمس الباقي يستكين إلى اليسار، ~~ولا تنفر منها شعرة واحدة. # كان الممر طويلا قد حل الفساد في بعض مصابيحه، فانطفأت تنتظر الاستمارات ومصلحة المباني ~~لاستبدالها، وكان النور يتسرب إلى الممر من الأقسام التي على يمينه وعلى يساره، فيضيء الممر ~~بنور شاعري رقيق. وكان البالطو الأبيض يحف حفيفا خافتا كلما اصطدم بساقيه الطويلتين ~~السائرتين، والكولونيا تدفع ببرودة ذات رائحة جميلة إلى ذقنه، وكان جيب البنطلون على صغره ~~يضيق بباقي الورقة ذات العشرة الجنيهات، والدنيا في نظره لحن جميل كأنغام الكمان في رقصة ~~شهرزاد. # وكان يلقي التحيات ذات اليمين وذات اليسار، تحيات المساء كان يلقيها من أنفه إلى تلميذات ~~الأقسام الساهرات. وكان دقيقا في إلقاء تحياته؛ فهو يعرف أنه جميل وغني ومن عائلة، وأن ~~التلميذات لا بد يحلمن به وبابتسامة منه، ولكنه أعرف الناس بالبيئة التي ينشأن فيها، ويقبلن ~~منها إلى المستشفى تدفعهن الحاجة لأكل العيش والعمل، وإهدار سيرتهن على الألسنة والأفواه؛ ~~ولهذا لم يفكر أبدا في مصاحبة إحداهن أو حتى في التحدث معها. كان حديثه مع الواحدة منهن ~~لا يستغرق لحظات، وكله «حديث عمل» لا يزيد كلمة ولا ينقص كلمة، ولكنه لم يكن يحب أن يبدو ~~متكبرا في نظر الناس، وكان عليه أن يحييهن، ولكنها لا بد أن تكون تحية مضبوطة لا تغري ~~بالألفة، ولا تهبط بمستواه، ولا ترتفع بمستواهن. # مضى في الممر المظلم الحالم يلقي بتحيات المساء بإيماءاته، ويحس أن الناس كلهم لا بد في ~~مثل دقته ونشاطه، وأن الوجود لا يستحق مليجراما واحدا من التعاسة، والحياة لو أخذت ms04 هكذا ~~سهلة بسيطة بلا أحقاد أو تعقد لما أصبح للناس في الدنيا مشاكل. # ووصل إلى قسم الاستقبال. كان زبائنه كثيرين في تلك الليلة، وكانوا ينتظرونه لا بد من قبل ~~أن تغرب الشمس. وعلى الرغم من كل شيء فالدكتور مازن كل يحب نوبة المساء. كانت بالنسبة إليه ~~فترة مستحبة لا تتملكه فيها عصبية النهار، ولا يقاسي من كثرة المرضى الذي يقفون أمامه في ~~طابور لا أول له ولا آخر، ويقبلون إلى المستشفى مع الفجر. # وتصاعدت الهمهمات من الجمع الصغير لمقدمه، ولم يكن قد تمعن فيهم، أو حتى ألقى إليهم تحية ~~المساء. اكتفى بالتفاتة سريعة يعرف بها كم عددهم، وكان واضحا أنهم أكثر من العدد الذي ~~وجده في النوبة السابقة، وأحس لهذا بنوع من الزهو. وحين وقف أكثرهم، وأفسحوا له الطريق، ~~ودلف من بينهم تحفه التحيات والدعوات من الجانبين ملأه يقين بأهميته، ودون وعي أمسك بوق ~~السماعة بأصابعه، وازداد إحساسا بضرورته، وشخط في التمورجية العجوز؛ فقد وجد مقبض الباب لا ~~يلمع، وبقايا بصاق عالقة بالحائط، وأسرعت المرأة بأعوامها الخمسين تجري ويطرقع قبقابها على ~~البلاط، وتزيل البقايا، وتلعن المرضى وقذارتهم. # ودخل الدكتور مازن إلى غرفة الكشف، وكعادته أمر التمورجية بالوقوف على الباب والحيلولة ~~دون دخول أحد إلا لبناء على أمره وطلبه. # وانبعج الكرسي وهو يحتويه، وأمر بفنجان قهوة - سكر شوية - وأكد على التمورجية وتوعدها إذا ~~لم تأت القهوة «سكر شوية»، ومضى يقلب صفحات مجلة «ومن» ويتوقف لدى كل صفحة. # وأخيرا جاء الفرج حين دق الجرس، وأشار للمرأة برأسه دون أن ينطق حرفا. # ودخلت الحالة الأولى تجأر. وقبل أن تنطق كان قد عرف كل شيء، وكتب في التذكرة حقنة تداوي ~~المغص، كان يعرف أنها غير موجودة، وأنها نفدت من الأجزخانة، ولا زال طلبها من الوزارة ~~جاريا، وكان يعرف عن ظهر قلب ألفاظ المحاورة التي سوف تدور بعد قليل بينه وبين المريض حين ~~يعود إليه خالي الوفاض من الدواء، والتي يعلم أيضا أنها تنتهي في العادة بطرد المريض ~~وإدخال آخر. # ودخلت الحالة الثانية والثالثة. # وكان ms05 لا يزال مستغرقا في المجلة يتحقق في صورة ممثلة فرنسية ترتدي «مايوه» مصنوعا من جلد ~~رأس فهد، وبه ثقوب مكان العينين والفم، والثقوب تظهر أجزاء من جسدها، ويخفي الجلد أجزاء، ~~وهو منفعل يحاول أن يشغل خياله ليجد ما وراء الجلد أو يخمنه، كان كذلك حتى دخلت الحالة ~~الرابعة. # ولم يتنبه ولم يعد من الوديان التي كان يمرح فيها خياله، ثمة سؤال صغير مضى يشغله؛ ترى ~~أهي حالة مغص أو تسمم؟ وكالعادة مضى يسأل دون أن يعنى بسماع الجواب: اسمك إيه؟ وعاوزة إيه؟ ~~وبيوجعك إيه؟ # ولم يعتدل إلا حين خبط عسكري كان واقفا أمام مكتبه، خبط قدميه في سلام عظيم، وقدم له ~~أوراقا كثيرة يحتويها دبوس واحد. # ومر الدكتور مازن على الأوراق مرور الكرام؛ إشارات ومكاتبات مكتوبة بسماجة لا طريف فيها ~~ولا جديد، ولم يقرأ منها ولا فهم حرفا. # وتطوع العسكري بالشرح، وقال إن الحالة التي يستصحبها امرأة مراقبة ليس لها منزل تراقب ~~فيه؛ ولذلك تقضي الليل في القسم، وقد أبلغت الليلة أنها مريضة و... # ولم يدعه يكمل هذه السخافات. أشار إليه أن يصمت، وتطلع إلى المرأة بحب استطلاع حقيقي. لم ~~يكن في حياته قد رأى امرأة مسجونة أو حتى مراقبة، وكان يعتقد أن الواحدة منهن لا بد مجرمة ~~طويلة عريضة تفوح منها القوة، وينضج جلدها شراسة، ولها عين وقحة لا يطفئها الرصاص، وأخرى ~~فيها دهاء الثعالب وسم الأفاعي. # ودهش! فأمامه وعلى الأرض المصنوعة من بلاط كانت تجلس المرأة وقد ضمت أجزاءها الناحلة، ~~ووضعت رأسها بين ركبتيها، بينما راحت عيناها الخابيتان تطلان إليه في وهن القطة الجائعة ~~المتعبة. # وأصيب بخيبة أمل؛ كانت المرأة دودة صغيرة قد التفت حول نفسها لا قوة فيها ولا جبروت، ولا ~~شراسة فيها ولا غدر، ولا يصدر من عينيها إلا استسلام ذليل. # وهز الدكتور مازن كتفيه بعدم اكتراث، وقد فشل في إقناع نفسه بإجرام الدودة التي أمامه. ~~وارتسم على شفتيه الاحتقار. وبنفس الاحتقار هز لها رأسه، وأشار لها بيده أن ترقد وهو يحس في ~~قراره نفسه باشمئزاز ms06 مفاجئ. # وحدق برهة في جسدها الأصفر الشاحب، وفي بطنها الذي يتموج الجلد المشوه فوقه، وفي يديها ~~الموضوعتين تحت رأسها، وقد أغلقت عينيها وكأنها في سبات عميق، وكثر اللعاب في فمه وهو ~~يطيل تحديقه. # ولو كان في النهار لما حفل بالكشف عليها، ولكنه الليل ومزاجه المعتدل، وهكذا أخذ يستمع ~~إلى أنفاسها، ويعد نبضات قلبها، وهو حريص كل الحرص على لم معطفه؛ حتى لا يلامسها أو يحف ~~بثيابها. # وسألها في فتور وهو يأمرها بإدارة فمها بعيدا عنه: لماذا سجنوها؟ # وكان وهو يسألها يعرف أنها ستنكر وتصر على براءتها، وعلى أنها مظلومة مضطهدة، كلهم مجرمون ~~كذابون، يقتلون القتيل ويمشون في جنازته، ولكن المرأة قالت في هدوء، قالت في هدوء ~~غريب: مسجونة بحشيش. # وخلع الدكتور مازن السماعة عن أذنه كمن لسعه معدنها، وعبر جسدها بنظرة واحدة، وتطلع ~~إليها، ثم عاد إلى كشفه وهو مضطرب يكاد يخاف. # وقال لها: كحي! # فكحت. وانهجي! فنهجت. وصرخ فيها أن تتنفس بعمق ففعلت. # وانتهى الكشف. # وحين كانت الممرضة تصب فوق يده الكحول ليطهرها، مع أن يده لم تكن قد لامست المرأة، ولا ~~علقت بملابسها، وكان يفرك يديه ضيقا بهؤلاء الناس الحمقى الذين لا يجدون إلا الإجرام ~~وسيلة لقتل أنفسهم. # وقال لها في تشف وكأنه يعاقبها، ويحس بالارتياح وهو يعاقبها: إنت عيانة! # فقالت وهي ترتدي ملابسها وتتثاءب الكلمات: بإيه يا بيه؟ # وضايقته الطريقة التي سألته بها. إن هؤلاء الناس لا يحسون. إن كلمة المرض كلمة مرعبة تبعث ~~القشعريرة في الأوصال، فكيف بها تتلقاها دون أن تتحرك لها ساكن؟ ضايقته الطريقة ~~فقال: إنت عندك سل. # قالها وهو مقدر أنها ستشعل النار في رماد تلك المرأة فتنتفض وتصرخ، وتتوب عن لهجتها ~~المتثائبة، وتبكي وتلطم وجهها على الأقل، ولكنها أجابت وكأنها تحلم وتريد إغاظته: طب مانا عارفة. # وهم برش الكحول في وجهها وعينيها، ولكن هدوءها أعداه، وتراخت يده القابضة على الزجاجة، ~~وتراخت معها أعصابه، وجلس على الكرسي، وأشعل سيجارة، وبدأ ينظر إلى المرأة من جديد. إنه ~~بالتأكيد ليس أمام حالة أخرى ليكش فيها ms07 وترتعد خوفا وهلعا. إنه أمام مريضة من نوع جديد ~~لا يفلح معها تهويشه، ثم إنها مريضة بالسل. # ومع أنه طبيب إلا أن خوفه من السل ومرضاه كان لا يقل عن خوف غيره من الناس. وقال لها في ~~لهجة رقيقة نوعا: وعرفت ازاي؟ # وبانت لها سنة صفراء تلمح في فمها وابتسمت، أجل ابتسمت، وجهها الأصفر كالكهرمان تداخلت ~~فيه أجزاء وتقلصت أجزاء، وأفلح في رسم ابتسامة، وقالت إنه ليس أول طبيب يراها، والمرض له ~~قصة؛ فهو قد داهمها في السجن في الأيام الأولى من سجنها. # وعبثت أصابعه بالسيجارة، وضغط عليها بعصبية، وكانت سحب الدخان قد حملها الهواء بعيدا، ~~فبدت المرأة واقفة أمامه نصف مستندة إلى الحائط، وكلامها ينساب في هدوء غريب محير، ~~وملامحها لا تنفعل لكلامها كأنما هي تتحدث عن كارثة أصابت إنسانة أخرى. # وتحت وقع حديثها المنخفض اللين ترعرعت رغبته في معرفة حكايتها. لم يكن هذا طبعه؛ فهو لم ~~يتعود أبدا أن يأخذ ويعطي مع أحد من مرضاه، ولكنه لم يستطع المقاومة، ونسي نفسه والمرضى ~~المنتظرين، وسألها في طفولة أن تحكي قصتها. # ولم تعتدل أو تتنحنح أو تصطنع التذكر، إنما وهي نائمة صاحية، والكلمات تجهضها شفتاها، ~~فتخرج ميتة لا حرارة فيها ولا انفعال، مضت تقول: يا خويا ولا حكاية ولا حاجة ... أنا أصلي م ~~الفيوم، وأوعى ألاقي نفسي شايلة الشاي مع أبويا في الموقف. ولما مات المرحوم بقيت أعمل أنا ~~الشاي، وحبني جدع سواق، وحبلت، وسقطتني مرات أبويا. ولما ضاقت الفيوم في وشي جيت مصر. مصر ~~أم الدنيا، هئ، هئ، هئ! جيت مع سواق، ومن سواق لسواق اتبدل على الموقف لحد ما اتلميت ~~على واد نشال بقى ياخد علي فلوس، وعلمني الصنعة. أهه قلمك البالكر أهه، حسيت بحاجة؟ هئ، ~~هيء! والنبي نفسي أبوس شفايفك الحلوين الحمر دول. يوه ما اطولشي عليك خدني الواد في قمته ~~وتحبست مرة، وطلعت وراقبوني وتفتكر سكت؟ بقيت أنشل برضك، وتاجرت في الحشيش كمان، وبقيت أكسب ~~ومعلمة قد الدنيا. وليا رجالة، ومشيت مع العسكري اللي كان بيراقبني ms08 ، واتمسكت أنا وهوه، ~~وآدي أنت شايف أهي عيشة اللي يحب النبي يزق. # كانت تتكلم كمن يحلم، غير حافلة بمن يسمع كلامها أو مقيمة وزنا للطبيب وسماعته ومعطفه، ~~ولا حتى ملقية بأي اعتناء إلى العسكري الواقف بجانبها منتصبا كماسورة العادم. وكما بدأت في ~~هدوء انتهى كلامها في خفوت حتى سكتت. # وطوال الحكاية كان وجه الطبيب كشاشة العرض تتغير عليها الألوان وتتبدل. كان يسمع أشياء ~~خطيرة تقال هكذا بسهولة، وكان وجهه يحمر ويصفر كالعذراء حين تمتد إليها يد جريئة، وتعبث ~~بأقدس ممتلكاتها وقيمتها. وكانت المرأة تعترف بكل شيء دون حياء أو خجل كأنها أستاذة تحاضر ~~في علم النفس. # ورغم كل ما اعتراه وأذهله، فقد كان عليه أن يقول شيئا يبدد به الانتظار الصامت الذي ~~ساد الحجرة، فسألها وهو يقهقه ولا يدري لماذا يسأل، أو لماذا يقهقه: وانت، مالكيش أهل؟ مالكيش أهل؟ # فقالت وهي تريح رأسها على الحائط: ليا. ~~- إيه؟ ~~- بنت. # وعاد يسأل وهو لا يدري لماذا يسأل: ليه ... إنت اجوزتني، ولا ... # فقاطعته وهي تسبل عينيها: وح تفرق إيه لما تكون بنت العسكري ولا المعلم. أهم الاتنين أزفت ~~من بعض. # ومضى في أسئلته التي كان يلقيها من وراء عقله: والبنت فين دلوقت؟ # ولمح أولى دلائل الحياة في بريق لمع من عينيها، وهي تقول: في المدرسة. ~~- إيه؟ ~~- بتروح المدرسة، وبتطلع الأولى ... دي بنت شاطرة قوي تعجبك. ~~- وبتصرفي عليها منين؟ ~~- ربك ما ينساش عبيده. # وسألها وقد انتابه بعض الضيق: ومودياها المدرسة ليه؟ إنت ناقصة؟ # وازداد البريق في عينيها الخابيتين وهي تقول: عايزاها تطلع دكتورة. # وأعقبت إجابتها بسرب من الضحكات الخليعة الميتة. # وتمتم في سره: جتك نيلة. # وفي نفس الوقت عثر على السبب الذي من أجله كان يردد أسئلته التي بدت له سخيفة لا معنى ~~لها، ولا ليس وراءها طائل. كان عقله حتى تلك اللحظة يضرب أخماسا في أسداد، ويفكر فيما ~~يفعله من أجلها، فهو لا يستطيع إدخالها المستشفى؛ فليست هناك أسرة خالية، ولا يستطيع رفع ~~الرقابة عنها؛ فليست له السلطة، وليس لها بيت. # وقلب الأوراق ms09 التي أمامه بيد غير مستقرة، وتمتم وكأنما يحدث نفسه: طب وح اعملك إيه ~~بس؟ # وفوجئ بصوتها الهادئ يخترق حيرته كاليد الجريئة العابثة، ويقول: لا تعمل لي ولا أعمل لك. اديني الأجازة وخلاص. # وحملق فيها وكأنه يرى شبحا من الأشباح. وبدا له كأن المرأة مارد سيبتلعه، وأحس بضيق، ~~وتبدلت لهجته فجأة، وأظلمت ملامحه، وقال: طب اخرسي انت. # وأمسك بالقلم، وحركه في الهواء مرات قبل أن يكتب الجملة التي لا يملك غيرها: # حضرت وعمل لها اللازم، وتحتاج لإجازة من المراقبة قدرها عشرة أيام. # وخطت ناحيته متمايلة في ضعف، والتقطت البقية الباقية من سيجارته الثالثة التي كانت ترقد ~~على الأرض، وأخذت نفسا ثم أخرجت دخانا كثيرا عاليا، ورنت منها ضحكة خافتة وهي ~~تقول: مش برضه عشرة أيام يا دكتور؟ # وكان أمامه رد واحد؛ أن يصفعها، ولكنه خجل؛ فليس هناك سبب واحد معقول يتيح له صفعها، وسكت، ~~وقالت وهي تأتي على الأنفاس الأخيرة من السيجارة: والنبي لطلع فاطمة دكتورة حلوة زيك كده، والنبي. # وكادت تسترسل لولا النظرات النارية التي تفجرت من عينيه، فقالت: سبتك بعافية بقى. # وفي هدوء بطيء ذهبت إلى الركن، وأخذت منه صرة ملابسها، وخرجت منحنية على نفسها وبقايا ~~السيجارة تحرق أصابعها الجافة، وذرات الدخان تشيعها. # وخبط العسكري الذي يحرسها قدميه في سلام صاخب، وأخذ الأوراق ومضى. # وجلس الدكتور مازن صامتا، وقد توقف تفكيره، وثمة غيظ يخنقه وإحساس بالخوف؛ خوف ميت بليد ~~يزحف عليه من حيث لا يدري ولا يعلم. وتحسس بلا وعي سماعته وزرر البالطو، ثم خبط المكتب فجأة ~~بقبضة يده حتى قفز قلمه وسقط على الأرض، وانقصفت سنه. # وجاءت التمورجية العجوز على الخبطة، ولم يكد يراها حتى انفجر وراح يعيد توبيخها لقذارة ~~المقبض والبصاق العالق بالحائط. ولم يكتف بهذا، بل أقسم أنه سيكتب مذكرة للمدير لخصم ثلاثة ~~أيام من مرتبها. # | المحفظة # من الساعة الثامنة وسامي يجلس على ذلك الكرسي الصغير في ركن الحجرة، وأمامه المنضدة ~~والكتب والواجبات والجداول، وأمامه فوق هاته جميعا المشكلة الكبيرة الضخمة التي كان قد حدد ~~ليلتها ms10 بالذات ليحلها. # إنه لم يعد يستطيع، فليست هذه أول أو ثاني مرة. له شهر وهو يتفق مع صلاح وعبد المنعم على ~~الذهاب إلى السينما، وفي كل مرة: غدا، أجل غدا. خلاص يا سامي، خلاص يا صلاح، الساعة تلاتة ~~أمام شباك التذاكر، الساعة تلاتة. ثم يأتي الغد ولا يذهب. لا يستطيع الحصول على الشلن، ولا ~~يستطيع حتى أن يري صديقيه وجهه ليبدي لهم عذره. وهذه المرة من أسبوع وهو يحاول. إن ~~«المصروف» الذي يتناوله بين كل آن لا يكفي، والمطلوب خمسة قروش. قال لأبيه إنه يريد ~~كراسة، وقال مرة ورق أشغال، ولم يحصل على ثمن لهذا أو لذاك. حاول مع أمه بلا فائدة. كلما ~~ألحف عليها رفعت كفيها إلى السماء، وطلبت من الله أن «يسبك» ما معها من نقود على عينيها إن ~~كان معها نقود. # ما هي حكاية هؤلاء الناس؟ إنه ما طلب منهم أبدا نقودا وأعطوه. دائما والله ما معنا. ~~وأبوه، أبوه بطوله وعرضه وكرشه الودود وأصابعه الغليظة، أبوه كله لا يتورع عن القسم أمامه ~~بأغلظ الأيمان أن ليس معه ولا «خردة». وهل هذا معقول؟ أمعقول أن أباه مفلس تماما كما يحاول ~~أن يفهمه؟ أبدا! غير معقول بالمرة. إنه قادر على كل شيء، إنه يستطيع أن يفعل أي شيء، فقط ~~لو أراد. أليس هو الذي أدخله المدرسة بعدما دخل الأولاد كلهم ورفضت أوراقه هو؟ أليس هو ~~الذي أقسم يومها أن لا بد من دخوله في اليوم التالي، وغاب عن المنزل طيلة ما بعد الظهر، ~~وأدخله في اليوم التالي؟ إنه يستطيع أن يفعل المستحيل. مرضت أخته، كانت أمه تقول إنها ~~ستموت، وكانت تبكي، وكان سامي يبكي، وكان أبوه هو الوحيد الذي لم يبك، والذي قال إنها ~~لن تموت، وهو الذي أخذها إلى الحكيم واشترى الدواء، ولم تمت سامية. أبوه هذا القادر على ~~كل شيء قال له أمس وأول أمس واليوم أيضا إنه مفلس. حدثه سامي عن اتفاقاته السابقة مع صلاح ~~وعبد المنعم واتفاقه ذاك، وضحك أبوه الطيب وقال: خليك لأول الشهر ms11 . وأكثر من الطلب وأكثر ~~أبوه من القسم: والله ما معي يا بني. وهل هذا معقول؟ بيتهم كله إذن ليس فيه شلن؟ إنهم ~~يضحكون عليه. إنهم يظنونه طفلا صغيرا من السهل خداعه. إنهم لا يعنيهم أبدا ذهابه إلى ~~السينما ولا يقدرون قيمته؛ لأنهم لم يجربوها ولم يذهبوا إليها. إن المسألة بالنسبة إليهم ~~ليست خطيرة. إنها ليست كمرض سامية. ويعتقدون أنه غر أبله يكفي أن يقسموا أمامه لكي ~~يصدقهم؟! # لقد أحكم التدبير وكل لحظة معدة إعدادا دقيقا في رأسه. سيحصل على هذا الشلن بأسهل مما ~~كانوا يتصورون. أيعتقد هؤلاء الناس أنه لا يعرف محفظة أبيه ومكانها وضخامتها وما تحتويه؟ ~~أحسبوه مغفلا إلى هذا الحد؟ # الساعة العاشرة. أبوه وأمه وإخوته كلهم نائمون في الحجرة الثانية. إنه لا يخاف من أحد ~~سوى أبيه. أمه لا تستيقظ أبدا في الليل. أبوه هو الذي توقظه كل حركة مهما بلغت تفاهتها. ~~عليه أن ينتظر قليلا حتى يطمئن إلى أنهم جميعا قد استغرقوا في النوم إلى آذانهم. # وأراد أن يقضي الوقت في حل مسألة الحساب الباقية من الواجب، ولم يستطع. كان «ثمن الشراء» ~~يقفز أمامه ويصبح «ثمن البيع»، وكان يضع «العلامة العشرية» على يمين الرقم، فإذا بها ~~تساهيه وتتسلل وتصبح على يساره. ونفض يده من المسألة، وراح يتأمل كالتائه محتويات الحجرة ~~التي يذاكر فيها هو وأخته، والتي يأكلون فيها أيضا، ويستقبلون الضيوف، وتناله الصفعات ~~أحيانا. # وانتبه إلى نفسه على صوت يأتي من الخارج، وأصاخ أذنيه. كان بيتهم كالقبر لا يسمع فيه خرير ~~الماء القليل الذي يتسرب من الحنفية، وسرسعة الصراصير في المطبخ. وكان الحي بأكمله ~~ساكنا سكونا أبديا لا يقطعه سوى ذلك الصوت؛ صوت وحيد متهدج كأنما يعزي الناس على ~~خيبتهم. # وأدرك سامي بعدما تسمع قليلا أنه صوت المذيع يقول نشرة الأخبار. # ودق قلبه. # لقد حانت الساعة. # وغادر مكانه على أطراف أصابعه. واحتار أيطفئ نور الحجرة أم يبقيه؟ يبقيه. إنه خائف والنور ~~يونسه. وتوقف في الصالة الصغيرة التي تفصل حجرتي شقتهم. أبوه يشخر، عظيم! # وتقدم من باب حجرة ms12 النوم وأدار «الأكرة». الباب يزيق كلما فتح. عليه إذن أن يفتحه ملي ~~بملي. ها هو قد أصبح في الداخل. الظلام ثقيل، إنه لا يرى شيئا المرة. ماذا حدث لعينيه؟ ~~شعاع واحد يتسرب من الباب الموارب. أبوه يشخر. أخته تقرض مثل الفأرة على أسنانها كعادتها ~~حين تنام. إنه يرتعش. لماذا يدق قلبه هكذا؟ إذا لم يهدأ سيوقظ أباه بدقه الملعون. ولماذا كل ~~هذا العرق؟ تقدم يا ولد! تقدم! # وتقدم سامي أكثر في منتهى الحذر. السرير الذي يرقد فيه والداه وأخته على يمينه، أخوه ~~الصغير يرقد على «الملة» التي يشاركه فيها. الدولاب بعد خطوات قليلة على يساره. عليه أن ~~يزحف بقدميه حتى لا يسهو ويصطدم بأخيه النائم ويصرخ وتكون الكارثة. كف عن الدق أيها القلب ~~اللعين. شخر يا أبي شخر. ارفع من صوتك هذا الذي طالما أرق نومي. # وحدث أن توقف فجأة عن الشخير، وتوقف قلب سامي هو الآخر. # ولكن أباه عاد وجذب نفسا عميقا مصحوبا بشخير أعمق. نعم، هكذا، هكذا يا أبي ~~أرجوك. # ملمس الدولاب الناعم كالحرير أصبح يحسه. ها هي قبضته المكسورة، عليه ليفتحه أن يمسك ~~المقبض بقوة، ويرفع «الضلفة» إلى أعلى قليلا ثم يجذبها بسرعة، هكذا جرب أن يفتحها في ~~النهار دون أن تحدث صوتا. # وفتح الدولاب. # وأصبحت الملابس المعلقة داخله في متناول يده. كان لديهم شماعتان، أمه قد أخذت شماعة ~~بأكملها لملابسها وقاسمت أباه في الأخرى. ولم يكن عسيرا عليه أن يفرق بين الشماعتين؛ ~~فملمس بدلة أبيه الخشنة واضح، والرائحة التي تنفثها البدلة واضحة أيضا، إنها رائحة أبيه، ~~إنه يعرفها فطالما شمها وهو يعانقه، وطالما شمها في «جاكتته» القديمة التي يرتديها وهو ~~يذاكر حتى لا يبرد. # بحث في أول جيب صادفه. ليس فيه سوى المنديل مكورا، وأشياء في قاعة تستقر كحبات الرمل، ~~ولم يجد في الجيب الآخر شيئا. # وكان سامي يتوقع هذا؛ إذ ليس من المعقول أن يضع أبوه نقودا في جيوبه الخارجية. النقود في ~~المحفظة، في الجيب الداخلي. ورغم هذا بحث - من قبيل الاحتياط - في الجيب الصغير ms13 الذي ~~توضع فيه «الفكة». كان خاويا تماما. ليس هذا فقط، بل لم يجد له قاعا أبدا! # وأحس بشيء من الرهبة وهو يدخل يده في الجيب الداخلي. ودق قلبه بعنف حين عثرت أصابعه على ~~المحفظة، وحين استخرجها من الجيب أحس بشيء داخل نفسه يشتمه ويلعنه، وأجفل، ولكن المحفظة ~~كانت قد أصبحت في يده، وكانت ثقيلة سميكة، لها رائحة خاصة مقبضة. # وارتبك. # كانت الخطة التي وضعها منذ الأمس تنتهي بحصوله على المحفظة، ثم، ثم ماذا يفعل؟ # وفي سرعة كان قد أدرك أنه من المستحسن أن يأخذها إلى الحجرة الأخرى، ويأخذ منها القروش ~~الخمسة، يأخذها من «الفكة»، فأبوه قطعا يعرف عدد النقود الورق، أما «الفكة» فإنه لا يعرف ~~عددها، ولن يلحظ غياب خمسة قروش منها. # وتسلل خارجا. وتقلبت أمه وغمغمت وهو يمرق بين ضلفتي الباب، ولكن الموقف كان قد دبغ ~~أعصابه، فلم تعد تهزه أصوات أو غمغمات. وما كاد يصبح في الحجرة الأخرى حتى أغلق الباب وجر ~~الكنبة ووضعها خلفه، وجهز حكاية يقولها لأبيه إذا صحا وضبطه محكما إغلاق الباب على تلك ~~الصورة. # وجلس أخيرا على نفس الكرسي الذي دبر عليه الخطة، ووضع المحفظة أمامه. كانت شيئا ~~ضخما كبيرا في حجم الكتاب المجلد وكأنها محفظة بنك، وكانت من النوع القديم الأجرب ~~الكالح. وكان يعرف أن أباه يضع الفكة في جيبها الرئيسي الطويل، وفتحها بسرعة ومد يده داخلها ~~ولم يجد شيئا. وقلبها وظل يرجها وسقط منه شيئان: نص فرنك ممسوخ معضوض لا بد أنه كان لازقا ~~في طياتها. والشيء الآخر كان غريبا عجيبا؛ «زلطة» سوداء صغيرة مفلطحة شكلها لذيذ. ماذا ~~يفعل أبوه بتلك الزلطة؟ ولماذا يحافظ عليها ويضعها هكذا في أعماق المحفظة؟ أفيها سر؟ وهل ~~يتقي بها العفاريت؟ أو يستعين بها على جلب النقود إلى المحفظة؟ # ولم يلبث أن ترك الزلطة وأمسك بالقرشين، قرشان؟ كل ما معه من فكة لا يتعدى «النص فرنك»، ~~وليته نصف فرنك صالح للاستعمال، إنه يشك كثيرا من إمكان تداوله. # ما هذه المصائب؟ كل ما توقعه يصفي على قرشين؟! # وأخرج ms14 سامي كل ما في باقي جيوب المحفظة من أوراق، وتفحصها جميعا بنظرة واحدة سريعة. ~~ولمح من خلال الكومة التي أصبحت أمامه عشرة قروش تكاد تزهق روحها من كثرة ما تراكم فوقها. ~~وكان من المستحيل أن يصدق أنها كل ما في المحفظة من نقود. لا بد أن البقية يحتويها ظرف من ~~تلك الظروف؛ إذ كثيرا ما رأى أباه يضع فيها الأوراق الخضراء والصفراء. # ومضى يفتح الظروف ويستخرج محتوياتها. كانت رغبته العارمة في العثور على الشلن هي التي ~~تدفعه أول الأمر إلى فض المظاريف والبحث بينها، ولكن بعد لحظات غلبه حب الاستطلاع على أمره. ~~كانت تلك أول مرة يتاح له فيها أن يطلع على مكنون محفظة أبيه، وعلى ما فيها من أوراق لا بد ~~أنها مهمة جدا، لها أهمية غير عادية، وإلا لما احتفظ بها داخل تلك الحوصلة الجلدية. ~~كثيرا ما رأى المحفظة وهي خارجة داخلة إلى جيب أبيه، وهي مفتوحة ومطوية، وهي في مكانها ~~المعتاد، ثم وهي ترقد تحت «المخدة» أحيانا. كثيرا ما ألحت عليه الخواطر والهواجس تخمن ما ~~تحتويه وتدفعه إليها دفعا، ومحتوياتها كلها أمامه الآن، فأية فرصة ذهبية جاءته من ~~السماء! # لم يكن يفهم ما يقرؤه تماما، ولكنه كان مسرورا قلقا؛ ذلك النوع الغريب من القلق البهيج ~~الذي يعتري الإنسان كلما أتيحت له معرفة سر من الأسرار بطريقة محرمة. # وجد خطابا من خاله، يتكلم فيه عن ميراث، وعن مبلغ، ويسلم فيه عليه. ترى لماذا لم يبلغه ~~أبوه السلام؟ ثم ما تلك الأوراق الصدئة المهرية التي لا تسمن ولا تغني من جوع؟ إن حبرها من ~~نوع أسود قديم لم يره أبدا، وخطها حلو، وهذا الشيء المرسوم عليه مئذنة وقبة. قد صار زواج ~~فاطمة بنت عبد الله، من تكون؟ أتكون أمه. لا بد ولا بد أن يكون إبراهيم منصور أباه. وهذه ~~الورقة الحمراء؟ إدارة الغاز والكهرباء؟ نرجو عند الرد ذكر رقم 284، إيه ده؟ وإذا مش عارف ~~إيه سنقطع التيار. ما هو ذلك التيار الذي سيقطعونه وبأي شيء سيقطعونه؟ وهذا الظرف ~~المكتوب ms15 عليه «قطعة من كسوة الكعبة الشريفة، هدية من العبد الفقير إلى الله تعالى الحاج ~~مبارك محمد حسن»، قطعة القماش السوداء هذه التي في الظرف من الكعبة؟! ياه! إن رائحتها صعبة، ~~أمسك ذاك أم عنبر؟ هي السبب إذن في تلك الرائحة المقبضة التي تنبعث من المحفظة؟ # وكان ممكنا أن يظل سامي مستغرقا في نشوة الاضطراب الخفي تلك، ولكنه وفي خضم ما كان فيه ~~وعت أذنه صوت السلام والراديو يذيعه وختم به برامج السهرة. # وفي الحال عاد إلى نفسه مضعضع الحواس، وكأنما ضبط متلبسا، وأصبح همه في اللحظة التالية ~~أن يعيد الأوراق كلها إلى ما كانت عليه بنفس ترتيبها ونظامها؛ حتى تبدو وكأن لم يمسسها ~~بشر. وفي الحق كانت مهمة صعبة، ولكنها انتهت. وبقيت العشرة قروش راقدة أمامه على المنضدة ~~منطوية على نفسها كالخرقة البالية. لم يرجعها إلى المحفظة، وكذلك لم يدسها في جيبه. وكان ~~عليه أن يقرر أمرا من الاثنين، ولم يكن القرار سهلا. إذا أخذها لا بد ستنكشف السرقة، وإذا ~~تركها فقد آخر أمل في الوفاء بالميعاد والذهاب إلى السينما. # والعجيب أنه لم يفكر في واحد من الأمرين، كان قد أفاق من النشوة التي أتخم بها حب ~~استطلاعه، وامتلأت نفسه بالحنق الشديد. كيف لا يعثر إلا على عشرة قروش مهرأة، ونص فرنك ماسح ~~معضوض؟ هذا الأب الضخم الطيب الذي يصنع المعجزات ولا يقف أمام مقدرته شيء، كيف لا يكون ~~معه سوى مبلغ تافه كذلك؟ # هذه خديعة هذا ضحك من نوع آخر عليه. لماذا لم يعمل حسابه؟ لماذا لم يكن في المحفظة مبلغ ~~كبير كما توقع؟ أين صرف النقود؟ أين الماهية؟ # وامتدت يده الغاضبة ودست العشرة القروش في جيبه. سوف يذهب إلى السينما بخمسة ويصرف ~~الخمسة الأخرى. يأكل «بغاشة» و«جيلاتي» كما يأكل كل الأولاد، وليكن بعد ذلك ما يكون. وهو ~~ما له؟ وما ذنبه إذا كانوا يرسلونه إلى المدرسة ولا يعطونه نقودا؟ وإذا سألهم ضحكوا عليه ~~وأقسموا أن ليس معهم، وإذا فتشهم لم يجد سوى ورقة صغيرة بالية. # وحتى وهو ms16 في طريقه إلى حجرة النوم ليعيد المحفظة إلى الجيب الداخلي، كانت خطواته لا تزال ~~تحفل بالاستنكار والغضب. وحين فتح الباب وجد كل شيء كما كان؛ أبوه يشخر وأخته تقرض أسنانها ~~والظلام مخيم. # ولم يأخذ حذره هذه المرة ويقفل الباب وراءه؛ إذ لم يعد يهمه وهو في قمة الغيظ ما يحدث. ~~ودلف وراءه من الباب المفتوح شعاع باهت من النور أضاء الحجرة قليلا وسقط على وجه ~~أبيه. # وألقى عليه سامي نظرة وكأنما ليصب عليه جام غضبه، ولكنه تسمر في مكانه، وظل يحدق فيه ~~كالأبله. كانت رأس أبيه منزلقة من فوق «المخدة»، ومثنية على كتفه، وكانت عارية وقد سقطت ~~عنها الطاقية التي يرتديها وهو نائم، وكان شعره خفيفا مشوشا تلمع من تحت صلعته، وكان فكه ~~مدلى وفمه مفتوحا، والشخير يتصاعد منه في غير انتظام. وسامي دائما كان يرى أباه في ~~النهار ضاحكا أو مبتئسا، راضيا أو ساخطا، ولكن ملامحه على أية حال كانت دائما فيها قوة ~~وصحة وحياة تجعل أباه يبدو كالأسد الأليف الذي يوحي مرآه بالثقة، ولحظتها ورأسه منزلقة، ~~وفمه مفتوح، وشعره مهدل مشوش، وملامحه متراخية مستسلمة، لحظتها رآه طيبا جدا، وغلبانا ~~جدا. ليس هذا فقط، بل إن محفظته الكبيرة الضخمة ليس فيها كلها سوى قروش عشرة، وزلطة، ونص ~~فرنك. # ظل سامي واقفا في مكانه يحدق في أبيه وكأنه يراه لأول مرة. كان من كثرة ما تعود رؤيته ~~قد ألفه، وألف أن ينظر إليه كأبيه، وإذا به الآن يراه وكأنه ليس أباه، وكأنه قد أصبح ~~إنسانا مستقلا عنه، رجلا آخر، غريبا، طيبا، غلبانا، منفصلا عنه تماما، له جسد ~~ورأس وساق قد انكشف عنها ثوبه، وبدت ضامرة مليئة بالشعر. # وأحس بألم حاد ينتشر في نفسه، وشيء يريد خنقه، ثم أحس برغبة عارمة في البكاء، ثم أحس ~~أنه يود أن يلقي كل ما بنفسه، ويندفع إلى الرجل الغلبان أمامه يعانقه ويضمه بشدة ويقبله، ~~ويقبل فمه المفتوح الطيب ذاك، وذقنه النابتة الخشنة، وعيونه المغلقة في استسلام. # ولم يكف أبوه طوال الوقت عن الشخير. يستريح ms17 وجهه لحظة، ثم تخرج الأصوات من أنفه وفمه. ~~أصوات ممدودة غلبانة هي الأخرى، تكاد تقسم وتقول: والله ما معي ولا أمتلك. # لم يضحك عليه أبوه إذن ويخدعه، وهو ليس كما ظن سامي قادرا على كل شيء. إنه نائم، مستسلم، ~~وطيب، ولم يكن يخدعه. # وتململ الأب واضطرب شخيره. # وتحرك سامي والأحزان تملؤه، وأغلق الباب، وأخرج القروش العشرة من جيبه ودسها بغير حماس في ~~المحفظة، ثم أسقطها في الجيب الذي كانت فيه. # وبعدما أطفأ النور في الحجرة الأخرى رقد بجوار أخيه على «الملة». # وكان يحب تلك الفترة التي يرقد فيها وينتظر النوم؛ إذ كان يحلم فيها بالقلم الأحمر ~~الذي رآه في المكتبة والخمسين من خمسين في الإنجليزي، أو يفكر في الحيلة الجديدة التي ~~عليه أن يبتكرها ليحصل على قرش في الصباح. # ولكن أفكاره طوال الوقت لم تغادر الرجل الراقد غير بعيد عنه فوق السرير، وثمة إحساس كبير ~~يملؤه، وكأنه كان يستند إلى جدار، وإذا بالجدار ينهار من خلفه ويتركه مستندا إلى ~~الفراغ. # وكلما استعاد مشهد ملامحه ومحفظته أحس وهواتف خفية تنبثق في صدره وتهيب به أن يفعل شيئا. ~~لا بد أن يملأ محفظته بالنقود، بمئات الجنيهات، لا بد أن يجلب له كنزا، لا بد أن يشتغل، ~~يعمل أي شيء، وعلى الأقل يقبض عشرة جنيهات في الشهر يعطيها لأبيه قائلا: خذ ولا تزعل. قم ~~وانهض وغط ساقك، واستعد ملامح الأسد. قم يا أبي، ثم أنا لم أعد طفلا. أنا والله رجل، رجل ~~كبير يا أبي، لا تخف علي، سأحميك ولن أطلب منك نقودا، ولن أحتال عليك لأحصل على القروش، ~~وحياتك يا أبي لن أفعل هذا. # وتقلب أخوه وزأم كمن يحلم، ثم علا صوته، وغمغم. عاوز أشرب، هه، عاوز أشرب. # وكثيرا ما يسمع أخاه يغمغم ويطلب الماء في الليل، فيظل ساكنا على مضض، ولا يتحرك حتى ~~توقظ الضجة أباه فيقوم ويسقيه. # ولكنه ما كاد يسمعه هذه المرة حتى هدهد عليه، وهو يقول: حاضر. # ثم قام في حماس زائد، وملأ له الكوب، وعاد به وحده ms18 في الظلام. # وقبل أن يغلق عينيه اعتدل كمن تذكر شيئا، ومد يديه وراح يحبك الغطاء حول أخيه، كما يفعل ~~أبوه تماما، وتأكد أن قدميه ملفوفتان في «البطانية»، ورأسه معدول فوق المخدة. # ثم أخذه في حضنه. # ونام. # | الناس # كان في بلدنا «طرفة»، لم تكن كبيرة ولا عالية أو ذات سيقان وفروع، كانت ضئيلة الحجم، ~~قصيرة قميئة ورقها كورق العبل رفيع وأسطواني، ولونها أخضر قاتم، ولا تعرف ربيعا أو خريفا؛ ~~فهي تورق على الدوام، ولا تعرف ضعفا ولا قوة، فهي لا تنمو ولا تصغر، ولم يزد حجمها أو ينقص ~~طوال أجيال. # ولا يدري أحد كيف نبتت تلك الشجرة في بلدنا؛ إذ إن شجر الطرف نادر الوجود في الأرض الطمي، ~~فهو لا ينمو إلا في مناطق المستنقعات. وكذلك لا يدري أحد لماذا اختارت ناحيتنا ~~بالذات. # كل ما نعلمه أن أهل بلدنا اعتقدوا فيها، ونظرا لواحدانيتها حف بها نوع من التقديس، وآمن ~~الناس أن لا بد وراء وجودها سر باتع وكبير. # ومنذ أجيال وأهل بلدنا لا يتبركون بها فقط، ولكنهم يستخدمونها كدواء لأمراض العيون. ما من ~~كائن وجعته عينه إلا ووصف له أحدهم ورق الطرفة. تذهب بعد الفجر إلى الشجرة وتنظر إلى أن ~~يهبط الندى، ثم تأخذ عدة عقل من أوراقها وتكسرها، فيسيل منها لزج تقطر في العين الموجوعة ~~منه قطرتان لا ثالث لهما. وبإذن واحد أحد يحل الشفاء. # وأغرب ما في الأمر أن الشفاء كان يحل فعلا. صحيح أنه في أحيان كثيرة لم يكن يحل الشفاء. ~~أحيانا كان يتضاعف المرض، وأحيانا نادرة كان يحل العمى أو العور، ولكن الناس لم يكونوا ~~يعزون بالفشل إلى ورق الطرفة بقدر ما يعزونه إلى نجاسة المريض مثلا أو أحد من أهله، أو أن ~~المرض قد زاد واستمكن، أو أنك لا بد قد أخطأت ولم تنتظر حتى يهبط الندى. # ووعينا نحن فوجدنا شجرة الطرفة من معالم بلدنا الأزلية تحف بها القداسة وتكتنفها الأسرار، ~~فكنا نخاف منها ونرهبها، ونتخيلها بقامتها القصيرة وورقها الرفيع المسنون كعجوز شمطاء تقطع ~~الطريق إلى ms19 الترعة، أو كأنها خالتنا أم الغول. # وشببنا فوجدنا اعتقاد أهل بلدنا فيها لا يتزلزل أو يصيبه وهن. غزا الطب الريف، وافتتحت في ~~البنادر عيادات رمد ومستشفيات، وهم مصرون على تلك الشجرة فخورون بها، يحمدون الله على ~~وجودها في بلدنا دون سواها، ويكنون لها أعمق التقدير، حتى ليكاد الواحد منهم يقرأ الفاتحة ~~إذا ما مر عليها. # والعجيب أن الاعتقاد فيها كان شاملا. الكل يؤمن بها؛ الكبير والصغير، والفقير وصاحب ~~القرشين، بل امتد هذا الإيمان إلى ما جاورنا من قرى، وأصبح من المناظر المألوفة في بلدنا أن ~~ترى أناسا جالسين بعد الفجر حول شجرة الطرفة، ينتظرون في صمت وفي رهبة هبوط ~~الندى. # وأصبحنا تلامذة وتعلمنا، وعرفنا التاريخ والجغرافيا والهندسة والطب وقانون الغازات ~~لبويل. # وبدأنا نكفر بشجرة الطرفة. # وكان أكثرنا حماسا ابن الصراف الطالب بكلية الزراعة الذي لم يكفه الكفر والإلحاد ~~بالطرفة، بل راح يضيق بأهل بلدنا أنفسهم سخافتهم وعقولهم الجامدة الضيقة التي تحجرت على ~~الإيمان بشجرة لا حول لها ولا قوة. # ثم أصبحنا كلنا نجاهر بهذا الكفر، وما لبث ضيقنا وسخطنا أن تحول إلى حركة ودعوة، وجاء ~~اليوم الذي أعلنا فيه الجهاد، وقسمنا أنفسنا؛ فريق يخطب في المساجد ويقول: يا أهالي ~~الطرفة تعمى كل ذي عينين. وفريق يلف على الناس والمصاطب ويقول: يا إخواننا، الحكومة فتحت ~~مستشفيات عليكم بها ودعوا الطرفة. وفريق وقف بجوار الشجرة يستقبل كل من جاء ويشرح له، ~~ويحاول أن يثنيه عن عزمه. وكان الناس ينظرون إلينا ونحن نفتح أفواهنا ونخرج منها كلاما ~~سريعا كثيرا، ويهزون رءوسهم ويقولون لبعضهم البعض: كلام حلو يا أخي، كلام مضبوط. # واعتبرنا أن المسألة قد انتهت، وأن عيون الناس قد سلمت على أيدينا، وأننا نستحق على ~~مجهوداتنا تماثيل شكر وآيات تكريم، ولكننا بعد مضي أيام اكتشفنا أن الناس لم تكف عن ~~استعمال أوراق الطرفة، ولا حتى اختفى الجالسون تحت الشجرة ينتظرون هبوط الندى. # وقلنا إلى ~~الجهاد من جديد. # وظللنا أياما كثيرة نكلم الناس ونناقشهم ونضرب لهم الأمثال فيهزون رءوسهم ~~ويوافقون، بل يغالي بعضهم في ms20 لوم نفسه ويقول: لا مؤاخذة يا فندي انت وهو، أصلنا جهلة ~~والجاهل أعمى، والعتب على النظر. # ولا نتركهم حتى يبدو عليهم الاقتناع الصادق الأكيد ... وما ~~إن يمرض منهم مريض حتى تكون أوراق الطرفة هي أول دواء يوصف وأول ما يستعمل. # وظللنا أعواما ~~كثيرة نحاول ونيئس، ونيئس ونفشل. وكالعادة لم يستمر جهادنا كثيرا، فما لبثنا أن نفضنا ~~أيدينا من الأمر، وقد بدا أن ليس ثمة قوة تستطيع زلزلة إيمان الناس بالطرفة. # ولكن ابن ~~الصراف، وكان نحيفا عصبيا عنيدا، وإن كان قد أصابه اليأس كما أصابنا إلا أنه لم يسلم ~~بالهزيمة، وظل الأمر يشغل باله ويكاد لا يفكر في غيره. # وذات يوم عنت له فكرة، فأخذ ~~أوراقا من الطرفة وذهب إلى أستاذ في كليته، وحكى له الحكاية، وطلب منه تحليل ~~الأوراق. # وفوجئنا حين أثبت التحليل أن في الورق نسبة من كبريتات النحاس التي تصنع منها ~~القطرة. # وأشعنا الخبر في البلدة، أشعناه ونحن نصفق ونهلل وكأننا اكتشفنا كنزا كان مجهولا. وقلنا ~~للناس: لا ضير عليكم من استعمال الطرفة؛ ففي أوراقها قطرة. # وهز الناس رءوسهم بلا حماس وغمغموا: جالكو كلامنا؟ # كل ما حدث أنه حين مرت أعوام كثيرة، وعدنا إلى بلدنا موظفين وخبراء ومحترمين، وجدنا أن ~~شجرة الطرفة لم يعد لها ذلك التقديس القديم، وأنها هزيلة شاحبة لم يعد حولها منتظرون ولا ~~تخيف كما تخيف أم الغول. # ووجدنا الناس قد كفوا عن استعمال أوراقها في علاج العيون، وحين كنا نسألهم عن السبب ونحن ~~مذهولون، كانوا يهزون رءوسهم ويقولون: سيبك يا شيخ، القطرة برضك أنضف. # | الوجه الآخر # كان الواحد منا إذا عثر على «نص فرنك» وهو صغير طار من الفرحة، وحين كبرنا أصبح ما يفرحنا ~~أن نعثر على إنسان، أو كلمة طيبة! # والحركة كما يقولون بركة، وأن تقص شعرك كل مرة عند نفس الحلاق شيء ممل حقا. ولم أكن ~~أستقر عند أحدهم، ولم أكن أطمع أن أدخل صالونا ذات صدفة فأجد صاحبه إنسانا كالأسطى زكي. ~~كان كل همي إذا دخلت عند الحلاق أن أعد نفسي ms21 لعملية التعذيب القادمة. وقص الشعر عملية تعذيب ~~يؤديها الإنسان كالواجب الثقيل المفروض؛ إذ ما معنى أن يجلس الواحد نصف ساعة أو أكثر، ورأسه ~~مثني على وضع معين، وعروق رقبته متصلبة تكاد تنقطع، وكل هذا ليقص شعره بضعة ملمترات، أو ~~ليبدو وجهه أكثر وسامة؟! # كان الأسطى زكي الذي أسلمته رأسي رجلا غريبا؛ فصوته رفيع كأصوات النساء، ووجهه أحمر ~~كوجوه الأتراك، وهو قصير سريع الحركة كمخلوقات والت ديزني، وفي عينيه ذكاء. والأعجب من هذا ~~سيجار توسكانيلي لا يغادر فمه مطفأ ولا مشتعلا، وكأنما ولد به. إذا أشعله يفعل هذا بثلاثة ~~عيدان كبريت، ويكتم الدخان المتصاعد منه أنفاسي؛ دخان ثقيل قابض كأنه مصنوع من ذرات رصاص. ~~وإذا انطفأ تركه بين شفتيه، وكلما نطق يتلاعب السيجار إلى أسفل وأعلى، وكأنما أصبح جزءا من ~~تقاطيعه. وكان أكثر شعر رأسه أبيض منكوشا كشعر المذهولين، وهناك وجوه لا تحس بملامحها، ~~وكنت تحس أن في وجهه أنفا. ولم يكن يرتدي البالطو الذي تعود الحلاقون ارتداءه. كان ~~يرتدي قميصا وبنطلونا. القميص من قماش لا يستعمل للقمصان، ذو خطوط غامقة كثيرة وليس له ~~ياقة، ومفتوح عند العنق يظهر بقعة من صدره فيها شعر كثيف أبيض. والبنطلون حائر في وسطه لا ~~يعرف على أي جزء من كرشه المقوس الأملس يستقر. وهو كالمكوك لا يهدأ. في نفس الوقت الذي ~~يقص فيه شعري كان مشتبكا في ثلاث مناقشات مع زملاء ثلاثة له؛ واحد دخل معه قافية حول ~~البامية والقرون، والآخر يحدثه عن طريقة مبتكرة لعلاج المرارة، والثالث يضحك معه على ~~الاثنين. وينثني فجأة ويهمس في أذني بتعليق أو كلمة ترحيب، ويسألني إن كنت في حاجة لجريدة. ~~ولا ينتظر جوابي ويرتفع صوته باحثا عن «الاثنين»، ولا يجدها ويشتم الصبي، ويجد أن «آخر ~~ساعة» قد طارت، ويعود إلي بالأهرام وعلى وجهه ابتسامة خجولة آسفة تكاد من برودتها تطفئ ~~«ولعة سيجارة». # والمقص بين إصبعيه لا يكف عن الطقطقة به لحظة، وكأنه حاو يقوم باستعراض أمام الناس ~~ويريهم معجزة. # ويبدو أنه كان مشهورا واسمه تتقاذفه الأفواه كالكرة ms22 الشراب، والداخل والخارج والزبون ~~والزميل والجميع يعاملونه كما لو كان لعبة طيبة لطيفة مهما سخرت منها فلن تعقب، واللعبة ~~تغري باللعب، وهكذا لم يكن أحد يدعه على حال، ولم يكن يبدو عليه الضيق بأمثال تلك ~~المداعبات، بل لعله كان مسرورا. كنت الوحيد المغيظ؛ فرقبتي هي المثنية، والعبث كله على حساب ~~رأسي وأعصابي، والرجل كان باديا أنه تعدى الخمسين ولا يستطيع الإنسان أن ينهره ~~بسهولة. # وبلغ بي الضيق منتهاه، ومن كثرة ضيقي أمرت الصبي الواقف ينش علي الذباب أن يكف؛ فأن يحس ~~الإنسان بالعذاب لأنه يقضي نصف ساعة وهو جالس أمر قد يحتمل، أما أن يقضي صبي صغير في ~~العاشرة من عمره اليوم بطوله واقفا في مكانه لا يتحرك، ولا يفعل سوى نش الذباب عن وجه ~~الزبائن وكأنه آلة، فأمر لا يحتمل. # والظاهر أن الأسطى زكي لم ينتبه إلى أني السبب في توقف النش؛ فقد نهر الصبي وأمره ~~بمضاعفة جهوده في طرد الذباب. ولم يكن هناك إلا ذبابتان؛ واحدة لا تتحرك من فوق المرآة، ~~والأخرى تحوم حولنا. إذا نفث الأسطى زكي دخانه فرت، وإذا كف عادت. # وانتهزت الفرصة، وانفجرت أطلب من الصبي أن يكف، وأقول للأسطى زكي: هذا تعذيب وقلة إنسانية ~~... (إلخ، إلخ). # وابتسم ردا على غيظي وقال: أمال، أمال، ينش، لازم! # وعدت أردد ما قلته، وعاد يقول وهو حائر بين الضحك والابتسام: أبدا، أبدا، إلا دي، دا ~~لازم يقف كده، لازم كده. ~~- ليه؟ ~~- أمال، أمال، عشان يتعلم، ينش ويتعلم، لازم كده. لازم يقف هنا عشان يشوفني وأنا بشتغل ~~ويتعلم، إلا دي. # وإلى حد ما كاد رأيه يقنعني، ولكن الصبي على أي الحالات كان يتعذب، ورد على قولي ~~بقوله: آه عذاب، معاك عذاب، إنما أصول الكار، يتعلم ازاي أمال؟ سيدنا أيوب كان صياد، ~~وسيدنا عيسى كان نجار، أنا اتعلمت كده. كلنا كده، أصول، الواحد لازم يكون له صنعة يأكل ~~منها عيش، إلا دي. اللقمة اللي من غير تعب فكرك يبقى لها طعم، إلا دي، كارنا كده، مش ~~بالساهل، ح يتعلم ازاي ms23 ؟ إلا كده، نش يا ولد نش، نش يا جنس كلب، نش إلا دي. # فقلت وأنا لا أزال ممتعضا: طيب ينش ينش، لكن ضروري الشتيمة يعني؟ # فأغرق في الضحك وقال: ضروري، ضروري قوي، يتعلم ازاي إلا بالشتيمة؟ دا جاي هنا غصب عنه، ~~فكرك هو عايز يتعلم الحلاقة؟ إلا دي، أبدا، دا عايز يجري ويتنطط زي التلامذة، يتعلم ازاي ~~إلا إذا خاف؟ يخاف يتعلم، وهي دي شتيمة؟ أنا وأنا قده كان أبويا الله يرحمه يتلعن في تربته ~~ألف مرة في اليوم. كنت أزعل، أنا ما اغلطشي، وكده اتعلمت، هي دي شتيمة؟ إحنا كلامنا كده. أصل ~~لا مؤاخذة الصنعة الباردة كلامها بارد، كلامنا كده. ح نعمل إيه؟ يا واد حوش الدبانة دي، ~~الله، أنت عايزها تدخل بقي؟ يعني لازم أوسخ يعني، إلا دي. # وفطنت وهو في منتصف كلامه إلى شيء؛ فهو لم يكن قد سألني رأيي في الطريقة التي أفضلها لقص ~~الشعر، وعادة الحلاق أن يأخذ رأي الزبون. هو لم يكن يلمح رأسي أمامه، حتى انهال عليه قصا ~~وتوضيبا دون أن يحفل بسؤالي، فقاطعته ولا يزال غيظي لم يتبدد: تسمح؟ والله أنا عايز ~~التدريجة. # فقاطعني هو قائلا: عارف، عارف، سيادتك بتحب تكون متوسطة، مش كده؟ إلا دي. # ودهشت قليلا وقلت: إيش عرفك؟ # فقال وهو يرفع عينيه عن رأسي ويعتدل، وقد فتحت يده المقص وأخذ يطقطق على الفاضي، والمشط ~~في اليد الأخرى، والسيجار في منتصف المسافة: عرفت ازاي ازاي؟ أنا بعرف كده، المسألة نظر، ~~نظرة واحدة للزبون أعرف هو عايز إيه، إلا دي، نظرة واحدة. عرفت ازاي؟ كده؟ بالفلهوة، أمال ~~الواحد بقاله أربعين سنة في الكار ده ازاي؟ بنلعب، إلا دي. # ثم عاد إلى العمل، وقصر قامته القصيرة، وركز انتباهه على نقطة لا بد كانت استراتيجية جدا ~~من رقبتي، وراح يعمل فيها بطرف المقص بكل دقة وحنكة، وعينه مزرورة، ونار السيجار قد اقتربت ~~جدا من أذني، حتى لتكاد تلسعها، وأكمل من خلال فمه المضموم: النبي عليه الصلاة والسلام ~~قال: اعمل لدنياك. واعمل يعني اعملوا ms24 مش تهزروا، لازم الواحد يتفهم الناس، شفت ازاي؟ أهو ~~حضرتك مش متزوج مثلا، لا مؤاخذة أنا بس يعني حبيت أوري سيادتك، ح تقولي ليه؟ كده بالفلهوة، ~~ح تقولي عرفتها ازاي؟ أقول لك ما اعرفشي. كل واحد بيبان عليه، المتزوج بيبان عليه، ~~والعازب يبان عليه، وكذلك الفقير. # وانقلب سخطي عليه إلى سخرية، ونحن لا نترك فرصة للتنكيت إلا انتهزناها، فقلت: إيه، إنت ~~بتقرا لي قفايا ولا إيه؟ # ولم يضحك، وحسبت السبب أن النكتة لم تعجبه؛ لأني أنا شخصيا حين أعدت النظر فيها وجدتها ~~نص نص، حسبت هذا لولا أنه قال: بالظبط، بالضبط كده، أهي دي الفلهوة بقى. # وخربت بيته في سري، وتركت عملية الحلاقة كلية، والتفت إلى هذا المخلوق القصير ذي الوجه ~~الأحمر، إن لحسته قد زادت عن حدها كثيرا، وقلت له وأنا أهز رأسي كمن يهزه إلى مخرف ~~كبير: يعني سيادتك بقى بتقرا القفوات؟ # فقال: لا، مش قوي كده، يعني إلا دي، هي القفوات لا مؤاخذة فناجين ولا كوتشينة، الحكاية ~~بالويم يعني. # فسألته ضاحكا: هيه، طيب، وإيه تاني في قفايا؟ # فابتسم في تواضع وقال: يو هوه، حاجات كتير. مثلا يعني سيادتك مثلا عليك أعصابك، يعني لا ~~مؤاخذة عصبي شوية، ومع كده ابن حلال يتكتم. # وخربت بيته مرة أخرى في سري؛ فقد كان ما قال صحيحا بعض الشيء. # وهنا التفت للصبي وقال: المراية يا ولد. # وحين عاد الولد بالمرآة تناولها منه بعد أن شتمه لتلكئه، ومسحها أولا بالفوطة، ثم أمسكها ~~في وضع يسمح لي بأن أرى قفاي. وحركها وهو يقول: شوف سيادتك بقى، تعجبك التدريجة، كويسة؟ كويس كده؟ # كان يقول هذا بصوت جاد وملامح متأملة، وهو يتطلع إلى رقبتي، ويرقب نتيجة عمله، كما لو ~~يتأمل الفنان لوحة انتهى منها. # ورحت بدوري أحدق في المرآة، وأحاول أن أستشف ما في رقبتي من شذوذ أو بروز يكون قد أوحى ~~للأسطى زكي بما قاله، ولكني لم أجد شيئا، وعبرت له عما يجول بخاطري، فابتسم ابتسامة الحاوي ~~العجوز، وقال وهو يضبط المرآة التي خلفي: بص ms25 سيادتك، بص كويس، شايف إيه؟ رقبة مش كده؟ ~~وشعر، الناس بتسميهم قفا، أنا بسميهم وش، أنا عندي القفا وش بس من الناحية التانية، بني ~~آدم زي السكين بوشين، فليه نسمي الناحية دي وش والناحية دي قفا؟ هنا وش وهنا وش. # وسكت فجأة وسهم وهامت عيناه، ثم نطق بصوت مضموم خيل إلي أنه يخرج من سيجاره ~~الأسود: أما حتة وزن! # ورأيت طرف المرآة يطالعني بجزء من الحتة، كان نصف امرأة ماشية في الشارع طويلة سمراء ~~وممتلئة ملتهبة، وكما هام فجأة عاد فجأة، وكان أول ما فعله أن شتم الصبي وأمره بنش الذباب، ~~وكان الصبي ينش فعلا ولا حاجة به إلى أمر أو سباب، ثم استطرد: ليه ما ينفعش وش؟ أنا وجهات ~~نظري كده، أنا بشوف ده وأشوف ده، طول النهار وشي في قفا الزبون، بشوف فيه كل حاجة كأنه ~~وش. # وكان يتحدث طوال الوقت بصوت سريع منخفض وكأنه يخاف أن يسمعه أحد غيري، ولكنه خفض صوته ~~أكثر على حين بغتة وهمس في أذني: وبيني وبينك الوش الوراني ده أحسن من القدماني. # ولم أستطع أن أعلق أو أسأل أو أوقفه لحظة. كان كاللعبة التي ملئ زمبلكها وانطلقت تتحرك، ~~وأصبح لا يمكن وقفها حتى تفرغ شحنتها، واستمر يقول بصوته الخافت المتلصص الحافل بالحماس ~~وكأنه نبي يبشر برسالته في السر: القدماني دهه حتى باظ، بقى بترينة ما عدش ينفع، اتعلم ~~الحركات، بقى يمثل وباظ، الواحد يبقى قلبه شايل الهم ووشه بيضحك، ويبقى وشه بيقول لأ وهو ~~من داخليته بيقول أهين، إلا دي. شوف يا أستاذ، على قد ما تقدر قول على الوش القدماني دهه، ~~دهه، الله يلعنه، لا مؤاخذة ما أقصدكش، باردون. الرك كله على القفا، هو الوش المظبوط، ~~النضيف قفاه نضيف، والعيان قفاه عيان، والغني قفاه ملظلظ، هو ده الوش اللي بحق وحقيق، هنا ~~هه. كل حاجة هنا هه! # وقاطعه صوت جاءنا من بعيد، كان صوت زميل له يسأله عن البودرة، وحين هب الأسطى زكي من ~~استغراقه في الكلام معي، ورآه زميله وهو ms26 في موقفه ذاك الضاحك، وقال وهو يخاطبني: أظن قاعد ~~يقولك عن القفا يا بيه. دا أصله دوشجي، خلي بالك منه، دا اسمه الأسطى قفا. # وامتلأ الصالون بالضحك والقرقعات، واحمر وجه الأسطى زكي قليلا، وبدا عليه حزن سريع، ~~ولكنه التفت لزميله وقال: قفا قفا يا سي أنور، إلا دي، قفاك يملا حله، قفاك يملا حله. # ومرة أخرى دوى الضحك وانصرفت عنه الأنظار، فانقض على أذني من جديد. ويبدو أننا لا نتأثر ~~بمعنى الكلام فقط، ولكن أيضا بالطريقة التي يقال بها. وأول الأمر كان زكي يضحك ويصبغ الهزل ~~كلامه، ثم بدأ يتكلم وكأنما ليذهلني بما يقول. ثم تطرقت إلى صورته رزانة ووقار، وبعد أن كنت ~~أسمع له ساخرا تطرقت الرزانة إلى سمعي أنا الآخر وبدأت أنصت: بيضحكوا، والله بيضحكوا على ~~أرواحهم، داحنا في نومة والله، دول بيضحكوا على بعض. الراجل يبقى مزوق من قدام وقفاه زي ~~الطين، يبقى ده لا مؤاخذة راجل مش نضيف، وعايز يقول للناس إنه نضيف، بيضحك على الناس، كل ~~الناس بتضحك على الناس، تعرف سيادتك بيقولوا علي ملحوس ليه؟ عشان وشي زي قفايا، ~~تسمح؟ # وخلع رأس الكرسي بسرعة وطلى وجهي بالرغوة، وسن الموسى، ووضع السيجار جانبا بناء على ~~طلبي، وبينما الموسى يعمل ويزحف فوق ذقني بخفة ومهارة، مضى هو يقول: أهو احنا كده يا ولاد ~~العرب، ثم تعالى هنا، تعرف إن الناس ليهم طبايع غريبة، قلت لي ازاي؟ كل واحد يخلي وشه ~~القدماني مختلف عن الباقيين، وكل واحد عايز وشه الوراني يخليه على قد ما يقدر زي الباقيين. ~~ده يربي شنب قد كده، وده يخليه دوجلاس صغير، وده دوجلاس كبير وده يدوبك خط، وده يقول والنبي ~~تخلي القصة طويلة، وده يقول خليها إنجليزي وحياتك. كل واحد عايز وش لوحده. إنما تيجي للقفا، ~~اللي رقبته قصيرة يقول خلي التدريجة عالية، واللي طويلة يقول خليها واطية. ليه؟ علشان ما ~~يبقاش مختلف عن بقية الناس، عشان يبقى طبيعي. اتأمل يا أستاذ في أحوال الخلق، التلميذ ولا ~~مؤاخذة عايز يبقى وشه زي ms27 وش البيه، والصنايعي عايز يبقى وشه زي وش التلامذة، والفلاح عايز ~~يبقى زي الأفندي، وكلهم عايزين قفواتهم تبقى زي بعض. بص للزباين والناس اللي ماشيين في ~~الشارع. بص لهم كويس تلاقي لهم مليون وش وقفا واحد بس، قفا واحد بس. # حكمته! ربنا حط في كل واحد عقل وقال له امشي، قوم شوف، إلا دي. يقولوا علي ملحوس، ~~يقولوا حلاق، يقولوا اللي يقولوه، إنما والله العظيم تلاتة بالله العظيم الناس بتضحك على ~~نفسها، كل واحد بيضحك على نفسه، وكلهم ليهم قفا واحد. قول لي يا أستاذ، بذمتك قول لي، ما ~~دام قفاهم واحد ليه عايزين وجوههم مختلفين؟ # فسألته وأنا في تفكير عميق: تفتكر ليه؟ # فهز كتفيه وقال: والله ما اعرف، كله مش داخل مخي. أنا يا عم كلهم عندي واحد وحياتك. ما فيش حد أزيد من ~~التاني. كلهم عندي قفوات. نش يا ولد نش، نش جك وجع ينشك. # وكان قد انتهى من ذقني وأعمل يده وأصابعه في شعري وسواه، ومضى يداعب الشعرات القليلة ~~الناشزة ويحاول إخمادها. # وقلت وأنا أغادر الكرسي: يا أسطى زكي. ~~- نعم. # نعم. ~~- نفسي تقول لي إيه اللي طلعت بيه من ده كله؟ # ولم يجبني. كان قد لاحظ بضع شعرات في رقبتي أخطأتها ماكينته، فرجاني أن أعود إلى الجلوس، ~~وانطلق بخطواته الكثيرة السريعة وهو يدفع هذا ويشاكس ذاك، وعاد ومعه ماكينة صغيرة. # وما إن بدأ يعمل حتى نتشت الماكينة الشعر بدل أن تقطعه، وسبب لي هذا ألما، فقلت: أخ. ما ~~كدت أقولها حتى أغرق في الضحك، ضحك خاطف قصير، والتفت أرى ما يضحكه ولم أجد شيئا، وسألته ~~فقال وهو ينفض الشعر عن ملابسي: بضحك ليه؟ أصلي هف علي الضحك، ما هي حاجة تضحك. أنت مش ~~بتسألني طلعت بإيه من الحكاية دي كلها؟ # ولا حاجة وشرفك عندي، ولا حاجة. كل اللي طلعت بيه إن المكنة دي بقالها خمس سنين بتنتش، ~~وحلقت بيها لييجي عشرة آلاف واحد، وكل زبون كان لما توجعه النتشة يقول أخ، كلهم زي أنت ما ~~قلت. نعيما ms28 ! شرفتنا، ما أعطلكش. نش يا ولد نش! # | داووود # لم يناقش أحد الفتوى التي تطوعت بها «الداية»، وكيف يناقشها أحد؟ العائلة كلها تلهفت ~~شهورا واستعدت للحدث الضخم أيما استعداد. الأب ما كاد يرى المولود الجديد، حتى أحس وكأن ~~قلبه قد اختفى - برضاه - من صدره، وأصبح له صراخ وأنين، وانتفض حياة جديدة لفتها الداية في ~~اللفائف، وكان ابنه الأول. والأم، أم الولد ظلت تئن وتتلوى وهي حامل، وتلعن الحمل ~~و«سنينه»، وتصرخ صراخ المستغيث من الحمل بالميلاد ساعة الميلاد، ولكن ما كادت تنفصل عنها ~~«حتة اللحمة»، وتراها في لونها الأبيض المشرب بحمرة، وتكشف لها الداية عورتها، فتبلغ قمة ~~السعادة بالولد، ثم يصرخ هذا الولد ويستغيث، وتعطيه ثديها، وتحس بنغمشة حبيبة تسري في جسدها، ~~والولد النونو العفريت يطبق بشفتيه الصغيرتين اللذيذتين على لحمها، ويمتص منها اللبن في ~~مهارة ودهاء، وكأنه تعلم الرضاعة خفية وهو لا يزال في بطنها. ما كاد هذا كله يحدث حتى انقلب ~~الصراخ والألم إلى محبة دافقة مفاجئة تغمر كيانها كلما مص الولد ثديها، أو أخذته في ~~حضنها، أو رفض اللفائف بساقه الملظلظة القصيرة التي لا تكاد تتعدى إصبع اليد. # أجل، كيف يجرؤ أحد على مناقشة الداية في فتواها، وقد دخلت تصيح على الأم بعد أن مضى على ~~ولادتها يوم. وما كادت تجلس وتخرج علبة السجائر، وتشعل سيجارة، وتأخذ نفسا، وتبتلعه وتنفثه، ~~حتى قالت: بس أنا خايفة عليكي يا أم سمير (إذ كانت قطعة اللحم قد تحولت في يوم وليلة إلى ~~سمير). # وأحست الأم بنغمشة حبيبة من نوع آخر تسري في نفسها، نغمشة فرح وإحساس بالمسئولية، تماما ~~كتلك التي أحستها يوم أن اكتشفت لأول مرة وهي لا تزال بنتا أنها أصبحت أنثى؛ ولهذا قالت في ~~صوت واهن لم يكفها وهنه، ولكنها أضافت إليه وهنا آخر دائما تتصنعه الوالدات: كفى الله ~~الشر يا أختي، ليه؟ # فأجابت الداية وهي تنفخ نفس الدخان في ولعة السيجارة، فتحمر الولعة كما يفعل عتاة ~~المدخنين الرجال: بقى تبقي اسم النبي حارسك والدة، وتخلي القطة قاعدة معاكي ms29 في بيت؟ إنت مش ~~عارفة ادلعدي يا اختي إنها ولدت هيه رخره؟ ~~- ولدت؟! ~~- أي والنبي يا أختي، لقيتها راقدة، اسم النبي اسم النبي حارسك في وش العدو. ~~- والنبي آدي حد علمي. # وأنا يا ختي داخلة من الباب، وألقاها راقدة رقدة الندامة في سبت الغسيل بتاعكو، لأ يا ~~ختي، لازم تشوفولكم طريقة. إنت عايزة ولادها البعيدة، البعيدة عن البيت وصحابه، ~~تكبسك؟ ~~- يا نهار اسود! طيب ادلعدي يا ختي يا تفسريش. ~~- دي مجربة من أيام حوا وآدم يا أم سمير (وكأنها بسلامتها هي التي أشرفت على وضع أمنا ~~حواء). الله يعافيها بالعافية بقى بنت أخت ألفت هانم عملتها، وبعيد بعيد عن البيت وصحابه ~~جرالها اللي ما يجرى لعدو ولا لحبيب. # تم هذا الحديث في الصباح، وفي الظهر جاء الأب من الخارج، وقد قام بكل الإجراءات الواجبة ~~التي يتخذها الوالد في أمثال هذه الحالات، فاقترض مبلغا محترما فك به ضائقته باسم الكارثة ~~التي حدثت، وقام بإبلاغ الخبر إلى كل الأهل والأصدقاء. وكاد يوقف الناس في الشارع ويخبرهم ~~أنه رزق والحمد لله بمولود ذكر، وكذلك حصل على إجازة من عمله استطاع بها أن ينهي بعض ~~المشاغل التي تراكمت عليه، وما كاد يضع قدمه في الحجرة حتى فوجئ بيا سيدي أولاد القطة لا ~~يمكن تقعد في البيت، لماذا يا ستي؟ الداية قالت كيت وكيت. يا ستي كله تخريف في تخريف. أنا ~~مالي! لا بد من إبعاد أولاد القطة حالا. يا ستي ماليش دعوة، أنا كوم وهم كوم يا انا يا هم. ~~حاضر يا ستي أمري إلى الله. # وقبل أن يختفي الأب لتنفيذ المهمة عن له أن يحيي القادم الجديد، فاقترب منه وأخذ يزغزغه ~~بإصبعه الكبير الخشن، ويقول وهو يلعب حواجبه ويقوم بأنفه وفمه وعينيه بحركات بهلوانية: سما ~~الله عليكي، سما الله عليكي. زقزق زقزق. سما الله عليها. توتو توتو توتو. عوعو ~~عوعو. # وكانت الأم تراقبه في ضيق وكأنه ينتزع منها شيئا يخصها، ولكن ماذا تقول؟ هو الأب على كل ~~حال. ولكنها حين وجدت أن ابنها ms30 بدلا من أن يضحك أو يبتسم فتح فمه الصغير وضم ساعديه، ~~وانبعث منه صراخ لا ينبعث عن بالغين، دفعت يد الأب في عنف، وضمت الولد إليها، وأخرجت ~~«حلمتها» بحركة تلقائية، وفرضتها على فم الصغير فرضا، وهي تقول: امشي يا بعبع، تعالى يا ~~حبيبي، تعالى يا ضنايا، تعالى يا حتة من كبدة قلب أمك يا خويا. # ولدهشة الأب سكت الولد قليل الأدب، بل اندفع يتلوى جذلا كالدودة الصغيرة، وهو يمص الثدي ~~بصوت مسموع. # وخرج الأب من الحجرة كالبعبع المكسور الخاطر. ~~••• # وبحث عن القطة كثيرا؛ إذ لم يكن يدري أين سبت الغسيل، بل هو بصراحة لم يكن يدري في أعقاب ~~ذلك الميلاد وجهه من قفاه. وكان لا يمكن أن يجدها لولا المواء الخافت الذي جاء فدله على ~~السبت والقطة. ووجد الماكرة راقدة في تلافيف المربس، ووقف يراقبها من عل. كانت نائمة على ~~جنبها، تكاد تبدو بلونها البني المطعم بالأسود كفستان مكور من فساتين امرأته، وكانت تصنع ~~برقدتها قوسا يكسوه من الداخل شعر بطنها الأبيض النظيف، ويحفل التجويف الذي يصنعه القوس ~~بثلاث قطط صغار. كانوا صغارا جدا، حلوين وكأنهم لعب أطفال مصنوعة من قطط حية. # وكان من الممكن ألا يقف الأب هكذا طويلا يراقب القطة وأولادها، ولكنه لم يدر السر ~~الذي جعله يقف جامدا هكذا يراقب هذه الكتلة الحية المكومة في جانب من السبت. كان أولاد ~~القطة يتناوبون الرضاعة ولا يكفون عن الحركة. ويدفع الواحد منهم الآخر برأس مغمض ليأخذ ~~نوبتجيته على الثدي الصغير، حتى إذا ما اكتشف أن أخاه قد شطب عليه انتقل إلى ثدي آخر، ~~وأعمل فيه فمه الأحمر الدقيق. # وكانت الأم متكئة على ما يجاورها من ملابس تراقب الأولاد بعيون وسنانة نصف مفتوحة، ~~وشواربها مهدلة على جانبي فمها غبطة، وكان يبدو أنها في قمة السعادة. وكانت أحيانا تبقى ~~على وضعها ذاك، وأحيانا تنقل رأسها فقط دون جذعها وتدفنه بين أولادها، فيصبح وكأنه قطة ~~رابعة هو الآخر، وأحيانا تلعقهم بلسانها النظيف، وأحيانا تدفع الواحد منهم عن ثديها في ~~رفق لتعطي الفرصة ms31 لآخر. # كان الرجل واقفا فوق رأسها في وضع لا تراه فيه، واقفا وقد ذهب عنه التحفز الذي جاء ~~به، وتراخت ذاكرته وذكرياته، وتعددت ألوان القطة في عينيه وتاهت. لم تكن القطة هكذا يوم ~~جاءت. كانت شاحبة عجفاء يوم جاءت! لقد استيقظوا يومها فوجدوا في المطبخ كارثة. كانت امرأته ~~قد أبقت حلة الطبيخ مكشوفة بعد أن غلتها حتى لا تحمض، وإذا بهم يفاجئون بحدثين خطيرين؛ ~~اختفاء قطع اللحم التي كانت في الحلة كلها، ومواء قطة في الشقة. # ويومها أمسكت امرأته فردة القبقاب وظلت مدة طويلة تحكم النيشان، ثم قذفت بالفردة. ولولا ~~أن القطة تحركت في الوقت المناسب لكانت قد أصبحت في ذمة التاريخ، ذي الذمة الواسعة. وظلت ~~بعد هذا تتحرك وتزوغ بطريقة لولبية من كل الفرد والمداسات وقطع الأخشاب والزجاجات وأيدي ~~المقشات، وأثبتت بهذا أن القطط ليس لها سبعة أرواح، وإنما لها روح واحدة طويلة مصنوعة من ~~مطاط يلين، ولكنه لا ينقطع. # والمثل يقول: ما محبة إلا بعد عداوة. وهكذا وحين لم تفلح الزوجة في إصابة القطة أو ~~إجلائها عن الشقة التي وجدت فيها كل تلك الكمية من اللحم، سلمت أمرها لله، واتخذت ~~الاحتياطات اللازمة لتأمين الطعام. ثم ما لبثت أن أدركت أن صراصير المنزل تتناقص باستمرار، ~~وأن الفأر المرعب الذي كان يطلع ويبصبص لها بذنبه قد اختفى. وحينئذ أدركت أن لون القطة ~~جميل وشعرها ناعم، وإذا شبعت أصبحت لطيفة مؤدبة بنت حلال دمها زي الشربات. وحينئذ، وحينئذ ~~فقط أنعمت عليها الزوجة باسمها، وصارت معها مثل اللبن على العسل. أنيسة عيب، أنيسة اطلعي ~~برة، أنيسة عمى في عينيك، بل إنها أحيانا كانت تشكو لها متاعبها وتأخذ رأيها في كثير من ~~المشاكل. والحقيقة أن أنيسة أثبتت في كثير من الأحيان أن لها نظرا بعيدا، على الأقل أبعد ~~من نظر الزوج. # والذي حدث أن أنيسة شحمت ولحمت وصارت حلوة على مر الأيام، ولا بد أن جودة طعامهم كانت ~~هي السبب، ومع مقدم الدفء والربيع بدأت أنيسة تكثر من حك نفسها في الزوج، وأحيانا ms32 في ~~الزوجة، وتكثر من الأزيز والسرحان، ثم جاء اليوم الذي بدأت فيه تموء مواء غريبا عجيبا ~~يكاد ينطق ويقول: داوود، داوود. # إن الرجل يذكر هذه الآونة تماما؛ فامرأته هي الأخرى لم يرها أجمل ولا أروع مما رآها في ~~تلك الأيام. كانت خدودها الشاحبة قد أصبح فيها خوخ وتفاح، وعيونها امتلأت بأشياء وأشياء، ~~وهي كلها قد حدث فيها حادث غيرها وحلاها، وجعل منها سنيورة جديدة في نظره، ولكن العجيب أنه ~~بالقدر الذي احلوت به ملامحها فسدت طباعها؛ المشاحنات أصبحت لا تنقطع، وثمة غيرة جديدة ~~طرأت عليها لم يكن يدري من أين جاءت، وكان يأتيها المرض الشهري قبل ذلك وهو لا يكاد يحس ~~به، فإذا به أصبح لا يجيئها إلا وهي راقدة تتلوى وتتأوه. فإذا أفاقت من المرض ظلت تذكره، ~~وإذا غاب عنها ذكره اختلقت شجارا، وخاصمته وتبغددت وهي تصالحه، وأكثرت من شروط الصلح، ثم ~~حكاية وجع ظهرها الذي كان لا يلازمها إلا في أوقات معينة، ولا يحلو لها الشكوى منه إلا ~~في الليل، في عز الليل وهو نائم، تظل تشكو بصوت مسموع، وتتباكى من الألم حتى يستيقظ، فإذا ~~تناوم جذبت من فوقه الغطاء لتسند به ظهرها الموجوع. # بالضبط إنه يذكر تلك الأيام التي بدأ فيها مواء القطة وعواؤها؛ إذ طالما صحا من نومه على ~~داووود وهي تجلجل في سكون الليل، وكانت امرأته تصحو هي الأخرى إذا لم تكن صاحية، ويتأملان ~~النداء، ويلعنانه كثيرا، ثم يناقشانه في خجل، ويتفقان على أنها لعوب تجأر في طلب الذكر، ~~ويدلفان أخيرا إلى سجال أكثر إمتاعا يهيجه العواء الأنثوي الذي لا ينقطع. # وما أكثر ما جره العواء من متاعب؛ إذ استجاب له لسوء الحظ أكثر من ذكر. وكانوا - لسوء ~~الحظ أيضا - كثيرا ما يقبلون في وقت واحد وتقوم المعارك؛ معارك حادة لا رحمة فيها ولا ~~هوادة، كثيرا ما أفسدت ضجتها النقاش الآخر الذي كان يدور بين الرجل وامرأته. # والأدهى من ذلك أن المعركة وصلت ذات يوم إلى الحجرة التي ينامان فيها، ووصلت في لحظة ~~حاسمة من ms33 لحظات النقاش. وكف الزوج عن الجدل في الحال، وراح يشخط ويهدر في القطة وصاحبيها. ~~واكتفى بالشخط من بعيد لبعيد؛ فالقطان كانا غريبين لم يرهما قبل ذلك، وفي عيونهما شر ~~مستطير، وكان الواحد منهما يزعق في الآخر فيقابل الآخر زعيقه بزمجرة لا تقل عنها قسوة؛ يعني ~~حالة يستحسن فيها الابتعاد قدر الطاقة عن أرض المعركة. وكانت أنيسة واقفة ترقب العراك بعينين ~~فيهما تهافت وحور. وكلما آذنت المعركة بالانتهاء ارتفع صوتها الأخنف: داووود، داوووود. ~~وتستعر نيران المعركة من جديد. والغريب أنها كانت مثل المعارك التي تنشب بين المصريين. كل ~~قط واقف بعيدا عن الآخر يرعد فيه، ويلعن سنسفيل أجداده، ويحاول إخافته وإرساء الرعب في ~~قلبه ليتراجع فيظفر هو دون إراقة قطرة دم، والطيب أحسن! ولكن حدث أن تطور أحدهما على الآخر. ~~وهذا الذي تطور كان يبدو أصغر من الآخر سنا، فاقترب من العجوز وقذفه بصرخة مرعبة، ولم ~~يتراجع العجوز، وكأنما أدرك بحكمته أن المسألة تهويش لا أكثر ولا أقل. وحينئذ فقد صغير ~~السن والخبرة أعصابه، ورفع كفه الأمامية وأهوى بها على وجه غريمه هكذا بسرعة متهورة غاضبة. ~~وما كان من العجوز إلا أن كف عن الصراخ في الحال، وحدق في ضاربه برهة، ثم ألقى عليه نظرة ~~احتقار هائلة، واستدار في عظمة نمر وغادر الحجرة، وكاد يصفق الباب خلفه. # وتحركت أنيسة، واقتربت من المنتصر، وحكت كتفها في كتفه قائلة بصوت خافت آثم: داووود. ~~وغمغم القط في وقار الفائز كأنما يقول لها: صبرك بالله يا ولية أما ألقط نفسي. # وكان الزوج في وحدته البعيدة مع امرأته، كلما شهد معركة كتلك يحمد الله على أن امرأته ~~إنسانة تزوجها بالحلال وعلى سنة الله ورسوله، وحجزها لنفسه بقسيمة، وليست قطة كان عليه ~~الفوز بها أن يصارع الذكور الآخرين، ويموت قلبه من الرعب في كل مرة، وقد تناله صفعات الجيل ~~الجديد. # ومع كر الأيام جاء اليوم الذي عاد فيه السلام إلى البيت، فانقطعت أرجل الذكور، وانقطع ~~مواء أنيسة، وانقطع الوجع الظهري والخلافات المزعومة، وكذلك انقطع المرض الشهري وحملت ms34 ~~زوجته. # وابتسم الرجل والتاريخ يوقفه عند تلك الأيام، لعله اعتقد لحظتها أن أنيسة وداوودها كانا ~~السبب في سمير، أو على الأقل عجلا بقدومه؛ فبعدما انتفخ بطن أنيسة، وبدأت زوجته تتوحم، ~~وتطلب النادر، ثم وضعت أنيسة أربع قطط جميلة احتكرت امرأته تفريقها على أقاربها، ثم بدأت ~~أنيسة تعوي مرة أخرى، وانتفخ بطنها وها هي ذي تلد للمرة الثانية، وتجيء هذه المرة قبل ~~ولادة سمير بأيام. # وفي النهاية كان لا بد أن يمد يده ويتناول القطط الصغار وينفذ المهمة. # وحدث فعلا أن مدها، ولكنه جذبها بسرعة وقد أصابته لسعة طويلة حادة فوق ظهر يده تفجر على ~~أثرها الدم. وبهت الرجل كمن طعن. ونظر إلى أنيسة نظرة المروع المستنكر. كان هذا آخر ما ~~يتوقعه منها بها أليفة أنيسة. # وما إن مرت الصدمة حتى امتلأ قلبه بغضب جامع، وكأنما استنكر على القطة أن تخدعه بذلك ~~الهدوء المزيف ثم تنشب أظافرها فيه. وأنشب عينيه فيها وكلهما غضب، وكان في عينيه خوف ~~أيضا؛ فأنيسة كانت قد انتفضت واقفة ووقفت كل شعرة في فروتها، وانتصبت شواربها المتهدلة، ~~واكتسى وجهها تعبيرا بشعا مخيفا. # وليس هذا كل شيء؛ فأفظع ما في الأمر كانت عيونها، أجل عيونها؛ فقد خيل إليه أن وجهها ~~يحفل لا بزوج من العينين المتنمرتين الواسعتي الحدقات، وإنما بعشرات من العيون كلها ~~مفتوحة على آخرها، وكلها تبرق وتلمع وتتلمظ ولا تبشر بأي خير. # وأسقط في يده. # كانت القطط الصغيرة قد اندست بطريقة ما تحت بطن أمها، وكفت عن الرضاعة، وانكمشت على ~~نفسها وكأنها استشعرت الخطر. وكان الوصول إليه دون تلك الأم المخيفة ذات الآلاف فن المخالب ~~والعيون والأسنان. # ولم ينشب الرجل عينيه فيها طويلا، لا عن فروغ بال، وإنما عن خوف. إن التحفز ولو كان من ~~قطة يخيف. خوف حقيقي أصابه من العينين. هاتان البليتان الصغيرتان الخضراوان كانتا قد ~~التهبتا، وانطلقت منهما شعاعات لا ترى، وإنما ترسل الرعدة في أشجع الرجال. # دلدل الرجل ناظريه ولم يملك إلا أن يبتسم؛ فقد واتته - دون أن يدري - صورة أنيسة الحائرة ms35 ~~على نفسها الطرية كالخرقة المبتلة وهي تجأر في استغاثة خنفاء قائلة: داووود، داوووود. أجل ~~شتان بينها ساعتذاك وبينها الآن! # واستأنف الهجوم، ولكنه ما لبث أن تراجع حالا؛ إذ ما كادت تراه يقترب حتى قالت: نو! ولم ~~تك ناوا عادية أبدا. خيل إليه أن جسمها كله قد استحال إلى صفارة إنذار أطلقت ناوا حادة ~~راجفة حامية تقشعر لهولها الأبدان. وفي نفس الوقت اندفع إلى وجهها سيال لافح من الانفعالات ~~أخرج حمما من عينيها، وكهرب شواربها، وأبرز أسنانها فبدا فمها كفوهة حية ضخمة من نوع ~~الكوبرا. # ودق قلب الرجل. # دق مرات من الخوف. # ومرات أخرى حين تذكر أن عليه ألا يخاف. # وجمد قلبه. # واشمعنى هوه يعني؟ # إن له حنجرة هو الآخر. # وأطلق من حنجرته صوتا عاليا. # امشي! # وزأرت أنيسة. # واختلطت ناو ناو وامشي. هو يشخط وهي تزأر وكلاهما ثابت في مكانه لا يريم. # وأعمل الرجل عقله. # وهكذا جاءت المقشة، ومدها على قدر ما استطاع ودفعها في وجه أنيسة. وتراجعت القطة إلى ~~الوراء، وهي تزأر زئيرا متصلا ترتعش له طبلة أذن الأصم. # ولكنها لم تغادر السبت أبدا. # وكان لا بد مما ليس منه بد، ورفع الرجل المقشة وأهوى بها. وقفزت أنيسة جانبا فلم تصبها ~~الضربة، ولكنها انقضت على رأس المقشة، وضبعت فيها بأظافرها. وما كاد يحاول إعادة الكرة حتى ~~كانت أسبق منه، وحتى بادرته قافزة ناحيته صارخة صرخة متوحشة لا تمت أبدا إلى أنيسة، ولا ~~إلى القطط أجمعين. # وبلا وعي قفز هو الآخر متراجعا، قفز بشكل لا يمت إليه ولا إلى الجنس البشري كله؛ إذ في ~~قفزتين اثنتين كان قد عبر الصالة، وفتح باب الحجرة التي ترقد فيها زوجته، واستقر بجوار ~~فراشها يلهث. ~~- خير كفى الله الشر؟ # وكان لها كل الحق؛ فقميصه مفتوح، وعرقه يسيل، ونظراته زائغة، والشحوب قد غمر وجهه. # وحاول أن يرد، ولكنه كف عن المحاولة؛ إذ ماذا يقول؟ # كل ما قاله كان: «ولا حاجة». قالها وهو يعود خارجا باحتراس شديد، ويتفقد الصالة ليطمئن، ~~ويطمئن؛ فأنيسة كانت قد عادت إلى السبت ms36 ، وأمسكت بواحد من أولادها بين أنيابها. # آه! تريد بلا ريب أن تحمل أولادها وتهاجر إلى مخبأ آخر، ولكن حيلك يا ست أنيسة. # كانت المقشة في مكان بعيد عن خط النار، فتناولها من جديد، ولجأ إلى الحيلة، فرفعها ~~وأهوى بها، وحين قفزت أنيسة بعيدا عن السبت مد المقشة وظل يجذبه وهي واقفة في مكانها ~~تصرخ، حتى أصبح في متناول يده. وحينئذ تناول القطط الثلاثة واحتواهم بين كفيه. # وكان يتوقع مثلا أن تقفز عليه وتشبعه خربشة وعضا، أو تنهش وجهه وتدمي عينيه، وكان قد جهز ~~نفسه لكل ذلك. # ولكنها ظلت واقفة في مكانها بنفس تحفزها تصرخ وتنكمش على نفسها وتنقبض، وتكاد لا تدري ~~ماذا تفعل. # ووقف الرجل أيضا لا يدري ماذا يفعل. # كان خائفا أن يتحرك فتتحرك وتنقض. # وتحرك ببطء أول الأمر. # ولم تغادر أنيسة مكانها حتى حين وصل إلى الباب وخرج. # ماذا حدث؟ # ألا تدري الغبية أنه قد أخذ أولادها؟ # أم أنها خافت؟ # أو هي تدافع عنهم فقط إذا كانوا في حوزتها تحسهم بشعراتها، وتلمسهم بلسانها، حتى إذا ما ~~صاروا في حوزة الغير أصبحت المسألة أعقد من أن تستطيع حلها؟ # وهل هي تستطيع الدفاع فقط ولكنها لا تستطيع الأخذ عنوة أو الاغتصاب؟ # وهل الدفاع هو الغريزة الأصيلة، والاغتصاب هو التفكير الشاذ الذي يحتاج إلى تدبير ~~وتفكير وغدر؟ # قد تكون أسئلة مثل تلك قد دارت في عقل الرجل وهو يغادر البيت، وقد لا تكون قد خطرت له ~~بالمرة. في تلك الأثناء كان يستمتع بلذة الانتصار فقط. وحين لاحت له مشكلة التخلص من القطط ~~وهو سكران بخمرة النصر ومغرور، وجد حلها أمرا سهلا؛ فما عليه سوى إلقائهم في أية ~~حارة. # وأسكت الانتصار غروره، وحين هدأ قليلا، وأذهب عنه خمر الغرور بعض الجوع للثقة في نفسه، ~~جاءته الإنسانية. وقرر أن يهبهم لبعض جيرانه. قد تكون حلول مثل تلك قد دارت في عقل الرجل ~~وهو يغادر المنزل. ~~••• ~~- خلاص يا ستي ولا تحملي هم. # ولم يفت الزوجة وهي تبتسم له شاكرة أن تتأوه وتشكو من الألم ms37 والوهن. # ولم يفته وهو يروي لها تفاصيل المعركة أن يبالغ قليلا أول الأمر، ولما لم يجد لدى الزوجة ~~مانعا ساق فيها وفتح باب المبالغة على مصراعيه. # وظنا أن المتاعب قد انتهت عند هذا الحد. # ولكنهما قضيا أتعس ليلة. # جدران البيت ظلت تردد نداء واحدا لا ينقطع: ناو، ناو، ناو. # كان الصوت غاضبا أول الأمر، قصيرا رفيعا كالسكين الحادة حين تقطع في الجسد. # وكلما امتد الظلام والسكون كان الصوت هو الآخر يمتد ويطول: ناو، ناو، ناو. # ولم يعد الرجل يحتمل. اقتحم الصالة خارجا ورمى أنيسة التي كانت تروح وتجيء ولا تكف عن ~~النونوة لحظة. رماها بفردة الحذاء، ولم تحاول هي أن تتجنب القذيفة، فأصابتها وأوقعتها، ~~وقامت واستأنفت غدوها ورواحها ولم تسكت، بل أضيفت إلى الناو نغمة جعلتها تبدو أكثر حزنا ~~ووقعها يبدو أكثر مرارة، كما لو كانت السكين التي تقطع في الجسد قد تلمت حافتها، فأصبح ~~صوتها بطيئا قاسيا له أزيز وأنين. # وبدأ الصوت يتغير ويتبدل، ويصيح آي. آي منفردة، وآي متصلة طويلة تكاد تنطق مخارجها ~~وتتجسد حروفها. آهات حقيقية كأنها متصاعدة من صدر آدمي ممزق. # ولم يكن في استطاعة الرجل أن يفعل شيئا. الحذاء ورماها به، وصوته قد بح من الكش فيها ~~ومطاردتها. كان عليه فقط أن يستلقي على الكنبة، ويستمع إلى امتعاضات امرأته وتعليقاتها على ~~نباح القطة. # وقالت له الزوجة بغتة في الظلام: أبو سمير. ~~- ما لك؟! ~~- أنا خايفة. ~~- ليه يا ستي؟ ~~- القطة دي بتبكي زي البني آدمين. # فقال ليفحمها: شورتك. # فأجابت: أمال يعني عايز الولد يموت؟ عايزني أنكبس؟ آه يا ميلة بختي! # وانطلقت تئن وتتوجع، ثم سكتت طويلا حتى خيل إليه أنها نامت، ولكنها قالت فجأة: أبو ~~سمير. ~~- ما لك؟ ~~- تروح تجيب لها أولادها. # فأجاب الرجل في غيظ: إنت عايزة الولد يموت؟ ثم أجيبهم ازاي دلوقتي؟ # وحل سكون آخر ختمته الزوجة بمفاجأة؛ إذ راحت تنهنه وتبكي. وأصبحت القطة تئن في الخارج ~~وتعوي، وهي تبكي وتستجيب وتعدد. ~~••• # وفي الصباح كان العواء قد خبا، ووجدوها ملفوفة على نفسها في الصالة ms38 نائمة على البلاط ~~الرطب. وقدموا لها الطعام فلم تتحرك لها شعرة، واشتروا لها نصف رطل من اللبن لأول مرة فلم ~~تعره أنيسة أي التفات. بقيت مغلقة عينيها لا ترى ولا تحس، تزوم وتئز وتحيا في سكوت ذاهل ~~آخر. # ومضت أيام. # تحركت أنيسة وطلبت الطعام بنفسها، وعادت تصطاد الصراصير وتغتالهم، ثم بدأت صداقة غريبة ~~بينها وبين الرضيع. لا يدري أحد كيف اكتشفته؛ فقط لاحظت الأم أنها تفضل النوم بجواره في ~~الليل، فإذا أصبح الصباح داعبته. أحيانا تضع بوزها فوق قدمه، وأحيانا تفتح فمها وتكاد ~~تقضم إصبعه الكبير (كده وكده)، ثم تقوس ظهرها، وتلعب ذيلها، وتحك شعرها في وجهه. وكان الرضيع ~~يصرخ أول الأمر ويستغيث، وكانت الأم تصرخ هي الأخرى مخافة أن يقتل هذا العبث (بطريقة ما) ~~ابنها، ولكن الرضيع وأمه أدركا أخيرا أن الأمر لا يتعدى حدود المداعبات البريئة. # ولم يستمر الوضع هكذا؛ فقد مرض الطفل، وحاولت الداية علاجه. والداية لا تكتفي بتوليد ~~الأطفال، وإنما هي تعالجهم بعد مولدهم وترعاهم، وتطاهرهم حين يكبرون، ثم تخطب لهم وتزوجهم ~~إذا شبوا، وأحيانا هي التي «تلتمهم»، وتغلق عيونهم إذا واتاهم الأجل المحتوم. حاولت الداية ~~علاجه، ولم ينفع علاجها، وزادت شدة المرض. وفي طابور الأمهات المنتظرات أمام شباك التذاكر ~~في مستشفى «رعاية الطفل» مات الطفل. # وانقلبت الشقة إلى مأتم، وجاء المعزون أقارب وأصدقاء وعمات وخالات وأشكالا وألوانا، ~~ولبست الأم السواد وتعصبت بمنديل. # وجلس الأب بعد أن فرت من عينيه بعض الدموع، جلس في وقار يتلقى التعازي ويحكي قصة المرض ~~والوفاة ألف مرة، ويستمع إلى: الدنيا على دي الحال، وشد حيلك، وقالوا يا جحا عد موج البحر، ~~قال الجيات أكثر من الرايحات، ويا أخي أنت شباب شم نفسك وهات لنا عشرة. # وخرب المرض بيت الرجل، وجاء المعزون فقضوا على ما تبقى فيه من بن وسكر وملاليم. # وبعد أن انصرف الجميع جاء الزوج ليرقد بجوار زوجته على السرير وقد انتهى عهد الكنبة، ~~وبكت الزوجة وشهقت من أجل هذا المجيء. وحين جاءت أنيسة كالعادة تتلصص لترقد بجوار الطفل ms39 ~~تشبثت بها الأم، وظلت تعوي وتبكي وتتساقط دموعها على أنيسة التي أخذت هي الأخرى تنونو ~~نونوات خافتات. # وهدهد الزوج، وغالت الأم، ثم كفت. ودار حديث؛ الأم تقول إن ابنها مات من الكبسة؛ فقد مكث ~~أولاد أنيسة يوما بطوله بعد الميلاد تمت أثناءه عملية الكبس وطار الولد. والأب يقول أبدا، ~~السبب مستشفيات الحكومة والإهمال. لو كان عندنا فلوس كنا رحنا لحكيم متخصص في الأطفال، ~~السبب الفقر، الله يلعن أبو الفقر. # وجادلت الزوجة وبكت، وحينئذ قال الزوج: قسمة ونصيب هو المكتوب، الأعمار بيد الله. # وغالت الأم وجادلت، فقال الأب وقد تروحن: هو الحي الباقي، هو المعز المذل القادر، الأطفال ~~لهم الجنة، ونحن لنا الجحيم. أجسامنا قد صنعت من المعاصي. لنا النار والعذاب ولهم الجنات ~~والخلد. ليتنا متنا ونحن أطفال! ليتنا متنا وكنا ترابا! # وفي الصباح كان الأب جوعان، ولو كان الود وده لأكل، ولكن الأم رفضت أن تلمس الطعام حين ~~ألح عليها، ولم يتناول هو الآخر الإفطار؛ إذ لا يصح أن يبدو أقل منها حزنا. # وحين عاد في الظهر كانت تبكي، وفي العصر تثاءبت ونامت، وفي المغرب كان عندها صداع. ~~••• # ومرت أيام وأكلت الأم، ولكن الحياة لم تعد كما كانت. ظل البيت يسوده الوجوم، وتهب عليه ~~نوبات نواح ذكرى الولد في الحديث العابر. # وكان الشتاء قد مضى، وبدأ الدفء يحل، وفوجئ الأب ذات ليلة بصوت أنيسة يلعلع في ظلام الشقة: ~~داووود، داووود. # واستمر العواء أياما. # وبعد وفاة الولد كانت الأم تشكو من الصداع الذي ينتابها بين الحين والحين. # ثم بدأ الصداع يزحف إلى أسفل ويصيب الرقبة وفقرات الصدر، وما كادت الزوجة تمد يدها ذات ~~ليلة وتجذب الغطاء من فوقه لتسند به الظهر الذي بدأ الوجع ينتابه، حتى تنبه الرجل ~~تماما وصحا ولم ينم. # وهكذا لم تستمر مطالبات الزوجة بالفستان الحرير للصيف طويلا، ولا المناكفات أو ~~المهاترات؛ إذ سرعان ما جاء اليوم الذي عاد فيه الهدوء إلى البيت، فانقطعت أرجل الذكور، ~~وانقطع عواء أنيسة، وانقطع الوجع الظهري والمطالبات التي لا تنتهي. # وكذلك انقطع ms40 المرض الشهري. # | مارش الغروب # كانت الصاجات تخرج صاخبة زاعقة، وعلى دفعات كهدير الديك الرومي، وكنت تستطيع أن تسمعها ~~من بعيد، حتى إذا ما وصلت إلى كوبري شبرا البلد عثرت على مصدرها؛ على بائع العرقسوس. # كان الرجل مسنا كمعظم بائعي العرقسوس، ويرتدي زيهم التقليدي؛ فوطة حمراء قديمة نظيفة ~~لفها حول وسطه، وفانلة بمبة بأكمام، ولا شيء غير هذا يستر الجسد خلا السروال الطويل الذي ~~يترك الساقين عاريتين. # وكان للبائع لحية طويلة، ولكنه لم يكن سنيا، كان واضحا أنه يطلق لحيته كنوع من عياقة ~~الكبار، أو لإحاطة نفسه برهبة مصطنعة، أو على أقل تقدير ليوفر ثمن حلاقتها كل يوم كل ~~يوم. # كان واقفا في وسط الكوبري تماما وهو وإبريقه يكادان يسدان الطريق؛ فالإبريق كان ضخما ~~قديما، وكأنه هو الآخر عجوز مقعد كتب على البائع أن يحمله فوق صدره مدى الحياة، وكانت له ~~بوز رفيعة ممتدة وملتوية عند آخرها، وكأنها يد العجوز التي عوجها الشلل حين تمتد ~~لتستجدي. # وكانت يدا الرجل مدلاتين خلفه، ويده اليمنى لا تكف عن دق الصاجات، ويخرج صوتها له ضجة ~~وصراخ. وكان يدق على دفعات كل دفعة دقتين متتاليتين، ثم يصمت برهة، ويعود على الدق، ويقول: ~~«يا منعنش!» وكان ينطق منعنش بلهجة لا نعنشة فيها ولا حماس؛ فالدنيا كانت شتاء، والشمس غابت ~~من هنيهة، والكون يعبق بذلك الجو المريض الذي يتبع مغرب الشمس، ويسبق حلول الظلام. وكان ~~الناس يمضون فوق الكوبري صامتين مسرعين. في إسراعهم كآبة يوم يموت، وبرودة شتاء. # كان الناس يمضون ولا أحد يلتفت إلى البائع أو تسترعيه دقاته؛ فالدنيا شتاء، ومن يشرب ~~عرقسوسا في الشتاء؟! من يفكر حتى في فتح فمه أو التلكؤ لأخذ شفطة؟! # ورغم هذا استمرت الصاجات تعمل وتهدر بزعيقها المتوالي، وكلما حدق البائع في الكون، ورأى ~~الناس يختفون من حوله، ويتسربون وكأنما تبتلعهم مخابئ سرية، وكلما رأى الجرح المدمم الذي ~~أحدثته الشمس الغائبة في السماء حين اخترقها إلى عالم الظلام، كلما رأى هذا قصرت المسافة ~~بين الدقات، وأصبح صوتها أعلى وأكثر حدة، وانطلقت ms41 حنجرته تعضد الدقات، وتقول يا منعنش، ~~تقولها حنجرتها متقلصة مثنية على نفسها، وكأنما انحنت تستخلص «منعنش» وهي عاصية في قاع ~~حنجرته لا تريد أن تخرج؛ فالإبريق كان لا يزال راقدا فوق صدره كالمصيبة الثقيلة، ولا يزال ~~ممتلئا، وكل ما باعه منذ الصباح كان لم يتعد بضعة قراريط لا توقد مصباحا ولا تغمس ~~لقمة. # والدقائق تمضي بسرعة، والوقت يتسرب تسرب الناس كأنما أصابه البرد هو الآخر. # وتدق الصاجات عالية صاخبة هستيرية تريد أن تتحدى وتستوقف الأسماع، والظلام يتكاثر وتصبح ~~له دنيا كبيرة، وبرد السماء يطبق على الأرض، والناس يصغرون ويصغرون، وكل شيء تصبغه رمادية ~~زرقاء ويبرد ويصبح لا حياة فيه. وتزأر الحنجرة يا منعنش، وتخرج منعنش حادة تكمل صخب الدقات، ~~وبين كل آن وآن يقول: يا كريم سترك. ويمد الكاف وكأنه يصنع منها حبلا رفيعا يمده فوق ~~الكوبري ليوقف الناس، ويتبعها بسترك مقتضبة خارجة من الصدر، وكأنما يسترضي الناس بعد هديره ~~ويصالحهم بها. # والناس رائحة غادية، ميتانة، سقعانة، ناشفة، وجوههم شاحبة فيها غضون، وعيونهم ذابلة فيها ~~شتاء، ولا يريد أحد - رغم وجوده في وسط الكوبري - أن يلقي عليه نظرة. # وأطلق الرجل يا منعنش، وأتبعها بيا كريم سترك، أطلقهما عاليتين صاخبتين مدويتين كاستغاثات ~~أخيرة لسفينة تغرق. # وأيضا لم يلتفت أحد. # والوقت يمضي، والمارة يقلون، والسماء تزداد إطباقا على الأرض، وعالم الظلام يكبر ويكبر، ~~والجرح الذي في السماء يلتئم وتذهب حمرته وشفقه، والناس يتحولون من كائنات إلى ~~أشباح. # وبدأت دقات الصاجات تنخفض، ولم يعد الرجل يقول يا منعنش، كان فقط يردد يا كريم سترك. وكان ~~يقول يا كريم متضرعا، يقولها لكل شيء حوله؛ للأرض والسماء وعربات النقل والكارو، وحتى ~~لصاحب الغرزة الجالس هو الآخر يرتعش ويستعد للرحيل. # وكان ما في صوته من ضراعة ينتقل إلى نحاس الصاجات، فتخرج الدقات متتابعة نغم، وعلى ~~دفعات، ولكن فيها بحة، وكأنه يريد أن يرجو الناس فقط أن ينظروا إليه، فقط ينظرون إليه ولا ~~يشترون. لماذا يزورون عنه ويشيحون بوجوههم يتهربون وكأنهم يفرون من واجب ثقيل؟ ماذا عليهم ms42 ~~لو فقط يلتفتون؟ # ولم تفلح الدقات ولا أفلح النداء في جلب نظرة. # وهنا كست وجه العجوز تكشيرة طيبة فيها يأس، وتهدل حاجباه فوق عينيه في عتاب صامت، وكانت ~~يداه لا تزالان مدلاتين خلفه، ولكن الدقات همدت حدتها وتباعدت، وأصبحت كدقات قلب المشرف على ~~الموت؛ تسكت طويلا ثم تبرق فجأة وكأنها تقاوم الفناء. وبين الحين والحين يلقي الرجل نظرة ~~على القراريط التي باعها وآلاف القراريط التي لم يبعها، ثم يتمتم من بين شفتين ترتجفان ~~بالبرد: يا كريم سترك. # وظل الرجل واقفا هكذا وكأنما ينتظر شيئا ما؛ معجزة تحدث وتفرغ الإبريق وتملأ جيبه. ثم ~~خفت القدم، وخطا الكوبري عله يرزق، ولم يرزق، ووقف على جانب يحدق في الأرض والسماء ~~والأضواء البعيدة والقريبة، ولا شيء يحدث ولا معجزة تهبط. # وهبط عليه يأس كامل، فارتفع حاجباه المتهدلان، ومضت التكشيرة إلى غير رجعة، وانبسطت ~~ملامحه، وبدأت الدقات المتباعدة تتقارب وتتآلف، ولكنها اتخذت طابعا غريبا، فلم يكن لها ~~ضجة الهدير المتتالي الذي يشبه صراخ الأوزة المذعورة. تآلفت الدقات وصنعت نغمة أخرى، ~~نغمة خافتة راقصة حزينة. ظل الرجل يدق بيديه دون وعي، وتخرج النغمة دون وعي أيضا، وتخرج ~~هامسة تتستر بالظلام ولا أحد يسمعها، حتى فطن الرجل إلى ما تحدثه أصابعه، فأنصت برهة ~~وابتسم، ورفع حاجبيه وكأنما أعجبته النغمة وجاءته على الوجع فأوغل فيها، ومضى يضبطها ~~ويحسنها وهو الخبير بدق الصاجات، حتى استحالت إلى همسات فيها بحة تخلع القلب وترهف ~~الأنفاس. وأطربته النغمة إلى الدرجة التي راح يهز رأسه هزات خفيفة وقورة على وقعها، ثم ما ~~لبث الاهتزاز أن وصل إلى شعيرات ذقنه، فأخذت تتأود وتتراقص. # وقف طويلا يرمق الناس والدنيا بلا مبالاة تامة، ويده اليمنى تهمس بالنحاس إلى النحاس، ~~والطرب قد وصل إلى الإبريق وبوزه، فأخذ يرتعش هو الآخر ويتمايل، ولا أحد يسمع سواه، وهو ~~منتش؛ لأن أحدا لا يسمع سواه، ولا أحد يلتفت إليه، والنغم يخرج حنونا دامعا حلوا في ~~سكون المساء. # ظل واقفا إلى أن أحاله الظلام المتكاثر إلى شبح من الأشباح. # ثم بدأ ms43 الرجل يتحرك مروحا في اتجاه شبرا البلد. # تحرك بطيئا يائسا مثنيا إلى الوراء، ويداه خلفه، والصاجات تدق وهو يتحرك على وقع ~~نغمتها الهامسة. كل خطوة بهمسة؛ همسة موجوعة ثكلى. وكل خطوة بدقة؛ دقة ناعمة فيها شجن. ~~ويذوب شبحه في الليل حتى يختفي تماما، ولا تعود الأذن تسمع سوى همس النحاس إلى النحاس، ~~وهو ينخفض ويشف وينخفض. # والدنيا كبيرة كبيرة، والظلام كثير كثير. # | ليلة صيف # العشاء ولى، والتبن بارد وكومته عالية، والدنيا ليل؛ ليل مفضض؛ فهناك قمر عليه سحابات ~~كمناديل الحبايب البيض تعافيه بالعافية، وتمضي وبلدتنا راقدة، قريبة منا، كقنفذ له أشواك ~~وأحزان وأشجار. وكنا نحن جالسين نتحدث - لا نفعل كالكبار ونخوض في متاعب النهار - كنا نتحدث ~~عن أنفسنا. كنا قد بدأنا نحس بشيء جارف عارم يتدفق في أجسامنا ويغيرها، ونحس بالتغيير ~~يحدث كل يوم، وكان ذلك يسعدنا ويدهشنا، ونردد ونحن فرحانين: إحنا بلغنا. # كنا لا نخوض في حديث المتاعب مع كثرة متاعبنا في النهار، كنا نشقى كالرجال تماما، بل في ~~العادة أكثر من الرجال؛ فالكبار دائما كسالى يعشقون الظل ويتركون لنا الشمس، يرجوننا ~~أحيانا وأحيانا أخرى يأمرون، ونحن في كلتا الحالتين سعداء؛ فالعمل رجولة ونحن ظامئون إلى ~~الرجولة، وأن نكلف به معناه أننا قد أصبحنا كبارا يعتمد علينا وأننا شباب، وأن لنا غدا لا ~~بد قريبا نتزوج فيه ونخش، ويكون لنا زفة وليلة حنة. كنا نعمل طوال اليوم كالنحل النشيط، ~~ونأكل كثيرا، نأكل كل ما نعثر عليه في الغيط أو في البيت، وأمهاتنا سعيدات يدركن بغريزتهن ~~أننا نكبر، وأننا في الطريق إلى النضج، فيدسسن لنا قطع الجبن والبيض واللحم من وراء آبائنا ~~وإخوتنا وكأننا بط يزغطنه أو أوز. وكانت أجسامنا تستجيب وتشتعل، وتنفض عنها صفرة طفولة ~~طالت، وشحوب السنين العجاف وما فيها من قصر، وتنمو؛ تنمو بسرع وكأنما تعوض في أيام كل ما ~~فاتها من سنين، وكانت وجوهنا هي الأخرى تتغير، وتستدير، وتأخذ لون الأرض الخصبة ذات الطمي، ~~وتمتلئ سيقاننا، وتبرز حناجرنا، وتغلظ منا الأصوات. # كنا جالسين فوق كومة التبن ms44 نغمغم ونحكي ونتحدث، والليل يقشعر بأصواتنا وبما فيها من رجولة ~~وافدة جديدة، وأجسامنا تنتفض بقوى لا تجعلنا نستقر، ولا تجعلنا نحلم كما يفعل الصغار، أو ~~نكبتها في حكمة كما يكبت الكبار. # كنا نجلس، وفي الحقيقة لم نكن نجلس، كنا ندفن أنفسنا في كومة التبن وكأنما نود أن تلمسنا ~~الدنيا ونلمسها، ويضغط التبن علينا فنستعذب ضغطاته. # وكنا نتحدث، كنا نفرغ تلك الحمى المتأججة في كلامنا، وكنا نختار مجلسنا بعيدا عن البلدة، ~~وبعيدا عن الناس، وكأننا نحس بما يدور في خلدنا، ونعتبره شيئا قبيحا لا يصح، فنختار ~~للخوض فيه مكانا بعيدا. # ولم يكن حديثنا مرتبا ولا منمقا، كان يبدأ دون أن نعرف، ونستمر فيه ساعات ونحن لا ندري ~~عن أي شيء نحكي. كنا نتكلم والليل وحده يسمعنا، بل لولاه ما تكلمنا. كنا نحب أن يشهد الليل ~~حديثنا، بل نكاد ونحن نتكلم نوجه إليه حديثنا. ونحب الليل؛ نحبه وكأننا نرى في سواده وهدوئه ~~وحنانه امرأة جميلة ذات نسمات ودم خفيف وسمرة أبنوسية تهيج كامن أعماقنا. ونكره النهار؛ ~~نكرهه وكأنه رجل خشن غليظ القلب والقول لا يرحمنا ولا يسمح لألسنتنا أن تدور. # كان الحديث يبدأ بالطول، كل منا يحاول أن يثبت للآخر أنه أطول منه. وتقوم بيننا ~~المراهنات، ويدعي الخاسر أن في أعلى فخده ورما وألما ويريه للباقين، فيطمنه الباقون؛ ~~فالورم معناه طول جديد وعليه ألا يحزن. ثم ندلف إلى الأحلام ونتفنن في رواية كيف حدثت، ثم ~~نقارن بين الأصوات، ويمد كل منا يده ويتحسس حنجرته ويرى مقدار ما حدث فيها من بروز. # ثم يحوم الحديث حول النساء. وكانت نساء بلدنا كبيوتها سودا لا أرداف لهن ولا صدور أو ~~شرفات. كن كالرجال أو هن أقرب. كانت نساء البيوت البيضاء هن من يملأن علينا الحديث. وفي ~~القرى بيوت سوداء كثيرة، وقليل من البيوت لها طلاء أبيض. ولا بد في كل بيت أبيض امرأة ~~حلوة سهلة، وإلا لماذا خلقت دون النساء حلوة؟ # وكان التبن يضج بحديثنا، ونهيج أحيانا ونقذف بعضنا بأحفنته ونثير العواصف، وينطلق منا من ms45 ~~يعوي كالذئاب ويقول: روحوا يا ولاد! # ويخرسه الباقون لئلا يعثر علينا أحد، ونحن لا نريد أن يطردنا من مجلسنا خفير أو كبير؛ إذ ~~إننا نتفرق بعدها إلى بيوتنا، ويرقد الواحد منا فوق ظهر فرن، أو في «بحراية»، ويكظم وحدته ~~وحيرته وضيقه بالعفاريت التي تكهرب جسده وتحرمه النوم. هنا فقط - ونحن جماعة - يخيل إلينا ~~أن العفاريت تسكن، وأننا حين نتحدث نرتاح، والحديث عذب حلو يا هوه، نريده ونطلبه وليس لنا ~~سواه. # وما كان لجماعتنا قيمة بغير محمد. كان أكبر منا وحائرا مثلنا، ولكنه كان أكثر منا خبرة. ~~كان قد خرج من بلدنا وذهب إلى البندر، ويعمل فيه، وله قصص ومغامرات. وكانت له بالنساء معرفة، ~~وما من أحد فينا كان قد اطلع على النساء. كنا نراهن من بعيد ونخشاهن، ونتمناهن ويتملكنا خجل ~~قاتل إذا انفردنا بهن. وكان محمد عزاءنا؛ يقص علينا مغامراته بالتفاصيل ونرتشف ما يقوله ~~رشفا. وكنا نحبه، ونحب شاربه الخفيف الحديث، وكان في استطاعته أن يربي شعره؛ فآباؤنا كانت ~~تجتث شعورنا أولا بأول ولا حق لنا بعد نمرة تلاتة. وكان لمحمد «قصة» صفراء يطليها أحيانا ~~بالفازلين الذي يشحته من ناظر المحطة، وإن لم يجد فبالزبدة، وكانت بقية رأسه قصيرة ~~الشعر. وكان يحلو له أن يلبس الطاقية الصوف ويرجعها إلى الخلف، فتظهر «قصته» ناعمة لامعة ~~مسبسبة، ويحسب الرائي أن شعره كله لا بد ناعم لامع مسبسب. وكان بشفته العليا شق يجعل ~~الإنسان يعتقد أنه شرس ويكرهه، ولكنه لم يكن شرسا. كان يضحك كثيرا، ولا يغضب منا، ويطير ~~وراءنا إذا ضحكنا عليه. وكان قمحيا لم تسوده شمس الغيطان. كان يزرع، وذهب إلى البندر مرة، ~~وما إن تذوق عيشه وطعميته حتى أقسم ألا يعود إلى المحراث أبدا. وكان يخيل إلينا ونحن ~~جالسون معه أنه ليس من بلدنا، وأنه واحد من سكان المدينة المتنورين اللئام الناصحين ~~الذين نرهبهم ونخشى أذاهم. # وكان جريئا. كنا نخاف الحرام جدا، ولكنه طمأننا، وعلمنا كيف نملأ حجورنا بالتراب وندخل ~~به منازلنا، ثم نرمي التراب ونملأ حجورنا بالغلة أو الأذرة ms46 أو القطن، ونخرج فلا يشك فينا ~~أحد. # وكان هو الذي يتولى بيع ما نجلبه، ويختصر من الثمن برضانا، ونشتري بالباقي حلاوة ~~طحينية ويوسف أفندي وعصي خيزران نتقمع بها في الأسواق. # في تلك الليلة جلسنا، حفنة من أولاد بلدنا أرجلهم خشنة مشققة لا يزال يطمسها طين جاف، ~~وملابسهم مهرأة، ووجوههم لا تكاد تعرف فيها الشعر الأصفر من الشعر الأسود من سمرة الجلد، ~~وروائح العشاء تتصاعد من أفواههم؛ بصل ومش وفلفل مخلل وسردين وكرات، والهدوء تام من حولنا، ~~والقمح يغمرنا من كل جانب؛ قمح واقف تموج به الغيطان، ويتلون بحركة الريح وشعاعات القمر ~~كما يتلون حرام من القطيفة البنية، وقمح محصود ومكوم في أكوام صغيرة متباعدة لها صفوف كصفوف ~~مصلين راكعين في العراء يطلبون الرحمة، وقمح يدرس، وقمح مدروس ومدرى، وأكوام تبن وقصلية، ~~ونورج واقف كجمل بارك وعليه «شبرية» عروس، ورائحة المحصول الجديد تملأ الجو وتختلط برائحة ~~التراب بلله الندى، ورائحة عشائنا وعرقنا الذي كان قد أصابه التحول هو الآخر، وأصبحت له ~~نكهة ذكرية خاصة. # وفي مثل تلك الليالي يحلو حديث محمد. كان صوته لا يتأرجح مثل أصواتنا، كانت رنة الرجولة ~~فيه قد استقرت، وكانت طريقته في الرواية توقف الشعر، وبلاد كثيرة يحدثنا عنها؛ بلاد قريبة ~~رآها بعضنا، وبلاد بعيدة ما رأيناها، ولا نعتقد أن محمد هو الآخر رآها. بلاد لها أسماء ~~غريبة ترن في آذاننا رنينا، ولها في خواطرنا ألوان وأشكال وأفندية وسكك حديد. # كنا نبقي حديث محمد للآخر. نستهلك أولا كل ما يمكننا قوله عن بلدنا ونسائها، ونعيد ما ~~قلناه، ويقص كل منا كيف نظرت له فلانة وكيف وقف يتبصص على علانة. # ثم نحلي بحديث محمد. # وعرفنا في تلك الليلة من بدايات حديثه أنه يود أن يحكي قصة المرأة العرباوية التي عرفها ~~في السوق، فقاطعناه وصنعنا ضجة؛ كان قد بدأ يغالطنا ويحكي لنا أشياء رواها من قبل. وكنا ~~نريد شيئا لم نسمعه؛ إذ لم تعد تنطلي علينا مراوغاته. وكان محمد أحيانا يروغ ويحرن ونتذلل ~~إليه ونستحلفه ونعده بالقمح والذرة والبيض ms47 ، ولكنه في ليال كان يحرن تماما ولا ندري لسكوته ~~سببا. # وقال لنا محمد وعيونه تبرق: اسمعوا يا ولاد! # قلنا: إيه؟ # قال: أقول لكم على حاجة حصلت لي بس اوعوا تجيبوا سيرة لحد. # قلنا: مش ح نجيب سيرة لحد. # قال: تحلفوا على الربعة الشريفة؟ # قلنا: وحياة الربعة الشريفة. # قال: والبخاري؟ # ولم نكن نعرف ما هو البخاري، كان لا ريب شيئا أعتى من المصحف. # فقلنا: وحياة البخاري. # قال: واللي يرجع في كلامه؟ # قلنا: يبقى مرة. # قال: مرة وبس؟ # قلنا: وابن ستين في سبعين. # قال: وحياة الشمسة الحرة؟ # قلنا: وحياة الشمسة الحرة. # قال: كنت مرة رايح المنصورة في طلب. # قلنا: أنت كداب، أنت عمرك رحت المنصورة؟ # قال: وحياة المصحف الشريف رحت. # وصدقنا ولم نملك أنفسنا ووحوحنا. الحكاية ستحدث في المنصورة؟ والمنصورة كانت لا تبعد عن ~~بلدنا كثيرا. كان القليل منا هو الذي رآها وهو صغير، وكلنا سمعنا عنها، وكلها أسماع ~~محمومة براقة تغشي وتذهل. # وكانت في نظرنا لا بد شيئا كبيرا كالجنة، وفيها خواجات لا يحصى لهم عدد، وبنات كاللبن ~~الحليب، ونساء أفرنج لهن ملايات لف حريرية تلمع وتلعلط، وقصب براقعهن لا بد صغير دقيق مثل ~~عقلة الإصبع، وأنوفهن لا بد كحبة الفول، وأجسامهن لا بد مصنوعة من لحم طري وليس فيها ~~عظام، وإنما هي كالملبن تجذبه فينجذب معك، وتلحسه فيسيل لعابك من حلاوته، والرجال هناك طريون ~~لا يشبعون نساءهم، والنساء يمضغن اللبان فيطرقع في أفواههن الحلوة الضيقة، ويطلبن الرجال؛ ~~رجال مثلنا فلاحون خناشير كفحول الجاموس. # وقلنا لمحمد مبهورين: وبعدين؟ # ومضى محمد يحكي. قال إنه نزل من القطار وقضى طلبه، وبقيت لديه ساعات على موعد القطار ~~التالي، فاشترى رغيفا خاصا، وأكله ومضى يتفسح في شارع المحطة. وكان الشارع ممتلئا ببيوت ~~كبيرة لها بلكونات، وكانت الدنيا في العصر الضيق، وكانت البلكونات ممتلئة بالستات؛ ستات لو ~~وزعن على رجال بلدنا لناب كل واحد طورة وفردة خربة. ومر ببلكونة كانت واحدة واقفة فيها ~~ترتدي «روبا» أحمر. # واستخرجنا أنفسنا من التبن وسألناه: ما هو الروب الأحمر؟ فقال ms48 إنه شيء كالعباءة. وتشككنا ~~في صحة كلامه؛ فقد كنا نسمع له كالقضاة نتأرجح بين التصديق والتكذيب. كنا نخاف دائما أن ~~يكون ما يقوله مجرد حكاية يخترعها ليضحك بها علينا؛ ولهذا كان الشك يغلبنا ونرجح في الغالب ~~كفة الاتهام. # ومضى محمد يروي ويقول إنه مر من تحت البلكونة فابتسمت له المرأة. # وتلاصقنا حوله وارتجفنا. # وظن أنها تبتسم لواحد غيره، ولكن الشارع كان خاليا من الرجال، وليس هناك أحد غيره. ونظر ~~إليها فعادت تبتسم. # وأمسكنا بجلبابه وتشبثنا نستأنيه ولم نعد نصدق أو نكذب. كنا نود أن نسمع، وقلنا ~~له: حاسب. إوعى تسيب حاجة. # فقال: مش ح أسيب حاجة. هي ابتسمت تاني يا ولاد وأنا قلبي دق وجنوني طارت، وقلت في سري دي ~~فرصة جتلك من السما يا واد. # عملت إني مش واخد بالي وبصيت لها تاني فضحكت، فقلت في سري ما ينفعش إلا واحد ~~زبيب. # وسألناه: اشمعنى الزبيب يعني؟ # قال: يعني كونياك يا ولاد. # قلنا: وإيه الكونياك؟ # قال: خمرة. # وخفنا. محمد يشرب الخمرة؟ النسوان معلهشي، إنما الخمرة أعوذ بالله! المقصود تغتفر ~~لمحمد. ~~- وبعدين يا محمد؟ ~~- مشيت، لقيت واحد خواجة فاتح. قلت يا خواجة. قال نعم. قلت اديني زبيب زحلاوي والمزة ~~خيار. # قلنا: إيه المزة دي يا محمد؟ # قال: خيار. # وخفنا أن نعيد السؤال. كنا نستعجل ما بعد ذلك وما هو أهم. ~~- شربت الزبيب يا ولاد دمي غلي وطلعت الخمرة على قلبي بقى زي الحديد. قول أجل الاطمئنان ~~رقعت واحد تاني ورجعت على شارع المحطة. # وسألناه: وفت تاني؟ # قال: فت. # قلنا: ضحكت لك؟ # قال: ضحكت ضحكة ترد الروح يا ولاد. مرة حلوة زي الكمترى ولابسة ... كانت لابسة إيه يا محمد؟ ~~لابسة قبقاب مشغول وجسمها باين كله من الروب وبتضحك. بصيت لها وضحكت. ضحكت تاني. # قلنا: اشمعنى ضحكت لك تاني يا محمد؟ # قال: يا ولاد كنت لابس الحتة الزفرة، وكان عندي طاقية وبر جمل وجزمة لميع وكوفية حرير على ~~كتفي، وشباب في عز نعنعة شبابه. غمزت لها بعيني فراحت داخلة جوة، وطلعت لابسة روب ms49 تاني؛ روب ~~سواكبيس أخضر. رحت وجيت من قدام البيت، فشاورت لي وقالت بإيدها اطلع. أطلع يا ~~ولاد؟ # فقلنا بعزم ما فينا: إطلع يا محمد. # فقال: طلعت والواحد متاخد. إني غريب وده بيت وداخل على حرمة. افرض حد مسكني ولا حاجة أقول ~~إيه؟ افرض لها أهل. المقصود لولا الاتنين الزبيب يا رجالة لما كانوا يقطعوا رقبتي ما كنت ~~أعتب بيتها أبدا. # وسألنا: ودخلت؟ # فقال: صبركم عليا شوية. ضربت الجرس يا ولاد. # قلنا: ضربته ازاي؟ # قال: الجرس كان له زر. # قلنا: والأجراس بأزرار؟ # قال: أيوه يا فلاحين اتمدنوا الأجراس بأزرار. فتحت لي الباب وقالت اتفضل. وطلع صوتها يا ولاد ~~زي السكر المعقود زي حب النعناع. # وقلنا: ودخلت، ادخل. # قال: الله! ما تحكوا أنتم أحسن. ح تسكتوا ولا لا. # قلنا: ح نسكت. # قال: وقفت على الباب خايف. سندت على الباب، وقالت لي ما تخافش جوزي مسافر. قلت يا واد هي ~~موتة ولا اتنين. قلت لروحي: تدخل يا وله؟ # قلنا له: ادخل يا محمد يخرب بيتك. # قال: دخلت وقعدت في أوضة الجلوس. كراسي مدهبة يا ولاد. ومرايات بنور الحيطان ولعاليب وشخاليل ~~في كل ركن من الأركان. وبعد شوية بصيت لقيتها داخلة عليا بفستان كحلي بياكل من جسمها أكل. ~~وكانت جايبة معاها إزازة وكاسين. قالت لي: اسمك إيه يا شاطر؟ قلت لها: خدامك محمد. قالت: ~~دانت سيدي، تسلم لشبابك. تحب تقعد على الكرسي يا سي محمد ولا تخليها على البساط ~~أحمدي. # قلنا: اقعد على الكرسي يا عبيط. # قال: لا، قلت أنا مش واخد على قعدة الكراسي يمكن أدوخ. وقلت لها: اسم الكريمة إيه؟ قالت لي: ~~فيفي. قلت لها: وأنت فيفي صحيح. قالت لي: أنت بتشرب يا سي محمد؟ قلت: أشرب تاني يا ~~ولاد؟ # قلنا: اشرب يا أخي. # قال: وقعدنا نشرب يا ولاد. واحد في التاني في التالت أنا اتخدرت والأوضة لفت بي. قالت لي: ~~إنت اتاخدت؟ قلت: أبدا. قالت: أجبلك حاجة تفوقك؟ فانكسفت أقول هاتي. # قلنا: يا خايب تنكسف ليه؟ وجابت لك؟ # قال: جابت لي ms50 ؟ دانا بصيت لقيتها داخلة عليا بصينية أكل. # قلنا: فيها إيه؟ # قال: ديك رومي يا ولاد محشي من جوه حمام، وبطاطس ولحمة ضاني. # قلنا: يخرب بيتك يا محمد. وأكلت؟ # قال: أنا بقيت داري عن روحي. أهو فضلت تطعمني. # قلنا: مش عيب؟ # قال: عيب إيه يا ولاد؟ ما عيب إلا العيب. أني كنت بقيت ألسطة قوي وعلى الآخر. فمديت إيدي ~~عليها. # قلنا: من غير ما تغسل؟ # قال: يا باي! غسلت. انتو ح تطهقوني. # ورجوناه ألا يطهق، وما كان في حاجة إلى رجاء، كان يبدو هو الآخر منسجما لا يستطيع أن ~~يوقفه شيء. ومضى يقول مديت إيدي عليها يا ولاد تقولوش عجمية. # قلنا: وشها كان أبيض؟ # قال: أبيض من القطن المندوف. # قلنا: وشعرها كان ازاي يا وله؟ كان أسود؟ # قال: ومحصل لغاية ركبتها. # قلنا: قول والنبي قول بس اوعى تفوت حاجة. # قال: كان جسمها ناعم نعومية يا ولاد، أنعم من بذر الخروع. قلت لها أنا في عرضك، أنا ~~خلاص. قالت: طيب تعالى. وخدتني على السرير، ونزلت الناموسية؛ ناموسية بمبي والنبي. ومدت ~~إيدها طفت النور. # قلنا: حاسب على مهلك قوي. # قال: وبعدين لقيت الناموسية بتبرق يا ولاد. أنا قلت القيامة قامت، أتريها ولعت نور تاني في ~~الناموسية. واتبن كان في سقفها لمض صغيرة حمرا وخضرا وزرقا وصفرا. وبصيت لقيتها قدامي يا ~~ولاد حاجة تهبل؛ حتة منها لون والتانية لون، كأنها جنية. # قلنا: وبعدين؟ # قال: وبس يا ولاد، وشفت معاها ليلة ولا ألف ليلة. # فعدنا نقول: أبدا ما ينفعشي. وبعدين في عرضك؟ وبعدين؟ # قال: ولا قبلين. # قلنا: يا أخي ما تقول، يا أخي ارحم، وحياة رحمة أبوك وبعدين؟ # وجاد علينا بالقليل، ولم يشف غليلنا أبدا. وتركنا ولعة كالنار الموقدة. وبدلا من أن ~~يهدئنا حديثه زادنا اشتعالا. وقال واحد منا: سيبوكو منه يا ولاد. ده مش كله فتش. # وقال آخر: طيب تحلف إن ده حصل. # وأقسم محمد، وازددنا ثورة ولم نصدق. # وأقسم بتربة أمه. وقلنا: كداب أنت بتضحك علينا. # فقال: أبدا، والله هذا ما حصل. # قلنا ms51 : كداب. # قال: يا ولاد أنا عمري ما كدبت عليكم. # قلنا: أنت كداب. # قال: إنتم أحرار. # فقلنا: يعني لو رحنا المنصورة تودينا البيت؟ # قال: أوديكم. ~~- تودينا؟ ~~- أوديكم. # وانتفض واحد وقال: ما تيجي نروح المنصورة يا ولاد. # وهللنا. قال كل واحد كلمة، وصدرت عنا أصوات، وتعانق أكثرنا. كانت عقولنا كالقاعة الضخمة ~~الفارغة أقل الأصوات يحدث فيها أعظم الرنين. وهجنا هياجا شديدا، حتى اتنين منا أمسكا ~~بمحمد، واحد من رأسه، والآخر من ساقيه، وظلا يؤرجحانه بينهما حتى ألقياه على التبن. وصرخ ~~واحد وقال: يا رازق الفرخة وديكها. # ثم اندفع إلى النورج يجره ويدور به فوق «رمية» القمح المعدة للدراس. والنورج ثقيل جدا ~~لا تكاد تستطيع البهيمة سحبه. # وقال واحد: ولاد، ولاد، اسمعوا يا ولاد، ولاد اسمعوا يا ولاد. # وظل يصرخ حتى سمعنا، فقال: تيجوا نروح المنصورة؟ # وعاد الهياج بحماس أكثر، وتعالت سحب التبن فملأ عيوننا وأجسامنا وعفرنا ترابه. # وكنا قد غادرنا الكومة، وأصبحنا في وسط الجرن، وكل منا مشغول بشيء أو مشتبك مع الثاني في ~~مصارعة، والشاطر من يوقع الآخر. # وقال محمد: تيجوا نلعب يا ولاد ضربونا لما عمونا. # وهجنا من جديد، ووجدنا أنفسنا نزعق ونقول: عايزين نروح المنصورة. # ووجدنا لها نغمة فعدنا نغنيها: عايزين نروح المنصورة. # وتصاعد صوت يقول: الدنيا ليل يا ولاد. # ورددنا عليه جميعا: عايزين نروح المنصورة. # وهرش واحد وقال: حدانا عزيق بكرة. # فقلنا: يا محني ديل العصفورة، عايزين نروح المنصورة. ~~••• # وأفقنا لأنفسنا فوجدنا أننا قد قطعنا شوطا كبيرا. كنا قد غادرنا بلدنا وحدودها ~~وغيطانها، وأصبحنا نمش في طريق زراعي يقطع زمامات بلدة أخرى. ولحظتها فقط بدأنا نعي أننا ~~مقدمون على شيء، وأننا ذاهبون فعلا إلى المنصورة. وكان سبب يقظتنا أننا شممنا رائحة الأرض ~~الغريبة. في بلدنا كنا نحس بالألفة لكل شيء، ونتصرف بحرية ولا نخاف. كل نخلة كنا نعرفها، ولا ~~بد طلعناها وأكلنا منها بلحا، وجمعنا من تحتها رطبا. كل غيط طرقناه ورأيناه في طفولتنا ~~وصبانا. كل بيت نعرفه ونعرف أهله كما نعرف أهلنا. والشجرة أي شجرة نعرف فروعها ms52 بالفرع ~~الواحد. وكل منا يستطيع وهو مغمض العينين أن يفرق بين تراب بلدنا وأي تراب آخر. ولم نفق ~~إلا لإحساسنا أننا قد غادرنا أرضنا وأصبحنا في بلاد الناس. # وانتابنا خوف حقيقي حين أيقن كل منا أن الدنيا ظلام، وأنه يسلك طريقا لا يعرف له نهاية، ~~وأنه لم يعد في بلده، ولا يستطيع أي منا أن يصرح بما يدور في خاطره. كانت جماعتنا تتحرك ~~وكانت لها رهبة، وكأنها أصبحت عملاقا كبيرا له عشرات الأذرع والأيدي والرءوس، حتى بدا ما ~~يفكر كل منا فيه صغيرا تافها يخيفه هو وحده، وأصبح هم كل منا حينئذ أن يلتصق بالآخرين ~~أكثر، حتى يذوب خوفه ويختفي في جسد ذلك العملاق الكبير. وبعد أن كنا متناثرين على الطريق ~~تقاربنا وتشابهت خطانا، بل وتشابكت أيدينا، وتولانا وجوم وسكوت، ونحن نستغرب من سيرنا ~~المندفع الذي لا يتحكم فيه عقل ولا يتوقف. كان في صدورنا هدير لا يرحم، والمنصورة ~~تجذبنا، كلمة ولكنها أصبحت تعني بالنسبة إلينا شيئا كالحياة أو أغلى من الحياة، تيار عارم ~~كان ينبع من صدورنا ويقودنا ويدفعنا رغما عنا. # ولم يعد يسمع سوى وقع خطواتنا على الطريق؛ وقع هامس خافت كأننا قافلة جمال؛ فقد كنا حفاة، ~~ومن كان يرتدي في قدمه شيئا خلعه ووضعه تحت إبطه، وكنا نلهث، ووجوهنا تلمع، وغبار قليل ~~يثور، والليل من حولنا كبير أكبر من أي شيء في الدنيا، وأسود ومخيف ومليء بالهمهمات ~~والأسرار، والزرع كثير محيط كالبحر المالح الذي ليس له بر، والنبات واقف ميت تحركه ~~النسمات فيتحرك معها حركة ميتة بطيئة، وأصوات سواق تأتي من بعيد كأصوات النائحات النادبات ~~في الجنائز حزينة على الزرع الميت، وطلقات بنادق متباعدة لا يعرف من ضاربها وأين ضربها وإلى ~~من تصوب، وديكة تصيح قبل الأوان، ونباح كلاب يأتي من بلاد مجهولة، وهواء واسع يحف بأرض ~~واسعة، فتهمهم الأرض وتقشعر الرياح، وهمسات الظلام تنبثق في أماكن غير مرئية؛ همسات خفية ~~لئيمة لا تنقطع كأنها تصدر عن حيتان هائلة لا ترى تسبح في بحر الظلام وتتقلب. # ومد ms53 واحد يده وزغزغ الذي في جانبه، وانزعج الآخر انزعاجا عظيما، وقفز في الهواء وصرخ، ~~وضحكنا. لم نضحك ضحكا عاديا، متنا من الضحك. ورحنا نزغزغ بعضنا ونموت، وتتقطع أنفاسنا من ~~الشهقات. # وقال واحد لمحمد وهو يلكزه: ورجليها يا محمد، زي رجلينا كده؟ # فقال محمد: هي رجليكو دي رجلين، دي قحوفة نخل. # وعاد السائل يسأل: أمال رجليها ازاي؟ # فقال محمد: زي الجمار. ~~- زي رجلين صفية الغازية يا وله؟ ~~- صفية مين يا حمار؟ دي ولا تيجي في ضافر رجلها الصغير. ~~- وبطنها يا محمد، داقة عليها سمكة؟ ~~- سمكة إيه يا جدع؟ إيه شغل الفلح ده؟ ~~- أمال داقة إيه؟ ~~- ولا حاجة، هي دي بطن يندق عليها؟ دي زي العجين يا وله. ~~- وكانت حاطة أحمر وأبيض يا محمد. ~~- والله ما خدتش بالي. ~~- ما خدتش بالك ازاي؟ ودي حاجة تتنسي؟ ~~- كانت حاطة. ~~- وبتتكلم بندراوي ولا فلاحي يا محمد؟ ~~- بندراوي مكشكش يا وله. # وهصنا، وطرنا وراء بعضنا، واختفينا من بعض في الأذرة الصيفي، وقد أصبحت المرأة شديدة ~~الوضوح في ذهن كل منا؛ حلوة، تماما كما يريدها الواحد منا؛ ملموسة، وكأنها أمامه، وكأنه ~~قضى معها ليالي كثيرة. # ومضينا ونحن نتدافع ونتجاذب ونسرع، وضحكنا، وتحدثنا، وقهقهنا ونحن نستمع إلى تخميناتنا عن ~~المسافة الباقية على المنصورة؛ واحد يقول ألف ألف متر، وآخر يقول أربع محطات. وتشبعت بنا ~~التخمينات. # وتنبهنا فجأة؛ فلم نجد محمد بيننا. # وكأنما اندكت سكين في قلب كل منا. ودون أن نتعقل أو نتشاور انطلقنا نجري في كل اتجاه ~~لنمسك به. كان قد زال عنا كل شك في صدقه، وتأصل ما قاله في مخيلة كل منا، وحفرت تفاصيله في ~~عقولنا حفرا، وأصبحت المرأة ذات الروب الأحمر والإزازة ليست مجرد امرأة أخرى من اللاتي ~~تعود محمد أن يحكي عنهن، أصبحت امرأة كل منا، يكفي أن يصل إلى المنصورة ويريه محمد بيتها ذا ~~البلكونة الحديدية، ونطلع واحدا وراء الآخر حتى تموت من السعادة وتسر، ويمكن تعطي كلا منا ~~جنيها؛ فالواحد منا ولد، ولد عترة لا يعادله أولاد المنصورة كلها وشربين، وإذا ms54 بالخنزير ~~يساهينا ويهرب. # كنا ونحن نجري نصدر الأوامر لبعضنا؛ روح أنت ناحية التابوت، دور تاني بر السكة الحديد، ~~اطلع أنت على الكوبري. وبهذا تفرقنا في شبكة واسعة لا يستطيع كائن من كان أن يهرب منها. ~~وكان الواحد منا لا يملك منع نفسه من التفكير: ماذا لو لم نجد محمد؟ هل نعود إلى بلدنا ~~بأيد وراء وأيد من أمام؟ وكانت إجابتنا جميعا: أن لا، لا، لن نعود. يكفي أن نصل فقط ~~إلى المنصورة؛ إذ لا بد أن نعثر هناك على بغيتنا، لا بد أننا واجدون عشرات من نساء إفرنج ~~بملايات لف، نساء كاللبن يؤكلن أكلا، نساء حلوين يا وله، أحلى من العسل النحل والقشطة. ~~وسمعنا صرخة تأتي من بعيد: أهه يا ولاد، محمد أهه يا ولاد، لقيته. # وكالريح المندفعة العاتية اتجهنا إلى الصرخة، ووجدنا محمد قد دفع صاحب الصوت دفعة وجري، ~~وجرينا وراءه وتبلور كل ما نطلبه من الله في الإمساك به، ولم يكن عسيرا أن نقبض عليه، ولم ~~يسكت. مضى يتفلفص ويضربنا، وكانت ضرباته غريبة جامدة قوية كضربات الرجال، وتفادينا الضربات، ~~وتحملنا إلى أن كتفناه وأحطناه كما تحيط جماعة نمل صغيرة بكسرة خبز، وحاول المقاومة وفشل، ~~وحاول وفشل، وأحس أننا أقوى منه فاستسلم. وخلع واحد جلبابه وربطنا به ذراعيه. وقال بلهجة ~~وقحة جافة: إنتم عايزين إيه دلوقت؟ # قلنا: عايزين تورينا بيت المرة. # فقال: مش موريكم. # قلنا: غصب عنك ح تورينا. # قال: بالعافية؟ # قلنا: بالعافية. # قال: ح أوريكم يا نسوان. # قلنا: إبقى ورينا. # قال: بالعافية يعني؟ # قلنا: بالعافية ياللا. # وعترس في الأرض فجررناه بالقوة، ومشى معنا والغيظ يخنقه، ثم تمتم وقال: المنصورة بعيدة يا ولاد وح نتوه. # قلنا: ملكشي دعوة. # قال: ذنبكم على جنبكم. # قلنا: على جنبنا. # ومشينا صامتين وقد تكهرب الجو، ولكن الصمت لم يدم طويلا. تكلمنا وقلنا نغني. ولم نكن ~~نحفظ أية أغنيات؛ البنات وحدهن هن من يحفظن الأغاني، ولهن في هذا باع ومقدرة، كنا لا نحفظ ~~إلا مطلع موال: أقوم من النوم أقول يا رب عدلها. غناه واحد ms55 ، فخرج صوته قبيحا فأسكتناه، ~~ومضى كل منا يغنيه كما يحلو له. # وهللنا مرة هللولة كبيرة، وتضارينا وتعانقنا وعفرنا بعضنا بعضا بالتراب، وخلع واحد ~~جلبابه ورماه، ثم عاد وارتداه، وتبادلنا حدف الطوب؛ فقد بدت في الأفق أضواء صغيرة منتشرة ~~كعيون الجراد حين تلمع في النور. # كانت أضواء المنصورة. # كانت المسافة بيننا وبين الأضواء تبدو قصيرة جدا، مشوار صغير ونصبح في قلب المنصورة، ~~ولكنا ظللنا نجري ونرغم محمد على الجري حتى لهثنا. وبدأنا نمشي، ومشينا حتى لم يعد في ~~استطاعتنا المشي، ومع هذا لم تقترب الأضواء إلا مسافة قليلة، وكأننا كلما اقتربنا غارت في ~~الظلام وابتعدت. # وقال محمد: يا ولاد نرجع. # فأنفجر فيه: اخرس. # وقلنا: مدوا يا جماعة الوقت اتأخر. # واستجمعنا كل ما تبقى لنا من عافية وواصلنا المسير. # وفجأة لعلعت في الظلام قهقهة عالية، والتفتنا فوجدنا محمد هو الذي يضحك. ولما رآنا قد ~~استدرنا إليه مضى يفتعل الضحك افتعالا، وينثني ويقوم ويضحك وهو يقول الجملة التي نقولها في ~~بلدنا كثيرا حين يفلح واحد في خداع الآخرين وسبك الكذب عليهم، ويتطوع آخر الأمر بكشف ~~نفسه: هيه، ضحكت عليكم، هيه، يا هبل ضحكت عليكم. # فسألناه: ضحكت علينا ازاي؟ # قال: وانتوا صدقتوا؟ # قلنا: إيه؟ # قال: داني كنت بضحك عليكم؟ ~~- تضحك علينا ازاي؟ ~~- علشان أنتوا هبل. ~~- يعني مش شفت المرة في المنصورة. ~~- ولا عمري رحت المنصورة. ~~- أنت كداب. ~~- والنبي يا ولاد عمري ما شفت المنصورة بعيني. ~~- أنت ابن ... ~~- أنتوا اللي عبطا. # وهل علينا صمت ثقيل، رحنا في أثنائه نتلفت إلى أضواء المنصورة، وقد أصبحت قريبة نكاد ~~نمد أيدينا فنقطفها، والحق أننا ما كنا نرى فيها أضواء ومدينة؛ كانت المنصورة كلها قد ~~استحالت في نظرنا إلى امرأة مثل العجمية، تطل من بلكونة، ولها روب ولها ابتسامة، وتدعونا. ~~ومضينا نتلفت إلى الأضواء، ونعود إلى محمد لنجده واقفا مائعا يصطنع الضحك ويسخر ~~منا. # وقال واحد: دا بيضحك علينا يا ولاد. هو مش عايز يورينا المرة. دا بيضحك علينا يا ولاد، ~~هو مش عايزنا نروح. # وتنبهنا. صحيح أنه يضحك ms56 علينا، وشخط محمد وقال: بضحك عليكو إيه يا حلاليف؟ # فصرخنا فيه نلعنه ونقسم أننا لن نتركه حتى يرينا بيت المرأة. فعاد يقهقه ويتهمنا بالعبط ~~وإنا مهابيل. وعدنا نقسم أننا لن ندعه يخدعنا ويحتفظ لنفسه بالمرأة من دوننا. وأمرناه أن ~~يواصل المسير. ورفض أن يسير. فجررناه. فرفع ساقه ورفص واحدا منا في بطنه وهاج فينا. ~~وانفجرنا وجمعنا كل ما فينا من غيظ وانقضضنا عليه وأوقعناه، واندفعنا نكيل له الصفعات ~~واللكمات، وراح يضرب بالروسية وينطحنا ويدفعنا بسيقانه، وتكاثرنا عليه حتى ربطنا ساقيه معا ~~بقميص، وجرى واحد إلى الخليج، وأحضر ملء يديه طينا وطلى به وجه محمد، وملأ فمه وبصق عليه. ~~وحاول محمد أن يصرخ فكتمنا أنفاسه وسكت، وخفنا أن يموت، فرخرخنا أيدينا وتنفس، وقال واحد: ~~نجره إلى الغيط ونكويه بالنار. # فقلنا كلنا: نكويه. # وجررناه إلى الغيط، وبحثنا عن كبريت ولم نجد، فقلنا: نصنع شرارة بزناد من الزلط. # وبحثنا عن الزلط، وعثرنا عليه فوق السكة الحديد، وقلنا: يلزمنا مسمار أو حديدة. # وهمنا نبحث عن حديدة ولم نجد إلا صفيحة. وبرك واحد على صدره، وأجرى الصفيحة على ساقه، ~~وقال: ح تقول على بيت المرة فين ولا نموتك؟ # ولم يعترف، فأخذنا ننشب أظافرنا في جسده ونقرضه ونعضه، ونطلب منه أن يدلنا على ~~البيت. # وأدركنا آخر الأمر أن لا فائدة، وأنه كذاب. # فجننا أكثر، وانهلنا عليه ضربا من جديد، وحز ماسك الصفيحة في ساقه وقال له: طب قول أنا مرة. # ولعن محمد آباءنا جميعا ورفسنا. # وقال واحد: لا ينفع إلا الكي. # ورحنا نتبادل الزناد والزلط، ونحاول أن نحدث الشرر، وفي كل منا جزء صغير معجب بمحمد؛ لأنه ~~لم يقل إنه امرأة، وجزء كبير حانق على اللئيم الذي خدعنا. # وحدثت الشرارة واحمرت قطعة القطن وهللنا، ونفخنا فيها، واشتعلت النار وملأتنا دهشة؛ فقد ~~كان لونها شاحبا جدا. ونفخنا فيها وشحب لونها أكثر وأكثر. وعدنا ننفخ بلا فائدة. # وتبينا أن النار ليست وحدها الشاحبة، كان كل شيء يشحب ويصفر، ثم بدأت النار والأشياء من ~~حولنا تبيض، ثم صفر شيء ms57 في آذاننا كالاستغاثة، وأدركنا مروعين أن حادثا جللا قد وقع، ومضى ~~كل منا ينظر في وجوه الآخرين ويستعجب ويفيق. كانت وجوهنا معفرة كلها خدوش، وأجسادنا يكسوها ~~التراب، وذباب؛ ذباب كثير لزج لا يهدأ، ولا يكف عن الطنين. # ومن أين جاءنا ذلك الألم؟ وماذا يقول أهلنا؟ سيضربوننا بالتأكيد ويشنقوننا، وآه من ~~شتائمهم! كلها ألفاظ حامية تجرحنا وتصيب رجولتنا الصغيرة الحساسة في الصميم. كان على بعضنا ~~أن يقوم في الفجر، وكان لا بد من تعليق توابيت وتتريب زرائب. وكنا لم ننم، لم ننم أبدا ~~وعيوننا حمر، هل مرضت؟ وهه طلعت الشمس أيضا في بلدنا، وأشكالنا ما لها فيها ذهول وإجرام ~~وتوبة؟ ما لها فيها «قشف» و«قوب»، وحفر غائرة، وحب شباب، ونقاط سود؟ لماذا نحس الآن فقط أننا ~~غلابة فقراء، وأن بيوتنا ليس فيها سوى صيحات كلاب وجعير آباء وأمهات ودخان المواقد ~~الخانق؟ # وروعنا، ونسينا كل شيء ومضينا نتحسس أجسامنا وملابسنا، ونرى مدى ما أصابها من تمزيق، ونرى ~~أنفسنا في وضوح بشع شديد نخاف معه أن نرى أنفسنا. # وكان محمد راقدا؛ جلبابه ممزق، وجسده ممدد كالخرقة البالية والذباب يعف عليه بكثرة، ~~والجروح تشوه جلده، ودماء متجمدة فوق أنفه وعلى جانب فمه، وتملأ الشق الذي في شفته، ~~نائما مستسلما كالذبيحة الفاطسة، كالمرأة بعد ليلة حافلة. # وفككنا عنه الأربطة بلا حماس، وتألم وأحسسنا بألمه يحز في قلوبنا ويجرحها. # ووجدنا أنفسنا بعد حين هائمين على وجوهنا - عائدين إلى بلدنا من نفس الطريق - تدفعنا قوة ~~قاهرة، عائدين نعرج ونتساند ونئن ونفكر في النهار؛ النهار الذي داهمنا بغتة، وخلق أمامنا ~~الأرض، وحملنا بهموم الدنيا؛ النهار الحار الجاف الخشن الذي كنا نراه رؤى العين منتصبا ~~أمامنا كرجل عملاق قامته أعلى من قامة الشمس، ولا رحمة في قلبه ولا خرقة فوق جسده، وفي ~~يده هراوة ضخمة، منتصبا هكذا ينتظرنا ويتوعدنا وتقدح عيناه بالشرر، ونحن متجهون إليه ~~خائفون خاشعون عالمون تماما أننا لن ننفد من يده. # | أليس كذلك # لن يضيرك أن تعرف اسمي. حقا اسمي ه. ك. تيمو شلاي! # هندي ms58 أي نعم، من الهند. أرجو عفوك! اسمي متعب، لكنه هندي مائة في المائة. متعب؟! تيمو ~~يعني شيء كالجوهرة. نعم شيء كالجوهرة. هذا الترام ذاهب إلى الأهرام؟! حسن، حسن جدا. نفس ~~الطريق؟ وتجيد الإنجليزية؟! حسن، حسن جدا جدا. أستطيع أن أعبر عن نفسي الآن. لا، لست ~~ذاهبا لمشاهدة الأهرام. أنا لم أشاهدها لا هي ولا المتحف، وليس لدي وقت ~~لمشاهدتها. # غريب هذا الكلام؟ كل الأجانب يأتون فقط من أجل رؤية الأشياء القديمة هذه؟ أتظن أن مصر ~~القديمة هي التي أغرتني بالمجيء إلى مصر؟ أبدا! أتعلم شيئا؟ أنا جئت لأرى مصر الموجودة. ~~مصر التي في الشارع، وليست تلك الموضوعة خلف ألواح الزجاج. # أنا أعرف مصر، نحن في الهند نسمع عنها كثيرا، ولكنكم اليوم حديث العالم. ألا تعرف هذا؟ ~~كل العالم إيجيبت إيجيبت. أتعلم أين أنا ذاهب الآن؟ أنا ذاهب لوداع صديق. أتدري من؟ فتاة. ~~فتاة كباريه! أرجوك لا تسئ فهمي. نحن أصدقاء جدا، وأنا سأرحل غدا. جئت لأقول لها ~~وداعا، فقط لأقول لها وداعا. أتعلم أين رأيتها؟ في نفس الكباريه الذي أنا ذاهب إليه ~~الآن. أرجو عفوك، أنا رجل صريح، وأحب الناس أن يتحدثوا معي بصراحة، بصراحة. لقد حدث في ~~شيء ما منذ أن وضعت قدمي في بلدكم. أتعلم ما اسمها، اسم الفتاة؟ باهيا. اسم جميل، أليس ~~كذلك؟ يا له من اسم! باهيا! مجرد نطقه يملأ صدرك بالراحة. عرفتها من ثلاثة أيام. أنا هنا من ~~أسبوع. تصور سوء حظي، فقط من أسبوع. كنت داخلا الكباريه لأتفرج. كنت أريد أن أرى كل مكان ~~فيه ناس في مصر، وأنا غادرت بلدي لأتفرج على الناس. في الهند أنا عضو في البرلمان، أجل عضو ~~في البرلمان، ولكني هنا لست إلا متفرجا فقط. أيدهشك أني عضو في البرلمان وأنا صغير السن ~~هكذا؟ ولكني لست صغير السن. هل أبدو حقا في العشرين؟ كما ترى، أنا قصير ولا لحية لي ولا ~~شارب، ولكن أتعلم أني في السابعة والثلاثين؟ سأبلغها في أكتوبر، 19 أكتوبر، ولي ولد - ابني ~~- يبدو إذا مشيت بجواره ms59 أكبر مني سنا. اسمه لال، لال تيمو شلاي. لال يعني صغيرا. ابني هو ~~تيمو شلاي الصغير، وأنا شلاي الكبير. أفهمت؟ ومع ذلك فتيمو شلاي الكبير أصغر من تيمو شلاي ~~الصغير. نهرو؟ # ومن في الهند لا يحب نهرو؟ بيني وبينك بعضهم لا يحبه، ولكني أحبه. أنا مثله اشتراكي، ~~اشتراكي على طريقتنا. # أنا مثلا علمت نفسي. إن أبي لم يعلمني، وأنا أعلم لال تيمو شلاي ابني، ومع هذا يقول عني ~~أحيانا إني يميني متطرف، أكثر يمينية من أتلى، وأحتفظ بها سرا. أحيانا يكون على حق. ~~أرجو عفوك. أنا أتكلم كثيرا؟ أأنا ثرثار؟ ولكن أتعلم شيئا؟ أنا أحب أن أتكلم كثيرا، وأحب ~~أن يكلمني الناس كثيرا؛ إذ بالكلام نصبح أصدقاء، وبهذه الطريقة نجحت في مصادقة عدد كبير ~~منكم. هذه الفتاة ذهبت إلى الكباريه، وجلست على مائدة. الكباريه قريب من الهرم، وأنت تعرف ~~فتيات الكباريهات. # إنهن مثل الكباريهات متشابهات في كل أنحاء العالم. وجدت فتاة قريبة من مائدتي. وطبعا ~~تعرف فتيات الكباريهات؛ عملهن أن يجلسن مع الرواد مقابل مشروب؛ مشروب دائما باهظ الثمن. ~~دائما أنت مضطر للدفع، وثمن مشروب كهذا كثير علي؛ فأنا وإن كنت عضوا في البرلمان ~~الهندي، وهو مركز مهم كان ذا صبغة رسمية، إلا أني لست غنيا. أنا رجل فقير، ومع هذا ~~فالناس يحبونني جدا في حيدر آباد. حيدر آباد هي ولايتي. لا بد أن تأتي يوما وتلقي نظرة ~~على الهند، وترى حيدر آباد. ولا بد أن تتصل بي حين تأتي. لا بد! أنا كما ترى عضو في ~~البرلمان؛ يعني أشغل مركزا رسميا، وأستطيع أن أريك أشياء لن تراها وحدك. أنا متأكد أنك ~~ستحب بلدي. هناك نحن نحاول أن نبني؛ ولهذا فليست لدينا خلافات كثيرة. إذا اختلف الناس قل ~~لهم ابنوا شيئا، وحينئذ لا بد أن يتفقوا. أتعلم شيئا؟ يجب أن يتزاور الناس لا ليعرفوا ~~بلاد غيرهم فقط، ولكن ليعرفوا بلادهم هم. هنا أحس بالهند أكثر، وحين تأتي أنت ستحس بمصر ~~أكثر، ترامكم بطيء مثل ترامنا، ولكنه سيسرع، سنسرع به أكثر ms60 ، أليس كذلك؟ وحتى هذا الجو الحار ~~يجعلني أحس كأني في بيتي. أتعلم ما حدث؟ أنا سعيد جدا بالقدوم إلى هنا. أتعرف لماذا؟ لقد ~~وجدت كل شيء هنا يستيقظ وينمو، حتى نيلكم يفيق ويحاول أن يختزن ماءه المبعثر. أتعلم لماذا ~~نحن فقراء؟ لأننا نائمون. ابني يقول هذا عن هذا يمينية، ولكنها حقيقة. في بلدي حيث عملت ~~فلاحا لفترة طويلة كنت أحب جدا أن أرى الزرع؛ الزرع الصغير الأخضر، وسيقانه النامية ~~تدفع عن نفسها التربة، وتبدو فوق سطح الأرض. أحب جدا أن أرى العجل الصغير وهو لا يستطيع ~~الوقوف على سيقانه ساعة ولادته، ثم حين يستطيع بعد هذا الوقوف والجري، ثم وهو يكبر ويكثر ~~شحمه. وأنا أحب أن أرى الشمس وهي تشرق. لا بد أن منظر الشمس وهي تشرق في مصر رائع. أتعلم ما ~~هو أجمل شيء في الدنيا؟ الحياة. أتعلم ما هي الحياة؟ النمو. # أرجو عفوك! لقد استرسلت. كنت أود جدا كما أخبرتك أن أتحدث مع الفتاة، ولم يكن معي من ~~النقود ما يكفي إلا للضروريات. أحيانا تحس بحاجتك لمحادثة إنسان ما. ألا تحس ذلك أحيانا؟ ~~ولم يكن معي من النقود، فأشرت لها وابتسمت، فجاءت وهي تبتسم. أتعلم شيئا؟ إنكم شعب ألوف. ~~منذ أربعة أيام كنت ماشيا في الشارع ومعي سيجارة غير مشتعلة، ولم يكن معي كبريت، وأنا ~~أدخن كثيرا كما ترى. وكلما قالت لي زوجتي هذا أدخن أكثر. # أنت تعرف عناد، زوجتي بنت عمي، تزوجنا ونحن لم نبلغ العشرين، وكنت أيامها لا أدخن. ~~وبالمناسبة لم تعجبني سجائركم المصرية رغم شهرتها العالمية. مسألة مزاج. أليس كذلك؟ هل ~~تعتقد أن التدخين يسبب السرطان حقيقة؟ من ناحيتي لا أعتقد هذا. أتعلم شيئا؟ يبدو أن كلامي ~~أكثر من اللازم حقا. كنت أقول إني كنت فجأة ماشيا في الشارع ومعي سيجارة غير ~~مشتعلة. # وفجأة، أتعلم ما حدث؟ وجدت شخصا يتوقف أمامي ويخرج من جيبه علبة كبريت ويشعل السيجارة. ~~تصور! دون أن أسأله! إن هذا لا يحدث في أي بلد من بلاد العالم. أتعلم شيئا؟ إنكم ms61 أول شعب ~~أراه يحب أن يعطي حتى ولو لم يأخذ. كل الناس تعطي وتأخذ. أنتم دائما على استعداد للعطاء، ~~هذه هي قمة الإنسانية. هذا هو ما كنت أبحث عنه طول عمري. ما ديني؟ أتعلم شيئا؟ في كل مكان ~~يسألونني ما ديني. حين كنت صغيرا كنت أعبد البقرة، ولكنني الآن أعبد الصداقة. أتعلم شيئا؟ ~~ولي صلواتي أيضا. أنا أحس وأنا أتحدث معك أن بذور صداقتنا تنبت. ذاك ما أعنيه. عبادتي أن ~~أزرع بذور الصداقة وأنميها. # أنا أحس الآن أني أصلي! اكسب صديقا تخسر عدوا! أليس كذلك؟ تعلم شيئا؟ لقد أعجبني الرجل ~~الذي أشعل سيجارتي وتكلمت معه. كان يعرف فقط نعم ولا بالإنجليزية؛ «ييس» و«نو» فقط. وكان ~~رائعا؛ رائعا أن تراه وهو يحاول أن يرحب بي ويبثني عواطفه بجمل إنجليزية مكونة فقط من نعم ~~ولا، ولكنه ينطقها بطريقة تجعل للكلمتين آلاف المعاني، وتناولت معه الغداء. دعاني. # أتريد نصيحة؟ لا ترفض الدعوة أبدا. كل دعوة تقبلها لا بد ستخرج منها بأصدقاء. أتعلم ~~شيئا؟ إن سكان العالم أكثر من العداوات التي فيه. هذه حقيقة أقسم لك. أكلت يومها طعاما ~~مصريا حقيقيا. أجل طماطية. أوه! نعم نعم طامية. لا لا. طعمية. نعم نعم. لقد قضوا معي ~~وقتا طويلا يلقنونني كيف أنطقها. وكان غداء جميلا، تصور! أحببت جدا بيت الرجل وأولاده، ~~مصريون سمر صغار لا تملك إلا أن تحبهم. وزوجته وشبحها يظهر ويختفي من بعيد، وخجلها الشرقي ~~يمنعها من الجلوس معنا، وهي تنادي على زوجها بصوت خافت حتى لا أنتبه أنها تطلب شيئا أو ~~أنهم ينقصهم شيء. وضحكات الرجل، أتعرف؟ ضحككم عجيب يغري بالضحك كرائحة الشواء التي تغري ~~بالتهام الطعام. وتصور! رأيت الرجل وهو يعمل. وهو يعمل رفا، إبرته صغيرة هكذا، ولكنه يعمل ~~بها في حذق شديد، كم كان هذا كله رائعا! أتعلم شيئا؟ لقد جئت مصر لأتفرج على شعبها، ~~وأراه حين أصبح حديث العالم، ولكني اكتشفت شيئا آخر. انظر ما حدث. تأتي لترى شيئا، وإذا ~~بك تجد شيئا آخر. جئت أتفرج عليه فإذا بي ms62 أحبه. كم كنت غبيا! قضيت أربعة أسابيع بعد ~~انتهاء المؤتمر في كلام فارغ. كنت أتفرج على بلاد لا تهمني في شيء. كان يجب أن آتي إلى هنا ~~مباشرة، هنا قلب العالم. هل أبالغ؟ أنا لا أبالغ. هنا قلب العالم. أتعلم ما سوف أقوله حين ~~أعود إلى الهند؟ سأقول الحقيقة. أتعرف ما هي الحقيقة؟ أنني غبي. كان يجب أن آتي إلى هنا ~~مباشرة، وليس هذا كل شيء، قابلت كونستابل - أنت تعرف؟ - كونستابل الذي إذا رقي يصبح ~~ضابطا. من اللحظة الأولى صرنا أصدقاء عظاما، أعطاني صورته، انظر! أين ذهبت؟ ها هي ذي، يبدو ~~كالهنود؟ آه! كنت أقول هذا، أتعلم شيئا؟ كان ينطق الإنجليزية مثلي. هل لاحظت أني أنطق ال «ال» ~~وال «دي» في فرقعة مكتومة؟ كل الهنود ينطقون الإنجليزية هكذا، ينطقونها بلكنة أردية، ~~كانوا يقولون لي هذا في وارسو، أجل! وارسو في بولندا، أجل بولندا. كنت هناك في مؤتمر لدراسة ~~مشاكل الشباب. أنا وإن كنت لا أعتبر نفسي شابا إلا أنني مهتم جدا بدراسة مشاكل الشباب. ~~أتعلم لماذا؟ لأني أهتم دائما باليوم الذي سيجيء. والشباب هم الأيام الآتية. تعرف شيئا ~~آخر؟ لقد وجدت أن مشاكل الشباب في وارسو هي نفس مشاكلهم في دلهي! قابلني هناك شاب صغير ~~يناقشني في الموقف العالمي تماما كما يناقشني لال تيمو شلاي ابني. نفس المنطق ونفس الحجج، ~~ولكنه طبعا لم يقل إني يميني متطرف. سأكتب كتابا عن انطباعاتي حين أعود، أجل! كتابا من ~~حوالي 300 صفحة من الحجم المتوسط وغلافه بالألوان. عفوك! صديقي الكونستابل لقد أعجبت به ~~جدا. أتعرف أنه دعاني لزيارة قريته؟ إنها قريبة جدا من القاهرة، تأخذ الأتوبيس الأصفر ~~وبعد 15 دقيقة تكون هناك. لقد ذهلت. أتعلم شيئا؟ لم أكن أتوقع هذا فتصور! لكأنني عدت إلى ~~قريتي تاتورا في حيدر آباد. أعجب شيء أني اكتشفت أن فقركم يشبه فقرنا تمام، تصور الوقت ~~الذي أضعته أتفرج على بلاد لا أعرفها. # أنا هنا لا أتفرج، أنا أتغير، أتغير كل دقيقة. أنتم تستيقظون والحوادث تجري بسرعة. كل ~~دقيقة يحدث شيء ms63 . أن تصبح بلادنا بلادنا ليس بالأمر السهل يا صديقي، ليس بالأمر السهل. تصور ~~تأميم القناة. كنت وأنا بعيد أرى أنها خطوة كبيرة لا يحتملها الموقف في العالم، ولا يحتملها ~~شعبكم نفسه، ولكن انظر ما حدث. حين أصبحت هنا بينكم تغير رأيي. وتصور! فتاة كباريه التي ~~حدثتك عنها تكلمت معها في تأميم القناة، نعم تكلمت معها. أعجب شيء وجدتها متتبعة كل ما ~~يحدث. أنتم شعب رائع! تصور اسمها باهيا، قلت هذا من قبل. يبدو أني أكرر نفسي، هذه كارثة. ~~فتاة سمراء طويلة واسعة العيون، حواجبها مزججة كما تفعل نساؤنا في الهند. تكلمت معها ~~كثيرا. أنت تعرف أني أحب أن أتكلم مع الناس كثيرا. وتصور! لقد حسبتني أيضا في العشرين. ~~كل من يراني يحسبني في العشرين، ولست أدري لماذا. كانت تتكلم معي بالإنجليزية، ولكنها كانت ~~تخطئ باستمرار. سألتها كيف تعلمتها؟ أنا لا أخجل من توجيه الأسئلة، أنت تعلم. أن تدعي الجهل ~~خير من أن تدعي العلم، أليس كذلك؟ سألتها كيف تعلمتها؟ أتعرف شيئا؟ لقد اكتشفت أننا تعلمنا ~~الإنجليزية من نفس المصدر. تصور أين أنا وأين هي وتعلمناها من نفس المصدر. هي من البحارة ~~والضباط الإنجليز في الإسكندرية، وأنا من عملي في الجيش الإنجليزي في الهند. اشتغلت معهم ~~طوال الحرب. كانوا يدفعون جيدا، ولكن العمل كان شاقا. تصور هذا. الإنجليز علموا المصريين ~~والهنود الإنجليزية، أرادوا هزيمتنا بتعليمنا لغتهم، فاستعملنا لغتهم في التفاهم بيننا. ~~أليس هذا أروع؟ أوتعرف شيئا آخر؟ لقد تحدثت معها في مشاكلها؛ فأنا كما ترى مهتم بمشاكل ~~الشباب، وهي لا تزال شابة. ومن ليلتها أصبحنا أصدقاء كبارا. وبيني وبينك باهيا هذه جريئة ~~جدا، سألتني أسئلة كثيرة حتى خجلت أنا الرجل. تصور أنا خجلت. كانت تبدو شريرة جدا، أي ~~إنسان يراها لا بد يخاف. أنا خفت، ولكن أتعلم شيئا؟ قلبها كان من الداخل أبيض مثل الساري ~~الأبيض. أخ، يا لي من ثرثار! تصور أنا بدأت أتكلم معك لأقول لك أغرب ما حدث لي مع باهيا، ~~ولكني طول الوقت كنت أتحدث في أشياء ms64 أخرى. إنه أغرب ما حدث لي في مصر كلها، وإذا بي أشط ~~وأنسى. إنه شيء مذهل يا صديقي لن تصدقه، ولكنه حدث، حدث لي مع باهيا. أتعلم لماذا قبلت ~~الجلوس معي دون أن أطلب لها المشروب الباهظ؟ حدث الأمر هكذا؛ حين اقتربت مني قلت لها يا ~~فتاتي الطيبة أنا لست سائحا. أنا رجل فقير وأود أن أتحدث معك قليلا. هل أستطيع أن أفعل ~~هذا دون أن أطلب لك شيئا؟ قالت مستحيل، أنت تعرف أن هذا ضروري. قلت لها إني أحب أن أتكلم ~~معك. أنا هندي من الهند وجئت أزور مصر، وأحب جدا أن أعرف الناس وأتحدث معهم، ولكن ليس معي ~~إلا ما يكفي السفر. صحيح أنا عضو في البرلمان، ولكني رجل فقير. هل هذه جريمة؟ # وانظر ما حدث. قالت: أنت هندي؟ # قلت: نعم. # قالت: كيف حالك؟ # وسلمت علي، فسألتها: لم هذا الترحيب المفاجئ؟ # فقالت: لأني أحب الهنود. أتعلم لماذا؟ لأنهم يقفون بجوارنا ضد الإنجليز. أرأيت هذا؟ # سألتني: إذا حاربنا الإنجليز هل تحارب معنا؟ # قلت لها: يا فتاتي الطيبة، أنا مستعد أن أفقد رأسي من أجلك. ليس من أجلك أنت بالذات، ولكن ~~من أجل شعبك. # طبعا ليس من أجلها بالذات؛ فأنت تعرف أني رجل متزوج ولي ابن يبدو أكبر مني سنا. # قالت: صحيح تحارب معنا؟ قل الحقيقة، تحارب معنا؟ # قلت: إنني وشعبي كله مستعدون أن نفنى ونحن ندافع عنك؛ أقصد ليس عنك أنت بالذات، وإنما عن ~~شعبك. # وكنت أقولها وأنا مؤمن بما أقول إيمانا عميقا، ولكن انظر ما حدث. هللت فرحا وتحمست ~~جدا. وأنا أحب الناس إذا تحمسوا؛ إنهم لا يكذبون حينئذ. هكذا كان يقول أبي. تحمست جدا، ~~وشدت على يدي بقوة جعلتني أهتز كلي. أنت ترى أنا صغير جدا، ومن السهل أن أهتز. شدت على ~~يدي، وقالت: إجبشيان هند سوا سوا. # أتعرف شيئا؟ لم أكن أعرف معنى سوا سوا، ولكني أحسستها؛ لأن قلبي ارتعش وهي تنطقها. أجل ~~بشرفي دق قلبي هكذا دب دب كاللحظة التي يرى فيها العريس عروسه. انفعلت ms65 جدا، تصور! الشرق ~~شرقنا، الأرض الواسعة ذات الشمس والفقراء الطيبين الأقوياء بلادنا العزيزة. الصيحة وصلت ~~الكباريه، وباهيا الطويلة السمراء الواسعة العيون ذات الأسئلة الجريئة والوجه الشرير، باهيا ~~تأثرت جدا، أيد سمراء من الخارج ومن الداخل بيضاء بيضاء. وتصور! أتدرك هذا؟ حين فقط ~~تصافحنا بأيدينا صار لنا عشرون إصبعا. نعم عشرون إصبعا متزاحمة، إصبع أسمر بجوار إصبع ~~أسمر. الطويلة ذات الوجه الشرير باهيا، أتعلم شيئا؟ لقد كدت أفقد وعيي من الفرحة. وقلت ~~لها: انظري هنا يا فتاتي الطيبة، أنا لست من رواد الكباريهات، أنا رجل متزوج ولي ابن يبدو ~~إذا مشيت بجواره أكبر مني سنا، وأشغل مركزا رسميا في بلادي، ولكن سوف أتشرف حقيقة إذا ~~قبلت صداقتي. # وكنت أعنيها أجل تشرفني. أتعلم شيئا؟ من لحظتها صرنا أصدقاء. أتعلم شيئا آخر؟ لقد ظللت ~~أردد لها اسمي خمس دقائق دون أن تلتقط منه حرفا. نعم اسمي، أرجو ألا تكون نسيته. لا، ليس ~~كيمورانجو، لا، تيمو، تيمو شلاي، ه. ك. تيمو شلاي. أنت تعلم؟ لقد أخبرتك تيمو يعني شيئا ~~كالجوهرة. اسم متعب، أليس كذلك؟ ولكنه هندي مائة في المائة. # | المستحيل # حدثت الضجة المعهودة خارج الحجرة، وتعالت أصوات وضحكات وتشنجت حنجرة، ثم دخل المجنون ومعه ~~مرافقوه. # وأن يرى الإنسان مجنونا في الشارع مرة شيء قد يكون مثيرا، أما أن يكون عمله هو الكشف ~~على المجانين وإدخالهم مستشفى الأمراض العقلية، فشيء يجعله يفقد حب استطلاعه، ويصبح الأمر ~~بالنسبة إليه مسرحية مكررة لا جديد فيها ولا طريف. # ولهذا فحين دخل المجنون الجديد لم ألق إليه بالا كثيرا. كنت قد تعودت رؤيتهم ومعاملتهم، ~~ولم يعد جنونهم أو شذوذهم يزعجني أو يثير عجبي. وكان المريض الجديد هو الآخر داخلا مواصلا ~~كلاما لا يعلم سوى الله متى بدأ: اسمك إيه؟ # ودون أن يغير طريقة كلامه أو النغمة التي يتكلم، مضى يقول: يسرقوني ليه؟ أنا عملت فيهم ~~إيه؟ اسمي محمد شحاتة علي، والمجرم صالح الشهاوي نتش مني أربع صفايح سمنة. ورحت أجيب ~~الإيجار من السكان، فزعوا عليه بالسكاكين عايزين يدوني نكلة ms66 في الشهر إيجار الشقة. هو أنا ~~شحات؟ أنا راجل صاحب عمارات ثلاثة في شبرا السمك وأربعة في أبو الريش و... # ونظرت إليه. # السحنة واحدة لا تكاد تتغير؛ سحنة ضامرة وأشداق مشفوطة وذقن لا بد نابتة وشعرها نام ~~بجنون هو الآخر، تكاد الشعرة تلتوي عند نهايتها وتنقض على جارتها وتعضها، وملابس مهما اختلف ~~لولها مهرأة وممزقة ومربوطة أحيانا بحبال. # لم يكن أكثر ولا أقل من مجرد مجنون فقير آخر. # وكل من كنت أراهم كانوا مجانين فقراء. وكم هو عسير على النفس أن ترى غيرك مجنونا، أن ~~ترى الإنسان ذلك الكائن الحي الذكي الذي تشير له فيفهمك، وتقول النكتة فيضحك، وتصادقه ~~فيحبك، ويؤمن فيضحي بحياته في سبيل إيمانه، وتريه الشيء فيتعلم؛ أن ترى ذلك الإنسان وقد ~~تحول إلى كتلة بشعة من اللحم والملابس الممزقة والتصرفات الشاذة والصرخات، كتلة لا تعي ولا ~~تحس ولا تستجيب ولا تملك حتى أن تسقي نفسها الماء! # كان العسكري الذي يصاحبه قد وقف على يمينه، وقريبه الذي جاء معه بجانبه وعلى يساره، ~~والمجنون بينهما قصير أقصر منهما، وشعره أسود وأكرت ومهوش، والمجنون وملامحه شائخة، ولكن ~~ليس في رأسه شعرة بيضاء واحدة. وكان حافيا ومع هذا يرتدي طربوشا قديما لا زر له ولا ~~هيكل. # ومنذ أن دخل ووقف لم يغير وضعه أبدا؛ فيداه مضمومتان أمامه إحداهما قابضة على الأخرى ~~تكاد تخنقها، ورأسه ينظر إلى الأرض بزاوية، وعيناه مصوبتان إلى قدميه، وكان باديا أنه لا ~~يرى حتى قدميه، وإنما يخترق ببصره الأرض الواقف عليها وما وراء الأرض، ويهيم في شيء بعيد ~~مجهول. وكذلك لم يتوقف عن الكلام، وكان يبدو أنه لا ينوي التوقف أبدا، وصوته يخرج لا حماس ~~فيه ولا حرارة، ولا يرفعه ولا يخفضه مهما تغير ما يقول كأنه شريط مسجل لا يتوقف دورانه، ~~وإذا سئل لا ينتظر ليعرف السؤال، ولكنه يواصل كلامه، ويخرج عن الموضوع الذي يتكلم فيه ~~قليلا ليجيب، ثم يعود بسرعة إلى شريطه المسجل الذي لا يتوقف، وحين عدت أستمع إليه كان ~~يقول: يمضوني على عقد ms67 البيع أونطة؟ كنت اتهبلت أنا عشان أبيع تلات عمارات بتلاتة صاغ ونص ~~فرنك شركة؟ أطلب منهم الأجرة يضربوني ويدوني نكلة، والبواب عايز ألف جنيه في الشهر، وشركة ~~الميه ليها عداد. # مرة أخرى حديث عن العمارات والثروات الموهومة التي كون الناس أجمعين عصابات ~~لاغتصابها. # وأعدت السؤال: بتقول اسمك إيه؟ # ومرة أخرى سكت، ونظر إلي نظرة لامعة فيها بريق مخيف، ثم عاد يكمل حديثه ذا النغمة ~~الواحدة، وكأنما كان سكوته خللا أصاب الشريط للحظة ثم عاد إلى الدوران. # وكانت نظرات الجنون في عيون المرضى تخيفني أول الأمر؛ إذ فيها ذلك الوميض المفاجئ المريع، ~~وكأن عقولهم تحترق داخل رءوسهم، وعيونهم تنفث شرر الحريق. نظرات تجعل الإنسان يخاف من ~~الجنون. ونادرا ما يخاف الإنسان من إنسان، ولكن نظرة واحدة من تلك النظرات كفيلة بأن تجعله ~~يخاف. وأفظع خوف هو خوف الإنسان من الإنسان. وأول الأمر أعاملهم مثل غيري من الناس باحتراس ~~الخائف؛ ولهذا كانوا دائما يرتكبون حماقات، فيحاول أحدهم أن يعضني مثلا، أو يبصق على وجوه ~~الواقفين حوله، أو تنتابه لوثة ويهم بإلقاء نفسه من الشرفة. وكان هذا يزيد من احتراسي وخوفي؛ ~~فقد كنت أحس على الدوام أني أمام آلة خطرة لا ضابط لها ولا رابط، كالبندقية المعبأة التي قد ~~تنطلق من نفسها في أية لحظة وتقتل، وبمضي الوقت رأيت منهم مئات، وبمضي الوقت ألفت تلك ~~النظرات، والألفة تزيل الخوف، وحارس الأسد لا يخاف من الأسد. وهكذا فقدت حيطتي وأصبحت ~~أعاملهم وكأني لا أعامل مجانين؛ فأفك عنهم القيود، وأعطي الواحد سيجارة، وأدعه يشعلها بنفسه ~~ويدخنها، ولا أضحك من غرابة ما يقول، وأعجب شيء أنه ما من أحد منهم عاملته بألفة وحاول ~~إيذائي. وأيقنت آخر الأمر أن النظرات النارية التي يطلقها المجنون من عينيه وتخيف ليست في ~~الحقيقة سوى نظرات خائف، نظرات رعب من العالم والناس يبلغ حد الجنون. إنه يؤذي غيره لخوفه ~~من أن يؤذيه غيره، ويتوحش لاعتقاده أن الناس قد تحولوا إلى وحوش. والواقع أننا كثيرا ما ~~نتحول إلى وحوش. إننا إذا رأينا ms68 شذوذا في تصرفات إنسان لا نغفر له، ونعامله بقسوة، وكأنا ~~نعاقبه على شذوذه؛ وبهذا تصبح تصرفاتنا شاذة في نظره، ويزيد حينئذ شذوذه. وقد يكون الأمر ~~في مبدئه حبة فنصنع منها قبة. ويكون التصرف الشاذ بسيطا فنقلبه إلى جنون مطبق، ونصف ~~المجانين مجانين لأنهم مرضى، والنصف الآخر لأننا أرغمناهم على الجنون. # ولم أكن في حاجة إلى فحص كثير لكي أدرك أن الرجل الواقف أمامي تنطبق عليه كما تقول ~~اللائحة، أحكام المادة كذا من قانون الأمراض العقلية. # ولكن كان لا بد من بضعة أسئلة أخرى تعذبني وأنا ألقيها وأسمع الإجابة عنها؛ فالإنسان منا ~~إذا وقع نظره على عين أعور أو أعمى أو ساق مبتورة اقشعر وأحس بألم ممزوج بالخجل، وكف عن ~~النظر، فما بالك حين يحادث الإنسان شخصا ذا عاهات متعددة ليس باستطاعته أن يرى أو يسمع أو ~~يفكر، وإذا كان من المؤلم أن تقول للمشلول اجر، فمن المؤلم أكثر أن تسأل فاقد العقل وتطلب ~~منه أن يجيبك ويفكر، ومع هذا كان لا بد أن أسأله، فقلت له كالعادة: عارف النهاردة ~~إيه؟ # وبنفس الهمهمة المستمرة التي لا تنقطع مضى يقول: شافوني داخل مسكوا في خناقي، النهاردة أول الشهر وبقى لهم ثلاثة أشهر ما دفعوش الإيجار، ~~والمحضر ساكن في البيت والثلاث عمارات يتباعوا والبيع لازم يحصل النهاردة. # وهززت رأسي لا أدري ما أقوله، والرجل ذو الطربوش المزعزع فوق رأسه واللحم الجاف الشاحب ~~الظاهر من خرقه يتحدث عن العمارات وبيعها، وقريبه واقف ينظر بمرارة وقلق وتحت إبطه لفة لا ~~بد فيها طعام رفض المريض أكله، ووراء وجودهما أمامي لا بد قصة؛ قصة طويلة حافلة؛ فأن يجن ~~واحد في العائلة مأساة، وإذا كانت العائلة فقيرة فالمأساة أفظع؛ إذ لا بد قبل أن تعترف ~~السلطات بصحة الخلل الذي طرأ على قوى الشخص العقلية، أن يرتكب حادثة أو أكثر، ويحاول قتل ~~نفسه على الأقل مرة، ويصبح وجوده «خطرا على أرواح الأهالي وممتلكاتهم». بعد هذا وليس بأي ~~حال قبله، يصبح في استطاعة أهله أن يقدموا بلاغا إلى القسم ms69 والقسم يتحرى، وبعد أن يتم ~~التحري يرسل عسكري، ويعود الأهل إذا كانوا محظوظين آخر النهار إلى الحارة أو الزقاق ومعهم ~~عسكري، ويؤخذ المريض إلى القسم عنوة ويضرب زفة. وهناك يفتح محضر وسين وجيم، ثم يرسل المريض ~~بخطاب وفضيحة إلى مفتش الصحة. وإذا كان حظ المريض من نار ظهر الخلل واضحا أمام مفتش الصحة، ~~فإذا اقتنع بمرضه أحاله إلى القسم مرة أخرى، وإلى أن تأتي عربة المستشفى يوضع المريض في ~~السجن على انفراد، ومكتفا لا يستطيع حراكا، ولا تأتي العربة في العادة إلا بعد يوم أو ~~يومين أو إذا آن الأوان، وإذا جاءت ظلت ترفعه وتهبده، والتومرجية في المستشفى يرفعونه ~~ويهبدونه، حتى تصعد البقية الباقية من عقله إلى بارئها. # لا بد أن يحدث كل هذا قبل أن يصبح من حق المريض بعقله أن يستلقي فوق سرير المستشفى ~~الكالح. # ولا بد أن كل هذا قد جرى ويجري لمحمد شحاتة علي الواقف يتحدث أمامي حديث خالي البال عن ~~العمارات وأصحابها. # وإذا كان الفقر في حد ذاته يهد كرامة الإنسان وآدميته، فما بالك إذا جن الفقير؟ # قلت له لأسهل الأمر عليه: لأ يا عم محمد النهاردة الأربع، ويبقى بكرة إيه؟ # ودون أن يغير طريقته قال: إن شاء الله بكرة السبت، بكرة سوق السبت أبيعهم في السوق ~~بالمزاد العلني، واللي ما يشتري يتفرج، والفرجة بقرش واللي حاضر. # وكنت أعتقد قبلا أن الجنون حالة كالموت يتساوى فيها الناس إذا فقدوا عقولهم، ويصبح كل ~~مجنون نسخة من الآخر، وإذا بي أجد أن الأمر غير هذا بالمرة؛ فهم ليسوا قطيعا واحدا من ~~فاقدي العقول؛ كل منهم كائن مستقل بذاته وقصته ومسلكه الغريب الخاص به، حتى الكلام لكل ~~طريقته المعينة التي لا يحيد عنها، والدائرة التي يدور حولها كلامه لها نصف قطرها الخاص به، ~~والذي قد يكون عمارة، وقد يكون عصابة، وقد يكون غضبه من أهل أو حبيب. # كانت حالة الرجل واضحة، وكان ممكنا أن أكتفي بالأسئلة القليلة التي وجهتها وأملأ خانات ~~الاستمارة، وأنتهي من «الحالة»، ولكننا أحيانا تخطر ms70 لنا خواطر، فتقودنا إلى اكتشاف آفاق لم ~~نكن نستطيع الوصول إليها بالتدبير والتمعن والتفكير، والخاطر الذي خطر لي لم يكن من قبيل ~~الصدفة؛ إذ لم أكن أنظر إلى المريض على أنه مجرد «حالة» أخرى، كانت مشكلة العقل البشري ~~تحيرني وتجبرني على التفكير. هذا العقل، هذا الجهاز المذهل الكامن في تجويف الرأس المزدحم ~~بالأفكار والحوادث والغرائز والمشاعر والذكريات، هذا الساحر الصغير القادر على أن يحيل ~~الحجر إلى ماس، والخاطر إلى اختراع، والغريزة الدنيا إلى غريزة سامية عليا، تلك البوصلة ~~الرائعة في دقتها التي تحدد الشرف، وتقيس المعقول، وتربط ألف فكرة بألف فكرة، وتخرج بنتيجة ~~وتصنع من النتائج أحكاما وقوانين، هذه المعجزة التي تحل أعقد الطلاسم، وتتذكر أدق ~~التفاصيل، وتحس وتفرق بين الأحاسيس، هذه المساحة المتناهية الصغر التي تخلق، وتضع الخطط ~~العميقة، وتبتكر ملايين الكلمات والتعبيرات، وتحوي كل هذا وتحفظه، هذا العقل الذي يحتوي ~~الدنيا كلها بما عليها ولا يضيق؛ ترى ماذا يحدث له حين يختل وتشب فيه النار؟ ما هو الأصيل ~~الذي يبقى، وماذا فيه يستحيل إلى دخان؟ وعم محمد شحاتة علي الواقف أمامي لم يغير وقفته، ~~ترى ماذا طار من عقله؟ وماذا لا يزال كامنا مقدسا في أخاديد تفكيره؟! # والمسألة نسبية لا ضابط لها ولا رابط؛ فقد لا يكون بعضهم يعرف اليوم الذي هو فيه، ~~ولكنه يرفض أن تتعرى أجزاء جسمه، وقد لا يعرف اسمه، ولكنه يخنقك إذا شتمته. # وكنت أحب ذلك الحوار الذي يدور بيني وبين المريض، فإذا كان الإنسان العادي له عقل بالغ ~~التعقيد، فالمجنون بسيط، والمشكلة التي تحيره واحدة، ويقول ما يريده على الفور وبصراحة، ~~وتستطيع أن تقرأ تفكيره بسهولة، وتعرف ما احترق في عقله وما لا يزال سليما. # وسألته: إيه اللي مضايقك يا عم محمد؟ # وكان لا يزال على نفس وضعه، لم يرفع بصره مرة، وينظر حوله وسيال حديثه مستمر، وكأنه يتحدث ~~إلى كائنات أخرى لا نراها ولا تتبرم بحديثه، يتحدث وكأن لا زمان هناك ولا مكان، ولا يهمه ~~إن كان هناك زمان أو إنسان أو ms71 مكان، والبقية الباقية في رأسه تطحن الكلمات والجمل، فتخرج ~~كالدقيق الناعم المستمر لا انفعال فيها ولا إدراك. وحين سألته كان لا يزال ماضيا في قوله: ~~سلطوا علي نسوانهم بالشباشب هانوني، تعبوني قوي. سكان متعبين، وبيدفعوا في الشقة نكلة ~~إيجار قديم، ولازم أبيع العمارات حالا قبل ما يهدوهم، الجدع ده سلط علي مراته قلعتني ~~الهدوم في الليل وسرقت المحفظة. # وتدخل قريبه الذي كان واقفا: ما تصدقوش والله العظيم ما حد عمل فيه حاجة. # وتطلعت إليه؛ سحنة ضامرة أخرى، ولحية نامية، وملابس مهلهلة لا تكاد تفترق عن ملابس ~~المجنون، حتى كدت أسأله هو الآخر عن اسمه واليوم الذي نحن فيه، وربما لو كنت سألته لما ~~كان قد عرف. وتلك ظاهرة غريبة؛ فلا بد أن يكون مع المجنون قريب، ولا بد بطريقة أو بأخرى أن ~~يخرم المريض على أقربائه ويتهمهم أي اتهام، والأغرب من هذا أن القريب لا بد يدافع عن نفسه ~~بحرارة، وكأن الاتهام صادر عن عاقل، أو كأنه صحيح. # وأشرت للقريب أن يسكت، ولكنه لم يفعل، بل مضى يدلل ويروي على مسامعي كل ما قام به المريض ~~من أفعال خارقة، وكأنما ليثبت لي أنه حقا مجنون وكلامه فارغ، وبينما هو يتكلم بحرارة كان ~~المريض يقول: كلهم حرامية ما تصدقوش دول كدابين. بيقول كده عشان يوديني في داهية، وياخد هو ~~حق العمارات. قال لي امضي على بياض عايز ينهبني. دول على ذمتي تلات عمارات يسووا 150 قرش، ~~وأبيعهم بنص فرنك؟ حرام أنا يتيم. # وقاطعته وسألته: إنت عارف ده مين؟ # ودون أن ينظر إليه استمر: يتيم، أمي ماتت السنة اللي فاتت وده حرامي ابن حرامية. # وكادت تفر دمعة من عين قريبه وهو يقول: أنا حرامي يا محمد؟ الله يسامحك يا محمد يا ابن أمي وأبويا، تقول عليا حرامي يا محمد ~~وأنا أخوك؟! # وسألت المريض: عارف بلدكو اسمها إيه يا عم محمد؟ ~~- عايزين ياكلونا بالحيا. بلدنا بلد الفقر والعنطزة هناك ع الترعة، وعندها محطة وسبيل. ~~والعمارات 4 في باب الحديد و3 في ستنا نفيسة، وعقد البيع ms72 جاهز على الإمضا، ومش ممكن أقل من ~~خمسة صاغ الواحدة. # وسألته: إنت متجوز يا عم؟ # واستمر: ويجيني المشتري لحد عندي. كتفوني امبارح وحطوني في شوال، وقالوا تجوز أمك يا ~~تتنازل عن العمارات. # وتدخل قريبه: عيب كله إلا أمك يا محمد. # ثم التفت إلي وأكمل: ده مجوز ومخلف رجالة وسيبينه كده، وأنا اللي بصرف عليه وحياة الحسين. # وعدت أسأله: لك أولاد، صحيح يا عم محمد؟ # واستمر يهمهم: أتنازل ازاي؟ ما اتنازلش. أنا مليش أولاد، أنا ليا عمارات بس، ولازم أبيع النهاردة ~~وأقبض التلاتة صاغ كاش! # وأخرجت الاستمارة من درج المكتب استعدادا لملئها. # وفي العادة كنت إذا وصلت إلى هذا الحد وتأكدت من المرض، تنتابني موجة من اليأس، فأهاود ~~المريض على عقله، وأمزح معه، وأحدثه بأي كلام قد يخطر لي على بال، وكأني أعتذر له سرا؛ ~~لأني سأثبت في الاستمارة حالا أنه مجنون. # ومع عم محمد أيضا قلت: إنت عايز تبيع العمارات، صحيح؟ # فأجاب على طريقته: منهم لله عايز أبيعهم كلك على بعضك بيعة وشروة بالوقة، وأنا أصلي ... # قلت: تبيعهم للعسكري ده؟ # فاستمر: وأنا أصلي أبيع ... ~~- تبيعهم لأخوك أحسن؟ ~~- وأنا أصلي أبيع ... ~~- ولا تبيعهم ليا وتكرمني؟ ~~- وأنا أصلي أبيع ... ~~- أقول لك يا شيخ ... بيعهم للإنجليز واخلص. ~~- وأنا أصلي أبيع، لا الإنجليز، لا إنجليز، ما إنجليز من رابع المستحيل. # وفوجئت برفضه، فسألته وأنا أستغرب: ليه اشمعنى الإنجليز لأ؟ # وعاد الشريط يدور: لأ لأ كده الله الله الله ع الجد أبيع لربنا حتى والكمبيالات جاهزة، ~~والمستندات تحت الطلب، واللي ما يشتري يتفرج، والإنجليز لأ. # | التمرين الأول # كان عجيبا هذا الإحساس المفاجئ الذي أصاب طلبة «ثالثة رابع»، وجعلهم يستمرون في أداء ~~التمرينات الرياضية بعد انتهاء الحصة، وأيضا أثناء الفسحة التي بين الحصتين، ثم يأخذون خمس ~~دقائق أخرى من الحصة التالية. # كان هذا عجيبا؛ إذ طوال أيام الدراسة كانت أمنية كل منهم أن يصحو من نومه، فيجد المدرسة ~~قد نسفها طوربيد أو ابتلعها بركان. # كانوا، كغيرهم من الطلبة، يكرهون المدرسة كرها لا يعرفون له سببا، ويبدأ ms73 ذلك الكره مع ~~بدء كل يوم، بل قبل أن يبدأ اليوم؛ فالطالب لا يستيقظ من نومه إلا مقروصا أو معضوضا أو ~~مطروحا أرضا، ثم يدفع إلى المدرسة دفعا، ودائما في وداعه شيء؛ دعوة عليه، شتمة، أو فردة ~~شبشب. وينسل إلى الشارع، ويظل يجري ويجري ملتصقا بعامود ترام أو مهرولا فوق رصيف، والشتاء ~~بارد والصبح أبرد؛ أبرد من الحصص الإضافية، والرعب يملأ قلبه مخافة أن يصل متأخرا ويجد ~~باب المدرسة مغلقا، ويضيع اليوم، ويقيد غائبا ويروح في داهية. # وما يكاد يصل إلى المدرسة ويجدها قد امتلأت بالأشباح المقرورة من أمثاله التي تبحث عن ~~الشمس؛ فالشمس ليست مثلهم تلميذة في مدرسة. إنها لا تصحو ولا تضيء صباح الشتاء إلا في ~~العاشرة أو ما بعدها. ما يكاد يصل وما تكاد المدرسة تفتح ذراعيها، وتضم تلك المجموعة الضخمة ~~من الفتيان، وما تكاد جدرانها تهب من رفادها الطويل الوحيد، وتشارك الطلبة مرحهم، وتردد لهم ~~أصوات زعيقهم وضحكاتهم، ويتلمظ حصى الفناء منتشيا وهو يستقبل الأقدام الصغيرة الشابة ~~ويلثمها وقد طال شوقه إليها. وما تكاد الأشجار تهفهف بأوراقها وتشقشق سعيدة بجري الطلبة ~~حولها وجذب شعورها وأغصانها، ولا تتألم حتى حين يحفرون أسماءهم عليها، ما يكاد الطلبة ~~يحسون أنهم كائنات حية لها أماني ورغبات وأحلام وأحاديث، ما يكاد هذا يحدث حتى يدق الجرس؛ ~~تتم. تتم. تتم. # وفي الحال تهمد الحركة وتخرس الألسنة وتتجمد الرغبات؛ إذ ما يكاد الجرس يدق حتى يغلق ~~الباب؛ باب لا بد ضخم متين كأبواب السجون. وما يكاد الباب يغلق حتى يفطن الطلبة إلى وجود ~~السور؛ سور لا بد عال هو الآخر، ومزود بالأسلاك الشائكة إن أمكن. # ومع دقة أخرى من الجرس يزحفون صوب مكان الطابور مطأطئي الرءوس، وقد تضاءلت أمانيهم ~~وانكمشت، وأصبح الواحد منهم مجرد تختة أو دواية أو قلم بسط رخيص عليه أن يكتب ويكتب ولا ~~ينقصف سنه أبدا. # تلك التمتمات الثلاث تعني أن اليوم الدراسي قد ابتدأ، وويلهم من اليوم الدراسي حين يبتدئ! ~~حتى الجرس الذي يبدأ به اليوم جرس كالح قديم ms74 عليه صدأ أزرق، وله بلبلة أضخم من حجمه ~~واقفة في وسطه كما تقف اللقمة في الزور، حتى صوت الدقات يخرج وفيه من الأنين أضعاف ما فيه ~~من رنين، أنين يعلوه الصدأ هو الآخر؛ صدأ أزرق كالح كئيب. # حتى الفراش الذي يدق الجرس لا بد أن يكون عجوزا خطير الملامح، ولا بد أن يكون له شارب ~~كث يخيف، ولا بد أنه يحس أنه نابليون زمانه أو إسرافيل عصره وأوانه، ولا بد له ساعة أخطر ~~من أية ساعة في الدنيا هي التي تحرك عقاربها المدرسة كلها؛ ولهذا لا بد لها من مخلاة سوداء ~~صغيرة يضعها فيها مبالغة في الحرص عليها، ولا بد أن تجده واقفا تحت الجرس ينتظر ممسكا ~~بالساعة محدقا فيها، حريصا عليها في يده كل الحرص، وكأنها قنبلة زمنية إذا حركها ستنفجر. ~~وقبل أن يحين الحين يقبض على سلسلة الجرس؛ سلسلة لا بد قديمة أو موصولة بدوبارة، ثم تأتي ~~اللحظة فيجذب السلسلة، يجذبها بتؤدة وتقل وكأنه يفرغ الحكمة العليا في تمتماته ~~الثلاث. # وأول ما يسمع بعد الجرس من الأصوات هو: اخرس. بطل كلام. # وبهذا الأمر تقطع كل صلة للطلبة بأنفسهم ويخرسون، ويبدأ المدرسون الذين يفتشون على ~~الطابور في الكلام، ويخرج كلامهم طازجا على الصبح ومنتقى بعناية، بحيث لا تندس بينه ~~أبدا كلمة حلوة، يفرغون فيه كل ضيقهم باليوم الذي أصبحوا فيه مدرسين، وبالمهنة الصعبة ~~التي اختاروها لأكل العيش، وينتقمون من مشاكل الكادر والأمس وشتائم الحماة ومرض الطفل ~~وارتفاع أسعار الصوف. # ثم يظهر الناظر. # يطل على الطابور الصامت بوجه لا صباح فيه ولا خير، يحدق في الطلبة فيموت الطلبة، وفي ~~المدرسين فينكمش المدرسون، وفي الصمت فيقشعر الصمت. # ولا بد أن تكون لدى الناظر مفاجأة لا بد لها من مقدمة شتائم طويلة، ثم حديث عن النظام ~~مثلا، وكيف أنك لكي تدخل الجنة، إذا أردت دخول الجنة، فعليك أن تبدأ السير في الطابور ~~بالساق اليمنى، وأن تسير اثنين اثنين، وكيف أنه لكي تحل مسألة الجبر لا بد أن ترتب ملابسك ~~بنفسك في دولابك ms75 الخاص ، وكأن لدى كل طالب ملابسه الخاصة، بل دولابه الخاص. # أو يتحدث عن الطالب الذي ضبط وهو يسرق البيض من المطعم، وأحيانا لا يكتفي بالحديث، ~~فيخرج الطالب نفسه ليريه للجميع، ويجعل منه أمثولة وعبرة. # أو ينبه تنبيها صارما قاطعا أن كل من لم يدفع المصاريف عليه بمغادرة الطابور؛ ومن ثم ~~المدرسة كلها في الحال. # ووجهه طوال حديث الصباح جامد عابس. والطلبة واقفون الدقائق الطوال كالخشب الخائفة ~~المسندة لا يعرفون سببا لذلك الرعب المفاجئ، ولا سرا للعبوس الشديد في وجه الناظر، هل ~~مات له قريب؟ غير معقول هذا؛ فهو كل يوم عابس، وليس معقولا أن يموت له كل يوم قريب، عسى أن ~~يموت له كل يوم قريب! # ثم يدور الطابور إلى اليمين أخيرا وإلى اليسار، وكل يبتلع ريقه ويتحسس رقبته ويتنفس ~~الصعداء؛ فقد نفذ هذه المرة ولم يكن الطالب الذي سرق البيض، ولم يخطئ ويبدأ المشي بالساق ~~اليسرى، ولكن تراه كيف ينفذ في المرات القادمة؟ # ومن خلال ممرات كئيبة طويلة متشابهة يدلفون إلى الفصول؛ فصول مكررة حيطانها طويلة هيفاء ~~عالية، ولونها تصر الوزارة على اختياره حشمة لينظر الناظر إليه ويرسي في قلبه ~~الوقار. # وما تكاد الحياة تدب في الفصل، وتتحرك التخت والمقاعد، ويذهب عنها الروماتيزم الذي ~~يصيب مفاصلها كل ليل، حتى يقبل المدرس فجأة، لا بد أن يقبل المدرس فجأة - وكأنه ضابط مباحث ~~في طريقه إلى ضبط واقعة - لعله يسعد ويحس بالسلطة حين يحدث ظهوره المفاجئ سكوتا مفاجئا، ~~يقبل ولا ينفرج وجهه مخافة أن تضيع الهيبة. ~~- قيام! # وإذا بالفصل كله يتلكأ ويقوم، ولا يدري لماذا يقوم. # ويحدق المدرس طويلا في تلاميذه وكأنهم يحرزون مواد ممنوعة وهو يفتشهم بعينيه تفتيشا ~~دقيقا. فإذا عثر على الهفوة كان بها، وإلا فإنه يقول: جلوس! # يقولها قرفانا وكأنه يمن عليهم بفضل من عنده. # وتتوالى الحصص ويتوالى المدرسون، وكل منهم كالجهاز المعبأ الذي يفرغ شحنته بمقدار؛ إذ ~~هو الآخر ليس أكثر من موظف حكومة له عمل يؤديه ثم يمضي. وكل ما يسمعه الطلبة أوامر تترى، ~~وأشياء غريبة ms76 تخرق أسماعهم، وتتفجر كالصواريخ في عقولهم. سمع يا ولد ما قاله الكميت في ~~وصف ناقته. اذكر ثلاثين شرطا من شروط الصلح في معاهدة واق الواق، وإذا نسيت شرطا فبعصاية، ~~ما اسم البلاد التي تزرع الشوفان (والمدرس نفسه لا يعرف ما هو الشوفان)؟ تخيل أنك على خط ~~عرض 23، وتريد أن تسافر إلى خط طول 85 بطريق البر، فأي الطرق تسلك؟ أعرب «أبيت اللعن»، ما هي ~~حالة الطوارئ التي يصح فيها رفع المستثنى بإلا؟ تكلم على لسان طائرة تريد أن تفاخر السيارة ~~وتتيه عليها، فماذا تقول؟ # ومع توالي الحصص وتنوع الدروس تتنوع الشتائم، وتتنوع كذلك لغتها؛ فهناك شتائم فرنسية ~~رقيقة، وشتائم نحوية فصحى، وشتائم كيميائية مركبة ومخلوطة، وأقل ما فيها: نزل إيدك يا ولد، ~~وشك في الحيط يا أحمق، اطلع بره يا صعلوك، التفت يا لوح، حل المسألة يا أغبى خلق الله. ~~وأحيانا يفيض الكيل ولا يعود ثمة بد من المواجهة السافرة، فتنطلق الكلمات: ما تنحرق إنت ~~وهوه. اتنيل يا شيخ. اتلهي. إنتم تنفعوا إنتم؟ إنتم بلاوي. إنتم رمم. إنتم جايين هنا ليه. ~~إنتم ما لكم ومال المدارس؟ روحوا لموا سبارس. # حتى الكراريس، كانت هي الأخرى تشاطر الناظر والمدرسين وجلدتها مملوءة بالأوامر والنواهي. ~~لا تبلع الطعام. لا تمضغ. لا تستنشق الهواء. لا تمش. لا تجلس. لا تتحدث. عليك بالحلم. عليك ~~بالطاعة. عليك بإمساك نفسك ساعة الغضب. # ورغم هذا النظام الصارم، ورغم أن المدرسة كانت على حد قول الناظر تمشي كالساعة، ونسبة ~~الحضور أعلى النسب، وأحذية الطلبة كلها تلمع، والحوش الواسع خال تماما من الأوراق. # ورغم أن الأولاد - على حد قول أولياء الأمور - كانوا لا يلعبون، ويذاكرون؛ إذ هم واقفون ~~لهم بالمرصاد. ما تكاد المدرسة تتركهم حتى يتسلمهم الأولياء، والويل للتلميذ إذا تأخر بره، ~~أو لم يقض الساعات منكبا على كتبه يتلو ويذاكر. رغم هذا إلا أن الطلبة كانوا لا ينجحون، ~~ويفشلون بالمئات والعشرات، ويقابلون الدراسة باستهتار، وينامون في الحصص، وإن واتاهم الأرق ~~أقاموا حفلات ترفيه، وتبادلوا القرصات والزغدات والضرب على القفا، وكتابة الخطابات ms77 المملوءة ~~بالشتائم، وتكوين العصابات، وشرب السجائر، وسب المدرسين، ومزاولة العادات في السر ~~والعلن. # وكان الطلبة أيضا ورغم كل شيء يتساءلون هم الآخرون: لماذا يرسبون؟ ولماذا يكرهون ~~المدرسة؟ ولماذا يعاكسون المدرسين؟ ولماذا يقضون أتعس الأوقات مع أنهم يسمعون الناس تقول إن ~~أحلى أيام العمر هي الدراسة؟ # كان الناظر والمدرسون يحاولون تفسير الأمر، ويقولون إنهم طلبة هذه الأيام ومساخرهم ~~وتفاهتهم. # وكان أولياء الأمور يقولون: هي حكمة الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب. وكان الطلبة ~~يقولون: بل هو الحظ، بضربة حظ تنجح، وبضربة أخرى تفشل، يا رب كثير من الحظ يا رب، كثر من ~~الحظ. # وذات يوم أتيح لطلبة ثالثة رابع أن يمروا بتجربة. # كان مدرس الرياضة البدنية عملاقا ضخما رهيبا، كتفه تهد الجبل وزنده في حجم الفخذ، ~~وقبضته تحيل الرءوس إلى جماجم، ولم يكن في حصته مكان للترفيه أو العبث؛ فقد كان طلبة ثالثة ~~رابع كغيرهم من الفصول يخافونه، ويخافون إذا عن لواحد منهم أن يعبث في حصته ألا يرسله ~~كالعادة إلى المشرف أو يخرجه من الفصل مثلا، وإنما يتولى العقاب بنفسه، وقد يتولاه بقبضته، ~~والكف عن العبث بالتأكيد أسلم نتيجة من عقاب يتولاه مدرس الألعاب بقبضته. # كان يأتي، وقبل أن يدخل الفصل يكون الفصل واقفا كله، وبإشارة منه يخرج الطلبة عن ~~الأدراج، وبإشارة أخرى يصطفون ويهبطون السلالم دون أن ينبس أحد ببنت شفة، وفي سكون تام ~~يخلعون الجاكتات، ثم يتسلمهم العملاق بتمريناته؛ ثني مد، رفع، ضم، افتح صدرك، شد وسطك، اخبط ~~الأرض بدماغك، وشك فدق، عايز الجزمة تطلع شرار. # وهكذا إلى نهاية الحصة، حتى تتدلى الألسنة من الأفواه وتتجمع الرغاوي، وتتشقق الحلوق ~~وتتقطع الأنفاس، ولا يجرؤ واحد أن يقول آه أو لا. # عقل سليم جسم سليم، هكذا كان يقول. رياضة يعني رياضة. عايزين رجالة مش حريم. دلع مش عايز ~~دلع. كلمة واحدة أقطم رقبتك. بص قدامك. لم نفسك. تخشب. التمرين الأول ابتدي. # وكان الطلبة حين تنتهي الحصة يقضون بقية اليوم في ترميم أنفسهم والتماس النقاهة، ويقضون ~~بقية الأسبوع في تمن ms78 أن ينسف الطوربيد مدرستهم على الأقل قبل حلول حصة الألعاب ~~التالية. # وفوجئ الطلبة ذات يوم بخبر نقل مدرس الألعاب ومجيء مدرس جديد. ولم يتحمس الطلبة للخبر؛ ~~فكل المدرسين كانوا لديهم سواء. كلهم رجال كبار حكماء معصومون من الخطأ وأذكياء جدا، ~~ومتعلمون بغزارة، وبعيدون عنهم تماما هم الصغار الحمقى الجهلاء الذين تكمن فيهم كل ~~العيوب، والذين لا يفعلون سوى ارتكاب الأخطاء تلو الأخطاء. # وجاءت حصة الرياضة البدنية. # ودخل الحصة شاب لا لحية له ولا شارب، ولا يرتدي رباط عنق، وإنما وضع ياقة القميص فوق ~~الجاكتة وفتح صدره. وعادة المدرسين أن تكون الياقة منطبقة على العنق وعلى رباط العنق تمام ~~الانطباق. # وغادروا الفصل، وهبطوا السلالم، وخلعوا الجاكتات، ووقفوا كما كانوا يقفون، وراحوا يؤدون ~~التمرين الأول كما كانوا يؤدونه أيام المدرس السابق. # غير أنه لم تكد تمضي دقيقة واحدة حتى طلب منهم المدرس أن يتوقفوا. وفعلوا هذا مستغربين، ~~وقال المدرس: اسمعوا يا جماعة، أنا أحب الصراحة وانتم واضح من حركاتكم إن ما عندكوش أي حماس للعب. ~~فبصراحة مين فيكم يحب يلعب؟ اللي عايز يلعب يرفع إيده. # لم يكن المدرس نفسه يعلم ماذا دعاه لإلقاء هذا السؤال، لعله خاطر عن له، لعله لم ~~يقصد. # ورفع الطلبة كلهم أيديهم مخافة أن تكون خدعة مقصودا بها كشف الذين لا يريدون؛ فمدرس ~~الفرنساوي عودهم أن يبتسم للواحد منهم ويعطيه الزيرو. # وفوجئوا بالمدرس ينقبض وجهه ويقول: أنا لا أحب الكذب أبدا، وغير معقول أن كلكم عايزين ~~تلعبوا. أنا أحب العلاقة بيننا يكون أساسها الصدق. اللي عايز يلعب من فضلكم يرفع إيده. # بدا الأمر جدا لا هزل فيه، إن المدرس يريد حقيقة أن يعرف رأيهم، وكان هذا غريبا؛ فهم ~~لم يعتادوا أبدا أن يؤخذ رأيهم في شيء. إنهم منذ ولدوا وثمة قوى تدفعهم دفعا لا يعرفون ~~إلى أين، ولا يسألهم أحد ماذا يحبون أو ماذا يكرهون. كل الناس تقول: هذا لمصلحتهم، ولا أحد ~~يخطر له أن يسألهم عن رأيهم في مصلحتهم. # ونظر الطلبة بعضهم إلى بعض، وتولاهم شيء غير ms79 قليل من الاستهتار، ماذا يحدث؟ لقد سألهم ~~رأيهم، فلماذا لا يقولون الحقيقة؟ # وأنزل الطلبة كلهم أيديهم، كلهم ما عدا واحدا أو اثنين من هؤلاء الطلبة، الذين يقضون ~~العمر خائفين من العقاب ومن احتمالاته، ولكنهم وجدوا الكل لا يريدون، أنزلوا أيديهم هم ~~الآخرون خوفا من العقاب الطلبة لهم هذه المرة. # وعادت الابتسامة إلى وجه المدرس وقال: برافو! أهو كده، أنا أحب الصراحة. # برافو! لا بد أن ذلك المدرس مجنون أو به هفة. قال الطلبة هذا لأنفسهم وهم يحسون بفرحة ~~غامرة وعيونهم تكاد تدمع. والحقيقة أن فرحتهم كان لها سبب آخر، كانوا وهم يتبادلون النظرات ~~وينزلون أيديهم يرتعشون من الخوف؛ فقد كان كل منهم يعبر عن رغبته، وكان يحس أنه يرتكب إثما ~~عظيما، فإذا بالمسألة لا جريمة فيها، وإذا بالارتباك يزول، وإذا بالفرح يعصف بهم؛ فقد ~~استطاعوا آخر الأمر أن يقولوا شيئا، يقولوا لا ولا يشنقون، فلا بد أن المدرس مجنون ولا بد ~~أن به لوثة. # وسكت المدرس قليلا، ثم عاد يقول: غريبة! إجماع رهيب على كره الرياضة. ليه؟ أمال بقية ~~العلوم بتكرهوها ازاي؟ # وتطوع أكثر من طالب بالإجابة والتفسير. وكانوا يتحدثون بنبرات لا اضطراب فيها ولا وجل. ~~كانت ثمة ثقة قد ملأت صدورهم، وأحسوا ربما لأول مرة أنهم آدميون لهم الحق في الكلام. # واندفع ثلاثة طلبة أو أربعة يطلبون اللعب، كان ما يدفعهم في الحقيقة هو حماسهم للمدرس ~~الشاب ذي الابتسامة، وليس رغبة في مزاولة اللعب. # وقال المدرس لبقية الطلبة وهو يضحك: افرنقعوا. # وهلل الطلبة وكأنهم أفرج عنهم بعد طول سجن. ودون وعي راحوا يضحكون ويتعانقون ويتضاربون، ~~وانسحبت أقلية ضئيلة إلى المظلة، ورقدت على الدكك قائلة: وآدي نومة! # وجرى طالب وراء آخر وشنكله. # ووقفت الأغلبية وقد ارتدت ستراتها تتبادل اللكمات الخفيفة، وتتفرج على المدرس وهو يؤدي ~~التمرين الأول مع المجموعة الصغيرة التي أرادت اللعب. # وقفوا يتفرجون بكل استهتار، يضحكون على المدرس وعلى الأخطاء التي يقع فيها زملاؤهم ~~ويدردشون. # كانوا يحسون بانتعاش وكأنهم يشمون أيدروكسيد أمونيوم حديث التحضير، أن يحس الإنسان أنه ms80 ~~ليس مرغما، أن يكون في وسعه ألا يفعل، أن يصبح في استطاعته أن يختار؛ أشياء ما كانت تخطر ~~لهم على بال. # وحين كانوا يصعدون السلالم بعد انتهاء الحصة، كانوا لا يزالون غير مصدقين أن ما حدث كان ~~حقيقة، وأنهم استطاعوا ولو لمرة واحدة في العمر أن ينقذوا من حصة الألعاب. # ومضى اليوم ولا حديث لهم إلا عن المدرس الظريف الشاب، الذي أصابته لوثة أنقذتهم من ~~الرياضة والأشغال الشاقة. # وطوال الأسبوع ظل كل منهم في شغف حلول حصة الألعاب التالية ليعفى من الألعاب. # وجاءت الحصة، وجاء المدرس حليقا مبتسما، وياقته مفتوحة أيضا. وقبل بدء التمرين الأول ~~أكثر من ابتساماته، وقال: هيه يا جماعة، اللي عاوز يلعب يرفع صباعه. # ورفعت أقلية ضئيلة أصابعها، بينما وقفت الأغلبية في أماكنها لا ترفع أيديها ولا تتحرك، ~~وكل منهم يريد أن يعرف ما سوف يفعله الآخرون. # ولما طال الوقوف قال طالب لآخر، وهو يدفع عنه يده التي قد امتدت تهوشه: أنا ح العب يا عم. # وسرت همهمة. تعالت، ثم تبلورت في رأي: وإيه يعني؟ نلعب، وإذا ما عجبناش نبطل لعب. هو مش قال كده؟ # وهكذا ارتفعت أصابع الأغلبية. # وما كادت تمضي دقيقة حتى تثاءب واحد وقال: أنا تعبت، كفاية بأه. # وانسحب، ولكنه لم يذهب بعيدا، بل وقف يتفرج، وحين وجد أن أحدا لم يتبعه تردد برهة، ~~وتثاءب مرة أخرى ثم عاد إلى مكانه. # ولم ينسحب بعده أحد، بل كلما أحس أحدهم أن في استطاعته أن يتوقف إذا أراد، كلما أحس بهذا ~~ازداد حماسة وشعر بطاقات هائلة تنفجر من جسده. # وبلغ التنافس أشده. # وتعالت أصوات تهيب بالمدرس أن ينتقل إلى تمرين أعنف. # وانتهت الحصة، ودق الجرس والحماس لا يفتر. # وتأخرت ثالثة رابع عشر دقائق في الحوش بعد الحصة. # ووقف الناظر في ذلك اليوم يلعن ويزمجر ويوبخ، ويتساءل مغيظا عن سر ذلك الحماس المفاجئ ~~للرياضة البدنية. ms81