######OpenITI# #META# URI: 1450BadrDinMustafa.DurubMaBacdHadatha.Hindawi24142969 #META# Tags: philosophy #META# ID: 24142969 #META# Title: دروب ما بعد الحداثة #META# AuthorID: 84747920 #META# Author: بدر الدين مصطفى #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # تمهيد‏ # 1 - ما بعد الحداثة‏ # 2 - القيم ما بعد الحداثية‏ # 3 - التجربة الجمالية ما بعد الحداثية‏ # 4 - نماذج من فلاسفة ما بعد الحداثة (رولان بارت - ميشال فوكو - جيل دولوز - جان بودريار)‏ # ملحق ختامي‏ # تمهيد‏ # 1 - ما بعد الحداثة‏ # 2 - القيم ما بعد الحداثية‏ # 3 - التجربة الجمالية ما بعد الحداثية‏ # 4 - نماذج من فلاسفة ما بعد الحداثة (رولان بارت - ميشال فوكو - جيل دولوز - جان بودريار)‏ # ملحق ختامي‏ # | دروب ما بعد الحداثة # | دروب ما بعد الحداثة # تأليف # بدر الدين مصطفى # | تمهيد # لم يكن مفهوم ما بعد الحداثة في بداية ظهوره يحيل إلى موقف نظري محدد أو نسق قيمي ما يكشف ~~عن وعي بتحولات جذرية مر بها المجتمع الغربي، بقدر ما كان يصف بعض التغيرات الفنية التي ~~تمثلت في معمار فانتيري وجونسون، وموسيقى كايج وفن وارهول ورستشبرج، وروايات بنشن وبالارد، ~~وأفلام مثل «المخمل الأزرق» # Blue Velvet ~~(1986م) وميتركس # Matrix ~~(1999م). # لكن هذه التحولات سرعان ما أخذت تبحث عما يمكن أن يمثل شكلها الواعي، ليوحدها نظريا، ~~ويؤسسها فلسفيا. وقد استطاعت أن تجد في فلسفة كل من نيتشه وهيدجر ما يمكن أن يكون تأصيلا ~~لحركتها. إلا أن منظري ما بعد الحداثة، على اختلاف مشاربهم، ظلوا متمسكين بالتمييز بين ~~صيغتين متباينتين لما بعد الحداثة؛ صيغة وصفوها بالصيغة «القوية» اعتبروا أنها تمثلت في ~~القراءة ما بعد البنيوية لنيتشه، وصيغة نعتت ب «الرخوة» اعتبروا أنها انحدرت من القراءة ~~التأويلية لهيدجر. وقد اعتبروا أن الصيغة الأولى صيغة تفكيكية تركز على نقد نظرية المعرفة ~~الخاصة بحركة التنوير، بينما تركز الثانية على إعادة التركيب وعلى محاولة بناء نسق بديل ~~للقيم. وعلى الرغم من هذا التباين «المفتعل»، فإنه يمكننا أن نرد أسس ما بعد الحداثة إلى نظرة ~~إلى الزمان ومفهوم عن تولد المعنى نجد أسسه في جينيالوجيا نيتشه ونزعته المنظورية التي تبدي ~~نفورا كبيرا من كل نزعة شمولية، وترفض إمكانية استناد المعرفة إلى أية «حكاية كبرى». # من هنا كان النقد اللاذع الذي تعرض له مفهوم التمثيل عند هؤلاء، ورفضهم القوي أن تتمكن ~~نظرية بعينها من عكس غنى الواقع، وعدم قبولهم بأن يكون وراء ms001 المعرفة ذات إنسانية عقلانية ~~موحدة، ووراء المجتمع قوة موحدة وتماسك يربط أجزاءه «فلا عجب إذا أن تحل مفهومات التعددية ~~والاختلاف والانفصال والتشظي عند هؤلاء محل مفهومات العلية والوحدة والاتصال.» # 1 # وقد مثلت هذه المفاهيم انقلابا على الفكر الحداثي الشمولي وتوصيفا لواقع ~~متشابك لا تحكمه قواعد منطقية، بل تحكمه الصيرورة، وأحيانا الفوضى الخلاقة كما ذهب إلى ذلك ~~الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز # G. Delueze ~~. # نحاول عبر هذا الكتاب أن نعرض لأهم الأسس الفكرية التي تأسس عليها المشروع الغربي ما بعد ~~الحداثي، فنرصد في الفصل الأول الظروف والتحولات المجتمعية التي أدت إلى ظهور إطار فكري ~~مختلف عن ذلك الذي كان سائدا في مرحلة الحداثة، التي يؤرخ لها بالفترة الممتدة من القرن ~~الخامس عشر وحتى منتصف القرن العشرين. كما نسعى في الفصل الثاني إلى التأصيل النظري لما بات ~~معروفا باسم حركة ما بعد الحداثة؛ وذلك عبر تتبع مصادرها الفكرية ومبادئها التي انطلقت ~~منها. وفي الفصل الثالث، الذي يحمل عنوان التجربة الجمالية ما بعد الحداثية، نرصد تجليات ما ~~بعد الحداثة في الفنون المختلفة. ثم ننتقي في الفصل الرابع أربعة نماذج مختارة من فلاسفة ما ~~بعد الحداثة، كان لهم التأثير الأكبر في بلورة أفكار تلك الحركة؛ رولان بارت، وميشال فوكو، ~~وجيل دولوز، وجان بودريار. ثم نختم هذا الكتاب بترجمة لنص من النصوص المهمة التي قدمت رصدا ~~وشرحا متميزا لتلك الحركة، وهو نص للمفكر المصري الأمريكي إيهاب حسن بعنوان سؤال ما بعد ~~الحداثة. # الفصل الأول # | ما بعد الحداثة # الدوافع والمنطلقات # تحولت ما بعد الحداثة Postmodernisme # منذ ثمانينيات القرن العشرين إلى مفهوم إشكالي حاضر ~~باستمرار، وإلى ساحة صراع للأفكار المتناقضة والقوى المختلفة لا يمكن بحال تجاهلها. وبحسب ~~ناشري مجلة «بريسي Précis ~~»، فإن «ثقافة المجتمع الرأسمالي المتقدم قد خضعت لنقلة حاسمة من حيث ~~بنية المشاعر فيها.» # 1 # وهذه النقلة لزمتها بطبيعة الحال نقلة أخرى على الصعيد الثقافي يلخصها هويسنز # Hyssens # قائلا: «إن ما يظهر الآن [على الساحة الثقافية] إنما هو في الحقيقة نتاج تحول ثقافي ~~تراكم ببطء في المجتمعات الغربية.» # 2 # وهو تحول نجح مصطلح «ما بعد ms002 الحداثة» في إضفاء صيغة مفهومية عليه. هذه ~~التحولات ومدى عمقها هما بالتأكيد موضع نقاش، إلا أن التحولات نفسها هي أمر واقع فعلا، ~~يشهد عليها تغير الوقائع والمناهج والنظريات. وكما يقول جيمسون # F. Jameson ~~«ما بعد الحداثة ~~ليست مجرد كلمة أخرى لوصف أسلوب معين، وإنما - على الأقل - مفهوم له وظيفة زمنية يربط بين ~~ظهور نوع جديد من الحياة الاجتماعية ونظام اقتصادي جديد.» # 3 # سنحاول في هذا الفصل تتبع الظروف والعوامل التي أدت إلى ظهور نمط فكري جديد، له خصائص ~~مميزة، أدت إلى وصفه ب «الفكر ما بعد الحداثي». لهذا سنقف عند دوافع ومنطلقات تلك الحركة، ~~محاولين تحديد المقصود بما بعد الحداثة وما بعد التحديث والشرط ما بعد الحديث ... إلخ. # Demolition of Pruitt-Igoe (1972). ~~(1) ما بعد الحداثة: النشأة والمصطلح # بدأت إرهاصات ثقافة ما بعد الحداثة في العالم الغربي كانعكاس مجتمعي من نقطة الوعي ~~بمشكلات الحداثة، وعدم مقدرتها على مسايرة الواقع بشروطه الجديدة، اقتصاديا وسياسيا ~~واجتماعيا. والحال أننا لا بد أن نقرأ ما بعد الحداثة في ضوء مبررات ولادتها في أرضها الأم ~~بوصفها انعكاسا لهذه الشروط الجديدة (الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية) في المجتمعات ~~الغربية، وهو ما يكرس خصوصية الظاهرة بحكم نشأتها في الغرب تحديدا. ومن ثم لا ينبغي ~~بالضرورة خضوع المجتمعات الأخرى التي لم تمر بتحولات مشابهة لهذا النمط من الفكر الجديد. ~~يجب إذا النظر إلى تلك الثقافة باعتبارها نتيجة طبيعية لما مر به الغرب من تناقضات ~~وانقسامات في الأيديولوجيات الحداثية، لا سيما في علاقة المركز بالهامش وما نشأ عنها من قيم ~~الاستغلال والاستعمار، وغياب المساواة، وسيطرة النخبة ... إلخ. ومن ثم من الطبيعي أن تنشأ، ~~كنوع من ردة الفعل، اتجاهات مضادة، تنادي بسقوط الأيديولوجيات، والسرديات الكبرى، ونهاية ~~الميتافيزيقا، وتطالب بالخروج عن كل قياس معياري، وترسيخ مبدأ الانتماء الفردي، وربما تشيع ~~أيضا ملمح الثقافة السلعية الاستهلاكية، ورفض مقولات وفرضيات عصر التنوير، وخطاب الحداثة ~~المتمثل في الإيمان المطلق بالعقلانية الشمولية. # 4 # وعلى الرغم من خصوصية الظاهرة ما بعد الحداثية، انطلاقا من أن كل مجتمع يفرز شكله وقيمه ~~الأكثر ملائمة له، عبر احتياجاته وشروط وجوده ms003 وتحولاته الراهنة ؛ فإن هذه الخصوصية تتلاشى ~~أمام سطوة ونفوذ «وسائل الإعلام» وثورة الاتصالات، بالإضافة إلى التأثير الذي تمارسه الفنون ~~المختلفة، لا سيما السينما، بحيث بات التأثر بمظاهر ونتاجات «ثقافة ما بعد الحداثة» من قبل ~~المجتمعات «ما قبل الحداثية» أمرا واضحا ومستشريا على كافة المستويات. هذا فضلا عن أن ~~المقارنة واردة أصلا بين قيم المجتمع «ما بعد الحداثي» وقيم المجتمعات «ما قبل الحداثية»؛ ~~يقول جياني فاتيمو # G. Vattimo ~~: «إن الثقافة الغربية مع نهاية الحداثة يسودها خطاب ميتافيزيقي ~~(خطاب التكنولوجيا)، وهي بذلك ليست أفضل من الثقافات ما قبل الحداثية التي يسودها خطاب ~~الأسطورة، وهي بهذا المعنى تهمش الإنسان وتقهره تماما كما تفعل مجتمعات الجنوب بإنسانها المهمش.» # 5 # على كل، فإن مراجعة سبل التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وهو موضوع ربما نوقش ~~كثيرا في الغرب، أمر ضروري لفهم كيف يشكل توجه بعينه إلى المستقبل مواقفنا واختياراتنا في ~~المرحلة التاريخية الحالية. وربما هذا الفهم يتطلب أيضا التوقف عند مفاهيم التحديث وما يخص ~~التقدم والتطور التاريخي من أفكار. وهذا ما سنحاول أن نعرض له تفصيلا. ~~(1-1) هل استنفدت الحداثة شروط وجودها؟ # المتأمل في تاريخ الفكر الغربي منذ بدايات عصر النهضة وحتى منتصف القرن العشرين يلاحظ أن ~~هناك معالم ثابتة حكمت تطور هذا الفكر، وظلت هي المحرك والدافع لمعظم أشكاله. هذه المعالم ~~اعتبرها البعض «شرط الحداثة» # La condition modernisme # بحيث ~~إنها تفصل وتسم المرحلة «الحداثية» عن المرحلة ما قبل «الحداثية». يقول جان بودريار # Jean Baudrillard ~~: «ليست الحداثة مفهوما سوسيولوجيا، ~~أو مفهوما سياسيا، أو مفهوما تاريخيا ... وإنما هي صيغة مميزة للحضارة، تعارض صيغة ~~التقليد؛ أي أنها تعارض جميع الثقافات الأخرى السابقة أو التقليدية. فأمام التنوع الجغرافي ~~والرمزي لهذه الثقافات، تفرض الحداثة نفسها وكأنها وحدة متجانسة، مشعة عالميا - انطلاقا من ~~الغرب. ومع ذلك تظل الحداثة موضوعا غامضا يتضمن في دلالته، إجمالا، الإشارة إلى تطور ~~تاريخي بأكمله، وإلى تبدل في طرق التفكير.» هذا التطور والتبدل يجعل من الحداثة - في نظر ~~بودريار - مفهوما غاية في «الالتباس»، يصعب معه الحديث عن قوانين ثابتة لها «بل فقط معالم». # 6 # هذه ms004 المعالم، على الرغم من تعرضها لتصدعات عديدة على يد بعض الفلاسفة، ظلت هي ~~الركائز التي يقوم عليها المشروع الفلسفي الغربي الحديث. لقد ذهب فوكو # M. Foucault # إلى أن ~~الفكر الأوروبي الحديث قد مر بثلاثة عصور متتابعة تتعاقب على أساس من «انقطاعات إبستمولوجية» ~~تنتقل بها المعرفة من حقبة إلى أخرى؛ أول هذه العصور هو «عصر النهضة» الذي يستمر من القرن ~~السادس عشر إلى منتصف القرن السابع عشر. وثانيها هو «العصر الكلاسيكي» الذي يؤرخ فوكو ~~بدايته بظهور اللحظة الديكارتية في أواسط القرن السابع عشر؛ وثالثها هو «العصر الحديث» الذي ~~يبدأ مع مطلع القرن التاسع عشر بظهور مفهوم «الإنسان» من حيث هو «ذات تاريخية» وذلك - وفقا ~~لفوكو - هو العصر الذي نشهد نهايته. # 7 # هذه المراحل الثلاث التي مر بها الفكر الغربي يضمها مصطلح «الحداثة»، وتتسم ~~جميعها بمعالم حددت موقف الإنسان من المعرفة، والعلم، والوجود: # تتميز الحداثة بتطوير طرق وأساليب جديدة في المعرفة، قوامها الانتقال التدريجي من المعرفة ~~التأملية إلى المعرفة التقنية. فالمعرفة التأملية تتسم بكونها معرفة كيفية، ذاتية وانطباعية ~~وقيمية؛ أما المعرفة التقنية فهي نمط من المعرفة قائم على إعمال العقل بمعناه الرياضي؛ أي ~~معرفة عمادها الملاحظة والتجريب والصياغة الرياضية. النموذج الأمثل لهذه المعرفة هو العلم ~~أو المعرفة العلمية، التي أصبحت نموذج كل معرفة. ومن هذا المنظور للمعرفة تكتسب مسألة ~~المنهج أهمية قصوى. فالمنهج هو تنظيم وتحقيق لعملية المعرفة، وطريق يؤدي إلى تحقيق التقدم، ~~ويقود إلى اكتساب القدرة على تملك الأشياء. والعقل من المنظور الحداثي يتسم بالأداتية؛ أي ~~أنه وسيلة لتقنين العالم الطبيعي، ومن ثم السيطرة عليه. ومبدأ العقل # principe de raison # هو ~~مبدأ السببية # Causalité ~~؛ قانون صارم تخضع له كل ظواهر الطبيعة. # لقد جلبت السيطرة العلمية على الطبيعة الوعد بالتخلص من الندرة والحاجة، وتعسف الطبيعة، ~~إلى الأبد. وجلب التخطيط العقلاني للتنظيم الاجتماعي ولأنماط التفكير، الوعد بالتحرر من لا ~~عقلانية الخرافة، والدين، والأسطورة، ومن الاستخدام المتعسف للسلطة، والتحرر كذلك من تسلط ~~الجانب اللاعقلاني داخل طبيعتنا البشرية. عبر مشروع كهذا فقط، يمكن أن تتحقق الخصائص الكلية ~~والثابتة والدائمة لكل البشر باعتبارهم ms005 بشرا. # وابتداء من القرن ال 18 - الذي عرف بعصر التنوير - سيبدأ فصل جديد من الإيمان المطلق ~~بالعقل وإطلاق طاقاته وقدراته في شتى ميادين المعرفة. إنه عقد انتصار قيم الحرية والعدالة ~~والديمقراطية والانفتاح. يقول كانط مجيبا على سؤال «ما التنوير؟»: «إن معنى التنوير خروج ~~الإنسان من تبعيته؛ أي أن يملك الإنسان شجاعة استخدام عقله بنفسه.» # 8 # لقد قبل فكر التنوير بقوة فكرة التقدم، وذلك الإعراض عن التاريخ والتقاليد التي تعتنقها ~~الحداثة. وقد كان ذلك الفكر بمثابة حركة علمانية ابتغت تحرير المعرفة من الأوهام والمقدسات ~~وتنظيم المجتمع في سبيل تحرير البشر من القيود؛ وفي هذا يقول كوندرسيه # Condorcet # خلال آلام ~~مخاض الثورة الفرنسية: «القانون الجيد لا بد أن يكون جيدا لكل إنسان، تماما كما أن القضية ~~الصحيحة هي صحيحة بالنسبة للجميع.» لقد كانت تلك الرؤية متفائلة بصورة مدهشة، وكما لاحظ ~~هابرماس # Habermas # فإن مفكرين، مثل كوندرسيه، كانوا «مأخوذين بتوقع مفرط مؤداه أن الفنون ~~والعلوم ستجلب، ليس فقط السيطرة على قوى الطبيعة، وإنما كذلك فهم العالم والذات، والتقدم ~~الأخلاقي، والعدالة في المؤسسات، بل والسعادة لبني البشر.» لذا يعرف هابرماس الحداثة بأنها ~~محاولة «لإنشاء العلم الموضوعي، وتأسيس الأخلاقيات العامة وقواعد القانون والفن المستقل، كل ~~وفق منطقه الداخلي الخاص.» في نفس الوقت أرادت الحداثة أن «تطلق الإمكانيات المعرفية لكل هذه ~~الميادين من أشكالها الخفية.» # 9 # كان مشروع الحداثة الغربي مشروعا طموحا، ينادي بحقوق إنسان عالمية، وقيم العقل ... العقل ~~أعدل الأشياء قسمة بين الجميع، قيمه ثابتة لا تتغير، كلية شمولية، صارمة تصلح للتطبيق في كل ~~زمان ومكان. وعلى الرغم من ذلك، فقد جاء القرن العشرون ليقلب كل قيم عصر التنوير رأسا على ~~عقب. وعبر الحربين العالميتين، وخطر الفناء النووي والمد الاستعماري الغربي، حكم على مشروع ~~التنوير أن يتحول إلى عكس ما يعلنه، وأن يحيل مطلب التحرر الإنساني إلى نظام اضطهاد عالمي ~~باسم تحرير البشر. تلك كانت الأطروحة الهامة التي تقدم بها هوركهايمر # M. Horkheimer # وأدورنو # T. Adorno # في عملهما «ديالكتيك التنوير» # Dialektik der Aufklärung # الصادر عام 1947م. لقد حاولا ~~البرهنة، وفي الذهن تجربة ألمانيا هتلر، وروسيا ستالين؛ على ms006 أن المنطق الذي يقبع خلف ~~عقلانية التنوير هو منطق هيمنة واضطهاد. والتلهف إلى السيطرة على الطبيعة جلب معه السيطرة ~~على البشر، ولم يكن يمكن أن يوصل ذلك في النهاية «إلا إلى كابوس قهر للذات». # 10 # والسؤال الآن هو: هل كان مشروع التنوير، أم لم يكن، محكوما منذ البدء بالإفضاء ~~إلى مثل هذا العالم الكافكاوي؟ وهل كان، أم لم يكن، سيقود عاجلا أم آجلا، إلى هذا الخراب ~~وتلك الحروب التي لحقت بالبشرية؟ وهل تبقى فيه ما يمكن استلهامه والبناء عليه؟ # انطوى فكر التنوير، بالطبع، على لائحة طويلة من المشكلات الصعبة، وعلى قدر غير قليل من ~~التناقضات. وفي الوقت نفسه تبدو أهدافه نفسها عصية على التحقيق، على نحو دقيق، إلا عبر ~~مشروع «طوباوي» مثالي، وقد بدا هذا المشروع قائما على الاضطهاد بالنسبة للبعض، بينما مثل ~~للبعض الآخر نموذجا للتحرر. لكن السؤال الذي طرحه هذا المشروع، والذي لم يكن هناك مفر من ~~مواجهته حتى لو تم هذا بعد حين، هو: من يملك حق إعلان سلطة العقل العليا؟ وكيف تحول ذلك ~~العقل إلى سلطة ملموسة؟ # مع مطلع القرن العشرين كان قد تبلور في هذا النقاش موقفان نقديان رئيسان، رغم كونهما ~~متعارضين: # الأول: عند ماكس فيبر # M. Weber # الذي يقول: «بعد أن زالت الأقنعة وتبدت الحقيقة، تبين أن ~~تراث التنوير إنما قام على انتصار العقلانية الأداتية ذات الأغراض المحددة. هذا الشكل من ~~العقلانية حفر عميقا في جملة حياتنا الاجتماعية والثقافية، ومن ضمنها البنى الاقتصادية، ~~والقوانين ... وحتى الفنون. وعليه فلا يقود نمو العقلانية الأداتية إلى تحقيق ملموس للحرية ~~الشاملة، وإنما إلى إيجاد «قفص حديدي» من العقلانية البيروقراطية لا فرار منه.» # 11 # إذا أمكن قراءة تحذير فيبر - يقول هارفي # 12 ~~- كما لو كان آية ننقشها على شاهد قبر عقل التنوير؛ فإن هجوم نيتشه المبكر على ~~مقدماته الأساسية إنما كان إحدى غضبات آلهة الإغريق: «تحت سطح الحياة الحديثة المغطى ~~بالمعرفة والعلم، تكمن قوى دافعة بربرية، بدائية، وخالية من كل أثر للرحمة.» فكل صور ~~التنوير المتعلقة بالحضارة، والعقل، والحقوق الكلية، والأخلاق انتهت إلى لا ms007 شيء. وما يدعوه ~~نيتشه ب «أزمة الزمن الحاضر» و«إفلاس الزمن الحاضر» ودعوته إلى «إدارة الظهر إلى العصر»، ~~ومعاملة الحاضر معاملة ملؤها «القسوة والتجبر»؛ لا ينفصل عن حديثه عن «افتقاد الزمن الحاضر ~~لكل قيمة أيا كان شأنها.» # 13 # لقد نشأ التحول في نبرة الحداثة عن الحاجة للتصدي للحس بالفوضوية وعدم النظام واليأس ~~الذي بذره نيتشه في زمن حفل بالحراك الصارخ والتوتر وفقدان الاستقرار في الحياة السياسية ~~والاقتصادية، وهو اضطراب تشبثت به وأسهمت فيه الحركة الفوضوية التي سادت في القرن التاسع ~~عشر وبدايات القرن العشرين. وتلازم ذلك مع إعلاء الرغبات الجنسية والنفسانية واللاعقلانية ~~(من النوع الذي حدده فرويد # Freud # ثم تابعه كليمت # Klimt # 14 # في تداعياته الفنية الحرة) التي أضافت بعدا آخر إلى الفوضى القائمة. لقد ~~كشف هذا الزخم الدافق من الحداثية أنه من المستحيل تقديم العالم في لغة واحدة. والفهم ~~الحقيقي إنما يبنى من خلال الكشف عن زوايا العالم المتعددة. كانت إبستمولوجيا الحداثة، ~~باختصار، تدفع بقوة نحو تعدد الرؤى النسبية، في الكشف عما ظل يعتقد أنه الطبيعة الحقيقة ~~لواقع قائم متجانس، رغم ما فيه من تعقيدات، يقول فرويد: «إن ما نسميه بحضارتنا هو الذي ينبغي ~~أن نحمله إلى حد كبير تبعة بؤسنا، وإن التخلي عن هذه الحضارة للعودة إلى الحالة البدائية ~~سيكفل لنا قدرا من السعادة أكبر بكثير ... كيف انتهى الأمر بعدد كبير من المخلوقات البشرية ~~إلى الأخذ - على ما في ذلك من غرابة - بوجهة النظر المعادية للحضارة تلك؟ أعتقد أن استياء ~~دفينا، من منشأ ناء للغاية، كان يتجدد في كل طور من أطواره، هو الذي حث على تلك الإدانة، ~~التي كانت تتكرر بانتظام، بفضل ظروف تاريخية مؤاتية.» # 15 # هذه الروح الانهزامية النكوصية التي يتحدث بها فرويد كانت هي السائدة في مطلع القرن ~~العشرين، وتبدو كطرف نقيض للخطاب الحداثي التنويري الشمولي. ولنقرأ توصيف ~~مارشال بيرمان # M. Berman # في كتابه «كل ما هو صلب قد تبخر في الهواء» # All that is Solid Melts into Air ~~، وعنوان الكتاب هو إحدى جمل البيان الشيوعي لماركس، يذهب مارشال بيرمان إلى «أن الحداثة ~~تحتوي على تناقضاتها الداخلية؛ فأنماط الفكر ms008 الحداثي قد تتحول إلى سلفية جامدة يصيبها ~~التقادم؛ لأن أنماطا من الحداثة قد تحتجب لأجيال طويلة دون أن تخلفها أنماط بديلة.» ويرى ~~بيرمان أن المشروع الحداثي قائم على فكرة توحيد البشرية وتجاوز الحدود والاختلافات «لكنها ~~وحدة أضداد، وحدة اللاوحدة؛ فهي تحيلنا جميعا إلى خضم تيار من العزلة المتزايدة والولادة ~~من جديد، من الكفاح والتناقض، من الغموض والقلق العميق. فأن تكون حديثا هو أن تكون جزءا ~~من عالم حيث يكون.» كما يقول ماركس: «كل ما هو صلب قد تبخر في الهواء.» # 16 # لقد أصبح واضحا آنذاك أن مأزق الحداثة الحقيقي هو أنها تبنت شعارات غير قابلة للتحقيق ~~في مجتمع تسيطر عليه الآلة الرأسمالية ... وقد وجد بعض نقاد الحداثة # 17 # في قصة فاوست # Faust # لجوته # Goethe # معبرا جيدا عن المأزق الحداثي: ففاوست هو ~~البطل الملحمي المستعد لهدم الخرافات الدينية، والقيم التقليدية والتقاليد، من أجل بناء ~~عالم جديد شجاع من رماد العالم القديم. ولهذا يسعى فاوست، ومعه كل الآخرين (بمن فيهم ~~الشياطين)، بالفكر والعمل، من أجل بلوغ الحد الأقصى من التنظيم، وصولا إلى السيطرة على ~~الطبيعة، وخلق عالم جديد، رائع وسام، يفجر ويستوعب كل الطاقات الكامنة ... عالم كفيل بتحرير ~~البشرية من الفاقة والحاجة (التي هي نفسها، لو لاحظنا، نفس أهداف المشروع الحداثي). ولإظهار ~~إرادة التغيير هذه، لا يتورع فاوست، رغم ما يبديه من رعب، عن ترك شياطينه تقتل زوجين ~~متحابين طاعنين في السن، يعيشان في كوخ صغير على شاطئ البحر، لا لسبب إلا لكونهما ببساطة لم ~~يعودا ملائمين للعيش طبقا لتصميم العالم الجديد؛ هذا هو مأزق الحداثة كما تصوره جوته في ~~فاوست. # يضاف إلى ما سبق تنامي وتضخم الرأسمالية العالمية، وبحسب دولوز، # 18 # فإن آثار هذا التضخم قد انعكست على البيئة الخارجية، بحيث أضحى ما يطلق عليه ~~تدمير بيئة الكرة الأرضية # La destruction de l’environnement de la terre # قد اقترب من ~~نهايته. أما آثار هذا التضخم على الإنسان فهي عديدة، أهمها البطالة والفقر وسيطرة ~~التكنولوجيا وإحلالها محل الإنسان، وما يحدث مسبقا في أطراف المركز الهامشية، يحدث الآن في ~~مركز النظام نفسه. هذا بالإضافة إلى الانعكاسات ms009 النفسية الخطيرة، والتي أبرزها ~~الفصام. # إزاء هذا الوضع المرتبك من فقدان الثقة في المشروع الحداثي الذي بدأت مقولاته في ~~الانهيار واحدة تلو الأخرى، بدأ الوعي الغربي يطرح تساؤلات تحمل بداخلها إيذانا بنهاية ~~مرحلة وبداية مرحلة أخرى. يلخص دولوز هذه التساؤلات كالآتي: ~~«ما الوظائف الجديدة التي صارت تناط بالمثقف، والذي أضحى مثقفا نوعيا بعد أن كان ينظر ~~إليه على أنه مثقف شمولي؟ ما الأنماط الجديدة لتولد الذات والتي أمست أنماطا لا هوية لها ~~بعدما كان ينظر إليها على أنها متطابقة ومتماسكة ذات هوية محددة؟ ما هي رؤيتنا وما هي ~~لغتنا، وما هي حقيقتنا أو هويتنا اليوم؟ وما دمنا نشارك ونساهم في إنتاج ذات جديدة، فأية ~~سلطة يلزم مواجهتها، وما هي قدراتنا على المواجهة؟ ألا تجد تقلبات الرأسمالية نفسها وجها ~~لوجه، وبكيفية غير متوقعة، مع انبثاق بطيء لذات جديدة كبؤرة مقاومة؟ في كل مرة يحدث فيها ~~تحول اجتماعي ما، ألا تكون ثمة حركة انقلاب وتحول ذاتي، بإبهاماته والتباساته، بل ~~وبإمكاناته أيضا؟ هذه هي الأسئلة التي يطرحها جيلنا.» # 19 ~~••• # في عام 1971م كتب إريك هينش # E. Henche # مقالا حملته مجلة «الفن في أمريكا» # Art in America # عنوانه «تحطيم كل القواعد» # Breaking All the Rules ~~، وكان مما جاء فيه «على الرغم من أن ما ~~بعد الحداثة تشخيص لكل ما يحدث حولنا؛ فإننا لم نعطها حتى الآن تعريفا واضحا.» # 20 # على النقيض من ذلك وفي ربيع 1995م أصدر مجموعة من المفكرين ونجوم المجتمع ~~الأمريكي بيانا تحت عنوان «انتفاضة ضد طبقة الإعلام» # Revolt Against the Media Class # وصفه ~~أصحابه بأنه صرخة احتجاج ضد استشراء القيم ما بعد الحداثية في المجتمع الأمريكي. # 21 # ولعل هذا الاختلاف بين المواقف يدفعنا للتساؤل عن معنى مصطلح «ما بعد ~~الحداثة». # 22 # ثمة صعوبات عديدة بالتأكيد تقف حائلا بين إمكانية التحديد الدقيق للمصطلح أو المفهوم؛ ~~ولعل إيهاب حسن في مقالته «سؤال ما بعد الحداثة» # The Question of Postmodernism # 23 # يعرض لتلك الصعوبات، يقول: «إنها إشكالية متعددة ~~الجوانب، ولعل هذه الأسئلة تلقي بعضا من الضوء عليها. هل ثمة ظاهرة جديدة في الثقافة ~~المعاصرة عموما، وفي الأدب المعاصر بشكل خاص، تستدعي أن نطلق عليها اسما جديدا؟ وإذا ms010 كان ~~الأمر كذلك، فهل يفيدنا هنا اسم مبدئي من قبيل «ما بعد الحداثة» Post Modernism ~~؟ وكيف ~~يمكن لهذه الظاهرة، دعونا نتوافق على تسميتها الآن بما بعد الحداثة، أن تتواصل مع مفاهيم ~~أخرى، مثل الحداثة أو الطليعة # avant-garde ~~؟ وهل ثمة إشكاليات نظرية وتاريخية تخفيها تلك ~~الظاهرة؟ لقد جاءت معظم الاجتهادات التي سعت لتعريف ما بعد الحداثة مضطربة؛ وتبدو في أحسن ~~الأحوال نوعا من التكرار الذي لا يفيد، فيخبرنا بما نحن متأكدون من معرفته بالفعل. إذا، ما ~~الذي سنجنيه من هذا المسار الاستفهامي الذي بدأناه؟» # الواقع أن منظري ما بعد الحداثة لم يتفقوا حتى على تعبير «ما بعد الحداثة»؛ فالبعض مثل ليوتار # Lyotard # يفضل صيغة أكثر تحديدا كالوضع ما بعد الحداثي # La condition postmoderne ~~، فيما ~~يراها آخرون كجيمسون «منطقا ثقافيا للرأسمالية المتأخرة» أو «عصرا ثقافيا أخيرا في الغرب». # 24 # وهو يرى أن المصطلح «متضارب ومتناقض داخليا ... فما بعد الحداثة ليس شيئا ~~يمكن أن نثبته في مكانه مرة واحدة لكي نعاود استعماله لاحقا.» أما أمبرطو إيكو # Umberto-Eco # فعلى الرغم من أن أعماله ما بعد حداثية بامتياز - فهو يرفض التسمية ويقترح بدلا منها ما ~~يطلق عليه «تعدد اللغات المعمم لزمننا» # il multilinguismo della nostra generalizzate ~~؛ كذلك ~~هو الحال أيضا مع فوكو ودولوز اللذين اعتبرا أعمالهما تشكل انقطاعا وتواصلا مع الحداثة. # 25 # كل هذه الآراء تدعونا للتساؤل: هل يمكن تعريف ما بعد الحداثة؟ وفقا لمنظري الحركة فإن ~~لفظة «تعريف» # definition # هي لفظة حداثية موروثة من نماذج الوضعية المنطقية، ولا تنسجم مع ~~الإطار العام المفتوح لما بعد الحداثة، والذي لا يحوي ضمن مفرداته مقولة التحديد. فالتعريف ~~يوحي بالثبات كما أنه يفترض مقدما أن كل من سيقرؤه سيفهمه كما حدده كاتبه، وكما سيفهمه ~~جميع القراء، وهذا ما يرفضه منظرو ما بعد الحداثة الذين لا يؤمنون بوجود حقيقة موضوعية. ~~ويذهب إيهاب حسن إلى «أن المصطلح، فضلا عن المفهوم، ينتمي إلى ما يطلق عليه الفلاسفة الفئة ~~المتنازع عليها جوهريا، وبلغة أبسط - يقول حسن - إذا وضعنا أهم المفكرين الذين ناقشوا المفهوم ~~في غرفة واحدة، ثم أضفنا الإرباك الملازم للمفهوم، وأغلقنا الغرفة، وألقينا بالمفتاح بعيدا، ~~فلن يحدث ms011 اتفاق بين المناقشين، بل سنجد خيطا من الدماء يبدو أدنى عتبة الغرفة.» # 26 # رغم تلك الصعوبات التي تكشف لنا مدى تعقيد المصطلح، فضلا عن المفهوم أو الظاهرة؛ فإننا سنحاول الاقتراب من المصطلح بتحديد بعض الملامح العامة له: # ينبغي أن نفرق بداية بين ما بعد الحداثة Post-modernisme # كمصطلح يشير إلى نوع من الثقافة ~~المعاصرة، وما بعد التحديث Post-modernité # كحقبة زمنية يمر، أو مر، بها الغرب، نتيجة لبعض ~~المتغيرات التي لحقت بعملية التصنيع والإنتاج وارتباط ذلك بتنامي وتضخم المنظمات الرأسمالية ~~العالمية. ما بعد التحديث يشير إلى الفترة التاريخية أو المدة الزمنية؛ أما ما بعد الحداثة ~~فيشير إلى أسلوب أو طريقة التفكير أو الحركة الفكرية والثقافية التي انبثقت من هذا الوضع ~~التاريخي الذي يطلق عليه «ما بعد التحديث». # 27 # تشير البادئة Post # في مصطلح Postmodernisme # في الإنجليزية والفرنسية إلى ما ~~يأتي «بعد» كلازمة تعبر عن الزمان، كأن نقول «ما بعد الكلاسيكية، ما بعد الرومانسية، ما بعد ~~البنيوية ... إلخ.» غير أنها لا تتوقف عند العلاقة الزمنية ولكن تتجاوزها للعلاقة الفكرية؛ ~~إذ تشير إلى ترك الإطار أو النموذج Paradigme # السابق عليها. ويعود استخدام المصطلح أول مرة - ~~بحسب إيهاب حسن - إلى الإسباني فيدريكو دي أونيس # F. De Onis # وذلك في كتابه «مختارات من الشعر ~~الإسباني والإسباني الأمريكي» # Antologia de la Poesia Espanola e Hispano Americana # الصادر ~~عام 1934م، ثم التقطه دودلي فيتس # D. Fitts # في كتابه «مختارات من الشعر الأمريكي اللاتيني ~~المعاصر» # Anthology of Contemporary Latin-American Poetry # عام 1942م، وكان كلاهما يشير إلى ~~رد فعل ثانوي على الحداثة قائم في داخلها. يرى حسن إذا أن المصطلح نشأ في حقل النقد الأدبي، ~~ثم وظف في حقول معرفية أخرى كالفلسفة والاجتماع والسياسة والتحليل النفسي واللغويات ~~والدين ... إلخ. لكن المؤكد أيضا - وهو ما يشير إليه حسن - أن المصطلح اكتسب مدلولا لأول مرة ~~في كتاب فيلسوف التاريخ الإنجليزي أرنولد توينبي # A. Toynbee # A Study of ~~History ~~«دراسة التاريخ»، عندما استخدمه ليشير إلى ثلاث خصائص رآها تميز الفكر والمجتمع الغربيين منتصف ~~القرن العشرين، وهي اللاعقلانية والفوضوية واللامعيارية، بسبب أفول البورجوازية في التحكم ~~بتطور الرأسمالية الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحلول الطبقة العاملة الصناعية ~~محلها، وهو ما رآه انقلابا، بل انحطاطا، للقيم ms012 البورجوازية التقليدية. # 28 # في بداية الستينيات استخدم المفهوم على نطاق أوسع؛ إذ استخدمه ليونارد ماير # L. Mayer # في ~~دراسته (1882م) «نهاية عصر النهضة» # The End of the Renaissance ~~(1963م) ليشير به إلى التغير المعماري الذي ~~طرأ على المدينة الغربية. وفي نفس الاتجاه نشر المعماري الشهير روبرت فنتوري # Robert ~~Venturi # مقالته «مبررات عمارة البوب» 1965م قدم خلالها مبررات وحتمية ولادة مفهوم جديد ~~للعمارة، عوضا عن المفاهيم الجامدة البليدة المضجرة التي تبنتها الحداثة. ثم أتبع هذه ~~المقالة بكتاب «التعقيد والتناقض في العمارة» # Complexity and Contradiction in Architecture ~~(1966م) ~~وضع فيه تصوره لخصائص العمارة ما بعد الحداثية قائلا: «نحن نطالب بعمارة تعلي الثراء، ~~بمعنى الوفرة والكثرة والزخم في التفاصيل والاقتباس والغموض، فوق الوحدة والنقاء؛ وتقدم ~~التناقض والتعقيد على التناغم والبساطة.» # 29 # ومع أن الجدل بشأن مفهوم ما بعد الحداثة بدأ في عقد الستينيات، العقد الذي يصفه هويسنز # 30 # بالخط الفاصل العظيم، في النقدين الأدبي والثقافي في أمريكا؛ فقد امتد هذا ~~الجدل إلى حقول معرفية أخرى. وقد أعلن تشارلز جينكس # C. Jencks ~~، وهو أحد المنظرين الأساسيين ~~لما بعد الحداثة في فن العمارة، أن المصدر الأساسي الذي استقى منه فهمه النظري لمفهوم ما ~~بعد الحداثة هو النقد الأدبي؛ وحسب جينكس فإن «إيهاب حسن كان هو بالفعل من عمد مفهوم ما بعد ~~الحداثة وجعله أكثر استقرارا.» # 31 # ويصادق على رأي جينكس ما ذكره جان فرانسوا ليوتار في كتابه «الوضع ما بعد ~~الحداثي» (1979م) من أن عمل إيهاب حسن «أدب الصمت» # The Literature of Silence # هو المصدر الذي ~~نبهه إلى أهلية مفهوم ما بعد الحداثة. # 32 # بدأت ثقافة ما بعد الحداثة في سبعينيات القرن العشرين - بعد التغيرات التي طرأت على ~~الساحة الفكرية الفرنسية نتيجة انتفاضة الطلبة في مايو 1968م - تتلاقى مع المشروع الفرنسي ما ~~بعد البنيوي. وبمعنى أدق تجد المناخ النظري الملائم لها من خلال أعمال رولان بارت # R. Barthes # وفوكو وجيل دولوز وجاك دريدا وجاك لاكان # J. Lacan ~~. وسيكون هذا التلاقي هو البداية الحقيقية ~~لما عرف بحركة ما بعد الحداثة الفلسفية. وفي العام 1979م يصدر كتاب جان فرانسوا ليوتار «الوضع ~~ما بعد الحداثي» الذي يعتبره البعض البيان النظري الأول للحركة التي لا يجمعها اتجاه واحد ms013، ~~وإن كان يجمعها بعض الخصائص المشتركة، التي حاول ليوتار تكثيفها في كتابه. # وفي الثمانينيات يستمر الإنتاج الفكري لمنظري التيار (فوكو، دولوز، ليوتار، دريدا، إيهاب ~~حسن) غير أن المصطلح سيظهر بقوة أكثر في ميدان علم الاجتماع: في فرنسا مع جان بودريار؛ وفي ~~بريطانيا لدى سكوت لاش # S. Lash # في «علم اجتماع ما بعد الحداثة» Postmodern Sociology ~~، ولدى ~~أنتوني جيدنز # A. Giddens # في «نتاجات الحداثة» # The Consequences of Modernity # الذي يقترح فيه ~~مفهوم «الحداثة الجذرية» # Radical Modernity # بديلا ل «ما بعد الحداثة». # وفي ظل تنامي المفهوم وتشعبه وتداخله مع مصطلحات أخرى عديدة - كما بعد التصنيع Post-industre # وما بعد الاستعمار Post-colonialisme ~~- ظهر تيار مناهض بقوة لتيار ما بعد الحداثة، ~~يستند في بنيته المضادة على الإرث العقلاني الحداثي، داعيا إلى تصحيح مسار الحداثة بوصفها ~~«مشروعا لم يكتمل بعد»، وأن هذا التصحيح لا يستدعي أبدا تقويض المشروع الحداثي المبني على ~~الأسس العقلانية. يتزعم هذا التيار الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس المنتمي إلى مدرسة ~~فرانكفورت # Frankfurt School ~~. وبالإضافة إلى هابرماس هناك مجموعة من النقاد الماركسيين الذين ~~وجهوا كل طاقاتهم وإنتاجهم الفكري لمناهضة تيار ما بعد الحداثة ك «تيري إيجلتون، وديفيد ~~هارفي، وفريدريك جيمسون»، وما زالت إنتاجاتهم الفكرية حتى الآن تدور في هذا السياق. # شعار الحركة المناهضة لثقافة ما بعد الحداثة. # في عام 1995م يذهب فالتر أندرسون # W. Anderson # إلى أن «ما بعد الحداثة سوف يأتي ويذهب، مثل ~~باقي تيارات الفكر؛ أما ما بعد التحديث - أي الظرف ما بعد الحداثي - فسيظل قائما.» # 33 # وفي نفس السياق ونفس العام يقول ديفيد هارفي: «ثمة علامات، في هذه الأيام، تشير ~~إلى أن هيمنة ثقافة ما بعد الحداثة هي في عملية ضعف مستمر في الغرب.» # 34 # في حين يذهب إيهاب حسن في آخر مقالة نشرت له إلى أن «ما بعد الحداثة صارت الآن ~~شبحا ... وكلما نظن أننا قد تخلصنا منها، ينهض شبحها مرة أخرى.» ويستطرد قائلا: «ما زالت ~~أفكار ما بعد الحداثة تتردد في خطاب الهندسة المعمارية، والفنون المختلفة، والعلوم ~~الإنسانية، وأحيانا الفيزياء، كما أنها لم تقتصر على المؤسسات الأكاديمية، بل نجدها أيضا ~~في الخطاب الشعبي، وعوالم السياسة والاقتصاد، والميديا، وصناعات الترفيه ms014، كذلك شاعت في لغة ~~الأساليب الشخصية للحياة، مثل طريقة طهو ما بعد حداثية، ومطبخ ما بعد حداثي ... إلخ.» # 35 # والسؤال الآن: هل تمثل ما بعد الحداثة كسرا جذريا مع الحداثة، أم أنها ببساطة انتفاضة ~~داخل الحداثة ضد شكل من أشكال الحداثة العليا؟ هل ما بعد الحداثة أسلوب أو طريقة للنظر في ~~العالم والأشياء أم أنها تعتبر عصرا كاملا يحياه الغرب الآن؟ ومن ناحية أخرى هل تغيرت ~~الحياة الاجتماعية في الغرب منذ مطلع السبعينيات حقا، وإلى الحد الذي يسمح بالقول إن الغرب ~~يعيش الآن مرحلة ما بعد الحداثة؟ أم أن تيارات ما بعد الحداثة - يتساءل هارفي. # 36 # مجرد تيارات تضرب البنى العليا للثقافة، والتي ما انفكت توغل في الغرابة على ~~وقع التغيير الذي يحدث دائما في «الموضة» الأكاديمية؟ # يمكننا التمييز هنا بين رأيين متعارضين: الأول يرى أن «حركة ما بعد الحداثة تنتهج نهجا ~~ينفي الحداثة ويعلن رفضه لكل أسسها ومبادئها.» # 37 # والثاني يرى أن «ما بعد الحداثة نوع خاص من التأزم داخل حركة الحداثة.» ~~فحجم الاستمرار هو أكثر بكثير من حجم الاختلاف بين التاريخ الممتد للحداثة والحركة المسماة ~~ما بعد الحداثة. # 38 # ويمثل الرأي الأول إيجلتون وهارفي وفريدريك جيمسون؛ أما الثاني فيمثله ليوتار ~~ودولوز وفوكو. الرأي الأول يستند في دعواه إلى أن الخطاب ما بعد الحداثي هو نقيض الخطاب ~~الحداثي فهو خطاب يتبنى مبادئ تقوم أساسا على هدم القيم التي أورثتها الحداثة مثل ~~الواحدية، والنقاء، والشعور بامتلاك اليقين وأحكام القيمة والسلطة الأبوية بكل صورها؛ ~~لا سيما أشكال السلطة التي أفرزها المجتمع الرأسمالي كالعقل الأداتي واللوجوس، وغيرها من ~~مفردات الخطاب الحداثي الشهير. وكنقيض لهذه القيم، تبنت ما بعد الحداثة خطابا رافضا الكلي ~~ومكرسا النسبي واليومي، مقابل الحتمي والتاريخي، متحررا من الزمن الخطي، وهادما التمايزات بين ~~الاجتماعي والثقافي، وداحضا ومهشما الحدود الفاصلة بين الحقول المعرفية، كمحاولة لإقصاء ~~السياسات وحيدة الجانب، وكرد فعل لتشظي المجتمع الراهن وتصدعه، ومن أجل التعبير عن تفكك ~~العلاقات السائدة في الزمن الراهن. وكان أن نادى معظم منظري ما بعد الحداثة بتبني مفاهيم ~~جديدة ms015 تحل محل مفاهيم الحداثة السائدة تجلت في ركائز ثلاث: الأولى هي الوعي بالفردانية ~~واستقلال الذات عوضا عن النزوع الجمعي الشمولي القديم، والثانية تكريس مفهوم سقوط السلطة ~~بكل أنواعها، وبالتالي نقض مفهوم المركزية والواحدية انتصارا للتعددية والتنوع. وهما معا ~~الركيزة الثالثة. هذا هو رأي الفريق الأول الذي يرى في ما بعد الحداثة انفصالا عن المشروع ~~الحداثي وانقلابا عليه. # أما الرأي الثاني فيرى أن المشروع الحداثي الغربي هو «مشروع متأزم في الأساس بحيث يحتاج ~~إلى تصحيح مسار، وأن نهايات هذا المشروع (ما بعد الحداثة) جاءت نتيجة طبيعية لما آل إليه ~~المشروع الحداثي في القرن الثامن عشر (عصر التنوير).» # 39 # وهذا الفريق يرفض الرؤية التاريخية «لما بعد الحداثة» بوصفها شيئا يأتي بعد ~~«الحداثة»، فما بعد الحداثة كامنة في قلب المشروع الحداثي، بحيث إنها لا تمثل انقطاعا عنه، ~~إنما هي تفعيل لبعض المقولات والأفكار المتضمنة في الحقبة الحداثية. يقول ليوتار: «لا ~~الحداثة ولا ما بعد الحداثة يمكن تحديدهما كحقب تاريخية واضحة، تكون ما بعد الحداثة فيها ~~شيئا يأتي «بعد» الحداثة. يجب القول على العكس من ذلك إن ما بعد الحداثة محايث للحداثة، ~~بما أن الحداثة الزمنية تحمل في داخلها رغبة في الخروج من ذاتها داخل حالة أخرى.» # 40 # ما يقوله ليوتار هنا يتوافق مع مبادئ المشروع الحداثي بوصفه مشروعا «مفتوحا» ~~يقبل الاختلاف والتطور، كما يتوافق مع حضور النص الحداثي في المؤلفات الكبرى لفلاسفة ما بعد ~~الحداثة، بداية من ليبنتس وسبينوزا مرورا بكانط وهيجل وحتى ماركس ونيتشه وهيدجر. # هذا الحضور للنص الحداثي لا يفهم إلا بكونه محاولة لإعادة النظر في مقولات الحداثة من ~~داخلها، وكما يقول دولوز في «منطق المعنى» # Logique du Sens 1969 ~~«يتعين على الفلسفة أن تبرز ~~في الحداثة شيئا كان نيتشه يحدده كشيء ضد الزمان؛ أي شيء ينتمي إلى الحداثة، ولكنه في ~~الوقت ذاته ينبغي أن ينقلب ضدها، من أجل زمان بديل.» # 41 # والواقع أن أعمال دولوز كلها تسير في هذا الاتجاه، العمل على نصوص الفلاسفة ~~الحداثيين من أجل إعادة قراءتها وتأويلها بحيث يخرج الفيلسوف في النهاية في صورة ms016 جديدة غير ~~المتعارف عليها، وقد اتبع دولوز هذه الطريقة في كتاباته عن هيوم وليبنتس وسبينوزا وبرجسون ~~ونيتشه «لا ينبغي لتاريخ الفلسفة إعادة ما يقوله فيلسوف ما، بل قول ما يضمره بالضرورة؛ أي ~~ما لا يقوله وهو ماثل مع ذلك فيما يقوله.» # 42 # ومن نفس المنطلق يرى دريدا «أن تفسيراته لنصوص أفلاطون وروسو وماركس وهيدجر هو ~~نوع من الوفاء لهم. لكنه يتصور الوفاء، لا بوصفه عرضا مخلصا لما كانوا يريدون قوله - فهذا ~~في رأيه مجرد مساهمة في عملية دفن الموتى، إنما الوفاء الحقيقي يكون في المساءلة النقدية ~~لما قدموه.» # 43 # وفي نفس السياق يقول فوكو: «إننا لا نخرج عن الفلسفة ببقائنا داخلها، لا، بل ~~بمعارضتها بنوع من الاندهاش، كاندهاش نيتشه من الفلسفة السابقة عليه.» # 44 # والواقع أن الإنتاج الفكري لفلاسفة ما بعد الحداثة يؤكد أن هذه الأخيرة لحظة من لحظات ~~المشروع الحداثي، ربما تكون لحظة قلق واضطراب وشك، لكنها استمرار بصورة أو بأخرى للمشروع ~~الحداثي. لحظة شك داخل الإطار وليست انقلابا عليه وعودة إلى الوراء، إحساس أكبر بواقع ~~متأزم، لحظة استشعرها نيتشه وفلاسفة النظرية النقدية من قبل. لكنها لحظة يتبعها إعادة ~~البناء وتغيير المفاهيم. لذلك فنحن - في رأيي - لا نستطيع أن نصف ما بعد الحداثة بأنها عودة ~~إلى الوراء ونكوص للخلف وهدم للإرث العقلاني الحداثي، إنها فقط رد فعل مثلما كانت الحداثة ~~رد فعل. ليست ما بعد الحداثة نهاية للوعي الأوروبي - كما ذهب البعض، إنما هي فقط لحظة شك ~~وإعادة مساءلة للتراث الحداثي. ~~••• # استخلاصا مما سبق يمكن تحديد بعض السمات العامة لاتجاه ما بعد الحداثة، # 45 # وتختلف السمات عن القيم والمبادئ؛ إذ السمات تعبر عن الشكل الخارجي (المظهر)، في ~~حين تكشف القيم والمبادئ عن الأسس الداخلية التي تنبني عليها الظاهرة: ~~(أ) انفتاح الإطار النظري # ليس لدراسات ما بعد الحداثة إطار نظري ثابت؛ فالمفكر ما بعد الحداثي يرى الحياة موقفية، ~~متشظية، سائلة، انطباعية ... ولذا لم يطور ما بعد الحداثيين نموذجا معرفيا أساسيا يصلح بعد ~~ذلك للتطوير في اتجاه نظرية متكاملة؛ فالنظرية في عرفهم مجرد خطاب لحيازة ms017 القوة في فضاء ~~اجتماعي. من هنا اهتمام فلاسفة ما بعد الحداثة باللغة، واحتفاؤهم بالنص. سيولي فوكو اهتماما ~~خاصا بالخطاب، وسيقوم بتحليل البنى الخطابية التي كانت سائدة منذ القرن السادس عشر حتى ~~القرن التاسع عشر، من خلال منهج وصفي يكشف عن نمط وجود الخطاب وكيفية تجليه وما يترتب عليه ~~من آثار. وستمثل فكرة الأسلوب في علاقته بالمفهوم والمعنى مكانة هامة في أعمال جيل دولوز. ~~كما يتخذ ليوتار من مقولة فتجنشتاين # Wittgenstein # أن المعرفة مؤلفة من ~~«ألعاب لغوية» # sprachspiele # أساسا لنقد ما أسماه «بالسرديات الكبرى» # Les Grands recits ~~؛ أما دريدا فيتخذ من ~~تفكيكه لنصوص كبار الفلاسفة وسيلة لتفكيك البنية الميتافيزيقية الغربية التي أطلق عليها ~~ميتافيزيقا الحضور # La métaphysique de la présence ~~. # تعد سمة «انفتاح الإطار النظري» لما بعد الحداثة، نتيجة طبيعية لموقف فلاسفتها من مفهوم ~~«الحقيقة الموضوعية» # La vérité objective ~~- أحد المفاهيم الأثيرة لفلاسفة الحداثة. فإذا كانت ~~الأسئلة الأساسية التي كان يطرحها كل مفكر حداثي هي: لماذا أنا هنا في العالم؟ وما هو هدفي ~~النهائي، وما معايير الصواب والخطأ؟ فإن هذه الأسئلة الجاهزة يسبقها مسلمة مؤداها أن هناك ~~إجابة صحيحة واحدة عن كل سؤال، وعليه فالسيطرة على العالم وإدارته عقليا أمر متوقف فقط ~~على إمكانية عثورنا على تلك الإجابة. وهذا يفترض ضمنا أن هناك طريقا واحدا صحيحا إذا ~~وفقنا باكتشافه نكون قد عثرنا على الأداة الصحيحة للإجابة على أسئلتنا. وكبديل لهذه ~~الرؤية يرى فلاسفة ما بعد الحداثة أن الواقع المتشظي، الذي تحكمه فكرة الصيرورة، لا مكان ~~فيه لمفهوم «الحقيقة»، كما أن مفهوم الحقيقة من المفاهيم السلطوية التي توظف دائما لخدمة ~~فئة بعينها، يقول بودريار: «لم يعد بوسع الفرد أن يضع حدودا لكيانه، ولم يعد بوسعه أن يلعب ~~دوره ... إنه الآن صفحة نقية ومعبر لكل شبكات التأثير.» ~~(ب) انفتاح الموضوعات البحثية # ليس لتيار ما بعد الحداثة موضوعات بحثية بعينها؛ فهو يدرس كل شيء في الحياة بداية من نمط ~~الإنتاج وعلاقاته في المرحلة الرأسمالية المتأخرة مرورا بنظم المعرفة والخطابات وحتى عروض ~~الأزياء والمصارعة الحرة. # 46 # والملاحظ أيضا في الإنتاج الثقافي ما بعد الحداثي غياب المباحث التقليدية ~~المعهودة في ms018 الفلسفة، وربما يكون مرجع هذا إلى رفض فلاسفة ما بعد الحداثة لمفهوم «النظرية»، ~~لا توجد نظرية في الوجود والمعرفة والقيم، هناك فقط خواطر وتأملات ومفاهيم دون وعاء نظري ~~شامل يجمعها في وحدة واحدة. والواقع أن افتقاد هذا الإطار النظري، بحسب رورتي # R. Rorty ~~، # 47 # كان أحد أهم الانتقادات التي وجهها هابرماس لفلاسفة من أمثال فوكو ~~ودولوز وليوتار. # يرتبط بهذه السمة خاصية أخرى واضحة في معظم الإنتاج ما بعد الحداثي؛ وهي محو بعض الحدود ~~والفواصل: هذه الخاصية لها تمثلات عديدة، أولها محو التمييز القديم بين الثقافة العليا ~~والثقافة الجماهيرية أو الشعبية، وهي خاصية سنعود إليها بالتفصيل عند الحديث عن استطيقا ما ~~بعد الحداثة. وثانيها محو الفواصل القديمة بين الأنواع الأدبية وأنواع الخطاب الأخرى؛ حيث ~~كان السائد فيما مضى إمكانية التمييز بين أنواع الخطاب المختلفة: «الخطاب السياسي»، ~~و«الاجتماعي»، و«التاريخي»، و«الأدبي»، أما الآن فكل هذه الخطابات متداخلة مع بعضها بحيث يصعب ~~تصنيفها، وربما هذه هي صورة أخرى من صور مفهوم «التناص» # intertextualité ~~. وقد كان جيل دولوز ~~يقول: «أريد أن أكتب تاريخ الفلسفة كالرواية.» # 48 # كما أننا نلمس داخل النص الدولوزي انفتاحا على العديد من المجالات المعرفية، ~~وكما يقول ريمون بيلور: «إن أعمال دولوز على اتصال مباشر بالفن والعلم والجسد وعلم الأحياء.» # 49 # وربما يفسر هذا سبب حضور النص الأدبي، بكل أشكاله، في النص الفلسفي ما بعد ~~الحداثي ربما بدرجة تفوق حضور النصوص الفلسفية. يرتبط هذا أيضا «بتماهي وتداخل المجالات ~~المعرفية المختلفة وإدراجها تحت ما يسمى ب «الدراسات الثقافية» # Cultural Studies ~~» # 50 # وهو مصطلح يعبر بصورة أكثر واقعية عن الممارسات الفكرية ~~لمنظري ما بعد الحداثة، وفي هذا السياق يتساءل فريدريك جيمسون وديفيد هارفي عن «هل يمكن ~~تسمية أعمال ميشال فوكو، وهذا ينطبق أيضا على معظم مفكري ما بعد الحداثة، فلسفة أم تاريخا أم ~~نظرية اجتماعية أم علوما سياسية؟» # 51 ~~(ج) شيوع فكرة النهايات # وهي فكرة بدأت مع هيجل ورددها بعض تلامذته من بعده، كان إريك فيل # Eric Weil # يقول: «إن ~~هيجل قد وضع للفلسفة نقطة النهاية.» # 52 # وقد أعلن اشبنجلر # Spengler ~~(1880-1936م) صراحة ~~«نهاية الغرب ms019» # Der untergang des western # وأفوله. وأزكى نيتشه # Nietzsche # هذه الروح عندما أعلن «موت الإله» # Tod Gottes ~~. ~~هذه التيمة - تيمة النهايات - أصبحت حاضرة بقوة في الخطاب الفلسفي الغربي في النصف الثاني من ~~القرن العشرين. يكتب بنيامين # Walter Benjamin # عن «نهاية الفن في عصر الإنتاج الآلي»، ويؤسس ~~هيدجر # Heidegger # مشروعه الفلسفي على «تقويض الميتافيزيقا»، ويعلن بارت # R. Barthes # عن «موت ~~المؤلف»، ويكتب فوكوياما # Fukuyama ~~«نهاية التاريخ»، ويعلن فوكو «موت الإنسان»، ويحدثنا ~~رورتي عن «نهاية الفلسفة النسقية». وفي نفس السياق يحاول «فاتيمو» حصر ظاهرة ما بعد الحداثة ~~على المستوى الفكري في خمسة مبادئ هي: نهاية الفن وأفوله - موت النزعة الإنسانية - العدمية - ~~نهاية التاريخ - تجاوز الميتافيزيقا. # 53 # وهي كلها تنويع على فكرة النهايات. لا يوجد علم أو فلسفة أو فن، بل إعلان ~~النهاية لكل شيء؛ «دق أجراس الموت» بتعبير دريدا. ومع ذلك لا نستطيع أن نقول إن كل فلاسفة ~~ما بعد الحداثة نادوا بفكرة النهايات؛ فجيل دولوز، على سبيل المثال، من الفلاسفة القلائل ~~الذين لم يولوا فكرة النهايات أية أهمية؛ لذا فهي غير حاضرة في نصوصه، وهو يقول في الحوار ~~الذي أجراه معه فرانسوا إوالد: «لم أهتم بتجاوز الميتافيزيقا أو بموت الفلسفة قط. فللفلسفة ~~وظيفة تظل حاضرة تماما، وهي خلق المفاهيم، ولا يمكن لأحد أن ينوبها في ذلك.» # 54 # وفي موضع آخر يقول: «إن مستقبل الفلسفة لم يكن أبدا مشكلة بالنسبة لنا، وما ~~يقال عن نهايتها أو موتها، هو فقط لحظة يأس وإرهاق.» # 55 # وقد خصص دولوز كتابه «ما الفلسفة؟» # Qu’est-ce que la philosophie? # لمناقشة هذه ~~الإشكالية، وقد طرح السؤال عن ماهية الفلسفة من أجل تأكيد دورها في ظل تنامي هذه الروح ~~العدمية. ومع ذلك تظل هذه الروح هي السائدة في النص ما بعد الحداثي. وسيكون لها بالتالي ~~العديد من النتائج؛ أولا: افتقاد النص ما بعد الحداثي لروح النقد، ليس نقد الحداثة بطبيعة ~~الحال، وإنما نقد الأوضاع والسياسات الراهنة؛ لذا يعمد معظم فلاسفة ما بعد الحداثة إلى ~~استخدام منهج وصفي خالص للظواهر دون محاولة الانتقال إلى مستوى التحليل النقدي. ثاني هذه ~~النتائج، انهيار فكرة التقدم الخطي للتاريخ؛ فالتاريخ الإنساني، مفتوح على احتمالات متعددة، ~~قد ms020 يتقدم، ولكنه قد يتراجع أيضا - كما حدث في الحربين العالميتين. وكما لاحظ أدورنو من قبل ~~فإن التقدم البشري له تاريخ بالفعل، إنه التاريخ الذي انتقل «من المقلاع إلى القنبلة الذرية». # 56 # ثالث هذه النتائج، خلو العالم من أي معنى وافتقاده لأي قيمة، وما يترتب على ~~ذلك من تغير مفهوم القيمة ونسبية المعايير الأخلاقية. ~~(د) تصور مختلف لأسلوب الكتابة # سمة مشتركة في النص ما بعد الحداثي، أنه نص ملتبس يشعر معه القارئ بالصعوبة والغموض ~~وعدم التحديد. نص لعوب، يصعب الإمساك به، أو تحديد معناه لدرجة يشعر معها القارئ أن المؤلف ~~يتعمد اللبس في حد ذاته. وهذا اللاتحديد للمعنى يستند - في ظني - إلى الفهم البارتي (نسبة ~~لبارت) لطبيعة النص. فالنص كما يتصوره بارت لا بد أن يولد أكبر عدد من الدلالات والمعاني، ~~وهذا لن يتحقق إذا تعمد النص الوضوح والشفافية؛ لا بد أن يكون النص ملتبسا عصيا على القراءة. ~~من هنا يحدثنا بارت بحفاوة عما أسماه «عدم القابلية للقراءة» # illisibilité # فكلما زادت صعوبة ~~النص وقدرته على الإيحاء، تعددت معانيه وكثرت دلالته، يقول بارت: «ليس الوضوح صفة مطلقة ~~لا غنى عنها في الكتابة، بل هي من ملحقات الطبقية؛ أي طريقة في الكتابة بمثابة علامة على ~~أنك عضو في طبقة معينة تتحدث إلى الأعضاء الآخرين من نفس الطبقة.» # 57 # والواقع أن هذه السمة - الالتباس - حاضرة بقوة في كافة النصوص ما بعد الحداثية، ~~ولا أدل على ذلك من قول ليوتار: «لقد قرأت في مجلة فرنسية أن البعض ساخطون على كل من دولوز ~~وجاتاري لأنهم - أي هذا البعض - يتوقعون أن يكافئوا بقدر من المعنى، خاصة من قراءة عمل فلسفي.» # 58 # فقد كان لدولوز تصور خاص لعملية الكتابة، # 59 # كما أن تجربة الكتابة المشتركة مع المحلل النفسي فليكس جاتاري # F. Guattari # قد ~~منحت مؤلفاتهما طابعا خاصا. # الفصل الثاني # | القيم ما بعد الحداثية # إذا كنا قد حاولنا في الفصل الأول تتبع نشأة ظاهرة ما بعد الحداثة وتحديد أهم السمات ~~الشكلية المتعلقة بفلسفة ما بعد الحداثة، فإن الحديث عن القيم أشبه بمحاولة تحديد الموضوعات ~~المشتركة أو ms021 المبادئ التي يتفق عليها فلاسفة ما بعد الحداثة، والتي يمكن أن نستقيها من ~~كتاباتهم، وهي تمثل في الوقت نفسه الاختلافات والفوارق التي تفصل الفكر ما بعد الحداثي عن ~~نظيره الحداثي. # يصنف ليمرت المفكرين ما بعد الحداثيين إلى ثلاث فئات: # الراديكاليون: ليوتار، وبودريار، وإيهاب حسن، الذين يعتبرون الحداثة شيئا ينتمي للماضي، ~~وأن الوضع الثقافي الراهن لا يحتمل مقولاتها. # الاستراتيجيون: ميشال فوكو، ودريدا، ودولوز الذين يتخذون من اللغة أو الخطاب أساسا ~~لتحليلاتهم، ويرفضون أية صياغة لمفهوم الجوهر الشامل، والكلية أو القيم الشمولية. # الحداثيون المتأخرون: مثل هابرماس وجيمسون، الذين يتخذون موقفا نقديا من الأنساق ~~الشمولية الكبرى، ولكنهم لا يرفضون مفاهيم الحداثة. # 1 # وتفرق باتريشيا ووه بين صيغتين قادمتين من أسس فلسفية منفصلة: صيغة عفية، وأخرى هشة، ~~ولكل منهما ميله التفكيكي ونزعتها القائمة على إعادة التركيب: لقد جاءت الصيغة القوية من ~~قراءة ما بعد البنيوية لنيتشه. أما الصيغة الهشة، فقد خرجت من القراءة التأويلية لهيدجر. ~~وعادة ما ينصب الميل التفكيكي على نقد نظرية المعرفة الخاصة بحركة التنوير، بينما ترتكز ~~إعادة التركيب على محاولة بناء نسق بديل للقيم. # 2 # ما يمكن أن نخلص إليه إذا أن هناك ما بعد حداثات عديدة، قد يصعب حصرها أو تصنيفها، ~~والسؤال هو: ما القاسم المشترك بين هذه الاتجاهات العديدة؟ هل يمكن الحديث عن قيم أو مبادئ ~~عامة تشترك فيها هذه التوجهات؟ # في كتابه «المنعطف ما بعد الحداثي» # The Postmodern Turn # يرسم «إيهاب حسن» سلسلة من التعارضات ~~النمطية بين الحداثة وما بعد الحداثة، تبدو من خلالها الثانية كرد فعل على الأولى، فيجعل ~~«حسن»، على سبيل المثال، الفوضى # anarchy # ما بعد الحداثية مقابل مفهوم التراتبية # hierarchy # الحداثي، والشمولية # totalization # مقابل التفكيك # deconstruction ~~، والحضور # presence # مقابل ~~الغياب # absence ~~، والجذر # root # مقابل الجذمور # rhizome ~~... إلخ. # 3 # والواقع أن المصطلحات التي استخدمها «حسن» في جدولته هذه ليست خاصة بالحداثة أو ~~ما بعد الحداثة، بقدر ما هي أمثلة على تواترات ثقافية وفكرية، كانت ولا تزال شائعة في ~~كلتيهما وغير مميزة لأيهما على حدة. وربما يكون الأكثر جدوى ودقة من ذلك هو القول بأنه في ~~مراحل معينة من ثقافة الحداثة ms022 سادت - بدرجة أو بأخرى توجهات ما بعد حداثية، وفي مرحلة ما بعد ~~الحداثة ما زالت هناك جذور حداثية. وباختصار، إن الثنائيات التي أوردها «حسن» في جدولته ~~ينقصها الدقة والإحكام، ويمكن النظر إليها على أنها تعطينا مؤشرات على التوجه العام لتيار ما ~~بعد الحداثة، ولا تكشف بدقة عن طبيعة هذا التوجه. # غير أن «حسن» في موضع آخر، يحدد بطريقة أكثر دقة، وإن كانت بالسلب، بعض الأسس المشتركة في ~~تيارات ما بعد الحداثة، وهي كالآتي: ~~(1) # رفض النظريات الشمولية، لا سيما النظريات الكبرى مثل: نظريات كارل ماركس، وهيجل، ~~ووضعية كونت، والتحليل النفسي، مع التركيز على الجزئيات والرؤى المجهرية للكون ~~والوجود. ~~(2) # رفض اليقين المعرفي المطلق، ورفض المنطق التقليدي الذي يقوم على تطابق الدال والمدلول؛ ~~أي تطابق الأشياء والكلمات. ~~(3) # رفض الحتمية الطبيعية والتاريخية التي كانت سائدة في مرحلة الحداثة، ولا سيما مفهوم ~~التطور الخطي. ~~(4) # مناهضة كل أشكال السلطة، سواء في الخطاب أو في السياسة أو في الفن. # 4 # وقد حاول كينيث آلن تقنين بعض المقولات النظرية لتيار ما بعد الحداثة ليضعها في شكل ~~(السبب/النتيجة) أو (المتغير المستقل/المتغير التابع)، متخذا من الرأسمالية المتأخرة أو ~~رأسمالية العولمة موضوعا لدراسته، وعلى سبيل المثال رأى آلن أن إعادة توطين رأس المال ~~وسرعة حركته، هو سبب نتيجته زعزعة الرموز الثقافية وافتقادها القدرة على تقديم المعنى، كما ~~ذهب إلى أن هيمنة التكنولوجيا في عملية الإنتاج، وهو متغير مستقل، يؤثر على متغير تابع هو ~~(عدم ثبات الذات وتشظيها وتفككها). # 5 # والواقع أنه يصعب حصر المسألة في مجرد سبب ونتيجة؛ إذ النتيجة تتحول إلى سبب، ~~والسبب يتحول بدوره إلى نتيجة، وهكذا. كما أن عبارات مثل «فقدان المعنى» و«تشظي الذات ~~وتفككها» هي عبارات شديدة التركيب والتجريد يصعب ردها إلى سبب واحد. # ويذهب كريستوفر نوريس # C. Noriss # إلى أن ما تشترك فيه اتجاهات ما بعد البنيوية، رغم ما ~~بينها من اختلاف في المنهج والاهتمامات، هو التزامها بشكل أو آخر بالتحول إلى اللغة والخطاب ~~والنص. وهو تحول يشكل سمة بارزة في مجالات عديدة لا تقتصر على الفلسفة ms023 والتاريخ. أما موضع ~~الخلاف بينها فهو القدر الذي يسمح به كل منها بحيز لفكرة الحقيقة التاريخية ، وسط انهماكها ~~في النصوص والدلالات اللانهائية المتولدة عنها، وهي تختلف كذلك في مدى تقبلها لمقولة ~~فريدريك جيمسون أن التاريخ «أفق لا يمكن تجاوزه». # 6 # على الرغم من وجاهة رأي كريستوفر نوريس؛ إذ النصية هي السمة الأبرز التي تشترك فيها معظم ~~تيارات ما بعد الحداثة على اختلافها، إلا أن هذه واحدة من أسس عديدة أخرى تبنى عليها وتشترك ~~فيها هذه التيارات، سنحاول العرض لها تفصيلا كما يأتي: ~~(1) ضد السلطة # هي القيمة الأبرز والأهم، وهي الأصل الذي تفرع منه باقي القيم الأخرى. وباختصار يمكن ~~النظر إلى ما بعد الحداثة على أنها الثقافة التي تجتهد في البحث عن السلطة في كل شيء كي ~~تهدمها؛ سلطة التاريخ، السلطة السياسية، سلطة الخطاب، سلطة المجتمع والأسرة، سلطة العقل ~~والحقيقة والميتافيزيقا، سلطة الشمولية والكلية، سلطة الإعلام والصورة والفن. # ولا يشير مفهوم السلطة عند فلاسفة ما بعد الحداثة إلى شيء محدد المعالم يمكن الإمساك به ~~وتحديده، إنما هو مفهوم فضفاض يتسرب إلى كل مجالات الحياة وظواهرها، وهو ذو مستويات متعددة ~~وأشكال خفية كامنة خلف كل خطاب من الخطابات التي تحيطنا، ذلك إذا اعتمدنا تعريف فوكو للخطاب ~~من أن كل ظواهر المجتمع يمكن النظر إليها على أنها أنظمة خطابية. والنتيجة أن العالم خطاب، ~~والتاريخ خطاب، والعالم سلطة، والخطاب سلطة، والحقيقة سلطة، والتاريخ سلطة والفيلسوف هو ~~أيضا سلطة، سلطة الأستاذ؛ يقول رولان بارت: «ها نحن نرى أن السلطة حاضرة في أكثر الآليات ~~التي تتحكم في التبادل الاجتماعي رهافة، في الدولة، وعند الطبقات والجماعات، ولكن أيضا في ~~أشكال الموضة والآراء الشائعة، والمهرجانات، والألعاب، والمحافل الرياضية والأخبار ~~والعلاقات الأسروية # Familialism # والخاصة، بل وحتى عند الحركات التحررية التي تسعى إلى معارضتها.» # 7 # بل إن السلطة تمتد لتشمل حروف اللغة ذاتها «إننا نحس سلفا أن # A, Z, E, R, T ~~، على ملامس الآلة الكاتبة، مجموعة من بؤر السلطة، مجموعة من علاقات القوى بين الحروف الأبجدية في ~~الفرنسية، حسب نظام ورودها، وبين أنامل اليد، حسب البعد الذي ms024 يفصل بعضها عن بعض.» # 8 # كان تجاوز تاريخ الفلسفة ومحاولة الخروج عليه والالتفاف حوله الهم الأول عند فلاسفة ما ~~بعد الحداثة، يقول دولوز: «لقد كان تاريخ الفلسفة دائما عاملا سلطويا داخل الفلسفة وحتى ~~داخل الفكر. لقد لعب دور المضطهد (القامع)، كيف تودون التفكير دون قراءة أفلاطون وديكارت ~~وكانط وهيدجر وكتاب فلان أو فلان عنهم؟ ... لقد تكونت عبر التاريخ صورة عن الفكر تدعى ~~«الفلسفة تمنع الناس تماما من التفكير».» # 9 # لذا يدعونا دولوز لتجاوز تاريخ الفلسفة والتمرد عليه من أجل إبداع جديد. إن ~~خطورة تاريخ الفلسفة هو أنه يقدم صورة نمطية لأساليب التفكير وطرق البحث بحيث تصبح مع الوقت ~~هي الصورة المشروعة التي من خلالها يجب أن يفكر الآخرون، يتحول تاريخ الفلسفة إلى ~~«تابو» # Taboo # مقدس يحدد شكل التفكير وموضوعات البحث وأسلوب الكتابة والصياغة، وفي هذا يقول فوكو: ~~«خلال السنوات (1945-1965م)، أفكر في أوروبا، كانت هناك طريقة مستقيمة معينة في التفكير، ~~كان هناك أسلوب معين في الخطاب السياسي، وأخلاقية معينة للمثقف. كان عليك أن تكون مع ماركس ~~في كل شيء، وألا تترك أحلامك تتيه بعيدا عن فرويد، وأن تعالج نسق العلامات - الدال - باحترام ~~كبير. كانت هذه هي الشروط الثلاثة التي تعطي الاعتبار وطابع القبول لهذا الاهتمام المتفرد ~~الذي هو فعل الكتابة، وقول جانب من الحقيقة حول ذات المثقف وعصره.» # 10 # في هذا الإطار يدعونا دولوز إلى الخروج عن تاريخ الفلسفة؛ «إذ الهدف ليس الإجابة على ~~أسئلة، وإنما الخروج، الخروج منها.» لا توجد نقطة نهاية أو لحظة اكتمال، كأن ندعي أنها ~~موجودة عند هيجل؛ ذلك أن نقاط النهاية أو فجوات الخروج لا متناهية، يقول: «كنت أفضل الكتاب ~~الذين كان يبدو كأنهم ينتمون إلى تاريخ الفلسفة. لكنهم كانوا ينفلتون من إحدى جوانبه، ومن ~~ثم يخرجون منه كلية، أمثال لوكريس وسبينوزا وهيوم ونيتشه وبرجسون. ففي ميدان الفكر، ليس ~~هناك أساس مشترك، والمفكرون لا يطرحون الأسئلة ذاتها، ولا يستعملون المفاهيم عينها. ليس ~~هناك ما يجمع المفكرين ويضمهم داخل تاريخ موحد. كل ما هناك حركات متفردة وخطوط ~~متقاطعة ... ينبغي الخروج ms025 من الفلسفة والقيام بأي شيء كان للتمكن من إنتاجها من الخارج.» # 11 # ولا يتعلق الأمر فقط بتجاوز تاريخ الفلسفة، وإنما بفك وحدته الموهومة للعثور ~~فيها على ما هو متفرد «يتعلق الأمر ببعث الحدث في وحدته وتفرده داخل ما يسمى حركة كلية. ذلك ~~أن متابعة أحداث الفكر من شأنها أن تبرز الفكر كحدث. فلسنا هنا، كما يقول فوكو، أمام وحدات، ~~أو كليات، وإنما أمام تفردات.» # 12 # لذا يشبه دولوز تاريخ الفلسفة بفن البورتريه في الرسم؛ فكل فيلسوف لديه ~~بورتريه خاص به ... بورتريه ذهني مفهومي. ومهمة المتعامل مع تاريخ الفلسفة ليس مجرد ترديد أو ~~استنساخ ما قاله الفيلسوف، بل «قول ما يضمره بالضرورة؛ أي ما لا يقوله وهو ماثل مع ذلك فيما يقوله.» # 13 # هذه الروح المتمردة على كل ما هو متصل وثابت تقف موقفا مماثلا أمام استخدام المنهج في ~~الفلسفة «إن كلمة منهج كلمة رديئة.» # 14 # فالمنهج يمارس سلطته أيضا على المؤلف، كما أن المنهج ذو قوالب ثابتة تقف عثرة ~~أمام كل تغيير وصيرورة. في مقدمة الكلمات والأشياء # Les Mots et les choses # يقول فوكو: «إن ~~بعض المعلقين الذين تنقصهم الفطنة، في فرنسا، يلحون على إلحاق صفة «البنيوي» # structural # بشخصي. وقد عجزت عن أن أدخل إلى عقولهم الضيقة حقيقة أنني لا أستخدم المناهج والمفاهيم أو ~~المصطلحات الأساسية التي يتميز بها التحليل البنيوي، ولا أي منهج آخر.» # 15 # والحق أنه لا دولوز، ولا فوكو، ولا فلاسفة ما بعد البنيوية يستخدمون أيا من ~~المناهج المتعارف عليها في تاريخ الفلسفة بصورة أساسية؛ بمعنى أنه إذا كان شائعا في تاريخ ~~الفلسفة انتماء الفيلسوف لمذهب ما، أو إخلاصه لمنهج ما، فإن هذه القاعدة لم تعد سارية في ~~فلسفة ما بعد الحداثة. فهناك مستويات منهجية متباينة داخل النص الواحد دون التلميح أو ~~الإشارة إلى استخدام منهج بعينه، حتى تفكيكية دريدا ليست منهجا إنما هي ممارسة على النصوص ~~والظواهر، أو استراتيجية # stratégie # كما يفضل هو نفسه وصفها. يقول دريدا: «إن تفكيك الفلسفة ~~يعني الاشتغال عبر الجينولوجيا، التي قد شيدت مفاهيم الفلسفة، اشتغالا يقيم عند هذه ~~المفاهيم إقامة يداخلها الشك، ويعين ms026 في الوقت نفسه - من منظور خارجي ليس بالإمكان منحه اسما ~~أو وصفا بعد - بقدر ما قد حجبه هذا التاريخ أو أبعده، ذلك التاريخ الذي قد أنشأ نفسه من أوله ~~إلى آخره، تاريخا لهذا الكبت. وها هنا يكمن الرهان.» # 16 # سيحتل مفهوم السلطة مكانة بارزة في أعمال دولوز وفوكو - على وجه التحديد، وسيكون حاضرا - ~~بل مستهدفا - في كل تحليلاتهم الخطابية، بدءا من الأعمال الأولى وحتى مؤلفاتهم المتأخرة؛ ~~فقد كانت أولى أعمال دولوز الإشراف على مجموعة من الدراسات حول مفهوم السلطة، وقد صدرت تحت ~~عنوان «الغرائز والمؤسسات» # Instincts et institutions ~~، كما كان موضوع السلطة، هو الموضوع ~~الأساس، في دراسته المطولة عن «الرأسمالية والشيزوفرنيا» # Capitalisme et schizophrénie ~~، كما ~~كان مدخله لدراسته عن «فوكو». وقد رأى دولوز أننا لسنا في حاجة إلى نظرية في السلطة، بقدر ~~ما نحن في حاجة إلى سياسة وتدبير جديد لعلائق السلطة «لن نجد أبدا معنى شيء ما، إذا لم نعرف ~~ما هي القوة التي يمتلكها الشيء، والتي يستغلها ويحتكرها ويعبر عن نفسه من خلالها. إن ~~الظاهرة ليست مجرد مظهر أو حتى عملية ظهور، ولكنها علاقة أو عرض يجد معناه في قوة آنية. ~~الفلسفة بأسرها هي علم للأعراض # syptomologie # وعلم للعلامات # séméiologie ~~.» # 17 # ويمكن صياغة سؤال دولوز كالآتي: كيف تعمل السلطة؟ وكيف تنتظم الحقيقة والسلطة ~~معا ضمن تشكيلة خطابية واحدة؟ ينطلق دولوز، تمهيدا لمناقشة هذه الإشكالية، من انتقاد ~~احتكار الفكر السياسي لمفهوم السلطة؛ فمفهوم السلطة يتجاوز السياسي، ليشمل العديد من ~~المظاهر الأخرى «كل قوة هي امتلاك وسيطرة واستغلال لكم من الواقع، حتى الإدراك في كل مظاهره ~~المتنوعة هو تعبير عن القوى التي تمتلك الطبيعة.» # 18 # ذلك أنه لا ينبغي في نظره، أن نبحث عن السلطة عند نقطة مركزية تكون هي الأصل، ~~عند بؤرة وحيدة للسيادة تكون مصدر إشعاع لباقي الأشكال الثانوية التي تتولد عنها، وإنما ~~ينبغي رصدها عند القاعدة المتحركة لعلائق القوى التي تولد، دونما انقطاع، حالات للسلطة «إن ~~تاريخ شيء ما بشكل عام هو تتابع القوى التي تحتكره، والتواجد المشترك للقوى التي تكافح لحيازته.» # 19 # ومن نفس هذا المنطلق، يرى فوكو ms027 أن هناك مفهوما ميتافيزيقيا لاهوتيا عن السلطة ~~ينبغي تقويضه للوقوف عند تلك العلائق. فليست السلطة تنزل من أعلى أو تنبع من فوق، إنها تأتي ~~من كل صوب، وهي منتشرة في كل مكان، حاضرة في جميع الأفعال وأنماط السلوك، وهي لا تفتأ تنتج ~~نفسها في كل لحظة وحين. ولكن ليس ذلك لأنها تتمتع بقدرة جبارة على احتضان كل شيء، وضمه تحت ~~وحدتها التي لا تقهر، وإنما لأنها تتولد، كل لحظة، عند كل نقطة، أو بالأحرى، في علاقة كل ~~نقطة بالأخرى. # لذا فإن السؤال «ما السلطة؟ أو ما مصدرها وأصلها؟» في غير محله، والأجدى أن نتساءل عن ~~الكيفية التي تتحقق بها أو كيف تمارس نفسها وتظهر إلى الفعل؛ يقول دولوز: «إن السلطة تتغلغل ~~في كل جانب حيثما توجد فرديات مهما كانت بسيطة ومتناهية في الصغر ... تارة تقمع، وأخرى تموه ~~أو تخدع وتوهم، تارة تتقمص زي الشرطة، وتارة ثانية تتخذ شكل الدعاية.» # 20 # لا معنى إذا للقول بمراكز للسلطة، إن السلطة ليست متاعا يكتسب. إنها ليست ~~«شيئا» يحصل عليه وينتزع أو يقتسم، شيئا نحتكره أو ندعه يفلت من أيدينا. السلطة ~~استراتيجية تمارس، وهي تمارس انطلاقا من نقاط لا حصر لها، وفي خضم علائق متحركة لا ~~متكافئة «إنها كالفأر لا ترى بوضوح إلا في متاهات الممرات الأرضية وداخل جحورها متعددة ~~المنافذ ... إنها تمارس نفسها كسلطة، انطلاقا من نقاط لا حصر لها ... تمارس نفسها في خفاء.» # 21 # من نفس المنطلق رأى فوكو أن هناك علاقة وثيقة بين أنظمة المعرفة (الخطابات) ونوع ~~الممارسات التي تحقق السيطرة والهيمنة الاجتماعية داخل سياقات محددة متعينة كالسجون ودور ~~العبادة، والمستشفيات، والجامعات، والمدارس، وعيادات الطب النفسي، فكلها أمثلة على المواقع ~~التي تمارس فيها كل أشكال القمع والقهر. وكل موقع من هذه المواقع له استراتيجية للقمع تختلف ~~عن الموقع الآخر؛ لذا فإن تفاصيل ما يحدث في كل موقع لا يمكن فهمها بمجرد الإحالة على نظرية ~~تعميمية كبرى. والموقع الوحيد الذي لا يمكن محوه، بحسب فوكو، هو الجسد البشري، فعليه تسجل ~~وإلى الحد الأقصى كل ms028 أشكال القمع. ويذهب فوكو إلى أنه «لا يمكن أن تقوم علاقات سلطة بدون مقاومات.» # 22 # وبؤر المقاومة عند فوكو، كما هي عند دولوز أيضا، تتمثل في جماعات المهمشين، ~~والجماعات الإثنية، والملونين، وحتى الشواذ جنسيا، هذه الجماعات تحدث خرقا في النظام، ~~وفي القواعد؛ لأن القوى المسيطرة تسقطها دائما من حساباتها. # 23 # وقد عبر الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز # H. Marcuse # عن هذا المعنى من قبل في ~~كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» # Der eindimensionale Mensch # عندما قال: «خلف الطبقات الشعبية ~~المحافظة يوجد أساس للمهمشين، والخارجين على قواعد المجتمع ... السلالات الأخرى ... الألوان ~~الأخرى ... الطبقات المستغلة المضطهدة، والعاطلون، وأولئك الذين لا يمكن توفير فرص عمل لهم. ~~إنهم يتموقعون خارج المسلسل الديمقراطي، وحياتهم تعبر عن الحاجة، الأكثر إلحاحا وواقعية، ~~إلى وضع حد للظروف والمؤسسات التي لا تطاق ... إن معارضتهم تضرب النظام من الخارج، ومن ثم، فإن ~~النظام لا يمكنه أن يدمجها. إنها قوة أساسية تخرق قواعد اللعبة، وبفعل هذا العمل تظهر أن ~~تلك اللعبة - لعبة الديمقراطية - كانت فاسدة.» # 24 # والواقع أن هذا هو النموذج الجديد للثورات التي يرى فيها دولوز إمكانية ~~للتحقق، في ظل تنامي وتوحش الرأسمالية العالمية، وسيطرة وسائل الإعلام. فنموذج الثورة ~~الشعبية التقليدية، بات وفقا لدولوز، ينتمي إلى الماضي، والبديل يكون عبر قيام ثورات جزئية ~~على يد الأقليات المهمشة، تحدث بالتدريج خرقا في النظام، يؤدي لانهياره. # 25 # ثمة ارتباط دائم بين اللغة والسلطة؛ فالبناء اللغوي المستقر يمارس دورا سلطويا «لم تصنع ~~اللغة من أجل الاعتقاد فيها وإنما من أجل الخضوع لها.» # 26 # والعلاقة وثيقة بين إنتاج المعنى والقوى التي تهدف إلى الإخضاع والسيطرة؛ ففي ~~اللغة تجد مفاهيم السلطة إمكانية دوامها وخلودها. من هنا تصبح اللغة ذاتها فعل سلطة، صادر ~~عمن بيده الهيمنة «حينما تفسر المعلمة عملية معينة للأطفال أو حينما تعلمهم التركيب، ~~فإنها لا تعطيهم في الحقيقة معلومات، وإنما تمرر لهم تعليمات وتبلغهم أوامر وتنتج لهم ~~تلفظات «وجيهة»، وأفكارا «صحيحة» مطابقة بالضرورة للدلالات السائدة.» # 27 # من هنا تصبح استراتيجية إطلاق الأسماء وتحديد العبارات والمعاني، استراتيجية ~~هيمنة وتسلط. لقد قال نيتشه من قبل: «إن حق السيد ms029 في إطلاق الأسماء يذهب إلى مدى بعيد، إلى ~~حد أنه يمكن اعتبار أصل اللغة كفعل سلطة صادر عن هؤلاء الذين يهيمنون. إن هؤلاء قالوا هذا ~~كذا وكذا، وألصقوا بموضوع ما وفعل ما لفظا معينا فتملكوهما.» # 28 # وبالتالي لن تصبح مسألة المعنى متوقفة على تحديد مواطن الحقيقة. بل إن مفهوم ~~الحقيقة ذاته سيتخذ معنى آخر ليصبح مجموع الطرق والعمليات التي يتم بفضلها إنتاج العبارات ~~وتوزيعها وتداولها. صحيح أن الحقيقة ستظل مرتبطة بأنظمة السلطة التي تولدها وتدعمها، لكنها ~~سترتبط أيضا بنتاجات السلطة التي تتولد عنها، يقول فوكو: «لا شيء أضعف من نظام سياسي ~~لا يكترث بالحقيقة، لكن لا شيء أخطر من نظام سياسي يدعي تحديد الحقيقة.» # 29 # حينئذ سيصبح لكل مجتمع نظام معين للحقيقة، وسياسة للمعرفة؛ أي أنواع من ~~الخطابات يقبلها ويسمح بتداولها على أنها خطاب الحقيقة، وآليات ومنابر تسمح بتمييز الصواب ~~من الخطأ، وتقنيات وطرق للتوصل إلى الحقيقة، ووضعية معينة لأولئك الذين يوكل إليهم إصدار ~~قول ما يعمل كحقيقة. يقول جرامشي # Antonio Gramsci ~~: «الجماعة التي تمسك بزمام السلطة في ~~المجتمع تصر دوما على أن المناقشة الفكرية يجب أن تتم من خلال اللغة التي تستخدمها (هذه ~~الجماعة) أو التي تفهمها وتقدم طريقتها للنظر إلى العالم وتأويله والهيمنة عليه.» # 30 # وقد رأى دولوز في نظرية العلامات ل «دي سوسير»، ما يعضد هذا الجانب السلطوي ~~للغة، وما يجعل من النص بنية مغلقة لا تسمح بتعددية المعنى. # إن أحد الإسهامات الهامة لدولوز، في تيار ما بعد الحداثة، هو الاهتمام بتفكيك الخطاب ~~السلطوي والكشف عن تجلياته وأشكاله في مجالات عدة، # 31 # وسيكون هذا عبر تحرير المعنى، وتأسيس تعدديته. وبعد أن كان الحديث عن السلطة ~~ولغتها لا يتم إلا لماما وبواسطة طرق رمزية ملتوية - مثل جعل الخطاب على لسان الحيوانات كما ~~في مزرعة الحيوان لأورويل # Orwell ~~- أصبح الآن يتم الحديث عنها على أساس هذا التعدد الحضوري ~~لها في كل خطاب «فهناك دائما تعدد في المعنى، تركيز وتكثيف وتركيب من التتابعات اللغوية ~~وأشكال التواجد المشترك، التي تجعل من التفسير والتأويل فنا ممكنا.» # 32 ~~(2) ضد العقلانية والحقيقة ms030 الموضوعية # هي قيمة بارزة أيضا من القيم النظرية لاتجاهات ما بعد الحداثة؛ إذ دائما ما توصف بأنها ~~«نزعات معادية للعقل» # hostile à la raison ~~. وهذه القيمة تعود إلى نيتشه في الأساس. فالواقع ~~أن الكثير من الطرق الرئيسة والفرعية لاتجاهات ما بعد الحداثة تعود إلى نيتشه؛ لذا ينبغي ~~أن نتوقف عند نقد نيتشه للعقل، ثم نوضح كيف تم توظيف ذلك النقد في تيار ما بعد الحداثة. # لقد رأى نيتشه أن صنم الفلاسفة الأكبر هو العقل: لقد آمنوا بقدرته على اكتشاف الحقيقة ~~والوجود، وجعلوا منه حاكما مطلقا، وجعلوا من قوانينه قوانين الوجود، ثم نزعوه من الحياة، ~~وجعلوه في منزلة أعلى من الوجود. وبدءوا يخلعون عليه صفات القداسة والسيادة، وتحول من كونه ~~أداة للحرية إلى أداة للقمع والقهر. # وقد نظر نيتشه إلى المنطق وقوانين الفكر، على أنها مجرد أوهام ضرورية للحياة، وأدوات ~~للتملك والسيطرة. فهي ضرورية للعقل كي يقوم بالتفكير، لكنه ما يلبث أن يفرضها على العالم ~~والوجود، ثم يدعي أنها مستمدة منه ونابعة من داخله، في حين أنها أوهام من خلق العقل ولا تمت ~~للواقع بصلة. فأشياء العالم الخارجي لا تسير وفق قوانين محددة، إنما هي في صيرورة دائمة ~~وتدفق مستمر، ومن المستحيل وجود قانون يحدها أو يستوعبها، إنما القوانين مجرد أداة وحيلة ~~اخترعها العقل فقط كي يقوم بعملية الإدراك. وبالتالي فإن «عدم معقولية شيء من الأشياء ليست ~~حجة ضد وجوده، بل بالأحرى إنها شرط لوجود هذا الشيء»؛ لأن الوجود المليء بالصيرورات يتناقض مع ~~العقل ويتنافى مع المعرفة العقلية؛ «إن الذي يمكن تصوره عقليا، لا بد أن يكون وهما لا حقيقة له.» # 33 # يستبدل نيتشه في فلسفته «إرادة القوة» # Der Wille zur Macht # ب «إرادة المعرفة» # Der Wille ~~zur Wissen ~~؛ فليست المشكلة عند نيتشه متعلقة بالبحث عن الحقيقة أو محاولة الكشف عنها؛ لأن ~~الحقيقة نفسها كلمة مضللة، فهي تنفي الاختلاف الذي هو من صميم الحياة. والمشكلة، وفقا ~~لنيتشه، أنه لم يتوقف فيلسوف من قبل للتساؤل عن كنه الحقيقة، بل كانت كل الأسئلة متمحورة ~~حول كيفية بلوغها أو شروط إمكانها. كل الفلسفات اعتبرت أن مسألة الحقيقة ms031 ليست في حاجة إلى ~~ما يبررها «اسألوا أقدم الفلسفات وأحدثها عن هذه المسألة تجدوا أنه ليس هناك من فلسفة واحدة ~~تعي أن إرادة الحقيقة بالذات تحتاج إلى تبرير.» # 34 # بل وأكثر من ذلك، غدت مسألة الحقيقة هي المنطلق والأساس الذي تتأسس عليه كل ~~فلسفة، وبالتالي أصبحت الحقيقة «صنما أو إلها يقدسه الفكر باحثا عن كل سبيل لبلوغه.» # 35 # في مقابل هذا الفهم، ينظر نيتشه للحقيقة على أنها حشد من الاستعارات والكنايات ~~التي تكونت عبر التاريخ، وتم التعامل معها بعد ذلك بوصفها بديهيات أو حقائق؛ «فالحقائق أوهام ~~نسينا أنها كذلك.» # 36 # وبالتالي فالعقل هو أكبر منتج للأوهام. من هنا يعلن نيتشه في «أفول الأصنام» ~~الحرب على كل الأصنام التي رسختها الفلسفة من قبله استنادا إلى قوانين العقل، التي هي في ~~صميمها محض تلفيق. # كان طبيعيا أن يلجأ نيتشه إلى الفن بوصفه الميدان البديل الذي تغيب عنه مفاهيم الحقيقة ~~والعقل والضرورة، وبوصفه منتجا للزيف والوهم، وقد قام نيتشه بنقل مفهوم الوهم من ~~الميتافيزيقا إلى الفن ليتحول إلى مفهوم جمالي؛ «فالفن والوهم مفهومان مرتبطان يشكلان وحدة ~~ينبثق داخلها معنى جديد للحياة؛ حيث يتم التزاوج بين الفكر والحياة داخل أحضان الجمالي؛ ~~فالفن والوهم إمكانية جديدة للحياة.» # 37 # وقد تابع فلاسفة ما بعد الحداثة تلك المقولات النيتشوية وأعادوا تفعيلها وتطبيقها على ~~ظواهر مختلفة؛ فقد تابع دولوز، على سبيل المثال، نيتشه في نفيه لوجود حقيقة متعالية، وفي ~~رفضه للتقسيم الأفلاطوني للعالم إلى ظاهر ومتعال، كما مضى بمحاولة نيتشه «قلب الأفلاطونية» ~~إلى نهايتها. كما أن تصور دولوز للعالم الذي تحكمه الصيرورة والعود الأبدي ... الاختلاف ~~والتكرار، مستمد في مجمله من فلسفة نيتشه. أما بالنسبة للفن، فقد اعتبره دولوز، مثل نيتشه، ~~أرقى قوة للزائف؛ إذ هو «يعظم الحياة بوصفه خطأ، ويقدس الكذب ويجعل من إرادة الخداع مثلا أعلى.» # 38 # وإذا كان الفن يقف عند ظاهر الأشياء ولا يعبر عن حقيقتها، كما ذهب أفلاطون، ~~فإن دولوز يرى أنه ليس ثمة «ما وراء» لهذا الظاهر، وأن أكثر الأماكن عمقا هو السطح الخارجي ~~للشيء. كل هذه الآراء ms032 مستمدة من نيتشه، وقد وظفها دولوز في فلسفته، وبنى عليها العديد من ~~مواقفه. # توصف حركة ما بعد الحداثة بأنها حركة «جمالية» # Aesthetics ~~. # 39 # تعلي من الشأن الجمالي بوصفه بديلا معاصرا للعقلانية، ومن «الجسد» و«الرغبة» ~~بديلا للعقل والفكر، ومن الصيرورة والاختلاف بديلا لقوانين الهوية وعدم التناقض. وقد ~~استمر الخط النيتشوي في التضخم بعد الدعم الذي تلقاه من فلاسفة النظرية النقدية وفلسفة ~~هيدجر، ليصل إلى أقصى إمكاناته وقدراته الكامنة عند فلاسفة ما بعد الحداثة. كان نيتشه يقول ~~عن نفسه إنه «ديناميت»، وقد ظل هذا الديناميت في النمو والتضخم إلى أن انفجر مدويا في ~~مرحلة ما بعد الحداثة، محدثا أثرا تفجيريا - وربما تدميريا - هائلا. # لقد رأى فلاسفة ما بعد الحداثة أن إخراج الإنسان من النسق الذي حوله إلى ماهية عقلية ~~مجردة، يمكن أن يتحقق خارج لغة المنطق وأسوار العقل؛ وذلك بالعودة إلى الفن واللغة، هنا ~~يمكن أن يتجلى البعد الوجودي للإنسان. إن الحكماء السابقين على سقراط لم يكونوا يتكلمون ~~بلغة «المنطق الصوري» للتعبير عن الإنسان وعن الوجود، بل كانوا يعبرون بواسطة القصائد ~~الشعرية وبلغة الرمز. لكن عندما جاء أفلاطون، ومن بعده أرسطو، وضع الشعر في أدنى مراتب ~~القول؛ لأن الشعر لا يتحرك في فضاء الحقيقة وإنما يتحرك في مجال المجاز. وبعد أفلاطون سيطرت ~~لغة المنطق والعقل على الخطاب الفلسفي، وتحول الإنسان إلى قضية منطقية تتكون من موضوع ~~ومحمول. لذا، فتحرير الإنسان لا يمكن أن يتحقق إلا إذا غيرنا الطريق الذي أوصله إلى ~~العبودية. وقد وجد فلاسفة ما بعد الحداثة - متابعين في ذلك نيتشه - أن البديل هو أن نستبدل ~~القول الفني أو الجمالي بالقول المنطقي؛ أي العودة إلى ديونيزوس من جديد. لذا تحفل مؤلفات ~~فلاسفة ما بعد الحداثة بالإحالة على تاريخ الفن، أكثر من إحالتهم إلى تاريخ الفلسفة. # يكتب فوكو عن «تاريخ الحمق» # Histoire de la Folie # لا عن «تاريخ العقل»؛ لأن الحمق هو خطاب ~~اللاعقل، إنه الخصم العنيد للنظام الذي ينبني عليه العقل. أعاد فوكو قراءة تاريخ الحمق ~~لاكتشاف بنيته؛ فالحمق واقعة إنسانية وظاهرة مرتبطة بالمدنية الحديثة التي ms033 استبعدته ~~باعتباره شذوذا عن القاعدة باسم العقل؛ لذا يذهب موريس كلافيل # Maurice Clavel # إلى أن كتاب ~~فوكو «ولادة العيادة » # Naissance de la Clinique # هو الكتاب الأول الذي برهن على أن العقلانية ~~أداة هيمنة واستعباد للناس. # 40 # لقد نظر فوكو إلى الحمق في سياق علاقته بمفهوم السلطة؛ فالسلطة العقلية هي ~~التي أعطت لنفسها حق التمييز بين «العقل» و«الحمق». إن المجنون كمريض، قدمته الشرطة بعد ~~إلقاء القبض عليه إلى الطبيب، أصبح موضوعا لعلم جديد. لذا فالعلم الجديد لم يكتشف موضوعه ~~طبقا لشروط إبستمولوجية معينة، بل قدمته له السلطة ك «قضية» أو «ملف». لقد أظهر فوكو أن ~~السلطة تعاقب من يخرج عن طاعتها وتهمشه بوصفه شاذا، # 41 # بوصفه آخر؛ أي إن كل من يخرج عن منطق «العقل الاجتماعي» القائم على قيم ~~الإنتاج، سوف يلقى به في دائرة الشذوذ. # والواقع أن ما يمكن أن نستخلصه من أطروحة فوكو هو أن الحقيقة، أو ما يبدو على أنه حقيقة، ~~هو في عمقه لعبة سلطوية تمارس على فئة بعينها من أجل خدمة القوى المتحكمة في الصراع، يقول ~~فوكو: «إن الحقيقة مرتبطة بأنظمة السلطة التي تولدها وتساندها.» # 42 # في نفس السياق تقريبا يرى دولوز أن هناك تنظيما يوجه الفكر إلى ممارسة ذاته ~~وفق قواعد سلطة أو نظام سائدين، وبمرور الوقت «يتحول هو ذاته (أي الفكر) إلى سلطة، أو ~~محكمة»، هذه المحكمة التي تمثلها «سلطة العقل»، حدث بينها وبين الدولة (كنظام سياسي) نوع من ~~التواطؤ، بحيث أصبحت الفلسفة اللغة الرسمية للدولة. وبالتالي فإن من مصلحة الدولة أن تجعل ~~من الفلسفة أداة للسيطرة على الفكر ووضعه في قوالب جامدة. # 43 # وبديلا لهذه القوالب الجامدة الموروثة من تاريخ الفلسفة، يطرح دولوز العديد ~~من المفاهيم التي تقف أمام ثبات الفكر، والصورة التقليدية للعقل ومقولاته، ك «الصيرورة» ~~و«الارتحال» و«خطوط الهروب» و«الرغبة». # 44 # ويجعل جاك دريدا من «تفكيك الأنساق الميتافيزيقية التي شيدها العقل المحض» هدفا لمشروعه ~~التفكيكي. ويجعل ليوتار من مبدأ الرغبة أساسا لمناهضة فكرة «العقل»، ويحاول رورتي (1931-2007م) من خلال ما أسماه ~~الفلسفة المنشأة # La philosophie édifiante # أن يزيل التمييز بين ~~مفهوم «الحقيقة ms034» و«المجاز»، ليجعل من الفلسفة «جنسا أدبيا بسيطا» يمكن إدراجه تحت تاريخ الفنون. ~~ومن نفس المنطلق أيضا يرى بودريار أن محاولة اكتشاف الحقائق الثابتة الكامنة خلف الأشياء ~~هو وهم يجب التخلص منه «فما بعد الحداثة في الأصل مناهضة لفكرة المعنى الكامن وراء الأشياء.» # 45 # والنتيجة ضياع مفهوم «العقل»، وغياب «الحقيقة»، في واقع تتجاور به قوى عديدة ~~تسعى للسيطرة عليها واستحواذها. # والواقع أن نفي ادعاء امتلاك الحقيقة الذي ينادي به فلاسفة ما بعد الحداثة لا يستوجب ~~أبدا نفي وهدم كل المقولات المعرفية الخاصة بمسألة المعنى والحقيقة والواقع. وهنا ربما ~~تجدر العودة إلى هابرماس: # 46 # لقد رأى هابرماس أن المآل الذي وصلت إليه هذه الطرق، أسوأ من الأزمة التي انتهت إليها ~~الحداثة. ذلك أن رد الفعل العنيف تجاه العقلانية الحديثة التي تلازمت مع الحداثة، أدى ~~بأصحابه إلى السقوط في الاتجاه المضاد؛ أي في الطرف الأقصى للحداثة، وهو اللاعقل. كما أن ~~محاربة النسق أدى إلى تدمير الذات المسجونة فيه، مما جعل الإنسان يغيب من مشاريع ما بعد ~~الحداثة. لم ينتبه هؤلاء إلى أن سحقهم للأنساق، جرف معه انسحاق الإنسان أيضا. وما عبارة ~~فوكو التي يقول فيها إن النزعة الإنسانية هي أثقل ميراث انحدر إلينا من القرن التاسع ~~عشر ... وقد حان الأوان للتخلص منه، ومهمتنا الراهنة هي العمل على التحرر نهائيا من هذه النزعة؛ # 47 # إلا دليل سافر على ذلك. # لهذا يرى هابرماس أن البديل الممكن للعقل الحديث ليس هو اللاعقل، بل هو العقل التواصلي # Der Grund Kommuniationsmaschine ~~؛ أي البحث عن بديل لنوعية العقل، وليس إلغاء العقل كليا. ~~فالعقل الخالص الذي حول الإنسان إلى ماهية ميتافيزيقية، يمكن أن نقارنه بعقل آخر قادر على ~~الربط بين هذه الذرات المنعزلة، وهذه الماهيات الكامنة وراء الوجود. إذا فالقضية ليست هي: ~~كيف نسحق النسق؟ بل هي: كيف نحرر الذات من سجن النسق؟ # العقل التواصلي - كحل للخروج من أزمة العقل النظري - لا يهدف إلى إنتاج معرفة علمية عن ~~الموضوع أو عن الذات، كما كانت تهدف فلسفات الحداثة، بل هدفه إقامة أرضية صالحة للتفاهم بين ~~الذوات ms035 وإخراجها من عزلتها. هدف العقل التواصلي إقامة الجسور القادرة على الربط بين الأنا ~~والآخر، والبحث عن الوسائل الممكنة لتحقيق هذا الهدف. ولهذا يعود هابرماس إلى هيجل؛ لأن ~~هيجل هو الذي حاول إقامة التواصل بين الأنا والآخر بواسطة الجدل. فالذات يمكن أن تتحول - ~~بفضل المنهج الجدلي - إلى نقيضها؛ أي إلى الموضوع، وبذلك تتمكن من تحقيق حريتها. إلا أن هيجل ~~عندما أوقف حركية الجدل، انغلق النسق من جديد. # 48 # ورغم أننا نعثر عند هيجل على نظرية للسلطة والسيادة (جدل السيد والعبد) تصلح ~~للبناء عليها، إلا أن ما بعد الحداثة لا تلتفت إلا إلى ما يخدم تصوراتها، يقول هابرماس: «لقد ~~كان هناك نضج مبكر في نقد الأوجه القمعية للعقل عندما يكون هذا الأخير مشدودا إلى بعد ~~واحد ... وهذا النقد الذاتي للعقل، والذي نظر إليه منذ نيتشه بوصفه كشفا جديدا، كان حاضرا ~~منذ البداية عند كانط، ثم استمر مع هيجل ونيتشه، كان حاضرا في قلب الحداثة ذاتها، لكنه لم يستثمر.» # 49 # وأمام دعاوى موت الإنسان، ونهاية الفلسفة، وتفكيك العقل، والانتصار للاعقل، ~~يلاحظ هابرماس، بنوع من الهدوء أنه «في العشر سنوات الأخيرة، أصبح النقد الراديكالي للعقل ~~مجرد موضة.» # 50 ~~(3) ضد الكلية والشمولية # كانت فكرة النسق سائدة في الحقبة الحداثية؛ حيث كان الفيلسوف ينظر إليه، وينظر هو إلى ~~نفسه، على أنه مفكر كوني شمولي، وبالتالي لا بد أن يكون له رأي في كل قضية، وهذا الرأي يشكل، ~~بجوار آرائه الأخرى، نسقا متكاملا يتصف بالكلية والشمولية. وقد ظلت فكرة النسق سائدة حتى ~~القرن العشرين، وإن خفتت حدتها مع ظهور الفلسفات التي اهتمت بالمناهج لا المذاهب - كالفينومينولوجيا والفلسفة التحليلية. لكن ظلت فكرة النسق كامنة بصورة أو بأخرى في لا وعي ~~الفيلسوف، يقول دولوز: «لقد اعتبر المثقف نفسه خلال فترة طويلة ممتدة من القرن الثامن عشر ~~حتى الحرب العالمية الثانية (ربما حتى سارتر وزولا) حاملا لقيم شمولية.» # 51 # ونتيجة للتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي زادت وتيرتها في القرن العشرين، ~~بدأ بعض المفكرين (من أمثال فلاسفة مدرسة فرانكفورت، والفلاسفة الوجوديين) النظر إلى مفهوم ~~الكلية ms036 والشمولية بعين الريبة؛ أولا: لأن الواقع لا يتجاوب مع كل ما هو كلي أو شمولي. ~~ثانيا: لأن التاريخ لم يقدم لنا نموذجا متحققا لفكر شمولي. وثالثا: لأن هذه الأفكار تم ~~توظيفها من قبل قوى تهدف للسيطرة والهيمنة. من هذا المنطلق رأى أدورنو # Adorno # أن الكلية ~~ينبغي أن ينظر إليها على أنها حقل من القوة متشظ ومتنافر بعيد عن الانسجام، فكل ما هو مفرط ~~في نظاميته وسلاسته ينبغي أن ينظر إليه بعين الريبة والشك، وعلى أنه يعكس ضروبا زائفة من ~~التناغم والانسجام تنبعث من المجتمع. والحال، أن أدورنو يرفع شعارا مقتضبا يقول «الكل غير حقيقي». # 52 # استثمر فلاسفة ما بعد الحداثة انتقادات أدورنو - ومن قبله نيتشه - وغيره من فلاسفة مدرسة ~~فرانكفورت، للأنساق الكلية الشمولية، وبدءوا في عملية نقد عنيف لكل النظريات والفلسفات التي ~~ادعت الكلية والشمولية، يقول إيجلتون: «تشير ما بعد الحداثة إلى موت السرديات الكبرى، تلك ~~التي كانت تتمثل وظيفتها الإرهابية السرية في وضع أساس لوهم تاريخ بشري «شامل» وإضفاء ~~الشرعية عليه. نحن الآن في سياق عملية الصحوة للانتقال من كابوس الحداثة، مع عقلها ~~المخادع # Manipulative # وتبجيلها المبالغ فيه لفكرة الكلية، إلى التعددية الراسخة ما بعد الحداثية، ~~تعددية المجال المتنافر اللامتجانس لأساليب الحياة وألعاب اللغة التي تخلت عن دافع الحنين ~~إلى الكليات وإلى شرعنتها. وعلى العلم والفلسفة أن يتخليا بالتالي عن ادعاءاتهما ~~الميتافيزيقية الفخمة والنظر إلى ذاتهما بتواضع أكبر، باعتبارهما فئة أخرى بالضبط من الروايات.» # 53 # هذا النص يلخص تماما الموقف ما بعد الحداثي من فكرة الكلية والشمولية ~~والأنساق المغلقة، وفي مقابل ذلك يختص فلاسفة ما بعد الحداثة بالتعددية والاختلاف ~~والتشظي. # في كتابه «الوضع ما بعد الحداثي» (1979م) يعلن ليوتار وفاة «السرديات الكبرى» أو الحكايات ~~الميتافيزيقية # méta-récits ~~، ويقصد بها التصورات الشمولية التي كانت سائدة إبان عصر ~~الحداثة، والتي تعتمد في بنائها على تصور كلي، كالروح المطلق وخلق الثروات والشيوعية ~~والديمقراطية والنزعة الإنسانية والروح العلمية ... إلى آخر تلك الأفكار التي أطلقها الغرب ~~وأثبت الواقع فشلها «ذلك أن معسكر التعذيب في أوشفيتز ينتقص القول العقلاني، وتجبر وعناد ms037 ~~ستالين يفندان الأطروحة الإنسانية، واندلاع ثورة مايو 1968م إيذانا بانزلاق مزاعم الليبرالية ~~في هوة سحيقة.» # 54 # وقد ميز ليوتار على الخصوص بين ثلاث من تلك السرديات وهي: العلم الوضعي باعتباره ~~مفتاحا للتقدم البشري، على ما يقول ماخ، وهرمينوطيقا (المعنى) باعتبارها مفتاحا للتكوين ~~الذاتي البشري على ما يذهب إليه همبولت والمثالية الألمانية، والصراع الطبقي كمفتاح لخلاص ~~الجنس البشري أو الإنسان على ما يقول ماركس. إلا أن هذه الميتاحكايات أو السرديات الثلاث قد ~~ظهر فسادها على الرغم من كل ما قدمته من قضايا ونظريات عامة كلية وشاملة، وهو الشمول الذي ~~يرفضه ليوتار وفلاسفة ما بعد الحداثة، ويقفون منه موقف التشكيل والمعارضة؛ فمشروعية المعرفة ~~في مجتمع ما بعد الحداثة تتم عن طريق أمور أخرى بعد أن فقدت هذه الأساطير مصداقيتها، ولم ~~يعد هناك في نظر ليوتار أي أسطورة أو قصة أو حكاية عليا مسبقة، كما لم يعد هناك أي صورة ~~واحدة أو صيغة واحدة للخطاب يمكن أن تقوم وتعلو وترتفع فوق غيرها من الصور أو الصيغ، كما ~~أنه لم يعد هناك شكل واحد للمعرفة يمكن اعتباره أساسا لبقية أشكال المعرفة الأخرى، وإنما ~~هناك بدلا من ذلك أشكال وأنواع وصيغ متعددة لما يسميه الألعاب اللغوية، وهو مصطلح مستمد من ~~كتابات فتجنشتاين المتأخرة كما سبق لنا القول، وتقوم فكرته عند ليوتار على أساس أنه لكي ~~نعرف معنى كلمة أو عبارة ما فلا بد من أن نعرف طريقة استخدامها، وكيف تؤدي دورها في التفاعل ~~بين الناس. وعلى ذلك، فليس هناك لغة ماورائية (أو ميتا-لغة) واحدة يمكن أن تضم كل أشكال ~~وألوان العبارات والتعبيرات وتؤلف خلفية أو أرضية لها كلها. وإذا كان العلم يصدر أحكاما ~~وتعبيرات معرفية، فإن هناك أنواعا أخرى كثيرة من التعبيرات تخرج عن نطاق العلم مثل ~~التعبيرات الأدائية، فحين يعلن رئيس جامعة - مثلا - أن العام الدراسي قد بدأ، فإن هذه ~~العبارة لا تؤلف تعبيرا أو حكما معرفيا، وإنما هي تعبير عن فعل أدائي فحسب. وعلى ذلك فإن ~~قواعد وشروط الخطاب ليست مقررة سلفا، وإنما ms038 هي تظهر وتتضح أثناء الحديث نفسه. ولذا فقد ~~يكون من التعسف محاولة إقرار وفرض نوع واحد أو شكل واحد من أشكال الخطاب أو التفكير، ~~وليوتار يصف مثل هذه المحاولات بأنها «شمولية» أو «فاشية» أو حتى «إرهابية» خليقة بأن تقابل ~~بالرفض لأنها تهدف إلى تحطيم الآخر. والخلاصة من هذا كله، هي عدم وجود قاعدة عامة أو دستور ~~أو قانون كلي # Code # مطلق للمعرفة وعدم وجود أي معيار كلي مطلق للصدق، وأن ما بعد الحداثة ~~تؤلف من الناحية المعرفية البحتة الخطوة أو الحركة الأخيرة في (الحرب ضد الشمولية) والكلية ~~والعمومية التي كانت تسيطر على الفكر الغربي الحديث حتى منذ ما قبل أيام ماكس فيبر. # 55 # ويرى ليوتار أن هذه السرديات روجها الغرب للحفاظ على الاستقرار والنظام، وهي أوهام ينفيها ~~الواقع العملي. وكل مجتمع - في نظر ليوتار - له سردياته التي يروج لها؛ «فالوهم الكبير في ~~الثقافة الأمريكية هو أسطورة أن الديمقراطية هي شكل الحكم الأكثر تنويرا و«عقلانية»، وأن ~~«الديمقراطية ستقود إلى السعادة الإنسانية».» والأمر نفسه في الماركسية أيضا؛ «فوهم ~~الماركسية هو أن الرأسمالية ستنهار وينهض على أنقاضها عالم اشتراكي طوباوي.» ويؤكد ليوتار ~~أن كل جوانب المجتمعات الحديثة، بما في ذلك العلم كشكل أولي للمعرفة، تعتمد على هذه ~~السرديات الكبرى، والتي يكون الهدف منها استخدامها كقناع لإخفاء التناقضات والاختلافات في ~~أي تنظيم أو ممارسة اجتماعية. بعبارة أخرى، فإن كل محاولة لخلق «نظام» ينتج عنها دائما ~~خلق مواز من «الاضطراب والفوضى»، ولكن «السرد الكبير يخفي تناقض هذه النماذج الفوضوية ~~من خلال التأكيد على أن «الاضطراب» بالفعل فوضوي ورديء، وأن «النظام» بالفعل عقلاني وخير.» # 56 # وبديلا لذلك يدعو ليوتار إلى حكايات صغرى # petits récits # موضوعية، تتناول ~~قضايا المهمشين والمنبوذين وثقافات الأطراف، «إنها حكايات عارضة، ظرفية، لا تدعي العالمية ~~والحقيقة، أو العقل والاستقرار.» # 57 # وهو بهذا، يؤكد على التخلي عن الأطر المستقرة، وعلى عدم جدوى أية محاولة ~~للتغيير الجذري للمجتمع الراهن، وهو ما يتضح في مفاهيمه كالتجاوز والذات والتاريخ والتقدم، ~~واعتباره التاريخ مفتوحا على احتمالات عدة. # لقد رفض فلاسفة ما بعد الحداثة ms039 فكرة أن تستطيع بنية فكرية ما، أو وحدة منطقية مزعومة، أن ~~«تمثل» عددا معينا من البنيات أو الوحدات الفكرية الأخرى . فالواقع متعدد ومختلف، لا قانون ~~له سوى قانون الصيرورة، ولا مكان فيه لفكرة الاتساق والاكتمال. # في مقالته «بلاغة الصورة» # Rhétorique de l’image ~~(1987م) رأى بارت أن الأحكام الكلية ~~تنبثق غالبا من «منظومات فكرية مكتملة» أو من تكوينات منطقية تدعي «الشمول»، ثم تصير ~~نفسها سجينة النظرة المقعرة التي تشكلها هذه النظم. وفي النهاية يغيب الواقع ووقائعه عن هذه ~~النظم وما تحتويه. # 58 # ووفقا لهذا الفهم فإن المفكر لا بد أن ينطلق من إشكاليات جزئية يحاول الإجابة ~~عليها إجابات جزئية لا تدعي الشمول. ويعطينا دولوز أمثلة من هذه الإشكاليات يصيغها على شكل ~~أسئلة كالآتي: ماذا أستطيع أن أعرف؟ ماذا أستطيع أن أرى؟ ماذا باستطاعتي التعبير عنه؟ ماذا ~~بإمكاني أن أعمل وإلى أية سلطة نطمح، وأية مقاومة يلزم إبداؤها؟ ماذا باستطاعتي أن أكون؟ ~~كيف أولد كذات؟ في هذه الأسئلة - يقول دولوز - لا يشير ضمير المتكلم إلى شيء كلي، بل إلى جملة ~~من المواقع الفردية تشغلها أفعال غير مبنية للمعلوم ولا تستند إلى فاعل؛ فهي مبنية ~~للمجهول ... وأي إجابة كيفما كانت لا يمكن نقلها والقفز بها من عصر إلى آخر. # 59 # ومن هنا يدعو دولوز لصورة جديدة للمفكر والمثقف، صورة أكثر واقعية وأكثر ~~التصاقا بالحياة «لقد صار المثقف يتقلب اليوم بين أمكنة نوعية وبين نقاط فردية ... لقد بات ~~المثقف قادرا على أن يتكلم لغة الحياة، بدل لغة الحق.» # 60 # وهو يرى أن ما حدث في 1968م ساهم بصورة قوية في ظهور هذه الصورة الجديدة. في ~~نفس السياق يقول ميشال فوكو محددا أرضية ميلاد هذا الجيل الجديد: «لقد مرت تلك الحقبة ~~الكبرى من الفلسفة المعاصرة، حقبة سارتر وميرلوبونتي؛ حيث كان على كل نص فلسفي، أو نص نظري ~~ما، أن يعطيك في نهاية المطاف معنى الحياة والموت ومعنى الحياة الجنسية، ويقول لك هل الله ~~موجود أم لا، وما هي الحرية وما ينبغي عمله في الحياة السياسية، وكيف تتصرف مع الآخرين ... ~~إلخ. لقد ms040 تكون لدينا انطباع بأنه لم يعد ممكنا اليوم ترويج مثل هذه الفلسفة، وبأن الفلسفة ~~قد تكون في حالة تشتت، إن لم تكن قد تبخرت، وبأن ثمة عملا نظريا يغلب عليه بشكل أو بآخر ~~طابع التعدد.» # 61 # ويميز فوكو بين «المفكر الشمولي» والمفكر «المتخصص»؛ فالأول يعتبر نفسه مالك الحقيقة ~~والعدالة «ضمير الجميع وممثل الكل»؛ أما الثاني فهو مفكر في «حدود معينة» في «نقط دقيقة» ~~ومجالات ومشكلات خاصة «لا يتمثل عمل المثقف في تشكيل الإرادة السياسية للآخرين؛ إذ بأي حق ~~يفعل ذلك، بل في إعادة مساءلة البديهيات والمصادرات عن طريق التحليلات التي يقوم بها في ~~المجالات الخاصة به، وفي زعزعة العادات وطرق العمل والتفكير، وفي تبديد المألوف والمسلم به، ~~وفي استعادة حدود القواعد والمؤسسات.» # 62 # ولا يتم هذا - بحسب فوكو - وفقا لنظريات وأنساق كبرى، ولا بأن يتصور المفكر أنه ~~ضمير المجتمع والمتحدث نيابة عن الآخرين. إن ما اكتشفه المثقفون منذ انتفاضة 1968م - يقول ~~فوكو - هو أن الجماهير لم تعد تحتاج إليهم لمعرفة واقعها، إنها تعرف ذلك تماما وبوضوح وبشكل ~~أفضل منهم، لكن يوجد نظام من السلطة يسد ويمنع ويقلل من قيمة هذا الخطاب وهذه المعرفة. سلطة ~~لا توجد فقط في الأوامر العليا للرقابة ولكن تتجذر بعمق وبدقة في كل شبكات المجتمع. ~~والمثقفون أنفسهم يشكلون جزءا من نظام السلطة هذا، وفكرتهم القائلة بكونهم أدوات «الوعي» ~~و«الخطاب» تشكل أيضا جزءا من هذا النظام. # 63 # وقبل فوكو ودولوز اضطر سارتر نفسه تحت وطأة الضربة القوية التي أحدثتها ثورة ~~مايو 68 في ذات المثقف، إلى تغيير تصوره للمثقف: «إن أحداث مايو 68 التي انخرط فيها، والتي ~~مسته بعمق، كانت بالنسبة له فرصة لمراجعة جديدة. لقد أحس بتشكك من وجوده كمثقف، ومن ثم اضطر ~~في غضون السنتين اللاحقتين، إلى التساؤل حول دور المثقف، وإلى تغيير التصور الذي كان لديه ~~عنه.» وهو في هذا يتشابه كثيرا مع مفكري 68 «إن المثقف محكوم عليه بالانسحاب من الأفق كإنسان ~~يفكر بدل الآخرين: أن نفكر بدل الآخرين، أمر غير معقول يضع مفهوم المثقف ذاته موضع سؤال ms041.» # 64 # يعد مفهوم «التشظي» # fragmentation # من المفاهيم الحاضرة باستمرار داخل النص ما بعد ~~الحداثي «إن حقيقة ما بعد الحداثة الأكثر بروزا هي قبولها الكامل للحظي ، المتشظي والمتقطع والفوضوي.» # 65 # ذلك أن الحياة ذاتها متشظية، لا تخضع لأي نوع من الوحدة والانسجام. وإذا كان ~~ذلك كذلك، فإن طريقة استجابة ما بعد الحداثة لهذه الحقيقة، إنما تجرى بطريقة خاصة؛ فهي لا ~~تحاول تجاوزها ولا الهجوم عليها، ولا حتى بلوغ العناصر «الثابتة والدائمة» التي يمكن أن ~~تكون فيها. ما بعد الحداثة واقع يسبح، بل يتمرغ، في موجة من التشظي والتغير والصيرورة كما ~~لو كان ذلك هو كل ما في الأمر # 66 ~~«أن يكون كل شكل وقتيا وعابرا، تلك هي البداهة نفسها، ما دام ~~يتبع علاقات القوى ويكون رهينا بتقلباتها.» # 67 # ويقترح علينا دولوز «تطوير ممارسة وفكر ورغبات» عبر «تفضيل ما هو وضعي ومتعدد، ~~وتفضيل الاختلاف على التجانس، والمتحرر على الموحد، والمنفلت على النظام، والمتغير على الثابت.» # 68 # ذلك أن «كل شيء يتسم بالتغير وعرضة للتنوع.» # 69 # بل إن الكتابة نفسها عند بارت «ليست أبدا وسيلة اتصال ... إنها فوضى تنثال عبر ~~الكلام وتمنحه الحركة ...» # 70 # يستند مفهوم التشظي عند فلاسفة ما بعد الحداثة على تصورهم للتاريخ البشري بوصفه مكونا ~~من لحظات منفصلة غير مترابطة، وبدلا من محاولة تقديم أساس لإمكانية قيام ذات متماسكة في ظل ~~عالم من الوقائع المتغيرة، يحاول فلاسفة ما بعد الحداثة السباحة مع التيار، استنادا لعدم ~~إيمانهم بفكرة التقدم الخطي للتاريخ «لقد انهار نظام الكوزموس، وتفتت عبر تداعيات ووجهات ~~نظر لا تتواصل فيما بينها.» # 71 # ووفقا لهارفي فإن مقولة ماركس وفلاسفة النظرية النقدية عن «استلاب الذات» ~~ستكون بلا معنى؛ إذ إنه لتكون الذات مستلبة، يجب أن تكون أولا متماسكة متجانسة، وليست مجرد ~~أجزاء أو شظايا. وقدرة الفرد على التفكير في المستقبل، إنما هي ممكنة فقط «بفضل شعوره ~~بمركزية ذاته أو هويته.» # 72 # لذا فإن اختزال حياتنا في «سلسلة من لحظات الحاضر المجردة وغير المترابطة» ينجم ~~عنه «أن عيش الحاضر» يغدو موقوفا وبقوة ل «المادي» وللظاهر، «إنه عالم يأتي إلى الانفصام ~~عنيفا ms042، وحاملا قوة المشاعر السرية والقمعية، ومتوهجا بدوافع الهلوسة. وعليه فما الذي ~~يحدث إذا فقد العالم آنئذ عمقه وبات عرضة لأن يكون سطحا رقيقا ، ووهما، أو مجرد تتابع ~~لصور فيلم من دون معنى؟» # 73 # والنتيجة أن هذه الروح المتشظية قد حولت الذات من كونها واعية لديها القدرة على تكوين ~~المعنى، إلى ذات انفصامية تفتقد المعنى في كل ما يتراءى لها (الانفصام هنا ليس بالمعنى ~~السريري الضيق). # 74 # ويفترض دولوز وجاتاري في «أوديب-مضادا # l’Anti-Oedipe ~~» علاقة بين انفصام الشخصية ~~والرأسمالية التي تشيع «في المستوى الأعمق نفسه من الاقتصاد، وعملية الإنتاج» مستنتجين أن ~~«مجتمعنا ينتج الانفصامات مثلما ينتج شامبو «بريل» وسيارات «فورد» مع فارق وحيد هو أن ~~«الانفصامات لا تباع».» # 75 # لكن في ظل غياب مفهوم العقل والحقيقة والنسق والمعيار، وحلول قيم العدمية والتشظي ~~والتعددية والاختلاف، هل يوجد في الخطاب ما بعد الحداثي مفهوم محدد للأخلاق؟ هل يمكن الحديث ~~عن أخلاق ما بعد حداثية؟ أو عن معايير أخلاقية في عالم ما بعد الحداثة؟ # ما دمنا لا نستطيع، كما يشدد مفكرو ما بعد الحداثة، أن نطمح إلى أي تمثيل موحد للعالم، أو ~~تصوره كلا مشتملا على روابط وصلات، وإنما مجرد شظايا في حالة تدفق مستمر؛ فإن الحديث عن ~~«ما هو معياري» سيصبح ضربا من الوهم. لذا يضيع مفهوم «الأخلاق» بالمعنى التقليدي ويتم ~~استبداله بمفهوم «القانون»؛ فالقانون وقتي ووضعي وقابل للتغير وهو مرتبط بظروف المكان ~~والزمان الذي يوجد فيهما. سوف تصبح إذا مفاهيم «الخير» و«الشر» مفاهيم نسبية عابرة داخل ~~حدود وظروف ما محدودة وفي إطار تفسيري ما، وحين ينظر إلى أي فعل خارج هذين المجالين سيصبح ~~بلا معنى. ويرى رورتي في مقالة كتبها بعنوان «التضامن» # Solidarity # أن هؤلاء الذين ساعدوا ~~اليهود في الحرب العالمية الثانية قد فعلوا ذلك ليس لأنهم رأوا فيهم إخوانا في الإنسانية، ~~ولكن لأنهم ينتمون إلى نفس المدينة، أو نفس المهنة، أو نفس المجموعات الاجتماعية التي ~~ينتمون إليها هم أنفسهم. ونفس الدافع أيضا هو الذي يدفع الأحرار الأمريكيين العصريين إلى ~~مساعدة الأمريكيين السود المقهورين، ويتساءل رورتي ms043: «هل ينبغي أن نقول إن هؤلاء الناس يجب أن ~~نقدم لهم المساعدة لأنهم إخواننا في الإنسانية، إنهم قد يكونون كذلك بالفعل، لكن الشيء ~~المقنع سواء أخلاقيا أو سياسيا، هو أن نصفهم بأنهم إخواننا في الوطن الأمريكي، وأن نصر ~~على أنه شيء مخز أن يعيش أي أمريكي بلا أمل.» # 76 # يربط إذا رورتي الأخلاق بالعرقية ويجعلها تابعة لمفهوم الوطنية والانتماء، رغم ~~أن الوطنية والانتماء ينبغي النظر إليهما على أنهما «فضيلتان أخلاقيتان». # التعددية: القيمة الأبرز لفلسفة ما بعد الحداثة. # من نفس المنطلق أيضا ترفض ما بعد الحداثة فكرة «المساواة» و«حقوق الإنسان» بصيغتها ~~العالمية بما تتضمنه من تنميط للإنسان؛ فهي أقرب إلى الأفكار الشمولية الحداثية؛ لأنها ~~تنطلق من فرضية مفادها وجود قاسم مشترك بين البشر (المساواة)، لكن الواقع وتجارب الشعوب ~~تثبت تهافت هذا الادعاء؛ فهو مفهوم طوباوي غير قابل للتحقق في عصر الرأسمالية، وانفصام ~~الشخصية، والإنسان الذي يحكمه فقط قوانين الربح والخسارة والقيم الاستهلاكية. كما أن ~~«الدعوة لحقوق إنسان عالمية» تلغي الاختلاف والتمايز بين الشعوب، ولا تضع الأقليات ~~والجماعات الإثنية في حساباتها. إنها تهدف إلى «توحيد» البشر و«تنميطهم»، وبالتالي المؤالفة ~~بينهم بدل المخالفة، كما أنها «أداة» في يد القوى المهيمنة تلوح بها وقتما تشاء وتتغاضى ~~عنها حسبما تقتضيه مصلحتها. والسؤال هو من يمتلك تحديد الحقوق؟ من الذي يملك تحديد العادل ~~من غير العادل؟ يقول ليوتار في مقاله «شرطة الفكر» # La Police de la Pensée # 77 ~~«إن إضفاء الشرعية على حقوق الإنسان يشترط إبراز اللحظة ~~اللاإنسانية للقانون.» ويقصد ليوتار بذلك أن تحديد حقوق عالمية للإنسان تفترض وجود ذات لا ~~إنسانية هي التي قامت بتحديدها، وما دام هذا لم يتحقق، فإن شرط مشروعيتها قد سقط. # وكبديل لهذا الخطاب الشمولي، يرى فلاسفة ما بعد الحداثة (ليوتار، فوكو، دولوز، دريدا) أن ~~وظيفة المثقف في عصرنا الحالي أن يكون ممثلا في المجال العام لأناس لا يجدون من يعبر عنهم، ~~أو كما يقول دولوز: «إننا نمنح دائما، بفعل كتابتنا، الكتابة لأولئك الذين لا يملكونها.» # 78 # ويقول دريدا: «على المثقف اليوم أن يكون لسان حال الهامشيين ms044 أو المرأة أو شعوب ~~العالم الثالث.» # 79 # وبنفس منطق ما بعد الحداثة يحق لنا أن نتساءل نفس سؤالهم الذي ورد في سياقات ~~مختلفة، بأي حق يجعل المثقف من نفسه لسان حال المهمشين أو الأقليات؟ # في مقابل الكلية والشمولية يطرح فلاسفة ما بعد الحداثة مفهوم التعددية والاختلاف كأرضية ~~مشتركة للتفاعل والحوار مع «الآخر» أو «العوالم الأخرى»، ويطرح فوكو مصطلح «اليوتوبيا غير ~~المتجانسة» # L’utopie hétérogène # ليعبر عن الرؤية ما بعد الحداثية للآخر، وما يعنيه فوكو ~~بهذا المصطلح، هو تساكن «عدد كبير من العوالم المتشظية الممكنة» في «فضاء افتراضي»، أو على ~~نحو أبسط، تواجد فضاءات متجاورة ومفروض بعضها على الآخر. # 80 # ولا تتوقف الشخصيات في هذه الفضاءات طويلا عند كيفية حل أو البحث عن إجابة ~~للأسئلة المركزية؟ إلا أنها ملزمة في المقابل بالتساؤل عن «أي عالم هو الذي نحياه؟ ما العمل ~~حياله؟ وأي «أنا» ستقوم بذلك؟ ... إلخ.» # يحتل مفهوم التعددية والاختلاف مكانة بارزة في الخطاب الفلسفي لما بعد الحداثة، بحيث وصف ~~فلاسفتها ب «فلاسفة الاختلاف». # 81 # ويصعب تحديد ما إذا كانت فكرة الاختلاف نتيجة للأفكار السابقة أم سببا لها، ~~لكن المؤكد أن الفلسفة ستتحول من كونها أداة نسقية تبتغي الوحدة إلى أداة مهمتها تفتيت ~~الأشياء وتفكيكها «إن الحاجة تدعو إلى تفتيت الأشياء وتهشيمها ... تفتيت الكلمات والجمل ~~والقضايا، تفتيت الكيفيات والأشياء والموضوعات.» # 82 # سيتلاشى مفهوم الجوهر من الخطاب ما بعد الحداثي ليحل محله مفهوم «التعددية» ... ~~التعددية بكل أشكالها، تعددية الخطاب والمعنى والظاهرة والقوى؛ فالفلسفة وفقا لدولوز ~~وجاتاري منطق للتكثر والتضاعف # logique de la multiplicité ~~، # 83 # تضاعف المعنى للشيء وللظاهرة الواحدة. وهذا ~~التضاعف يرجعه دولوز إلى تتابع القوى والعلاقات التي تتناوب على الشيء الواحد «فكل خضوع وكل ~~سيطرة تعادل تفسيرا جديدا.» من هنا يفسر دولوز صيحة نيتشه الشهيرة «لقد ماتت الآلهة» ~~تفسيرا جديدا حينما يقول: «لقد ماتت الآلهة، ولكنها ماتت من الضحك عندما سمعت إلها يقول إنه ~~الواحد.» لا يوجد حدث ولا ظاهرة ولا كلمة ولا فكرة إلا ومعناها متعدد؛ فأي شيء قد يكون هذا ~~أو ذاك وأحيانا يكون شيئا أكثر تركيبا بحسب القوى التي يحوزها ms045. من هنا لا يوجد معنى ~~حقيقي للشيء الواحد، هناك تعددية ... وجهات للنظر ... تجاوبات مع الأحداث والوقائع ... فالظاهرة ~~الواحدة لها أقنعة عديدة و«خلف كل قناع يكمن قناع آخر». وعلى الفلسفة أن تغزو هذه الأقنعة ~~وأن تخترقها لا للوصول إلى جوهرها وأصلها، وإنما لكي تعطي لكل قناع معنى جديدا «أن تكتشف ~~ما يتقنع ولماذا، ومن أجل أي هدف نحتفظ بقناع مع تعديل شكله في كل مرة.» # 84 # لقد أخذ فكر الاختلاف على الفلسفة الكلاسيكية إقصاء الآخر والاستحواذ عليه أنطولوجيا ~~وإبستمولوجيا وسياسيا. ففي الوقت الذي كانت تقر فيه بأن العالم متعدد ومتنوع، فإنها تحاول ~~دوما إلغاء تعدده وتنوعه في وحدة معنى تفترض أنها ثابتة. وإذا عرض عليها أن تفكر في ~~المتعدد الاجتماعي فإنها ستؤكد أنه غير منسجم أو غير مستوى في وحدة واحدة، لكنها ستحاول ~~أيضا أن توحده وتضمه في وحدة الدولة. منطق الفلسفة الكلاسيكية إذا هو ~~«منطق التطابق» # logique de l’identité # سواء تعلق الأمر بتطابق الوعي أو الكوجيتو أو الذات أو الدولة. كل ~~هذه المقولات مطلقة وبواسطتها تحولت الفلسفة إلى تقنية لاختزال الفوارق، وأداة نسقية موجهة ~~نحو إلغاء التعارضات. غير أن الحلم يشكك في وضوح الوعي (دريدا)، والفن يدحض التمثيل ~~(دولوز)، والمنبوذ يخترق الوحدة السعيدة للدولة (فوكو). # كان هيجل نموذج الفيلسوف الذي اجتمعت في فكره كل المقولات التي جاءت ما بعد الحداثة ~~لتتبنى عكسها، إنه مثال للمفكر السلطوي الذي أراد أن يحكم مستقبل الفلسفة وهو يرقد في قبره. ~~يقول كوجيف # Alexandre Kojive ~~- الذي انتقلت على يديه الهيجلية إلى فرنسا: «إن خطاب هيجل ~~يستنفد كل إمكانات الفكر، فلا يمكننا أن نعارضه بأي خطاب دون أن ينتهي هذا الخطاب إلى أن ~~يشكل جزءا منه أو أن يعيد صياغة فقرة من النسق باعتباره عنصرا مؤسسا «للحظة» من المجموع.» # 85 # وأفضل دليل على هذا الغرور الهيجلي ما ردده إريك فيل من أن هيجل كان ينوي أن ~~يضع للفلسفة نقطة النهاية. # 86 # والحق أن هذه الرؤية سواء أكانت منطلقة من هيجل، أم من تلامذته وشراحه، لا ~~يمكن أخذها على محمل الجد؛ إذ هي ليست ms046 إلا نوعا من الغرور البشري الساذج، ولا يمكن أن تفهم ~~إلا في هذا السياق، بالإضافة إلى أن أي نقطة نهاية، سرعان ما ستتحول إلى بداية ~~جديدة. # كانت البداية الجديدة التي وجدها فلاسفة ما بعد الحداثة في الهيجلية هي مفهوم الاختلاف ~~أو بالتحديد التناقض. الطرف الثاني في معادلة الجدل الهيجلية؛ لقد احتل التناقض مكانة بارزة ~~في النسق الهيجلي، بصورة ربما لم يسبق لها مثيل في تاريخ الفلسفة. لكن المشكلة أن لحظة ~~الاختلاف في هذا النسق سرعان ما تتحول إلى لحظة تطابق وهوية لتدخل في مركب واحد يتلاشى ~~بداخله أي أثر للاختلاف والتناقض. إنها لحظة التطابق بين الشيء ونقيضه، لحظة انتصار الهوية ~~على الاختلاف، والوحدة على التعدد. إن التناقض عند هيجل يشكل جوهر الاختلاف وليس مجرد نمط ~~من أنماطه، وهذا التناقض سرعان ما يرتد نحو التطابق «إن هذا الاختلاف يقحم عنوة داخل تطابق ~~مسبق، فيقاد نحو منحدر التطابق الذي يحمله بالضرورة حيث يشاء، ويجعله ينعكس حيث يريد التطابق.» # 87 # يتعلق الأمر إذا بتحرير السلب من هيمنة الكل، إطلاق سراحه من داخل النسق، وعدم ~~توقيف عمله بفعل أي تركيب، أو سجنه داخل منطق التعارض. الاعتراف به كآخر لا كنقيض. هذا ~~الآخر قد يكون كتابة (دريدا) أو رغبة (دولوز) أو حمقى (فوكو). إنه «الانسياب اللانهائي ~~للخارج» (بلانشو). # في كتابه حوارات يرى دولوز أن إحدى مهام الفلسفة الآن هي الإعلاء من قيمة السلب في ~~الفكر، الجذمور أو العشب ضد الأشجار، آلة الحرب ضد آلة الدولة، التعددية ضد الشمولية، قوة ~~النسيان ضد الذاكرة، الجغرافيا ضد التاريخ، الخط ضد النقطة. ويرى دولوز أنه لحل إشكالية ~~الثنائية لا بد أن نحدث ثورة في مجال اللغة، أن نناضل ضدها، وأن نبتكر طرقا مختلفة للتعبير. ~~فموطن الثنائيات هو اللغة «إن اللغة مؤسسة في عمقها على التقسيمات الثنائية: مذكر/مؤنث، ~~مفرد/جمع، تركيب اسمي/تركيب فعلي.» وهكذا فنظرتنا للشيء ونقيضه تنطلق من داخل اللغة، إذا ~~ينبغي تحرير اللغة من منطق التعارضات الثنائية «يمكننا دائما إضافة «ثالث» إلى «اثنين» ~~ورابع إلى «ثلاث» ... إلخ ms047.» وحتى في حالة وجود حدين فقط فهناك بين الحدين عناصر لا يمكن ضمها إلى ~~أي منهما (المذكر والمؤنث والمخنث). ينبغي في نظر دولوز إحلال حرف العطف «واو» محل العلاقة «أو». # 88 # هل يمكن بهذا المعنى إذا أن نتجاوز حد السياج والانغلاق # clôture # الذي ضربه هيجل على ~~الفكر من بعده؟ مع فكر الاختلاف ستتطور الفلسفة عبر هوامشها، عبر «تفتيت الخط الذي يفصل بين ~~نص وهامشه» (دريدا)، أو «جعل تاريخ الفلسفة مشابها لعملية رسم البورتريه في فن الرسم» ~~(دولوز)، أو «أن نتحدث في لغة الذات عن قيمة الآخر» (فوكو). كان «فكر الاختلاف» في أوانه ~~يبدو غريبا فلم ينتبه إليه لكنه ما لبث أن أصبح شعارا لجيل وعصر بأكمله، يقول دولوز: «إن ~~ما حاولت أن أقوم به في هذا الميدان من جانبي استقبل بصمت كبير في أوساط اليسار الفرنسي ~~المثقف، وإنه فقط بعد 1968م، أخذت هذه الأسئلة دلالتها.» # 89 # ستحتل مقولة الاختلاف مكانة هامة، وسيكون لها حضور قوي في كتابات كل فلاسفة ما بعد ~~البنيوية، بوصفها مقولة مؤسسة ينبني عليها العديد من الرؤى في ميادين متباينة، عند ~~كريستيفا # Kristeva # وبارت ودريدا في النقد الأدبي، وعند بودريار في تحليله لوسائل الإعلام، ~~وعند دولوز وجاتاري وليوتار في نقدهم وقراءاتهم للفلسفات الكلاسيكية، وفي تصوراتهم ~~الأنطولوجية والفنية. # الفصل الثالث # | التجربة الجمالية ما بعد الحداثية # شعار الحركة المناهضة لثقافة ما بعد الحداثة. # في الفصل السابق ونحن بصدد الحديث عن مناهضة ما بعد الحداثة للتصور الحداثي للعقل ومفهوم ~~النسق، أشرنا إلى أنه ينظر إلى «ما بعد الحداثة» على أنها «حركة جمالية»؛ أي أنها تعلي من ~~الشأن الجمالي على العقلاني، ومن الجانب الشعوري على الفكري. كما أن الخطاب ما بعد الحداثي ~~في الأصل نشأ داخل الفن ... نشأ كحركة فنية ثم انتقل تأثيره إلى المجالات الثقافية الأخرى. ~~والواقع أنه في النصف الثاني من القرن العشرين نستطيع أن نشهد تغييرين رئيسين في المجال ~~الفني: الأول على مستوى «النظرية الجمالية»، والثاني على مستوى «الممارسة الفنية»، وربما ~~تكون التغيرات التي حدثت في هذه الأخيرة هي المسئولة عن التغيرات ms048 التي حدثت على المستوى ~~«النظري». هذه التغيرات لم تحدث بطريقة مفاجئة، إنما سبقتها إرهاصات عديدة بدأت مع بدايات ~~القرن العشرين، عندما دخلت متغيرات جديدة في المعادلة الجمالية، لاقت ترحيبا كبيرا من بعض ~~الفنانين والكثير من المتلقين. يقول جيمسون: «إن طبيعة التلقي والإنتاج الفني، في عصرنا، مرت ~~بتغير جوهري جعل القواعد والنماذج القديمة غير ذات معنى بالنسبة لها، أو على الأقل موضة ~~قديمة أو مهجورة.» # 1 # تبدو العلاقة بين ما بعد الحداثة ك «حركة فلسفية» وما بعد الحداثة ك «حركة فنية»، ملتبسة ~~بعض الشيء؛ إذ لا توجد نصوص صريحة لفلاسفة ما بعد الحداثة تدافع عن التغيرات التي ~~لحقت بمفهوم الفن أو تهاجمها، كما أن «النظرية الجمالية» بمعناها التقليدي قد فقدت بريقها وحل محلها ~~مجموعة من التأملات والتحليلات لبعض الأعمال الفنية - خاصة الأدبية - مما أدى إلى طغيان ~~الجانب التطبيقي على الجانب النظري، وربما أدى هذا إلى صعوبة استخلاص نظرية جمالية عامة لأي ~~من منظريها. لكن مع ذلك يمكن القول إن هناك تلاقيا واضحا بين المقولات التي ينادي بها فلاسفة ~~ما بعد الحداثة والتغيرات التي طرأت على مجال الفنون، ثمة تواؤم وتصالح بين الاثنين، بل إن ~~المقولات التي أفرزتها الفنون المختلفة وأصبحت تتحرك من خلالها وفي ضوئها، هي نفسها ~~المقولات والقيم التي ناقشناها في الفصل السابق. وفي هذا يقول بريان ماسومي: «إن المفاهيم ~~التي طرحها دولوز وجاتاري تتقاطع مع كل النتاج الفني ما بعد الحداثي.» # 2 # يهدف هذا القسم إلى تتبع التغيرات التدريجية التي لحقت بمفهومي الفني والاستطيقا، وعلاقة ذلك ~~بالتأملات النظرية الجمالية لفلاسفة ما بعد الحداثة، وخاصة دولوز. ~~(1) معادلة بودلير # في أوائل الستينيات من القرن العشرين، نشر ليونارد ماير # L. Mayer # دراسته الشهيرة «نهاية ~~عصر النهضة» التي قال فيها إن مفهوما جديدا للجمال يولد آنئذ، هذا المفهوم يتنكر لمبدأ ~~الغائية ويكرس فنا لا يهدف إلى شيء. وفي علم الجمال الجديد، حسب ماير، لم يعد الإنسان هو ~~المعيار الذي تقاس به الأشياء والموجودات؛ لأنه ببساطة لم يعد مركز الكون، كما ذهب فلاسفة ~~الحداثة، ولهذا فإن علينا أن ms049 نستعيد إحساسنا بالأشياء من خلال إعادة اكتشاف الواقع والإنصات ~~الجيد للحياة؛ الاستمتاع بالصوت كما هو، واللون كما هو، والوجود والموجودات كما هي. وبشر ~~بولادة فن ديمقراطي جديد بوسعه أن يذيب الجدر الغليظة بين الثقافة العليا # high culture # وثقافة الجماهير # mass culture ~~، وبوسعه تفكيك الاستقلالية النخبوية للحداثة. وفي نفس السياق ~~أيضا يقول رايموند ويليامز # R. Williams ~~: «في أواخر القرن العشرين، كان من الضروري للمرء أن ~~يلحظ مدى بعد الشقة بيننا وبين أهم حقب الفن الحديث.» # 3 # ما يدعو إليه ماير - وآخرون - هنا يشير إلى تغير كلي في مفهوم الفن وفي تصور الجمال، تغير ~~تجسده عبارة بيوز # Beuys ~~«إن مجرد إزالة قشرة البطاطس يمكن أن يكون عملا فنيا لو اتسم بالوعي.» # 4 # كيف حدث هذا التحول؟ وما هي طبيعته وأسبابه؟ # كان الفن في العصور الوسطى جزءا لا يتجزأ من كل يحتويه؛ فكان تعبيرا عن الروح الدينية ~~التي كانت تهيمن على هذا العصر. وتظهر تجليات هذه الروح في كل نواحي الحياة، في السياسة ~~والعلم والفلسفة ... إلخ؛ لذا فإن الفن آنذاك كان فنا دينيا # art sacré ~~. ولم يكن العمل ~~الفني عملا بالمعنى المفهوم، بل كان حرفة أكثر منه أي شيء آخر، ولم يكن أسلوب الإنتاج ~~فرديا؛ فلم يكن الفنان ينظر إلى نفسه بوصفها ذاتا مستقلة مبدعة، بل جزءا من فريق يهدف ~~لإتمام سقف كنيسة ما أو لوحة جدارية أو ترنيمة كنسية. وكما كان أسلوب الإنتاج يغلب عليه ~~الطابع الجماعي، كان أسلوب التلقي أيضا يتم بصورة جماعية؛ فمشاهدو هذا الفن أو مستمعوه ~~كانوا مجموعة من رواد الكنيسة الذين يستهدفونها لأداء صلواتهم. أما الأدب والمسرح فلم ~~يختلفا كثيرا عن باقي الفنون، فكانت المسرحيات ذات الصبغة الوعظية # morality plays # وتلك ~~التي تقوم على فكرتي «اللغز» و«السر» # mystery plays ~~- والتي تستمد جوهرها من حكايات من ~~الكتاب المقدس - هي المنتشرة آنذاك. أما الشعر فقد كان يستمد موضوعاته كذلك من نفس التراث، ~~ويظهر ذلك في ملحمة حكايات كانتربري # Canterbury Tales # للشاعر الإنجليزي جيفري شوسر # Geoffrey ~~Chaucer ~~(1343-1400م) وبعض الأشعار الأخرى الأقل أهمية لشعراء آخرين. ومن هذا الفن انبثق ~~نوع آخر؛ وهو فن البلاط الملكي # courtly art ~~. وقد استبدل هذا الفن ms050 موضوعات أخرى بالموضوعات ~~الدينية، وهي تمثل حياة البلاط الملكي وعظمة الأمير أو الملك وحياة الحاشية المحيطة به. ~~تحول الفن إلى جزء من حياة الطبقة الأرستقراطية ورواد البلاط الملكي. وعلى الرغم من أن ~~الفن - رغم تغير موضوعاته - ظل مرتبطا بمفهوم الوظيفة، إلا أن هذه النقلة في طبيعة الموضوعات ~~المتمثلة، انعكست على رؤية الفنان لذاته؛ إذ لم يعد الفنان «حرفيا يؤدي وظيفة»، بل أصبح ~~«فنانا» يتصف بصفة الإبداع. وقد ظهر هذا التغير بقوة مع مايكل أنجلو # Michael ~~Angelo ~~(1475-1564م) الذي على الرغم من أن نحوتاته ظلت مخلصة للموضوعات الدينية المستمدة من قصص الكتاب ~~المقدس، إلا أن وعيه الذاتي بكونه فنانا، قد تجسد عبر توقيعه على أعماله، مما يعني أن إحساس ~~الفنان بذاته، وبقيمة ما يقدمه، قد بدأ بالفعل في التغير. # 5 # سرعان ما بدأت مكانة الإنسان «الفرد» في الرسوخ مع عصر النهضة، الذي يعد بحق عصر النزعة ~~الإنسية، والعودة لكل ثقافة مركزها الإنسان؛ فلقد شيد الفن في عصر النهضة ذاته على فكرة ~~العودة للماضي اليوناني والروماني، في محاولة لإبطال مفعول التوجهات الدينية لكل مناحي ~~الحياة، والبحث عن مصدر أكثر ثراء لحياة الإنسان، ولكنه في عودته تلك كانت عينه على ~~المستقبل الذي يصير فيه الإنسان مركز العالم وبؤرته. وعلى الرغم من بقاء الموضوعات الدينية ~~في برنامج الأعمال الفنية (أعمال يوهن باخ # Bach ~~(1685-1750م)، على سبيل المثال)، إلا أنه ~~بدأ مع عصر النهضة النزوع للخروج إلى تصوير الطبيعة واتخاذها موضوعا للفن، وكذلك العمل على ~~معالجة الموضوعات الحياتية الأخرى. ولم يكن هذا التحول ممكنا، إلا من خلال الافتراض المسبق ~~بأنه من وراء الذات والموضوع تقبع مجموعة من القوانين العامة لنظام كوني راسخ، والصالحة ~~بشكل غير مشروط، حين تستقي منها كل قاعدة فنية، وبالتالي يعتبر فهم هذه القواعد والشروط ~~والقوانين من صلب النظرية الفنية في عصر النهضة. وقد كان النزوع نحو الدراسة المتأنية ~~للطبيعة، بوصفها مقدمة ضرورية لتحقيق الصدق الفني؛ يعطي المشروعية لفناني هذا العصر بحيث ~~يصير إبداعهم مؤسسا على الدراسة والعلم، إلى جانب الملكة الإبداعية والخيال الحر الخلاق، ~~حتى ms051 لا يصير الفن مجرد صيغة أو حرفة، يمكن لأي أحد أن يمتهنها، أو مجرد نتاج لشطحات ~~ميتافيزيقية لا يمكن الوقوف فيها على محددات تمكننا من فهم الفن على نحو إنساني محض. # ومع ظهور كتاب ألكسندر بومجارتن # A. G. Baumgarten ~~«في الاستطيقا» # Ästhetik # في منتصف القرن ~~الثامن عشر، ستبدأ الجماليات تخطو خطواتها الأولى نحو الاستقلال. وحين استبدل ~~جان جاك روسو # Rousseau ~~«أنا أشعر» # Je me sens # ب «أنا أفكر»، فهو «إنما يؤشر إلى تحول حاسم من استراتيجية ~~عقلانية خالصة إلى استراتيجية جمالية أكثر وعيا في تحقيق أهداف التنوير.» # 6 # وفي الفترة نفسها تقريبا (1790م) كان كانط # Kant # يعرف بدقة الحكم الجمالي ~~ويميزه بوضوح عن الحكم العقلي والحكم العملي، ويجعله جسرا ضروري - وإن بدا إشكاليا - بين ~~الاثنين. كان اكتشاف الجماليات كحقل معرفي متميز منفصل هو الإنجاز الأكبر للقرن الثامن عشر. ~~وإذا أضفنا إلى ذلك تنامي «الذاتية» و«الفردية»، والتطورات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية ~~التي كانت تتصاعد وتيرتها على شكل طفرات، فإن آثار هذا كله مجتمعا قد أحدث تغيرات عديدة ~~على مفهوم الفن، وعلى الممارسة الفنية، وعلى تصور الفنان لذاته ولفنه. # نستطيع أن نرقب هذه التحولات في تعريف بودلير # C. Baudelaire # للحداثة في دراسته المهمة ~~«رسام الحياة الحديثة» # Le Peintre de la vie moderne # الصادرة عام 1863م يقول: «إن الحداثة هي المؤقت، وسريع الزوال، والجائز، هي نصف الفن؛ بينما الأبدي والثابت هو النصف الآخر.» فالفن ~~وفقا لبودلير هو استخلاص السرمدي من العابر والزائل. هذا الزائل أو العابر لا يمكن للفنان: ~~أن يتجاوزه: «هذا العنصر العابر والمنفلت، والذي تكون تحولاته جد متواترة، ليس من حقك ~~ازدراؤه أو الاستغناء عنه. إنك بإلغائه ستسقط لا محالة في تجريد جمالي مستعص على ~~التحديد ... كجمال المرأة الوحيدة قبل الخطيئة الأولى.» # 7 # ومثلما كان بودلير سريعا في رؤية ما إذا كان الدفق والتغيير، والتشتت ~~والتشظي، قد شكلا القاعدة المادية للحياة الحديثة، فإن تعريفه السابق للفن الحداثي قد استند ~~أيضا، وعلى نحو حاسم، إلى موقع الفنان في هذه العملية؛ ففي وسع الفنان الفرد تحدي الصيرورة ~~تلك، أو التعايش معها، أن يحاول السيطرة عليها، أو السباحة في مياهها، إلا أنه لا ms052 يستطيع، ~~في كل الأحوال، تجاهلها. وإذا عدنا إلى صياغة بودلير، فإننا نجده يعرض الفنان كشخص قادر على ~~تركيز رؤيته على الموضوعات العادية للحياة المعاصرة، وعلى فهم خصائصها المتغيرة، ويستطيع مع ~~ذلك أن يستخرج من اللحظة العابرة كل عناصر الخلود الكامنة فيها. كان الفنان الحداثي الناضج، ~~وفقا لبودلير، هو ذلك الذي يستطيع العثور على الكلي الدائم، وأن «يقطر طعم خمر الحياة المر» ~~من «أشكال الجمال العابر والزائل في حياتنا اليومية»، وبمقدار ما ينجح الفن الحداثي في ذلك، ~~يصبح فنا لنا؛ إذ إنه وبدقة «الفن الذي يستجيب لسيناريو فوضانا.» # 8 # إن الحداثة في نظر بودلير - ووفقا لهابرماس # 9 ~~- تستهدف الاعتراف باللحظة الانتقالية كماض أصيل لحاضر سيأتي؛ لذا يأخذ بودلير ~~على فناني عصره حنينهم الدائم للماضي دون الالتفات لما هو راهن «إننا إذا ألقينا نظرة سريعة ~~على ما نشاهده في معارضنا من لوحات حديثة، فإن ما سوف يصدمنا هو نزعة الفنانين العامة إلى ~~إلباس جميع الشخوص ثيابا قديمة.» # 10 # كانت المواجهة بين الخالد والعابر # 11 # حاضرة في كل النقاشات التي تدور حول الموقف من الحداثة. وتبدو حالة بودلير هنا ~~نابعة من موقف يسعى للدفاع أكثر عن استقلالية الجمالي وعدم تبعيته، وهو موقف نابع في ~~الأساس من كانط. التبعية التي نعنيها هنا، كانت نابعة من داخل تلك النزعات التي كانت حاضرة ~~بقوة على الساحة الفنية في القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن ال 19، أهمها النزعة ~~الرومانسية، التي رأت في العودة إلى الماضي أو تمثيل الطبيعة موضوعات شائقة للأعمال ~~الفنية. كما كانت نابعة أيضا من اتجاهات ترى أن للفن وظيفة تتجاوز إنتاج الجمالي، وقد ذهب ~~ماثيو أرنولد # Matthew Arnold ~~(1822-1888م) إلى «أن الفن في العصر الحديث يمكن أن يشغل ~~المكانة التي كان الدين يشغلها في العصور الوسطى؛ لذا فهو منوط به وظيفة توفير رؤية كلية ~~للحياة الإنسانية، توضح موقف الإنسان في الحياة، وترسم له صورة ذاتية، وتضفي الطابع النظامي ~~على العالم والتجربة الإنسانية.» # 12 # ومن نفس المنطلق يقول تي إس إليوت # T. S. Eliot ~~(1888-1965م): «كان الناقد يتعامل ~~مع الأدب دائما على أنه وسيلة لاستخلاص ms053 الحقيقة أو اكتساب المعرفة، وإذا ما كان الناقد ~~يتمتع بعقلية فلسفية أو دينية، فسوف يبحث عن تلك اللمحات الفلسفية أو الدينية في أعمال ~~الكاتب الذي ينتقده.» # 13 # في مقابل ذلك يدعو بودلير إلى تخلي الفن عن أي وضع متعال؛ أي يرفض كل وضع يخرج ~~به من حيز إنتاج الجمال إلى أي مسئولية فلسفية أو أخلاقية. ولذا فالفن لن يضطلع سوى بوظيفته ~~الداخلية # immanent ~~- ألا وهي إنتاج الجمال - وهذا سوف يؤدي بالضرورة إلى فرض معايير جديدة ~~للحكم على الفن، وهذه المعايير سوف تكون معايير داخلية (استطيقية)، لا علاقة لها بالأخلاق ~~أو بوضع الفن في المجتمع. # لكن لكي يتضح موقف بودلير وكيفية تجسيده للموقف الحداثي في القرن التاسع عشر، تلزم ~~الإشارة إلى الأوضاع الطبقية التي جعلت بودلير، أحد أبرز ممثلي اتجاه الفن للفن، يعبر عن ~~تناقضات الحداثة ومفارقتها. ولعل التصنيف الذي انتهى إليه بيير بوردو Pierre Bourdieu ~~(1930-2002م) في دراسته لحقلي السلطة والثقافة في القرن ال 19، يساعدنا على استحضار الواقع ~~الاجتماعي والأيديولوجي الذي ظهر فيه موقف بودلير؛ لقد أوضح بوردو في تحليله أن الحقل ~~الثقافي والفني بين 1830م و1850م، بل على امتداد القرن 19، كان يتوزع وينتظم حول ثلاثة مواقع: ~~«الفن الاجتماعي» # Social l’art ~~، «والفن للفن» # L’art pour l’art ~~، «والفن البورجوازي» # bourgeoi l’Art ~~. وكل موقع من تلك المواقع النموذجية داخل الحقل الثقافي يطابق شكلا نموذجيا ~~للعلاقة بين الفئة المسيطر عليها، والفئات السائدة. على هذا الأساس نستطيع أن نفهم محددات ~~مواقف كل اتجاه: # فبينما الفنانون والكتاب - يقول بوردو # 14 ~~- «البورجوازيون»، يجدون في الاعتراف الذي يقدمه لهم الجمهور «البورجوازي»، جميع ~~الأسباب التي تجعلهم يتحملون مسئوليتهم بوصفهم ناطقين باسم طبقتهم التي يتوجه إليها إنتاجهم ~~مباشرة، فإن أصحاب «الفن الاجتماعي» يجدون في ظروفهم الاقتصادية وعزلتهم الاجتماعية، أساسا ~~للتضامن مع الطبقات المسودة التي تتخذ دائما مبدأ أوليا لها: العداء تجاه الفئات المسيطرة ~~داخل الطبقات السائدة، وتجاه ممثليها في الحقل الثقافي. أما أصحاب «الفن للفن» فإنهم يحتلون ~~داخل الحقل الثقافي موقعا ملتبسا بنيويا، يجعلهم يستشعرون بطريقة مضاعفة، التناقضات ~~اللازمة للوضعية الملتبسة للفئة المثقفة داخل بنية فئات الطبقات السائدة، فلكون موقعهم داخل ms054 ~~الحقل الثقافي يرغمهم على أن يفكروا - على نحو متزامن أو متعاقب (وفقا للظرف السياسي) - في ~~هويتهم الفنية والسياسية من خلال التعارض مع الفنانين البورجوازيين أو من خلال التعارض مع ~~الفنانين الاشتراكيين نظراء الشعب؛ فإنهم (أصحاب الفن للفن) منذورون لالتقاط صور متناقضة، ~~سواء عن جماعتهم الخاصة أو عن الجماعات التي يعارضونها. # ذلك الوضع الملتبس موضوعيا هو ما يتيح فهم الحداثة التي انتهى إليها بودلير: محاولة ~~تحويل اليومي (الزائل) إلى الرمزي (الخالد). ومن خلال ذلك العمل على تعميم التجريد في بقية ~~أشكال التعبير (الرسم، النحت، الموسيقى ...) ورفض النزعة الواقعية التي يصفها بودلير ب «أنها ~~إهانة مقززة ألقيت في وجه كل المحللين، إنها كلمة غامضة وزئبقية لا تعني بالنسبة للإنسان ~~وصفا دقيقا للأمور.» # 15 # في هذا الطريق الممهد لاغتراب الإنسان والطبيعة عن الفن، سار الشاعر تي إس إليوت. لقد أكد ~~إليوت «أن القصيدة لا تقول شيئا ما، وإنما هي الشيء نفسه»، وهو يتتبع تطور الشعر، ~~واستقبال القراء للشعر، على أنه تطور مستمر نحو زيادة إدراك القارئ بالرمز. وهذه المرحلة من ~~التقدم هي ما يعتبره إليوت الحداثة التي بلغها الشعراء الرمزيون الفرنسيون من بودلير إلى ~~فاليري # Valéry # مرورا بمالارميه # Mallarmé ~~. فالحداثة هنا تتميز بالاهتمام بالرمز، في مقابل ~~الاهتمام الأقل بالموضوع الذي يصبح مجرد وسيلة لنقل الهدف أو بلوغه، والهدف بالطبع الجمال ~~في حد ذاته. وهذا هو ما يطلق عليه كل من إليوت والفيلسوف الإسباني أورتيجا إي جاسيت # Ortega ~~Y Gasset ~~(1883-1955م) «الشعر النقي» # poesía pura ~~، أو الفن الخالص # arte puro ~~. فإذا كان ~~الجمال جوهر الفن، وإذا ما كان الشكل هو مصدر الجمال، فسيهتم الفن الحداثي بالشكل اهتماما ~~تاما، ويحاول تنقيته من الموضوع الذي صار دخيلا عليه لأنه ليس مصدر الجمال. وهذا هو جوهر ~~الحداثة الذي يميزه جاسيت في موسيقى ديبوس # Dubosc # ولوحات بيكاسو Picasso # وشعر مالارميه وفاليري # Valery ~~«هناك بلا شك توجه نحو تنقية الفن، وهذا التوجه سوف يؤدي إلى عملية محو ~~متزايدة للعناصر الآدمية السائدة في النتاج الفني الرومانسي والطبيعي # naturalistic ~~. وفي هذه ~~العملية، يمكن الوصول إلى نقطة يصبح فيها «المضمون» الإنساني ضئيلا جدا لدرجة يمكن تجاهلها ms055.» # 16 # ما يقصده جاست ل «لا أنسنة الفن» # La Deshumanización del Arte # هو محو أي أثر لفكرة تقديم ~~أو تمثيل الحياة # representation ~~؛ فالفن ليس محاكاة # mimesis # ولا تقديما للحياة، وإنما هو ~~نتاج عقلي يهدف إلى الإمتاع. وإذا ما كان الجمال عنصرا ذاتيا وشكليا، لا موضوعيا؛ أي لا ~~علاقة له بالموضوع، يتحول اهتمام الفن الحداثي عن المحاكاة التي تهتم بموضوع الفن، لا شكله، ~~إلى الاهتمام بالشكل الخالص؛ أي يتحول الفن الحداثي إلى رفض صريح وقاطع للواقعية. # ثمة سمتان هامتان يتميز بهما الفن الحديث في نهايات القرن ال 19: الأولى هي الدرجة ~~العالية جدا من الوعي الذاتي للفنان بفنه على أنه فن وليس موظفا لخدمة شيء آخر - وتلك هي ~~المرحلة الثالثة من تصنيف بيتر برجر P. Berger # لتطور الفن الحديث. والسمة الثانية معتمدة ~~على الأولى، وهي أن هذا الوعي الذاتي قد دفع الفنان إلى المزيد من الفردية والذاتية، ومحاولة ~~خلق أسلوب خاص به يميزه عن الفنانين الآخرين، سواء المعاصرون له أو السابقون عليه. من هنا ~~نلاحظ احتفاء هذا العصر بالأسلوب؛ فالتراث الفني أصبح عبئا على الفنان وجزءا من العالم ~~الخارجي يسعى لتحرير نفسه منه، وإنتاج فنه بمعزل عنه. وهكذا يصبح الأسلوب وسيلة لتأكيد ~~الذات مقابل العالم. ويصبح الأسلوب كنتاج للذات أو للجزء الذاتي أو المثالي في الفنان ~~تأكيدا لهذا الجانب مقابل الجانب الموضوعي أو ذلك الذي ينتمي للعالم. هذا التمرد العنيف ~~على العالم قد بلغ أوجه مع مقولة أوسكار وايلد # Oscar Wilde ~~: «إن الطبيعة هي التي تقلد ~~الفنان، لا العكس.» # نستطيع هنا أن نستنتج أن تنامي الاتجاه الرمزي والشكلي في هذه الفترة قد أدى إلى صعوبة ~~لغة الفن وعدم قدرة الكثيرين على فهمه؛ لذا أصبح الفن الحداثي فنا لا يتميز بالشعبية، بل ~~تحول إلى فن الصفوة # L’élitisme # وهي القلة القليلة المختارة التي لديها الثقافة الكافية، ~~والوعي بتاريخ الفن وتطوره. # وإذا عدنا إلى تحديد بودلير من جديد للفن الحداثي بأنه «التقاط الثابت من المتحول» فإننا ~~نلاحظ أن الفن الحداثي لم يتخل عن البحث عن الثبات أبدا. يتضح هذا من تحليل الأعمال ~~الشهيرة التي صدرت آنذاك، فإذا ms056 ما كانت «الأرض الخراب» # The Waste Land # نموذجا للتشظي، نجد إليوت # 17 # يعلق على عناصر الوحدة في القصيدة قائلا إن كل الرجال هم رجل واحد، وكذلك كل ~~النساء، وكل الرجال والنساء يلتقون في شخصية تيريلياس الذي يمثل الراوي، والمتحدث السائد في ~~القصيدة، والممثل لوحدة الخبرة الإنسانية. أما بروست Proust ~~«فهو يستجمع ما لا يمكن تصويره ~~من خلال لغة لا تتبدل في نحوها وألفاظها، ومن خلال كتابة لا تزال تنتمي في معظمها إلى جنس ~~السرد الروائي.» # 18 # وإذا ما كانت رواية «أوليسيس» # Ulysses # لجويس # Joyce # تصور الشتات والفوضى ~~المعاصرة، فإن الفن يضفي شكلا أو نوعا ما من أشكال النظام على هذه الحياة، وهذا ما يقوم ~~به الشكل الأسطوري للرواية. # بين نهاية القرن ال 19 والنصف الأول من القرن العشرين، عرفت الحداثة الفنية تحولات كثيرة ~~وجذرية، نتجت عن مجموعة التغيرات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي سادت ~~آنذاك. غير أن ظهور ما يسمى بحركة «الطليعة» # Avant-Garde # في الفن، كان إيذانا بتحول كبير ~~على مستوى مفهوم الفن، وعلى طبيعة الإنتاج الفني. # انتقدت حركة الطليعة استقلال الفن وانكفاءه على ذاته، وانفصاله عن النشاطات الإنسانية، ~~والمؤسسة الاجتماعية. كان الهدف الرئيس لهجوم الطليعة على الحركات الفنية المنتشرة آنذاك، ~~ارتباط هذه الحركات بالطبقة البورجوازية «الفن باعتباره ملجأ آمنا وأنيقا للطبقة ~~البورجوازية التي تتميز بالذوق الرفيع.» وفي المقابل دعت الطليعة إلى إلصاق الفن بالواقع، ~~وإزالة الحدود بين ما هو «نخبوي» وما هو «شعبي»، واستخدام الفن لتوعية الجماهير وتثقيفهم، ~~وكل هذا لن يتأتى إلا إذا جعل الفنان من موضوعات الحياة العادية موضوعات لفنه. # 19 # وتتوازى هذه الدعوة التي أطلقتها الطليعة مع دخول متغير جديد في المعادلة الفنية: «إنه ~~تلك اللعنة القديمة؛ المال.» # 20 # هذا المتغير كان موجودا من قبل، بصورة أو بأخرى، لكنه كان يتوارى أمام رغبة ~~الفنان الصادقة في إنتاج عمل فني حقيقي ومميز. أما في القرن العشرين - ومع دعوة الطليعة ~~لإزالة الحواجز بين ما هو «شعبي» وما هو «نخبوي» - فقد دخلت بعض المؤسسات الرأسمالية ميدان ~~المنافسة لتسويق الأعمال الفنية المختلفة. والنتيجة الانتقال التدريجي للفن من عالمه إلى ~~عالم السلعة «ما ms057 يحدد الفن الصناعي ليس الإنتاج الآلي، وإنما العلاقة التي غدت داخلية مع المال.» # 21 # وبداية ظهور مصطلحات من قبيل «تسليع الفن» و«تسليع الثقافة». والمشكلة التي ~~تنشأ هنا هي أن الذوق ليس بمقولة سكونية، إنه دائم التغير. فقوى السوق المهيمنة تبني ~~الأذواق في الفن كما في سائر المنتجات الأخرى، والهدف النهائي هو كيف تستفيد هذه القوى من ~~ذلك كله. # مع دخول التكنولوجيا - التي اعتبرها توينبي قد أخذت مكانة ووظيفة الدين في القرن العشرين - ~~اكتمل الثالوث (إزالة الحدود بين الشعبي والنخبوي - دخول رأس المال في ميدان الفن - التطور ~~التكنولوجي) الذي سيوجه ضربة قاضية للفن الحداثي. وقد ظهرت بوادر هذه الأزمة مع ظهور تيارات ~~فنية جديدة عضدت من هذا الوضع: # فقد ظهرت النزعة المستقبلية # Futurism # والنزعة الدادية # Dada ~~. دعت الأولى على يد الشاعر ~~الإيطالي فليبو مارينيتي # Fillippo Marinetiti # إلى نبذ التاريخ والماضي والتقاليد وإلى البحث ~~الدائم عن أشكال فنية وفكرية جديدة، وأساليب وتقنيات مبتكرة. وبرغم قصر عمر هذه الحركة ~~الأدبية فإن انتشارها كان سريعا ومؤثرا خاصة في فرنسا وروسيا إبان وبعد الحربين ~~العالميتين. أما الدادئية فقد بدأها هوجو بول # H. Paul # في سويسرا عام 1916م، وكما يقول فالتر ~~بنيامين # Walter Benjamin ~~: «لقد كان التدني المتعمد والمدروس لقيمة مادتهم من بين الوسائل ~~التي اتبعوها لتحقيق هذه العبثية واللاجدوى. فكانت قصائدهم عبارة عن «مزيج عشوائي من ~~الكلمات» يضم معاني إباحية، وكل ما تلفظه اللغة من ألفاظ غير مستساغة. كان هدفهم، وما ~~حققوه، هو تجريد إبداعاتهم من شذاها. فأمام لوحة رسمها آرابش # Arap # أو قصيدة نظمها ~~شترام # Stram ~~، يستحيل المرء أن يستغرق في لحظة تأمل أو تقويم كما يفعل أمام لوحة رسمها ~~ديران # Durrant # أو قصيدة نظمها ريلكه # Rilke ~~. كانت أعمالهم الفنية تصيب المشاهد بما يشبه الرصاصة.» # 22 # في مقالته الشهيرة التي صدرت عام 1936م «العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تكنولوجيا» # Das Kunstwerk im Zeitalter Seiner Technischen Reproduzierbarkeit # يتأمل بنجامين - على حد ~~تعبيره - «تقلص» و«ذبول» و«تدمير» ما يسميه ب «هالة الفن» # Glanz der Kunst # أو «الإحساس ~~بخصوصية وتفرد العمل الفني»، مفترضا أن هذه الهالة لا يمكن فصلها إطلاقا عن كونها جزءا ~~لا يتجزأ من نسيج التقاليد ms058 الفنية والحضارية «فأي تمثال قديم لفينوس # Venus ~~، مثلا، يمثل ~~بالنسبة للإغريق، الذين يرون فيه رمزا للجمال، سياقا تراثيا، يختلف عنه لدى رجال الدين ~~في العصور الوسطى ممن كانوا ينظرون إليه باعتباره وثنا ينذر بالشؤم. إلا أن كلا الفريقين ~~لم يكن ينكر ما له من تفرد أو شذى.» # 23 # غير أن معنى العمل الفني راح يتغير في عصر إعادة الإنتاج الآلي الحديث، ~~فتقنيات وآليات إعادة الإنتاج تعمل على فصل «المنتج المعاد إنتاجه» وانتزاعه من أبعاده ~~التاريخية؛ ومن ثم يتهاوى هذا الشذى أو تلك «الهالة» ويتلاشى التفرد والخصوصية التي كانت ~~للأعمال الفنية. هذا بالإضافة إلى أن الظروف والأوضاع التي أصبح يتلقى فيها العمل الفني قد ~~تغيرت؛ «فالمعرض الفني وقاعة الموسيقى يفقدان صفتهما «المقدسة» حيث يمكن إعادة إنتاج العمل ~~الفني واختباره أو عيش تجربته في عدد كبير من الظروف أو الأوضاع.» # 24 # وعلى الرغم من الروح النقدية التي يتحدث بها بنيامين، إلا أنه قد رأى في ضياع ~~«هالة» الفن إمكانية لتعزيز التفكير النقدي للجمهور حيال ما يعرض عليهم من أعمال فنية. ~~فهالة الفن قديما كانت تشكل عائقا أمام التلقي الموضوعي للعمل الفني، كانت تخلق نوعا من ~~القداسة للفن، يطلق عليه بنيامين الربقة اللاعقلانية «كلما انخفضت الأهمية الاجتماعية لأحد ~~الأشكال الفنية، ازداد تمييز الجمهور للفارق بين النقد والمتعة.» # 25 # في مقابل ذلك يرى أدورنو أن إعادة النسخ هو عرض من أعراض النكوص # regression ~~«فالبشر ~~يستهلكون أفلامهم أو موسيقاهم بطريقة ذاهلة لأن حيواتهم ليست ملكا لهم، بل تتوقف على ~~التقيد بقيود الشركات الاحتكارية.» # 26 # وبدلا من أن تثير الفكر النقدي، فإنها تجعل الفكر ذاته أمرا لا ضرورة له. ~~فالغرض الأساس لصناعة الثقافة - ومن ضمنها الفن - هو إزالة الفوارق الاجتماعية والأيديولوجية، ~~وفي الأسواق كل شيء يتساوى، أما الاختلاف الوحيد الممكن فهو أن المنتجين المتخصصين يقفون في ~~جانب، والمستهلكين يقفون في الجانب الآخر. وفيما بينهم تقع أدوات التوزيع الثقافي، ووسائل ~~الإعلام الجماهيري. # في العصر الإلكتروني، يصبح المثل الرومانسي الأعلى للإبداع الأصلي، أمرا مفارقا، ويصير ~~مفهوم «الأصالة» وهما عبثيا في عصر «وسائط الاتصال» وقابليتها ms059 اللانهائية للتولد والتعدد. # ياوس # في أطروحته الناقدة «ما بعد الحداثة، أو المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة» 1984م يرى جيمسون # 27 # أننا ومنذ مطلع الستينيات قد دخلنا حقبة جديدة بحيث أصبح إنتاج الثقافة مندمجا ~~في الإنتاج السلعي عموما؛ «فالسعي المحموم لإنتاج موجات متجددة من سلع تبدو دائما مبهرة ~~(من الثياب إلى الطائرات)، وبأذواق تبدو دائما عصرية، هو الآن، وعلى نحو متزايد، الوظيفة ~~البنيوية الأساسية للإبداع والتجريب الجماليين.» هذا التحول يستدعي - فيما يرى جيمسون - ~~تغييرا محددا في عادات وموقف المستهلك، ودورا جديدا في التعريفات والتحديدات الجمالية. ~~وقبل أن نعرض لانعكاسات هذه التطورات التي لحقت بمفهوم الفن على الفنون المختلفة، سنحاول أن ~~نحدد بعض السمات العامة التي تشترك فيها فنون ما بعد الحداثة: ~~(1) ~~«إزالة الحدود بين الثقافة النخبوية والثقافة الجماهيرية»: فإذا كان الفن قديما حكرا ~~على طبقة بعينها، فإن الفن في الحقبة ما بعد الحداثية متاح للجميع؛ فالسطحي والعميق، في ~~نظر ما بعد الحداثي، كلمتان يستعملهما النخبويون، لا كحكم جمالي، إنما للتمييز الطبقي. لذا ~~ترفض ما بعد الحداثة تراتبية الأذواق والثقافات. من هنا يرى روشنبرج أن عالم الفن الشعبي هو ~~«عالم الفن المتسع»، # 28 # في حين يرى دانيال بل # Daniel Bell # أن انحلال سلطة الثقافة العليا في الذوق ~~الثقافي منذ الستينيات واستبدالها بفن البوب Pop art ~~، وثقافة البوب، والأسلوب العرضي، والذوق ~~العامي، لا يمكن النظر إليه إلا بوصفه رمزا للمتع الغبية في الاستهلاك الرأسمالي. # 29 # وكما يقول هويسينز: «لقد أصبح البوب الآن هو المرادف لأسلوب الحياة الجديد ~~للجيل الحالي؛ أي أسلوب الحياة الذي انقلب على السلطة، وأراد التحرر من معايير المجتمع.» # 30 ~~(2) ~~«تسليع الفن»: وهو ما حاول الحداثيون تجنبه، ولكن ما بعد الحداثة استطاعت أن تمد سلطة ~~السوق على سلسلة طويلة من المنتجات الثقافية ومن ضمنها الفن «هناك ميل متنام في المشهد ~~الأدبي الحالي في الغرب يتجه إلى إبراز الفن المشتمل على إنتاج تافه، فأصبح الأدب فرعا من ~~صناعة وسائل الترفيه. وبدلا من الواقعية الاشتراكية صار لدينا «واقعية السوق»، الذي أصبح ~~قيدا مفروضا علينا ... إنه أدب نتعامل معه كسلعة مقدسة ذاتية المحتوى ms060، ذاتية الإشارة.» # 31 # في هذا الاتجاه أيضا يرى كريمب «أن ما شاهدناه في السنوات القليلة الماضية ~~ليس إلا السيطرة الصريحة لمصالح الشركات الكبرى على الفن.» # 32 # وأيا يكن الدور الذي لعبه رأس المال في فن الحداثة، فإن المدى الذي بلغته ~~الظاهرة الآن قد تجاوز كل حد؛ فقد غدت الشركات هي الموجه الرئيس للفن بكل المقاييس. ~~(3) ~~«الارتباط بالتكنولوجيا»: فالتكنولوجيا والإعلام الآن هما الحامل الحقيقي للوظيفة ~~المعرفية. والمشكلة الآن أن التكنولوجيا أضفت على بعض الفنون عوامل إبهار لا حدود لها، دون ~~وجود موضوع فني حقيقي. وأصبح المتلقي العادي يبحث عن الإبهار والمفارقة في كل ما يشاهده، ~~يقول فوجل # Vogel # عن مشاهد السينما: «إن المتفرج يدخل دار السينما برغبة منه ودون ضغط من ~~أحد - هذا إذا لم يكن بلهفة - مهيئا نفسه للاستسلام والقبول بما سيحدث، وإذا اكتشف أن الفيلم ~~«سيئ» وأن الوهم «لم يحقق غرضه»، فإنه يستاء كثيرا.» # 33 # والواقع أن قول فوجل يصلح تعميمه، بحيث إن الربط بين جودة العمل الفني وقدرته ~~على الإبهار صار شائعا على مستوى الفن بصوره المختلفة. لقد حلت التكنولوجيا الآن محل الفن ~~من خلال خلقها ما يسمى ب «الواقع الافتراضي» # La réalité virtuelle # هذا الواقع الذي كان ~~قديما حكرا على الفن، أصبحت التكنولوجيا تخلقه، ربما بصورة أكثر إبهارا وجاذبية. ~~(4) ~~«التشظي»: ثمة خلل أصاب معادلة بودلير، التي عرضنا لها في بداية هذا الجزء، فتحول الطرف ~~الثاني فيها إلى النقيض. تحولت معادلة بودلير من الفن = الخالد، إلى الفن = سريع الزوال. لم تعد ~~الأعمال الفنية خارج قانون الزمن، بل أصبح هذا القانون يسري عليها بعنف وصرامة «لقد تشظت ~~الممارسات والأحكام الجمالية إلى نوع من «القصاصات الجنونية» المملوءة بأنواع لا تحصى من ~~المداخل الملونة التي لا رابط بينها، ولا يجمعها إطار محدد، عقلاني أو عملي.» # 34 # والتشظي كسمة أساس في الفكر ما بعد الحداثي، إن كان يعني في عالم الصناعة ~~والاقتصاد أن تتم صناعة المنتج الواحد في أكثر من بلد حسب توافر الموارد واليد العاملة. وما ~~نجده كذلك في الاقتصاد الراهن القائم على الشركات متعددة الجنسيات ذات أصول أموال ms061 تدعمها ~~دول عديدة، فربما يكون انعكاس ذلك التشظي في الأدب - على سبيل المثال - سقوط الجدر الفاصلة ~~بين الأجناس الأدبية والفنية، وهو ما أطلق عليه «الكتابة عبر النوعية»؛ إذ نجد القصيدة ~~الجديدة وقد كرست تيمات السرد وتقنيات المسرح والسينما والتشكيل إلى آخر ألوان الفنون ~~البصرية والسمعية المتباينة. ويتضح هذا أيضا في الرواية «تمثل الروايات الطويلة التي تكتب ~~اليوم تناقضا؛ فالبعد الزمني قد تمزق إربا، وبتنا لا نستطيع العيش أو التفكير إلا في ~~أجزاء من الزمن، يذهب كل منها في مداره الخاص ثم سرعان ما يتلاشى. وإذا كان لنا أن نعيد ~~اكتشاف استمرار الزمن فإنما في روايات تلك الحقبة؛ حيث لم يكن على الزمن أن يتوقف، ولم يكن ~~عليه بالتالي أن يتفجر. حقبة لم تستمر أكثر من مائة عام.» # 35 # ما يحدثنا عنه الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو # Italo Calvino # هنا من تشظ ~~للزمن والذات، وهو ما جسده لنا في أعماله بقوة ك «مدن لا مرئية» # Le città invisibili # وغيرها، هو السمة الأبرز للفن ما بعد الحداثي. لا توجد خصوصية للحظة الحاضرة، الذات نفسها ~~مشتتة بين الماضي والحاضر والتطلع للمستقبل؛ لذا لا توجد خصائص أسلوبية مميزة، هناك فقط ~~استخدام وتوظيف لكل ما أنتجته الحضارة البشرية من قبل «إعادة تدوير» # recyclage # و«إعادة ~~إنتاج» # reproduction # بلغة الصناعة، وهي اللغة التي يحتفي بها فنانو ما بعد الحداثة. وهكذا ~~يغدو العقد المؤقت - كما لاحظ ليوتار - في كل شيء، هو العلامة المميزة لحياة ما بعد الحداثة. # 36 ~~(5) ~~«الحنين إلى الماضي»: وهي سمة حاضرة بقوة في معظم الأعمال الفنية ما بعد الحداثية، فما ~~بعد الحداثة لا ترفض الماضي وتنبذه، إنما تعيد توظيفه وإنتاجه، بصورة ربما تبدو للبعض ~~«مشوهة»، تأكيدا منها على الروح الديمقراطية التي تتعامل بها مع التراث، وفي نفس الوقت ~~محاولة محو الهالة التي كانت تحيط بالأعمال التراثية الشهيرة، أو حتى السخرية منها (كما فعل ~~مارسيل دوشام عندما وضع شارب لموناليزا دافنشي). على أن هذه العودة إلى الماضي ربما يكون ~~سببها أيضا ضعف الطاقات الإبداعية للفنان المعاصر وعدم قدرته على إنتاج الجديد، وهو حكم ~~ليس تعميميا ms062 بطبيعة الحال، ومن ثم العودة إلى الماضي وإعادة استغلاله وإنتاجه، يقول جان ~~بودريار: «منذ هذه اللحظة لم يعد هناك تاريخ للفن ... فالفن نفسه يرتد في تاريخه، وهذا هو أحد ~~مظاهر انعدام قيمته ... يستهلك نفسه في تاريخه الخاص بأن يبعث على هذا النحو كل الأشكال ... نوع ~~من انقلاب الأشياء، ومرحلة لا تنتهي من التكرار ... إعادة استخدام لا تنتهي.» # 37 # وما يقوله بودريار هنا يبدو متوافقا إلى حد كبير مع ازدهار ما يسمى في الغرب ~~منذ مطلع السبعينيات ب «صناعة التراث» # heritage industry ~~، وهو مصطلح تناوله دوجلاس كريمب # D. Crimp # وهويسنز بالتحليل، ويشير إلى أن التاريخ قد تحول إلى مجرد أرشيف كبير «يمكن ~~استعادته جاهزا واستهلاكه المرة بعد المرة». وهو - أي صناعة التراث - وما بعد الحداثة على ~~اتصال وثيق؛ إذ «إنهما تآمرا على خلق شاشة سطحية تدخل بين حياتنا الحاضرة وماضينا»، ويصبح ~~التاريخ «خلقا راهنا أكثر مما هو خطاب نقدي» ويستنتج هويسنز من هذا «أننا بتنا محكومين ~~بطلب التاريخ عبر صور البوب التي لدينا، وعبر تلك الصور الزائفة.» # 38 # هذه هي أهم السمات الحاضرة بقوة في الأعمال الفنية بما بعد الحداثية، وهناك سمات أخرى ~~تتفرع عنها ربما يكون أهمها: التقطيع # cutting ~~، المزج # collage ~~، ~~المحاكاة الساخرة # parody ~~، الميل لزخرفة السطوح # surfaces decorated ~~... إلخ. # 39 # وربما ستبرز لنا هذه السمات بصورة أقوى عندما نستعرض التغيرات التي لحقت بكل ~~فن على حدة، وسنحاول أن نستعين في ذلك ببعض النماذج التطبيقية. لكن ربما يلزمنا قبل ذلك أن ~~نشير إلى تغير حدث في طبيعة مفهوم التمثيل، الذي هو على علاقة رئيسة بالفنون المختلفة، هذا ~~التغير كان نتاجا للتحولات التي تحدثنا عنها فيما سبق، وإلقاء الضوء عليه سيكون مفيدا بصورة ~~كبيرة في فهمنا لطبيعة الفنون وتحولاتها في القرن العشرين. ~~••• # الواقع أن مفهوم التمثيل # Representation # هو أحد المفاهيم الحاضرة في تاريخ الفنون ~~والنظريات الجمالية حضورا كبيرا منذ أفلاطون وحتى القرن العشرين. ويعني التمثيل أن الوعي ~~الإنساني يمثل موضوعات العالم الخارجي ويخلق بداخله صورة ذهنية عنها، هذه الصورة تتعرض ~~لتحولات معرفية عديدة بحيث تصبح مكونا رئيسا من مكونات الإنسان المعرفية، وتتحكم بالتالي في ms063 ~~رؤيته للعالم، ومن ثم آراؤه وتصوراته عنه. كانت علاقة الإنسان - قبل ابتكار الصورة وتقنيات ~~صناعتها - بتلك الموضوعات علاقة مباشرة دون وسيط، وبالتالي كانت الصورة الذهنية مطابقة في ~~واقع الأمر للموضوع الذي تجسده (إذا رمزنا للموضوع الخارجي ب «أ »، فإن الصورة الذهنية ~~الناتجة عن التمثيل الذهني له ستصبح «أ» أيضا) بمعنى أن هناك علاقة هوية بين الموضوع الخارجي ~~والصورة الذهنية التي تمثله. على هذا الأساس أسس أرسطو لمنطق الهوية وجعله أحد القوانين ~~الرئيسة للعقل الإنساني. # لكن مع اعتماد الصورة كوسيلة معرفية أساسية وخاصة مع ظهور وسائل الإعلام، ستتغير تلك ~~المعادلة (لن تصبح «أ» في علاقة هوية مع «أ») ثمة وسيط دخل بين الموضوع وتمثله، وسيترتب على ~~دخول هذا الوسيط حدوث اختلال ما في المعادلة التمثيلية؛ فالصورة كوسيط هنا بين الموضوع ~~والذات التي تتمثله، لا تنقل هذا الموضوع بطريقة محايدة بريئة، كما العين الإنسانية. ~~فالواقع أنه لا توجد صورة بريئة، تماما كما لا توجد كاميرا محايدة. وهناك مبدأ معروف في ~~الإعلام المعاصر يقول: «ليس المهم أن تنقل الحدث ولكن الأهم كيف تنقل الحدث.» تحولت الواقعة ~~إذا من كونها واقعة محايدة تكون علاقة الإنسان بها علاقة مباشرة، إلى كونها واقعة مجسدة في ~~صورة تحمل بداخلها رسالة، وتكون هذه الرسالة فاعلة ومؤثرة في تشكيل الواقع. # ويبدو فن التصوير، عبر تاريخه، من أكثر الفنون التي ارتبطت بمفهوم التمثيل، وذلك نظرا ~~لطبيعته التي ارتبطت منذ نشأته بتصوير أشياء وموضوعات تمت بصلة قوية للعالم الخارجي، ~~وبالتالي فإن المشاهد، غالبا، ما يقوم باستحضار الموضوع المناظر للشيء الذي تجسده اللوحة، ~~ويبحث في اللوحة عن مدى مطابقتها لهذا الموضوع. ويبدو هنا مدى توافق منطق الهوية، والبحث عن ~~أساس، بالصورة التي تحدثنا عنها، مع رؤية المتلقي العادي الذي يبحث عن التشابه والتوافق، ~~بين ما يشاهده وبين الأشياء كما يألفها في العالم الخارجي. هنا يتضح أن منطق الهوية متغلغل ~~في العقل الإنساني، بوصفه قانونا من قوانينه. لكن هذا القانون قد عطل مسيرة التلقي الجمالي، ~~بالإضافة بالطبع إلى تأثيره القوي على النظرية الجمالية ms064، والدليل الأكبر على ذلك أن مشكلة ~~التمثيل في الفن من أقدم وأهم المشكلات، ولا يوجد فيلسوف جمال إلا وتعرض لها. # ومثل النقلة التي حدثت في الفلسفة من منطق الهوية إلى منطق الاختلاف، فإن تاريخ فن ~~التصوير هو ذاته تاريخ الانتقال من النزعة التمثيلية إلى النزعة اللاتمثيلية «إن التخلي عن ~~المجاز البسيط هو الحقيقة العامة في الفن الحداثي، كما أنه كان حقيقة فن التصوير ككل، وفي ~~كل زمان.» # 40 # فالتصوير الحداثي يصل بدحض التمثيل إلى أبعد الحدود. # بالإضافة إلى ما أحدثه اكتشاف قوانين المنظور في فن الرسم الكلاسيكي من ثورة على مفهوم ~~التمثيل - إذ الحديث عن «رؤية منظورية» للمكان لا يصح إلا عندما يتجاوز الرسام التمثيل ~~البسيط الذي يكتفي «بتقليص» الموضوعات الخارجية، ويعمد على عكس هذا إلى تحويل لوحته في ~~كليتها إلى «نافذة»، # 41 # نلقي فيها ببصرنا على المكان فنحوم في أرجائه بالكيفية نفسها التي يريد أن ~~يخلقها عندنا الرسام؛ فإن ما أحدثه فن الباروك لا يقل أهمية عن هذا الاكتشاف «لقد ساهم فن ~~الباروك # Le baroque # مساهمة فاعلة في خلق «منظورات خادعة» بفعل القيمة الكبيرة التي منحها ~~«للخداع البصري» # Les illusions d’optique # بعد أن غدت قوة الإيهام والخداع عنده أكثر حقيقية ~~من الواقع نفسه.» # 42 # ونستطيع إجمالا أن نقول مع فولفلين # Wölfflin # بأن الباروك «لا يمثل تقهقرا، ~~مقارنة بالفن الذي ساد في عصر النهضة بقدر ما يمثل أسلوبا تشكيليا جديدا سيرفع من مكانة الزيف.» # 43 # وإذا كان الفن الكلاسيكي-النهضوي يميل إجمالا إلى إعطاء الخصائص التشكيلية ~~طابعا ثابتا بناء على النموذج المعماري # Le type architectural ~~، فإن فن الباروك يكتسي طابعا ~~موسيقيا؛ ولذلك فهو يميل أكثر إلى إثارة الإدراكات العاطفية-الانفعالية وإلى فتح المجال ~~أمام ردود فعل حركية؛ إذ إن الانتظام الهندسي الذي طبع النهضة بطابعه الصارم سيتقلص نوعا ما ~~ليحل محله اندفاع القوى في حركيتها. # وفي حين مجدت رسوم النهضة الأشكال الدقيقة بفعل الأهمية التي كان يحظى بها ~~التخطيط # designe ~~، فإننا نجد لدى فن الباروك ميلا صريحا إلى الأساليب الإيحائية بعد أن أصبح اللون هو ~~العنصر الأساس الذي يولد الإيحاء. لقد رد رسامو عصر ms065 النهضة جمالية وتناسق الأجسام إلى مبدأ الوحدة # Le principe de L’unité ~~؛ ~~ولهذا نجد عندهم ولعا بالتماثلات # Les symétries # والأشكال ~~المنغلقة والمراكز # Les centres # بنفس القدر الذي نجد عندهم إطنابا في تجسيد «المنظورات ~~المتقاربة» # Les perspectives convergentes ~~. أما في الرسوم الباروكية فإن اللجوء إلى ~~اللاتماثلات # Les dissymétries # وإلى الفضاءات المتمددة # Les espaces expansifs # والأشكال ~~المفتوحة ، سيصبح السمة البارزة؛ ويسير في موازاة مع هذا كله اهتمام شديد بتصوير الخدع ~~البصرية. # والواقع أن ما يسمح بوجود هذه الاختلافات بين الرسم في عصر النهضة وبين الرسم الباروكي ~~لا ينحصر عند هذه المعطيات بمفردها؛ لأن الفن في عصر النهضة ينطلق أساسا من رؤية شاملة ~~هدفها الجوهري تحري الحقيقة، في حين يتخذ في الباروك مظهرا بلاغيا # aspect rhétorique # بعد أن ~~أصبحت غايته، ليست هي نقل الحقيقة، بل تحريفها أو تحويرها. ولذلك فإن ما أصبح يهم الرسامين ~~الباروكيين بالدرجة الأولى هي الأشكال البلاغية التي تظهر عليها الأشياء، وهو ما يسير طبعا ~~بشكل منسجم مع الأسلوب الباروكي الذي يعتبر الفن وسيلة إيحاء واستهواء، الأمر الذي سيسمح في ~~المقابل بجذب التعبير الفني إلى دائرة المظهر والزيف. # نفس المبدأ المعادي لفكرة التمثيل، هو الذي نجده عند ماجريت، لكن على مستوى آخر لا يقضي ~~نهائيا على مفهوم التمثيل في حد ذاته، بقدر ما يقضي على فكرة الانعكاس والشفافية التي ~~اقترنت دائما في الفكر الكلاسيكي وفي فن الرسم التقليدي بأسمى درجات التمثيلية؛ ففي كثير من ~~أعمال ماجريت يحضر موضوع المرآة التي لا تعكس الواقع بل تنتج ما تشاء دونما التزام بقواعد ~~الانعكاسية. إن مرايا ماجريت لا تعيد إنتاج موضوعاتها وفق مبادئ التمثيلية التي تأسس عليها ~~فن الرسم الكلاسيكي، بل إنها تعمد إلى خلق عوالمها الخاصة، بما فيها الواجهات الخفية التي ~~لا تستطيع المرايا الواقعية التقاطها، مما يعطي الانطباع منذ الوهلة الأولى بأننا لم نعد ~~أمام مرايا تنسخ الأشياء كما هي ولا أمام تمثيلات حقيقية، بل أمام قوة شيطانية # Une force ~~diabolique # توالي خلق السمولاكرات، وتوسع الهوة بين موضوعات الرسم وموضوعات الواقع. # لا يتعلق الأمر هنا بخدع بصرية كما هو مألوف في الرسومات الباروكية، وإنما يتعلق بماهية ~~الرسم التي غدت تحتل مع ماجريت منزلة ms066 مغايرة؛ ففي لوحة «المرآة الزائفة» # Le faux-miroir ~~(1935م) ~~يجسد ماجريت عينا وقد ارتسمت على سطحها مجموعة من السحب فبدت زرقة العين وكأنها امتداد ~~لزرقة السماء. هذه اللوحة كافية بمفردها لتبين الدور الكبير الذي لعبته الحركة السريالية ~~في خلخلة مفهوم التمثيل؛ ففيها رسالة واضحة من ماجريت فحواها «أن عين الرسام هي دوما «مرآة ~~مزيفة» لأنها لا تنقل الوقائع كما هي، ولا تمثلها كما هي متمثلة فعلا بالعين العادية وإنما ~~تحرفها.» # تلك أيضا هي القضية التي تطرحها لوحة «ارتباطات خطيرة» # Les liaisons dangereuses ~~(1926م)، ~~في هذه اللوحة يجسد ماجريت امرأة عارية وهي تمسك بمرآة تدير سطحها العاكس جهة المشاهد. وبدل أن ~~تعكس المرآة أطراف الجسم التي تناسب وضعه أمام المشاهد، فهي لا تمثل سوى الجهة اللامرئية؛ ~~أي ظهر المرأة الذي لا يستطيع المشاهد ولا المرآة التقاطه، وكأن ماجريت تعمد بهذا ~~الإخلال بقوانين الانعكاسية حتى يؤكد بأن ثمة جانبا «لا تمثيليا» في التمثيل. # وتبدو المفارقة في أن ماجريت في رسوماته يلتزم حرفيا بقوانين التمثيل الكلاسيكي؛ لأن ~~استعادته للأشياء والأجسام هي دوما استعادة دقيقة. لكن بدل أن تعكس المرآة الجسم في أوضاعه ~~المناسبة التي تتفق مع أوليات عملية الانعكاس، فهي تنصب أعضاء في غير مواضعها المناسبة؛ وما ~~ذلك إلا لأن فن الرسم عند ماجريت لم يعد يعمل - كما يقول مارسيل باكي - بالكيفية التي تعمل ~~بها المرآة المنفعلة: فهو لا يكرر المظهر بل يغيره ويحوله. وهكذا فإن فن الرسم لا يعيد ~~إنتاج جسد المرأة وإنما يقوم على العكس بإنتاج مظهر جديد وصورة جزئية، مجمدة، مؤطرة ~~وميتة. # حتى على مستوى فن التصوير الفوتوغرافي، الذي هو في الأساس صورة ضوئية منعكسة لأشياء ~~العالم الخارجي، احتل مفهوم «السيمولاكرا» موقعه على خارطته، بل إن المصطلح نفسه ساهم في ~~وضع حجر الأساس لممارسة فنية جديدة باتت معروفة على نطاق واسع في الغرب باسم «النزعة ~~التشبيهية» # simulationism ~~، التي يعتبرها هال فوستر # Hal Foster ~~«استثمارا لمفهوم السيمولاكرا ~~عند دولوز وفوكو.» # 44 # وهي حركة وجدت إرهاصاتها الأولى في أعمال بعض الرسامين كرينيه ماجريت، وإندي ~~وارهول # A. Warhol ~~، وما لبثت أن انتقلت إلى مجال التصوير ms067 الفوتوغرافي على يد ~~سيندي شيرمان # Cindy Shirman # وشيري ليفين # S. Leiven # وباربرا كروجر # B. Kruger # وسارة وورث # S. Worss # وغيرهم. ~~وقد حاول هؤلاء العمل على تخليص التصوير الفوتوغرافي من فكرة التمثيل، وكان سبيلهم إلى ذلك ~~التخلص من فكرة النموذج المصور عبر مجموعة من الطرق؛ # 45 # فهذه شيري ليفن تدور معظم أعمالها حول إعادة تجميع أو إنتاج أو دمج لصور سابقة ~~بحيث تكون النتيجة في النهاية صورة غير ذات أصل محدد. وهذه سيندي شيرمان، تتخذ من جسدها ~~مادة للتصوير الفوتوغرافي، وكل أعمالها تدور حول هذا الموضوع، بحيث تكون النتيجة تصوير ~~الجسد في أشكال وأوضاع مختلفة، وليس بصورته الحقيقية، وبحيث تكون الصورة في النهاية صورة ~~لشيء غير حقيقي أو مزيف. يقول الناقد دوجلاس كريمب # D. Crimp # عن شيرمان: «إنها تجعل من نفسها ~~وسيطا، و«صورة» تسبق هذا الوسيط، وبالتالي فهي نسخة من دون أصل.» # 46 # وفي نفس هذا السياق تندرج أعمال كروجر التي جعلت من الدعاية والإعلانات مادة ~~لأعمالها. # ثمة إحساس متزايد الآن - كما يقول كيفين روبنز - بأننا نشهد ميلاد حقبة جديدة، حقبة ما بعد ~~التصوير الفوتوغرافي. وتمثل هذه الحقبة نوعا من التطور في التكنولوجيا الرقمية الجديدة ~~الخاصة بتسجيل ومعالجة وتبادل وتخزين الصور. وهكذا شهدنا خلال السنوات الأخيرة من القرن ~~العشرين نوعا من التقارب المتزايد بين تكنولوجيا التصوير الفوتوغرافي وتكنولوجيا الفيديو ~~والكمبيوتر، وقد أدى هذا التقارب إلى تمهيد الأرض لظهور سياق جديد تكون فيه الصور ~~الفوتوغرافية الثابتة مجرد عنصر صغير في ذلك العالم الكبير، الذي أطلق عليه اسم الميديا ~~أو العليا # hypermedia # الفائقة. فالتكنولوجيا الافتراضية بقدرتها على توليد أو إنشاء صور ~~«واقعية» على أساس بعض التطبيقات الرياضية التي تحاكي الواقع وتنمذجه، أسهمت في الرفع من ~~شأن التوقعات للتطورات اللاحقة والاستباق لها. # 47 # يمكن النظر إلى مفهوم «الواقع الافتراضي» # réalité virtuelle # الذي ظهر في بدايات ~~الثمانينيات، وتنامى بعد ذلك حتى اتخذ موقعا هاما في الثقافة المعاصرة، على أنه شكل من أشكال ~~الصورة الزائفة أو السيمولاكرا، فالواقع الافتراضي هو واقع غير محاك لعالم ما؛ أي صورة غير ~~ذات أصل محدد، لكنها تمتلك قوة الأصل، بل تفوقه من حيث القدرة على ms068 الإبهار والتأثير. ويذهب ~~بيزني # J. M. Besnier # إلى أن «الجهاز المفاهيمي الذي نحته كل من دولوز وجاتاري يمنح ~~للتكنولوجيات الجديدة بعدا فلسفيا غير متوقع، سواء تعلق الأمر بمفهوم «انمحاء المكان ~~والزمان» المرتبط بالسرعة الفائقة التي يتم فيها تبادل المعلومات، أو «مضاعفة السيمولاكرات» ~~بواسطة التقنيات الرقمية؛ أو تعلق الأمر بمفهوم «الواقع الافتراضي».» # 48 # كما تذهب كلير كوليبروك إلى وجود صلة حقيقية بين مفهوم السيمولاكرا وبين ~~الواقع الافتراضي الذي صار شعارا لمرحلة الحداثة البعدية التي يعيشها الغرب الآن. # 49 # ليس الافتراضي صورة مزيفة للواقع أو سيمولاكر، بل هو نسف للواقع ذاته وتخليصه من الهالة ~~التي كان يحظى بها في السابق، على أساس أن الواقع لم يعد مبدأ للتحقق باعتباره إحالة ~~مرجعية يتم على إثرها التحقق من صدق قضية من القضايا. وبالتالي غدت الإحالة معطاة للافتراضي ~~بما هو منبع جديد للحقيقة. إن الواقع، كمبدأ للإحالة وكمادة خام وكحدث خاص، تلاشت هيمنته ~~بفعل التدخل المفاجئ للعالم الافتراضي. # إننا نعيش الآن عالم ما بعد الواقع، عالم الفضاء التكنولوجي والواقع الافتراضي والفضاء ~~اللانهائي الذي يتحكم فيه الكمبيوتر والإنترنت والتكنولوجيا الافتراضية، # 50 # عالم الصور المحاكية التي تشبه الأصل ولا تشبهه، تحاكيه ولا تحاكيه، بل تتفوق ~~عليه وتفارقه، عالم يشبه كثيرا كهف أفلاطون الذي تملؤه الظلال والنسخ المزيفة. # أخيرا تبدو السينما هي المثال الأبرز لفن السيمولاكرا؛ فالسينما هي فن الوهم بامتياز، ~~سواء كان هذا بسبب طبيعتها أم لأنها تخلق عالما ليس له أصل أو مرجع، فهي مرجع ذاتها. إن ~~الصورة السينمائية لا تعيد إنتاج عالم، وإنما تبني عالما مستقلا بذاته، مصنوعا من انقطاعات ~~وتفاوتات، مجردا من مراكزه كافة. وقد طرح المنظر السينمائي بيير بورديل P. Bourdil # هذا ~~السؤال: هل السينما فن الخداع والسيمولاكر؟ وأجاب قائلا: «مما لا شك فيه أن السينما هي نموذج ~~لفن السيمولاكر؛ لأنها تقدم لنا عالما مستقلا من الصور يجسد مظهر الأشياء ومعناها في الوقت ذاته.» # 51 # والواقع أن السينما منذ ظهورها وهي تثير مثل هذه الأسئلة التي تتعلق بطبيعتها ~~وعلاقتها بالواقع؛ ذلك لأنها أكثر الفنون التصاقا بالواقع وابتعادا عنه في الوقت نفسه أو ms069 ~~كما يقول ميتز # Metz ~~: «هنا سر آخر من أسرار السينما؛ حيث تدمج واقعية الحركة في لا واقعية ~~الصورة، من ثم يتحقق المتخيل أو الخيال إلى درجة لم يتم التوصل إليها من قبل.» # 52 # وقد ربط العديد من منظري السينما بين ما تخلقه السينما من إيهام بالواقع، وبين ~~طبيعة المشاهدة السينمائية التي تتفاعل مع هذا الإيهام لدرجة تجعل منه واقعا موازيا أو ~~بديلا للواقع الحقيقي، وقد قال أندريه بريتون: «إنه في السينما يتم الاحتفاء بالطقوس السرية العصرية.» # 53 # وهو بذلك يعبر بشكل جيد عن التقاء النقيضين: التكنولوجيا والميتافيزيقا في شيء ~~واحد يسمى السينما. ~~••• # سنحاول عبر الصفحات التالية تتبع السمات ما بعد الحداثية في الفنون المختلفة: # إذا بدأنا بفن العمارة، وهو الفن الذي يرى البعض أنه أولى الفنون تأثرا بصيحات ما بعد ~~الحداثة. يقول جيمسون: «ليس هناك حقل من الحقول المعرفية شعر فيه رجاله بموت الحداثة وأعلنوا ~~عن ذلك بصورة حادة، مثلما حدث في فن العمارة.» لقد ذهب جانكس في كتابه «لغة العمارة ما بعد ~~الحداثية» # The Language of Postmodern Architecture # إلى أن النهاية «الرمزية» # 54 # للحداثة يمكن تحديدها عند الساعة 20 : 3 من يوم الخامس عشر من يوليو عام 1972م ~~عندما جرى نسف مبنى برويت-إيجو Pruitt-Igoe # لسكن ذوي الدخل المحدود في سانت لويس باعتباره ~~بيئة غير صالحة للسكن فيها. # 55 # لقد تهاوت أفكار لو كوربوزييه # Le Corbusier ~~(كان المبنى قد نال جائزة لي ~~كوربوزييه حول «آلة العيش الحديث») وممثلين آخرين ل «الحداثة العليا» وأفسحت الطريق أمام ~~تقدم صارخ لإمكانات متعددة. لقد رأى جانكس أن الأهم في هدم مجمع «برويت إيجو» الطريقة التي ~~تم بها الهدم وهي (النسف)، # 56 # والتي أضحت مثالا على النسق الفكري، والنموذج الأساس لما بعد الحداثة. ~~فالنظرية الحداثية المعمارية كانت تعتمد في الأساس على فكرة الوظيفة دون الالتفات إلى ~~الشكل، أن يحقق البناء وظيفته على النحو الأتم بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى تتعلق بشكل ~~البناء ومكامن الجمال فيه. # 57 # وكما يقول جين جاكوبس # J. Jacobs # في دراسته الهامة «موت المدن الأمريكية الكبرى ~~وحياتها»: «إن المسطحات الحضرية التي أقامتها الحداثة كانت نقية ومنظمة وناجحة من الناحية ms070 ~~المادية، أما اجتماعيا وروحانيا وإنسانيا فهي أقرب إلى الموات، وإن زحام وصخب القرن ~~التاسع عشر هما ما أبقى على الحياة الحضرية المعاصرة.» # 58 # في عام 1965م نشر الناقد المعماري روبرت فنتوري # Robert Venturi # مقالة بعنوان ~~«مبررات عمارة البوب» في مجلة «الفن والعمارة» # Art and Architecture ~~، قدم خلالها مبررات ~~وحتمية ولادة مفهوم جديد للعمارة عوضا عن المفاهيم التقليدية الموروثة من الحداثة. ثم أتبع ~~هذه المقالة بكتابيه «التعقيد والتناقض في العمارة» و«التعلم من لاس فيجاس»، ينتقد فنتوري في ~~الكتاب الأول ما أسماه «البساطة الزائدة» في التصميم المعماري الحداثي واصفا إياه ~~ب «النقيصة التكوينية»، داعيا إلى «إثراء الناتج المعماري»، ومبشرا بميلاد مفاهيم نظرية ~~جديدة، تخالف وتعارض المناهج المعمارية السابقة وتطبيقاتها البنائية المستقرة. وفي الكتاب ~~الثاني يوصينا فنتوري بأن نتعلم جمالياتنا المعمارية من عرى لاس فيجاس أو من الضواحي ~~القذرة كما في ليفيتاون؛ لأن الناس باختصار تحب هذه الأمكنة «وليس شرطا أن يكون للإنسان ~~توجه سياسي محدد حتى يدعم حقوق متوسطي الطبقة الوسطى في جماليتهم المعمارية الخاصة بهم، وقد ~~وجدنا فعلا أنه يتشارك في نمط ليفيتاون الجمالي معظم متوسطي الطبقة الوسطى، السود كما ~~البيض، الليبراليين كما المحافظين.» # 59 # كان المعماري الفرنسي لو كوربوزييه هو الأب الروحي للمعمار الوظيفي الذي ساد إبان مرحلة ~~الحداثة. وقد مثلت نظريته المعمارية مرحلة رئيسة ومهمة من مراحل تطور «العمارة الحديثة» في ~~فرنسا، فترة ما بين الحربين. واعتبرت أطروحاته الأسلوبية وأعماله المعمارية بمنزلة أمثلة ~~ناصعة للفكر المعماري الحداثي ليس فقط في فرنسا، وإنما في مناطق عديدة من العالم. كان لو ~~كوربوزييه شخصية متعددة الاهتمامات؛ فبالإضافة إلى كونه معماريا مجددا كان مخططا للمدن، ~~ورساما وكاتبا، ومصمما ومنظرا، وساهمت اهتماماته المتعددة تلك إلى تكريس حضوره اللامع في ~~المشهد المعماري العالمي. وعلى الرغم من أن الأبنية التي نفذها لو كوربوزييه تعد قليلة نسبيا ~~فإن كلا منها كان بمثابة خطوة كبيرة في تطور مبادئ «العمارة الحديثة». وتمتاز المباني التي ~~صممها بحضور واضح للمعايير للهندسة الخالصة المعتمدة على الأشكال الأساسية كالمكعب، ومتوازي ~~الأضلاع والأسطوانة، وقد كتب يقول ذات مرة: «إن مشاكل ms071 البناء الحديث الكبرى يمكن حلها فقط ~~عبر استخدام الهندسة المنتظمة؛ إذ يتجه مهندسو اليوم نحو إنتاج الكتل ذات الخطوط الهندسية ~~الواضحة فيكتشفون أشكالا واضحة وقوية التأثير، تريح الأبصار وتوفر للعقول متعة النظر إلى ~~أشكالها الهندسية. كذا هي المصانع، أولى ثمار العصر الجديد . وهكذا يضع مهندسو اليوم أنفسهم ~~في اتساق مع ذات المبادئ التي طبقها أمثال برامنته ورافائيل منذ زمن بعيد.» # يتضح من عبارة لو كوربوزييه أن التشبه بالآلة وبنتاج المهندسين الصناعيين لا يراد به ~~الوظيفية البحتة Pure Functionalism ~~، بقدر ما يراد به التعبير عن إنجازات مهندسي العصر ~~الصناعي في تقنين نماذج نمطية اعتمادا على حجوم هندسية بسيطة يسهل التعامل معها ضمن ~~إمكانيات الصناعة الآلية، وهي في ذات الوقت ذات مظهر جمالي جاذب. # جان باتيليه: التدمير الحداثي للنسيج المديني القديم. # إن الحقبة الجديدة في رأي لو كوربوزييه لا بد أن تعبر عن روح العصر الصناعي الذي يعتمد على ~~التنظيم والنمذجة ضمن مواصفات ومقاييس معيارية تنسجم والأهداف المتوخاة من الأداة قيد ~~التصميم. ومثلما هي الصناعة، أرادها لو كوربوزييه في العمارة. فكلما كان الحل بسيطا ~~ومباشرا كان أقرب إلى الأشكال الهندسية؛ لذا ذهب إلى أن الجمال في التصميم المعماري رهن ~~استخدام الحجوم الهندسية البسيطة أو النقية أو التي تمثل الحلول التنظيمية الأنموذجية. # لو كوربوزييه: فيلا سافوي # Savoye ~~. # لو كوربوزييه: كنيسة نوتر دام دي أو. # وبالعودة إلى جانكس نجده يصف العمارة ما بعد الحداثية بأنها تميز نفسها عن العمارة ~~الحداثية «النخبوية» من خلال التأكيد على أولويات «الشعبوية»، وذلك يعني أنه بينما سعت ~~الحداثة المعمارية الكلاسيكية الأنيقة إلى تمييز نفسها عن بقية نسيج المدينة الأرضي الذي ~~تظهر ضمنه، فإن بنايات ما بعد الحداثة تنهمك، على العكس من ذلك، بإدراج نفسها ضمن النسيج ~~الآخذ في التغير الذي تشكل عناصره الأبنية التجارية والفنادق الصغيرة ومطاعم الوجبات ~~السريعة المنتشرة على الطرقات السريعة في المدن العالمية الكبرى. وإذا كانت نصيحة دانيال بيرن # D. Burne # للموجة الأولى للمصممين الحداثيين في نهاية القرن التاسع عشر هي «لا تصنع ~~تصاميم صغيرة»؛ فإن في وسع مصمم ما بعد ms072 حداثي مثل ألدو روس # A. Rosse # أن يكون أكثر تواضعا ~~ويتساءل: «مم أستلهم أعمالي إذا؟» ليجيب: «من الأشياء الصغرى بالتأكيد، بعدما تبين أن القدرة ~~على تحمل الأشياء الكبرى كان تاريخيا عائقا كبيرا.» # 60 # إن الأبنية ما بعد الحداثية لا ترى ضيرا مثلا في مزج الأفكار المعمارية الجديدة مع ~~الأشكال والرموز التقليدية الغابرة بهدف إحداث نوع من الصدمة والإدهاش، وربما المرح ~~والتسلية للرائي. وهو ضرب من الإيمان بأن الجمال قد يتولد من التنافر مثلما يتولد من ~~الاتساق، ومن الفوضى مثلما يتولد من النظام. لقد انعكس التحول الذي حدث في المجالات ~~الثقافية على الناتج المعماري وعلى اهتمام المعماريين، وساهم كل منهما في إثراء الفنون ~~الأخرى؛ لأن الحواجز بينهما قد سقطت «فاستوعب الخطاب المعماري المعاصر اتجاهات مختلفة نحتية ~~وتشكيلية تنهل من طرز عديدة. ورأى بعض النقاد المعماريين أن التعددية والصخب ما هما إلا ~~تعبير عن تعددية وصخب الأحداث التي بداخل جدران البنايات وفيما حولها. أو هي لون من ~~الديمقراطية وحرية التعبير تسمح لكل معماري أن يطرح أفكاره الخاصة دون الالتزام بقالب يحده ~~أو نموذج يتمثله، وهو أمر لم يكن بمقدور المعماريين أن يفعلوه في السابق.» # 61 # وفي سياق مشابه يقول جان نوفيل: «لم يعد المكان يعاش بنفس الطريقة، ولم تعد نفس ~~الأشياء موجودة بالداخل؛ فاللعب بالمقياس يتم بطريقة مختلفة، ويتم تغيير معناه، فنتمكن ~~انطلاقا مما كان كبير الحجم غير واضح ووظيفي على نحو خالص، وعبر انحرافات متعاقبة، من ~~إعادة خلق وتجديد لم يكن باستطاعة أي أحد تخيل أنها ممكنة.» # 62 # سيطرح دولوز مفهوم «المدينة الكولاج» # collage city # 63 # ليصف نوع المعمار السائد في الغرب في الحقبة ما بعد الحداثية، ~~والذي يتخذ من «الانتقائية» قاعدة أساس له. والانتقائية - التي يعدها دولوز السمة الأبرز ~~للحياة المعاصرة - تعني «الجمع» و«المزج» بين العديد من «الطرز» و«الأساليب»، كما تعني أيضا ~~«الانفتاح على الماضي» والحنين إليه. # 64 # والمثال الجلي الذي يستخدمه المعماريون عادة لشرح مفهوم «الانتقائية» كما ~~تتجلى في فن المعمار، هو مبنى مؤسسة # At&t ~~(مبنى سوني # Sony # الآن) الذي صممه فيليب ~~جونسون P. Johnson # في مدينة نيويورك؛ إذ تعد ms073 هذه البناية الأكثر جدلا في النطاق المعماري ~~كونها تجمع ما لا يجتمع معماريا؛ فهي ناطحة سحاب مبنية على الطراز الحداثي الوظيفي المتقشف ~~الخالي من الزخارف والحليات التي لا وظيفة لها، فيما تعلو قمتها مقصورة مثلثة الشكل على ~~الطراز القديم المميز للقرن السابع عشر الذي يتسم بوفرة الزخارف والتفاصيل الشكلانية التي ~~لا تخدم وظيفة بعينها سوى تحقيق المتعة الجمالية. هذه الانتقائية أو المزج أصبحت هي لغة ~~العمارة ما بعد الحداثية، فأصبح من الطبيعي أن نجد بناية شديدة الحداثية محمولة على أعمدة ~~بيزنطية أو رومانية موغلة في القدم. وكما يقول بودريار «فإن العمارة تترجم عالما بأكمله.» # 65 # إن هذه الانتقائية هي انعكاس لعالم يسوده التشظي والتعددية «فيستمع الفرد إلى ~~موسيقى الريجاي ويشاهد أفلام رعاة البقر ويتناول أطعمة مكدونالد على الغداء وطعاما محليا ~~على العشاء، ويضع عطور باريس في طوكيو ويرتدي أزياء «ريترو» في هونج كونج ...» # 66 # فالتجاور وتزامن الأنماط والقيم والأمزجة والأشكال والمباني والمساحات ~~والحضارات، هما ما يئولان إلى ما يسمه جينكس «القرية الكونية» # Global Village ~~. ولما كانت ~~القرية تعني ما هو محدود ومحلي ومتجانس، في حين تشير الكونية إلى ما هو كبير ومتعدد ومتباعد ~~الأطراف ومختلف وغير متكافئ، فإن لقاء هذين الحدين يعني تجاور قيمهما وواقعهما، بحيث نحصل ~~على إنتاج انتقائي متبادل التأثر والتأثير. وباختصار فإن «التشظي، والكولاج، والانتقاء، ~~والمزج، مع الإحساس بالعرضية والفوضى، هي الأطروحات الأساسية، ربما، التي تهيمن اليوم على ~~ممارسات العمارة والتصميم المديني.» # 67 # وهو ما يجمعها بالتأكيد مع ممارسات مشابهة في حقول أخرى، مثل الرسم والأدب ~~والسينما والاجتماع وعلم النفس والفلسفة. # يذهب إيان بوكانان # Ian Buchanan # إلى أن دولوز وجاتاري في كتابهما «ألف ربوة» يقدمان ~~تقسيما للمكان يميزان فيه بين «الأمكنة الملساء» # espaces lisses # و«الأمكنة المخددة» # espaces ~~striés ~~؛ ويجاري هذا التقسيم التمييز الذي يقيمانه بصفة عامة بين«فن الرحل» # L’art nomade # الذي يميل أكثر إلى الأمكنة الملساء، و«الفن الحضري» # L’art sédentaire # الذي يناسب إلى حد ~~كبير الأمكنة المخددة. ووفقا لدولوز يتعلق الأمر بنوعين من الرؤية؛ أولا: ~~«الرؤية القريبة» # La vision rapprochée # التي تساير «المكان اللمسي» # L’espace Tactile ~~(أو بالتحديد الفضاء ~~الذي يمكن أن يكون في ms074 آن واحد لمسيا ومرئيا)، وهي الرؤية التي تنطبق بشكل دقيق على «الأمكنة ~~الملساء»، وتتوافق في طبيعتها مع فن الرحل. ثانيا: «الرؤية البعيدة» # La vision éloignée # التي تساير «المكان البصري» # L’espace optique ~~(أو بالتحديد الفضاء المليء بالطيات، والذي ~~يكون قابلا للرؤية فقط) وتنطبق إلى حد كبير على «الأمكنة المخددة» لتكون بذلك خاصية مشتركة ~~لأنماط الفن الحضري. # 68 # ولا يحصر دولوز وجاتاري تمييزهما بين هذين النوعين من الأمكنة في فن الرسم والهندسة ~~المعمارية فقط، بل يتعقبانه في النموذج التكنولوجي والموسيقي والجغرافي والرياضي ~~والفيزيائي. وإذا كانت الأمكنة المخددة توازي من الناحية الفنية المكان البصري وتنسجم بشكل ~~مناسب مع فن العمارة الكلاسيكي في عصر النهضة حيث التداخل الكبير بين العمق والشكل، وحيث ~~الحضور الجلي لمفهوم الحجم والمنظور، فإن الأمكنة الملساء توازي فن العمارة ما بعد الحداثي؛ ~~حيث لا قيمة لفكرة المنظورية ولا اعتبار للمركز والعمق، بعد أن فقدت المعالم نموذجها البصري # Les repères # الذي كان يوحدها في صنف ثابت معين أمام الملاحظ الذي يقع خارج المشهد «إذ لا ~~خط يفصل ما بين الأرض والسماء، فهما يمتلكان نفس المادة. كما أنه لا وجود للأفق ولا للعمق ~~ولا للمنظورية ولا للحد ولا للتخم أو الشكل والمركز.» # ووفقا لبوكانان فإن العمارة المعاصرة قد ساهمت في إبداع أمكنة ملساء بعد أن أصبح التصميم ~~متضمنا لاتجاهات متغيرة دون أن يعين التخوم ويحدد الأشكال، أو إذا شئنا استعمال لغة ميكائيل ~~فرييد # Michaël Fried ~~- التي يستعيرها كل من دولوز وجاتاري - لقلنا معه «لقد أصبحنا ها هنا ~~أمام خطوط تشكيلية متعددة الاتجاهات، بلا عمق ولا خارج، بلا شكل ولا قعر، لا تحد أي شيء ولا ~~تمثل أي تخم؛ فهي لا تملأ إلا مكانا أملس.» # 69 # ومن نفس المنطلق يقارن بوكانان، في موضع آخر، بين هذا التصور الدولوزي للمكان وبين ~~التحليل الذي قدمه جيمسون لفندق بونافنتور # Bonaventura hotel ~~، يخلص جيمسون من تحليله للطراز ~~المعماري للفندق إلى أنه يجسد «التجلي المعماري لمفهوم سقوط سلطة الإنسان وهيمنته على ~~الوجود؛ إذ لم يعد هو محور الحياة ومركزها.» وقد كرس المعماريون ذلك المعنى عن طريق عمل ~~واجهات زجاجية مرآوية عاكسة ms075 ضخمة، بحيث يقف الرائي عند مدخل البناية فيرى انعكاس العالم ~~والأبنية المقابلة للمبنى، ويرى صورته كذلك فيجد نفسه ضئيلا موغلا في التقزم والتشظي وسط ~~العالم والضجيج المنعكس أمامه. وبحسب جيمسون، فإن واجهات الزجاج العاكس للفندق إنما تهدف ~~إلى «طرد المدينة خارجيا»؛ لإبقاء الرائي بعيدا من أن يرى، وجعل صلة الفندق بالجوار أقرب ~~إلى «القطيعة الخاصة من دون مكان» (وهو طرد تماثله النظارات الشمسية العاكسة التي تجعل من ~~المستحيل على محدثك رؤية عينيك، مما يمنحك أفضلية وسلطة عليه). يمنح الزجاج العاكس للفندق ~~أيضا انفصالا عن الوسط المحيط به، فما نراه عندما نقف في مواجهته صور مشوهة ومفتتة ~~للمباني المحيطة التي تنعكس على واجهته. # 70 # At&t. # Bonaventura Hotel. # في سياق مشابه يجد أندرو بالنتين # Andrew Ballantyne # في مفاهيم دولوز عن التعددية ~~والتجاور والانتقائية علاقة وثيقة بالتطور المعماري المعاصر، وعلى سبيل المثال يقارن ~~بالنتين بين مفهوم الجذمور # rhizome # عند دولوز # 71 # وبعض النماذج المعمارية التي تنتمي إلى الطراز ما بعد الحداثي: فالجذمور - ذلك ~~المصطلح الذي يشير إلى اللامركزية واللاتحدد - يعد مدخلا لفهم العديد من الطرز المعمارية ~~المعاصرة، وعلى سبيل المثال «فإن مدينة بورتمان Portman city # صممت بطريقة لا يمكن للناظر ~~إليها أن يرى أي مدخل لها، فهي أشبه بالتيه الذي يصعب تحديد نقطة بداية أو نهاية له.» # 72 # ومن نفس المنطلق يقارن جرانت كيستر # Grant Kester # بين بعض مفاهيم دولوز، ~~كالتشظي والتجاور والطية والأمكنة الملساء والجذمور، وبين بعض الطرز المعمارية المعاصرة «إن ~~قوة نموذج دولوز تكمن في قدرته على الحفاظ على تنظيمات متعددة بشكل متجاور وآني، وهكذا ففي ~~مشروع آيزنمان # Eisenman # لمركز ويكسنر # Wexner center # نجد أن البرج والشبكة لا يشتملان على أي تناقض.» # 73 # عمارة ما بعد الحداثة: مبنى # Dancing House # جمهورية التشيك. # في نهاية ثمانينيات القرن العشرين تكرس مصطلح العمارة التفكيكية، كتعبير رمزي ونظري في ~~آن واحد عن وصف مجمل تجارب تصميمية ترسخت في الممارسة المعمارية العالمية وقتذاك. وبحسب ~~دريدا لا تعد العمارة التفكيكية نمطا معماريا، بل هي طريقة لجعل كل عنصر من عناصر التصميم ~~المعماري أشبه بالمجاز بصرف النظر عن الوظيفة التي يؤديها. وبمعنى آخر تركز العمارة ~~التفكيكية على ms076 الصور والعلامات، وتسقط من حساباتها تماما أغراض الوظيفة والمنفعة. ويضيف ~~دريدا بأن التفكيكية ليست بالضرورة تقويض المباني المبنية، وإنما خلق تضارب بين ما بات أمرا ~~عاديا ومألوفا لدى المرء في إدراك اللغة والمعنى، وبين من يراه أو يشاهده. # 74 # إن العمارة التفكيكية هي نوع من التحدي المعماري، تحد يمكن صياغته في الأسئلة الآتية: هل ~~بمقدور العمارة أن تتخلى عن هيمنة أقانيم علم الجمال الكلاسيكي؟ هل بإمكانها أن تتنصل عن ~~النفعية؟ عن الوظيفية؟ هل ثمة مفاهيم راسخة تحدد النظام أو اللانظام؟ هل بالإمكان تشييد ~~مبنى بالتخلي عن تلك المبادئ الأساسية المتعارف عليها والمألوفة لخلق عمارة (التوازن، ~~الخطوط الأفقية والعمودية، التدرج ... إلخ)؟ في محاولته للإجابة عن تلك الأسئلة يرى دريدا أنه ~~يتعين أولا التخلص من المفاهيم التقليدية القديمة عن العمارة، ومن ثم ابتكار أشكال جديدة ~~تتحرر من التصورات الجمالية الكلاسيكية. فالنظرية الحداثية المعمارية كانت تعتمد في الأساس ~~على فكرة الوظيفة دون الالتفات إلى الشكل؛ أي أن يحقق البناء وظيفته على النحو الأتم بصرف ~~النظر عن أي اعتبارات أخرى تتعلق بشكل البناء ومكامن الجمال فيه. إن الحداثة هي العقل ~~والعلم والمنطق، من هنا نستطيع أن نتفهم لماذا لجأت العمارة الحداثية في تصاميمها إلى ~~الأشكال الهندسية الصارمة التي خلعت عليها شكلا نمطيا واحدا، دون أدنى التفات إلى متطلبات ~~الشكل والجمال. # وعلى الرغم من أن أوجه التشابه بين العمارة التفكيكية والنمط المعماري ما بعد الحداثي ~~كثيرة (التقطيع - التصاميم غير الخطية - الاعتماد على الهندسة اللاإقليدية - إبراز ~~التناقضات ...) إلا أن بعض المنظرين قد رأوا أن ثمة اختلافات جزئية بين الاثنين؛ فعمارة ~~ما بعد الحداثة لا ترى غضاضة في استدعاء الماضي وإدخال بعض التعديلات عليه أو مزجه مع ~~أنمطة معمارية أخرى. في حين أن العمارة التفكيكية تسعى إلى تحقيق القطيعة التامة مع التاريخ ~~والتقاليد الراسخة في المعمار، بالإضافة إلى أن العمارة التفكيكية لم ترتبط بالنزعة ~~«الشعبوية» الواضحة التي يسعى مصممو ما بعد الحداثة دوما لإبرازها في شكل المباني. # إحدى خصائص المعمار التفكيكي، وفقا لدريدا، أن يأتي متجنبا الوصول بالمكان ms077 إلى حالة ~~التشبع. فيجب أن يبقى المعمار مفتوحا أمام فرصة تحول آت «بمعنى التخلي عن العلو المطلق؛ أي ~~أن تلامس المدينة السماء، والعمل وفق ما قد يسميه المناطقةبداهة النقص # Axiome ~~d’incomplétude ~~. فالمدينة كل يجب أن يبقى غير متشبع بنيويا، وأن يبقى منفتحا على إمكانية ~~التحول، وعلى الإضافات البسيطة التي تغير أو تحدث إزاحة في ذاكرة تراث المدينة. يجب أن تبقى ~~المدينة منفتحة لحقيقة أنها لا تعرف بعد ما سوف تكون عليه، ومن الضروري ترسيخ عدم اليقين ~~هذا في العناصر المعمارية وفي علم تخطيط المدن، كما لو كان رمزا. وإلا فما هذا الذي سيقوم ~~به المرء سوى تنفيذ بعض المخططات وإتمامها وإشباع المدينة وخنقها؟» # 75 # وقد ذكر دريدا مثال معبد إيسي في اليابان، والذي يتم تفكيكه وإعادة بنائه كلما ~~مر عليه عشرون عاما، كمثال على هذا الانفتاح المعماري. # اليابان: معبد إيسي # Ise ~~. # إن الأفكار النظرية التي نادى بها دريدا وجدت صداها القوي لدى بيتر آيزنمان. كان آيزنمان ~~من أشهر معماريي الاتجاه التفكيكي، آمن بأفكار دريدا حول علاقة الميتافيزيقا بالمعمار. وقد ~~رأى أن فلسفة الحضور قد تجسدت عبر مفهومين مزدوجين هما: الوحدة والأصل. هذه المفاهيم ~~بالنسبة له ناجمة عن الرغبة والحنين لدى الإنسان لمعرفة من أين أتى وما هو موقعه في هذا ~~العالم. لذا فالإنسان يحتل موقعا مركزيا ضمن إطار العمل المعماري. أما المفاهيم الأخرى مثل ~~الجمال والوظيفة، فهي كلها خاضعة للبعد البشري الذي يعتبر الإنسان حقيقة الكون المركزية. ~~بالإضافة لذلك رأى آيزنمان أن إنسان ما بعد الحداثة يتطور في عالم لا يحتوي نموذجا مثاليا ~~موحدا بل متعددا ومقطعا. وانطلاقا من هذه الحقيقة رأى آيزنمان أن التساؤل الديني حول الأصل ~~لم يعد متطابقا مع عصرنا ويجعل الإنتاج المعماري منغلقا في أفكار مسبقة كالمركز والنسق ~~والتنظيم والوظيفة، وهي كلها تعمل على تساوي التعبيرات المعمارية. # 76 # من هنا رأى آيزنمان أن الهندسة الإقليدية والأفلاطونية لا يمكن أن تعبر وبسبب نقائها ~~الجوهري عن حالة التعقيد والتقطيع التي تميز إنسان هذا العصر. لذا فلا بد من القيام بثورة ~~على «العمارة الحديثة ms078» بغية تفكيكها وإعادة بنائها من جديد وفقا لتلك المتغيرات. كتب ~~آيزنمان قائلا: «الكتل الأفلاطونية التي عمل عليها لو كوربوزييه لم تعد مناسبة لفهم الظواهر ~~الحالية. التناظر غير قادر على أن يتكلم عن علاقاتنا مع المحيط؛ إنها أشياء أصبحت من الماضي.» # 77 # ويرى آيزنمان أنه يجب التخلص من مفهوم الوحدة والأصل كيما تتحرر العمارة من ~~الميتافيزيقا التقليدية، وهي «فلسفة الحضور» بمصطلح دريدا؛ وذلك لإسقاط النموذج الكلاسيكي ~~للعمل المعماري. وسيغدو التفكيك عند آيزنمان بمثابة تمرد على كافة الصيغ التقليدية للتفكير ~~ولفهم الأعمال المعمارية. # بيتر آيزنمان: مركز وكينسر للفنون. # بيتر آيزنمان: ماكس رينهارت هاوس (برلين) # Max Rinhardt House 1992 ~~. # ومثل آيزنمان كانت المصممة العراقية زها حديد من أشهر المعماريين الذين تأثروا بالتفكيكية. ~~لكنها قامت بمزج التفكيكية بالأسلوب المعماري العربي، خاصة الخطوط العربية المائلة والأشكال ~~الدائرية التي تعكس دلالات التكرار واللانهائية. بالإضافة لذلك احتوت أعمالها على جرأة ~~كبيرة في كسر القوالب الهندسية التقليدية. أعمالها تعكس حالة من القلق وعدم الاستقرار نابعة ~~من توزيع الكتلة في الفضاء الخارجي بشكل لا متناه، واستخدام الخطوط المتموجة التي تحل محل ~~الزخارف التقليدية التي لم تستخدمها العمارة التفكيكية. ثمة أيضا خاصية مميزة لأعمالها ~~تتمثل في تحطيم الفروق بين الرسم والنحت وإعادة خلطها في قالب معماري واحد. إن الجمال في ~~أعمال زها حديد ينبع من توزيع العلاقات الشكلية بين الكتل والفراغات بطريقة لا يمكن توقعها، ~~إنه الجمال النابع من الفوضى المنظمة، أو لو شئنا لقلنا إن أعمالها تؤسس لما يمكن أن نطلق ~~عليه «جماليات التيه» # Aesthetics of Labyrinth ~~. # 78 # زها حديد: المركز العالمي للثقافة والفنون (اليابان). # زها حديد: دار الأوبرا (دبي). # زها حديد: مسجد الأفنيوز (الكويت). # أما فرانك جيري فقد قامت أعماله على فكرة استقلالية المبنى وعناصره؛ حيث يرى أن المبنى يجب ~~أن يكون مستقلا بذاته لا يحده مبان أخرى تفسده وتقطع الصلة بمكوناته. كما تميز بجرأته في ~~استخدام الألوان والخامات الجديدة، يقول جيري: «لقد وجدت في الفن شيئا جديدا، طالما بحثت عنه ~~في العمارة. لقد اكتشفت أهمية مواد الإنشاء الجديدة لمحاولة تجسيد الشعور والروح داخل ~~التكوين، ساعيا بذلك ms079 إلى إيجاد كيان لمفهومي الخاص.» # 79 # أخيرا يرى جيمسون أن عمارة ما بعد الحداثة هي عرض من أعراض اضمحلال حضاري مزمن، إنها ~~«ليست إعادة بناء للمدن، وإنما موت لها»؛ فانتشار ما يسمى ب «الصناديق الزجاجية المترهلة» ~~بمعظم المراكز المدنية في العالم، يشهد على ما يبدو بأن «الحداثة العليا قد ماتت ودفنت ~~للأبد، وأن إبداعاتها التشكيلية قد نفدت نفادا كاملا، وأن أحلامها الأفلاطونية غير قابلة للتحقق.» # 80 # ويواصل جيمسون: «المدهش في التكوينات المعمارية الجديدة حول باريس وفي بقاع ~~متعددة من أوروبا هو أنها جميعا لا تقدم أي «منظور» محدد على الإطلاق. القضية ليست فقط في ~~أن الشوارع بمفهومها المعروف وقيمها الضمنية قد اختفت تماما من هذه التكوينات المعمارية، ~~بل في أن كل الحدود المعروفة للشكل المعماري قد تلاشت أيضا. ذلك مذهل ومربك إلى حد كبير. ~~وفي ظل هذا الارتباك الوجودي المدمر، الذي تمارسه ما بعد الحداثة على فضائها المكاني، يظهر ~~لنا تشخيص نهائي وأخير لمدى عجزنا عن طرح أنفسنا في المكان وتعريفه بصورة تعكس وعيا ~~حقيقيا به، وهو الأمر الذي يفسر بدوره ظهور التوجه الداعي لثقافة عالمية متعددة الجنسيات ~~تذوب فيها الهويات فتصير مفتتة عاجزة عن موضعة ذواتها.» # 81 ~~••• # كان فن الرسم المعاصر أكثر تأثرا - مقارنة بالفنون الأخرى - بالقيم ما بعد الحداثية، ربما ~~يعود ذلك إلى قابليته السريعة لاستيعاب التغيرات المتلاحقة، وربما أيضا لكثرة مدارسه ~~وتنوعها، وقدرتها الكبيرة على التفاعل مع الجديد. والحال أن سمات ما بعد الحداثة يمكن ~~ملاحظتها في فترة مبكرة عند النزعة المستقبلية والدادية. ولعل أعمال مارسيل دوشام # Marcel ~~Duchamp # تعطينا نموذجا جيدا للإرهاصات الأولى لتيار ما بعد الحداثة في فن التصوير. اشتهر ~~دوشام (1887-1968م) بالنزعة العدمية، التعبير عن اللاشيء، أو كما يقول بودريار: «لقد ~~تمثل فعل دوشام في تقليص الأشياء إلى اللامعنى.» # 82 # وكان يراهن في فنه على أن الفنان لديه القدرة على تغيير أذواق المتلقين، وكانت ~~قولته الشهيرة «نستطيع أن نجعل الناس تتقبل أي شيء» هي المحرك له، والسر الذي يكمن خلف كل ~~أعماله الفنية الصادمة وغير المستساغة. قام بإدخال ما يسمى ms080 ب «الأشياء جاهزة الصنع» # ready-made # إلى مجال الفنون التشكيلية، وهي أشياء كان يقوم بتصنيعها بنفسه أو بمساعدة ~~آخرين، ثم يضيف عليها بعضا من لمساته، وتعرض كما هي في صالات العرض. من أشهر هذه الأعمال، ~~العمل الذي عرض في أحد معارض السريالية في باريس 1936م وحمل اسم ~~«الاستخفاف، نعم ولم لا؟» Pourquoi ne pas éternuer? # فهذا العمل عبارة عن عدة تناقضات متجاورة، لم يسع دوشام نحو ~~تقديم أي تفسير لها: قفص طيور زينة قديم له شكل مستطيل ويمكن أن يحمل باليد، يحوي مجموعة من ~~الأشياء ... مكعبات من الرخام الأبيض المحتشدة والتي تبدو كقطع السكر، وترمومتر، وهيكل سمك. ~~القفص يبدو للرائي خفيف الوزن، لكن عندما تحمله فسوف تتعجب بالوزن الثقيل غير المتوقع ... ~~الترمومتر ليقيس درجة حرارة الرخام؟ (الاستخفاف، نعم ولم لا؟) فرغم توقعك لخفة وزن ~~القفص (الرخام ثقيل جدا)، ورغم أملك الخاص في تذوق السكر (فهناك قطع سكر مزيفة)، وأيضا ~~لا توجد حرارة ودفء (وهذا يظهر على الترمومتر الذي لا يرتفع زئبقه، بالإضافة إلى ارتباط هذا ~~القفص بصوت عصفور يغني ... إلخ. والنتيجة كل هذه الأشياء مجتمعة تضعنا في عالم من الارتباك ~~واللاتحدد؛ فهي لا تلتقي في صفة مشتركة من حيث الشكل أو المضمون، لكن باجتماعها معا تشترك ~~جميعها في صفة «كسر التوقع»، وكأن دوشام يريد أن يقول لنا «هذا الذي يبدو لك، ليس على النحو ~~الذي يبدو عليه.» # 83 # موناليزا مارسيل دوشام في سخرية واضحة من موناليزا دافنشي. # وعلى كل، فقد برع دوشام في تحويل كل ما هو ليس مألوفا إلى مفردات فنية تدخل في تركيب ~~أعماله الفنية. # 84 # وقد تنامى هذا التيار على يد إندي وارهول # Andy Warhol ~~(1982-1987م)، الذي بدأ ~~حياته كفنان دعاية، لكن وارهول كان يستخدم الشاشة الحريرية والتصوير الفوتوغرافي لعرض ~~الأشياء جاهزة الصنع. اشتهر بشعاره «أريد أن أكون آلة»، وهو شعار يعبر عن حالة من الخواء ~~وعدم الانفعال. والمسألة هنا لا تتعلق بالاغتراب أو الشعور بالغربة، إنما يمكن تلخيصها في ~~عبارة وارهول «ما لا يمكنك التغلب عليه، فعليك بالانضمام إليه، ولو أنه استغرقك، فلا بد أن ~~تكون ms081 انعكاسا له.» # 85 # ولم يدخر وارهول جهدا من أجل تنفيذ هذه المقولة. (على سبيل المثال رأى ~~وارهول أنه قد استغرق طوال عشرين عاما في تناول نوع واحد من الطعام على وجبة الغداء - «وهو ~~حساء كامبيل # Cambil ~~»؛ لذا جاء أحد أعماله نسخا عن طريق تقنية الشاشة الحريرية لإحدى عبوات ~~هذا الحساء). وقد رأى وارهول «أن المحلات الكبرى تحتوي على العديد من مفردات العمل الفني»؛ ~~لذا ينظر لها وارهول على أنها نوع من «المتاحف» لدرجة أننا - في رأيه - من الممكن أن نعكس ~~العبارات فتصبح «أحب روما للغاية، فهي نوع من المتحف، مثل محلات بلومينجد إل الكبرى.» # 86 # في عام 1967م يقول وارهول: «لا أرى أن الفن للنخبة، بل لعامة الشعب الأمريكي.» ~~ولكن السؤال هو كيف يمكن للمرء أن يمثل «جماهير الشعب الأمريكي» خاصة وأن الذوق ليس بمقولة ~~سكونية؟ رأى وارهول أنه من الممكن أن يتم هذا بالتعبير عن الأشياء التي تمثل قاسما مشتركا ~~بين الجميع، ووجد وارهول في المنتجات الاستهلاكية (حساء كامبيل، عبوات المياه الغازية، صور ~~مشاهير النجوم) # 87 # غايته؛ لذا كانت موضوعا لأعماله منذ 1963م حتى وفاته، وقد لاقت نجاحا جماهيريا ~~كبيرا. # كامبل: إندي وارهل. # لقد قال بير بوردو عن هذا التيار الذي يمثله دوشام ووارهول: «إن الفنان الذي يضع اسمه على ~~قطعة جاهزة الصنع فيمنحها قيمة تجارية لا تقاس بمقدار كلفة الصنع، إنما يدين بالفاعلية ~~السحرية لمجمل منطق الحقل الفني الذي يعترف به ويمنحه الشرعية، ولن يكون فعله هذا، سوى ~~إيماءة مجنونة أو غير ذات أهمية، لو لم يساندها حشد من المحتفين والمؤمنين المستعدين ~~لتقديمه كما لو كان عبقري المعنى والقيمة.» # 88 # وفي مقابل رؤية بوردو يربط دولوز بين تيمة التكرار الحاضرة في أعمال وارهول ~~وبين مفهوم السيمولاكر (الصورة غير ذات الأصل) والذي يدحض، في رأيه، فكرة التمثيل في الفن. ~~فالتكرار الذي تعمده وارهول في لوحاته، مهما بدا متطابقا، يولد أقصى درجات الاختلاف، وقد ~~رأى دولوز أن هذا هو إنجاز فن البوب، وإندي وارهول، الذي تستخلص أعماله المسلسلة تفردات من ~~عاداتنا الاستهلاكية والتدميرية، يقول دولوز ms082 في الاختلاف والتكرار # Différence et Répétition ~~: ~~«ليس هناك إشكالية استطيقية أخرى، خلاف تلك الخاصة بإدراج الفن في الحياة العادية. وكلما ~~تبدو حياتنا اليومية قاسية، نمطية، وخاضعة لإعادة إنتاج متصاعدة لموضوعات الاستهلاك، ~~توجب حقن الفن فيها لكي ينتزع منها ذلك الاختلاف الضئيل الذي يلعب بشكل آني بين المستويات ~~الأخرى من التكرار .» # 89 # إن اهتمام وارهول بالسطوح، وعبارته التي يقول فيها: «لو كنت تريد أن تعرف كل ~~شيء عن إندي وارهول، فكل ما عليك أن تنظر إلى سطح لوحاتي وأفلامي وأنا نفسي، وعندها ستجدني. ~~فلا شيء يختفي خلف ذاك السطح.» # 90 # ستجد اهتماما من نوع خاص عند دولوز، خاصة أنها تتفق واهتمامه بمفهوم ~~الوجهية # Visage # وبما يتشكل على السطح. # في مقالته «على أنقاض المتاحف» # On the Museum’s Ruins # يرى دوجلاس كريمب # D. Crimp # أن المزج ~~والتقطيع والحنين إلى الماضي هي الصفات الأبرز في فن التصوير المعاصر. وهو يقدم لنا أمثلة ~~عديدة على ذلك: فأولمبيا # Olympia # مانيه # Manet ~~، إحدى أشهر لوحات بدايات الحركة الحداثية، ~~إنما أسست على موديل فينوس # Venus of Urbino # لتيتان # Titian ~~. لكن الأسلوب الذي استخدم يشير ~~إلى انقسام في الوعي بين الحداثة والتقليد، والتدخل الفاعل للرسام في إحداث هذا التحول من ~~خلال إدخال تعديلات جوهرية على العمل الذي تأثر به، بحيث يمكن القول إن المسألة لا تتعدى ~~مجرد الإيحاء. أما عند فناني ما بعد الحداثة، فإن الأمر يختلف، ينشر روشنبرج # Rauschenberg ~~، ~~أحد فناني الحركة، صورتي «فينوس روكبي» # Rokeby Venus # لبلاثكث # Velazquez # و«فينوس في ~~حمامها» # Venus at Her Toilet # لروبنز # Rubens # في سلسلة من لوحاته في الستينيات، إلا أنه يستخدم ~~الصورتين بطريقة مختلفة تماما؛ حيث يجري تصور رسم الأصل على شاشة من حرير # silk screen ~~، ~~بالإضافة إلى أرضية من خليط فيه كل شيء (شاحنات، طوافات، مفاتيح سيارات، أطباق). ما يفعله ~~روشنبرج هو ببساطة إعادة إنتاج # reproduction # للأصل، لكنه إعادة إنتاج سطحي. أما مانيه فكان ~~ينتج بالفعل، وهذا هو الفارق «الذي يدعونا» بحسب كريمب «إلى اعتبار روشنبرج فنانا ما بعد ~~حداثي. أما «شذا» الحداثة لدى الفنان كمنتج فلم يعد له من مكان.» # 91 # ومن نفس المنطلق يقول جيمسون: «لست أعرف كيف يمكن رؤية قيمة أعمال روشنبرج، لكنني كنت قد ~~شاهدت معرضا كبيرا ms083 لأعماله في الصين، أشياء لماعة براقة تطرح الكثير من خبرات ما بعد ~~الحداثة وتجاربها، إلا أنها تنتهي انتهاء كاملا بمجرد أن ينتهي حدث الرؤية، بمجرد أن ينتهي ~~المعرض ويخرج المشاهدون ... إن ما ينتجه روشنبرج ليس عملا فنيا.» # 92 # وعلى النقيض من ذلك يرى دولوز أن قوة أعمال روشنبرج تكمن في أن لوحاته مكتفية ~~بذاتها؛ أي أنها لا تحيل إلى شيء خارجها «من خلال أعمال روشنبرج تحديدا يمكن أن نقول إن ~~السطح يتوقف عن أن يلعب دور النافذة المطلة على العالم ويصير الآن شبكة معلومات معتمة ... تلك ~~الشبكة التي تدون عليها الخطوط والأعداد والخصائص المتغيرة.» # 93 # ويستشهد دولوز بمقولة كيدج # Cage # التي يقول فيها إن أعمال روشنبرج «تبدو متنوعة ~~وقابلة للنفاد كأي من أعمال سابقيه الحداثيين بشرط أن نتعلم فقط كيف نراها.» # 94 # روبرت روشنبرج # R. rauschenberg ~~: كولاج لموضوعات عدة. # في مجال التصوير الفوتوغرافي يمكن اعتبار «سيندي شيرمان» إحدى الشخصيات البارزة في حركة ~~ما بعد الحداثة؛ إذ هي قد جعلت من نفسها موضوعا لكل صورها، فقط في كل مرة تغير من شكلها ~~باستخدام وسائل التجميل والأقنعة المختلفة، بالإضافة إلى تغيير الأوضاع والخلفيات «ولن ~~تكتشف إلا من خلال الكتيب المرفق في المعرض أنها مشاهد لامرأة واحدة، هي الفنانة نفسها.» # 95 # إن مرونة الشخصية الإنسانية من خلال طواعية تحولات المظاهر والسطوح والواجهات، ~~هي من المقولات الهامة لما بعد الحداثة. # وترى هوتشيون # Hutcheon # في كتابها «سياسات ما بعد الحداثة» Politics of Postmodernism ~~«أن ~~التصوير الفوتوغرافي عند مصوري ما بعد الحداثة يضمر التمرد ما بعد الحداثي على السلطة ~~المهيمنة بكل أشكالها، بما فيها سلطة الطبيعة والواقع.» # 96 # لذا لجأ التصوير الفوتوغرافي، متأثرا في ذلك بفن الرسم، إلى التحرر من تصوير ~~وتمثيل الواقع كما هو، عبر مجموعة من الطرق والأساليب. # سيندي شيرمان # Cendy Sherman # تتخذ من جسدها مادة للتصوير الفوتوغرافي في مشاهد مزيفة. بلا ~~عنوان (1987م، 1990م، 1991م). ~~••• # المجال الفني الثالث الذي تبرز فيه مقولات ما بعد الحداثة بقوة هو «السينما»؛ «فالسينما» ~~هي الفن الذي يتمتع بشعبية لا محدودة، وهي بصورة أو بأخرى مرتبطة بالمنطق الرأسمالي - سواء ~~على مستوى الإنتاج ms084 أو التوزيع، كما أنها تستخدم التقنيات الحديثة بصورة تفوق استخدام كل ~~الفنون الأخرى لها، مما يجعلها في حالة تطور وتحول مستمرين. وبصفة عامة، نستطيع أن نلحظ ~~حضور التيمات ما بعد الحداثية في السينما المعاصرة على مستويين؛ الأول: أفلام أراد صانعوها ~~التعبير من خلالها عن قيم المجتمع ما بعد الحداثي، كالتجاور والاختلاف والتعددية، وعن ~~التغيرات المتلاحقة التي أصابت المجتمع ما بعد الصناعي. والثاني: أفلام تنطلق من رؤى ما بعد ~~حداثية للعالم، رؤى مفككة ومتشظية، تستند في الأغلب على الانتقاء، والمزج، والرؤية غير ~~المنفعلة بالعالم، وغالبا ما تعتمد هذه الأفلام على توظيف التاريخ وتحويره لخدمة السياق ~~العام للفيلم. # في نفس الوقت الذي كانت سينما الحداثة تمثل فيه اتجاها جديدا يحاول الهيمنة على الواقع ~~السينمائي بدلا من سينما هوليود، بدأت مظاهر ثقافة ما بعد الحداثة في الظهور، وكانت إحدى ~~معالمها الأساسية الثقافية الجماهيرية التي شملت التليفزيون وانتشار أفلام من نوع # B ~~؛ أي ~~قليلة التكاليف، وموسيقى الروك آند رول، وأفلام الكارتون والمسلسلات التليفزيونية، وعرض أفلام ~~هوليود القديمة على شاشة التليفزيون، وازدهار الإعلانات. # وقد مثلت هذه الثقافة إضافة إلى تاريخ سينمائي حافل، الخلفية الأساسية لمخرجي ما بعد ~~الحداثة. وبدلا من أن يسعى المخرجون الجدد إلى هضم كل هذه المظاهر وخروج كل منهم بفكر خاص ~~وأسلوب متميز، لجئوا إلى الاستعارة المباشرة من الأفلام الأمريكية والأجنبية، ومزج الأنواع ~~المختلفة للفيلم، وابتعدوا إلى حد كبير عن الغموض الشديد الذي كان يميز أفلام الحداثة، ~~وأصبحوا على اتصال أقوى بالجمهور العريض. # من المتغيرات الجديدة التي كان لها تأثير في ظهور سينما ما بعد الحداثة، ظهور نظرية ~~استجابة القارئ، التي تقول إن كل متفرج أو قارئ يقرأ الفيلم بطريقة تختلف عن الآخر وأيضا ~~عن الفكر الأصلي لصانع العمل، وبالتالي فهناك شبه استحالة في أن يصل المتفرج إلى ما كان ~~يقصده المخرج أو صانع الفيلم بدقة. فهنا نرى أن ثقافة ما بعد الحداثة قد نقلت الاهتمام من ~~المخرج إلى المتفرج. # إذا حاولنا أن نرصد أهم سمات سينما ما بعد الحداثة، فيمكن تحديدها في ms085 الآتي: ~~(1) # المعارضة أو الاقتباس والكولاج من أعمال أخرى. فعلى سبيل المثال يستعير المخرج ~~الأمريكي ديفيد لينش فيلم ساحر أوز كمرجعية أساسية في معظم أفلامه. كما يقوم بمزج الأنواع ~~الفيلمية مثل الفيلم الأسود، وأفلام الطريق، والرعب، والميلودراما، والخيال العلمي، والأفلام ~~السريالية، بالإضافة إلى الاقتباس والكولاج من أعمال أخرى. ~~(2) # النوستالوجيا أو الباروديا أو المحاكاة الساخرة وهم حالتان متناقضتان تنتابان المشاهد ~~عند مشاهدة أفلام ما بعد الحادثة نتيجة لاستخدام المعارضة أو التضاد، بمعنى محاولة استعادة ~~تقاليد السينما الكلاسيكية بما تحمله من قيم أخلاقية وإنسانية، ووضعها في زمن معاصر. ~~بالإضافة إلى ذلك تنتج الباروديا عن مقابلة أنواع فيلمية متضادة مثل الكوميديا والميلودراما ~~أو إعادة تقديم مشاهد قديمة بشكل ساخر. ~~(3) # محو الحواجز بين الماضي والحاضر بحيث يصبح من المتعذر تحديد الزمن الذي تدور فيه ~~الأحداث، وذلك من خلال استخدام ديكورات وملابس وسيارات وأدوات تنتمي إلى عقود زمنية مختلفة ~~مما يجعلك تشعر وكأنك تعيش في حلم تراه في الحاضر. ونرى ذلك بوضوح في فيلم ~~«المخمل الأزرق» # Blue Velvet # لديفيد لينش، وقد استخدم لينش أيضا في فيلمه الطريق السريع المفقود # Lost High way # هذه الفكرة إلى أقصى الحدود بإدخالها في التركيب السردي للفيلم. ~~(4) # الكرنفالية، وهو ~~مفهوم طرحه باختين أحد رواد المدرسة الشكلانية الروسية، وتبناها مفكرو ما بعد الحداثة مثل ~~إيهاب حسن، والتي تشتمل على مقاومة التسلسل المنطقي للأحداث واستخدام الشخصيات غير السوية ~~والأحلام والغرام بفكرة الازدواجية، وتشمل الكوميديا والتراجيديا، وإظهار التفككية. # ويرى جيل دولوز أن التطور الأبرز في السينما المعاصرة هو تفكك المونولوج الداخلي # monologue intérieur # للفيلم وفقدانه وحدته الداخلية أو الكلية؛ فالطريقة التي يرى بها ~~المؤلف، والطريقة التي ترى بها الشخصيات، والطريقة التي يكون العالم بها مرئيا، تشكل وحدة ~~دالة (ذات دلالة أو معنى)، تعمل عبر الرموز. لكن في السينما المعاصرة انهارت هذه الوحدة ~~وتحطم المونولوج إلى شظايا فاقدة الملامح؛ وذلك هو التحول - يقول دولوز - الذي كان دوس باسوس # J. Dos Passos # 97 # قد أدخله إلى الرواية، من خلال استناده إلى وسائل سينمائية. على ~~أن ذلك، وبحسب دولوز، لم يكن سوى الوجه السلبي لتحول إيجابي أكثر عمقا ms086، وأكثر أهمية؛ فقد ~~أخلى المونولوج الداخلي المكان للصورة، وأصبحت الصورة لها مطلق السيادة والاستقلالية، بحيث ~~تكتسب الصورة قيمتها في ذاتها من خلال ما يسبقها وما يلحقها. لم يعد ثمة تناغمات كاملة و«مستقرة»، ولكن فقط تناغمات غير متطابقة أو انقطاعات لا معقولة، أصبحت الصورة متحررة من ~~القيود السردية التقليدية. كما أصبحت الصورة مكتفية بذاتها لا تحيل إلى شيء خارجها واختفى ~~منها كل مجاز أو رمز. ذلك، في نظر دولوز، يفتح إمكانات غير عادية للفيلم السينمائي ويجعله ~~أكثر قدرة على التواصل، وأكثر استقلالا واعتمادا على تقنياته الداخلية «إذا كان الثوريون ~~يقفون حقا على أبوابنا، ويحاصروننا، مثل أكلة لحوم البشر، فينبغي إظهارهم وهم يأكلون اللحم ~~البشري، إذا كان رجال المصارف قتلة، وكان الطلاب سجناء، وكان المصورون الفوتوغرافيون ~~قوادين، إذا كان العمال مستلبين من قبل أرباب العمل، فينبغي إظهار ذلك وليس تحويله إلى صورة ~~مجازية؛ إذ لم يعد الأمر أمر مجاز وإنما برهنة وإثبات.» # 98 # السمة الثانية البارزة لأفلام ما بعد الحداثة هي «الحنين إلى الماضي»، ليس إعادة تقديم ~~التاريخ برؤى مختلفة أو «وجهات نظر»، إنما إقحام للتراث أو للماضي للتأكيد على إمكانية ~~«التجاور»، ربما بصورة تبدو هزلية في أحيان كثيرة، وكما يقول جيمسون «فيلم الحنين إلى ~~الماضي في عصر ما بعد الحداثة هو مجموعة من الصور المستهلكة يميزها المشاهد في الغالب عن ~~طريق الموسيقى والموضة وتصفيفة الشعر والمركبات أو السيارات.» # 99 # وقد ربط دولوز بين هذا الحنين إلى الماضي وبين ما أطلق عليه السقوط في «الكليشيه» # Cliche # 100 # أي الصورة النمطية المكررة. # السمة الثالثة هي «التشظي والفوضى والبنية اللامعقولة للفيلم». # 101 # وقد اهتم ستيفن كونور # S. Connor ~~. # 102 # بتحليل موجة أفلام الخيال العلمي، لا سيما تلك التي تهتم بالمخلوقات ~~الغريبة القادمة من كواكب أخرى # aliens # وعلى رأسها سلسلة (حروب النجم) # Star Wars # لجورج لوكاش # G. Lucas ~~، ورأى أنها تحمل معنى العزوف عن تقديم أية رؤية بصدد المشكلات الاجتماعية الراهنة ~~في الغرب، وهو ما يعني الانفصال عن العالم. وقد أشار بودريار إلى أن هذا النمط من الأفلام ~~يفضي إلى ما أطلق عليه «نشوة الاتصال» # Extase de la communication ~~؛ أي فعل ms087 المشاهدة التي ~~ينتفي منها أي غرض غير المشاهدة، الصورة الخاوية من المعنى، أو على حد وصف بودريار «انتصار ~~لرغبة الإنتاج على رغبة تقديم المعنى.» # 103 # بوستر فيلم # Clockwork Orange 1971 # لستانلي كابريك. نموذج لسينما ما بعد الحداثة. # بوستر فيلم Pulp Fiction 1994 # للمخرج كوينتين تارانتينو # Quentin Tarantino ~~. نموذج لسينما ما بعد الحداثة. ~~••• # أما عن الأدب ما بعد الحداثي، وبخاصة الرواية، فإنه من السمات البارزة فيه محاولة ~~استخدام تقنيات السينما في السرد الروائي مثل «القطع، المزج، تداخل الأزمنة، تشظي الزمن». ~~كما يمكن إضافة المحاكاة الساخرة للواقع، وعدم انفعال شخصيات السرد بالإحداث ... إلخ. من هذا ~~المنطلق يشير آلان روب جرييه إلى تمسكه بنوع من الرواية أسماه ب «العمل الفني غير الإنساني» ~~تلك الرواية التي ترتمي فيها عيون الشخصية الرئيسة على الأشياء «دون إسقاط أو تخريج ذاتي»، ~~وبالتالي، يرى البطل الأشياء، ولكنه يرفض تقويمها أو تشكيلها بنفسه، يرفض أن يفرض عليها أي ~~فهم محتمل، أي تآمر عليها؛ فهو لا يطلب منها شيئا البتة، حاسة النظر عنده راضية باتخاذ ~~أبعاد هذه الأشياء فقط، وعواطفه بالمثل ترتمي على سطحها دون محاولة منها لاختراق هذا السطح؛ ~~وذلك لأنه لا شيء يختبئ تحت السطح. وقد رأى دولوز أن أعمال جرييه، سواء الروائية أو ~~السينمائية، تشي بقوة من نوع خاص ... قوة تزييف الواقع، أو قوة المختلق حسب وصف دولوز. # 104 # ويبدو التشابه بين مبادئ روب جرييه وما يطرحه بارت في مقالة «موت المؤلف» واضحا. فبارت ~~مثل روب جرييه، يرى أن الناقد عليه أن يتخذ «أبعاد» النص والكتابة دون محاولة منه للنفاذ ~~فيما تحت السطح. فالكتابة كما يراها بارت - على نحو ما سنرى - تسمح «لكل شيء أن ينحل، لا أن ~~تحل شفرته وتفك رموزه»؛ فهو «فضاء يجب أن يحجب، لا أن يخترق أو يثقب». لذا فليس من المدهش ~~إذا أن يعجب دولوز وبارت بأعمال روب جرييه الروائية فينظرا إليها بوصفها «معكوس» الكتابة ~~الشعرية تماما، فهي «لا تحاول النفاذ للأشياء، بل تبقى على سطح الأشياء تتأملها بحيادية.» # 105 # وهذا في نظرهم مكمن قوة في النص لا ضعف. ومن نفس منطلق روب ms088 جرييه يقول كيدج: ~~«أعمل الآن أيضا في عمل جديد أسميه بوروبيرا، وهو عبارة عن أوبرا بدون نص أوبرالي، أو حبكة ~~مزيج من العناصر المسرحية كلها، ليس بينها اتصال متعمد، وأعتقد أن ما سيحدث في عملية توالي ~~هذه العناصر وتلقائيتها يمكن أن يكون مدهشا وغير مألوف.» # 106 # والواقع أن تصنيفات من قبيل الأنواع شبه الأدبية # para littérature ~~، والآداب ~~الهامشية # litteratures périphériques ~~، والأدب الجماهيري # littérature de masse ~~، والأدب سريع ~~الزوال # Le fiction fragile # ستحتل موقعها في النقد الأدبي المعاصر. ~~••• # أما موسيقى ما بعد الحداثة فهي مزيج من موسيقات إثنية # ethnique # مختلفة، سواء على مستوى ~~الآلات أو الأصوات، لخلق هوية موسيقية جديدة متعددة الثقافات، والأمثلة على ذلك كثيرة في ~~محاولة إدماج موسيقى الريجي # Reggae ~~، والراب # Rap ~~، ~~والهيب هوب # Hip Hop ~~، ~~وموسيقى البوب الأمريكية والأوروبية فيما يسمى بالروك الفني # art rock # تمييزا له عن موسيقى الروك التقليدية. # 107 # وبالإضافة للمغزى السياسي والثقافي لهذا النوع من التداخل أو الكولاج (إظهار ~~أن العالم قرية صغيرة، الدعوة لسلام عالمي ... إلخ)، فإن فناني الباستيش # pastiche # الموسيقي ~~يرفضون تقسيم الموسيقى إلى جادة وهزلية، أو راقية وشعبية، وهم يتبنون اتجاها رافضا لأن تعبر ~~الموسيقى عن نزعة جادة للحياة. وهو ما نجد جذورا له فن موسيقى التمرد # punk # في السبعينيات. # 108 ~~••• # في ظل هذا الوضع الملتبس للفنون في المرحلة ما بعد الحداثية. هل يمكن الحديث عن علم ~~للجمال؟ أو نظرية للفن؟ أو حتى ما هو معياري؟ # إن بعض النقاد، من أمثال فريدريك جيمسون وتيري إيجلتون وديفيد هارفي، يرون أن هناك ~~صعوبات عديدة أمام إمكانية تأسيس نظرية جمالية تواكب التطورات التي لحقت بمفهوم «الفن»: ~~خلخلة مفهوم الإبداع والتجربة الجمالية مع تفشي القيم الاستهلاكية والتطور التقني، ~~وتكنولوجيا الواقع الافتراضي وتغليب عناصر الشكل على المضمون (عناصر الإبهار في الصورة)، ~~بالإضافة إلى محاولة تقديم عمل فني يفهمه الجميع، ويخلو من الرمز حتى يحقق الانتشار المطلوب، ~~مع الوضع في الاعتبار مفهوم «موت المؤلف» وآثاره على النظرية الجمالية، والاحتفاء بالنص، ~~وفقدانه لخصوصيته من خلال مفهوم «التناص». كل هذه التغيرات سيصطدم بها أي منظر للفن يحاول ~~الحديث عن تجربة جمالية للمبدع أو للمتلقي. ويرى جيمسون أن نهاية الحداثة تعني بالتالي ms089 ~~نهاية الجمالي نفسه أو علم الجمال بصفة عامة؛ إذ هو يرهن وجود علم للجمال باستقلال وذاتية ~~العمل الفني، لكن أن يصبح العمل الفني مزيجا أو امتزاجا لأعمال أخرى، فإن العمل الفني نفسه ~~سينحل إلى صور متعددة، صور ثقافية مختلفة عن التصور التقليدي لمفهوم الفن، ويستنتج جيمسون ~~من ذلك أن «انجذاب علم الجمال المعاصر للفن الزائف واليومي، مناورة أيديولوجية وليس موردا ~~للإبداع.» # 109 # على الرغم من وجاهة رأي جيمسون السابق، إلا أننا لا نعدم وجود تأملات بالفعل حول مفهومي ~~الفن والجمال، حقا أن هذه التأملات قد اختفت منها بعض المباحث التقليدية التي كانت موضوعا ~~حاضرا في أي نقاش استطيقي، كخبرتي الإبداع والتلقي، إلا أنه في النهاية لا يوجد نموذج ثابت ~~لا يتغير؛ فكل فكر وكل عصر يستدعي نموذجه الملائم وفقا لطبيعته الخاصة. بالإضافة إلى أنه لا ~~يمكن القول، بإطلاق، إن اتجاه ما بعد الحداثة يرفض «كل ما هو معياري»، فقط هم رفضوا القواعد ~~الجاهزة المعدة سلفا، والتي هي، في رأيهم، تقولب العمل الفني، وتلغي تعدديته، وفي هذا يقول ~~رزبرج: «إن الفنان أو الكاتب ما بعد الحداثي يلعب دور الفيلسوف؛ فالعمل الذي ينتجه أو النص ~~الذي يكتبه ليس محكوما بعدد من القواعد أو المقاييس التي وضعت بصورة مسبقة، ومن ثم لا يمكن ~~الحكم على هذه الأعمال وفقا لتصور مسبق من خلال تطبيق صيغ أليفة أو جاهزة على النص أو العمل.» # 110 # ثمة إجماع من معظم منظري ما بعد الحداثة على المعارضة الحاسمة لفكرة امتلاك العمل الفني ~~لنوع من الوحدة العضوية أو الشكل المتماسك الذي «يحميه من الرياح العاتية للتغير الثقافي ~~والاجتماعي والتاريخي» بتعبير هارفي، ويشير ذلك إلى تحول واضح من التركيز الماركسي الأكثر ~~تقليدية على «السياق الأصلي للإنتاج» إلى الاهتمام «بمختلف السياقات الخاصة بالاستقبال». # 111 # لقد ذهب بارت ومن بعده دولوز ودريدا إلى أن اللغة الواحدة في حالة تدفق دائم، ~~ولا يوجد ما نسميه المعنى في النص ... لا توجد أية سلطة نهائية تقرر معنى النص، كما لا يوجد ~~معنى نهائي مقترن بالعلامة. فالعلامات تتغير دوما ms090 حسب السياق. من هذا المنطلق يرى دولوز أن ~~التركيب بين المتضادات، والأشياء التي على غير ذات صلة، هو وظيفة الفن في كل العصور. كما ~~يرى دريدا أن الكولاج/المونتاج هو الشكل الأساس في الخطاب الفني ما بعد الحداثي. ~~والتنافر الداخلي داخل العمل الفني (سواء أكان رسما أم نصا أم معمارا ) هو الذي يمنحنا، ~~نحن متلقي العمل، الحافز لإنتاج دلالة (ليست أحادية أو مستقرة). # 112 # فالعمل الفني يخلق التعددية ... تعددية المعنى والدلالات ... عودة المعنى كاختلاف ~~وليس كتطابق، ولذلك لا يمكن إخضاعه لتفسير أو تأويل إنما فقط كل ما نملكه أمام العمل الفني ~~هو تفجيره ... وهذا ما يضمن خلوده لأنه لا يفرض معنى وحيدا على أناس مختلفين وإنما لكونه ~~يوحي بمعان مختلفة لإنسان وحيد. إن العمل الفني - وبالأخص النص - يقرأ في تعدده وفي تناميه، ~~في اختراقه، وفي فاعليته ... باختصار، كما يقول دولوز، يمكن أن نستعيد عبارة كافكا «ليس عندي ~~ما هو جاهز.» # 113 # أو كما يقول إيتالو كالفينو: «أتفق معكم على أن كتبي قد تفسر من وجهات نظر ~~مختلفة، قد تفسر في ضوء الوجودية، أو البنيوية، أو المفاهيم الماركسية، أو الكانطية الجديدة ~~أو الفرويدية أو مذهب يونج، بالرغم من كل هذا؛ يسرني عدم وجود مفتاح واحد لفتح جميع أقفال ~~قصصي وحل رموزها.» # 114 # في العام 1968م أصدر رولان بارت مقالته الأشهر «موت المؤلف» # La mort de l’auteur # ليقلب ~~حال النظرية الأدبية المعاصرة» رأسا على عقب، وليضع بذلك أحد المصطلحات البارزة والمؤثرة في ~~النقد الأدبي المعاصر. لقد قال بارت: «إن النص من الآن فصاعدا على كافة مستوياته وبجميع ~~أدواته، منذ صناعته وحتى قراءته، يظهر بشكل يغيب فيه المؤلف غيابا كاملا.» # 115 # ويدعو بارت إلى أن نحذف من قاموسنا كلمة «مؤلف» لنحل محلها «الكاتب» # Le ~~scripteur ~~، والكاتب - وفقا لبارت - ليس في داخله «عواطف» ولا «أمزجة» ولا «مشاعر» ولا ~~«انطباعات». لا يوجد لديه إلا ذلك القاموس الضخم الذي يستمد منه كتابة «نشاط لفظي» لا ~~يمكن أن ينفد أبدا. ويعترف بارت بأن الحياة الخاصة للكاتب من الممكن أن تكون ذات جاذبية ~~حكائية كبيرة جدا، ويمكن أن ms091 تفسر كيف ولماذا ظهرت الكتب إلى حيز الوجود، وغالبا ما تفعل ~~ذلك ... لكنها ليست ذات أهمية بالنسبة للقيمة الأدبية لكتبه، أو لمعناها، مثلما أن الحياة ~~الشخصية لعالم الفيزياء ليس لها قيمة بالنسبة لقبول أو رفض أفكاره عن نظرية الكم أو بنية ~~الذرة. # وفي هذا السياق أيضا يقول دولوز: «إن العمل الفني مستقل تماما عن مبدعه.» # 116 # ومن هنا أيضا دعوة فوكو إلى أن يصدر المؤلف كتابه دون أن يضع اسمه عليه؛ ~~«فمعرفة الاسم لا تفيد في شيء، والأفضل قراءة الكتاب لذاته.» # 117 # المؤلف دوره ينتهي بكتابة النص، والعبء يقع بعد ذلك على القارئ في عملية ~~القراءة ... عبء اقتناص المعنى في تعدديته واختلافه. وهذا ما يجعل القارئ مشاركا في عملية ~~إنتاج النص. فدور القارئ لا يقل أهمية عن دور المؤلف، ولا يمكن فصل عملية القراءة عن ~~الكتابة؛ إذ هما متلازمتان. والقارئ هو الذي يقرر معنى النص من خلال استرشاده بالعلامات ~~التي يستخدمها المؤلف، لكنه لا يتقيد بها، ويمكنه أن ينتصر، من خلال النص، للمعنى الذي ~~تستحضره العلامات في ذهنه، والذي يمكن أن يتغير من يوم لآخر ومن قارئ لآخر. على أن الكاتب - ~~في رأي بارت - لا بد أن يساهم في جعل عملية القراءة مثمرة، ويتم ذلك عن طريقين؛ الأول: ألا ~~يقدم نصا مغلقا محملا بالأحكام القاطعة، ذاخرا بالنتائج النهائية، والتي عادة ما تقوم ~~على وهم مبناه أن المؤلف يمتلك اليقين، ويعرف الحقيقة المطلقة. وأن يقوم على العكس من ذلك ~~بتقديم نص مفتوح (وهو ما عبر عنه إيكو بالأثر الأدبي المفتوح # Apri Letteraria Impatto ~~؛ أي انفتاح النص على عوالم عديدة يصعب حصرها). ومعيار انفتاح النص عند بارت هو الغموض ~~والالتباس والإيحاء بالمعنى دون تحديده. والطريق الثاني: ألا يتدخل الكاتب في عملية القراءة ~~بأي صورة من الصور، كأن يؤيد وجهة نظر على أخرى أو معنى على معنى آخر أو يقول «لست أقصد هذا ~~بالضبط» ... إلخ. هذا التدخل كفيل بإفساد عملية القراءة وتحويل مسارها التعددي. # يرتبط مفهوم «موت المؤلف» عند بارت بفكرة أخرى أشار إليها ضمنا - ولم يعطها اصطلاحا ms092 - ~~عندما وصف عملية الكتابة بأنها «امتزاج للكتابات»، وأن معنى النص «ما هو إلا تعددية لنظمه، ~~وقابليتها اللامتناهية (الدائرية) للنسخ.» # 118 # وهو الوصف الذي أعطته جوليا كريستيفا # J. Kristeva # مصطلح «التناص»، ويعني أن أي ~~نص في النهاية ما هو إلا تجميع واقتباس وتداخل مع نصوص أخرى سبقته؛ أي أنه في «فضاء النص ~~تلتقي مجموعة من الملفوظات المأخوذة من نصوص أخرى، ويبطل أحدها مفعول الآخر.» ويوضح شلوفسكي # 119 # هذا بقوله: «كلما سلطت الضوء على حقبة ما، ازددت اقتناعا بأن الصور التي ~~تعتبرها من ابتكار الشاعر إنما استعارها هذا الشاعر من شعراء آخرين وبدون تغيير تقريبا.» ~~فلا يوجد نص أصلي، إنما النص هو تلاق بين النصوص، وكل نص هو امتصاص وتحويل لنص آخر. وفي ضوء ~~ذلك، يكون هدف التفكيك - بحسب دريدا - البحث عن نص داخل نص آخر، وإحالة نص على نص، وبناء نص ~~من نص آخر ... إلخ. # 120 # إحدى النتائج الهامة التي يمكن استخلاصها من موقف بارت وفلاسفة ما بعد الحداثة، بخصوص ~~النص ودور المؤلف والقارئ، أنه في الوقت الذي كانت ترى فيه البنيوية أن الحقيقة قائمة وراء ~~نص ما أو داخله، فإن ما بعد البنيوية تبرز أهمية التفاعل بين القارئ والنص في إنتاج الدلالة ~~العامة لأي نص؛ وهكذا أصبحت القراءة إنجازا مبدعا، بعد أن كانت مجرد استهلاك أو تلق سلبي. ~~لكن المشكلة أن منح القارئ هذه الأهمية لم يكن يتطلب بالضرورة «تهميش المؤلف» واعتباره «آلة ~~ناسخة للكلمات»؛ فموت المؤلف هو في الأصل تهميش للإنسان ... لوجوده وفاعليته ... النص أنتج في ~~غير زمان ومكان ومؤلف ... تهميش للإنسان ضد الاحتفاء به في الاتجاه الحداثي. لقد تم التعامل ~~مع المؤلف وكأنه منتج لمجموعة من المنتجات الاستهلاكية التي لا يعني مستهلكيها من الذي ~~أنتجها وما ظروف إنتاجها. يتحول المؤلف إلى منتج ثقافي ينتج المواد الخام فقط (الأجزاء ~~والعناصر)، تاركا العمل مفتوحا للمستهلكين لإعادة تجميع هذه العناصر وبالطريقة التي ~~يرغبون. النتيجة افتقاد التواصل والاستمرارية ... التواصل مع المؤلف، والاستمرارية داخل النص؛ ~~«ففي وسع أي عنصر، في أي موضع، بحسب دريدا، كسر استمرارية أو خطية ms093 الخطاب، فيقود بالتالي ~~إلى قراءة مزدوجة: قراءة للجزء مدركا في علاقته بالنص الأصلي، وقراءة أخرى له وقد خلط في ~~كل جديد ومختلف. أما نتيجة ذلك فهي إخضاع أوهام الأنظمة الثابتة كلها للمساءلة والنقد.» # 121 # يتفرع عن هذه النقطة، نقطة أخرى تتعلق بنظرة ما بعد الحداثيين لمعايير الحكم ~~الجمالي باعتبارها معايير سلطوية؛ فهم يرفضون عملية التقييم للعمل الفني، ويرون أنها ليست ~~من مهام الناقد الأدبي المعاصر، مهمة الناقد الكشف عن مستويات مختلفة للقراءة، أما عملية ~~التقييم فهي ممارسة للسلطة: «أنا لا أستطيع أن أسمح لنفسي بالقول: إن هذا لجيد، وإن هذا ~~لرديء؛ إذ ليس ثمة قائمة للجوائز، كما أنه ليس ثمة نقد. فالنقد يتطلب دائما هدفا ~~تكتيكيا، واستخداما اجتماعيا، كما يتطلب دائما نمطا خياليا، وأنا ليس في مقدوري توقع ~~أو تصور النص كاملا، حتى يتسنى له الدخول في لعبة الإسناد المعياري.» # 122 # إن هذا الفهم لعملية الكتابة ودور المؤلف والقارئ عضده دريدا في استراتيجيته التفكيكية. ~~فحين تصدى جاك دريدا للكشف عن نقاط التناقض والضعف في شرح فرديناند دي سوسير للطريقة التي ~~تعمل بها اللغة وتؤدي وظائفها، قدم مفهوما أو تصورا للغة ترتب عليه القول بأن المعنى لا ~~يتحقق أبدا بصورة كاملة. فنظرية سوسير في علم اللغة تعتمد على فكرة أن اللغة تعمل كنظام ~~قائم بذاته، ونسق مستقل يتكون من مجموعة من الدوال، وأن هذا النسق هو الذي يحدد هوية ووظيفة ~~عناصره الفردية. لقد عارض سوسير مفهوم اللغة كظاهرة يتحكم فيها التاريخ ويحكم مسار تطورها، ~~وتتكون من إجمال العناصر والقواعد التي اكتسبت المعنى على مر الزمن، وقدم في مقابل هذا ~~المفهوم القديم للغة مفهوما جديدا يرى في اللغة نظاما مستقلا بذاته. ويقصد بالاستقلال هنا ~~أن اللغة تعمل باستقلال تام عن الإطار التاريخي الذي نشأت فيه. ويعتمد هذا المفهوم الجديد ~~بصورة رئيسة على التمييز بين الجانبين اللذين يتكون منهما أي نظام لغوي وهما: الكلام Parole # واللغة # Langue ~~. واللغة وفق سوسير تفصح عن نفسها دائما في صورة الكلام؛ أي في صورة استخدام ~~محدد خاص لعناصر معينة. لكن هذا ms094 الاستخدام يعتمد بدوره دائما على اللغة؛ أي على مجموعة ~~القواعد والعلاقات التي تشكل النظام اللغوي. والتي ينطوي عليها أي استخدام لأي عنصر من ~~عناصر اللغة. وفي إطار تلك العلاقة بين الكلام واللغة يعيد سوسير مراجعة المفهوم التقليدي ~~لبناء العلامة، الذي كان ينظر للعامة على أنها تتكون من جانبين: الدال والمدلول، وعن طريق ~~اتحاد الدال والمدلول تتكون العلامة وتظهر كوحدة دال. غير أن سوسير في مراجعته لهذا المعنى ~~ذهب إلى أن العلاقة بين أي دال ومدلوله غير مرهونة بصلاحية كل منهما للآخر، بل ينتجها ~~النظام اللغوي ببنيته المستقلة المكتفية بذاتها. # ويخلص دي سوسير من تأملاته اللغوية إلى نتيجتين رئيستين فيما يتعلق بنشاط اللغة ونظام ~~عملها؛ أولا: إذا كان الرابط بين الدال والمدلول هو نتاج لما تقوم به الأبنية اللغوية ~~التقليدية المكتفية بذاتها، سيكون ما تشير إليه العلامة (المشار إليه) لا دور له في إنتاج ~~المعنى؛ فاللغة كنظام مستقل لا تعتمد في تأدية وظائفها على أي شيء خارجها. ثانيا: أن اللغة ~~سابقة على التفكير، وشرط لوجوده، وبالتالي شرط لأي معرفة بالأشياء التي يمكن أن تشير إليها. ~~إن القول بأن الصلة بين الدال والمدلول تحددها العلاقة الاعتباطية التي تشكل النظام اللغوي، ~~يعني منطقيا أن قدرة الدال على الارتباط بمدلول معين تعتمد في كل لحظة على علاقة الدال بكل ~~العناصر الأخرى التي يتكون منها النظام اللغوي. ومعنى هذا في مجال الممارسة أن قراءة أي دال ~~وتفسيره تتضمن بالضرورة إقصاء لكل أنواع القراءات واحتمالات التفسير الأخرى التي تشتمل ~~عليها بنية اللغة. ويترتب على هذا أن المعنى لا يتحقق نتيجة لطبيعة الدال وتكوينه، أو لقيمة ~~أو خاصية إيجابية يمتلكها في ذاته، بل فقط من خلال نشاط مجموعة من الاختلافات التي تشكل ~~بنية لغوية معينة. # وقد ذهب دريدا في نقده لسوسير إلى أن تصوره للدال في علاقته بالمدلول يشوبه نقص خطير ~~يتمثل في أنه حين ذهب إلى أن الدال ينشط كحامل للمعنى من خلال اختلافه عن الدوال الأخرى، ثم ~~يؤكد على الرغم من ذلك أن هذا الاختلاف ms095 يمكن الدال من الارتباط بمدلول معين، فإنه يقع في ~~التناقض إذ يفترض وجود عالم من المدلولات وبالتالي من المعاني، التي توجد في انفصال عن نشاط ~~الدوال. ويرى سوسير أن لعبة الاختلاف # difference # التي ينشط من خلالها الدال لا يمكن أن ~~تتمخض عن حضور المعنى إلا بالدخول في عالم المدلولات. وهذا العالم كما سبق وأشرنا لا بد أن ~~يسبق وجود اللغة ويقع خارج حدودها؛ ذلك أن كلا من الدال والمدلول لا يمكن أن يوجد في ~~استقلال عن الآخر. والنتيجة أن مجموعة التقابلات والتعارضات التي تكسب العلامة معناها في ~~نظام سوسير لا تستطيع وحدها أن تحقق حضور المعنى. # على أن نقد دريدا لسوسير كان هدفه الرئيس التشكيك في إمكانية تحديد المعنى من الأساس. ~~فإذا كانت قدرة الدال على إقامة علاقة مع المدلول لا تعتمد - وفق تصور سوسير للغة - على تعريف ~~الدال إيجابا (أي تحديد هويته)، بل على تعريفه سلبا (أي تحديد ما ليس هو)، فإن عملية إنتاج ~~الدلالة تغدو برمتها عملية تتحقق من خلال الغياب (غياب الدال واختلافه عن غيره من الدوال) ~~بدلا من الحضور (أي حضور الدال)، ذلك أن الدال لا يقوم بوظيفته إلا بالرجوع إلى كل إمكانيات ~~التفسير واحتمالاته التي يشتمل عليها النظام اللغوي والتي يتحدد معناه في اختلافه عنها. ~~ويترتب على ذلك أن الدال إذا انقطعت صلته بأي مدلول مستقل، وفي الصلة التي توحد بين المعنى ~~ونشاط الدوال بحيث لا يمكن الفصل أو التمييز بينهما، فإن المعنى بدوره يخضع في هذه الحالة ~~لعمليات الاختلاف ذاتها التي تسمح للدال القيام بوظيفته، وهذا على سبيل المفارقة. وهكذا ~~يصبح تحديد المعنى يعتمد على تعريفه سلبا (أي على تحديد ما لا يكونه) بدلا من تعريفه ~~إيجابا برصد ما يعنيه. والنتيجة المترتبة على قيام المدلول بوظيفة الدال بصورة دائمة ~~تتمثل في أن العلامة لا يمكنها أن تصبح مماثلة لمعناها أو أن تمتلك المعنى بصورة كاملة، ~~وهذا لأن في سعيها لاقتناص المعنى تقع دائما في سلسلة لا نهائية من العلاقات والإحالات ~~المتبادلة بين الدوال، ما يجعل ms096 عملية تحديد المعنى بصورة نهائية حاسمة أمرا مستحيلا. # 123 # على أن النتيجة بعيدة الأثر التي تترتب على هذا الفصل بين المشار والمشار إليه أو ~~استقلال الدال عن المدلول، هي تلك الخاصة بعملية استقبال العمل الفني. وفي هذا تذهب نك كاي ~~إلى أن دريدا حين تصدى لتفكيك المدلول المتعالي # Transcendental Signified # استند إلى فرضية ~~مفادها أن حركة الدوال القلقة المترددة دوما بين المدلولات تخضع المدلولات بدورها لتأثير ~~علاقات الاختلاف # Difference # والإرجاء # Deferral # داخل أي نظام لغوي، وهي العلاقات التي اشتق ~~منها دريدا مصطلح # Differance ~~. الذي يشير إلى أن المعنى يتم تأجيله بصورة مستمرة ولا يلبث ~~على حال. # 124 # نستطيع أن نستنبط من هذا الفهم الدريدي، بتطبيقه على الأعمال الفنية من حيث شروط إنتاجها ~~واستقبالها، أن الحداثة كانت تنحو نحو البحث عن الأصول والقواعد كمحاولة للتغلب ~~على اعتباطية العلامة وعدم استقرار معناها. فسعي العمل الفني الحداثي للوصول إلى الجوهر هو ~~سعي لتحقيق خصائص وقيم فنية مشروعة بذاتها، ولا تحتاج لتبرير من خارجها. قيم من شأنها أن ~~تتخطى تأثير علاقات الاختلاف والإرجاء التي كشف عنها دريدا داخل النظام اللغوي، ومن ثم ~~تستطيع الوصول إلى «المدلول المتعالي» لتحقق حضور Presence # المعنى. يقول بودريار معبرا عن ~~هذا المعنى: «اعتمد النقد الفني في نشأته على فرضية وجود علامات مشبعة بالمعاني والصور، ~~تمتلك منطقا باطنيا لا واعيا إلى جانب منطقها المعروف القائم على التمييز عن طريق الاختلاف. ~~ويكمن وراء هذا المنطق الثنائي ما يمكن أن نسميه بالحلم الأنثربولوجي؛ أي حلم الإنسان بوجود ~~مملكة مثالية تحيا فيها الأشياء والأعمال الفنية في استقلال تام عن عمليات التبادل ~~والاستخدام. وبعيدا عن ضرورة إيجاد معادلات محسوسة لها.» # 125 # الفصل الرابع # | نماذج من فلاسفة ما بعد الحداثة (رولان بارت - ميشال فوكو - جيل دولوز - جان بودريار) # (1) رولان بارت: من البنيوية إلى ما بعدها ~~(1-1) مقدمة # كانت المفاهيم التي ظهرت في حقلي النقد الفني والأدبي، خلال النصف الثاني من القرن ~~العشرين، على صلة وثيقة بالمفاهيم الفلسفية التي ظهرت خلال هذا القرن، والتي نتجت عن ~~التغيرات العديدة التي لحقت البنى المعرفية التي سادت إبان العصر ms097 الحديث. وكان من نتائج تلك ~~الصلة ذلك التداخل المعرفي الذي حدث بين العديد من الحقول المعرفية؛ الفلسفة وعلمي الاجتماع ~~والنفس ومجالي النقد الفني والأدبي. والواقع أن هذا الأمر قد أدى إلى صعوبة في تصنيف مفكري ~~النصف الثاني من القرن العشرين وفقا للحقول المعرفية التي ينتمون إليها؛ فتحت أي حقل معرفي يمكن إدراج كل من رولان بارت، وميشال فوكو # M. Foucault ~~(1926-1984م)، وجورج باتاي # G. Bataille ~~(1897-1962م)، ~~وجاك دريدا # J. Derrida ~~(1930-2004م)، وجاك لاكان # J. Lacan ~~(1901-1981م)؟! (الفلسفة، النقد الأدبي، علم الاجتماع، علم النفس، النقد الثقافي ... إلخ.) هي مسألة محيرة، ~~لكنها في الوقت ذاته مؤشر مهم يدل على أن الحدود الفاصلة بين الحقول المعرفية المختلفة قد ~~تلاشت، وأصبح المجال أكثر اتساعا للدراسات البينية التي تقع على التخوم بين مختلف المجالات المعرفية. # 1 # يقدم بارت نموذجا لطبيعة الفكر وصورة المفكر في تلك الفترة «إذ يبرز من خلال كتاباته ~~كاتبا متميزا، فلا هو بالناقد ولا هو بالفيلسوف ولا هو بالشاعر أو الفنان أو الروائي، ولكنه ~~كل هؤلاء مجتمعين. وبذلك يتجاوز بارت الأكاديمية الجامعية آخذا كل مكتسباتها ونظرياتها، ~~ويدخل عالم الإبداع محملا بفكر نظري ثاقب، فيجمع بين تلك المهارات ليكسر الحواجز بين ~~الكلمة الشاعرة والكلمة العلمية، ويكون بذلك أبرز مثال حضاري على ثقافة الغرب الفلسفية والأدبية.» # 2 # لقد سئل بارت في أحد الحوارات التي أجريت معه سؤالا يكشف هذا المعنى؛ إذ سأله ~~محاوره: «لقد لاحظت أن كتبك في المكتبات ليست معروضة في مكان واحد بل هي تتوزع في أماكن ~~عديدة؛ اللغويات، الفلسفة، علم الاجتماع، الأدب ... إلخ. هل يعود هذا التصنيف الملتبس إلى ~~طريقتك في مقاربة الموضوعات؟» فرد قائلا: «نعم. لقد كان سارتر ذاته آلة ناسخة عظيمة. كان ~~فيلسوفا، وكاتب مقالة، ومسرحيا، وناقدا ... لقد بدأت مكانة الكاتب عند تلك اللحظة تصبح أكثر ~~مرونة ... هناك بعض الدعاوى المنتشرة تلك الأيام إلى شطب أنواع الكتابة التقليدية التي يمكن ~~تصنيفها في اتجاه واحد.» # 3 # لم تكن أطروحة موت المؤلف، التي صاغها بارت في مقال له يحمل العنوان ذاته، سوى انعكاس ~~لمناخ عام شاع فيه فكرة النهايات، وهي الفكرة التي ms098 ظهرت بوادرها في القرن التاسع عشر، ~~وانتشرت بقوة في القرن العشرين، لتصبح تيمة حاضرة باستمرار في فلسفات النصف الثاني من هذا ~~القرن. وقد عكس هذا الانتشار للفكرة شعورا عاما لدى الغرب آنذاك بفقدان الثقة في المقولات ~~التي تأسس عليها المشروع الحداثي الغربي، فجاءت فكرة النهايات لتعلن موت تلك المقولات ~~وضرورة استبدالها بمقولات بديلة تصلح لطبيعة تلك المرحلة. ربما بدأت فكرة النهايات في ~~الظهور بعد وفاة هيجل من خلال تلاميذه؛ فقد قال إريك فيل # Eric Weil # إن «هيجل» # Hegel # قد وضع ~~للفلسفة نقطة النهاية. # 4 # وقد أعلن اشبنجلر # Spengler ~~(1880-1936م) بعد ذلك صراحة نهاية الغرب # Der Untergang des Western # أو أفوله. ثم جاء نيتشه # Nietzsche ~~(1846-1900م) ليزكي تلك الروح عندما ~~أعلن «موت الإله» # Gott ist tot ~~. كما كتب بنيامين # Walter Benjamin # عن نهاية الفن في عصر ~~الإنتاج الآلي، وأسس هيدجر # Heidegger ~~(1976-1989م) مشروعه الفلسفي على «تقويض الميتافيزيقا»، ~~وأعلن فوكو «موت الإنسان»، كما أعلن رورتي # Rorty ~~(1931-2007م) «نهاية الفلسفة النسقية»، ~~وكتب فوكوياما # Fukuyama ~~(1956-...م) بعد ذلك نهاية التاريخ # The End of History # وفي نفس السياق ~~حاول فاتيمو # Vattimo ~~(1936-...م) حصر توجهات النصف الثاني من القرن العشرين الفكرية في خمسة ~~مبادئ رئيسة: نهاية الفن وأفوله - موت النزعة الإنسانية - العدمية - نهاية التاريخ - تجاوز ~~الميتافيزيقا. # 5 # وهي كلها تنويع على فكرة النهايات. لا يوجد علم أو فلسفة أو فن بل إعلان ~~النهاية لكل شيء، دق أجراس الموت، كما يشير عنوان أحد مؤلفات دريدا. # هذا هو السياق العام إذا الذي وضع فيه بارت أطروحته عن موت المؤلف، وبالتالي فقد جاءت تلك ~~الأطروحة ملائمة تماما للحظة الثقافية التي تم صياغتها فيها. وهي كما سنرى كان لها أصولها ~~الفلسفية الواضحة: ~~(1-2) من موت الإله إلى موت المؤلف # افتتح القرن العشرون بوفاة نيتشه في العام 1900م بعد أن صاغ أطروحته الشهيرة «موت الإله» ~~وقدمها في كتابه «العلم المرح». والواقع أن تلك الأطروحة لم تؤثر فقط على المجال ~~الميتافيزيقي، بل كان لها تأثير مماثل على مفهوم المركزية ومنطق الهوية اللذين سادا الفكر ~~الغربي ردحا طويلا من الزمن. فمفهوم المركز يعني أن ثمة أصلا أو نموذجا رئيسا تدور حوله ~~المعارف والنشاطات الإنسانية المختلفة. وهذا المركز أو ms099 النواة يختلف باختلاف العصور ~~والأزمنة. وقد ظل تصور الإله أو الكائن المفارق مسيطرا على الذهن البشري ومركزا تدور أفكاره ~~حوله. حتى الفلسفات الحديثة التي اتخذت موقفا مناهضا أو ناقدا لهذا التصور، ظل معظمها يدور ~~حوله بطريقة لا واعية؛ إذ إنها كانت تقدم ذاتها كبديل لهذا التصور من خلال نقده، ما يجعله ~~حاضرا باستمرار كنموذج يتم معارضته بنموذج آخر، إنها تلك الثنائية التي يعد أحدها شرطا لوجود ~~الآخر. # لقد حاول نيتشه الخروج من تلك الثنائية من خلال إعلانه موت الإله، والنتيجة أن المركز ذاته ~~قد تلاشى، أما نتائج ذلك فهي جد عظيمة، وربما استطاع نيتشه أن يعبر عن ذلك أفضل تعبير في ~~القسم 125 من كتابه العلم المرح # Die fröhliche Wissenschaft ~~(1882م) عندما صور الأمر على شكل ~~حدث كالتالي: يدخل رجل مجنون إلى ساحة السوق بحثا عن الإله، ويسخر منه كل أولئك الذين لا ~~يؤمنون بوجود إله. «أين هو الإله؟ يبكي ... سوف أخبرك، لقد قتلناه، أنا وأنت، كل منا قاتله.» ~~ويستمر في تأكيده على الآثار الكارثية لهذه الفاجعة: «لقد محونا الأفق كله»، «لقد حررنا هذه ~~الأرض من شمسها»، «لقد أرسلناها باستمرار إلى القاع ... وإلى الوراء ... إلى الجنب وإلى الأمام، ~~في كل الاتجاهات ... ألا زال هناك أي شروق أو غروب؟» لقد أصبح عالمنا أكثر برودة، ونحن أناس ~~«قتلة كل القتلة»، تركنا دون أية طريقة لتطهير أنفسنا. وعندما ينهي الرجل المجنون حكمته، ~~تحدق فيه الجماهير وتتملكهم الدهشة، يصرح قائلا: «لقد جئت مبكرا ... لم يحن وقتي بعد ... ~~هذا الفعل لا يزال بعيدا عنهم أكثر ما تبعد أقاصي النجوم، ومع ذلك فإنكم قد فعلتموه بأيديكم.» # 6 # ما قام به نيتشه هنا هو أنه قتل الإله من أجل إحياء العالم «لقد فصلنا حقيقة هذا العالم ~~عن فكرة أن الإله قد خلقه»، ونتيجة ذلك انفتاح العالم على الإنسان، لكن هذا الانفتاح ما زال ~~يفتقد البوصلة الموجهة له، بحسب نيتشه؛ لأنه يحتاج إلى نسق قيمي جديد يحل محل النسق القديم ~~المؤسس على فكرة الإله. وقد حاول نيتشه عبر مؤلفاته اكتشاف هذا النسق الجديد ms100 من أجل ترسيخه، ~~وهو نسق يستمد معاييره من عالم الحياة لا من عالم مفارق. # هل ثمة علاقة بين ما قام به نيتشه في مجال الميتافيزيقا وبين ما قام به بارت في مجال ~~النص؟ # لم يفصل نيتشه بين حضور الميتافيزيقا ومقولاتها وبين اللغة المستعملة؛ فقد وجد نيتشه أن ~~هناك قوى تقف وراء عملية إنتاج المعاني، هذه القوى تهدف إلى الإخضاع والسيطرة. وما تفعله ~~الميتافيزيقا هو اختزال تلك القوى، وحصر المعنى في الألفاظ اللغوية التي تحد المعنى وتختزله ~~في إطار معين؛ لهذا فقد رأى نيتشه أن اللغة هي معقل الميتافيزيقا. ففي اللغة فقط تجد مفاهيم ~~الوجود والجوهر والهوية إمكانية دوامها وخلودها. إن الميتافيزيقا تنظر إلى الألفاظ اللغوية ~~كوعاء يحفظ للمعاني أزليتها ويبقي على تطابقها؛ فبدلا من أن ترى في العلامة مكانا للاختلاف ~~والتعدد والتأويل، ترى فيها على العكس من ذلك مناسبة لحضور المعنى. من هنا تصبح اللغة ذاتها ~~فعل سلطة، صادرا عمن بيده الهيمنة. # 7 # وقد سعى نيتشه من وراء التاريخ الذي يقيمه للميتافيزيقا، إلى التوصل إلى منظومة ~~القيم التي حكمت هذا التاريخ، والبنية التي وضعت المعاني وأطلقت الأسماء وأولت العالم ~~ولونته. من هنا تصبح استراتيجية التسمية استراتيجية هيمنة وتسلط. # في الواقع لم يفعل بارت سوى استكمال ما قام به نيتشه ودعا إليه، فموت المؤلف هو ذاته موت ~~الآلهة، والنتائج التي ترتبت على أطروحة بارت في مجال النقد الأدبي ونظرية التلقي الجمالي ~~تتشابه مع تلك النتائج التي ترتبت على أطروحة نيتشه في مجال الميتافيزيقا ونظرية الوجود. ~~أما النسق القيمي الذي حاول نيتشه التأسيس له وإحلاله محل النسق القيمي القديم، فهو ما قام ~~به بارت من خلال التأسيس لقواعد جديدة للتعامل مع النص الأدبي محل القواعد التي كان معمولا ~~بها من قبل في حقل النقد الأدبي، وقد كتب بارت في العام 1968م ما يلي: «نعرف الآن أن النص ليس ~~مجرد مجموعة من الكلمات التي تحرر معنى «لاهوتيا» وحيدا (إله - رسالة - نبي). بل هو حيز ~~متعدد الأبعاد تمتزج فيه وتتصادم تنويعات من الكتابة، ليس منها ms101 ما كتب في الأصل.» # 8 # إن نسبة النص إلى مؤلفه، بحسب بارت، معناه إيقاف النص وحصره وإعطاؤه مدلولا ~~نهائيا، إنه إغلاق للكتابة، يقول: «عندما يأبى الفن النظر إلى العمل الفني كما لو كان ينطوي ~~على سر؛ أي على معنى نهائي، فإن ذلك يولد فعالية يمكن أن نصفها بأنها ضد اللاهوت، وأنها ~~ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وذلك أن الامتناع عن حصر المعنى وإيقافه معناه في النهاية رفض ~~الإله ودعائم وجوده.» # 9 # إن هذا الرفض لمركزية الإله لا ينبغي التعامل معه على المستوى اللفظي؛ فهو في ~~الأصل تعبير مجازي عن رفض فكرة المركز الذي يدور المعنى حوله؛ تحرير للنص من أي هيمنة فرضت ~~عليه تسعى لاختزاله في اتجاه ذي بعد واحد. # أما فيما يتعلق بمسألة السلطة وكيف تمارس تأثيرها عبر اللغة، فقد ذهب بارت إلى أن مفهوم ~~السلطة لا يمكن اختزاله في المعنى السياسي له؛ لأن السلطة حاضرة في كل شيء داخل المجتمع وهي ~~تمارس تأثيرها بصورة خفية مخادعة. إنها توجد في الدولة، وعند الطبقات والجماعات، وفي أشكال ~~الموضة، والآراء الشائعة، والمهرجانات، والألعاب، والمحافل الرياضية، والأخبار والعلاقات ~~الأسرية، وحتى داخل حركات المعارضة والتحرر الوطني. ودور المثقف هنا، بحسب بارت، ليس العمل ~~المباشر ضد السلطة بالمعنى السياسي لها «فمعركتنا تدور خارج هذا الميدان، إنها تقوم ضد ~~السلطة في أشكالها المتعددة. وليست هذه بالمعركة اليسيرة؛ ذلك أنه إن كانت السلطة متعددة في ~~الفضاء الاجتماعي، فهي بالمقابل ممتدة في الزمان التاريخي. وعندما نتصدى لها وندفعها هنا ~~سرعان ما تظهر هناك؛ وهي لا تزول البتة. قم ضدها بثورة بغية القضاء عليها، وسرعان ما تنبعث ~~وتنبت في حالة جديدة. ومرد ذلك هو أن السلطة جرثومة عالقة بجهاز يخترق المجتمع ويرتبط ~~بتاريخ البشرية في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسي وحده. هذا الشيء الذي ترتسم فيه السلطة، ~~منذ الأزل، هو اللغة.» # 10 # والواقع أن هذا الفهم البارتي لمفهوم السلطة يجعله عصيا على التحديد أو ~~التعريف؛ إذ لا ينبغي وفقا لهذا الفهم البحث عن السلطة عند نقطة مركزية تكون هي الأصل، عند ~~بؤرة وحيدة ms102 للسيادة تكون مصدر إشعاع لباقي الأشكال الثانوية التي تتولد عنها، وإنما ينبغي ~~رصدها عند القاعدة المتحركة لعلائق القوى التي تولد أشكالا للسلطة، لكنها حالات غير مستقرة ~~ذات مستويات متعددة وأشكال خفية كامنة خلف كل خطاب من الخطابات التي تحيط بنا. والنتيجة أن ~~العالم سلطة، والخطاب سلطة، والحقيقة سلطة، والتاريخ سلطة، والفيلسوف هو أيضا سلطة، بل إن ~~السلطة تمتد لتشمل اللغة التي يتم التعبير بها، فعملية التعبير ذاتها تكون أسيرة للحروف ~~والألفاظ والمعاني المتداولة. # ينحو إذا بارت منحى فلاسفة ما بعد الحداثة في نقدهم لمفهوم السلطة. وهو يتفق مع نيتشه في ~~أن اللغة هي بيت السلطة، وقد ذهب إلى القول بأن «نيتشه قد حاول خلخلة ذلك الاستعباد الذي ~~تمارسه السلطة.» # 11 # وعلى المفكر إذا أراد مقاربة السلطة ومقاومتها بغية الكشف عن مظاهر تموضعها أن ~~يبدأ باللغة. # هذا النقد البارتي لمفهوم السلطة يضمر نقدا داخليا لعملية التلقي الجمالي التي تختزل ~~العمل الفني في معنى واحد؛ فهذا ضرب من ضروب السلطة التي يمارسها المتلقي على العمل الفني. ~~لهذا السبب يرفض بارت عملية تقييم العمل الفني، ويرى أنها لا تدخل في صميم عمله، فمهمته ~~الكشف عن مستويات مختلفة للقراءة، أما عملية التقييم فهي نوع من ممارسة السلطة «إنني لا ~~أستطيع أن أسمح لنفسي بالقول إن هذا لجيد، وإن هذا لرديء؛ إذ ليس ثمة قائمة للجوائز، كما ~~أنه ليس ثمة نقد. فالنقد يتطلب دائما هدفا تكتيكيا، واستخداما اجتماعيا، كما يتطلب ~~دائما نمطا خياليا، وأنا ليس في مقدوري توقع أو تصور النص كاملا، حتى يتسنى له الدخول ~~في لعبة الإسناد المعياري.» # 12 # ربما بدا هذا الرأي لبارت متناقضا مع موقعه في تاريخ النقد الأدبي، وهو موقع ~~متقدم بطبيعة الحال. لكن هذا التناقض سيزول عندما نعلم أن هذا الرفض لعملية التقييم الجمالي ~~هو في الأساس رفض لاختزال العمل الفني وحصره داخل قالب محدد، أو رفض لممارسة وصاية على النص ~~تجعل من الناقد سلطة تفسيرية مهيمنة عليه. والواقع أن هذا النوع من النقد الذي رفضه بارت ~~كان نتاجا للمنطق الذي ms103 ساد تاريخ الفكر عموما، والذي انتقل منه إلى مجالي النقد الفني ~~والأدبي؛ منطق الهوية. ~~(1-3) من منطق الهوية إلى منطق الاختلاف # كان لمفهوم التعددية والاختلاف مكانة بارزة في الخطاب الفكري والنقدي الذي ساد في النصف ~~الثاني من القرن العشرين، بحيث يعد هذا المفهوم مفتاحا لفهم النتاج الفكري لهذا الخطاب؛ ~~فالفلسفة ستتحول من كونها أداة نسقية تبتغي الوحدة إلى أداة مهمتها تفتيت الأشياء وتفكيكها . ~~وربما كان السبب الرئيس الذي أحدث هذا التحول هو تلاشي منطق «الهوية» من الخطاب ليحل محله ~~مفهوم «التعددية»؛ التعددية بكل أشكالها، تعددية الخطاب والمعنى والظاهرة والقوى، لا يوجد ~~حدث ولا ظاهرة ولا كلمة ولا فكرة إلا ومعناها متعدد، فأي شيء قد يكون هذا أو ذاك وأحيانا ~~يكون شيئا أكثر تركيبا بحسب القوى التي يحوزها. من هنا لا يوجد معنى حقيقي للشيء الواحد، ~~هناك تعددية، وجهات للنظر، تجاوبات مع الأحداث والوقائع. فالظاهرة الواحدة لها أقنعة عديدة ~~وخلف كل قناع يكمن قناع آخر. # 13 # وعلى الفلسفة أن تغزو هذه الأقنعة وأن تخترقها لا للوصول إلى جوهرها وأصلها، ~~وإنما لكي تعطي لكل قناع معنى جديدا. # وهذا المعنى تحديدا هو ما أكد عليه بارت في تحليله للعمل الأدبي؛ إذ تمثلت محاولته في فهم ~~آلية توليد المعنى داخل العمل الأدبي إلى التعامل معه لا باعتباره تمثيلا أو تواصلا (بين ~~مرسل ومستقبل) بل كسلسلة من الصور التي تولدت من خلال المؤسسة الأدبية والشفرات الخطابية ~~الثقافية. فلا يتجه التحليل هنا صوب اكتشاف المعاني الكامنة، وهو في الأصل لا يهدف لذلك. ~~لهذا يكتب بارت مشبها العمل الأدبي بالثمرة ذات الطبقات المتعددة «فهو من طبقات (أو ~~مستويات أو نسق)، ولا يحتوي على مركز، أو جوهر، أو سر، أو مبدأ لا يمكن اختزاله، بل لا شيء ~~سوى عدد لا متناه من الأغلفة - التي لا تغلف شيئا سوى وحدة أسطحها.» # 14 # والتحليل البنيوي لا يقدم «تأويلا» للعمل الأدبي، بل ينطلق من وجهة نظر مبدئية ~~عن محتوى العمل، ومن ثم يتناول الشفرات المكونة لهذا المحتوى، فيحدد علامتها، ويقدم تصورا ~~لتسلسلاتها، ولكنه في ms104 الوقت ذاته يسلم أيضا بوجود شفرات أخرى ستنبثق عبر تلك الشفرات ~~الأولى. # كان بارت من دعاة فكر الاختلاف والتعدد، وقد كانت مؤلفاته في مجملها ضد أي محاولة لإقصاء ~~الآخر والاستحواذ عليه أنطولوجيا وإبستمولوجيا وسياسيا، وهذا بخلاف الفكر الكلاسيكي الذي ~~كان سائدا في العصر الحديث. ففي الوقت الذي كان يقر فيه هذا الفكر بأن العالم متعدد ومتنوع، ~~كان يحاول دوما إلغاء تعدده وتنوعه في وحدة معنى يفترض أنها ثابتة. وإذا عرض عليه أن يفكر ~~في المتعدد الاجتماعي فإنه سوف يؤكد أنه غير منسجم في وحدة واحدة، لكنه سيحاول أيضا أن ~~يوحده ويضمه في وحدة الدولة. منطق الفكر الكلاسيكي إذا هو «منطق الهوية» # logique de ~~l’identité ~~، سواء تعلق الأمر بتطابق الوعي أو الكوجيتو أو الذات أو الدولة. كل هذه المقولات ~~مطلقة وبواسطتها تحول الفكر إلى تقنية لاختزال الفوارق، وأداة نسقية موجهة نحو إلغاء ~~التعارضات. # والواقع أن مقولة الاختلاف ستحتل مكانة هامة في فكر بارت؛ إذ إن النتيجة الرئيسة التي ~~ترتبت على إعلانه موت المؤلف تمثلت في تخليص النصوص من معناها الأحادي الذي كانت أسيرة له ~~وانفتاحها على المعنى في تعدديته واختلافه، فليس ثمة جوهر واحد للنص ينبغي على القارئ ~~اقتناصه ليزعم بعد ذلك أنه يمتلك الحقيقة والمعنى، بل ثمة معان مختلفة ومنظورات متعددة لا ~~تتعامل مع النص على أنه وحدة منغلقة لها معنى واحد ووحيد، بل تتعامل معه بوصفه «عملا ~~مفتوحا» على حد تعبير أمبرطو إيكو، # 15 # مفتوحا على عوالم عديدة يصعب حصرها أو حتى توقعها. # يبدو أن كل الطرق لفهم النتاج الفكري لمفكري النصف الثاني من القرن العشرين تفضي بالضرورة ~~إلى نيتشه. كان نيتشه يصف نفسه بأنه «ديناميت»، والواقع أن هذا الديناميت قد تضاعف حتى انفجر ~~في النصف الثاني من القرن العشرين محدثا دويا هائلا. لقد قدم نيتشه نقدا لمفهوم الحقيقة، ~~كان مؤثرا بقوة في التصور الذي قدمه بارت لطبيعة النص؛ فقد رأى نيتشه أن هناك فهما ~~ميتافيزيقيا مضللا لمفهوم الحقيقة؛ فالشيء الحقيقي هو الخير والعام والواضح والنافع والجميل، ~~وقد سعى الفلاسفة حول هذا الوهم ms105 طوال تاريخ الفلسفة محاولين الوصول إلى ما هو حقيقي. لكن ~~السؤال الذي تناساه هؤلاء: من يملك تحديد الحقيقي؟ وما هو هذا الحقيقي؟ وليست المشكلة عند ~~نيتشه متعلقة بالبحث عن الحقيقة أو محاولة الكشف عنها، بل المشكلة أن كلمة الحقيقة نفسها ~~مضللة؛ فهي تنفي الاختلاف الذي هو من صميم الحياة. ولم يتوقف مفكر من قبل للتساؤل عن كنه ~~الحقيقة، بل كانت كل الأسئلة متمحورة حول كيفية بلوغها أو شروط إمكانها. فكل الفلسفات ~~اعتبرت أن مسألة الحقيقة ليست في حاجة إلى ما يبررها. بل وأكثر من ذلك، غدت مسألة الحقيقة ~~هي المنطلق والأساس الذي تتأسس عليه كل فلسفة، وبالتالي أصبحت الحقيقة صنما أو إلها يقدسه ~~الفكر باحثا عن كل سبيل لبلوغه. في مقابل هذا الفهم، ينظر نيتشه للحقيقة على أنها حشد من ~~الاستعارات والكنايات التي تكونت عبر التاريخ، وتم التعامل معها بعد ذلك بوصفها بديهيات أو حقائق. # 16 # إن هذا المعنى النيتشوي لمفهوم الحقيقة سيجد تجلياته في النص البارتي. لهذا نجد بارت ~~يفرق منذ البداية بين الأثر والنص، ويدعو للانتقال من الأول إلى الثاني؛ «فالأثر لا يزعج ~~فلسفات الهوية، والتعدد عند تلك الفلسفات هو الشر بعينه.» # 17 # الأثر له معنى متوارث مغلق لا يقبل التجديد، بل يعتبر التجديد فيه نوعا من ~~الهرطقة، أما النص فهو متعدد. ولا تعني صفة التعدد التي يحوذها النص أنه يحتوي فقط على معان ~~عدة، وإنما يحقق تعدد المعاني ذاته؛ «فالنص ليس تعددا لمعان، بل هو مجاز وانتقال. وبناء على ~~ذلك لا يمكن أن يخضع لتأويل، وإنما لتفجير وتشتيت.» # 18 # ويمكن تحديد الاختلافات التي يسوقها بارت بين الأثر والنص في الآتي: # 19 ~~(1) # على المستوى المنهجي، فليس الفرق بين النص والأثر الأدبي ماديا (حسب الغلاف، الطبعة، ~~عدد الصفحات، التاريخ ...) ففي الأثر القديم تستقر نصوص، كما أنه ليست كل الإنتاجات المعاصرة ~~نصوصا؛ فالاختلاف بينهما راجع أساسا إلى كون الأثر قطعة من مادة (يشغل فضاء فيزيائيا في ~~المكتبة)، أما النص فهو حقل منهجي تعمل عليه اللغة. ~~(2) # على مستوى الأجناس، فالاختلاف بين النص والأثر لا يدخل ms106 ضمن تراتب هرمي (أدب جيد، أدب ~~رديء، أدب شعبي ...) ففي الأدب الشعبي تكمن نصوص (وهو ما حاول بارت إظهاره عبر مسرح بريخت ~~الشعبي)، كما لا يدخل هذا الاختلاف ضمن تقسيم للأجناس (شعر، رواية، نقد)، فما يحدد النص ~~خلافا للأثر الأدبي هو الخلخلة؛ خلخلة الآراء الشائعة والمتداولة، خلخلة اللغة ذاتها ~~والأسلوب المتعارف عليه في الكتابة. ~~(3) # على مستوى الدليل، فالأثر الأدبي ينحصر في مدلول واضح أو خفي، يستدعي التعامل معه إما ~~على المستوى الاصطلاحي أو التأويلي. أما النص فمجاله الدال. وهو يحيل على فكرة اللعب ليجعل ~~النص غير خاضع على الإطلاق إلى أي منطق تفسيري محدد. ~~(4) # على مستوى التعدد، فالأثر أحادي أما النص فتعددي. ولذلك تحاول المؤسسات السلطوية ترسيخ ~~الأول والدفاع عنه ودحض الثاني وتغييبه لأنه يهددها في كيانها، ويخلق التعددية على مستوى ~~الفكر. من هنا لا يمكن إخضاع النص إلى تفسير أو تأويل وإنما فقط يتم التعامل معه بغية ~~تفجيره، وهو ما يضمن خلوده؛ لأنه لا يفرض معنى وحيدا على قراء مختلفين، بل يوحي بمعان ~~مختلفة للقارئ الواحد. ~~(5) # على مستوى القراءة، فالأثر من حيث بنيته اللغوية الواضحة يمكن التعامل معه بالمناهج ~~التقليدية (ومنها التحليل النفسي والاجتماعي)، أما النص فيستدعي مقاربة مختلفة تحرره من ~~سلطة المؤلف وهيمنة التقاليد المتوارثة في الكتابة النقدية. ~~(1-4) سلطة المؤلف وهيمنة السياق # كانت المناهج النقدية في مراحلها الأولى منصبة في الأساس على عنصر الفنان، لما له من ~~أهمية قصوى في تفسير العمل الفني؛ فالسبب الرئيس لوجود العمل الفني هو صانعه؛ أي الفنان. ~~لذلك كان إيضاح العمل من خلال شخصية الكاتب وحياته من أقدم مناهج الدراسة الأدبية وأكثرها ~~رسوخا. وهكذا شكل قطب المؤلف نقطة تقاطع مجموعة من الدراسات النقدية المتمثلة في المناهج ~~التاريخية والنفسية والاجتماعية، والمنبثقة أساسا من روح الفلسفة الوضعية والفرويدية ~~والماركسية. يقول أندريه جرين # A. Green ~~: «هل من الممكن أن نعزل الإنسان عن إبداعه؟ فمن أي ~~قوى يقتات هذا الإبداع إن لم يكن من تلك التي تعمل عند المبدع؟» # 20 # فقد اعتبر جورج لوكاش # G. Lukacs ~~(1885-1971م)، على سبيل المثال، أن الأدب ms107 انعكاس للحياة ~~أو الواقع في السياق الاجتماعي والتاريخي، # 21 # وفي إطار هذا التصور يقول طه حسين: «فلا يكون الأدب أدبا حتى يصور حياة الناس، ~~وليس في الأرض أدب إلا وهو يصور حياة أصحابه (مؤلفيه)، فكل أدب في أي أمة لا بد أن يصور ~~واقعها وشعورها وذوقها وثقافتها وأنماط تفكيرها، وهو في النهاية انعكاس صور الحياة في نفوسها.» # 22 # أما أوغسطين سانت بوف # A. S. Beuve ~~(1804-1869م) فقد ذهب إلى أن «الهدف الرئيس ~~للنقد الفني هو أن تكشف عن الإنسان وراء العمل. والمعيار الأساسي لتقييم العمل هو الدقة ~~والصدق اللذان يحول بهما الكاتب حياته الشخصية - إلى شكل أدبي.» # 23 # وتفاعلا مع هذا المسعى البيوجرافي - وتقاطعا مع قطب المرجع أو السياق - تنظر هذه الدراسات ~~النقدية إلى النص الأدبي بما هو «مرآة» تعكس السياق التاريخي العام، أو السياق اللاشعوري ~~الخاص الذي أفرزه، بحيث تحتشد في الدراسات النقدية إفادات متنوعة عن الأوضاع الاجتماعية ~~والاقتصادية والسياسية والفكرية والنفسية، يستحيل معها النص إلى مجرد وثيقة، والناقد إلى ~~مؤرخ وعالم اجتماع وعالم نفس ... إلخ. # أما التحليل النفسي كما يتصوره سيجموند فرويد # S. Freud ~~(1856-1939م)، فإنه يهدف إلى تحليل ~~الظاهرة الأدبية من خلال علاقتها بالعقد النفسية للمؤلف؛ حيث «إن صورة الأدب التي يمكن أن ~~نجدها في الثقافة المتداولة تتمركز أساسا، حول المؤلف وشخصه وتاريخه وأذواقه وأهوائه، ~~وما زال النقد يردد، في معظم الأحوال، أن أعمال بودلير، وليدة فشل بودلير الواقعي، وأن أعمال ~~فان جوغ وليدة جنونه، وأعمال تشايكوفسكي وليدة نقائصه، وهكذا يبحث عن تفسير للعمل من جهة من ~~أنتجه، كما لو أن وراء ما يرمز إليه النص، صوت شخص وحيد هو المؤلف الذي يبوح ب «أسراره» من ~~وحي لا شعوره.» # 24 # وإذا كانت المقاربة السيكولوجية تنطلق في تفسيرها للعمل الأدبي من الأوضاع النفسية ~~للكتاب، فإن المقاربة السوسيولوجية تعمد هي الأخرى إلى المعطى الخارجي، ولكن من منظور ~~يتجاوز الفردية ليعانق الطبقة أو الإطار الاجتماعي العام، كما هو الحال في التحليل الماركسي ~~للعمل الفني. # لقد ظلت تلك النظرة إلى العمل الفني على أنه ابن شرعي لمؤلفه، وانعكاس لحياته، وثقافته ms108، ~~وعالمه النفسي، وواقعه الاجتماعي؛ هي المسيطرة على التوجه العام للنقد الفني حتى منتصف ~~القرن العشرين. لهذا كانت مؤلفات النقد الفني السائدة خلال تلك الفترة تبدأ دائما بمقدمة عن ~~حياة الفنان وعالمه الخاص والمشكلات التي صادفته في حياته، وكانت بالمثل تقدم النصيحة ~~للمتلقي بأنه إذا أراد أن يكون رأيا سليما وفهما دقيقا لعمل الفنان فعليه قبل أن يشرع في ~~التعامل مع العمل أن يكون على دراية بتلك المعطيات، حتى يساعده ذلك على التماهي مع أفكار ~~الفنان ومقاربة تجربته الشعورية؛ ومن ثم القدرة على التعامل مع أعماله وفهمها. ويتوقف نجاح ~~عملية التلقي الجمالي للعمل الفني على مدى استطاعة المتلقي بلوغ تفسير مرض للعمل الفني ~~يعتمد في المقام الأول على تلمس أبرز الأحداث الفاعلة في حياة الفنان، والتي يمكن اكتشافها ~~وتتبعها داخل عمله. # على أن تلك المقاربة التي فرضت ذاتها على حركة النقد الفني آنذاك تعرضت إلى نقد كبير على ~~يد النزعة الشكلانية. # 25 # فقد هاجم الشكلانيون الرأي القائل بأن الأدب فيض من روح المؤلف أو وثيقة ~~تاريخية اجتماعية أو تجل لمنظومة فلسفية ما، وبهذه الطريقة كان توجههم النظري مماثلا ~~للحساسية الجمالية في الفن الحداثي التي نحت نحو التجريد. كان الجانب الذي وجد ما يقابله في ~~الشاعرية الشكلية الروسية، هو تركيز الفن الحداثي آنذاك على التأثير من خلال الابتعاد عن ~~تمثيل موضوعات الواقع والطبيعة بصورة مباشرة؛ «فقد مثلت المدرسة الشكلانية نقلة هائلة، بعيدا ~~عن نظرية الفن السائدة السابقة عليها، وهي تلك النظرية التي كانت قائمة على المحاكاة.» # 26 # ثم اقتربت الشكلانية من البنيوية عندما ازدهرت مدرسة براغ على يد رومان ياكبسون ~~الذي دعا إلى تحليل النصوص من خلال بنيتها اللغوية والتنظيم الصوتي المستقل لدوالها من خلال ~~العلامات الدالة. # ويؤكد رولان بارت أن عددا من النقاد الأوروبيين قد سبقوه إلى إعلان «موت المؤلف» مثل ~~الأديب الفرنسي مالارميه الذي كان من أوائل المتنبئين بضرورة إحلال اللغة ذاتها محل من كان ~~مالكا لها؛ فاللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف. وكذلك أشار بارت إلى جهود بول فاليري التي ~~جاءت ms109 مكملة لآراء مالارميه؛ حيث كان فاليري دائم السخرية من المؤلف، ودائم التأكيد على أن ~~اللجوء إلى دواخله خرافة، وأنه لا بد من التركيز على البنية اللغوية لعمل المؤلف وإقصائه عنها. # 27 # بناء على ما سبق، يتضح أن المناهج السابقة، تمشيا مع احتفائها بسلطة المؤلف وهيمنة ~~السياق، تقوم بتفسير العمل الأدبي وإيضاحه وفق شروط خارجة عن فلكه، فتفسر العمل الفني ~~بالتجارب النفسية السابقة للفنان، وتبحث عن علامات تلك التجارب داخل العمل الفني، وبالتالي ~~يصبح العمل الفني أسيرا للماضي ورد فعل عليه من قبل الفنان، فليس ثمة جديد إذا. وهي إذ تقوم ~~بتكريس تلك النظرة، فإنها بذلك تلغي المعطيات الجوهرية التي تشكل الإبداع الفني، وهو ما تم ~~تداركه فيما بعد من قبل المناهج المرتكزة على النقد النصي # Textual Critique # بتنويعاته ~~المتعددة (اللسانية والبنيوية والأسلوبية والسيميائية ...) وذلك بفضل القطيعة المنهجية التي ~~أحدثها إعلان «موت المؤلف». ~~(1-5) سلطة النص ولذة القراءة # في العام 1967م نشر رولان بارت مقالته «موت المؤلف» # La Mort De L’auteur # ليقلب النظرية ~~الأدبية المعاصرة رأسا على عقب، وليضع بذلك أحد المصطلحات البارزة والمؤثرة في فلسفة ~~الجمال والنقد الفني المعاصر. لقد قال بارت: «إن النص من الآن فصاعدا على كافة مستوياته ~~وبجميع أدواته، منذ صناعته وحتى قراءته، يظهر بشكل يغيب فيه المؤلف غيابا كاملا.» # 28 # ويدعو بارت إلى أن نحذف من قاموسنا كلمة «مؤلف» لنحل محلها «الكاتب» # Le ~~Scripteur ~~. والكاتب - وفقا لبارت - ليس في داخله «عواطف» ولا «أمزجة» ولا «مشاعر» ولا ~~«انطباعات». لا يوجد لديه إلا ذلك القاموس الضخم الذي يستمد منه كتابة «نشاطا لفظيا» لا ~~يمكن أن ينفد أبدا «فالحياة لا تعرف شيئا سوى أن تحاكي الكتب، وما الكتب ذاتها إلا مجرد ~~أشياء مصنوعة من العلامات.» # 29 # فإذا افترضنا مع فرويد أن العمل الفني ما هو إلا انعكاس لحياة الفنان وتجاربه النفسية ~~وحياته الشخصية فإن هذا الافتراض يلغي تعددية العمل الفني ويجهض إمكاناته التأويلية؛ لأنه ~~في تلك الحالة سيكون ثمة معنى واحد للعمل الفني، وسيفقد العمل الفني قيمته وخلوده في الزمن، ~~سيفقد هالته وبريقة إذا شئنا أن نستخدم مصطلحات فالتر بنيامين؛ إذ ms110 يكفينا في تلك الحالة أن ~~نعرف الدلالات السيكولوجية للعمل الفني وعلاقتها بحياة الفنان ليترسخ لدينا في نهاية الأمر ~~أننا أحطنا بالعمل الفني في مجمله، وأننا لسنا بحاجة للعودة إليه؛ فقد استنفد غرضه. وهكذا ~~فعل فرويد في تعامله مع دافنشي، فمن منا بعد قراءة هذا التحليل يرغب في العودة إلى دافنشي ~~ورؤية أعماله، فالمعنى قد تم كشفه، وما كان محتجبا بالنسبة إلينا أصبح الآن واضحا وجليا. ~~هذا هو الحال إذا اعتمدنا التحليل النفسي للفن كما قال به فرويد وأصحاب نظرية التحليل ~~النفسي. # لنأخذ معا هذا المثال الكاشف: لنفترض أن كاتبا ما ينتمي إلى أيديولوجيا سياسية أو دينية ~~تختلف عن تلك التي ينتمي إليها القارئ. غير أن هذا الكاتب قد قام بكتابة نص بديع من الناحية ~~الجمالية، فما الذي سيحدث في هذه الحالة؟ من المؤكد أن السيرة الذاتية للكاتب ستطغى على ~~الجانب الجمالي المتحقق، وعوضا عن الاستغراق في الحالة الجمالية التي يفرضها النص، والتي هي ~~في الأساس هدف الفنان، سيبحث القارئ بكل حماس عما يؤيد وجهة نظره وموقفه النفسي ~~والأيديولوجي منه، وتلك لن تكون سوى قراءة مختزلة للعمل تفقده مستوياته الدلالية وتحوله إلى ~~بنية منغلقة تفتقد تعددية القراءة وانفتاحها. # وقد استطاع تي إس إليوت # T. S. Eliot ~~(1888-1948م) التعبير عن هذا المعنى في مقال له بعنوان ~~«التراث والموهبة الفردية» عندما أكد أن «الانطباعات والتجارب المهمة للإنسان قد لا يكون ~~لها دور في عمله، بينما الانطباعات والتجارب المهمة في شعره يمكن أن تلعب دورا، حتى لو كان ~~ضئيلا، في شخصية الإنسان.» # 30 # ويمكن أن نضرب مثالا آخر يوضح هذا المعنى؛ فربما نشعر بالإعجاب تجاه مجموعة من ~~الكتب التي تحتوي على قيم أخلاقية نبيلة كالشجاعة والوفاء والإخلاص، لكننا نكتشف بعد ذلك أن ~~من كتبها لا يتمتع بأي صفة منها، فهل يجوز لنا الخلط بين العالمين؟ ربما صاغ بارت أطروحته ~~عن موت المؤلف للإجابة عن هذا السؤال تحديدا. فالتعارض بين العالمين لا يمكن أن يقلل من ~~أحدهما، فلنا أن ننتقد مواقف الكاتب الواقعية، لكن هذا النقد لا ينبغي أن ms111 ينسحب على ~~مؤلفاته. حقا إن الحياة الخاصة للكاتب من الممكن أن تكون ذات جاذبية حكائية كبيرة جدا، ~~ويمكن أن تفسر كيف ولماذا ظهرت الكتب إلى حيز الوجود؛ وغالبا ما تفعل ذلك. لكنها ليست ذات ~~أهمية بالنسبة إلى القيمة الأدبية لكتبه، أو لمعناها، مثلما أن الحياة الشخصية لعالم ~~الفيزياء ليس لها قيمة بالنسبة لقبول أو رفض أفكاره عن نظرية الكم أو بنية الذرة. # العمل الفني، وفقا لبارت، مستقل تماما عن مبدعه. والمؤلف دوره ينتهي بكتابة النص، والعبء ~~يقع بعد ذلك على القارئ في عملية القراءة، عبء اقتناص المعنى في تعدديته واختلافه، وهذا ما ~~يجعل القارئ مشاركا في عملية إنتاج النص. فدور القارئ لا يقل أهمية عن دور المؤلف، ولا ~~يمكن فصل عملية القراءة عن الكتابة؛ إذ هما متلازمتان. والقارئ هو الذي يقرر معنى النص من ~~خلال استرشاده بالعلامات التي يستخدمها المؤلف، لكنه لا يتقيد بها، ويمكنه أن ينتصر، من ~~خلال النص، للمعنى الذي تستحضره العلامات في ذهنه، والذي يمكن أن يتغير من يوم لآخر ومن ~~قارئ لآخر. # إن الخطوة الإجرائية الأولى للتعامل مع النصوص وفقا لبارت هي التخلص من الفروض المسبقة، ~~وهي خطوة تذكرنا بالفينومينولوجيا. # 31 # فوسيلة مقاربة العمل الفني الانطلاق من بنيته الداخلية بهدف استكشاف الأنظمة أو ~~العلاقات التي تشكل دلالاته، من داخل النص إلى خارجه، وليس من خارجه إلى داخله، عبر ~~افتراضات مسبقة تتمثل بالمؤلف والسياق والعصر والبيئة، وقد ذكر بارت في ~~«النقد والحقيقة» # Critique et vérité ~~(1966م) «أن نمط النقد البيوجرافي الذي يؤكد العلاقة بين النص والمؤلف قد ~~انتهى، وقد حظرت السيكولوجيات الجديدة هذا النوع من التحليل.» # 32 # لقد حدد بارت مساره التحليلي من خلال التعامل مع الداخل النصي على حساب الخارج ~~السياقي، بقصد الكشف الدلالي عن فضاءات المعنى التي لا تظلها سحب المؤلف، أو تكدرها غيوم ~~ثقافته وبيئته؛ «إن التحليل البنيوي لا يهدف إلى تأويل النص تأويلا باطنيا نحو حقيقة النص، ~~نحو بنيته العميقة، نحو سره؛ وهو نتيجة لذلك يختلف أساسا عما يسمى النقد الأدبي التأويلي من ~~النوع الماركسي والفرويدي؛ فالتحليل البنيوي ms112 يختلف عن تلك الأنواع النقدية التي تهدف إلى ~~بلوغ السر المقدس للنص. وبالنسبة له كل جذور النص ظاهرة للعيان، وليس عليه أن يكشف عن هذه ~~الجذور ليعرف الرئيس منها.» # 33 # لقد وجد بارت «أن ميلاد القارئ رهين بإعلان موت المؤلف.» # 34 # وللقارئ الحرية الكاملة في تأويل النصوص حتى لو جاوز البنية الدلالية الواضحة ~~للنص. ولذلك فإن وظيفة القارئ إغلاق النص دون ذات المؤلف وانفتاحه على موضوعه وفضائه ~~الدلالي. لقد عبر فلوبير # Flaubert ~~(1821-1880م) عن هذا قائلا: «كل ما أريد أن أفعله هو أن ~~أنتج كتابا جميلا حول لا شيء، وغير مترابط إلا مع نفسه وليس مع عوالم خارجية.» # 35 # على أن الكاتب - في رأي بارت - لا بد أن يساهم في جعل عملية القراءة مثمرة، ويتم ذلك عن ~~طريقين: الأول؛ ألا يقدم نصا مغلقا محملا بالأحكام القاطعة، ذاخرا بالنتائج النهائية، ~~والتي عادة ما تقوم على وهم مبناه أن المؤلف يمتلك اليقين، ويعرف الحقيقة المطلقة. وأن يقوم ~~على العكس من ذلك بتقديم نص مفتوح. ومعيار انفتاح النص عند بارت هو الغموض والالتباس ~~والإيحاء بالمعنى دون تحديده؛ لهذا يتحدث بارت عن عدم القابلية للقراءة # illisibilité ~~، ولا ~~يعني هذا المصطلح عنده استحالة القراءة، بل هو وصف للنصوص التي لا تقبل قراءة واحدة؛ أي ~~النصوص اللامنغلقة «إنني لأتصور أن القصة المقروءة هي تلك التي نعلن بعد قراءتنا لها أنها ~~لا تقرأ.» # 36 # والطريق الثاني، ألا يتدخل الكاتب في عملية القراءة بأي صورة من الصور كأن يؤيد ~~وجهة نظر على أخرى أو معنى على معنى آخر، أو يقول «لست أقصد هذا بالضبط» أو «لقد أسأتم فهم ~~مقصدي» ... إلخ. هذا التدخل كفيل بإفساد عملية القراءة وتحويل مسارها التعددي. يقول ~~أمبرطو إيكو # U. Eco ~~(1932-2016م) معبرا بوضوح عن هذا المعنى: «... ففي نص لكانط لا يمكن القول إنه ~~استخدم كلمة ما ليوحي بفكرة ما؛ فهو يفرض فكرة واحدة وفكرة واحدة لا غير. أما بخصوص النص ~~الأدبي، كنصوص بروست على سبيل المثال، فإننا إذا بحثنا عن الهدف وراء استخدام النص لكلمة ~~ما، وتوصلنا لاستنتاج محدد، ثم سألنا الأديب ms113 عن صحة استنتاجنا هذا، لكان جوابه، إذا ما كان ~~أمينا: ربما، أنا لا أدري، قد يكون الأمر صحيحا أو خاطئا لكن التأويلين صحيحان ... إن غاية كل ~~فيلسوف الوصول إلى صياغات شبه رياضية. وبعكس ذلك إن حلم الأديب هو أن يحيط الكلمات بهالة من ~~الغموض، ليس ذلك جريا وراء الغموض، بل لأن دوره يتمثل في تصوير كيف أن كل عاطفة وكل حالة هي ~~متناقضة وغامضة. فإذا ما قرأنا الخلاصة اللاهوتية للقديس توما الأكويني وجدنا أن الله خير ~~والشيطان شرير وانتهى الأمر. لكن لنقرأ الفردوس المفقود لملتون ولنطرح السؤال: هل الشيطان ~~شرير؟ ليس هذا أكيدا، يجب التعمق في المسألة. وإذا ما طلبنا من ملتون مزيدا من التوضيح ~~سيجيبنا: لتقرءوا الخلاصة اللاهوتية.» # 37 # يفرق إيكو هنا بين أسلوبين للكتابة: الأسلوب الفلسفي الذي يتخذ من الصياغات الرياضية هدفا ~~له؛ أسلوب ينشد الوضوح والتميز، يخاطب العقل، يسعى لتحديد المعنى وحصره في أضيق حدود ممكنة. ~~وهذا الأسلوب هو المتبع في الكتابة الفلسفية على مختلف العصور، فهو ذاته الأسلوب الذي عبر ~~به ديكارت وكانط وهيجل ومن قبلهم أفلاطون وأرسطو. هناك بالطبع استثناءات لبعض الفلاسفة ~~الذين حاولوا التعبير بأسلوب مختلف يقع على التخوم بين الأسلوب الفلسفي والأدبي، غير أن هذه ~~المحاولات ليست سوى محاولات فردية وتظل الغلبة في النهاية لأسلوب التعبير الصارم الذي ينشد ~~الدقة ويهدف إلى الوضوح والتميز. أما الأسلوب الثاني فهو الأسلوب الفني الذي يعمد الالتباس ~~والغموض، ولا يقدم المعاني الجاهزة المباشرة، بل يستفز ملكة التأويل لدى المتلقي ويشحذ ~~قدراته النقدية. جاء بارت إذا ليقول إن النص أنتج في مكان وزمان مجردين، وإن الفنان ما إن ~~يضع فرشاته أو قلمه وينتهي من عمله، فإن مهمته قد انتهت. وبالتالي لن يفيدني كثيرا أن أقرأ ~~اسم المؤلف على الكتاب. ينتهي دور المؤلف ويكون من باب الخيانة أن يقوم بترجيح تفسير على ~~تفسير آخر. # والعمل الفني ما إن يتحرر من منتجه يعتبر بنية مستقلة عنه لها عالمها الخاص. ويعبر هارولد ~~بنتر عن هذا المعنى قائلا: «أحيانا يقول لي المخرج أثناء ms114 جلسات التحضير للعمل: «لماذا تقول ~~هذه المرأة تلك العبارة؟» فأجيبه: «انتظر لحظة حتى أرجع إلى النص.» وهكذا أعود إلى النص ~~وربما أقول «إنها تقول ذلك لأن ذلك الرجل قال تلك العبارة قبل صفحتين» أو أقول «لأنها تعبر ~~عما تشعر به، أو لأنها تشعر بشيء آخر ولذلك تقول هذه العبارة، أو أقول لا أعرف السبب على ~~الإطلاق ولكن علينا أن نعرف بطريقة ما».» # 38 # ثمة صراع دائم بين المؤلف ونصه، وهذا الصراع يحسمه النص في نهاية الأمر «فإذا ~~وضع الكاتب مخططا هندسيا لشخصياته، وحافظ على التزامه به بصرامة، ولم يتح لها في أي وقت أن ~~تفسد خططه، ونجح في السيطرة التامة عليها، فإنه يكون أيضا قد قتلها، أو بالأحرى أنهى ~~ميلادها، فأصبحت بين يديه مسرحية ميتة.» # 39 # فهل على القارئ إذا أن يتبع المنتصر أم المهزوم؟ النص أم المؤلف؟ # كان بارت عاشقا للنص كتب «لذة النص» و«خطاب عاشق»، وكان عليه أن يقتل غريمه (المؤلف) حتى يصل ~~إلى مبتغاه (النص). وقد ميز بارت بين «اللذة» Plaisir # و«المتعة» # Jouissance # ويقترح أن نكافح ~~لتحقيق الأولى «المتعة معيارها الزوال أما اللذة فهي إلى الدوام أقرب.» # 40 # وبحسب هويسنز فإن بارت هنا يعيد تأسيس التقسيمات الحداثية والبرجوازية الأكثر ~~سخافة «فهناك المتع الأدنى لعامة الجمهور؛ أي ثقافة الجماهير، وهناك لذة أخرى أعلى للنص، ~~لذة البهجة»، وهي عودة أخرى إلى تراتبية الحداثة (الأعلى/الأدنى). # 41 # لقد بدأ بارت بمفهومين أساسين هما اللغة والأسلوب؛ فاللغة أفق اجتماعي، وعلى الكاتب أن يظل ~~ضمن حدودها لو أراد التواصل مع الآخرين. أما الأسلوب فهو البعد الرئيس المميز لكل كاتب ~~عظيم، إنه شيء شديد الخصوصية، وحتى لو كان محكوما بدوافع فطرية، فليس له طابع اجتماعي. كما ~~أنه ذو طابع مجرد لا يختلط برغبات الشخص المشكلة تاريخيا. ويلعب هذان المحوران دورا أساسيا ~~عند بارت؛ حيث يضفي عليهما قيما محددة بالحرية والالتزام. # 42 ~~(1-6) العمل الأدبي المفتوح أو الفوضى الخلاقة للعلامات # يصف بارت في الدرجة صفر للكتابة # Le Degré zéro de l’écriture ~~(1972م) الكتابة بأنها «فوضى ~~تنثال عبر الكلمات وتمنحها هذه الحركة التي لا تظل على ms115 حال أبدا ... فهي، أي الكتابة، تتطور ~~ولا تسير أبدا بطريقة خطية، كما لا يمكن توقع ما سينتج عنها.» # 43 # فهل هذه صيغة أخرى لمفهوم الفوضى الخلاقة الذي انتقل من المجال العلمي إلى ~~المجال الثقافي ومنه إلى المجال السياسي؟ ليس ثمة إجابة بطبيعة الحال عن هذا السؤال، لكن من ~~المؤكد أن العديد من المفاهيم والمقولات التي يتم ترديدها في المجال العام لها أصولها ~~النظرية والعلمية الواضحة. # 44 # ما هو تصور بارت لطبيعة العمل الأدبي ؟ وهل كان يهدف من تحليله الإجرائي للنصوص القيام ~~بجهد تأويلي يهدف إلى ترسيخ أحد مستويات المعنى داخل النص؟ كان بارت دائم الإشارة في ~~مؤلفاته إلى أن تحليله لا يهدف أبدا لإثبات المعنى «الواحد والوحيد» للنص، بل هو في الأصل ~~لا يحاول إثبات «أحد» معاني النص؛ إنه يختلف أساسا عن التحليلات اللغوية الأخرى التي تروم ~~التحديد والمعنى، إنه تحليل يهدف إلى رسم «الموقع الهندسي»؛ أي موقع المعاني، موقع ممكنات ~~النص. فكما أن لغة من اللغات هي ممكن الأقوال (اللغة هي الموقع الممكن لعدد لا نهائي من ~~الأقوال)، فإن هدف المحلل هو مواقع إمكان المعاني، أو تعدد المعنى أو المعنى باعتباره ~~متعددا «ليس ثمة اختيار هنا أو محاولة الظهور بمظهر الليبرالي في التعامل مع النصوص؛ ~~فالمعنى بالنسبة لي ليس إمكانا، وليس أحد الممكنات، إنه كينونة الممكن ذاتها، كينونة التعدد.» # 45 # إن العمل على معنى أو معان للنص، وفقا لبارت، لا بد أن ينطلق من قاعدة فينومينولوجية؛ فلا ~~توجد آلة لقراءة المعنى، وليس ثمة خطوات منهجية تفضي إلى نتيجة واحدة. لهذا رفض بارت وصف ~~مقاربته للنص بالمنهج، وفضل استخدام كلمة إجراءات لقراءة النص «فالتحليل البنيوي للسرد ليس ~~فرعا من فروع المعرفة، كالبيولوجيا وعلم الاجتماع؛ فهو لا يمتلك قواعد صارمة تشكل نظاما ما. ~~كما أن قراءة باحث ما لا تشكل إلزاما لباحث آخر، وليس بإمكان قارئ أن يتحدث باسم قارئ آخر. ~~ومن جهة أخرى يظل البحث الفردي على مستوى كل باحث في حالة من الصيرورة؛ إذ إن لكل باحث ~~تاريخه الخاص، وليس ثمة وصفة ms116 جاهزة للتعامل مع النص.» # 46 # ما هو المعنى إذا داخل النص؟ يقول بارت: «إننا لا نبحث عن مدلولات نعتبرها نافذة، أي ~~مدلولات معجمية، ومعان حسب المفهوم الشائع للكلمة ... إن المعنى ليس مدلولا تاما، كما قد ~~يكون في المعجم، إنه نظام من الترابط المتبادل، نظام من الاقتباس اللانهائي.» # 47 # أحد أهم الأفكار التي قدمها بارت تأكيده على أن النص الأدبي، من حيث كينونته، متعدد ~~المعاني، بمعنى أنه يخضع لشتى التأويلات المتباينة. ويفسر بارت ذلك بأن المعنى الخاص للنص ~~يكون فارغا «المعنى الثانوي للأدب غير ثابت، فارغ، بغض النظر عن أن النص يعمل كدال لهذا ~~المعنى الفارغ.» # 48 # وهذا هو المقصود بالدرجة صفر؛ أي درجة اللامعنى، درجة كل الاحتمالات الممكنة. ~~فالدوال متحررة من كل ما يقيدها؛ ولذا فهي لا تعني شيئا، ومن الممكن أن تعني كل شيء. # لا يهدف علم الأدب إلى «تعليمنا ما هو المعنى الذي ينبغي أن نطرحه في العمل، لا يتعين على ~~علم الأدب أن يطرح أو يكشف أي معنى كان، وإنما مهمته وصف المنطق الذي ولد الدلالة.» # 49 # المهمة الأولى يعمل عليها النقد الأدبي، وهو ليس علما وإنما ممارسة عملية، لكن ~~النقد الأدبي يظل دائما وحيد الجانب؛ لأنه ينتقي من بين عدد كبير من الدلالات الممكنة معنى ~~واحدا. عندما يكون معنى أي نتاج «فارغا» دائما، فمن الجلي أن القارئ يمنح تفسيره للعمل، ~~مستخدما في ذلك منظومة محددة من المفاهيم التي تشكل في كليتها شفرة ما، على سبيل المثال، ~~يمكننا أن نفسر هذا النص حسب المشروع الثقافي/التاريخي؛ أي نضعه في عداد مؤلفات العهود ~~السابقة؛ في هذه الحالة فإننا نستخدم إحدى الشفرات «الثقافية» الممكنة. لكن، يمكننا أن ~~نقارب هذا النص بشكل آخر، كأن نستخدم شفرة التحليل النفسي، ويمكننا استخدام شفرات أخرى ~~كثيرة، وعندئذ نحصل على تفسيرات متباينة عديدة. لكن، ما هو التفسير الأكثر صحة ودقة؟ وفقا ~~لبارت فإن مثل التساؤل بلا معنى؛ ذلك لأن النص المتعدد الدلالات، طبقا لتعريفه، يمكن أن ~~يتقبل جميع هذه التفسيرات جيدا وبالتساوي «فأنا لست ذاتا بريئة تتواجد قبل ms117 النص وتتعامل ~~معه كشيء يمكن تنقيته، أو كحيز شاغر ينبغي ملؤه. أنا الذي ألج النص الذي يشكل عددا من ~~النصوص الأخرى ذات الشفرات التي لا تنتهي ... النص الذي تضيع بدايته ...» # 50 # تعددية المعاني لا تشكل - حسب رأي بارت - الجوهر الأساسي للأدب فحسب، وإنما هي المعيار ~~الوحيد للقيمة الجمالية للعمل. فالأدب العظيم هو ذلك الذي يصارع وبدون هوادة إغواء المعنى ~~الواحد. ومن ناحية أخرى فإن انفتاح العمل يعني أن القراءة ستتحول إلى عمل إبداعي، ليصبح ~~القارئ مبدعا مشاركا في النص؛ بمعنى أنه يشارك في إنجاز ما تركه الكاتب «مفتوحا». وهذه ~~المشاركة تحقق ما يمكن أن نطلق عليه «اللذة الجمالية». فتعدد المعاني يهب اللذة للقارئ، ~~والعكس أيضا، فإن تأطير النص ليس سوى تقييد لتلك اللذة «فلذة القارئ تبدأ عندما يكون منتجا؛ ~~أي عندما يسمح له النص أن يقوم بتشكيل قدراته الخاصة.» # 51 # واستثمارا لهذا الطرح الذي قدمه بارت، طور التفكيكيون، وعلى رأسهم جاك دريدا، مبدأ انتفاء ~~قصدية المؤلف، إلى فوضى التفسير المتمرد على فضاء التأويل «فقصد المؤلف غير موجود في النص، ~~والنص نفسه لا وجود له، وفي وجود ذلك الفراغ الجديد الذي جاء مع موت المؤلف وغياب النص تصبح ~~قراءة القارئ هي الحضور الوحيد، لا يوجد نص مغلق ولا قراءة نهائية، بل توجد نصوص بعدد قراء ~~النص الواحد، ومن ثم تصبح كل قراءة نصا جديدا مبدعا.» # 52 # وهكذا انتقل نقاد التفكيك من رفض تصور بارت لفكرة اكتمال المعنى، إلى قدرة ~~القارئ على تحقيق المعنى الذي يراه في رؤى لا نهائية عند كل قراءة جديدة للنصوص. # في أعماله المتأخرة، مثل # S/Z # ومقالات نقدية جديدة # Nouveaux essais critiques ~~، يتجاوز بارت ~~مفهوم البنية، الذي انطلق منه في مؤلفاته المبكرة، ليقترب أكثر من التفكيك. وهو يعترف صراحة ~~أن أعمال جاك دريدا هي التطبيق العميق لتصوره عن تعددية المعنى وارتحاله المستمر. # 53 # يتحول بارت من البنية إلى التفكيك. فإقراره بأن النص الأدبي متعدد المعاني في ~~كينونته، يترتب عليه استحالة أن يمتلك النص بنية؛ فهو لا يمكن أن يكون شيئا آخر سوى كونه ~~غير مكتمل، كما ms118 لن يتحقق اكتماله مستقبلا؛ «فكل عنصر يكتسي دلالة متوالية لا تتوقف، ولا يعود ~~بنا في المحطة الأخيرة إلى أية بنية.» # 54 # وعليه، فإن بارت يهدم البنية، لدى تحليله لقصة «ساراسين» # Sarrasine ~~، # 55 # ويحولها إلى خليط غير متشكل من الوحدات النصية المصغرة. # لكن هل يمكن بالفعل فصل العمل الأدبي، والفني على وجه العموم، عن المحيط الاجتماعي ~~والثقافي السائد في المجتمع والتعامل معه على مستوى الألفاظ والدلالات اللغوية فقط؟ وما ~~قيمة البناء اللغوي إذا كان لا يحيل إلا إلى ذاته؟ يبدو أن هذا ما لم يكن بارت يقصده. فقد ~~كان هدف بارت الرئيس ألا يتم التعامل مع النص الأدبي بفروض مسبقة عن الكاتب والمؤلف وعدم ~~اتخاذ مواقف نفسية من المؤلف قبل الدخول إلى عالمه. إن الفرضية المسبقة تعني أن القارئ لديه ~~فكرة ما يحاول إثباتها والتحقق منها من خلال تعامله مع النص الأدبي، هي أشبه بالنتيجة التي ~~يحاول أن يستقي مقدماتها من داخل العمل، وهذا يفضي في النهاية إلى قراءة أحادية للنص تزعم ~~امتلاك حقيقته واكتشاف غاياته، وهذا الفهم نابع من تصور مؤداه أن ثمة حقيقة كامنة وراء ~~النص، وتلك الحقيقة مرتبطة، في الأغلب، بحياة المؤلف أو الإطار الثقافي الذي أبدع فيه ~~مؤلفه. هذا الفهم للنص الأدبي وطريقة التعامل معه هو ما جاء بارت ليناهضه من خلال مقولته عن ~~موت المؤلف. فالنص بنية مستقلة بذاته، ودلالته ليست مسبقة بل هي لاحقة، وبالتالي فهو لا ~~يشير إلى الماضي بل إلى المستقبل. وبمجرد أن ينتج النص فإنه يترك مداره الخاص وسياقه ~~المرتبط بنشأته، حتى يدخل في مدار آخر وسياق مختلف تماما. هذا السياق الجديد هو سياق النصوص ~~الأخرى السابقة عليه والمتزامنة معه، وهذا السياق هو الذي لا بد أن يتعامل معه القارئ دون أن ~~يحاول نزعه منه. ولا يعني ذلك أن الوقوف عند حدود الألفاظ والدوال هو المبتغى النهائي ~~للقارئ؛ إذ إن أطروحة بارت تقطع الطريق أمام الفروض المسبقة التي يدخل بها القارئ على النص ~~لكنها لا تلغي الدلالات المختلفة للعمل الأدبي؛ فالنص قد يكشف عن أبعاد ms119 مختلفة مرتبطة ~~بالواقع والمجتمع، لكن هذه الأبعاد لا بد من بنائها واكتشافها داخل النص وليس بصورة مسبقة أو ~~على شكل افتراضات سابقة يسعى القارئ لإثباتها عبر قراءته. # إحدى النتائج المهمة المترتبة على هذا الأمر أن العمل الأدبي سيتحول إلى عمل مفتوح على ~~قراءات لا نهائية وغير محدودة؛ إذ ليس ثمة حقيقة ثابتة ومسبقة يحيل إليها العمل، وبالتالي ~~يفقد العمل دلالته ومستوياته التأويلية، بل إن العمل وقد تحرر من مداره الخاص وظروف نشأته ~~لينتقل إلى مدار آخر هو مدار الافتراضي والممكن والمتخيل، وبالتالي ساحة للتأويلات ~~والقراءات اللامحدودة. ~~(1-7) التناص والعود الأبدي للنصوص # هل العمل الفني نتاج عبقرية الفنان وملكته الخلاقة؟ كما كان لأطروحة موت المؤلف صداها ~~الواسع على مفهوم التلقي الجمالي كان لها بالمثل صداها على مفهوم الإبداع. وعلى الرغم من أن ~~بارت لم يكن يعنيه مقاربة هذه القضية بطريقة مباشرة، إلا أن شبكة الاصطلاحات التي صاغها ~~يمكن أن تقدم لنا تفسيرا لآلية إنتاج العمل الفني وفقا لتصوره. # إن تعددية معاني النص وحيويتها تفترض فهما خاصا للعملية الإبداعية. ووفقا لرأي بارت، فإن ~~من الخطأ أن نظن أن الكاتب ينطلق من أية أفكار فلسفية أو أخلاقية أو سياسية أو اجتماعية، ~~يسعى من خلال وسائل الفن أن يجسدها في نتاجه. فإذا تنازعت الكاتب أية أفكار تمهيدية أولية، ~~سيغدو العمل ذا بعد واحد فقط. ولما كان بارت يعتبر العمل الفني متعدد المعاني، فإنه مضطر، ~~انطلاقا من منطقه الخاص هذا، أن يسلم بأن الكاتب يبدع بصورة متحررة وبدون قصد تمهيدي. وهذا ~~ما كان يعنيه بارت بانتفاء قصدية المؤلف؛ فالمؤلف، كما القارئ، لا يمتلك افتراضات مسبقة قبل ~~الشروع في عمله. تتكون العملية الإبداعية - حسب بارت - من فعلين أساسيين: تفريد العالم إلى ~~جزئيات # Dàcoupage ~~، # Agencement # ودمج هذه الجزئيات، هذان الفعلان هما المحددان للعملية ~~الإبداعية بشكل عام، وهما ذاتهما المحددان لعملية القراءة ذاتها. # 56 # لقد ارتبطت أطروحة «موت المؤلف» عند بارت بفكرة أخرى أشار إليها ضمنا في مؤلفاته عندما ~~وصف عملية الكتابة بأنها «امتزاج للكتابات»، وأن معنى النص «ما هو إلا تعددية ms120 لنظمه، ~~وقابليتها اللامتناهية (الدائرية) للنسخ.» # 57 # وهو الوصف الذي أعطته جوليا كريستيفا # J. Kristeva ~~(1941-...م) مصطلح ~~«التناص» # Intertextualité ~~، وأقره بارت في حينه. # 58 # ويعني التناص أن أي نص في النهاية ما هو إلا تجميع واقتباس وتداخل مع نصوص ~~أخرى سبقته؛ «فالكاتب لا يستطيع إلا أن يحاكي حركة سابقة له على الدوام، دون أن تكون هذه ~~الحركة في الأساس أصلية.» # 59 # ويوضح شلوفسكي هذا بقوله: «كلما سلطت الضوء على حقبة ما، ازددت اقتناعا بأن ~~الصور التي تعتبرها من ابتكار الشاعر إنما استعارها هذا الشاعر من شعراء آخرين وبدون تغيير تقريبا.» # 60 # فلا يوجد نص أصلي، إنما النص هو تلاق بين النصوص، وكل نص هو امتصاص وتحويل لنص ~~آخر. وفي ضوء ذلك، يكون هدف التفكيك - بحسب دريدا - البحث عن نص داخل نص آخر، وإحالة نص على ~~نص، وبناء نص من نص آخر ... إلخ. # إن التناص نتيجة طبيعية أيضا لموت المؤلف؛ فالنصوص هي التي تفسر بعضها، ومن ثم وجب إبعاد ~~العوامل الخارجية عن النص؛ فالسياق الخارجي لا يمكن أن يحدد علاقات النص ودلالته؛ لأن النص ~~قد تجاوز هذا الخارجي وتحرر عنه واستقل عنه بوجود جديد، ينبني عليه عالم جديد. # 61 # والتناص كآلية لعمل النصوص تقضي تماما على مفهوم التمثيل # Representation # الذي كان سائدا ~~في الفكر الغربي؛ والذي كان يحدد علاقة الفنان بعالمه بوصفها تمثيلا يعاد إنتاجه في العمل ~~الفني. كما يجهز على نظرية المحاكاة؛ التي تعني أن الفنان يحاكي تجاربه السابقة في الحياة ~~أو واقعه الاجتماعي والسياسي. فالعمل الفني، وفقا لمفهوم التناص، ما هو إلا خليط ومزج ~~لأعمال سابقة وثقافات مختلفة، وعلى المتلقي أن يكتشف تلك الأعمال، ليبدع فهمه الخاص. # لقد كان بارت دائم التأكيد في مؤلفاته على أن تحليله للعمل الأدبي يهدف إلى تفجير الوحدة ~~والانغلاق داخل النص للكشف عن الطريقة التي بها يعمل، فنسيج النص يتشكل عبر تضافر عدد من ~~الأنساق وتشابكها معا. لكن ما هو النسق؟ # إنه مجموع الإحالات والاقتباسات والبناء الرمزي الذي يمنح النص مظهر الانسجام والاتساق، ~~إنه منطلق لبنيات أخرى ونصوص مغايرة؛ أي أن النص ليس كيانا ms121 متفردا مبتكرا لا نظير له، حسب ~~المفهوم الرومانسي التقليدي للإبداع، بل إنه يتشكل مما يسميه بارت «ما سلف»؛ أي ما سلف ~~قراءته وكتابته ومشاهدته؛ أي النص المجتمعي والثقافي. # 62 # إن التناص هنا يتسع ليشمل كينونة النص ذاته، إنه ماهيته، إذا كان ثمة ما يمكن ~~أن يطلق عليه ماهية في فكر بارت. # لم يكن هدف بارت إذا البحث عن بنية النص ولا عن معناه النهائي، أو المدلول الأخير (فهذا ~~شأن القراءات التأويلية)، بل كان بحثه منصبا على محاولة اكتشاف تلك الحركة الدائبة التي ~~تكون النص وتفتحه على تفاعل مستمر مع النصوص الأخرى ومع الأنساق الثقافية. وإحدى مهام ~~الناقد اكتشاف هذه المسارات داخل العمل، وعليه أن يحذر في تلك العملية من الوقوع في فخ ~~التحديد؛ أي محاولة اكتشاف المحددات الخارجية في التحليل النصي واختزاله في مسارات ينظر ~~إليها بوصفها «محددات للهوية» كما هو الحال في المنهج التاريخي أو المناهج الاجتماعية ~~والنفسانية التي تجعل من النص فضاء لاكتشاف حقيقة تتجاوزه أو حتى تتجلى فيه. # إن التحليل النصي يقدم المادة الخام للمناهج النقدية المختلفة. وبالتالي فعملية التحليل ~~تنتج نصا جديدا، هو النص الواصف للنص موضوع التحليل، وهذا الأخير ما هو إلا نص تأليفي ~~لنصوص أخرى هي بدورها تجميع لأخرى ... إلخ. إنها تلك الحركة الدائرية التي لا تنتهي، أو ~~لكأنها التطبيق العملي لمفهوم العود الأبدي الذي أعاد نيتشه إحياءه في القرن التاسع عشر ~~«فالمعنى يعود كاختلاف، كما يقول نيتشه، وليس كتطابق وهوية.» # 63 # والكتابة، بصفة عامة، عملية مقطعية تنبذ الاستمرار والتواصل، وتقضي على الزمان ~~كتواصل، وتهاب الامتلاء والتحقق. كتابة تقحم الزمان داخل النص ذاته. لكنه ليس زمان ~~الميتافيزيقا، ليس زمان الحاضر المتحرك، بل زمان العود الأبدي، إنها كتابة بدون ذات، لكنها ~~كتابة غنية «بالصمت الذي يتخلل خطابها، والنقص الذي يعوز مفاهيمها، والبياض الذي يتسلل إلى ~~سواد كتابتها الدقيقة.» # 64 # لكن كيف للناقد بعد ذلك أن يقدم نصا موازيا للنص موضوع القراءة؟ يرد بارت على هذا التساؤل ~~قائلا: «إن تلك الذات التي تقترب من النص هي نفسها مشكلة سلفا ms122 من نصوص أخرى متعددة، وأنساق ~~لا نهائية. والقراءة هنا ليست فعلا عرضيا على كتابة تمنحها كل امتيازات الإبداع والأولوية، ~~بل هي في الأساس نص مواز لا يقل من حيث الدرجة عن النص المقروء.» # 65 # فعملية القراءة لا تهدف إلى مجرد تقديم تفسير للعمل أو بحث عن الآليات التي ~~تعمل علاماته وفقا لها، بل تقديم نص مواز للنص المقروء يصبح بدوره هو نصا مقروءا. يتساءل بارت: ~~«ألم يصادفكم قط، وأنتم تقرءون كتابا، أن توقفتم مرارا عن القراءة، ليس لأنكم لا تهتمون بما ~~تقرءون، ولكن بسبب دفق الأفكار، وشدة الإثارة، وكثرة التداعيات؟ باختصار، ألم يصادف أن ~~قرأتم وأنتم للرأس رافعون؟» ليرد: «إن هذه القراءة بالذات التي تتصف في وقت واحد بقلة ~~الاحترام لأنها تقطع النص، وبالافتتان لأنها تعود إليه وتتغذى منه، هي التي أحاول أن ~~أكتبها. ولكي أكتبها، ولكي تصبح قراءتي بدورها موضوعا لقراءة جديدة (مثل # S/Z ~~) # 66 # كان علي أن أشرع بتنسيق كل هذه اللحظات التي يرفع المرء فيها رأسه.» # 67 # كان آلان روب جرييه # A. Robbe-Grillet ~~(1922-2008م) من الكتاب الذين يعود إليهم بارت في ~~مواضع عديدة من مؤلفاته. وكانت أعماله موضعا لإعجاب بارت الذي وصفها بأنها تمثيل «معكوس» ~~للكتابة الشعرية؛ فهي «لا تحاول النفاذ للأشياء، بل تبقى على سطحها تتأملها بحيادية.» # 68 # ومن خلال مناقشات بارت لروب جرييه، استخلص بارت أمرين مهمين؛ فهناك أولا ~~الزعم بأن الكلمات، وبالتالي الأعمال، لا تكتسب المعنى إلا بالارتباط بالتقاليد الخطابية ~~وبعادات القراءة، وهو ما يتوجب على المرء دراسته إن كان يسعى إلى دراسة البنية الأدبية. ~~وبالتالي يكتسب القارئ أهميته بوصفه وعاء لهذه التقاليد، وعاملا لتطبيقها. يقول بارت إن ~~القارئ هو «الأنا التي تقارب النص، وهي في ذاتها مجموعة نصوص أخرى، وشفرات لا نهاية لها أو ~~مفقودة (أصلها مفقود) ... إن الذاتية متصورة في العموم على أنها تشمل وفرة من النصوص، ~~والحقيقة أن هذه الوفرة المصطنعة ليست سوى صحوة لجميع الشفرات التي تكونني.» # 69 # أما ثانيا فتتمثل في أن الأدب الأكثر قيمة هو ذلك الذي يمرس القارئ بعنف، ~~ويتحداه ويجتذب انتباهه، بهدف تنظيم نشاط ms123 القراءة نفسه «الحكم على العمل الأدبي، إذا جاز ~~ذلك، يكون من خلال قدرته على تحويل القارئ من مستهلك إلى منتج للنص.» # 70 # لقد اعتمد بارت على ظهور القارئ كشخصية محورية في النقد، وإذا كان - كما يقول ~~بارت - ميلاد القارئ لا يتحقق إلا بموت المؤلف، والذي لم يعد هو مصدر المعنى، فإنه على ~~استعداد لدفع مثل هذا الثمن، ثمن قتل المؤلف. # 71 # أخيرا، فإن إحدى النتائج الهامة التي يمكن استخلاصها من موقف بارت، خاصة في أعماله ~~المتأخرة، بخصوص النص ودور المؤلف والقارئ، أنه في الوقت الذي كانت ترى فيه البنيوية ~~التقليدية أن الحقيقة قائمة وراء نص ما أو داخله، فإن بنيوية بارت المتأخرة، إذا جاز وصفها ~~بالبنيوية، تبرز أهمية التفاعل بين القارئ والنص في إنتاج الدلالة العامة لأي نص؛ وهكذا ~~أصبحت القراءة إنجازا مبدعا لا يقل أهمية عن عملية الكتابة ذاتها. ~~(1-8) موت المؤلف وجماليات التلقي # كان لأطروحة بارت تأثير كبير على الجماليات بوجه عام وعلى حركة النقد الأدبي على وجه ~~التحديد، خاصة فيما أصبح معروفا الآن بجماليات التلقي. ولعل أهم النتائج التي ترتبت على ~~إعلان بارت موت المؤلف تمثلت في تحرير الفكر النقدي من سلطة الذات ومرجعيتها، وجعل العمل ~~الفني هو المرجعية الوحيدة للناقد، هو المتحدث الأول والأخير. # من بين النتائج العديدة التي نتجت عن إعلان بارت موت المؤلف، والتي كان لها تأثير كبير ~~على نظرية التلقي في نهايات القرن العشرين: ~~(1) # لم يعد العمل الفني موضعا لتسجيل الحدث أو مجالا للتعبير أو انعكاسا وجدانيا. لقد أصبح ~~التعبير الجمالي حالة من حالات التمثيل الخالص للمتلقي. وهنا يمكن القول إن نظرية المحاكاة ~~الكلاسيكية قد ذهبت بلا رجعة؛ إذ لم يعد الفن مرآة تعكس ما هو موجود في الحياة سلفا، كما لم ~~يعد الفن انعكاسا لحياة الفنان وتجاربه. لقد غدا العمل الفني متحررا من كل مرجعية سوى ~~مرجعية ذاته. يموت المؤلف ويتحول التاريخ والموروث إلى نصوص متداخلة، ويتم الاحتفال بمولد ~~القارئ. ~~(2) # تحرر العمل الفني من سيطرة التفسير الأحادي الذي كان مسيطرا على الاتجاهات النقدية ~~الكلاسيكية؛ فالعمل ms124 الفني ليس إطارا أو شكلا يملؤه الفنان بمعنى ثابت وسرمدي، بل بنية ~~دلالية افتراضية، محققة من طرف المتلقين المتعاقبين عليه. لقد صار العمل الفني ميدانا ~~للعلامات التي تتفجر إلى ما هو أبعد من المعاني الثابتة، إلى المعاني اللانهائية التي تتحرك ~~منتشرة فوق العمل مخترقة كل الحواجز؛ وهذا ما كان يعنيه بارت بالانتشار # Dissemination ~~. ~~(3) # ليس المعنى هو ذلك المعنى الجاهز المختبئ داخل العمل الفني، بل هو ذلك الذي ينشأ نتيجة ~~للتفاعل بين العمل والمتلقي ؛ أي بوصفه عملا يمكن ممارسته واكتشافه من جديد، وليس موضوعا يمكن ~~تحديده والتقيد به. وبناء على ذلك، فإن قراءة العمل الفني لا تمثل إعادة وتكرارا للقراءات ~~السابقة، بل هي تحتضنها وتتجاوزها إلى قراءة إبداعية مغايرة وبديلة. ~~(4) # لا تعيش الأعمال الفنية منعزلة عن بعضها البعض، بل لها عالمها الافتراضي الذي تتقاطع ~~بداخله وتتداخل في علاقات منتجة. إن عالم الفن هو عالم التكرار والاختلاف، وميدان للعود ~~الأبدي، عودة المختلف. فالحبكات التي يتحرك فيها الفن هي في النهاية محدودة، وكذا موضوعاته، ~~لكن حركة التقاطعات التي تحدث بين الأعمال الفنية هي التي تنتج أعمالا لا نهائية. ~~(5) # لقد تم استثمار النتائج السابقة في صياغة نظرية أكثر تطورا على يد أمبرطو إيكو في ~~نظريته عن العلامات وتطبيقاته على فني الأدب والتصوير، ومن بعده مدرسة كونستانس # Konstanz # على يد رائديها هانز روبير ياوس # H. Robert Jauss ~~(1921-1997م)، وفولفجانج إيزر # W. Izer ~~(1926-2007م)، اللذين قاما بالتقريب بين الفينومينولوجيا، وخاصة فينومينولوجيا رومان ~~إنجاردن # R. Ingarden ~~(1893-1970م)، ونظرية القراءة، ليكون نتاج ذلك ما أطلقوا عليه جماليات ~~التلقي. وقد فتحت جماليات التلقي أفقا جديدة في الممارسة الفنية النقدية، بحيث حاولت أن ~~تتخفف من مركزية النص وسلطته التي رسخها بارت، ومن بعده التفكيكيون، لتؤكد على أن عملية ~~القراءة تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارئ، ومن القارئ إلى النص في إطار علاقة ~~تفاعلية. ~~(1-9) موت المؤلف ... هل ثمة ضرورة؟! # تعرضت أفكار بارت لانتقادات عديدة؛ فالبعض رأى # 72 # أنها استبدلت سلطة النص بسلطة المؤلف، استبدال مركز بمركز آخر. وقد دفعه هذا ~~الاحتفاء إلى نوع من التقديس الميتافيزيقي للنص «ليس وراء ms125 النص فاعل أو مسند إليه (كاتب) ~~وليس أمام النص مفعول به (قارئ)؛ لا فاعل ولا مفعول به، النص يجعل المواقع النحوية غير ذات صلاحية ...» # 73 # والبعض الآخر رأى أن إعلان بارت به نوع من الافتعال غير المبرر، وأنه لا يمكن ~~بحال تجاوز المؤلف، كما لا يمكن إلغاء السياق الثقافي والاجتماعي الذي يدور النص في فلكه. ~~كما أن بارت في تحليلاته اللغوية كانت تسيطر عليه، في بعض الأحيان، نزعة صوفية واضحة تجاه ~~النص، جعلت الكثير من تلك التحليلات يبدو غير مفهوم، ومواقفه تبدو متناقضة في الكثير من الأحيان. # 74 # وعلى الرغم من أن تحليلات بارت بالفعل كان لها الأثر الأهم في أن تخطو الجماليات خطوات ~~متقدمة في نهايات القرن العشرين، خاصة في مجال النقد الأدبي، إلا أن إعلان بارت موت المؤلف ~~لم يكن مقنعا بالدرجة الكافية، وأسقط النقد الأدبي فيما أطلق عليه بارت حتمية الشكل، والذي ~~ترتب عليه الاهتمام المفرط بالعلامات والدوال المستخدمة، وما تبع ذلك من الإغراق في ~~التجريد، وافتقاد الشاعرية في التحليل، وصعوبة اللغة المستخدمة. إن من مقتضيات تمام العملية ~~الإبداعية أن تكون هناك صلة نفسية ومعرفية بين أطرافها: المؤلف، النص، القارئ وذلك يتيح ~~«حرية للقارئ في إعادة بناء النص، وإذا انتفت المسافة النفسية افتقد القارئ القدرة على ~~ممارسة خبرة الإبداع في تذوق العمل الفني، وأضحى العمل الفني نوعا من التغييب للقارئ، ~~بينما تتيح المسافة النفسية أن يكون حضور القارئ مساويا لحضور المؤلف لكي يدير حوارا معه.» # 75 # فكيف يحدث ذلك إذا افترضنا موت أحد أطراف عملية الإبداع وهو المؤلف. # لقد ألغى إعلان بارت تأثير الذات الإنسانية الفاعلة، والتي هي حصيلة التفاعل العام ~~والشامل مع الوجود، وبذلك أصبح المنظور البنيوي للوجود لا علاقة له بكينونة الإنسان ~~التاريخية والاجتماعية، بل بالعلاقات اللغوية الشكلية التي تعتمد المنهج الجمالي المجرد ~~للأشياء التي تتشكل دلالاتها ذاتيا دون فعل الإنسان. # 76 # ورغم أن السيميوطيقا قد اعتمدت بصورة كبيرة على الإجراءات التي قدمها بارت إلا أن ~~السيميوطيقيون قد أدخلوا تعديلات جوهرية على رؤية بارت تسمح بتجاوز مقولته عن موت ms126 المؤلف، ~~وكذا مقولته عن لذة النص. # فالعمل الفني، كما يذهب إلى ذلك موكارفسكي، لا يمكن مساواته بأي شكل من الأشكال بالحالة ~~النفسية لمنشئه، ولا حتى للظروف الاجتماعية التي ظهر فيها. العمل الفني مستقل عن ذلك بالفعل. ~~غير أن الشيء الذي يمثل العمل الفني في عالم الواقع يظل قائما، وهو متاح لكل فرد كي يدركه ~~بدون قيد أو شرط. فلا بد أن تحيل العلامة إلى شيء ما. الفن علامة مستقلة خاصيتها الأساسية ~~قدرتها على أن تستخدم وسيطا بين أعضاء نفس الجماعة. وبالرغم من أن بعض العلامات لا تحيل إلى ~~شيء معين إلا أنها يمكن قراءتها من خلال السياق الكلي الذي ظهرت فيه؛ أي الظواهر الإنسانية ~~من فلسفة وسياسة ودين واقتصاد. وهذا هو السبب الذي يجعل الفن أكثر قدرة على تمييز عصر بعينه ~~وتمثيله دون غيره من الظواهر الاجتماعية الأخرى، وهذا يفسر أيضا السبب وراء اختلاط الفن ~~طوال تاريخه بتاريخ الثقافة، والعكس صحيح أيضا؛ فقد ذهب التاريخ العام إلى استعارة تقسيم ~~تاريخ الفن في تحديد الحقب الزمنية. وبالإضافة إلى ذلك يذهب موكارفسكي إلى رفض النظريات ~~الجمالية المبنية على الفرضية التي تقول إن غاية الفن هي اللذة. فالعمل الفني قد يولد لذة ~~ما تكتسب موضوعية نسبية باعتبارها «دلالة إضافية» كامنة في العمل الفني، ولكن يكون من الخطأ ~~إذا ما تم استخلاص نتيجة من ذلك مفادها أن هذه اللذة تكون جزءا لازما وضروريا من عملية ~~إدراك العمل الفني. فالفن ينزع في بعض مراحل تطوره إلى إثارة اللذة، غير أن هناك مراحل أخرى ~~لا تكترث باللذة كلية، بل تنحو إلى محوها وإثارة مشاعر مضادة لها. # 77 # وبعيدا عن السيميوطيقا نجد بيير بورديو Pierre Bourdieu ~~(1930-2002م) يتخذ موقفا ناقدا من ~~هذا الاتجاه، وهو بصدد تحليله لحقل الإنتاج الفني؛ فقد توصل بورديو في كتابه قوانين الفن ~~إلى صيغة معتدلة لا تنجرف وراء التحليلات النفسية والاجتماعية، وفي الوقت ذاته ترفض ~~القراءات الداخلية للأعمال الفنية التي تتجاوز الظروف التاريخية التي أنتجتها. فالعمل الفني ~~ليس مجرد تعبير عن عبقرية الفنان، ولا هو مجرد ms127 انعكاس للظروف الاجتماعية والنفسية له، بل ~~يتم إنتاجه من خلال الطابع الثقافي، الذي يعكس الأصل الاجتماعي والمسار الشخصي للفنان، وهو ~~حقل - فضاء منظم من الاحتمالات - يحوي شتى المذاهب والأساليب المتنافسة كما تتحدد الاحتمالات ~~ذاتها من قبل التطور التاريخي لذلك الحقل، فلا يوجد كاتب (أو فنان) يبتكر ببساطة أسلوبا ~~فنيا من عدم، بل هو يتخذ موقفه بناء على ما هو سائد من أنماط فنية وأساليب متبعة، فإما أن ~~يختار تكرار ما هو موجود، أو أخذ نوع فني قائم ودفعه إلى أقصاه. لذا فإن كل تصريح فني يحمل ~~بداخله موقفا ما من الأعمال القائمة والمواقف الماثلة في الحقل الفني، وتنوع المواقف التي ~~يستطيع أي فنان أن يتخذها في ضوء التاريخ السابق للحقل. وفي رأي بورديو، أن حقل الإنتاج ~~الفني هو عالم من الثورة الدائمة والتمرد على الأساليب القائمة، وأن تفسير هذه الثورة يحتاج ~~إلى فهم الحقل الثقافي بكافة مكوناته، خاصة أن هناك محددات تمارس تأثيرها على العمل الفني ~~وعلى طرق استقباله لا دخل للفنان بها، ومنها الظروف الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية. # 78 # من ناحية أخرى، ومن داخل البنيوية ذاتها نجد لوسيان جولدمان، رغم تأثره بأفكار بارت، كان ~~مدركا لخطورة الموقف الذي يقودهم إليه عزل المؤلف والسياق عن البنية اللغوية المكتفية ~~بذاتها. وقد دعا جولدمان إلى ربط البنية النصية الداخلية بحركة التاريخ الاجتماعي والسياق ~~الثقافي، ودمج بين أقانيم النص الثلاثة؛ الشكل والبنية والسياق، ورأى أن رؤية العالم تشكل ~~مع البنية ذات الدلالة وحدة متكاملة، وذلك يفترض الانتقال من رؤية سكونية يفرضها ثبات البنى ~~اللغوية إلى رؤية دينامية شاملة ومتماسكة حتى نستطيع الإحاطة بالنص من جميع زواياه. # 79 # إن عزل الخطاب الأدبي عن السياق التاريخي والثقافي للنصوص أدى إلى قصور في النقد ~~البنيوي، ولذلك نظر ميشال فوكو إلى الخطاب الأدبي بوصفه نشاطا إنسانيا إبداعيا مركزيا، ~~ولا يراه نصا عاما يزخر بالدلالات بمعزل عن السياق التاريخي الذي يقتضي تغيرا في الخطاب. # 80 # ومن منطلق مشابه يشير روبرت هولاب في كتابه نظرية التلقي، إلى أن كلا من المعنى والبناء ~~ينتجان ms128 من تفاعل القارئ مع النص، الذي يقارب العمل الفني بتوقعات دلالية مستمدة من المعارف ~~التراكمية المشتركة والسياقات الثقافية والاجتماعية المتداخلة، أو ما يسمى «أفق التوقعات»، ~~هذا الأفق بمثابة القواسم الدلالية المشتركة بين المؤلف والقارئ، وهو الذي يحكم حركة ~~المتناصات «إن التناص كالمؤلف تماما لا يكتسب وجوده إلا مع وعي المتلقي به، لنتصور مثلا ~~ما يحدث على مستوى الأفق الاستبدالي داخل النص من مفردات وصور ليست موجودة داخله، ولكنها ~~بدائل كان من الممكن للمؤلف أن يستخدمها وهي في غيابها حاضرة في تحديدها للوحدات التي ~~استخدمت بالفعل في السياق، وإذا لم يكن القارئ معدا واعيا بهذه البدائل على مستوى ~~الاستبدال فلن يكون للنص داخل العمل قيمة ومعنى.» # 81 # وقد اقترح البعض القيام بعملية إزاحة مؤقتة لسلطان المؤلف عن النص، ثم نعيده ضيفا عليه ~~«إن مفهوم الموت لا يعني الإزالة والإفناء، ولكنه يعني ارتحال القراءة موضوعيا من حال ~~الاستقبال إلى التذوق، ثم إلى التفاعل وإنتاج النص، وهذا يتحقق موضوعيا بغياب المؤلف، فإذا ~~ما تم إنتاج النص بواسطة القارئ فإنه من الممكن حينئذ أن يعود المؤلف إلى النص ضيفا عليه.» # 82 # وهذا المعنى نجده عند بارت في أعماله المتأخرة، يقول في مقالة له بعنوان من ~~الأثر إلى النص: «لا يعني هذا أن المؤلف لا يمكن أن يعاود الظهور مجددا في النص، في نصه، ~~لكنه لو عاد سيكون في صورة مدعو.» # 83 # أخيرا، إن منح القارئ هذه الأهمية لم يكن يتطلب بالضرورة «تهميش المؤلف» واعتباره «آلة ~~ناسخة للكلمات»؛ فموت المؤلف هو في الأصل تهميش للإنسان، لوجوده وفاعليته. النص أنتج في غير ~~زمان ومكان ومؤلف. تهميش للإنسان ضد الاحتفاء به في الاتجاه الحداثي «فعندما يتم عزل النسق ~~يتم عزل التاريخ أيضا، فتغدو الأبنية كلية لا زمنية، أو هي أجزاء اعتباطية من عملية تغيير ~~غير تاريخية ومتحولة أبدا.» # 84 ~~(2) ميشال فوكو: من تحليل فضاءات السلطة إلى تفكيكها # من أشهر فلاسفة النصف الثاني من القرن العشرين، فيلسوف وعالم اجتماع ومؤرخ، بدأ من ~~البنيوية واستطاع أن يتجاوزها في مؤلفاته المتأخرة مقتربا من الإطار ms129 النظري لما بعد الحداثة. # 85 # اشتهر فوكو بدراسته المتعمقة لمفهوم السلطة، وهو مفهوم رئيس في الفكر الفلسفي ~~ما بعد الحداثة. وقد قدم فوكو طرحا مختلفا لهذا المفهوم يختلف عن كافة الأطروحات التي قدمت ~~من قبل، رغم تأثره الواضح بتحليل نيتشه لهذا المفهوم في سياق تحليله لإرادة القوة. # يعارض فوكو بداية، في نظريته في السلطة، التصور الماركسي الكلاسيكي ونظريات الحق الطبيعي. ~~لا وجود لذات أو لفاعل يملك السلطة، مثلما لا وجود لجهاز (الدولة) ينفرد لوحده باستعمال ~~السلطة. يقترح فوكو نموذجا استراتيجيا للسلطة، فلا ينبغي النظر إلى السلطة كملكية قارة ~~ومستقرة في يد ذات فردية أو جماعية، وإنما يجب التفكير في السلطة كإنتاج لاستراتيجيات ~~الصراع بين القوى. يتحدث نيتشه عن تعدد علاقات القوى وكثرتها، بحيث لا تنبع من ~~ذات واحدة ممتلكة للقوة. فالسلطة هي علاقات قوى بحيث إنها تشكل نظاما وتسلسلا، أو انقطاعا ~~وانفصالا. إنها منبثة في كل العلاقات الاجتماعية والرمزية المتصادمة. لا تفرض السلطة من ~~فوق، بل تأتي من تحت، لا تنجلي في العلاقات الثنائية بين الحاكمين والمحكومين بل بالأحرى في ~~علاقات القوة المجسدة في آليات الإنتاج داخل الأسرة، والمجموعات الصغيرة، وداخل المؤسسات، ~~وتسري في الجسد الاجتماعي بأسره: ~~«إن القوة تأتي من تحت، ومن ثم لا ثنائية ولا تعارض بين السائدين والمسودين في جذور ~~علاقات القوة، ولا ثنائية تنطلق من القمة إلى القاعدة.» فالسلطة هي دوما شكل خاص ~~ومؤقت لصراع ما يفتأ يتكرر، والصراع المتكرر بكيفية دائمة لا يسمح باستقرار السلطة؛ فهناك ~~حرب لا هوادة فيها، دائمة ومستمرة من أجل السلطة، وامتلاكها رهين بالشروط المتغيرة، ~~والاستراتيجيات المتقلبة، السلطة علاقة، والعلاقة تتغير باستمرار، لا يمكن الحديث عن مركز ~~السلطة أو سلطة المركز، فهي منبثة ومنتشرة في كل مكان، وفي داخل الجسم الاجتماعي برمته. ~~وبهذا المعنى فالسلطة غير منضبطة لحدود «السياسي»، إنها تتجاوز تخومه. # ما تفتأ الحداثة تولد أشكالا جديدة للسلطة تختلف عن إطار التصور الماركسي للدولة. فالدولة ~~لا تحتكر السلطة كما هو شائع وكما تقترح النظريات الكلاسيكية للسلطة «توجد علاقات قوة بين ~~كل ms130 نقطة في الجسم الاجتماعي: بين الرجل والمرأة بين أفراد الأسرة (...) بين كل من يعرف وكل ~~من لا يعرف.» # إن السلطة هي نتاج لصراع لا يتوقف ولا ينتهي، كما أنها متحركة وليست مستقرة؛ إذ الصراع ~~مستمر ودائم من أجل السلطة وبواسطتها. وامتلاك السلطة تتحكم فيه شروط كثيرة متغيرة، ~~واستراتيجيات متقلبة. لهذا فهي تتحدد كعلاقات متغيرة بين قوى. # إن السلطة بهذا المعنى لا تنضبط بما هو سياسي، بل تتجاوز باستمرار مجال السياسي وتخومه. ~~وهذا يعني أن السلطة غير قابلة للاختزال إلى الدولة - كما ترى الماركسية - لأن الدولة ليست ~~وحدها التي تحتكر السلطة؛ لأن هذه الأخيرة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، لا مركز لها، كما ~~أنها متشظية ومبعثرة في كل أنحاء الجسد الاجتماعي. فهي توجد على صعيد الفرد الواحد، ~~والمعرفة، والخطاب، والسلوك، كما توجد على صعيد الأسرة والمدرسة والمستشفى والقيم ... إلخ. # إن هذا الطابع الميكروفيزيائي للسلطة يثبت تهافت التصورات السياسية التي تختزلها في ~~أجهزة الدولة؛ إذ السلطة شبكة # Un raiseau # لا مركز لها، ولا تتجسد في أي جهاز محدد حتى ولو ~~كان ذلك الجهاز هو الدولة نفسها. # لا يعني هذا الكلام أن فوكو يقلل من شأن سلطة الدولة، وإنما يسعى أن يبين الطابع ~~المنتشر للسلطة غير القابل للاختزال. وما ذلك إلا لأن الدولة لا يمكن أن تستنفد كل أشكال ~~علاقات السلطة. ومن جهة أخرى فالدولة لا تستطيع القيام بوظائفها اعتمادا على ذاتها وقدراتها ~~الخاصة؛ إذ هي في حاجة لخدمات الأسرة، والمدرسة، والشارع، والصورة، والمعلومة، والمعرفة، ~~والرمز، ومختلف أشكال الإنتاج التقني والفني. # إن تركيز النظرية الماركسية للسلطة على الدولة عاجز عن تفسير ~~ميكروفيزياء السلطة # Micro-physique du pouvoir ~~، فلا يمكن تناول هذا المفهوم المجهري للسلطة من منظور جهاز مركزي ~~مجسد في الدولة، يبحث فوكو أيضا عن تشكل وإعادة إنتاج بنيات معقدة للسلطة بالاعتماد على ~~النموذج الاستراتيجي الذي بمقتضاه تفهم العلاقات الاجتماعية للسلطة ضمن سيرورة يتم من ~~خلالها توليد بؤر للسلطة في كل مكان، مثل شبكة في نظام لا مركز له، فالسلطة لا مركز لها، ~~ولا تتجسد في جهاز سياسي، وبالتحديد ms131 في جهاز الدولة؛ فهي منتشرة في كل الجسم الاجتماعي، ~~وغير ثابتة ولا مستقرة، وتتحول من مكان لآخر: ~~«لا أزعم أن الدولة لا أهمية لها، ما أريد قوله، هو أن علاقات القوة، وبالتالي التحليل ~~الذي ينبغي أن تخضع له، يتجاوز بالضرورة حدود الدولة. وذلك بمعنيين؛ أولا وقبل كل شيء لأن ~~الدولة، وبالنظر إلى حضور كل أجهزتها، بعيدة كل البعد عن أن تكون قادرة على ملء مجمل علاقات ~~السلطة؛ ثانيا لأن الدولة لا يمكن أن تؤدي وظيفتها سوى بالاعتماد على غيرها؛ أي على علاقات ~~القوة الموجودة. إن الدولة هي بنية فوقية تدخل في علاقة مع كل سلاسل شبكات القوة التي تسكن ~~الجسم، والجنسية والأسرة والمعرفة والتقنية وهلم جرا يعارض فوكو التصورات الاختزالية، ~~والاستاتيكية للسلطة.» # 86 # إن مفهوم فوكو للسلطة يتجاوز المجال السياسي كما يتجاوز المجال الأيديولوجي؛ إذ هي ليست ~~جهازا بل علاقة، وهي غير مستقرة ومتمركزة في مكان محدد، بل توجد مبعثرة في كل أنحاء الجسد ~~الاجتماعي، إنها توجد في كل الأمكنة وخصوصا في تلك التي لا يعتقد أنها من الممكن أن توجد ~~بها. إنها كما يقول فوكو «توجد في كل مكان ولا مكان بعينه»، لا مركز لها ولا أطراف لها، ~~تحكم سيطرتها على كل شيء، وهي سيرورة بدون ذات، وليست مفعولا لذات فردية أو جماعية أو ~~تاريخية أو رمزية، بل هي مفعول لنسيج من العلاقات والمؤسسات، مثل الأسرة والسجن والعيادة ~~والمدرسة والحزب والمذهب ... إلخ. # في كتابه تاريخ الجنسانية # The History of sexuality # يذكر فوكو أن النموذج القانوني للقوة ~~نلاحظه في صورة الأمير الذي يحدد الحقوق، والأب الذي يمنع أفراد العائلة، والمراقب الذي ~~يلزم بالصمت ... في جميع هذه الحالات تتخفى القوة بصيغ قانونية، وفي جميع هذه الحالات يكون ~~المطلوب هو الطاعة. فالفرد الذي يواجه القوة/القانون، هو الذات المطيعة. بكلمة أخرى، هناك ~~قوة شرعية في جانب، وإنسان مطيع خاضع في جانب آخر. هذه القوة المطابقة للقانون هي قوة كبح ~~أو قوة قمعية. إنها قوة سلبية مانعة، القوة التي تقول لا، فليس غريبا أن يكون رمزها السيف ~~أو ms132 النسر أو الأسد. # كان ذلك في الماضي، في القرن الثاني عشر وعبر القرون التالية، غير أنه في القرن السابع ~~عشر، وما تلاه، ظهر نوع جديد من القوة مضاد للنوع القديم الذي ارتبط بمفهوم سيادة الملك. ~~هذا النوع الجديد يسميه فوكو «قوة النظام» وهو في رأيه من أعظم إنجازات المجتمع البورجوازي. ~~وهو غير مرتبط بصورة القانون، ونقول: لا يمثله قانون من القوانين. وهو بالإضافة إلى ما ~~تقدم، لا يقدر نظام الكبح أو القمع أن يصفه. هذا النوع الجديد من القوة لا يثبته مفهوم ~~الحق، بل مفهوم التكنيك، ولا يفهم بالإشارة إلى القانون، بل بواسطة التطبيع، ولا بالعقاب، ~~بل بالمراقبة والضبط؛ أي بطرق ووسائل تتعدى الدول وأجهزتها. هذا النوع من القوة لا يملكه ~~فرد أو مجموعة من الأفراد؛ أي أنه ليس له مركز أو محل معين، إنه علاقة قوة تمارس مع لغة ~~الصدق وإنتاج الصدق. يقول فوكو: «يجب تحليل هذه باعتبارها قوة دائرة أو بالأحرى كشيء لا ~~يقوم بوظيفة إلا بصورة مسلسلة، فلا يمكن موضعتها هنا أو هناك، أو في يد إنسان، أو اعتبارها ~~بضاعة، أو جزءا من ثروة. هذه القوة تستخدم أو تمارس عبر تنظيم يشابه الشبكة. والأفراد لا ~~يدورون بين خيوطها فقط، إنهم دائما بوضع فيه يخضعون لهذ القوة ويمارسونها. وهذه القوة لا ~~تفهم بتصور قانوني كعلاقة بين حاكم سيد ورعاياه، ولا بفكرة التضاد بين الدولة ~~والمجتمع.» # باختصار نقول: إن فوكو قد استبدل المفهوم القانوني للقوة بما يسميه علاقة القوة الموجودة ~~في كل ناحية من نواحي المجتمع؛ لأنها تنطلق من كل ناحية من نواحيه، كأنما شبكتها والمجتمع ~~على هوية واحدة. وشبكة القوة هذه في المجتمع الحديث تقوم بالتطويع؛ أي بإخضاع الأفراد ~~وصياغتهم وفقا للمعارف الجديدة؛ ففي كتابه النظام والعقاب: ولادة السجن، الذي هو أول كتاب ~~يشرح فيه نظريته في القوة، يقول فوكو: «إن علوم الجريمة والطب والنفس والتربية ~~والاجتماع ... وغيرها من العلوم الإنسانية، تنتج آليات وفنونا للمراقبة والفحص والتصنيف ~~وصياغة الأفراد وتطويعهم وتطبيعهم وفقا لأنظمتها المعرفية.» # 87 # وبناء على ذلك يفترض ms133 فوكو أنه لا توجد معرفة لا تفترض وجود قوة وراءها، وليست ~~هي مؤلفة لقوة في الوقت ذاته. والخلاصة أن فوكو يكشف القناع عن أن المجتمع المدني عبارة عن ~~ذوات خاضعة لعلاقات القوة/المعرفة المتعددة المراكز في طول المجتمع وعرضه. ~~••• # من ضمن القضايا التي اهتم بها ميشيل فوكو، وهي غير منفصلة عن تحليله لمفهوم السلطة، قضية ~~العلاقة بين الصورة واللغة أو ما هو مرئي وما هو منطوق، وقد خصص فوكو كتابه الكلمات ~~والأشياء لمناقشة تلك القضية، وقد ناقش الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز بتوسع تلك الإشكالية في ~~كتابه «المعرفة والسلطة» 1987م، والذي خصصه عن فوكو، وبحيث يمكن القول إن «التيمة ~~الرئيسة لهذا الكتاب، هي التفرقة بين نظام المرئيات ونظام العبارات، وهي نفس تيمة كتاب ~~«الكلمات والأشياء» لفوكو.» # 88 # وقد كان منطلق فوكو في هذا النقاش إبستمولوجيا؛ أي أنه كانت تشغله مسألة ~~التعارض والاختلاف بين نمطي المعرفة، اللغوية والمرئية، وعلاقة ذلك بالوعي. # ينطلق فوكو في فهمه للعلاقة بين اللغة والصورة، من أن لكل منهما عالمه المستقل والمتمايز ~~عن الآخر، وأنه ليس ثمة أولوية لأحدهما على الآخر «إن ما بين الكلام والرؤية، أو ما يرى وما ~~يعبر عنه، ثمة انفصال، فما يرى لا يجد موقعه إطلاقا فيما يقال، والعكس بالعكس.» وثمة سبب ~~مزدوج يمنع وجود اتصال بينهما: «للعبارة موضوعها الملازم الخاص بها، وهي لا تعدو قضية تحيل ~~إلى ظرف ما أو موضوع بعينه، مثلما يقضي بذلك المنطق، لكن المرئي ليس معنى أبكم صامتا، أو ~~مدلولا بالقوة يخرج إلى الفعل متجسدا في اللغة.» # 89 # ولعل فوكو بهذا الطرح يعبر عن رفضه لأطروحة بارت التي يقول فيها «إن العالم ~~أبكم، وهو في حاجة إلى اللغة حتى ينطق»؛ فهو ينفي إمكانية أن تحل اللغة محل الأشياء، كما أن ~~الصورة لا يمكن أن تحل محل اللغة، وفي السياق ذاته يقول بودريار: «لا أعتقد في وجود علاقة من ~~أي نوع بين الصورة والنص، بين الكتابة وما هو بصري ... فالصورة والنص سجلان متفردان، ينبغي ~~المحافظة على تفردهما.» # 90 # على أن هذا الاستقلال لا ms134 ينفي وجود علاقة بينهما، لكنها ليست علاقة تواؤم ~~وتصالح، كما أنها ليست علاقة خصام وتشاكل، إنها علاقة صراع وعراك، صراع يتم داخل عملية ~~التفكير ذاتها بين المشهد واللغة. # يربط فوكو بين إشكالية النص والصورة وإشكالية المعرفة عموما؛ إذ المعرفة يتجاذبها طرفان: ~~الرؤية واللغة؛ وعملية التفكير في النهاية هي محصلة علاقة المشهد باللغة ... الصور بالكلام ~~«يتشكل التفكير من الرؤية والكلام، غير أنه يتم بينهما، في الفراغ الذي يفصل الرؤية عن ~~الكلام. إن التفكير يعني خلق الاشتباك في كل حين، إنه دوما تراشق بالسهام، تسليط بريق ~~الرؤية على الكلمات، والإصغاء إلى همس الأشياء المرئية ... التفكير هو جعل الرؤية تبلغ حدها ~~الخاص بها، وجعل الكلام يبلغ حده الخاص به. فيصيران معا الحد المشترك الذي يوصل الرؤية ~~بالكلام والكلام بالرؤية؛ وذلك بالفصل بينهما.» # 91 # عملية التفكير إذا تتم من خلال التوتر الذي ينشأ نتيجة تصارع اللغة والصورة، ~~تتم داخله، في الفجوة التي تفصل الكلام عن الرؤية. # لا يمكن اختزال عملية التفكير في ملكة واحدة، ليس التفكير فطريا ولا مكتسبا. ليس عملا ~~تمارسه ملكة ما من الملكات، وليس بالمقابل اكتسابا يتلقاه المرء نتيجة احتكاكه بالعالم ~~الخارجي. وهنا يعود فوكو إلى أنتونين أرتو # A. Artaud ~~«فتجاه الفطري والمكتسب، وفي مقابلهما، ~~يقول أرتو بالمتأصل # congénital ~~، تأصل التفكير كتفكير، تفكير يأتي من خارج أبعد من أي عالم ~~خارجي، وأقرب بالتالي من أي عالم داخلي.» # 92 # ووفقا لفوكو فإن العالم يتكون من مساحات بعضها فوق بعض، وأنظمة عبارات أو ~~أبنية، إلا أن هذه الأبنية يخترقها في الوسط شرخ يفصل بين اللغة من جهة، والصورة من جهة ~~أخرى، يفصل بين العبارات والمرئيات في كل بناء من الأبنية؛ أي بين شكلي المعرفة اللذين لا ~~سبيل إلى تقليصهما أو رد أحدهما إلى الآخر، ألا وهما الرؤية واللغة ... «نحن إذا مأخوذون في ~~حركة مزدوجة، نتجه نزولا من بناء إلى آخر، ومن شريحة إلى أخرى، نعبر المساحات واللوحات ~~والمنحنيات، نقتفي أثر الشرخ. بغية بلوغ داخل العالم، أو كما قال ملفيل: نبحث عن غرفة في ~~الوسط والرهبة تتملكنا من ألا ms135 نعثر فيها على أحد.» # 93 # وفي هذا الاتجاه كان فوكو يؤكد أن المشادة أو العراك، يتطلبان مسافة عبرها ~~يتبادل الخصمان «التهديد فيما بينهما والوعيد»، ويقتضيان أن مكان عراكهما «لا يمكن الوقوف ~~عليه» أو إثبات وجوده في محل، مما يشهد على أن المتعاركين لا ينتميان لذات الفضاء الواحد، ~~ولا يرتبطان بنفس الشكل «من الواجب التسليم بوجود عراك وصراع حقيقيين، أو على الأصح هجومات ~~متبادلة وتراشق بوابل من السهام، وحملات للتقويض والهدم، وطعن بالرماح. علينا أن نقر بوجود ~~معركة حامية الوطيس بين النص والصورة، سقوط الصور وسط الكلمات، بريق كلامي يجوب الصور، شقوق ~~خطاب تتخلل شكل الأشياء، والعكس.» # 94 # إن الصورة والكلام ينطويان على شرط ومشروط، الضوء والرؤية، اللغة والعبارات، لكن الشرط ~~لا يحتوي المشروط، بل يعرضه في فضاء تناثر وتفريق، ويعرض نفسه هو، كشكل خارجي «فبين المرئي ~~وشروطه تنسل العبارات كما تنسل في لوحة ماجريت «هذا ليس غليونا». وبين العبارة وشرطها تنساب ~~الرؤى، كما هو الأمر لدى «روسيل» الذي لا يكشف عن الكلمات دون أن يظهر الأشياء ... إن العبارات ~~والرؤى تتصارع في عراك متبادلتين القسر والإكراه أو تستوليان على بعضهما البعض، مكونتين ~~بذلك، في كل مرة، «الحقيقة».» من هنا قول فوكو «الكلام والرؤية ... رغم أنهما لا يتعلقان بذات ~~الشيء، ورغم أننا نتكلم لا عما نراه، أو نرى ما لا نتكلم عنه؛ لكنهما معا، يكونان البناء ~~المعرفي، ويتغيران، في الوقت ذاته، من بناء إلى آخر، وإن كان تغيرا لا تحكمه ذات القواعد.» # 95 # يقول دولوز عن كتاب الكلمات والأشياء لفوكو: «ما دمنا لبثنا عند حدود الكلمات والأشياء، ~~فإننا سنتوهم أننا نتكلم عما نراه، ونرى ما نتكلم عنه، وأن الأمرين مرتبطان، ويعني هذا أننا ~~نظل عند المستوى الاختباري ولا نتجاوزه بعد. لكننا بمجرد ما نتغلغل في الكلمات والأشياء، ~~نكتشف العبارات والرؤى، فيرتفع الكلام والرؤية إلى مستوى أعلى قبلي، حتى إن كلا منهما يبلغ ~~حده الخاص به والذي يفصله عن الآخر، مرئي لا سبيل إليه إلا بالرؤية، ومعبر لا سبيل إليه إلا ~~بالكلام. ومع هذا، فإن الحد ms136 الخاص الذي يفصل كلاهما، يعد في الوقت ذاته الحد المشترك الذي ~~يجمعهما والذي يتخذ وجهين غير متماثلين؛ كلام أعمى ورؤية صماء. وفوكو في هذا - وفقا لدولوز - ~~قريب من السينما المعاصرة.» # 96 # إن العلاقة بين الرؤية واللغة أو التمايز بينهما يستدعي الحديث، وفقا لفوكو، عن ~~الفينومينولوجيا، ذلك أن الفينومينولوجيا قدمت إسهامات عديدة حول هذه الإشكالية. اقترحت ~~الفينومينولوجيا فكرة القصدية كمحاولة لتجاوز كل نزعة سيكولوجية وكل نزعة طبيعية، لكنها ~~تظل، وفقا لقراءة دولوز لفوكو، حبيسة نزعتين: سيكولوجية، وطبيعية، إلى حد أن ميرلوبونتي قد ~~صرح أن الفينومينولوجيا لم تعد تكاد تتميز عن «المذهب». فهي تؤسس من جديد نزعة سيكولوجية ~~أساسها تركيبات الشعور والوعي، وفي الوقت ذاته، تؤسس لنزعة طبيعية أساسها «التجربة ~~العيانية» # expérience sauvage # والإدراك المباشر للشيء من حيث هو ذاته حاضر أمام الوعي دون ~~وساطة. هذه الازدواجية لم تستطع فكرة «القصدية» # Intention # تجاوزها؛ لأنها هي الأخرى لم تميز ~~بين نمطي الوجود: اللغة والرؤية «ليس ثمة شيء قبل المعرفة، ولا وراءها. بل المعرفة مزدوجة ~~ازدواجا يتعذر تقليصه أو اختزاله، إنها كلام أو رؤية، لغة ورؤية، وذلك هو السبب الذي من ~~أجله ليس ثمة قصدية.» # 97 # ويرى فوكو أن الفينومينولوجيا، رغبة منها في إقصاء النزعتين السيكولوجية ~~والطبيعية اللتين كانتا ما تزالان تثقلان كاهلها، تجاوزت بنفسها القصدية كعلاقة للشعور ~~بموضوعه «أي الموجود»، مع هيدجر وميرلوبونتي، نحو الوجود ... انثناء الوجود # Le pli de l’être ~~، ~~من القصدية إلى الانثناء، ما دام الوجود هو أساسا انثناء للوجود بالموجود. وما يريد أن يخلص ~~إليه فوكو في هذا الصدد، وفقا لقراءة جيل دولوز، هو أن فكرة القصدية لا تصلح أن تكون أساسا ~~لعلاقة الذات بالموضوع، وذلك في رأيه يعود إلى: ~~(1) # أن الموضوع لا يتكون من طبقة واحدة وإنما من طبقات عديدة، وهو ما يطلق عليه «انثناء ~~الوجود والموجود»؛ فهناك طيات عديدة للشيء الواحد، وهذه الطيات لا تكون حاضرة أمام الوعي مباشرة، # 98 # لذا فإن القصدية تقف أمامها عاجزة، وهذا، وفقا لدولوز، ما تنبه إليه هيدجر ~~وميرلوبونتي «يعود الفضل إلى ميرلوبونتي، ومن قبله هيدجر، في أنه أوضح كيف يكشف الوجود عن ms137 ~~نفسه كانثناء، وهذا هو موضوع المرئي واللامرئي.» ~~(2) # أن اللغة تقف حائلا أمام قصدية الوعي لموضوعه؛ فميدان اللغة غير ميدان الرؤية، والمثال ~~الذي يشير إليه فوكو في هذا السياق، هي لوحة ماجريت سابقة الذكر «هذا ليس غليونا»، فما ~~يقصده الوعي في اللوحة هو الغليون، أو رسم الغليون، لكن تأتي العبارة «هذا ليس غليونا» لتقف ~~حائلا أمام قصدية الوعي «كما لو كانت القصدية تدحض نفسها وتنهار.» ~~(3) # إذا كانت المعرفة تتكون من شكلين أو نمطين: الرؤية واللغة، فإن كل شكل يفرض أدواته ~~المستقلة والمميزة لنمط المعرفة الذي يقدمه، لكن القصدية لا تفرق بين هذين النمطين وتتعامل ~~معهما كما لو كانا موضوعا واحدا «لا وجود مثلا لموضوع هل الحمق يتجه إليه وعي ما ويقصده. بل ~~الحمق ينظر إليه بكيفيات مختلفة ومتباينة، ويعبر عنه بأساليب مختلفة كذلك، وفقا لعتبات كل ~~عصر، فنحن لا نرى نفس الحمقى ولا نعبر عن نفس الأعراض.» # يبدو هذا النقد غريبا، خاصة عندما يكون مصدره فوكو، ذلك أن المنهج الفينومينولوجي، وإن ~~لم يسع للتمييز الحاسم بين اللغة والصورة، لم يكن أبدا منهجا في الوصف أو الملاحظة ~~التجريبية فقط، فإذا كان وصف ما هو معطى إحدى ثوابت المنهج الفينومينولوجي، فإن هذا الوصف ~~ما هو إلا مرحلة من مراحل عدة؛ «فقد اتسع المنهج ليستوعب التفسير الذي يتجاوز ما هو معطى ~~بشكل مباشر في الخبرة. والتفسير هنا هو كشف لمعاني طبقات مستورة من الظواهر.» # 99 # وبالتالي لا يمكن النظر إلى المنهج الفينومينولوجي على أنه صالح للتطبيق فقط ~~على الموضوعات الحاضرة أمام الوعي بصورة تجريبية مباشرة، وكما لاحظ شبيجلبرج، # 100 # فليست كل معاني الخبرة والسلوك الإنساني سهلة المنال؛ فهناك حالات من الغموض ~~متأصلة في قلب الظواهر نفسها، وليست على السطح، ولا يمكن الاقتراب منها عن طريق الوصف ~~المباشر، من قبيل: مشكلات الوجود الإنساني وموقف الإنسان داخل عالم ملغز. # إن شرط المرئي هو الضوء # lumière # وشرط النص هو اللغة، لكن الشرط لا يحوي المشروط بل يعرضه ~~في فضاء تناثر وتفريق، ويعرض نفسه هو، كشكل خارجي. لكن ثمة تداخل بين ms138 المجالين. تقتحم ~~العبارات المرئي، ويقتحم المرئي العبارات، مثال الأولى لوحة «ماجريت» هذا ليس غليونا، ~~والثاني كتابات ريمون روسيل. فبين ما يرى وما يعبر عنه، علينا أن نتصور جميع الصلات ~~والمظاهر التالية: تغاير الشكلين، اختلاف طبيعتهما، عدم تطابقهما، تبادل التأثير، العراك ~~والاشتباك، الأولية المحددة التي يمارسها أحدهما على الآخر. # 101 # من بين الأمثلة التي اعتمد عليها فوكو في هذا النقاش، لوحة رينيه ماجريت «هذا ليس غليونا» # Ceci n’est pas une pipe ~~(1929م)، # 102 # وهي اللوحة التي كانت موضع تحليل من ميشال فوكو ~~وكتب عنها مقالته «خيانة الصورة» # trahison de l’image ~~، ودارت بينه وبين ماجريت نقاشات ~~عديدة حولها. # كل من يلقي ببصره على لوحة ماجريت، سيفاجأ، لا محالة، بغرابة هذه اللوحة التي تتقيد إلى ~~أقصى حد بقواعد التمثيل مع أن كل ما فيها «يقول» بعكس «ما تصوره». يتعلق الأمر بهذه اللوحة ~~التي تجسد في فضائها لوحة أخرى وقد رسم داخل إطارها غليون، وتحت هذا الغليون المجسد في ~~اللوحة المرسومة، كتب بحروف بارزة: «هذا ليس غليونا» # ceci n’est pas une pipe ~~. وفوق اللوحة ~~المرسومة والمحمولة بمسند، يظهر غليون آخر كبير معلقا في الفضاء لا يخالف الموضوع المرسوم ~~سوى في لونه المائل إلى السواد. # ما يرمي إليه ماجريت هنا في هذه اللوحة هو إزالة كل علاقة تمثيلية بين «المكتوب» ~~و«المرئي»، فكأن للأول نظاما آخر لا يتقاطع مع نظام الثاني رغم أن الفضاء الذي يسبح فيه ~~هذان الطرفان (أعني العبارة المكتوبة والغليون المرسوم) هو فضاء التمثيل الكلاسيكي لأن لا ~~شيء فيه يخالف الفضاء المعتاد. # بالفعل إن ماجريت يتعمد بث التباين بين «الكلمات» و«الأشياء» ويواصل إبراز هذا التباين ~~بأشكال مختلفة. فما من مرة قام فيها برسم شيء يحوي بداخله كلمات أو جملا إلا وتعمد التركيز ~~على الاختلاف الذي ينخر «المكتوب» و«المرئي». لكنه بدل أن يقف عند هذا الحد فهو يمضي إلى ~~حيث يكون بالمستطاع الوقوف على «تباين التباينات» # ècart des ècarts # حاذفا - مثلما يفعل ~~بورجيس - القاعدة التي تستطيع توحيدهما في هوية مشتركة، وكأن ما يهمه بالدرجة الأولى ليس هو ~~أن يتعرف المشاهد في موضوعاته المرسومة على نماذج أصلية، بل هو أن ms139 يطلق العنان لبناء صور ~~تشبه دوما الموضوعات الواقعية لكنها لا ترتبط بها بأي رباط ماهوي. # لا داعي إذا لأن نبحث للغليون المرسوم في إطار اللوحة عما يطابقه في الواقع؛ فهو ليس إلا ~~رسما، ولا داعي لأن نبحث للغليون المعلق في الفضاء عن موضوع ينطبق عليه، فهو ليس إلا «تشابها ~~ضبابيا» # une similitude nuageuse # كما يقول فوكو، مثلما أنه لا داعي للبحث للعبارة «هذا ليس ~~غليونا» عن موضوع تحيل عليه؛ فهي ليست إلا عبارة مكتوبة لا تشبه سوى نفسها ولا تمثل سوى ~~ذاتها. أجل، إن كل هاته الموضوعات لا تعدو أن تكون سوى سيمولاكرات. ولهذا يصر فوكو في ~~تعليقه على اللوحة نفسها بأن «التشابهات» عند ماجريت «لا تثبت ولا تمثل لأي شيء خارجها». # 103 # ما يحدث هو أن المشاهد للوحة ماجريت «هذا ليس غليونا»، دون أن يقرأ التنويه الذي يخترق ~~اللوحة من أن الذي تشاهده ليس غليونا، يتبادر لذهنه على الفور أن ما يشاهده هو صورة لشيء ~~مألوف ومتعارف عليه ب «الغليون»، لكن ما إن يقرأ تنويه ماجريت حتى تبدأ قناعاته القبلية في ~~الاهتزاز، ليسأل نفسه إذا لم يكن هذا الذي أراه غليونا فأي شيء يكون؟ وما يلبث أن يحاول ~~جاهدا التدقيق في اللوحة من جديد حتى يكتشف سبب هذا التنويه، أي محاولة للبحث عن الاختلافات ~~التي قد تكون موجودة في الرسم بين الغليون «الذي هو ليس غليونا» والشيء المتعارف عليه في ~~الحياة بأنه غليون، والتي دفعت الرسام لأن يضع تنويهه، لكن هذا التدقيق لن يسفر إلا عن خيبة ~~أمل؛ إذ إن ما يشاهده في اللوحة هو غليون بالفعل. لكن المفارقة هي أن المشاهد لن يترك ~~اللوحة وهو مقتنع أتم الاقتناع بصدق ويقين ما رأته عيناه، سوف يتركها وهو ما يزال في حالة من ~~الالتباس، باحثا عن سر هذه العبارة التي تخترق اللوحة؟ وعما إذا كان ما رأته عيناه هو ~~الحقيقي أم أن العبارة لها مبررها وبالتالي تكتسب مصداقية أكبر من الصورة المجسدة؟ وإذا ما ~~سألنا المشاهد بعد ذلك عن موضوع اللوحة هل هو الغليون ms140؟ لن نجد إجابة واثقة، وإنما سيأتي ~~الرد بربما ... ربما تكون غليونا، وربما لا. # أيهما يمتلك الأولوية، الصورة أم الكلمة؟ اللغة أم المرئي؟ بالتأكيد هذا هو التساؤل الذي ~~كان يقصده ماجريت من لوحته؛ إذ لم يهدف ماجريت تقديم نوع من الخدعة البصرية المتعارف عليه ~~في بعض التصاوير والتي فحواها «أن هذا الذي تشاهده يحتوي على شكل آخر إذا غيرت الوضع الذي ~~تنظر من خلاله للوحة»، كما لم يقصد إثارة نوع من الالتباس والحيرة لدى المشاهد، إنما هو فقط ~~أراد أن يطرح التساؤل السابق لكن بالرسم، يعضد هذا الرأي أن ماجريت لم يجعل من عبارته ~~تعليقا أو اسما للوحته، كما هو الحال في لوحات أخرى، بل جعل العبارة حاضرة في فعل التلقي ~~ذاته، في قلب الصورة ذاتها، بحيث يصعب تجاهلها، والاكتفاء بفعل المشاهدة. # ماجريت: هذا ليس غليونا. # ثمة مغزى آخر للوحة ماجريت؛ إذ يمكن النظر إليها على أنها تحمل رسالة مفادها «هذا ليس ~~غليونا، إنه رسم.» فالغليون المرسوم، ليس غليونا بالفعل؛ إن هو إلا صورة غليون. مجرد رسم ~~للغليون. وتلك هي الخيانة؛ لأننا لن نقدر في النهاية أن نمد أيدينا ونحشو الغليون تبغا، ~~وندخنه، أو أن نقضم التفاحة (في لوحة هذه ليست تفاحة)! وهذا المعنى، الذي أراد ماجريت أن ~~يقدمه يتقاطع مع العديد من أعماله الأخرى التي حاول أن يناهض من خلالها فكرة التمثيل في ~~الفن، كما عرضنا لذلك في الفصل الثالث. # والواقع أن موضوع «خيانة الصورة» هذا كان محورا لأعمال ماجريت قاطبة. فهو كرسام كانت ~~تشغله إشكالية العلاقة بين الصورة والكلمة. اللغة تختزل العالم والأشياء، في مجرد كلمات، ~~وما تلبث هذه الكلمات بمرور الوقت أن تشكل حجابا كثيفا يقف حائلا بيننا وبين جوهر الأشياء؛ ~~لذا كانت دعوة ماجريت لأن ننظر إلى عمق الأشياء لا إلى ظاهرها؛ لأن اسم الشيء لا يعني الشيء ~~نفسه. فكلمة «وردة»، لا تحمل لون الوردة ولا رائحتها ولا جمالها، هي كلمة أطلقت من قديم على ~~هذا الكائن البديع، وورثنا نحن الكلمة كدال على مدلول هو الوردة، لكن ms141 الدلالة والجمال ~~والشكل والعطر لا تكون إلا في الوردة ذاتها. فاللغة، أية لغة، عاجزة بامتياز عن كشف هوية ~~الشيء. والأسماء اعتباطية لا معنى لها؛ لذا سنجده في لوحة أخرى يرسم مجموعة من الأشياء: ~~حذاء، بيضة، شمعة، قبعة، مطرقة، كوب؛ ثم يكتب جوار كل شيء اسما مخالفا لاسمه المتعارف عليه: ~~الحذاء = قمر، البيضة = شجرة، الشمعة = سقف، القبعة السوداء = ثلج، المطرقة = صحراء، الكوب = رعد، ~~فأي كلمة تصلح للإشارة إلى الأشياء، فقط إذا نظرنا إلى اللغة على أنها نسق تداولي، هذا من ~~ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن هذه الهيمنة للكلمة واللغة تظهر بقوة عندما يحدث احتكاك وتماس ~~بين كلا النظامين. فحضور الكلمة داخل النص يحدث نوعا من التوتر، ويتلاشى تماما إذا كنا نجهل ~~اللغة التي كتبت بها الكلمات. # ماجريت: عناق. # تذهب سوزي جابليك في دراستها عن ماجريت أنه هناك صلة جديرة بالملاحظة بين كتابات ~~فتجنيشتين ولوحات ماجريت. كلاهما سعى لإظهار الطبيعة «النسبية» لاستخدامنا للكلمات؛ إذ ليس ~~ثمة علاقة منطقية بين ما يكونه الشيء والاسم الذي اكتسبه. الاسم لا يمثل ما يكونه الشيء، ~~بانعتاقها عن نعوتها المألوفة، تعود إلى جذورها، إلى حالتها الأصلية، قبل تدوينها في ~~تصنيفات اللغة المتنوعة. واللغة أيضا تصبح منفصلة عن حقيقتها التقليدية. # 104 # لقد أعلن ماجريت ارتيابه بالصورة والكلمة ... المرئي والمسموع - المقروء، وأظهر هذا عبر ~~استقصاءاته ... فلون جسد امرأة أو تفاح يمكن أن يستبدل بلون آخر مغاير للمألوف. الكلمة التي ~~تشير إلى شيء مألوف يمكن أن تأخذ معنى مختلفا، كذلك بالإمكان استبدال شيء بكلمة. القابلية ~~للتبادل وإحلال شيء محل آخر يحطمان صحة ومعقولية الإشارات المؤسسة في كلا الطرفين. # من جهة أخرى، فماجريت يظل رساما في المقام الأول، وليس فيلسوفا، واستبصاراته الحدسية عن ~~اللغة والكلمات كانت دائما موجهة نحو تحديد الوظيفة التي كان ينشدها للوحاته. بمعنى آخر ~~الصور أساسا هي التي كانت محور اهتمامه، وحين فعل ذلك، لم يكن مطلعا بعد على بحوث اللغويين ~~المعاصرين. لقد كان دافع ماجريت في الرسم ذا طبيعة ثنائية ... ثنائية يمكن إدراكها في ~~تخيلاته، التي هي سمعية ms142 وبصرية. صورة العالم، التي تركب نفسها مرة بعد أخرى في الذهن، تنشأ ~~في موازاة هذين العنصرين. إن التحام السمعي والبصري يفضي إلى الصورة. فالتعبير السمعي «يتضمن ~~أكثر مما هو منقول، عن طريق «الكلمات» و«اللغة». إنه يتصل بالموسيقى والكلمات معا، وهذا ~~بالفعل أساس ما هو سمعي ... وفقا لما يذكره اللغويون. السمعي-البصري لا يشمل العبارات التي ~~تظهر فيها الكلمات فحسب، لكن أيضا تلك التي لا تكون فيها الكلمات مرئية.» # لقد رأى ماجريت أشكالا لكنه في الوقت نفسه سمع الكلمات التي عن طريقها تحيا كأشياء في ~~عقول البشر. شيئا فشيئا تصبح الكلمات أكثر وضوحا، في الوقت الذي يعزلها وعيه، كفنان، عن ~~الأشياء، إن مشكلته كانت تكمن في التعارض بين عنصرين، عادة ما يصطدم بهما كل فنان: الأشياء ~~والكلمات. هذا لا يعني أنه لم يكن ثمة تفاعل بين وعيه بالكلمات، ووعيه بالأشياء المرئية. ~~فقط هو أراد أن يعبر عن أزمته، من خلال الخطوط والألوان ... وأيضا الكلمات. # ماجريت: الاستنساخ المستحيل. # أخيرا، لم يكن ماجريت فقط هو من حاول، عبر لوحاته، إثارة التساؤل حول علاقة الصورة ~~بالكلمة؛ فالواقع أن الأهمية التي احتلتها الصورة في القرن العشرين، قد دفعت العديد من ~~الفنانين إلى إعادة التأمل في طبيعة هذه العلاقة، وفي كتابه «دراسة الأيقونة: ~~الصورة - النص - الأيديولوجيا» (1987م) يذهب ميتشل # W. J. Mitchell # إلى أنه من السمات البارزة في ~~القرن العشرين هو التحول إلى ثقافة الصورة، ويرجع ذلك نتيجة مقاربة جديدة للغة. فلم يعد ~~المبدعون والمنظرون يحللونها كمجرد تراكيب، بل تنبهوا إلى الخطاب الذي يخترق كافة وسائطها ~~المرئية والمنطوقة-المكتوبة. وبالتالي يصعب الفصل بين تلك الوسائط كما كان معتادا، لوجود ~~علاقة حوارية بين المرئي والمنطوق-المكتوب، تجلت بانتشار ظاهرة الكاتب- المصور. والتنقل بين ~~اللغة المرئية والمنطوقة-المكتوبة لا يأتي اعتباطا، بل يستخدم الكاتب- المصور اللغة ~~المرئية لتقويض أنساق اللغة المنطوقة-المكتوبة، كما يلجأ للغة المنطوقة- المكتوبة لفضح زيف الصورة. # 105 # فالتنقل بين الوسائط المتنوعة للغة يولد آليات جديدة لمقاومة كافة الأنساق ~~السلطوية المتغلغلة في ثنايا المجتمع والأفراد. ~~(3) جيل دولوز: من ms143 النسق إلى الجذمور # ثمة أوصاف عديدة قدمت لفلسفة دولوز؛ # 106 # فهي تسمى ب «فلسفة الكثرة»، و«فلسفة الحدث»، و«الترنسندنتالية التجريبية»، ~~و«فلسفة المحايثة»، ويطلق على نسقه «نسق المتعدد»، أما هو فيوصف ب «فيلسوف الاختلاف» و«مبدع المفاهيم» # 107 # إلخ. وربما تعود هذه الأوصاف إلى صعوبة تصنيف فلسفته داخل إطار واحد؛ فهو ~~صاحب «فلسفة مفتوحة» تستوعب العديد من التفسيرات والرؤى. يقول ريمون بيلور: «إن أعمال دولوز ~~على اتصال مباشر بالكل ... الفكر والفن والعلم والجسد والأحياء ...» # 108 # هذا بالإضافة إلى الحقول المعرفية العديدة التي ساهم فيها دولوز من خلال ~~إنتاجه الفكري (الفلسفة، السياسة، علم النفس، اللغة، الفنون بكل أشكالها ...) كل هذا يجعل ~~من الصعب تصنيف فلسفته، أو حتى تحديد اتجاه واحد لأعماله. يصف آلان بادو دولوز في الفصل ~~الذي يحمل عنوان «أي دولوز؟» # Quel Deleuze? # قائلا: «لم يكن دولوز بنيويا ولا ظاهراتيا ~~ولا هيدجريا ولا تحليليا، لقد كان قطبا بمفرده.» # 109 # من هذا المنطلق يرفض دولوز تصنيف فلسفته ضمن تيار محدد أو مدرسة بعينها «لا ~~يمكننا الانتماء إلى مدرسة.» # 110 # وهو مثله مثل فوكو ودريدا يرفض أن يحسب على تيار ما بعد الحداثة؛ إذ يؤكد هو ~~وجاتاري «على كونهم غير مرتبطين بهذه الحركة ويأخذون عليها كونها غير محددة ومتشائمة، ~~ولكنهم في الوقت ذاته يتعاطفون مع مقاومتها لما يسميانه الخطاب المهيمن.» # 111 # وفي نفس السياق يرفض بادو # 112 # التفسير ما بعد البنيوي لفلسفة دولوز، ويعتبره حداثيا قحا، سيطرت على فلسفته ~~فكرة «الكل» أو «الواحد» مثلما هو الحال مع سبينوزا وليبنتس وهيجل وغيرهم من فلاسفة ~~الحداثة. وعلى النقيض من ذلك يذهب الناقد الماركسي تيري إيجلتون إلى أن دولوز هو المفجر ~~الرئيس لتيار ما بعد الحداثة في الفلسفة، ويرى أن نزعة ما بعد الحداثة «لا نجدها في أي مكان ~~أشد عنفا مما هي عليه في كتاب دولوز وجاتاري ضد أوديب.» # 113 # وهو نفس ما ذهب إليه إيهاب حسن # 114 # في كتاباته المتعددة عن ما بعد الحداثة، وينضم إلى هذا الرأي أيضا فيلب مانج ~~الذي يعتبر كتاب دولوز «ألف ربوة» عبارة عن كتاب في «المنهج الجديد ms144 لما بعد الحداثة». # 115 # تميز أسلوب دولوز في الكتابة بالصعوبة والتعقيد؛ بحيث يصعب على قارئ أي من أعماله إيجاد ~~رابط متصل، أو موضوع ثابت، أو مفاهيم محددة، فنصوصه لا تتقدم في اتجاه معين، بل تذهب في ~~جميع الاتجاهات، وفي داخل النص تتولد المفاهيم في إيقاع متواتر سريع، وما إن يشعر القارئ ~~بأنه كاد أن يدرك دلالة المفهوم حتى يجد هذا المفهوم قد تفرع وتشعب إلى مفاهيم صغرى متنوعة. ~~وكما تقول باربرا كينيدي في كتابها «دولوز والسينما»: «إن دولوز شخصية متعددة الألوان ~~والإيقاعات والتنويعات، فتقدم نصوصه بلاتوهات ولوحات واسعة التنوع، تقدم نفسها كأحداث وخطوط ~~وأرض للمفاهيم وملاحظات وإيقاعات وتشكلات، إنها أشبه بالمسرح أو المصنع.» # 116 # وتستطرد قائلة: «إن أفكاره تتداخل وتتفاعل، فتنفصل وتتشتت وتتهشم وتتضاعف ~~وكثيرا ما تتصادم بعنف لدرجة أننا نعجز عن بلوغ صيغة محددة للعمل الواحد.» # 117 # هذه الصعوبة التي تحدثنا عنها كينيدي، والتي يجمع عليها كل من كتب عن دولوز، ~~نابعة من فهم دولوز الخاص لأسلوب وطريقة الكتابة الفلسفية. # إن الأسلوب المتعارف عليه في الكتابة الفلسفية هو الذي يبدأ، في الغالب، بتحديد المشكلة ~~موضوع البحث، ثم التعامل معها بالمنهج أو الأسلوب الذي يتبعه كل فيلسوف، وصولا إلى التصور ~~الذي هو بمثابة النتيجة. هذه الطريقة في الكتابة يطلق عليها دولوز «الطريقة الشجرية» نسبة ~~إلى الشجرة المكونة من جذر وساق وفروع وأوراق وثمار. فالمشكلة تقابل الجذر في الشجرة، ~~ويقابل الفرض الساق، والفروع والأوراق هي الفرض، وقد تشعب عبر التحليل إلى قضاياه المكونة ~~له، وتكون الثمار هي المقابل للنتائج التي يستخلصها الفيلسوف في النهاية. هذه هي الطريقة ~~المستقرة في الكتابة الفلسفية عبر تاريخ الفلسفة. وعوضا هذا الأسلوب في الكتابة يدعو دولوز ~~لما أطلق عليه الكتابة الجذمورية # rédaction rhizomatique ~~، فما المقصود بالجذمور؟ وماذا تعني ~~الكتابة الجذمورية؟ # يقول دولوز: «إن أول شكل للكتاب هو الكتاب-الجذر؛ فقد كانت الشجرة هي صورة العالم، أو ~~بالأحرى كان الجذر هو الصورة الشجرية للعالم، وقد تجلت هذه الأخيرة كأفضل ما يكون في الكتاب الكلاسيكي.» # 118 # إن ثنائية الجذر-الشجرة تبدأ بالمقدمات وتنتهي بالنتائج ms145، وهو أسلوب نمطي في ~~الكتابة يلغي التعددية والاختلاف ويروم الوحدة والهوية ... أسلوب لا يرى في العالم إلا السكون ~~والثبات. لا يرى الأشياء في حركتها وصيرورتها، ولذا فإنه يحتفظ دائما بالمنطق الثنائي في ~~الكتابة والرؤية، إنه «فكر لم يفهم التعدد قط.» # 119 # بل يناقض الطبيعة والعالم؛ «لقد هيمنت الشجرة على الواقع الغربي، وعلى كل الفكر ~~الغربي من علم النبات إلى البيولوجيا وعلم التشريح، وأيضا الإبستمولوجيا والثيولوجيا ~~والأنطولوجيا والفلسفة برمتها.» # 120 # وبديلا لهذا لا بد أن تأتي الكتابة متسقة مع الطبيعة التي يحكمها مبدأ ~~الصيرورة. فالطبيعة لا تعمل وفق المنطق الثنائي، إنما الفكر فقط هو الذي يحاول أن يخلع على ~~الأشياء صفتي الثبات والاستقرار، وهذا غير حقيقي؛ «فالجذور تدور حول نفسها وتتفرع بكثرة، ~~جانبيا ودائريا.» # 121 ~~••• # الجذمور أو الجذمار # Rhizom # نبات ينمو على السطح دون جذور في الأرض، ينمو أفقيا بعكس ~~الشجرة التي تنمو رأسيا. ~~••• # على الرغم من أن «الجذمور» اسم يستخدم في عالم النبات ليصف نوعا معينا من النباتات التي ~~تنمو على السطح دون عمق لها داخل التربة، إلا أن دولوز استخدمه في كتابه «ألف ربوة» ليصف به ~~أسلوبا في الكتابة استخدمه في معظم مؤلفاته، وارتبط بعد ذلك بمفاهيم أخرى عديدة طرحها ~~دولوز عبر مؤلفاته التالية ... مفاهيم كالتعددية والترحال والصيرورة والسيمولاكرا ... فكلها ~~في النهاية مفاهيم تشترك في نفس الصفات على نحو ما سنرى. # إن الجذمور ينمو على السطح بشكل أفقي في مقابل الشجرة التي تنمو بشكل رأسي. الجذمور يخلو ~~من العمق وينتشر على السطح ويرفض الماورائيات. إنه أشبه بالشبكة؛ لذا يطلق عليه دولوز «شبكة الجذمور» # rhizome network # 122 # لا يمكن تحديد بداية أو نهاية للشبكة، فكل حلقة مرتبطة بأخرى؛ ~~لذا فأي بداية هي بداية من المنتصف ... من الوسط؛ «إن أية نقطة من نقط الجذمور، بإمكانها أن ~~ترتبط بباقي النقاط، ويتعين عليها القيام بذلك.» # 123 # والنقطة هنا في مقابل الخط. النقطة جذمورية، والخط شجري، النقطة منفصلة غير ~~متصلة، في حين يكون الخط متصلا. لكن هذا الانقطاع الذي يميز الجذمور لا يعني القطيعة، إنما ~~يعني أن الفكر في أساسه، وكذا الواقع ms146 أيضا، لا يسير وفق بناء خطي نسقي، أو بنية واحدة ~~متسقة. إنما يسير وفق منطق التعدديات والتكاثر والتضاعف، هناك خطوط للإفلات والهروب دائما ~~داخل الجذمور «فخط الهروب يشكل جزءا لا يتجزأ من الجذمور.» # 124 # لذا فالتفكير الجذموري لا يعرف الثبات والاستقرار، يعرف فقط الصيرورة ~~والارتحال وخطوط الهروب والإفلات. # 125 # الجذمور هو صورة العالم الذي لا يحكمه قانون، ولا تسيطر عليه فكرة كلية شمولية ~~واحدة، عالم متعدد اللغات واللهجات «ليست هناك لغة موجودة في ذاتها، ولا لغة كونية، بل ~~تنافس اللهجات # dialectes ~~... اللهجات المحلية # patois # والعامية # argots # واللغات الخاصة.» # 126 # فاللغة واقعة متناظرة بالأساس، ولا يحكمها بناء محدد. السلطة فقط تحاول الحفاظ ~~على شكل لغوي ثابت في الكتابة، والحديث، وحتى في الإنصات؛ والمشكلة هي الخضوع والاستسلام ~~لهذا الشكل الثابت «لم تصنع اللغة من أجل الاعتقاد فيها وإنما من أجل الخضوع لها. حينما ~~تفسر المعلمة عملية معينة للأطفال أو حينما تعلمهم التركيب، فإنها لا تعطيهم في الحقيقة ~~معلومات، وإنما تمرر لهم تعليمات وتبلغهم أوامر وتنتج لهم تلفظات «وجيهة» وأفكارا «صحيحة» ~~مطابقة بالضرورة للدلالات السائدة.» # 127 # سيحتل مفهوم «الجذمور» مكانة هامة في كتابات دولوز ربما بدرجة تفوق أي مفهوم آخر؛ إذ هو ~~ليس فقط مصطلحا يكرس لمبدأ التعددية والاختلاف، بل سيمثل أسلوبا أو طريقة في التفكير ~~والكتابة، بل والوجود في العالم أيضا «يتعلق الأمر بتطورات لا متوازية بين أشياء لا ~~متجانسة، تطورات لا تعمل عبر التشكل وإنما تقفز من خط إلى آخر.» # 128 # وليست الشجرة ولا الجذمور استعارة، إنهما صورتان للفكر، الشجرة بها كل خصائص ~~الاستقرار والثبات: إنها تتوفر على نقطة أصل، أو بذرة أو مركز، إنها بنية ونسق من النقاط ~~والمواضع التي تعمل على حصر كل الممكنات في خانة واحدة. إنها تملك مستقبلا وماضيا، جذورا ~~وقمة، تاريخا بأكمله يحكمه التطور والنمو في اتجاه واحد والعقل الإنساني مليء بالعديد من ~~الأشجار: شجرة الحياة، شجرة المعرفة، شجرة السلطة، شجرة التاريخ. والسلطة نفسها شجرية، لها ~~مركز ونواة، ودوائر تدور حولها، «إنها محور الدوران المنظم للأشياء والذي يكون على شكل دائرة.» # 129 # لذا فهي تسعى ms147، ما أمكنها، لأن تحافظ على استقرار هذا الوضع وهذه الطريقة في ~~الحياة والتفكير، من هنا يعلن دولوز «لقد سئمنا من الأشجار، وعلينا ألا نثق فيها ولا في ~~الجذور والجذيرات؛ لأننا عانينا كثيرا. ومعلوم أن كل الثقافة الحديثة تتأسس انطلاقا منها، ~~بدءا بالبيولوجيا وانتهاء باللغويات.» # 130 ~~••• # إن الجذمور أو العشب الذي ينمو بين الأشجار وحولها هو القادر على «أن يهز دعائم الشجرة ~~الحديثة للعلم الغربي.» # 131 # إنه نموذج متعدد المراكز والنقاط، خطوط الالتقاء فيه هي نفسها خطوط الهروب ~~والإفلات. لذا فإن الجذمور يكون دائما بين الأشياء، وينمو من خلالها «تتطور الأشجار وفق ~~التشكل الوراثي المسبق أو وفق التنظيمات البنيوية المتجددة. وليس هذا حال العشب أو الجذمور، ~~إنه ينمو بين أواسط الأشياء الأخرى.» # 132 # إنه يملأ الفراغات والفجوات بين الأشياء. وليس المهم هنا تحديد نقاط بداية أو ~~نهاية؛ إذ إن المهم دائما هو «الوسط»، فنحن دائما وسط طريق ما أو وسط شيء ما، نعيش دائما ~~بين الماضي والحاضر، الحاضر والمستقبل. لا توجد بداية محددة نبدأ منها لأن كل بداية تسبقها ~~بدايات، كما لا وجود لنهاية خالصة؛ فكل نهاية هي بداية جديدة لشيء ما «هذا ما يجعل من الممكن ~~دائما أن يقال لمؤلف ما إن عمله الأول كان جامعا وشاملا منذ البداية، أو إنه لا يتوقف، ~~بالعكس، عن التجدد والتحول.» # 133 # يرتبط مفهوم «الجذمور» عند دولوز بمفاهيم أخرى عديدة كالصيرورة والارتحال، التوطين ~~وإعادة التوطين. كما يرتبط أيضا بمشروعه الفلسفي الذي يطلق عليه «قلب الأفلاطونية»، ونقده ~~«للتحليل النفسي». كما أنه حاضر باستمرار في رؤيته للفن والاستطيقا. وربما ستتضح هذه ~~المفاهيم وعلاقاتها المتشابكة عندما نتقدم خطوات أخرى في التحليل. غير أن هذا المفهوم أيضا ~~يرتبط بالأسلوب الذي اتبعه دولوز في كتاباته؛ فما إن نبدأ بالقراءة في عمل من أعماله حتى ~~نشعر بالتشتت والارتباك، والانتقال السريع من فكرة لأخرى، ومن مفهوم إلى آخر. # لا تعمل الكتابة الدولوزية وفق النموذج الخطي المتسلسل المتعارف عليه، إنما وفق نموذج ~~الشبكة متعددة المراكز. الكتاب كصورة جذمورية، ضد الصورة الشجرية في الكتابة. ممارسة ~~الكتابة كتعددية ms148 وصيرورة بدلا من ممارستها كبنية مغلقة. كتابة ليست رصدا، ولا تتبعا، ولا ~~انعكاسا وتأملا، كتابة تحتفي بالانبثاق والاقتباس والخيانة. يقول دولوز عن تجربة الكتابة ~~المشتركة مع فليكس جاتاري «لقد سرقت فليكس وأرجو أن يكون قد قام إزائي بالشيء ذاته.» # 134 # فالكتابة دائما تتم «مع» و«بين» «إننا نكتب دائما مع أحد ما لا نسميه حتى ~~عندما نعتقد أنه لا يشاركنا شخص آخر في الكتابة.» # 135 # الكتابة عند دولوز هي آلة منتجة للمعنى ... آلة حرب موجهة ضد كل أشكال السلطة، ~~لكنها آلة غير نسقية «إنها عبارة عن حلقات مفتوحة.» # 136 # منفتحة على الخارج، تحيل إليه، ويحيل إليها «إن الكتاب لا يوجد إلا في الخارج وبواسطته.» # 137 # وهو يرتبط بتركيبات وخطوط أخرى عديدة «فالكتاب ليس صورة للعالم كما ترسخ في ~~الاعتقاد. إنه يشكل جذمورا مع العالم، بحيث يوجد تطور لا متواز بينهما؛ فالكتاب يضمن ~~ترحال العالم، لكن هذا الأخير يعيد توطين الكتاب الذي يرحل بدوره وبذاته داخل العالم.» # 138 # إن العالم ليست له صورة ثابتة تحاول أن تحاكيها الكتابة؛ لذا فالمطلوب هو رسم ~~خارطة للعالم عبر الكتابة، لا محاولة نسخه ومحاكاته. # ولعل كتاب دولوز وجاتاري «ألف ربوة» # Mille Plateaux # يعد نموذجا تطبيقيا لأسلوب الكتابة ~~الذي يحدثنا عنها دولوز. ولعل عنوان الكتاب في حد ذاته يبدو موحيا؛ فمفردة ربوة استعارها ~~دولوز وجاتاري من جريجوري باتيزون # Gregory Bateson # والتي استخدمها في كتابه «نحو إيكولوجيا ~~الروح» # Vers une écologie de l’esprit # وكان يعني بها «منطقة زاخرة بالطاقة ومتوهجة، تتفادى ~~كل توجه نحو نقطة مرتفعة أو نحو نهاية خارجية.» # 139 # إن الربوة توجد دوما في الوسط، فلا بداية لها ولا نهاية. وكلمة «ألف» تفيد ~~التعددية، إنها «ألف ربوة وربوة»، كل ربوة منفصلة عن الأخرى، لكن هناك خطوط وإشارات ضوئية ... نقاط للتلاقي، هي نفسها خطوط للهروب، إن الربوة ليست استعارة؛ فالأمر يتعلق بمناطق تغير ~~متواصل أو بما يشبه الأبراج التي يراقب كل منها أو يستطلع منطقة ما، وتتبادل الإشارات. # 140 # هذا من حيث عنوان المؤلف، أما الكتاب نفسه فلم يأت على شكل فصول مسلسلة؛ ~~«فالكتاب المكون من فصول، يتوفر على نقاط ذروته ونهايته ms149، فما الذي يحدث بالمقابل، بالنسبة ~~لكتاب مؤلف من ربوات تتواصل فيما بينها عبر شقوق مجهرية.» # 141 # لذا فليس للكتاب بنية أو موضوع محدد، إنه مليء بالفجوات، وخطوط الهروب «لقد ~~قسمناه إلى ربوات وأعطيناه شكلا دائريا.» ومن هذا المنطلق فإن من الممكن قراءة كل ربوة ~~بصورة منفصلة، وهذا هو التنويه الذي افتتح به دولوز كتابه «لا يتألف الكتاب من فصول إنما ~~ربوات، وسنحاول فيما بعد توضيح لماذا استخدمنا هذه الطريقة، ولماذا أعطينا كل ربوة تاريخا محددا.» # 142 # وإلى حد ما يمكن قراءة كل ربوة من هذه الربوات على حدة، وبشكل مستقل، باستثناء ~~الخاتمة التي ينبغي قراءتها في النهاية. # 143 # لقد أراد دولوز من كتابه هذا ممارسة «الكتابة الجذمورية» وهي كتابة تقطع الصلة ~~بالخطاب الفلسفي التقليدي، كتابة تقف ضد فكرة التاريخ المتواتر «فكل ربوة تمثل لحظة زمنية ~~غير مرتبطة بالتي تسبقها أو تلحقها»، لكنها في الوقت نفسه تهدف إلى خلق همزات وصل بين حقول ~~معرفية منعزلة عن بعضها. ~~••• # هكذا تصور دولوز أسلوب الكتابة ووظيفتها، وهو أسلوب طبقه دولوز في معظم مؤلفاته؛ لذا فإن ~~قراءة هذه المؤلفات أشبه «بالمغامرة»، ولا بد أن نمتلك استراتيجيات للقراءة ونحن نتعامل معها؛ ~~ولهذا السبب أيضا لا تعد قراءة دولوز «بالمهمة السهلة»، # 144 # إنها «أعمق دراما» بحسب توصيف جيمسون، # 145 # بل إن البعض يجعل من هذه الصعوبة سببا لعدم انتشار فلسفته بالقدر الكافي ~~مقارنة بباقي أقرانه ما بعد البنيويين. # 146 # لكن على أي حال تعددت المداخل لقراءة فلسفة دولوز: فميشال هارد # M. Hardt # 147 # يقرؤها في سياق الانقلاب ما بعد البنيوي على الفلسفة الهيجلية؛ وهو ينظر إلى ~~فلسفة دولوز بوصفها جمعا أو توفيقا بين أنطولوجيا برجسون وأخلاق نيتشه وتعبيرية سبينوزا، ~~وهو يرى أن فلسفة دولوز إجمالية الطابع، وأنه لم يغير من آرائه واتجاهاته منذ أول أعماله ~~حتى آخرها. أما آلان بادو صديق دولوز فيرى - خلافا لكل التأويلات التي تذهب إلى اعتبار ~~فلسفة دولوز فلسفة للتعدد والرغبة - أن حقيقة فلسفته تكمن في كونها تتحرك نحو هدف واحد يطلق ~~عليه «بزوغ الواحد» # survenance de l’un ~~، وهو ما أطلق عليه دولوز نفسه «الواحد ms150-الكل» # l’un-tout ~~، ويحصر بادو هذا «الواحد-الكل» عند دولوز، في الوجود والمعنى؛ «فالمسألة الأساس في ~~فلسفة دولوز لا تتمثل بالتأكيد في تحرير المتعدد بل في إخضاع الفكر في مفهوم متعدد للواحد.» # 148 # ويؤكد بادو أن فلسفة دولوز في مجملها تدور حول محور واحد هو «ميتافيزيقا ~~الواحد» # métaphysique de l’une ~~(الوجود بوصفه الحدث الوحيد الذي تتم فيه كل الأحداث). في ~~نفس السياق أيضا يرى تايلور هامير # Taylor Hammer # أن المشروع الفلسفي لدولوز هو استمرار ~~للمشروع الأنطولوجي لهيدجر رغم اختلاف النسق الاصطلاحي لكل منهما، وهو يستند إلى بعض مقولات ~~دولوز التي وردت في كتابيه «الاختلاف والتكرار» و«منطق المعنى» مثل «أن الفلسفة تلتحم/تتوحد ~~بالأنطولوجيا» و«من بارميندس Parmenides # إلى هيدجر # Heidegger # هو صوت واحد يتردد ... محيط واحد ~~لكل القطرات ... نداء واحد للوجود.» # 149 # لكن على النقيض من ذلك يرى رونالد بوج # R. Bogue # 150 # أن المشروع الفلسفي لدولوز قائم على إحلال حرف العطف ~~(et) # محل الرابطة ~~(est) ~~؛ أي التعددية محل الهوية، ويرى أن فلسفة دولوز تعطي الأولوية للحدث المفرد على الوجود ~~بمعناه العام، وبالتالي فالأنطولوجيا كخطاب ميتافيزيقي مجرد ليست مطروحة في فلسفة دولوز، ~~كما أن دولوز لم يدع أن الوجود سابق على المعرفة كما ذهب إلى ذلك ميرلوبونتي وهيدجر؛ ~~ففلسفته في الأساس تقف أمام كل «الماقبليات» و«الماورائيات». # إلى نفس هذا الرأي أيضا ينضم فيلب مانج في كتابه «نسق المتعدد»، فهو يقرأ دولوز من خلال ~~مفهوم «التعددية» وهو سيتتبع هذا المفهوم في كتابات دولوز بدءا من «الاختلاف والتكرار» ~~وحتى كتابيه عن «السينما». ففكرة الاختلاف هي السلاح الذي يشهره دولوز في وجه كل الفلسفات ~~الشمولية التي لا مكان فيها إلا لمنطق الهوية والوحدة. إن دولوز - حسب توصيف مانج - فيلسوف ~~«لا يعتمد على مبادئ، ولا يتحرك انطلاقا من نقطة مركزية يحدد منها وجهته. وهو أيضا لا ~~يسعى إلى إيجاد رابط يصل الأشياء بعضها ببعض. إنما هو يزيد من تأزم اختلافها.» # 151 # على أي حال يقرأ مانج دولوز بوصفه فيلسوفا ما بعد حداثي يؤسس لقانون الحدث ~~بمعناه الفلسفي في مواجهة المبادئ الفلسفية الكلاسيكية المؤسسة على ميتافيزيقا الحقيقة ~~والتمثيل. أما كلير ms151 كوليبروك # Claire Colebrook # 152 # فتقدم مقاربتها لفلسفة دولوز من خلال مجموعة من المفاهيم - وهي ~~الطريقة الأجدى في رأيي. فلما كانت الفلسفة عند دولوز - على نحو ما سنرى - آلة منتجة ~~للمفاهيم، ولما كان دولوز قد مارس ما ارتآه وظيفة الفلسفة - وهي إنتاج المفاهيم، فإن المدخل ~~المناسب لفهم فلسفته هي المفاهيم التي طرحها ونادى بها، مع محاولة الكشف عن العلاقات بينها. ~~من هنا تحدد كلير مجموعة من المفاهيم التي ترى أنها تشكل منظومة حاضرة وبقوة في كل مؤلفات ~~دولوز، ومن هذه المفاهيم «الصيرورة، واللاأقلمة ، التجريبية المتعالية، الرغبة، السيمولاكرا، ~~الآلة، الإدراك الحسي، الزمن ... إلخ.» وهناك أيضا قراءات أخرى عديدة لفلسفة دولوز؛ فجيمس ~~بروسو يقرؤها بوصفها «قلبا للأفلاطونية»، # 153 # وآدم كوبير بوصفها «فلسفة للجسد»، # 154 # وجون راجمان بوصفها «فلسفة حياة» ... # 155 # إلخ. ~~••• # لم يكن دولوز من الفلاسفة الذين نادوا ب «موت الفلسفة» أو نهايتها، أو حتى من الذين ~~فقدوا الثقة في أهميتها وجدواها استنادا للتقدم الذي حدث في الحقول المعرفية الأخرى وتخلف ~~الفلسفة عن الركب، يقول دولوز في «ما الفلسفة»: «لم يكن لدينا على أي حال، مشكلة تتعلق بموت ~~الميتافيزيقا أو بتجاوز الفلسفة؛ فتلك الأفكار هراءات لا جدوى منها. هل نستمر الآن في ~~الحديث عن إفلاس المذاهب والأنساق، بينما كل ما حدث أن مفهوم النسق هو الذي تغير.» # 156 # كانت ثقة دولوز في الفلسفة مستمدة من تصوره لوظيفتها أو ماهيتها التي لا يلحق ~~بها التقادم. «الفلسفة آلة منتجة للمفاهيم» و«الفيلسوف صديق المفهوم»، هذا هو التحديد ~~الدولوزي لماهية الفلسفة. والواقع أن قيمة هذا التحديد في حد ذاته، بصرف النظر عن مضمونه، ~~تكمن في أنه جاء في الوقت الذي بات ينظر فيه إلى الفلسفة على أنها «ميدان من البحث غير مرغوب ~~فيه» أو الدعوة إلى «تحلل الفلسفة وتماهيها مع بعض الحقول المعرفية الأخرى». أصبحت الفلسفة ~~الآن تبحث عن مأوى بعد أن كانت هي المأوى للعديد من المعارف، والواقع أن الأمر لا يستدعي ~~الحسرة والألم بقدر ما يتطلب إعادة التساؤل عن ماهية الفلسفة، وعن دورها ووظيفتها التي ~~تضطلع بها في الوقت الراهن. ولئن ms152 كان تاريخ الفلسفة يحفل بالعديد من الفلاسفة الذين كانوا ~~دائمي التساؤل عن ماهيتها؛ فإن هذا يعني أنه سؤال أزمة، كما أنه سؤال متجدد، تختلف محاولات ~~الإجابة عليه وفقا لمقتضيات كل عصر وظروفه. # ليس الفيلسوف - وفقا لدولوز - ذلك الشيخ الحكيم القادم من اليونان الذي يعبر عن أفكاره ~~بالرموز والصور الشعرية والأشكال الخيالية، والذي يدعي امتلاك الحقيقة والاتحاد بالمطلق، بل ~~الفيلسوف هو ذلك العاشق المحب للحكمة والمفهوم، وبمعنى أدق هو صديق الحكمة، والراغب فيها. ~~وهذه الصداقة لا تخلو من أنداد ومنافسين ، وقد عبر أفلاطون من قبل عن هذا المعنى عندما قال: ~~«إذا كان كل مواطن يطمح إلى شيء ما، فإنه يواجه بالضرورة منافسين ... فقد يطمح النجار إلى ~~الخشب، لكنه يصطدم بحارس الغابة والحطاب وصانع الخشب الذين يقول كل واحد منهم: أنا ... أنا ~~صديق الخشب.» وكذلك الحال أيضا مع الفيلسوف؛ إذ سنلتقي بالكثير من المدعين الذين يقول كل ~~منهم «إن الفيلسوف الحقيقي هو أنا ... أنا صديق الحكمة.» وهكذا كان الحال مع أفلاطون عندما قام ~~بالتمييز بين الفيلسوف وأدعياء الحكمة، وأرسطو عندما فرق بين الخطاب الفلسفي وأنواع ~~الخطابات الأخرى. وقد ظلت الفلسفة طوال تاريخها تصطدم بالعديد من الأدعياء والمنافسين، لكن ~~الخطر الآن أشد وأكثر قوة؛ لأن المنافسة قديما كانت محصورة بين شخص الفيلسوف ومن يدعي ~~التفلسف، أما الآن فالفلسفة ذاتها هي التي تدخل المنافسة أمام ميادين وحقول معرفية أخرى ~~تريد أن تحل محلها، أو تقوم بوظيفتها. ولم يكن هذا ليحدث إلا لأن الفلسفة أهملت باضطراد ~~ميولها نحو إبداع المفاهيم، كيما تحصر نفسها داخل الكليات «ليس المؤلم هو هذا الاغتصاب ~~الوقح، وإنما هو أولا وقبل كل شيء، التصور الفلسفي الذي يجعل مثل هذا الاغتصاب ممكنا.» ~~فالفلسفة عبر نزوعها المثالي والماورائي هي التي جعلت الفرصة سانحة أمام العديد من الميادين ~~الأخرى كيما يقوموا بالسطو على دورها «لقد التقت الفلسفة منذ عهد ليس ببعيد بمنافسين جدد ~~كثيرين كعلم الاجتماع واللغويات والتحليل النفسي، وقد بلغ العار مداه أخيرا حينما استحوذت ~~المعلوماتية والتسويق التجاري وفن التصميم والدعاية، وكل المعارف ms153 الخاصة بالتواصل، على لفظة ~~المفهوم ذاتها وقالت: هذه من مهمتنا، نحن الخلاقين، نحن منتجو المفاهيم، نحن وحدنا أصدقاء ~~المفهوم، نجعله داخل حاسوباتنا.» لقد تحول المفهوم الآن إلى سلعة تباع وتشترى وأصبح أداة في ~~يد الإعلام وشركات الدعاية والإعلان «أصبحت الصورة الوهمية هي المفهوم الحقيقي، وأصبح ~~المقدم، العارض للمنتج، سلعة كانت أو لوحة فنية، هو الفيلسوف مبتكر المفاهيم أو الفنان.» ~~لكن هذه المنافسة وهؤلاء الأنداد الجدد، لا يضيرون الفلسفة «بقدر ما يجعلها تشعر بحيوية ~~لأداء مهمتها الحقيقية، وهي خلق المفاهيم .» # عندما أعاد دولوز طرح سؤال «ما الفلسفة؟» في كتابه الذي يحمل العنوان ذاته - والذي صدر في ~~نهايات القرن العشرين - لم يكن يبغي وضع إجابة تقريرية له (الفلسفة هي كذا وكذا ...) بل كان ~~يسعى بالأحرى إلى تحديد الميدان الخاص بالفلسفة وتمييزه عن باقي الميادين الأخرى. وهذا ما ~~يحقق للفلسفة تفردها وتميزها، ويجعل منها ولها كيانا مستقلا ووظيفة متجددة دوما. وعلى الرغم ~~من أن السؤال عن «ماهية الفلسفة» يصلح دائما كمدخل أو مقدمة لفلسفة أي فيلسوف، كيما يحدد من ~~خلال الإجابة عليه رؤيته للعالم، ومن ثم منهجه واتجاهه؛ إلا أن الأمر يبدو خلاف ذلك. إذ ~~يبدو السؤال هنا وكأنه تتويج لحياة الفيلسوف، إنه أشبه بالمراجعة المدروسة للفكر؛ فالفلسفة ~~التي تسأل سواها، تعيد النظر في مجمل ما تراكم لديها من أجوبة، لتطرح من خلالها سؤال نفسها ~~عينه. إنه أشبه بسؤال رجل على مشارف الموت عن «ماهية الحياة»، إنه سؤال أزمة لا سؤال معرفة. ~~هناك لحظة لا بد أن يتساءل الفيلسوف فيها عن «ما هي الفلسفة؟» أو كما يقول دولوز «كنا شديدي ~~الرغبة - نحن الفلاسفة - في إنتاج ما يعود إلى الفلسفة، دون أن نتساءل: ماذا كان عليه ذلك ~~الشيء الذي قمت به طيلة حياتي؟» # 157 # وغالبا ما تأتي هذه اللحظة في المرحلة المتأخرة من العمر «لحظة أن تتجمع وتأتلف كأجزاء الآلة فيما بينها كيما يتم إرسال خط في المستقبل يخترق كل العصور ...» # 158 # إنها اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت، لحظة التحرر من كل القيود، ومن كل ~~الاندفاعات ms154 النظرية والعملية، ومن كل الحسابات والاعتبارات الانتمائية ... إنها الساعة التي ~~تقول فيها «هذا هو بالضبط ما كان يشغلني، لكني لست أدري إن أحسنت التعبير عنه، أو إن كنت ~~مقتنعا بما يكفي.» # 159 # يبدأ دولوز تحديده لماهية الفلسفة باستبعاد التعريفات السائدة والمستقرة التي قدمت لها. ~~أشهر هذه التعريفات أن الفلسفة مرادفة للتأمل النظري أو التفكير المجرد، يرفض دولوز أن تكون ~~الفلسفة في تميزها واختلافها عن العلوم والمعارف الأخرى مجرد تأمل # contemplation ~~؛ لأن التأمل ~~ليس خاصية تميز الفيلسوف بل يشاركه فيها رجل العلم والسياسي والفنان وحتى رجال الدين، ~~بالإضافة إلى أن تجربة التأمل هي تجربة ميتافيزيقية تبعدنا عن الواقع وتجعلنا نهتم ~~بالكليات، ولا تمكننا من إنتاج أشياء جديدة، وإنما تسقطنا في وهم الانتصارات اللازمانية على ~~الفلاسفة والحكم على جهودهم بطريقة اختزالية متسرعة وباطلة تأثرا بالرغبة في الهيمنة ~~والتميز. كما يرفض دولوز أن تكون الفلسفة مجرد تفكير أو انعكاس الفكر على ذاته # réflexion # لأنه بهذه الطريقة سنثير الغبار ونشكو من عدم الرؤية، وتضيع أقوالنا ولا تصل إلى مسامع ~~مخاطبينا وراء الجلبة التي نحدثها بأنفسنا. ولأن الإنسان ليس دائما وأبدا في حاجة إلى تعلم ~~الفلسفة من أجل القيام بالتفكير في أشياء تخص عالم الحياة الذي يعيشه، كما أن العلوم ~~والفنون المختلفة ليست في حاجة للفلسفة من أجل التفكير في قضاياهم المتعددة، بالإضافة إلى ~~أن التفكير ليس بحد مميز للفلسفة، بل هو نشاط عام يشترك فيه الجميع، يقول دولوز: «نحن نعتقد ~~أننا نمنح الفلسفة قدرا كبيرا حينما نجعل منها فنا للتفكير، لكننا في الواقع نجردها من كل ~~شيء، فالرياضيون لم ينتظروا أبدا مجيء الفلاسفة لكي يفكروا في الرياضيات، كما لم ينتظر ~~الفنانون مجيء الفلاسفة للنظر في الرسم والموسيقى.» # 160 # أما الرأي الثالث الذي يقول بأن الفلسفة تعني «التواصل»، وهو رأي هابرماس الذي ~~ذهب إلى أن وظيفة الفلسفة هي صياغة الحقيقة التي تحظى بالإجماع # consensus # عبر ~~التواصل # communication # بمعناه العام، سواء بين الأفراد والجماعات أو بين المذاهب والتيارات، أو حتى ~~بين المراحل التاريخية المتعاقبة. يرفض دولوز رأي هابرماس - المعاصر له، ويبرر ذلك ms155 بأن الذي ~~يحرك الجمهور ويؤثر في الحشود ويصنع الرأي العام ليس العقل والمفهوم، بل الأهواء والعواطف ~~والمصلحة؛ ولذلك ينفي أن تكون الفلسفة وليدة النقاش بين الناس عبر الموائد المستديرة في ~~الساحات العامة؛ لأن الفلسفة لها مائدتها المستديرة التي تخصها. ذلك بالإضافة إلى أن النقاش ~~العام هو معركة بين الآراء والظنون كثيرا ما ينتهي إلى التنازع والصراع، ويحركه مبدأ إرادة ~~القوة، وهو نقاش عقيم لا يبدع سوى آراء وليس أفكارا. أما الحوار العقلاني على المائدة ~~الفلسفية فهو حوار جاد ميدانه اللغة العقلانية، ومقصده هو المفاهيم والمعاني. # إن المشكلة الأساس في التعريفات السابقة هي أنها كانت وما زالت مسكونة بهوس تشكيل ~~الكليات # universaux # داخل مجمل الميادين، وهذا مرجعه حلم قديم ورغبة في سيطرة الفلسفة على ~~المجالات المعرفية الأخرى. والمثال الأبرز هنا فكرة «الروح المطلق» التي نادى بها هيجل وجعل ~~منها مبدأ كونيا مفسرا لكل شيء ... الفن والدين والتاريخ، والنتيجة ... الإغراق في العموميات ~~ونفي التعدديات؛ لذا يقول دولوز: «المبدأ الأول للفلسفة هو كون الكليات لا تفسر أي شيء، بل ~~ينبغي أن تكون هي موضع تفسير.» # 161 # والخلاصة كما يقول دولوز: «ليست الفلسفة تأملا ولا تفكيرا ولا تواصلا حتى وإن ~~كان لها أن تعتقد تارة أنها هذا وتارة أنها ذاك.» # 162 # لا تتحدد قيمة الفلسفة - بحسب دولوز - وفقا لما تنتجه من مناهج أو مذاهب؛ فليس المنهج سوى ~~أداة نسقية للتعامل مع الظواهر ... أداة لاختزالها وإدراجها في وحدة زائفة. كما أن المدارس ~~والمذاهب الفكرية لم يعد لها وجود؛ لأن الوقائع الآن لم تعد تحتمل في تفسيرها أية أفكار ~~كلية شمولية. يحدد دولوز مهمة الفلسفة في كونها إبداع وابتكار للمفاهيم، تلك هي الروح الأصلية ~~للفلسفة منذ الإغريق وحتى الآن «كلما تم إبداع المفاهيم في مكان وزمان ما، فإن العملية ~~المؤدية إليه ستسمى دائما فلسفة، أو لن تتميز عنها نهائيا حتى وإن أطلق عليها اسم آخر.» # 163 # إن الفلاسفة العظام الذين يحتلون مكانة رئيسية في تاريخ الفلسفة هم مبتكرو ~~المفاهيم أو مجددوها، وكما يقول نيتشه: «لا ينبغي أن يكتفي الفلاسفة بقبول ms156 المفاهيم التي تمنح ~~لهم مقتصرين على صقلها وإعادة بريقها، وإنما عليهم الشروع بصنعها وإبداعها وطرحها وإقناع ~~الناس باللجوء إليها.» لا بد أن يكون للفيلسوف إذا إسهامه في مجال إبداع المفاهيم، وإلا فإنه ~~يتخلى بذلك عن المهمة الأسمى للفلسفة؛ «لا تكون المفاهيم في انتظارنا وهي جاهزة كما لو كانت ~~أجساما سماوية. ليست هناك سماء للمفاهيم، بل ينبغي ابتكارها وصنعها، أو بالأحرى إبداعها، ~~ولن تكون أي شيء إن كانت لا تحمل توقع مبدعيها.» # 164 # إن المفاهيم بحسب دولوز تكون محايثة بنفس القدر الذي تكون فيه متعالية، إنها تكثيف للحدث ~~«فأن نفكر معناه أن نجرب.» # 165 # لكن التجربة هنا لا تشير إلى المعنى الفيزيقي الحسي، إنما تعني أن الفكر مهما ~~بلغت درجة تجرده يرتبط بمسطح محايثة ما، بأرض أو بإقليم معين؛ لذا فلا بد أن نتساءل عند ~~تعاملنا مع أي مفهوم عن مسطح المحايثة الذي يشغله، وغالبا ما يكون هذا المسطح مرتبطا بمشكلة ~~أو معضلة واقعية تواجه الفيلسوف «وإذا لم نجد المعضلة المصاحبة للمفهوم فإن كل شيء يبقى ~~تجريديا.» لقد أبدع أفلاطون مفهوم المثال - رغم تعاليه - فوق مسطح من المحايثة مرتبط بالوسط ~~الإغريقي الذي كان يعيش فيه. وهو وسط كانت تحتل فيه فكرة التنافس - التي هي إحدى تجليات ~~الدولة الديمقراطية التي أسسها الإغريق - مكانة رئيسة. وما كان يشغل أفلاطون - رغم عدم قبوله ~~للصفة الديمقراطية للدولة - أثناء طرحه لهذا المفهوم تمييز المتنافسين والاختيار بينهم، ~~المتنافس الجيد من الرديء ... الحقيقي من المزيف؛ إذ إن المناخ الديمقراطي الإغريقي كان قد رسخ ~~قيمة التنافس بين الأفراد لشغل وظائف الدولة، # 166 # وهو ما افتقده النظام الإمبراطوري الذي كان سائدا في الشرق، والذي كان يقوم ~~فيه الإمبراطور باختيار شاغلي المناصب فيه بنفسه. هذا بالإضافة إلى أن التنافس قد بلغ مداه ~~بين السوفسطائيين والفلاسفة والفنانين (ويمكن قياس ذلك على ظواهر أخرى عديدة كان التنافس ~~فيها قويا)، وكل منهم يدعي أنه راع للحكمة. كان هدف أفلاطون وضع معيار يمكن من خلاله ~~الانتقاء بين المدعين واختيار الحقيقي من المزيف، ولهذا الهدف أبدع مفهوم المثال. # وعلى ms157 الرغم من أن لكل مفهوم مكانه وزمانه الخاصين، إلا أن المفهوم كالعمل الفني يظل خارج ~~سياق الزمن، لا تسري عليه قوانينه «وبذلك تتوفر للمفاهيم طريقتها في عدم التعرض للفناء رغم ~~كونها مؤرخة وموقعة ومسماة.» وكل مفهوم له سياقه الزماني والجغرافي الذي أنتج فيه، لكن يظل ~~هذا السياق بمنأى عن المفهوم في ذاته، ينفلت المفهوم باستمرار خارج هذا السياق ليدخل في ~~تشكيلات جديدة وتنسيقات وسياقات مختلفة ... في زمان وجغرافيا جديدين. # تتمثل تلك الجغرافيا فيما أطلق عليه دولوز مسطح المحايثة # plan d’immanence ~~، ويمكن توضيح ~~ما يقصده دولوز، من هذا المفهوم، بمثال أشار إليه، هو نفسه، باقتضاب حينما قال: «إن المسطح ~~يشبه الصحراء التي تؤمها المفاهيم دون أن تتقاسمها.» # 167 # ولنتخيل إذا صحراء شاسعة مترامية الأطراف تسكنها مجموعة من القبائل المتفرقة، ~~كل منها يشغل منطقة محددة منفصلة عن الأخرى ... وتتناثر هذه القبائل بطريقة عشوائية، وربما ~~فوضوية أيضا؛ حيث تغير مواقعها باستمرار من خلال نقاط الفراغ المتوفرة على السطح. وكل قبيلة ~~من هذه القبائل لها امتدادها الزماني الجغرافي، لكن هذا الامتداد لا يجعلها تركن وتستقر في ~~موضعها، فهي دائمة التنقل والترحال والبحث عن الجديد ... البحث عن المأوى والطعام والشراب، وهي ~~مطالب متجددة لا يسكتها الإشباع. هذه القبائل تختلف من حيث الكم والمساحة التي تقتطعها ~~لنفسها، لكنها تشترك جميعا في حركتها المستمرة وصيرورتها وارتحالها المتواصل، كما أنها ~~متصلة ببعضها من خلال علاقات النسب التي تربط بين أعضائها. الصحراء هنا هي مسطح المحايثة أو ~~الانبثاق أو المثول وكلها معان واحدة، والمفاهيم هي القبائل التي تشغلها، وسيد كل قبيلة هو ~~الفيلسوف الرحالة مبتكر المفاهيم، الذي يقودها ويبحث لها عن أماكن جديدة تعمرها باستمرار. ~~الصحراء رمز المطلق أو السديم # Chaos ~~«فالمسطح هو المطلق اللامحدود الذي لا شكل له ولا مساحة ~~ولا حجم.» القبائل متغيرة أما الصحراء فثابتة «إن المفاهيم أشبه بالموجات المتعددة التي ~~تعلو وتهبط، ولكن مسطح المحايثة هو الموجة الوحيدة التي تلفها وتنشرها.» # 168 # القبائل أحداث أما الصحراء فهي أفق الأحداث، السماء المرصعة بالنجوم. القبائل ~~متعددة أما الصحراء فواحدة ذات ديمومة «إن ms158 المفاهيم تتراص وتشغل المسطح وتملؤه قطعة قطعة، ~~بينما المسطح هو الوسط الذي لا ينقسم؛ إذ تتوزع المفاهيم دون أن تلغي وحدته واستمراريته.» ~~وإذا كانت القبائل هي التي تتكفل بإعمار الصحراء، فإن هذه الأخيرة هي التي تؤمن التواصل بين ~~القبائل «إن المسطح هو الذي يؤمن اتصال المفاهيم، بواسطة ترابطات تتزايد على الدوام، ~~والمفاهيم هي التي تؤمن إعمار المسطح وفق مساحة تتجدد وتتغير باستمرار.» # 169 # المفاهيم كلها تتناثر على مسطح محايثة واحد، غير أن هناك مسطحات محايثة جزئية؛ ~~فكل مذهب وكل فلسفة لها مسطحها الخاص، كما أن لكل فيلسوف مسطحه، الذي من الممكن أن يعاد ~~إحياؤه من جديد. والفلسفة والعلم والفن، لكل منها مسطحه الخاص الذي لا يمكن أن يتماهى مع ~~نظيره. # إن كل مفهوم يتضمن مسطح محايثة خاص به يتكشف من خلال البحث عن المعضلة التي تكمن وراءه، ~~وكما يقول دولوز فإن «الأفكار ليست نتاج الخبرة؛ فهي تظهر كإشكاليات، وتتكشف كموضوعات ذات ~~صورة معضلة.» # 170 # تلك هي أهمية الأسئلة في الفلسفة. وما يدعوه دولوز - متابعا في ذلك هيدجر - بفن ~~ابتكار السؤال، هو محاولة الكشف عن المعضلات التي تحرك تاريخ الفلسفة والتي تكمن وراء ~~البناء المفاهيمي الخاص بها. وعلى سبيل المثال عندما طرح باسكال سؤاله: هل الله موجود أم لا؟ ~~لم يكن يقصد سؤالا مباشرا يحتاج إلى إجابة تقريرية بنعم أو لا، كما لم يكن إقراره في ~~النهاية مجرد رهان كما يظن البعض. فلو كانت المسألة بهذه السطحية، لما كان لسؤال بسكال ~~الأهمية التي اكتسبها في تاريخ الفلسفة، كان سؤال بسكال ينطوي على إشكالية أهم من سؤاله ~~الظاهر وهي: ما هو أفضل طور من أطوار الوجود؟ هل هو لشخص يعتقد بوجود الله أم بشخص لا يعتقد؟ ~~وهكذا فإن سؤال بسكال الظاهر لا يتعلق بوجود الله أو عدم وجوده، وإنما يتعلق بحال كل من ~~يعتقد أو لا يعتقد بوجود الله. # وليست المفاهيم سكونية الطابع، يبدعها الفيلسوف ثم تفقد بريقها مع مرور الوقت، وإنما ~~يدخل كل مفهوم منذ إبداعه في عمليات عدة يكتسب في كل منها ms159 معاني متجددة، بحيث يظهر في كل ~~مرة بصورة مختلفة عن سابقتها «نفكر بأن نجد خارج المفهوم «أ» محمولا «ب» يكون غريبا عن هذا ~~المفهوم، لكننا نظن أن من واجبنا إلحاقه به؛ فكل مفهوم هو في علاقة مع شيء آخر خارجا عنه.» # 171 # فالمفاهيم تتطور مع التطور الزماني والمكاني، بحيث تدخل في علاقات جديدة مع ~~مفاهيم أخرى، أنتجت في أزمنة مغايرة، كما تنتقل من مكان لآخر أو من سطح إلى آخر مغاير ~~لتحمل بدلالات جديدة في كل مرة، وكذا الحال أيضا في انتقال المفهوم من مجال معرفي إلى ~~آخر. ويتطلب هذا - وفقا لدولوز - أن يكون للمفهوم شخصية مفهومية تساهم في تحديده. وهنا يمكن ~~أن نقول إن الفلسفة كالرواية، فإذا كانت الرواية تتحرك من خلال شخصياتها، فإن للفلسفة أيضا ~~شخصياتها التي تتحرك من خلالها ... زرادشت نيتشه، وأبله ديكارت، سقراط أفلاطون. وهناك شخصيات ~~مفهومية عديدة لا تكتسب اسم علم، لكنها حاضرة عند كل فيلسوف، وينبغي على القارئ تكوينها ~~وإعادة بنائها، موناد ليبنتس، وتعبيرية سبينوزا، قصدية هوسرل، ونقد كانط، والروح الكلي ~~لهيجل ... إلخ. وليست الشخصية المفهومية ممثلة للفيلسوف، بل العكس هو الصحيح؛ فالفيلسوف مجرد ~~وسيط لظهور المفهوم وانبثاقه ... الفيلسوف هو الذي يجسد الشخصية المفهومية «إنه الاسم ~~المستعار لهذه الشخصيات المفهومية»، وقدر الفيلسوف هو أن يصير إحدى هذه الشخصيات، بحيث تغدو ~~مختلفة عما كانت عليه تاريخيا، وميثولوجيا، أو كما هي شائعة (سقراط أفلاطون، ديونيزيوس ~~نيتشه أبله ديكارت ... إلخ). فليس ديونيزيوس نيتشه هو عينه ديونيزيوس الأساطير، كما أن سقراط ~~الحاضر بقوة في النص الأفلاطوني ليس هو سقراط التاريخ. يصير نيتشه ديونيزيوس، كما يغدو ~~ديونيزيوس الفيلسوف ... ويصير أفلاطون سقراط، في الوقت الذي يجعل من سقراط فيلسوفا. إنها ~~لعبة تبادل الأمكنة والأدوار. صيرورة لا متناهية بين جميع الأطراف. # لا قيمة للفلسفة إذا لو تخلت عن دورها - إبداع المفاهيم، مثلما لا توجد قيمة لفلسفة لم ~~تبدع في مجال المفهوم «هناك كتب عديدة لا يمكننا أن نقول عنها إنها خاطئة؛ إذ لا يعني ذلك ~~شيئا، والأصح أن نقول عنها إنها عديمة ms160 القيمة والنفع، ذلك لأنها لم تبدع مفهوما، ولا تحمل ~~إلينا صورة عن الفكر، ولا تولد شخصية تستحق العناء.» # 172 # سيصبح تاريخ الفلسفة إذا، وفقا لدولوز، هو تاريخ المفهوم وتحولاته ... رحلته في الزمان ~~والمكان ... تجاوباته وتداخلاته مع المفاهيم الأخرى. فالفلسفة تعمل من خلال المفاهيم، ولو ~~حذفنا من تاريخها مفاهيم كالجوهر والمثال والعقل والعلة والمعلول والذات والموضوع والآخر ~~والحرية ... إلخ، فلن يتبقى منه شيء. كما أن التغيرات التي طرأت على المذاهب والأنساق هي في ~~الأساس تغيرات لحقت بالمفاهيم الأساسية في كل مذهب ونسق. وكل فلسفة مرهون بقاؤها ببقاء ~~مفاهيمها «إن سقوط المذاهب والأيديولوجيات، لا يعني سوى أن مفاهيم معينة عاشت، وكان لها أن ~~تموت في النهاية.» # إن نهاية أو استمرار أي فلسفة في الواقع يتوقف على قوة مفاهيمها وقابليتها للتجدد ~~والإضافة، هكذا عاشت الأفلاطونية من خلال مفاهيمها، وخاصة مفهوم المثال «كان أفلاطون ينادي ~~بضرورة تأمل المثل، لكن كان عليه أولا أن يبدع مفهوم المثال.» وقد ظل مفهوم المثال ~~الأفلاطوني حاضرا بقوة في تاريخ الفلسفة، متخذا أشكالا وصورا عديدة، وسيظل حاضرا ما بقيت ~~الفلسفة، وهذا دليل قوته وقابليته للتطور. ونفس الأمر يقال أيضا على مفاهيم ديكارت وكانط، ~~وإذا كان بعضنا - يقول دولوز - لا يزال ديكارتيا أو كانطيا اليوم، فذلك لأنه يحق لنا أن نتصور ~~أن مفاهيمهم يمكن تفعيلها داخل مشكلاتنا. # يبدو دولوز في تحديده لماهية الفلسفة، كونها منتجة للمفاهيم، مبتعدا إلى حد كبير عن ~~فلسفة برجسون؛ فقد عرفت الفلسفة البرجسونية على أنها «تخط لما كدسه الغرب من مفاهيم فلسفية ~~وعلمية لمحاولة التواصل «مباشرا» و«مطلقا» مع الأشياء. أو هي محاولة لإعادة التواصل ~~المعرفي، علما وفلسفة، خارج شبكة المفاهيم وعلى أرضية مخالفة تماما لأرضية المعرفة ~~الموضوعية.» وهكذا فإن برجسون يدعو صراحة إلى التخلي عن القطيعة التي أحدثتها فلسفات ~~المفاهيم ما بين الذات والموضوع «فعندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين المفهوم والحياة، فإنه ~~ينبغي أن نلاحظ أن المفهوم ليس أصليا بل هو لاحق وتابع. فالمفهوم أداة، وهو أداة استعملتها ~~الحياة وتستعملها لأغراض محددة في علاقتها بالمحيط؛ فهو ms161 وسيط أو توسط # mediation # بين العضوية ~~والحياة. فذلك هو الوضع الإبستمولوجي للمفهوم.» # 173 # والواقع أن دعوة برجسون إلى تجاوز ما يسميه بهيمنة المفاهيم من أجل وعي العالم ~~بشكل كامل غير مقسم إلى أجزاء، لا يمكن النظر إليها إلا كونها محاولة لإضفاء نوع من الضباب ~~الجدالي على الوضع الفلسفي؛ بمعنى أنها ليست أكثر من وسيلة جدلية اصطنعها برجسون؛ ذلك أن ~~برجسون، وفقا لدولوز، كان فيلسوفا مبدعا في مجال المفاهيم. # والواقع أن التحديد الدولوزي لماهية الفلسفة يتوافق مع نقده السابق للتحليل النفسي ~~ودعوته لتحرير وإنتاج الرغبة؛ إذ الفلسفة مع دولوز ستتحول من «كونها مجرد تأمل وانعكاس ~~للوقائع، إلى عملية إنتاج متواصل.» # 174 # تماما كعملية إنتاج الرغبة التي دعا إليها دولوز، وهي نفس رؤيته لعملية ~~الإنتاج الفني كما سنرى. ويمكن القول إن مسألة «إنتاج الجديد» كانت مسيطرة على فلسفة دولوز ~~بأكملها، بحيث جعلها دولوز هدفا لكل نشاط إنساني «نحن لا تنقصنا الحقيقة أو المعرفة. ينقصنا ~~الإبداع والتجريب، فنحن نفتقد مقاومة الزمن الحاضر. فيستدعي خلق المفاهيم في حد ذاته شكلا ~~مستقبليا، أرضا وناسا جددا لم يوجدوا بعد، وعند هذه النقطة يحدث التقارب بين الفن والفلسفة.» # 175 # وإذا كان دولوز قد جعل من عملية إنتاج المفاهيم هدفا للفلسفة، فإن لوك فيري # Luc Ferry # يذهب إلى التأكيد على ما هو مخالف لذلك في مقالته التي تحمل عنوان «الفترات الثلاث للفلسفة ~~المعاصرة»؛ حيث يقول: «... النشاط الفلسفي ليس له اليوم كما البارحة أية صلة بذلك الادعاء ~~بإبداع المفاهيم التي يتحدث عنها دولوز في كتابه الأخير، وكأن العلوم تتقلص إلى مجرد تقنيات ~~خالصة وظيفية، ولا تخلق هي الأخرى مفاهيم تعد أهم بكثير مما حققته الفلسفة.» # 176 # وهو ما يعني - وفقا لفيري - أن تحديد دولوز السابق لماهية الفلسفة، ليس جامعا ~~مانعا؛ فالعديد من المجالات المعرفية الأخرى تشارك الفلسفة «إنتاج المفاهيم» بل ربما تفوقها ~~من حيث الدقة والأهمية. غير أنه إذا كان فيري محقا في قوله: «إن إنتاج المفاهيم ليس حكرا على ~~الفلسفة.» فإن هذا ذاته ما ذهب إليه دولوز؛ إذ هو لم ينف على المجالات المعرفية الأخرى ms162 ~~كونها تشارك الفلسفة مثل هذه الوظيفة، مع الفارق أن المفهوم هو غاية التفكير الفلسفي، في ~~حين أنه يكون في المجالات المعرفية الأخرى بمثابة أداة وظيفية مرتبطة بالتقنية «لقد أصبح ~~معروفا الآن في مجال الفيزياء مثلا أن المفاهيم كثيرا ما تتحول في بعض الفروع التطبيقية إلى ~~جملة من المعادلات الحسابية الدقيقة القابلة للاستثمار في المجالات التقنية، ومن ثم فإن ~~إبداع المفاهيم في علم مثل الفيزياء لا يشكل في واقع الأمر سوى بداية نظرية أولى من أجل ~~تحويلها إلى معادلات وصيغ حسابية أو إلى قوانين، سواء كانت بسيطة أو معقدة، لتنتهي إلى ~~الارتباط بمجال التطبيق التقني في أغلب الحالات، بينما يظل المفهوم في الفلسفة هو العمود ~~الفقري في كل بناء تنظيري، وغياب المفهوم يؤدي إلى نسف البناء من أساسه.» # 177 # وهذا هو الفارق الذي يقيمه دولوز بين العلم والفلسفة والفن؛ إذ العلم يعمل من ~~خلال الوظيفة، بمعنى أن كل دواله وظيفية «يبدأ العلم من المفهوم ليصل إلى تركيب جديد مغاير ~~أكثر دقة»، في حين تعمل الفلسفة من خلال المفاهيم «فهي تبدأ من المفهوم لتصل إليه»، أما ~~الفن فيعمل من خلال المؤثرات الحسية والوجدانية. # والخلاصة أن انفراد الفلسفة بإبداع المفاهيم يضمن لها وظيفة دون أن يمنحها أي تفوق أو ~~امتياز عن سائر الحقول المعرفية الأخرى، ما دامت هناك طرق أخرى عديدة للتفكير والإبداع، لا ~~تضطر إلى المرور عبر المفاهيم كما هو الحال في النشاط العلمي والفني. ~~(4) جان بودريار: من المحاكاة إلى الواقع الفائق ~~(4-1) مقدمة # جان بودريار # Jean Baudrillard ~~(1929-2007م) منظر ثقافي وفيلسوف فرنسي، ومحلل سياسي، ~~وعالم اجتماع، ومصور فوتوغرافي. تصنف أعمال بودريار بشكل أساس ضمن مدرسة ما بعد الحداثة ~~وما بعد البنيوية. أهم أعماله نظام الأشياء # The System of Objects ~~(1986م)، مجتمع الاستهلاك: ~~الأساطير والبنى # The Consumer Society: Myths and Structures ~~(1970م)، # a Critique of the Political For Economy of the Sign ~~(1973م)، مرآة الإنتاج # The Mirror of Production ~~(1973م). # اهتم بودريار اهتماما خاصا بالصورة وقدرتها على تشكيل الوعي في المجتمع المعاصر. ونجد في ~~تحليله للصورة بعض المفاهيم الماركسية وتأثرا بالمفكر الفرنسي جي ديبور، واهتم اهتماما خاصا ~~بوسائل الإعلام، وكتاباته حافلة بالعديد من التطبيقات والأمثلة من ميادين مختلفة. # قدم جان ms163 بودريار نظرية من أشهر النظريات التي قدمت في الربع الأخير من القرن العشرين، وقد ~~اشتهرت باسم «نظرية الواقع الفائق» # La théorie de l’hyper-réalité # وأثارت جدلا واسعا ما زال ~~يتردد صداه حتى الآن. سنعرض في الصفحات التالية بالتفصيل لتلك النظرية، لكن يلزمنا بداية أن ~~نؤصل لها فلسفيا؛ إذ إنها على علاقة وثيقة بمبحثي الوجود والمعرفة: # من المؤكد أن إشكالية الوجود كمبحث رئيس من مباحث الفلسفة كانت موضوعا للبحث المستفيض ~~طوال تاريخ الفكر الفلسفي. وقد دارت معظم تحليلات الفلاسفة حول طبيعة الوجود ومصدره وطبيعة ~~مكونات العالم الذي نحياه وطرق التعامل معه. وربما بات الحديث عن هذا المبحث غير مغر لدى ~~البعض الآن على اعتبار أن الفلاسفة قد أفاضوا في مناقشته وتحليله من زواياه المختلفة. غير ~~أن من المؤكد أيضا أن طبيعة الموضوعات التي تدرسها الفلسفة تتغير بتغير المكان والزمان، ~~ولربما كانت الفلسفة دوما بغير موضوع محدد؛ فالفلسفة في النهاية مجرد أداة للتعامل مع ~~الموضوعات عبر منظومة اصطلاحية ومفاهيمية محددة. وإذا كان هذا هو حال الفلسفة فإن طبيعة ~~العالم التي من حولنا قد تغيرت نتيجة دخول متغيرات عديدة أثرت في طرق تعاملنا وتواصلنا مع ~~العالم ومع الآخرين. أهم تلك المتغيرات دخول وسيط الصورة في تعاملنا مع الأشياء من حولنا؛ ~~فقد حلت الصورة محل اللغة، حتى ليقال إن الصورة بألف كلمة. لقد أنشأت الصورة في البداية ~~عالما موازيا لعالم الواقع، ما لبث هذا العالم أن تضخم حتى احتوى العالم الواقعي بأكمله، ~~لدرجة أصبح معها هذا الأخير جزءا ضئيلا من الأول. وهو ما يعني في النهاية أن ثمة تغيرا ~~أنطولوجيا طرأ على طبيعة العالم من حولنا، ما يستوجب معه جهدا نظريا موازيا للكشف عنه ~~وتحليله. # إذا كان المستوى السابق يتعلق بالتأثير الذي ألحقته الصورة على الطبيعة الأنطولوجية ~~للعالم؛ فإن هناك مستوى آخر للصورة ذا طبيعة إبستمولوجية يتعلق بمشكلة التمثيل. ويشير ~~التمثيل من الناحية الإبستمولوجية إلى الصور الذهنية والإدراكات التي يكونها الإنسان عن ~~العالم الخارجي والتي تغدو بعد ذلك أشبه بالموجهات التي توجه طريقة تفكيره وتحكم استجاباته ~~في العالم. فإذا ms164 وضعنا في الاعتبار أن الصورة أصبحت تحتل مكانة كبيرة في المشهد الثقافي ~~الراهن بوصفها أداة التواصل الرئيسة بيننا وبين مكونات العالم من حولنا، وبيننا أيضا وبين ~~الآخرين، فإن النتيجة المترتبة على ذلك أن ما يكتسبه الإنسان من خلال وسيط الصورة يتحكم في ~~رؤيته للعالم من حوله، وينعكس على طبيعة سلوكه ووجوده في العالم، ومن هنا يتشكل العالم ~~الخارجي ويتخذ صورته في العقل الإنساني عبر ذلك الوسيط ... وسيط الصورة. وبصيغة أخرى، إذا كان ~~الإنسان في النهاية محصلة تمثلاته عن العالم، وإذا كانت تلك التمثيلات في معظمها تتم الآن ~~عبر وسائل الإعلام، أي من خلال توسط الشاشة، وعبر تقنيات صناعة الخبر، فإن النتيجة هي أن جل ~~تمثلات الإنسان عن الواقع وبالتالي استجاباته في العالم، هي في حقيقة الأمر تجليات لعالم ~~الصورة. # ثمة فرضية، سنسعى لإثباتها، مفادها أن الصورة بطبيعتها غير محايدة أو غير بريئة؛ ~~فالصورة لا تنقل الحدث كما هو؛ لأن الصورة إذا كانت تقوم بوظيفتها عبر تقنية آلية محددة، ~~فإن هذه التقنية لا تعمل بمفردها، بل توجد ذات عارفة تقف وراءها، ذات محملة بنسق معرفي ~~وأيديولوجي يحكم رؤيتها للعالم ويتدخل بالتالي في فعل التقاط الصورة للحدث. إذا أضفنا إلى ~~هذا، التطور التكنولوجي الهائل الذي نشهده الآن في تقنيات صناعة الصورة، مع ضعف الأدوات ~~التحليلية المقاومة للخطاب البصري، فإن النتيجة المترتبة على ذلك حالة عالية جدا من ~~الاستلاب للوعي الإنساني داخل عالم من الصور المحمل بالأيديولوجيات المختلفة. # كان بودريار امتدادا لقائمة طويلة من مفكرين قدموا إسهامات كبيرة في تحليل الدور الذي باتت ~~تلعبه الصورة في الحياة المعاصرة، مثل فالتر بنيامين # Walter Benjamin # 178 # ورولان بارت # Roland Barthes # 179 # وجي ديبور # Guy Debord # 180 # وبيير بوردو Pierre Bourdieu # 181 # وجيل دولوز # Gilles Deleuze # 182 # وريجيس دوبري # Regis Debray # 183 # وماريو بارجاس يوسا # Jorge Mario Pedro Vargas Llosa ~~. # 184 # لكن تحليل عالم الصور لم يكن بالنسبة لبودريار ~~لحظة من لحظات مشروعه الفكري، وإنما كان محور هذا المشروع، بحيث دارت كل أعماله تقريبا حول ~~تفكيك بنية هذا العالم وتطور علاقته بعالم الواقع وصولا إلى اللحظة التي اختفى فيها العالم ~~الواقعي، كما يزعم، وحل محله عالم الصور. ~~(4-2) فرضية بودريار # يقوم ms165 مفهوم الواقع الفائق عند بودريار على ركيزتين أساستين؛ الأولى: غياب مفهوم الحقيقة ~~بصورة كلية. والثانية: عدم إمكانية مقاومة الزائف أو دحضه وهزيمته، وبمعنى آخر ضعف قدرة ~~الإنسان وطاقته على النقد والتمييز بين الحقيقي والمزيف. ومن الممكن اعتبار الفرضية الثانية ~~بمثابة نتيجة للفرضية الأولى؛ فقد أدى غياب مفهوم الحقيقية وسيادة الزائف إلى صعوبة، أو ~~بالأحرى استحالة، التمييز بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي. وقد سعى بودريار في كتاباته ~~المختلفة إلى إثبات هاتين الفرضيتين عبر العديد من الأمثلة والنماذج التطبيقية. غير أن ~~الإطار النظري الذي استند إليه كان يعتمد على تفعيل بعض المفاهيم والمقولات الفلسفية وخاصة ~~لدى نيتشه وأفلاطون. ~~(4-3) الأثر النيتشوي # نقطة البداية في تحليل بودريار هي تحديد نيتشه للمراحل التي مر بها مفهوم الحقيقة في ~~علاقته بالعالم، عالم الحقيقة أو العالم الحقيقي. كان نيتشه ذا بصيرة نافذة في تتبعه لمفهوم ~~الحقيقة، رغم أن الصورة لم تكن بعد قد احتلت تلك المكانة التي أصبحت تحتلها الآن، لكنه أدرك ~~ببصيرته تلك أن العالم الحقيقي قد ذهب بلا رجعة. في نص هام بعنوان «كيف غدا العالم الحقيقي ~~مجرد وهم» # 185 # من كتابه أفول الأصنام # Götzen-Dämmerung ~~(1889م)، يحدثنا نيتشه عن وهم أطلق عليه ~~وهم العالم الحقيقي. هذا الوهم من اختراع الفلاسفة ولا وجود له في واقع الأمر. وقد تصور ~~الفلاسفة أنهم عبر مناهجهم ومذاهبهم المختلفة، يمكنهم اقتناص هذا العالم وتملكه، في حين ~~أنهم كانوا يجرون وراء السراب، وهو ما اكتشفوه بأنفسهم، لكن عبر تاريخ طويل من ~~الأفكار. # ومسار تطور فكرة العالم الحقيقي عبر المراحل الست التي حددها نيتشه في هذا النص يشير إلى ~~أن الفلاسفة أدركوا في نهاية الأمر أن ما كانوا يسعون وراءه كان مجرد وهم. لكن هذا الإدراك ~~قد استغرق تاريخا طويلا: فقد بدأت فكرة وجود عالم حقيقي مفارق للعالم الواقعي مع أفلاطون، ~~الذي جعل معرفة هذا العالم الحقيقي قاصرة على الفيلسوف فقط. ثم جاءت المسيحية لتشيد عالما ~~أخرويا، يوعد به الإنسان الفاضل، أو المذنب الذي يتوب، لكن هذا العالم غير موجود على ms166 هذه ~~الأرض. أما كانط فقد ميز بين عالم الأشياء وعالم الأشياء في ذاتها، وجعل الثاني بمثابة ~~الموجه الأخلاقي للأول، وهو عالم مفارق أيضا أو متعال. وفي المرحلة الرابعة أصبح العالم ~~الحقيقي فكرة لا يمكن إثباتها أو بلوغها، وبالتالي لا يمكن أن تمارس أي دور داخل العالم ~~الواقعي، وهذا ما أشارت إليه الاتجاهات الوضعية والتجريبية في القرن الثامن عشر. وفي ~~المرحلة الخامسة، أصبح العالم الحقيقي فكرة لا فائدة منها، وأصبحت زائدة عن الحاجة، بل ~~ينبغي أيضا التخلص منها. وهذا ما دعت إليه الفلسفات المادية التي ظهرت خلال القرن التاسع ~~عشر. أما المرحلة الأخيرة فيرى نيتشه أن فلسفته، التي تبلورت في كتابه ~~هكذا تحدث زرادشت # Sprach Zarathustra ~~، هي التي تمثلها. فوفقا لنيتشه لا يوجد سوى هذا العالم الذي نعيش ~~فيه فقط، وهو عالم يخلو من مفهوم الحقيقة. الحقيقة وجهات نظر، وبالتالي فهي متغيرة ونسبية. ~~يقول نيتشه عن فلسفته: «لقد نفينا العالم الحقيقي: فأي عالم بقي؟ ربما يكون العالم الظاهر؟ ~~لكن لا! ففي الوقت الذي أبطلنا فيه العالم الحقيقي أبطلنا أيضا العالم الظاهر ذاته!» # 186 # يريد نيتشه هنا أن يخرج من منطق الثنائيات المتضادة؛ لأن التمسك بنقيض الفكرة ~~يعني وجود الفكرة، التمسك بالعالم الظاهري في مقابل العالم الحقيقي، يعني ضمنا مشروعية هذا ~~الأخير، وهو ما ترفضه فلسفة نيتشه. # وقد استثمر بودريار نقد نيتشه لمفهوم الحقيقة وقام بتطويره وربطه بالدور الذي باتت ~~تمارسه الصورة في الواقع المعاصر. فالحقيقة كلمة أصبحت تنتمي للماضي، ولا يمكن لأحد ادعاء ~~امتلاكها. لكن السبب في ذلك، وفقا لبودريار، يعود إلى التطور التكنولوجي الهائل الذي شكل ~~حاجزا كبيرا أمام معرفة الواقع وحقائقه. فالتكنولوجيا المعاصرة غيرت طبيعة العالم ومن ثم ~~فرضت من جديد التساؤل عنه «إننا أمام تحولات هائلة وجوهرية تمس تعريف العالم ذاته، ~~فالافتراضي هو الآن بصدد فرض سيطرته الشاملة على جميع الوظائف التي تعودنا على اعتبارها ~~وظائف طبيعية.» # 187 # وفي موضع آخر يقول: «لقد أدت نشأة وسائل الإعلام الجماهيرية، ولا سيما ~~الإلكترونية منها، إلى تحولات عميقة في طبيعة حياتنا. إن الصورة بمعناها الراهن ms167 لا تعرض لنا ~~العالم أو تعكسه أو تمثله بل أصبحت بصورة متزايدة تحدد وتعيد تعريف ماهية العالم الذي نعيش فيه.» # 188 # إن الصورة أعادت تشكيل العالم وصياغته، وبالتالي لم يعد العالم يعاش بذات ~~الطريقة التي كان يعاش بها فيما قبل القرن العشرين. فالصورة لا تعترف بحدود المكان والزمان، ~~إنها تعمل خارج نطاق الجغرافيا والحدود المكانية المتعارف عليها، كما تعمل الصورة من خلال ~~أرشيفها على استعادة الماضي متى شاء الإنسان ذلك. ~~••• # لم يحدث هذا التغيير في طبيعة العالم نتيجة دخول متغير الصورة بطريقة مفاجئة، بل حدث ~~تدريجيا وعبر مرحلتين رئيستين؛ المرحلة الأولى هي التي كانت تعبر فيها الصورة عن موضوع ~~واحد؛ أي كانت هناك علاقة هوية بين الصورة والخبر، بين ما تجسده الصورة وبين الواقع الفعلي. ~~كانت الصورة مرتبطة بسياق ما (تاريخي، اجتماعي، سياسي) وكانت غالبا ما تظل مرتبطة بهذا ~~السياق، بحيث إن إمكانية استخدامها في سياقات أخرى مغايرة تصبح شبه منعدمة. أما المرحلة ~~الثانية فقد شهدت تطورات تقنية متقدمة في صناعة الصورة، وخاصة في فترة الثلث الأخير من ~~القرن العشرين. ولأن تحليل بودريار ينصب في المقام الأول على الصورة المنتمية لهذه الفترة؛ ~~فإننا سنحاول أن نحدد بعض خصائص الصورة في هذه المرحلة: ~~(1) # أنها صورة متشظية؛ فهي لا ترتبط بواقعة أو حدث محدد؛ أي أنها تمتلك قدرة ذاتية على ~~الفعل دون الارتباط بموضوع أو سياق معين. وعليه فإن الصورة أصبحت متعددة المعاني، فمعناها ~~لا يمكن أن يكون ثابتا أو قابلا للتفسير من خلال الرجوع لتركيبها الداخلي، ولكن فقط يمكن ~~تفسيرها في سياق مجموعة صور أخرى لها ارتباطات علائقية بها؛ أي أن معناها كما يقول إيكو # Eco # سيكون حقلا من الاحتمالات # Field of Possibilities ~~. ~~(2) # تحولت الصورة من كونها محاولة لمحاكاة واقع، إلى نموذج يحاول الواقع محاكاته. فقد أصبح ~~الواقع صورة شاحبة من الصورة. الصورة هي الأساس وليس الواقع. الصورة هي المعيار الذي يقاس ~~بواسطته صدق الواقع أو كذبه. أصبحت الصورة تسبق الواقع وتمهد له، تظهر الصورة أولا ثم تحدث ~~المحاكاة لها في الواقع. فالعلاقة التقليدية بين الخيال ms168 والواقع باتت اليوم مهددة بالتدمير، ~~بحيث أصبحنا لا نعرف ما الواقع وما الخيال في عالم الصور المحاكية والمحاكاة الزائفة. وكما ~~يقول ديبور: «في المجتمعات التي تسود فيها شروط الإنتاج الحديثة، تقدم الحياة نفسها برمتها ~~على أنها تراكم كثيف من الاستعراضات، وكل ما كان يعاش على نحو مباشر يتباعد متحولا إلى ~~تمثيل # Representation ~~». # 189 # ويقدم لنا بودريار مثالا يوضح هذا المعنى عندما يتناول بالتحليل تعبيرا ~~أمريكيا شهيرا يستخدم في الإعلانات وهو «ما تراه هو ما ستحصل عليه» # What You See Is What you ~~Get ~~؛ فهذا التعبير يستخدم لإقناع المستهلك أنه سوف يحصل على السلعة بالشكل الذي تعرض عليه في الصورة. # 190 # ومعنى هذا أن الصورة أصبحت هي معيار الواقع ومحك الحكم عليه؛ فأنت تطلب سلعة ~~بناء على صورتها، ويتم إرضاؤك إذا كانت السلعة متفقة مع صورتها؛ وتشعر أنك خدعت إذا لم تتفق ~~السلعة مع الصورة. في نفس السياق أيضا يرى فوكو أن الصور الفوتوغرافية تستخدم في إنتاج ما ~~يمكن أن نطلق عليه الأجساد الطيعة # Docile Bodies # أو الأجساد المرنة في الدولة الحديثة. إنهم ~~المواطنون الذين يشاركون في الأيديولوجيا الخاصة بالمجتمع من خلال التعاون والرغبة في ~~التوافق والانصياع، ويحدث هذا في مجموعة كبيرة من صور الميديا التي تقدم صورا خاصة بنا حول ~~المظهر، والجسد السليم، والوضع الجسدي الملائم. ولأننا باعتبارنا مشاهدين لهذه الصور لا ~~نفكر غالبا في الطرائق التي تنشط من خلالها هذه الصور كنصوص أيديولوجية، فإن هذه الصور ~~تكون لها قوة مميزة تؤثر في صورة الذات الخاصة بنا، وهذا يعني أن معايير الجمال والحس ~~الجمالي، الذي تعرضه هذه الصور، التي ترسخ الملامح البيضاء والنحافة كنمط جسدي مرغوب، ~~يمكنها - أي هذه المعايير - أن تمثل جانبا مهما في النظرة المعيارية التي ينظر من خلالها ~~المشاهدون بعمق إلى أنفسهم. # 191 ~~(3) # فقدت الصورة ما بعد الحداثية المعنى عندما «اختطفتها» الطبقة الرأسمالية عابرة ~~القوميات، لاستخدامها كدال عن المكانة، وعندما ظهرت على السلع الاستهلاكية كالملابس ~~والأحذية والحقائب لتشير إلى شركة أو بيت أزياء راق دونما معنى تقريبا. ويمكن ملاحظة ذلك ~~في «الصور الغريبة التي تستخدمها بيوت الأزياء العالمية الراقية على ms169 منتجاتها.» # 192 # كما يمكن ملاحظة ذلك أيضا، في المنتجات الاستهلاكية الأخرى (كعبوات المياه ~~الغازية) التي أصبح منتجوها يستعينون بصور نجوم الفن والرياضة للدعاية لها، ويقبل ~~المستهلك على شراء المنتج، لا لجودته، إنما لما تمتلكه صورة النجم من قدرة على الجذب تدفع ~~إلى فعل الشراء ذاته. ~~(4-4) الأثر الأفلاطوني # شاع استخدام مصطلح سيمولاكرا # Simulacra # في مؤلفات جان بودريار واتخذه عنوانا لمؤلفين له. # 193 # والسيمولاكرا هي المكون الرئيس للعالم الفائق وفقا لبودريار. ويعود استخدام ~~المصطلح إلى أفلاطون، وتحديدا في رؤيته التراتبية للوجود. لذا فإن أي محاولة لفهم وجهة نظر ~~بودريار حول الواقع الفائق ومكوناته، لا بد أن تعود إلى أفلاطون وتحديده للسيمولاكرا: # تقوم أنطولوجيا أفلاطون على تراتبية واضحة، تشبه إلى حد كبير الطبقية التي كانت سائدة في ~~المجتمع اليوناني إبان حياته، ويبدو أن أفلاطون كانت لديه رغبة في ترسيخ تلك الطبقية فجاءت ~~رؤيته الانطولوجية، وربما الإبستمولوجية أيضا، لتحقيق هذا الهدف. فإذا بدأنا بالتمييز ~~الأفلاطوني بين الجوهر والمظهر، والمفهوم عن المدرك، والفكرة عن الصورة، والأصل عن النسخة، ~~والنموذج عن الشبيه؛ فإننا نلحظ بداية أن هذه الثنائيات غير متكافئة؛ حيث إنها تتردد بين ~~نوعين من الصور. فالنسخ موجودات ثانوية # Les créatures secondaire ~~، إنها متظاهرات ذات أساس ~~راسخ، تعتمد في ذلك على التشابه؛ أما السيمولاكر فهو أشبه بمتظاهرات زائفة # Les semblants ~~Faux # مؤسسة على اللاتشابه. وبهذا المعنى نجد أفلاطون يقسم العلاقة بين النماذج-الصور إلى ~~قسمين: فهناك من ناحية العلاقة بين النسخ والأيقونات # Copies - Icônes ~~، وهناك من ناحية أخرى ~~العلاقة بين السيمولاكرا والاستيهامات # Simulacra - fantasmes ~~. # غير أن مفهوم النموذج عند أفلاطون، لا يتدخل هنا كي يقابل عالم النسخ ويتعارض معه. إنه ~~يتدخل كي ينتقي النسخ الجيدة التي تشبه الأصل في صميمه وباطنه؛ أي الأيقونات # Icônes ~~، ~~ويستبعد النسخ الرديئة؛ أي السيمولاكرات # Simulacres ~~«إن التمييز القائم بين «النموذج» ~~و«نسخته» يخفي تمييزا آخر. التمييز بين صورتين؛ حيث النسخ «الأيقونات» لا تمثل إلا الصورة ~~الأولى. أما الصورة الأخرى فهي «الشبيه» أو السيمولاكر. الفرق بين الأيقونة والسيمولاكر، أن ~~الأولى نسخة تتمتع بالتشابه؛ أما الثاني فبلا تشابه. الأيقونة تقوم على الشبه والوحدة مع ~~النموذج، أما السيمولاكر ms170 فيقوم على الاختلاف وينطوي على اللاتشابه. الأيقونة تكرر النموذج ~~والسيمولاكر يخونه.» # 194 # سينتج عن هذا التحديد أن المقابلة الأساسية عند أفلاطون ليست بين النموذج ~~والنسخة؛ وإنما ستصبح محصورة في عالم النسخ ذاته. ولا يتدخل النموذج إلا كمعيار للتمييز بين ~~النسخ والمفاضلة بينها، وانتقاء الأفضل واستبعاد غيره «يتعلق الأمر بضمان انتصار النسخ على ~~السيمولاكرات، وقمع هاته الأخيرة وضبطها وطمسها وتركها تحت القيود، والحيلولة بينها وبين أن ~~تطفو على السطح لتفرض نفسها في كل الأنحاء.» # 195 # إن الدافع المحرك لنظرية المثل عند أفلاطون هو رغبته في الاختيار والانتقاء. ولن يتسنى له ~~ذلك ما لم يميز ويفرق أولا بين الحقيقة والمظهر، بين المعقول والمحسوس، بين المثال والصورة، ~~بين الأصل والنسخة، بين النموذج والشبح. والواقع أن المشروع الأفلاطوني لا يظهر على نحو صحيح ~~وحقيقي إلا إذا أرجعناه إلى منهج التقسيم. ولعل تشبيه الخط الذي أورده أفلاطون في الكتاب ~~السادس من الجمهورية لتوضيح درجات المعرفة أو مراحلها، أن يكون من أبرز الأمثلة على منهج ~~التقسيم «... فلنتصور الآن خطا مقسما إلى قسمين غير متساويين يمثلان المجال المنظور والمجال ~~المعقول. ولنقسم كل قسم بدوره بنفس النسبة، لكي ترمز إلى الدرجة النسبية في الوضوح أو ~~الغموض. وهكذا يكون لديك في العالم المنظور قسم أول، يعبر عن الصورة: وأعني بالصورة الظلال ~~أولا، ثم الأشباح المنطبعة في المياه وعلى أوجه الأجسام المعتمة المصقولة اللامعة ... أما ~~النصف الآخر من القسم الأول، فهو يشمل الأشياء الواقعية التي كان القسم الأول يمثل صورها؛ ~~أي الكائنات الحية المحيطة بنا، وكل ما صنعته يد الطبيعة والإنسان. كذلك ينقسم العالم ~~المعقول قسمين؛ في الأول منهما يستخدم الذهن الأشياء الفعلية التي كانت في القسم السابق ~~أصولا، على أنها صور، فيضطر الذهن إلى المضي في بحثه بادئا بمسلمات، وصاعدا في الطريق لا ~~يصعد به إلى مبدأ أول، وإنما يهبط به إلى نتيجة. وفي الجزء الثاني يمضي الذهن في الاتجاه ~~العكسي، من المسلمات إلى المبدأ المطلق، دون أن يستعين بالصور كما فعل من قبل، وإنما يمضي ~~في بحثه مستخدما المثل وحدها ms171.» هناك عند أفلاطون إذا نوعان من الصور المنعكسة. فهناك أولا ~~«الأشياء الواقعية» (التي تحتل الجزء الثاني من القسم الأول) وهي عبارة عن صور أو نسخ من ~~المثل. ونظرا إلى أن هذه الأخيرة هي الموجودات الحقيقية، فإن صورها من الأشياء الواقعية ~~ليست سوى موجودات من الدرجة الثانية؛ لأن وجود هذه الصورة قائم على أساس «المشاركة» في ~~المثل والمشابهة لها، فهي إذا «تدعي» الوجود. ولكن لما كان التشابه بينها وبين المثل تشابها ~~داخليا وروحيا (فمثلا لا يكون الفعل الواقعي العادل عادلا، بل ولا يسمى كذلك، إلا إذا تأسس ~~على ماهية العدالة)، فإن مثل هذا التشابه يدعم ويضمن ما في وجودها من الدعوى، ويجعل منها ~~بالتالي دعاوى حقة وصورا صادقة. وأما النوع الثاني من الصور المنعكسة فهي «الأشباح وكل ~~التمثيلات الأخرى المشابهة لها» (التي تحتل الجزء الأول من القسم الأول)، وهي عبارة عن صور ~~للأشياء الواقعية التي هي بدورها صور للمثل؛ أي أنها نسخ من نسخ أخرى أو ~~للمحاكاة محاكاة # Mimesis Mimeseos ~~، # 196 # ولذا فهي تبعد عن الوجود الحق درجتين، مما يجعلها موجودات من الدرجة الثالثة، ~~أدنى درجات الوجود، وإن كان الأهم من هذا أنها تفتقر إلى ذلك التشابه الداخلي بينها وبين ~~المثل الذي يوجد بين أصولها من الأشياء الواقعية وتلك المثل، مما يجعل دعاويها في الوجود ~~باطلة، ويجعلها هي نفسها صورا زائفة. # 197 # هكذا جعل أفلاطون الصور موضوعات أقرب إلى الظن منها إلى اليقين، موضوعات للشك والارتياب، ~~مجموعة من الظلال والأشباح المنطبعة على المياه وعلى أوجه الأجسام المصقولة اللامعة ~~كالمرايا وغيرها؛ ومن ثم فإنها تتعلق أكثر بمنطقة الالتباس والفقدان لليقين والزيف والخداع ~~والكذب وكل ما هو غير حقيقي أو الوهمي. # مع أفلاطون إذا تم اتخاذ موقف حاسم في تاريخ الميتافيزيقا يخضع بمقتضاه الاختلاف لهيمنة ~~الذاتي والشبيه، ويطرح الاختلاف من حيث إنه لا يمكن أن يكون موضع تفكير، فيلقى به ~~والسيمولاكرا في هوة سحيقة. لذا فنحن نعجز، من هذا المنطلق، عن تحديد إيجابي للسيمولاكر، فهو ~~أشبه بالنبت الشيطاني الذي ينتشر في كل مكان. «لقد عودتنا العقيدة المسيحية ms172، لما عرفته من ~~تأثير الآباء الأفلاطوني النزعة، على صورة بدون شبيه؛ الإنسان صورة لله وشبيهه. لكن الخطيئة ~~أفقدتنا الشبه وأبقت على الصورة ... هذا هو السيمولاكر بالضبط، إنه صورة شيطانية فقدت التشابه ~~الذي يضمها إلى الشبيه، أو بالأحرى فإنها، على عكس الأيقونة، طردت التشابه، وأبقت على الاختلاف.» # 198 # فالفكرة السائدة في الأديان الثلاثة الكبرى هي «أن الله قد خلق الإنسان على ~~صورته؛ أي شبيها له (الصورة الصادقة)، ولكن الإنسان لما عصى أمر ربه وأكل من شجرة المعرفة، ~~سقط وهبط من الجنة، ففقد بذلك الشبه مع الله، وأصبح سيمولاكر (صورة زائفة) مغتربا على وجه الأرض.» # 199 # إن السيمولاكر ينطوي على ميل نحو اللاتحديد وخرق المعقول، وعلى سعي إلى أن ~~يصبح آخر. إنه يكون دوما أكثر أو أقل ولا يكون قط مساويا. وإذا أظهر نوعا من الشبه فإن ~~هذا من قبيل الوهم وليس من قبيل التشابه الفعلي. # إن هذا التحديد الأفلاطوني للسيمولاكرا المستند على التراتبية الأنطولوجية، هو ما سيوظفه ~~بودريار في تحليله للدور الذي باتت تمارسه الصورة في ثقافة العولمة وما بعد الحداثة. ~~(4-5) السيمولاكرا: موت الواقع وبزوغ المزيف # إن لفظ # simulation # الذي يوظفه جان بودريار ويقابله في اللغة العربية لفظ الاصطناع أو ~~التصنع أو التمويه أو الإيهام أو التصاور؛ # 200 # مفهوم أساسي في فكر بودريار، ومدخل مهم لفك ألغاز أطروحته حول موت الواقع. وقد ~~استعار بودريار في مؤلفه المصطنع والاصطناع # Simulacres et simulation ~~(1981م) حكاية لجورجي ~~بورخيس # Jorge Luis Borges ~~(1899-1986م) وهي خرائط الإمبراطورية، معتبرا إياها «أفضل محاكاة ~~ساخرة للتصنع». ومضمون هذه الحكاية أن أحد الأباطرة أمر بأن ترسم خريطة مفصلة لإمبراطوريته ~~«تغطي مجموع مجالها الترابي بدقة كبيرة» # 201 # فكانت النتيجة أن جاءت الخريطة، بقدر مساحة الإمبراطورية تماما؛ حيث أصبحت ~~الخريطة هي الأرض وحلت محلها، فأصبحت النسخة الشبيهة هي الأصل، ذلك أن «السيمولاكر لا يخفي ~~الحقيقي أبدا، بل إن الحقيقي هو الذي يخفي واقع عدم وجود شيء حقيقي، إن السيمولاكر هو الحقيقي.» # 202 # لقد انمحى الاختلاف الكامن بين الأرض والخريطة، بين الأصل والنسخة، بين ~~الأيقونة والسيمولاكر، بل أكثر من هذا صارت الخريطة تسبق الأرض بعدما ms173 كانت الأرض هي التي ~~تسبق الخريطة وترممها وتولدها، ومع أفول الإمبراطورية «الأرض» بدأت «خريطتها» تتفتت شيئا ~~فشيئا، كما بدأت بعض الثغور التي ما زال بالإمكان تحديد مواقعها في قلب الصحاري تتفتت هي ~~أيضا، لقد حذت الخريطة حذو الأرض كما لو كان الأمر أشبه بلحم فاسد محكوم عليه بالتحلل ~~والعودة إلى مادته الأصلية. ويرى بودريار أن المجتمعات ما بعد الحداثية أو ما بعد الصناعية ~~نموذج حي لهذه الحكاية، إن لم نقل إنها وصلت إلى عكسها ونهايتها. لقد انهارت الخريطة حسب ~~بودريار كتجريد وكمضاعف وكبديل وكمرآة للأرض بحيث إنها لم تعد تصنعا أو محاكاة لأرض أو ~~لكائن مرجعي أو لمادة معينة «لقد تحولت إلى استراتيجية للتوليد بواسطة نماذج لواقع بلا أصل ~~وبلا هوية.» # 203 # لقد غدت واقعا فائقا أو واقعية مفرطة. # موت الواقع إذا عند بودريار، في أحد معانيه، ربما يكون موتا لتصور معين عنه، موتا للتصور ~~العقلاني الموضوعي الحديث، وهذا ما يستدعي إعادة النظر في تصوراتنا وأفكارنا ومقولاتنا التي ~~كنا نظن أن الواقع يعمل بها ويحتكم إليها. لقد تمزقت الخريطة وبدأت تتحلل حسب بورجيس، والسبب ~~في ذلك لا يعود إلى الخريطة بل إلى الواقع (الأرض)، بمعنى أن تحلل وأفول الواقع لا يتحمل ~~فيه التصور العقلاني الحديث مسئوليته المباشرة. وإنما السبب يعود إلى «الواقع» الذي استحال ~~إلى واقع فائق ... واقع مصطنع أو مزيف. # لكي يوضح بودريار ما يعنيه بمفهوم الاصطناع # Simulation # يضعه في مقابلة مع بعض المفاهيم ~~الأخرى، منها على سبيل المثال مفهوم الإخفاء # Dissimulation ~~؛ فالإخفاء يعني «التظاهر بعدم ~~امتلاك ما نملك»، فنحن لا نخفي شيئا ليس بحوزتنا؛ لأنه لا يمكن إخفاء اللاشيء أو العدم، كما ~~أنه ليس بمقدورنا حجبه طالما أنه غير موجود. ومرجعية الإخفاء هي الحضور؛ لأن موضوعاته حاضرة ~~وموجودة وطبيعية، وبالتالي فمكانة الغياب في استراتيجية الإخفاء ثانوية؛ لأنها تكون فقط ~~مجرد نتيجة وتجل. أما الاصطناع فهو «التظاهر بامتلاك ما لا نملك»؛ أي أن الاصطناع يعمل ~~دوما على ما لا نملك، ويدعي باستمرار امتلاكه، وبالتالي فإن المرجعية الأساسية للاصطناع هي ~~الغياب؛ لأن موضوعاته ms174 مختلقة وليست طبيعية، أشياء وعناصر غير واقعية وغير حقيقية يتم ~~إنتاجها كوقائع طبيعية وحقائق ثابتة. ومكانة الغياب في الاصطناع أساسية؛ لأن الغياب يدخل في ~~بنية الاصطناع وتكوينه. لكن مع ذلك فالاصطناع، حسب بودريار، ليس بهذه البساطة والوضوح؛ لأنه ~~أكثر تعقيدا وتركيبا وتضليلا؛ ذلك «لأن الاصطناع غير التظاهر»، فالتظاهر بالشيء لا يعني ~~اصطناعه، فمن يتظاهر بالمرض يمكنه ببساطة أن يستلقي على سريره ليوهم الآخرين بأنه مريض، أما ~~من يصطنع المرض فإنه يعمل على أن يعين في حاله بعض الأعراض. لهذا فلا التظاهر ولا الإخفاء ~~يعبران عن حقيقة الاصطناع ؛ لأن الاختلافات التي يطرحها التظاهر أو الإخفاء مقنعة؛ أي أن ~~كليهما مجرد قناع يتظاهر بشيء ما أو يخفيه، علاوة على أنهما لا يخلخلان، بأي صورة من ~~الصور، توازن الواقع، فهذا الأخير بهما أو بدونهما يبقى ثابتا ومتوازنا؛ لأنهما (أي التظاهر ~~والإخفاء) لا يغيران من طبيعة الواقع أو الحدث. في حين أن الاصطناع يشوه الواقع ويمزق ~~مبادئه، إنه ليس استراتيجية سطحية ثانوية وإنما موجه بالضرورة ضد مبادئ الواقع ومقولاته. # 204 # الاصطناع إذا يزلزل الواقع ويفقده ثنائياته وأقطابه، بالإضافة إلى أنه يزيل أي إمكانية ~~للتمييز بين الحقيقة والزيف والصدق والكذب، الخير والشر، بين الواقع والخيال، وبالتالي يشكك ~~في الاختلافات التي تميز كل قطب من هذه الأقطاب عن نظيراتها، إلى درجة أن المقارنة بين هذه ~~الثنائيات أصبحت بلا قيمة، ذلك أن الاصطناع باعتباره موجها بالضرورة ضد مبادئ الواقع، يسعى ~~إلى إقامة إبستمولوجية فوضوية أساسها التمويه والتضليل واللاتدقيق واللاضبط وانعدام ~~الشفافية والوضوح. فلم تعد هناك مثلا أية إمكانية للتمييز بين الواقعي والخيالي، بين الحقيقي ~~والزائف؛ لأننا أصبحنا بفعل الاصطناع نحيا خارج أسوار هذه الثنائيات، بحيث لم يعد ثمة خيالي ~~مستقل عن الواقع، ولا زيف منفصل عن الحقيقة، فقد اختلطت الأوراق والعناصر والأشياء بصورة ~~يستحيل معها التمييز. من ناحية أخرى نجد عند بودريار رفضا لثنائية الوهم والحقيقة «إن ~~استحالة تقديم الوهم للناس تتساوى مع استحالة اكتشاف مستوى مطلق للحقيقة. فالوهم لم يعد ~~ممكنا؛ لأن الحقيقة لم تعد ممكنة.» # 205 # ويضرب ms175 جان بودريار مثالا يوضح به المعنى السابق، فيقول: «لنفترض أنك ذهبت وقمت ~~بتنظيم عملية سطو وهمية بعد أن تأكدت من أن أسلحتك لا تعمل وأنها مزيفة، ثم احتجزت رهينة ~~متواطئة معك في العملية، ثم طلبت فدية وحرصت أن تثير أكبر قدر من الضجيج حول الحدث، ونال ~~الحدث اهتماما إعلاميا كبيرا. لكن الأمور قد ازدادت تعقيدا (رجل شرطة يطلق النار على ~~المكان، أحد العملاء يصاب بالإغماء وعلى وشك فقد حياته نتيجة أزمة قلبية ... إلخ.) في النهاية ~~ستستلم الفدية لكنها ستكون زائفة، وسيتم القبض عليك، فما الاتهام الذي من الممكن أن يوجه ~~إليك؟ لا يوجد ما ينص في القانون على عقوبة لمدعي الجريمة، تماما كما هو الحال مع مدعي ~~الفضيلة. هذه هي الجريمة الرئيسة للمحاكاة، إنها تلغي الفوارق بين الحقيقة والادعاء، بين ~~الواقع والوهم، وهي جريمة لا تستطيع كل السلطات أن تقاومها.» إن دلالة المثال السابق تتركز ~~في حقيقة تلاشي المسافة بين الزائف والحقيقي؛ ومن ثم استحالة امتلاك القدرة على التمييز بينهما. # 206 # والواقع أننا في هذا السياق نستطيع أن نلمس تشابها بين وجهة نظر بودريار للعالم ووجهة ~~نظر دريدا # J. Derrida ~~(1930-2004م)، فدريدا كذلك يقر بالطابع المتردد واللايقيني للعالم، ~~فالعالم «مكون من نصوص دائرية مختلطة يستحيل الوصول فيها إلى يقين ثابت أو نص نهائي.» # 207 # وهو ما عبرت عنه جوليا كريستيفا # Julia Kristeva ~~(1941-...م) بمصطلح ~~التناص # Intertextualite ~~. # لقد ذهب بودريار إلى أن مفاهيم كالواقع والخيال والحقيقة والزيف ... وسائر المفاهيم الأخرى، ~~كان لها معنى واضح إبان مرحلة الحداثة. غير أن معاني تلك المفاهيم قد حدث لها نوع من ~~الانهيار في مرحلة العولمة، بحيث لم نعد نعرف بدقة ما الواقعي وما الخيالي، ما الحقيقي ~~وما الزائف. واصطناع الواقع يشبه اصطناع المرض؛ لذا يتساءل بودريار: «وبما أن المصطنع يخلق ~~أعراضا «حقيقية» فهل هو مريض أم لا؟» ويجيب بقوله: «لا نستطيع أن نتعامل معه موضوعيا لا ~~بوصفه مريضا أو سليما، فهنا يتوقف الطب وعلم النفس أمام حقيقة مرض صارت غير معروفة.» # 208 # الأمر ذاته بالنسبة لاصطناع الواقع؛ فالواقع الزائف ينفلت من أي إمكانية ms176 للتعامل معه ~~موضوعيا كواقع أو كخيال، كحقيقة أو كزيف ... إلخ. فكما أن الطب يفقد معناه، إذا ما أمكن تصنع ~~أعراض المرض؛ لأن مهمته معالجة الأمراض الحقيقية من خلال أسبابها الموضوعية؛ فإن الواقع ~~ينطبق عليه الشيء ذاته. فالواقع بعدما أصبح مصطنعا ومزيفا أصبح عصيا على الفهم ما دمنا لا ~~نستطيع تمييز مظاهره الحقيقية عن المصطنعة، وكل هذا لأن استراتيجية التصنع تعمل على «جعل ~~الواقع والوهم شيئا واحدا.» تلك هي «الجريمة الكاملة». # 209 # كما يطلق عليها بودريار، جريمة قتل الواقع وإبادة الوهم. وهي الجريمة الأكثر ~~خطورة ما دامت تلغي الاختلاف الذي هو بمثابة حجر الزاوية الذي يبنى عليه القانون «لأن التصنع ~~استراتيجية تتعالى على التناقضات والاختلافات والتمييزات العقلية التي تؤسس للاجتماعي والسلطة.» # 210 # الاصطناع يلغي الاختلاف والتمايز ويرسخ النمطية والتشابه والتكرار. وكل هذه ~~الفاعليات تشكل تهديدا «عقليا» لنا، «لقد تم في كل مكان تذويب المسافات والاختلافات بين ~~الأجناس والأقطاب المتفارقة، وبين القاعة والمشهد، والواقع وضعفه، والذات والموضوع، وهو ما ~~أدى إلى خلط جذري في المصطلحات وإلى اصطدام هائل بين الأقطاب جعل من المستحيل الاستمرار في ~~لعبة إقامة التمييزات والحدود وإصدار الأحكام، سواء في الفن أو الأخلاق أو السياسة.» # 211 # إن التصنع كاستراتيجية للتضليل تجعل إمكانية التمييز في الفن مثلا بين الجميل والقبيح ~~والجيد والرديء أمرا مستعصيا، وفي هذا الصدد يقدم بودريار في مؤلفه مؤامرة الفن # The ~~Conspiracy of Art # تشخيصا لحالة الفن في اللحظة الراهنة. فالاصطناع جعل من الفن المعاصر آلة ~~«لتحويل الابتذال والسطحية والتفاهة إلى استراتيجية بقاء.» # 212 # ويؤكد بودريار أنه فيما وراء كل الاختلافات الفنية المعاصرة توجد لعبة تضليلية ~~واحدة تتمثل في محاولة إقرار التفاهة والسطحية ثم تحويلها إلى قيمة أساسية واعتبارها متعة ~~جمالية، يقول بودريار: «بطبيعة الحال تزعم هذه التفاهة السمو بذاتها بالانتقال إلى المستوى ~~الثاني والساخر للفن، ومع ذلك، فهذه اللعبة لا تجدي شيئا، بل تتحول هي ذاتها إلى رداءة مضاعفة.» # 213 # لقد غدا التمييز الجمالي في الفن بين الجميل والقبيح، الجيد والرديء غير ممكن؛ ~~لأن القيمة الجمالية الفنية ذاتها قد انهارت، اختلاط الجيد بالرديء عمل على ms177 تدمير المعايير ~~الجمالية، ومن ثم الحس الجمالي لدى المتلقين. والفن المعاصر، وفقا لبودريار، قطع الصلة مع ~~الاستطيقا لأنه لم يعد ينتج معاني جمالية، بل فقط جمالية مصطنعة تتحلل إلى تفاهة أساسها ~~السطحية. ويتساءل بودريار: «ما الذي تم إخفاؤه في قلب هذا العالم الشفاف؟» ويجيب قائلا: «لقد ~~تمكن الفن المعاصر من التحول إلى جهة الهامشي والرديء بأن شكل بديلا دراميا عن الواقع، وعمل ~~على نقل بنية اللاواقع وضخها داخلها.» # 214 # لكن ما الذي يمكن أن يدل عليه الفن المعاصر إذا في عالم التصنع الفائق؟ إنها: ~~السخرية، ولكن «السخرية هنا ليست استراتيجية هامشية، وإنما وليدة التواطؤ السري للفنان مع ~~الجماهير المذهولة والمخدوعة في هذا الوضع الذي يوجد عليه الفن.» # 215 # ويرى بودريار أن طبيعة الفن قد تغيرت نتيجة دخول الشاشة كمتغير في المعادلة الفنية «إنه ~~تحول من الساحة، ساحة العمل أو ساحة المسرح أو ساحة التمثيل أو حتى ساحة السياسة إلى ساحة ~~الشاشة، ويمكن لنا أن نعمم هذه الظاهرة. لكن الشاشة لها بعد آخر إلى حد ما، إنها سطحية، ~~تجعل الصور في تواصل فقط، وليس لها زمان أو مكان خاصان ... مثلما قيل عن لوحة الموناليزا في ~~اليابان، يمكنك النظر إليها في خمس ثوان.» # 216 # والواقع أنه قد سبق لفالتر بنيامين الذهاب إلى شيء شبيه بذلك في مقالته: العمل ~~الفني في عصر الاستنساخ الآلي. فقد أكد بنيامين أن العمل الفني لم تعد له تلك الأصالة التي ~~كانت له في الماضي، وما هذا في رأيه إلا نتاج للتطور التقني في عملية استنساخ الصور، الأمر ~~الذي أفضى في النهاية إلى ضياع ما أطلق عليه بنيامين «هالة الفن». ولا تشير هذه الهالة إلى ~~مكون ما من مكونات العمل الفني، وإنما تشير إلى الجانب المرتبط بأصالة العمل الفني وأصالة ~~الفنان الذي أنتجه. وتلك الهالة هي التي تخلع على العمل الفني الطابع الطقوسي، وتجعل ~~المشاهد يقف مشدوها أمام أحد الأعمال الفنية العظيمة. لقد ضاعت هالة الفن وفقد الفن بريقه ~~نتيجة عملية التداول اللانهائية للنسخ، ولم يعد يعني المشاهد كثيرا ما إذا ms178 كان يشاهد أصل ~~العمل الفني أم صورته، ما دامت النسخة في النهاية هي صورة طبق الأصل. لقد خفضت النسخة من ~~القيمة الفنية للأصل وأزالت هالته، رغم أنها في الوقت ذاته ربما تكون قد زادت من قيمته المادية. # 217 # ربما كانت أعمال الفنان الأمريكي إندي وارهول # Andy Warhol ~~(1928-1987م) من الأمثلة الفنية ~~البارزة التي يمكن التدليل بها على هذا التحول الذي طرأ على طبيعة الفن المعاصر. وقد كان ~~وارهول أكثر الفنانين ذكرا في كتاب بودريار: مؤامرة الفن. اشتهر وارهول بشعاره «أريد أن أكون ~~آلة»، وهو شعار معبر عن خواء الفنان والفن المعاصر على حد سواء. والمسألة هنا لا تتعلق ~~بالاغتراب أو الشعور بالغربة، إنما يمكن تلخيصها في عبارة وارهول: «ما لا يمكنك التغلب عليه، ~~فعليك بالانضمام إليه، ولو أنه استغرقك، فلا بد أن تكون انعكاسا له.» # 218 # ولم يدخر وارهول جهدا من أجل تنفيذ هذه المقولة (على سبيل المثال رأى وارهول ~~أنه قد استغرق طوال عشرين عاما في تناول نوع واحد من الطعام على وجبة الغداء «وهو حساء ~~كامبيل # Cambil ~~»؛ لذا جاء أحد أعماله نسخا، عن طريق تقنية الشاشة الحريرية، لإحدى عبوات هذا ~~الحساء). وقد رأى وارهول «أن الفن ليس للنخبة، بل لعامة الشعب الأمريكي.» # 219 # ولكن كيف يمكن للمرء أن يمثل «جماهير الشعب الأمريكي» خاصة وأن الذوق ليس ~~بمقولة عامة أو سكونية؟ كانت إجابة وارهول متمثلة في أن الفن لا بد أن يعبر عن الأشياء التي ~~تمثل قاسما مشتركا بين الجميع، ووجد وارهول في المنتجات الاستهلاكية (حساء كامبيل، ~~الكوكاكولا، علب البريلو، صور مشاهير النجوم) غايته؛ لذا كانت موضوعا لأعماله منذ 1963م حتى ~~وفاته، وقد لاقت نجاحا جماهيريا كبيرا. يقول بودريار عن التيار الذي ينتمي إليه وارهول: ~~«إن الفنان الذي يضع اسمه على قطعة جاهزة الصنع فيمنحها قيمة تجارية لا تقاس بمقدار كلفة ~~الصنع، إنما يدين بالفاعلية السحرية لمجمل منطق الحقل الفني الذي يعترف به ويمنحه الشرعية، ~~ولن يكون فعله هذا سوى إيماءة مجنونة أو غير ذات أهمية لو لم يساندها حشد من المحتفين ~~والمؤمنين المستعدين لتقديمه ms179 كما لو كان عبقري المعنى والقيمة.» # 220 # إندي وارهول 1962م. # وواقع السياسة والأخلاق لا يختلف عن واقع الفن، ذلك أن السياسة مثلا لم تعد استراتيجية ~~أيديولوجية بقدر كونها قد دخلت في مدار المصطنع. لقد انخرط الجميع في اللعبة، لعبة الإيهام، ~~لدرجة أن التمايزات السياسية لم تعد واضحة، فلا مجال الآن للتمييز بين اليساري واليميني ~~مثلا؛ لأن الحدود التي صنعتها الأيديولوجيا، أتلفتها وهدمتها استراتيجية التصنع والاصطناع. ~~والأخلاق كذلك غدت اصطناعية. وعلى العموم فالاصطناع - كما يقول بودريار - جعلنا «لم نعد ~~نتوفر على معيار أو مقياس أو إطار أو مرجع أنطولوجي أو قاعدة إبستمولوجية أو ضوابط أخلاقية ~~نهائية أو يقينيات دينية، تصلح للتمييز بين الأشياء، ورسم الحدود، وتحديد المسارات، وتثبيت ~~الأسماء، وضبط الآفاق، وطرد الأشباح، والأوهام والتناقضات.» ويضيف: «في العالم كانت لا تزال ~~هناك موازنة بين الخير والشر، وفق علاقة جدلية قائمة تضمن على الرغم من تقلبات الظروف توتر ~~العالم الأخلاقي وتوازنه - كما كانت المواجهة خلال الحرب الباردة بين القوتين العظميين ~~تضمن توازن الرعب، فلا تفوق إحداهما الأخرى. ويختل هذا التوازن عند الشروع بتعميم كلي للخير ~~(هيمنة الإيجابي على أي شكل من أشكال السلبية، استبعاد الموت وكل قوة محتملة العداء - ~~انتصار قيم الخير دائما أبدا)، عندئذ يختل التوازن ويصبح كأن الشر قد استعاد استقلالية ~~خفية، ناميا على نحو أسي، توسعي.» # 221 # إن النظام العالمي الجديد لا يترك مجالا للتمايزات، وكل ما يخرج عن النظام ينبغي مواجهته ~~بالقوة. هذا ما أكد عليه بودريار في مؤلفه قوة الجحيم Power Inferno ~~(2002م) الذي كرسه تحديدا ~~لموضوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر. # 222 # في هذا الكتاب ينتقد بودريار الإمبريالية الغربية التي تتحكم في طبيعة العالم ~~من حولنا: «لا يتعلق الأمر بصراع الحضارات، بل بمواجهة أنثربولوجية بين ثقافة عالمية متماثلة ~~وكل ما يحتفظ في أي مجال بشيء من التمايز يحول دون تذويبه في تلك الثقافة. ووفقا لتلك ~~الثقافة العالمية تغدو كل الأشكال المختلفة للخصوصية بمثابة هرطقات تماما كما هو الحال في ~~الأصولية الدينية ... إن رسالة الغرب تتمثل في إخضاع الثقافات المتعددة لقانون المعادلة ms180 ~~القهري بكافة الوسائل الممكنة ... إن مثل هذا النظام يرى في كل شكل عصي عليه إرهابا مفترضا. ~~هكذا حال أفغانستان؛ فالعالم الحر لا يتحمل بلدا يمنع الحريات الديمقراطية - الموسيقى ~~والتلفاز ووجوه النساء. ولا يتحمل أن يقف بلد ما في مواجهته، مهما كانت خلفيته الدينية التي ~~يستند إليها، فمن غير المسموح الاعتراض على الحداثة في نزعتها الكونية.» # 223 # لقد صار الحادي عشر من سبتمبر علامة ثقافية عالمية، وهو اليوم الذي أفاق فيه الناس على ~~صورة طائرتين تخترقان برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، واحدة تلو الأخرى. كانت الصورة ~~وهي تبث تليفزيونيا تحمل كل مقومات الإخراج السينمائي، وتضاهي أدق فنيات السينما، حتى في ~~الإثارة والتشويق. وبما أنها صورة غير عادية وغير تقليدية فقد توفر لها من وسائل الإشهار ~~والتعميم ما جعلها صورة كونية يشترك كل البشر في تلقيها وتأويلها. لقد كانت صورة ناسخة لكل ~~ما سواها من صور، وبلغت قوتها النسخية أن ألغت كل ما سبقها وصارت المصدر التأويلي لكل ما ~~بعدها، وهي بهذا صورة تترجم كل عناصر الهيمنة الثقافية والبصرية؛ حيث يتقابل طرفان لم يكن ~~من الممكن أن يتقابلا قبل ذلك التاريخ، وفي قلب نيويورك تحدث معركة عالمية بين قوتين إحداهما ~~عظمى ويرمز لها البرجان الفارهان، والأخرى ناشئة لا تملك غير إرادة المواجهة. # وقد صارت المواجهة سافرة هناك، فكيما يتحقق إخراج صورة كونية للحدث أراد صانعوه أن يكون ~~عالميا وخططوا لإخراجه وإنتاجه لكي يحققوا أعلى درجة من عالمية الصورة، وهو تخطيط ينافس في ~~دقته أرقى أنواع الإخراج السينمائي في هوليوود. ومن المؤكد أن مفجري البرجين قد وضعوا في ~~تصورهم ما يمكن أن تكون عليه صورة الحدث في التغطيات التليفزيونية. وفي المقابل فإن المستهدف ~~الأمريكي قد سعى إلى توظيف تلك الصورة توظيفا يضمن له تحقيق أكبر قدر من التأثير عبر تلك ~~الصورة، مما يعني أن الطرفين كانا يمارسان لعبة في الإخراج والمونتاج من أجل إنتاج تأثير ~~خاص تحدثه صورة البرجين وهما ينفجران ثم ينهاران، ويكون ذلك فاتحة إخبارية عالمية وصورة ~~كونية تلغي كل ما ms181 قبلها، وتعيد كتابة التاريخ من لحظتها وصاعدا؛ لكي تتغير اللغة ذاتها ~~وتتبدل المصطلحات، وليست الأحداث فقط. فما حدث قد كتب لغة مختلفة وسجل مصطلحا ذا قيمة ~~دلالية خاصة تعود إلى تلك الصورة وتحيل إليها؛ أي أن الصورة صارت هي المرجعية الدلالية ~~للمصطلحات. # وأول هذه المصطلحات وأخطرها وأكثرها فاعلية ومركزية هو مصطلح الإرهاب. وكل بحث في معنى ~~هذا المصطلح لن يكون دقيقا إذا اعتمد على دلالات ما قبل صورة الحادي عشر من سبتمبر؛ ذلك لأن ~~الصورة قد نسخت ما قبلها وكتبت معنى خاصا يصدر عن تلك الصورة ويحيل إليها. ولم يبق على ~~الإنسانية بعد ذلك إلا أن تسلم بهذا المعنى، بعد أن انهزمت كل مصطلحات الفكر الذي صار في ~~تلك اللحظة تقليديا وغير عملي وغير مقبول. # في الواقع، كما يرى بودريار، كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر تغيرا عالميا كونيا يحدث ~~للثقافة البشرية؛ حيث تتولى الصورة رسم المعاني وتغيير المصطلحات. بهذا المعنى نفهم لماذا ~~دعا بودريار إلى التفكير في أحداث 11 سبتمبر فيما وراء الخير والشر؛ أي فيما وراء النزعة ~~الأخلاقية الكلاسيكية؛ والنظر إليها من جهة النظام # le système # الذي أثرت عليه هذه الأحداث، ~~بحيث خلخلت قطبية رمزية معينة. # ويعيد بودريار تلك الضربة الرمزية كما يسميها هو، إلى نفس المنظومة التي أنتجتها، وكأنه ~~يريد أن يكرر قول هيجل بأنه من القضية يتولد نقيضها، يقول: «هم الذين نفذوا أحداث الحادي عشر ~~من سبتمبر لكننا نحن من أراده، وإذا لم نأخذ في الاعتبار هذه الحقيقة، فإن الحدث يفقد ~~أبعاده الرمزية كلها، ويصبح مجرد حدث عادي يمكن اختزاله في مجرد عمل إرهابي، وينتهي الأمر عند ~~هذا الحد. لكننا نعرف أن الأمور ليست بهذه البساطة. وأن ما حدث يتكئ على تواطؤ دفين يجد ~~جذوره في أمكنة متنوعة. إنه صدى لفرض كل ما هو مطلق ولكل قوة نهائية، وإن مبنيي مركز ~~التجارة العالمي كانا التجسيد لهذه القوة المطلقة.» # 224 # والانهيار الذي تعرض له المبنيان يفوق بأبعاده الرمزية ما تعرض له البنتاجون؛ ~~لأنه، على حد تعبيره، هو صورة لانهيار نسق كامل ms182. # يتكشف من ذلك التحليل إذا أن بودريار لا يحمل الطرف المعتدي كافة المسئولية الأخلاقية ~~عن الحدث، بل هو يحمل بالمثل الطرف المعتدى عليه قدرا مشابها من المسئولية. فما حدث هو إحدى ~~نتائج النظام الأحادي، وهو يقول في هذا الصدد: «عندما يأخذ نظام ما لنفسه كل الأوراق، فهو ~~يدفع بالآخر إلى تغيير قواعد اللعبة. والقواعد الجديدة متوحشة لا ريب؛ لأن طبيعة هذا ~~التحدي هي نفسها متوحشة.» # 225 # إن المشهد الذي يحيل عليه أحداث البرجين تحكمه مفارقة تبلغ حد التداخل بين الشجب الأخلاقي ~~والاتحاد المقدس ضد الإرهاب، وبين التهلل الاستثنائي لرؤية هذه القوة الفائقة العالمية وهي ~~تدمر نفسها بنفسها وكأنها ترتكب انتحارا مشهودا، ذلك «أنها نظرا لقوتها التي لا تحتمل، ~~أججت كل هذا العنف المبثوث في أرجاء العالم. وهي التي أثارت هذه المخيلة الإرهابية التي ~~تسكننا جميعا.» # 226 # ووفق هذه النظرة فإن الحدث يتعدى بكثير مجرد الحقد على قوة عالمية مسيطرة، ~~فمن المنطق أن يؤجج تفاقم قوة القوة وتركزها الرغبة في تدميرها، وأن تكون شريكة في تدميرها ~~الخاص، فالغرب الذي يتصف، حسب بودريار، كما لو أنه في موقع (لله) ذي القدرة الإلهية الكلية ~~والشرعية الأخلاقية المطلقة يغدو انتحاريا ويعلن الحرب على نفسه، وكان انهيار برجي مركز ~~التجارة وكأنه تواطؤ غير متوقع بين الطرفين، المعتدي والمعتدى عليه. ويعتقد بودريار أن ~~النظام العالمي المهيمن يستلزم ضرورة وجود إرهاب كي يستمر في العمل والسيطرة؛ لأنه وبدون ~~نقيضه سينهار هذا النظام، بل إن تواطؤا عميقا ينشأ بين الخصمين، وبالتالي يمكن التساؤل بهذا ~~المعنى حول من يستخدم الآخر. # وقد حاولت وسائل الإعلام، بحسب بودريار، أن تلصق تهمة الإرهاب بالإسلام؛ فالنظام ~~العالمي، المتمثل في شبكة المصالح الرأسمالية العالمية، لا بد أن يخلق لذاته عدوا محدد ~~المعالم يستطيع من خلاله أن يحقق مصالحه، فكان هذا العدو هو الإرهاب، وكيما يصبح محدد ~~المعالم تم لصقه بالإسلام. في حين أن هذا الارتباط غير حقيقي في جوهره؛ لأن الإرهاب تم ~~توليده من داخل النظام ذاته، ولم يأت من خارجه «لا يتعلق الأمر بصدام الحضارات ms183 أو الأديان، ~~كما يتعدى بكثير محاولة اختزاله في المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والإسلام. صحيح ~~أن هناك تقابلا بينهما، لكنه تقابل يكشف، عبر طيف أمريكا (التي ربما كانت مركز العولمة، ~~لكنها بالتأكيد ليست بمفردها) وعبر طيف الإسلام (الذي لا يرادف أيضا الإرهاب)، أن العولمة ~~تخوض صراعا مع ذاتها.» # 227 # ويستطرد بودريار قائلا: «الحرب تلازم كل نظام عالمي وكل سيطرة مهيمنة، ولو كان ~~الإسلام يسيطر على العالم لوقف الإرهاب ضد الإسلام.» # 228 # من هنا، يمكن الحديث، وفقا لبودريار، عن حرب عالمية رابعة وليس ثالثة؛ ذلك أن محورها ~~الرئيس هو العولمة. # 229 # فالحربان العالميتان الأوليان تعكسان الصورة الكلاسيكية للحرب. الأولى وضعت ~~حدا لتفوق أوروبا وللعهد الاستعماري، والثانية حطمت النازية، والثالثة وقعت تحت ما يسمى ~~بالحرب الباردة، وانتهت بالقضاء على الشيوعية. وكل حرب من هذه الحروب قادتنا إلى وضع عالمي ~~جديد. أما الحرب الجديدة، فيعتقد جان بودريار أنها أصبحت شاملة بحيث لم يعد بإمكان أحد ~~الفرار منها أو تجنبها. إنها في قلب هذا النظام العالمي الجديد. ~~(4-6) الواقع الفائق # يعود مفهوم الواقع الفائق # hyper-reality # بجذوره إلى تاريخ قديم؛ حيث ساد الجدل حول مفهومي ~~الواقع # Reality # والوهم # Illusion ~~. لكن الاستعمال الحديث للمفهوم ارتبط بكتابات فالتر بنيامين ~~الذي قام بدراسة الصورة ضمن سياق أعم من دراسته لما أطلق عليه صناعة الثقافة. ففي مقالته ~~الشهيرة التي صدرت عام 1936م «العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تكنولوجيا» يتأمل بنيامين - على ~~حد تعبيره - «تقلص» و«ذبول» و«تدمير» ما يسميه ب «هالة الفن» # Glanz der Kunst # أو «الإحساس ~~بخصوصية وتفرد العمل الفني.» مفترضا أن هذه الهالة لا يمكن فصلها إطلاقا عن كونها جزءا ~~لا يتجزأ من نسيج التقاليد الفنية والحضارية، «فأي تمثال قديم لفينوس # Venus ~~، مثلا، يمثل ~~بالنسبة للإغريق، الذين يرون فيه رمزا للجمال، سياقا تراثيا، يختلف عنه لدى رجال الدين ~~في العصور الوسطى ممن كانوا ينظرون إليه باعتباره وثنا ينذر بالشؤم. إلا أن كلا الفريقين ~~لم يكن ينكر ما له من تفرد أو «شذى».» # 230 # غير أن معنى العمل الفني راح يتغير في عصر إعادة الإنتاج الآلي الحديث، ~~فتقنيات ms184 وآليات إعادة الإنتاج تعمل على فصل «المنتج المعاد إنتاجه» وانتزاعه من أبعاده ~~التاريخية، ومن ثم يتهاوى هذا الشذى أو تلك «الهالة» ويتلاشى التفرد والخصوصية التي كانت ~~للأعمال الفنية، وينتقل العمل الفني إلى فضاء مغاير أو واقع فائق. هذا بالإضافة إلى أن ~~الظروف والأوضاع التي أصبح يتلقى فيها العمل الفني قد تغيرت «فالمعرض الفني وقاعة الموسيقى ~~يفقدان صفتهما «المقدسة»؛ حيث يمكن إعادة إنتاج العمل الفني واختباره أو عيش تجربته في عدد ~~كبير من الظروف أو الأوضاع.» # 231 # وعلى الرغم من الروح النقدية التي يتحدث بها بنيامين، إلا أنه قد رأى في ضياع ~~«هالة» الفن إمكانية لتعزيز التفكير النقدي للجمهور حيال ما يعرض عليهم من أعمال فنية. ~~فهالة الفن قديما كانت تشكل عائقا أمام التلقي الموضوعي للعمل الفني، كانت تخلق نوعا من ~~القداسة للفن، يطلق عليه بنيامين الربقة اللاعقلانية «كلما انخفضت الأهمية الاجتماعية لأحد ~~الأشكال الفنية، ازداد تمييز الجمهور للفارق بين النقد والمتعة.» # 232 # وقد اتخذ المفهوم موقعه الخاص في ثقافة ما بعد الحداثة ولدى بعض من مفكريها: في مقالته ~~رحلات في الواقع الفائق # Travels in Hyperreality ~~(1973م) أشار أمبرطو إيكو # U. Eco # إلى جنوح ~~الناس نحو إعادة خلق الواقع بغية الحصول على أشياء أفضل أو أكثر إثارة أو أكثر رعبا أو ~~جمالا أو جاذبية مما هي عليه في الواقع الفعلي. أما الناقد الاجتماعي دانيال بورستين # Daniel ~~Burstein # فيرى أن الواقع المصطنع يوفر لنا إحساسا مزيفا بتجاوز الحياة واليومية المعيشة، ~~ولكنه حذر من مخاطر استشراء مظاهر الواقع المصطنع على المجتمع. # 233 # وبالإضافة لذلك، نعثر عند رولان بارت على المعنى الذي وضع له بودريار بعد ذلك ~~مصطلح الواقع الفائق؛ إذ يذهب بارت إلى أن ما يميز الصورة هو الكمال والصنعة المتقنة، ولذلك ~~فهي تقدم واقعا كاملا مركزا ومتقنا، وتقدمه بشكل موضوعي ومحايد وأكثر واقعية من الواقع ~~الحقيقي. وتعني الموضوعية والحياد عدم اعتماد الصورة على رموز وشفرات تحتاج إلى فك مثلما ~~نجد في اللوحات الزيتية مثلا؛ مما يجعل قدرتها أكبر على الإيهام والتزييف. # 234 # على أن المفهوم مع بودريار، كما سبق وأشرنا، كان بمثابة مفهوم ms185 موجه لمشروعه الفكري. ~~فالواقع الفائق هو النتاج أو المحصلة النهائية للصورة الزائفة أو السيمولاكرا. # كيف ومتى وصلت البشرية إلى مرحلة الواقع الفائق؟ ربما كان من الصعوبة بمكان في سياقنا ~~هذا أن نتتبع المراحل التي مرت بها الصيغ التعبيرية وصولا إلى مرحلة الواقع الفائق. لكن ~~بصفة عامة نستطيع أن نقول إن الصيغ التعبيرية في الثقافة البشرية قد مرت بعدة مراحل، أهمها ~~مرحلة الشفاهية، ثم الكتابة، ثم الصورة. والواقع أنه إذا كانت مرحلة الكتابة قد خلقت تمييزا ~~طبيعيا بين من يكتب ويقرأ، وبين من لا يقرأ ولا يكتب؛ فإن الصورة قد جاءت لتلغي هذا التمييز ~~وتوسع من دوائر الاستقبال لتشمل بذلك كل البشر. فاستقبال الصورة لا يحتاج إلى الكلمات أصلا، ~~كما لا يحتاج إلى خلفيات ثقافية عميقة، بالإضافة إلى أنها متاحة للجميع ولا تحتاج إلى طقوس ~~خاصة للتعامل معها. ولهذه الأسباب مجتمعة كان للصورة تأثير طاغ في العصر الحديث. وقد كان ~~لاكتشاف تقنيات صناعة الصورة في القرن العشرين وتغول وسائل الاتصال في الثقافة المعاصرة، ~~أثر كبير في هذا الصدد. على كل الأحوال يحدد بودريار أربع مراحل للصورة في علاقتها ~~بالعالم الواقعي (على غرار المراحل الست لمفهوم الحقيقة عند نيتشه). ~~(4-7) المراحل الأربع للصورة ~~«يبدو أنه أشبه بإعلان نيتشه موت الإله. لكن قتل الإله عند نيتشه كان قتلا رمزيا، وكان ~~الهدف منه تغيير قدرنا ... لكن الجريمة الكاملة ليست قتل الإله، لكن قتل الواقع، وهي ليست ~~واقعة رمزية بل إبادة.» # 235 # هكذا قال بودريار في مقالته المعنونة باغتيال الواقع المنشورة في كتابه الوهم ~~الحيوي # The Vital Illusion ~~(2000م) وهو يحدد المقصود بالإبادة بأنها تعني أن كل الأشياء (وكل ~~الموجودات أيضا) تتجاوز غايتها، تتجاوز نهايتها؛ حيث لم يعد هناك واقع بعد الآن، وليس هناك ~~أي سبب للوجود، لم تعد هناك حتمية. ولذلك يسميها بودريار الإبادة المطلقة # Extermination ~~. وهي ~~مطلقة لأنها تشير إلى أن آثار الواقع لم تعد موجودة، ولا يمكن الاستدلال عليها «لم تعد هناك ~~جثة. إذا كان ثمة جثة من الأساس، وليس هناك أي مكان يمكن أن نجدها فيه. هذا ms186 لأن الواقع ليس ~~ميتا وحسب مثل إله نيتشه. إنه اختفى ببساطة وبشكل محض. وفي عالمنا الواقعي، فإن سؤال ~~الواقع المشار إليه عن الذات والموضوع لم يعد قابلا للطرح بعد الآن.» # 236 # قتل، إبادة، إبادة مطلقة، جثة، لم تعد هناك جثة، إنها إذا الجريمة الكاملة التي يزعم ~~البعض استحالة حدوثها. لكن كيف بلغنا هذا الوضع التراجيدي؟ يحدد بودريار أربع مراحل # 237 # من مراحل تطور الصورة من العصر الحديث وحتى نهاية القرن العشرين: ~~(1) # الصورة تجسيد أو محاكاة فعلية للموضوع الخارجي، وهي مرحلة هيمنة الأصل حيث تمثل الصورة ~~واقعا محددا. وتقوم الصورة هنا بمهمة وظيفية تتمثل في نقل الحدث أو تمثيل لواقع ما أو حتى استكشافه. # 238 # وبالتالي كانت الصورة مرتبطة بحدث معين وواقعة محددة. وكانت قدرة الصورة على ~~التزييف محدودة نظرا لتعذر ذلك تقنيا، وبالتالي كانت الصورة في تلك المرحلة تمتلك درجة ~~عالية من المصداقية، وقد أطلق بودريار على تلك المرحلة النسق الرمزي للصورة # Symbolic Order ~~of Image ~~. وقد حدثتنا سوزان سونتاج # Susan Sontag ~~(1933-2004م) ~~في كتابها عن الفوتوغرافيا # On Photography # عن طبيعة الصورة الفوتوغرافية في مراحل اكتشافها الأولى قائلة: «إن الصور ~~الفوتوغرافية كانت دليلا في ذاتها. فالشيء الذي نسمع عنه، ولكننا نشك فيه، يبدو يقينيا ~~حينما تظهر لنا صورة فوتوغرافية له. كانت الكاميرا أيضا أداة تسجيل للجرائم. وبدءا من ~~استخدام الشرطة الفرنسية لها في جرائم الكوميون القاتلة في يونيو 1871م، أصبحت الصور ~~الفوتوغرافية أداة مهمة في يد الدولة الحديثة لمراقبة شعبها والسيطرة عليه ... ومهما كانت ~~القيود ... فإن الصورة - أية صورة - تبدو في علاقة أشد براءة - وبالتالي أشد دقة - مع الواقع ~~المرئي مقارنة ببقية الموضوعات المتسمة بالتقليد والمحاكاة.» # 239 ~~(2) # مرحلة التزوير أو تزييف الواقع: وهي المرحلة التي سادت خلال القرنين: الثامن عشر ~~والتاسع عشر. وقد كانت الصورة في هذه المرحلة تهدف إلى خلق نموذج مثالي للواقع ~~أو الطبيعة عن طريق الإنتاج الصناعي الدقيق وهو الشيء الذي أدى إلى تصدع ~~الفوارق والتمايزات بين الأصل ونسخته. يقول وليام إيفينز # William Ivins # عن تلك الفترة: «بدأ القرن التاسع عشر باعتقاد ~~أن كل ما هو منطقي حقيقي، وانتهى بالاعتقاد بأن ms187 كل ما له صورة فوتوغرافية هو ~~الحقيقة وحده.» # 240 # وقد بدأت فكرة التشويه أو التحريف في الظهور تدريجيا. وقد كان الفن ~~مؤشرا جيدا لهذا التحول؛ فقد ظهرت المدرسة الباروكية في الفن بجنوحها نحو ~~غرائبية الأشكال والاهتمام بالتفاصيل المنمقة. على أن استشراء عمليات النسخ لم ~~تفض في النهاية إلى التشكيك في الأصل أو النموذج أو في علاقة الحقيقي بالمزيف. ~~وقد أطلق بودريار على هذه المرحلة للصورة المزيفة النسق الأول # First Order Simulacrum ~~. ~~(3) # مرحلة الإنتاج الآلي المتسلسل: وهي المرحلة التي تمتد حتى النصف الأول من القرن ~~العشرين. وقد كانت هذه المرحلة مواكبة لاكتشاف فن السينما، وتطور العديد من التقنيات ~~المرتبطة بصناعة الصورة. وقد انتشرت في تلك المرحلة صناعة النسخ التي بدأت تهدد باحتلال ~~مكانة الأصل، وهو ما استشرفه فالتر بنيامين في مقالته العمل الفني في عصر الاستنساخ الآلي. ~~غير أن بودريار يرى أن مفهوم النسخ أو الاستنساخ لا يمكن حصره في إطار الأعمال الفنية فقط، ~~بل تجاوز ذلك تدريجيا وأصبح مفهوما معتمدا في المجال الصناعي أيضا؛ فالسيارات والطائرات ~~والملابس وحتى المباني، لا يمكن تمييزها عن نماذجها الأولية التي أخذت عنها؛ ولذا يصعب أيضا ~~وسمها بالتزييف أو التزوير ... ويطلق بودريار على هذه المرحلة ~~النسق الثاني للصورة المزيفة # Second Order Simulacrum ~~. ~~(4) # اختفاء المصدر وصناعة الصورة مع الخبر: تلك هي المرحلة الأخيرة التي يحددها بودريار؛ أي ~~مرحلة النسق الثالث للصورة المزيفة # Third Order Simulacrum ~~. وقد ظهرت تلك المرحلة مع ظهور ~~ثقافة ما بعد الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين. يقول ريجيس دوبري: «عبر ~~الفوتوغرافيا والسينما والتلفاز والحاسوب، استطاعت آلات البصر في قرن ونصف من الزمن، ~~وبانتقالها من الكيميائي إلى الرقمي، أن تحتوي الصورة القديمة التي يصنعها الإنسان بيديه. ~~وقد نتجت عن ذلك شاعرية جديدة؛ أي إعادة تنظيم عام للفنون البصرية. وفي هذه الرحلة دخلنا في ~~عصر الشاشة بوصفه تقنية وأخلاقية لا تشكل ذروة مجتمع الفرجة وإنما تعلن عن نهايته.» # 241 # وفي سياق مشابه يوضح المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي # Arnold Tynbee # في نص نشر له عام 1973م ~~أن مسار الإنسانية قد جرى على مراحل ثلاث؛ أثناء المرحلة الأولى ms188، والتي تعود إلى ما قبل ~~التاريخ، كانت الاتصالات بطيئة للغاية، ولكن تطورات المعرفة كانت تسير ببطء هي الأخرى، بحيث ~~أن كل جديد كان أمامه ما يكفي من الوقت لينتشر عبر العالم قبل أن يطرأ جديد آخر. فكانت ~~المجتمعات الإنسانية تمتلك درجة متقاربة من التطور - والكثير من الخصائص المشتركة. وأثناء ~~الحقبة الثانية، كان تطور المعارف أسرع من انتشارها، بحيث أصبحت المجتمعات الإنسانية أكثر ~~تمايزا واختلافا، وقد دامت هذه الفترة عدة آلاف من السنوات. ثم بدأت الحقبة الثالثة، والتي ~~تقدمت أثناءها المعارف بصورة متسارعة، لدرجة تصبح معها المجتمعات الإنسانية أقل فأقل ~~تمايزا. ~~(4-8) النسق الثالث للصورة المزيفة # ذهب بودريار إلى أن هناك صورة جديدة فاتنة للثقافة المعاصرة في انتشار اليوم. فإذا كانت ~~الحضارة الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين قد أعلت من شأن المشهد والصورة، وجعلت ~~منهما وسيطا هاما من وسائط المعرفة؛ فإن ما حدث الآن ونتيجة لهذه المكانة التي احتلتها ~~الصورة، هو غياب الواقع وتواريه خلف عالم من الصور. انكمش الواقع وتضاءل حجمه حتى بات صورة ~~شاحبة، وما لبثت هذه الصورة أن انمحت بالكامل حتى أصبحت غير ذات وجود، وفي المقابل زادت ~~سطوة وهيمنة الصورة التي كان ينظر إليها على أنها محاكاة لعالم الواقع، فأصبحنا نعيش في ~~عالم مليء بالصور غير ذات الأصل، صور معلقة في فضاء خاص بها، هذا الفضاء يتمدد باستمرار ~~وتزداد رقعته، إلى أن أصبح يحتل نفس الفضاء الذي كان يحتله الواقع، نوع من الإزاحة والاحلال ~~إن جاز التعبير. على أن الفرق بين الواقع الجديد والواقع القديم، ليس فرقا في النوع، إنما ~~فرق في الدرجة. بمعنى أن الواقع الجديد يمتلك من عوامل الجذب والإبهار ما لم يكن يمتلكه ~~الواقع القديم؛ لذا فهو لا يقدم نفسه كواقع بديل فقط، بل أشد واقعية من الواقع القديم نفسه. ~~إنه واقع فائق يتجاوز القديم ويعلو عليه، بل وتصبح له مصداقية أكثر منه. ~~••• # يصف بودريار الواقع الفائق بأنه «عالم الدوال المتحررة.» # 242 # وهو يعتمد إلى حد كبير في هذه النقطة على إعادة توظيف نظرية ms189 عالم اللغة الشهير ~~فريناند دي سوسير # Ferdinand de Saussure ~~(1857-1913م). يفرق دي سوسير في نظريته بين الدال ~~والمدلول، فيشير الدال عنده إلى الشكل اللغوي للكلمة، أما المدلول فيشير إلى المحتوى ~~الواقعي لها؛ أي ما تجسده في الواقع أو ما تثيره من معنى لدى المتلقي. وعند دي سوسير ثمة ~~علاقة وثيقة بين الدال والمدلول، بحيث إذا حضر الدال حضر المدلول. وإذا طبقنا مفهومي الدال ~~والمدلول على الصورة نستطيع القول إن الصورة بمكوناتها الشكلية تكافئ الدال، في حين أن ~~المحتوى الموضوعي لها؛ أي الحدث أو الشيء الذي تجسده، هو بمثابة المدلول. ويرى بودريار أن ~~الحياة الاجتماعية تحولت إلى صورة يقدمها الإعلام. والإعلام لا يقدم الواقع كما هو، ولا حتى ~~صورة عنه، بل صورة عن صورة أخرى هي بدورها مولدة منه. ومعنى ذلك أن الدلالة التي يقدمها ~~الإعلام، وبالتالي معنى الواقع، لا تعود مرجعيته إلى شيء آخر خارج ذاته. هذا بينما تفترض ~~الدلالة (المعنى) وجود علاقة بين دال ومدلول، بين رمز وما يرمز إليه. وعندما يكتفي الرمز ~~بذاته، ويكون هو مرجعية نفسه، يصبح ما يدل عليه هذا الرمز خارج نطاق الواقع الذي نعرفه، ~~وبذلك يختفي الواقع، ويظهر الواقع الفائق. وقد استطاعت وسائل الإعلام في مرحلة العولمة أن ~~تخلق قدرا كبيرا من الرموز المشبعة بالمعاني الذاتية المرجعية التي لا علاقة لها بأي مدلول ~~واقعي. وبناء على ذلك يرى بودريار أن العالم أصبح مجرد صورة نقلا عن صورة نقلا عن صورة ... ~~وأصبح العالم مجموعة من عمليات الاصطناع والصور بلا صلة أو علاقة مرجعية مع أصل محدد في ~~الواقع. ~~••• # إن غياب ثنائية الرمز-الواقع يعني غياب الصلة بين الرمز والواقع، وبالتالي لا علاقة بين ~~الرمز والحقيقة. ومن هنا فإن المصطنع يقوم على تدمير هذه المسافة، ما يعني أن الدال أو ~~الرمز غدا كلي القدرة، مستقلا بذاته، ومنكفئا عليها؛ ولهذا لا يخفي أي حقيقة، بل يقدم نفسه ~~على أنه هو الحقيقة. وهذا المعنى يؤكد عليه بودريار أيضا في كتابه التبادل الرمزي ~~والموت # L’Échange symbolique et la mort ~~(1976م) عندما يستقي مثالا على فكرته من فن ms190 الرسم «إن ~~نسخة اللوحة تحافظ على علاقة مرجعية مع الأصل، فنسخة اللوحة لا تستمد معناها إلا من اللوحة، ~~بينما المصطنع لا يفعل غير اصطناع مصطنعات أخرى: هنا يختفي مفهوم الأصل برمته، ويختفي أيضا ~~مفهوم الحدث والحقيقة، بحيث لا يبقى مجال لغير المصطنعات.» # 243 # في هذا الواقع الفائق إذا لم تعد العلامات تمارس دورها المعهود في تمثيل الأشياء أو ~~الإشارة إلى نموذج خارجي، بل أصبحت لا تمثل شيئا سوى نفسها، ولا تحيل إلا إلى علامات أخرى ~~«لقد أصبحت الصورة تسيطر بطريقة رمزية على العصر، ولم يعد من الممكن أن نتكلم عن الصورة ~~والحقيقة، أو وسائل الإعلام والمجتمع، فكل من هذه الثنائيات قد غدا متشابكا بدرجة كبيرة، ~~حتى إنه قد صار من الصعب وضع خط فاصل بينهما، وبدلا من أن تشير وسائل الإعلام إلى العالم ~~الحقيقي، نجد أن أغلب ما تنتجه يشير إلى صور أخرى.» # 244 # أي أنها تخلت عن كونها تمثل موضوعا محددا، واقتصرت مهمتها على الإحالة إلى صور ~~أخرى تصطف معا لتكون موضوعا مزيفا لا علاقة له بالواقع الخارجي «إن الصور الآن لم تعد تعبر ~~عن موضوع ولا عن واقع شيء، وإنما عن الإنجاز التقني وحده تقريبا. إنه الوسيط التصويري الذي ~~يتحرك ... الناس يعتقدون أنهم يصورون مشهدا، بينما ما هم في حقيقة الأمر إلا منفذون تقنيون ~~لهذا التخيل الافتراضي اللانهائي للأداة. فالافتراضي هو الأداة التي لا تطلب سوى التشغيل، ~~التي تقتضي التشغيل واستنفاد كل إمكانياتها.» # 245 # من ناحية أخرى، ثمة جانب تراجيدي يؤكد عليه بودريار في تحليله للإعلام المعاصر؛ إذ يوضح ~~أنه وسيلة للانفصال لا للاتصال. يذهب الاعتقاد الشائع حول وسائل الإعلام إلى أنها وسائل ~~اتصال ونقل للرسائل والمعلومات ووسيلة للشفافية، إلا أنها ليست كذلك. يفترض الاتصال وجود ~~علاقة تبادلية بين مرسل ومستقبل، بحيث يتبادل الطرفان الإرسال والاستقبال كما في الحوار بين ~~شخصين، لكن وسائل الإعلام مرسلة فقط دون أن تكون مستقبلة لرسائل مماثلة للتي ترسلها. فمع ~~وسائل الإعلام الحديثة نشهد علاقة اتصال ذات طرف واحد واتجاه واحد. وليس مما يسمى باستجابة ~~الجمهور ms191 مما يرقى إلى أن يكون طرفا ثانيا لوسائل الإعلام، وما يقال عن ~~تغذية مرتجعة # feedback # تستقبلها وسائل الإعلام من الجمهور ليس إلا قياسا لتأثير الإعلام على شاكلة القياس ~~السيكولوجي لردود الأفعال المسمى اختبار بافلوف. # 246 # لتوضيح ذلك يعود بودريار إلى نظرية الاتصال عند رومان ياكبسون # Roman Jackobson ~~(1896-1982م) المكونة من ثلاثة عناصر: # يذهب بودريار إلى أن الرسالة تحررت من المرسل وأصبحت تمارس دورها كجزء من واقعها الفائق، ~~أي أن الرسالة أصبحت ذاتية الفعل ومكتفية بذاتها، هي ذاتها الرسالة والمرسل في آن واحد. وقد ~~يقوم المرسل إليه بإعادة توجيهها مرة أخرى، وفي كل مرة تحمل بمعان جديدة، ويعاد توظيفها ~~بصورة دائرية لا تنتهي. ما تنتجه الرسالة في النهاية من معان وما تحمله من دلالات وما ~~تثيره من ردود أفعال يدور كله في فلك الواقع الافتراضي «فما ينتجه الإعلام ليس إضفاء الطابع ~~الاجتماعي، بل العكس تماما؛ أي الانفجار الاجتماعي في الجماهير. وليس هذا سوى توسع عياني كبير ~~لانفجار المعنى على المستوى المجهري الصغير للدوال ... وما يعنيه هذا هو أن محتويات المعنى ~~جميعا تغدو ممتصة في شكل الوسيط المسيطر الوحيد. فالوسيط وحده هو الذي يمكنه أن يصنع حدثا، ~~مهما تكن المحتويات.» # 247 # ويرى بودريار أن محتويات الوسيط (كالتليفزيون مثلا) يتم تحييدها بحيث لا يمكن ~~لأي رسالة حقيقية أن ترسل من خلاله؛ فهنالك، كما يقول بودريار «انفجار الوسيط ذاته في ~~الواقعي، وانفجار الوسيط والواقعي في ضرب من السديم الواقعي المفرط، الذي لا يعود ممكنا فيه ~~حتى أن نحدد تعريف الوسيط أو فعله المميز.» # 248 # بالإضافة لذلك ثمة تحول حدث في علاقات التبادل بين المرسل والمستقبل. فوسائل الاتصال ~~تجاوزت وظيفتها إلى حد ما، كما عبر عن ذلك ماكلوهان # McLuhan ~~. تجاوزت المحتوى والرسالة ~~والذات المتصلة والجوهر الطبيعي لعملية الاتصال، وركزت فقط على الوسيلة «فالاستراتيجيات ~~التي تتمركز حول الوسط وميديا الاتصال قد أصبحت أكثر جوهرية من الاستراتيجيات التي تتمركز ~~حول المحتويات نفسها.» # 249 # يقصد بودريار بذلك أن طريقة توصيل المحتوى الإعلامي أصبحت أكثر أهمية من ~~المحتوى نفسه. # ويرى بودريار أن المحتوى الإعلامي نفسه قد تضاعف ms192 وتكاثر بطريقة ذاتية الفعل، طريقة تشبه ~~«لا أريد أن أقول السرطان، ولكنه شيء ما مشابه لذلك. هناك نوع من الاستقلال الذاتي الآن ~~لأنظمة الصور وأنظمة الخطاب التي أصبح لها اليد العليا على المعنى.» # 250 # إن الحدث ما إن يتحول إلى مادة إعلامية يفقد واقعيته الخاصة ويتخذ مكانه في ~~فضاء الواقع الفائق، ولن تستطيع أي قوى أن تعيده إلى مداره الأصلي مرة أخرى «كل واقع وفعل ~~معاصرين، أيا ما كان كنههما تاريخيا أو سياسيا أو ثقافيا، تمنحهما صفاتهما الإعلامية ~~الكامنة فيهما طاقة حركة تعمل على لفظهما من مداريهما الأساس وفضاء معنيهما الحقيقي، وتدفع ~~بهما إلى فضاء شبيه يفقدان فيه كل معنى لهما بقدر ما يفقدان فيه كل قدرتهما على العودة إلى ~~فضائهما الحقيقي.» # 251 # وفي بعض الحالات لا تكون الأحداث قد وقعت أصلا، إنها تكون حدثت على مستوى ~~الشاشة فقط. هناك ما يمكن أن نطلق عليه أحداث شاشة، وليست أحداثا أصيلة يمكن الوثوق فيها. ~~والواقع أنه من الصعوبة بمكان الحديث الآن عن مفاهيم كالأصالة والثقة في وقوع الأحداث. وهنا ~~يمكن للمرء أن يتساءل إلى أجل غير مسمى عن درجة ومعدل الواقع الذي يتم عرضه، إنه يكون في ~~غالب الأمر شيئا آخر غير الذي يحدث «وتدور الدوائر، ويمكنها أن تغذي نفسها من أي شيء، ~~ويمكنها أن تلتهم أي شيء، وكما قال بنيامين عن أعمال الفن، إنك لا تستطيع أبدا أن تعود إلى ~~المصدر، لا يمكنك أبدا أن تستجوب حدثا أو شخصية أو خطابا عن درجته في الواقع الأصلي. إن هذا ~~هو ما أسميه الواقع الفائق. وجوهريا هذا هو المجال الذي لم نعد قادرين فيه على تحقق الواقع ~~واللاواقع، أو ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي. ويمكننا أن ندور في هذا المجال، والمجال ~~الأكبر حيث لم يعد للأشياء مبدأ للواقع بعد الآن.» # 252 # هل تحولت ذوات البشر إلى صور؟ يجيب بودريار بالإيجاب. حقا، إن هذا لم يحدث على المستوى ~~المادي أو التقني، لكن الإنسان، كمستمع ومشاهد لوسائل الإعلام، يغدو كما لو كان محطات للبث ~~لكافة ms193 تلك الوسائل. حتى الحوارات التي تدور بين البشر هي في حقيقة الأمر حوارات تدور بين ~~وسائل الإعلام المختلفة ... حوارات إعلامية معكوسة إن صح التعبير. # صورة توضح كيف يزيف الإعلام حقيقة الحدث. # لكن كيف يحدث هذا التأثير؟ كيف يعمل الإعلام على تشكيل النسق المعرفي والقيمي عند ~~الإنسان؟ # قبل أن يكون أحد معاني الكلمة الفرنسية # information # واشتقاقها من اللاتينية # informa # تعني ~~الإعلام والإخبار كان معناها التشكيل أو منح الهيئة لشيء ما، ومن ذلك الفعل بالفرنسية # informer # الذي يعني «شكل وكيف». والواقع أن هذا الأصل اللغوي على علاقة ماهوية بطبيعة الإعلام ~~المعاصر، الذي لا يعني بأي حال نقل الواقع أو الحدث كما هو، بل يعني تشكيل الحدث وإكسابه ~~هيئة ما. ثمة مقولة إعلامية شهيرة مؤداها أنه إذا لم توجد كاميرا في موقع الحدث فإن الحدث ~~لم يقع. وثمة قاعدة إعلامية أخرى تقول «ليس المهم أن تنقل الخبر، ولكن المهم كيف تنقل ~~الخبر.» إن حاصل جمع هذه المقولة وتلك القاعدة يكشف لنا عن طبيعة الإعلام الأنطولوجية ~~والإبستمولوجية؛ فالكاميرا تمنح الحدث صفة الوجود، وفي الوقت ذاته تعمل الكيفية التي يتم ~~نقل الحدث من خلالها على تشكيل المنظور المعرفي للمشاهد الآن ومستقبلا. # والواقع أن شاشات التلفاز وأثير الإذاعات وكافة وسائل الإعلام والاتصال الأخرى تروج ~~الرسائل والرموز وترسي مصفوفة جديدة من القيم أو تخلخل النسق القيمي السائد في مجتمع ما ~~بطرق متنوعة تهدف إلى مخاطبة أكبر قاعدة ممكنة من الجماهير. # 253 # وبمرور الوقت يتبنى المشاهد أو المتلقي الرموز والرسائل والقيم الجديدة ~~ويدرجها في جهازه القيمي-السلوكي، ويحدد من خلالها طريقة توجهه في العالم والحياة، بحيث ~~تشكل مجموع هذه الرسائل والرموز والقيم طريقة المشاهد في علاقته مع نفسه والآخرين والعالم. ~~فما يحدث إذا يتمثل في أن الإعلام يكيف الناس ويدفعها لتندرج في النماذج القيمية والسلوكية ~~التي يخلقها ويطرحها للتداول. وعليه فإن ردود أفعال الفرد في الواقع لا تكون نابعة من ~~داخله، ولا تكون نتيجة تفكير نقدي ودراسة تحليلية للمواقف، بل يتدخل فيها بصورة مباشرة ~~المشاهد الإعلامية المتراكمة. فيغدو العالم في النهاية بكافة ms194 مفرداته تجليا لواقع فائق ~~يتشكل من وسائل الإعلام والاتصال الحديثة. # إن الواقع الفائق، وفقا لبودريار، هو عالم لا معنى فيه لثنائية الصورة والواقع، عالم يعيش ~~فيه الإنسان وفقا لشيفرات مشهدية اندرجت في بنيته الإدراكية. فالرمز هو الواقع، ما يعني أن ~~الواقع الفائق امتص كل شيء وغدا مشبعا، والصورة أو المشهد المكتفي بذاته هو الذي يحدد بنية ~~المجتمع، بإلغاء أي مسافة بين الدال والمدلول، إلغاء أي مرجعية، ومن هنا تقليص أي فاعلية ~~نقدية، حتى فاعلية اكتشاف الأخبار المتناقضة داخل وسيلة الإعلام. # 254 # في دراسة حملت عنوان «الرؤية الإعلامية» نشرت في كتاب بؤس العالم # La Misère Du Monde ~~(1993م) ينطلق باتريك شامباني # 255 # في رؤيته لوسائل الإعلام من منطلق مشابه لبودريار. فيذهب إلى أن كافة الأحداث ~~والكوارث لا تتمتع بالقدرة نفسها على المرور عبر الإعلام ولا تسمح جميعا (وفي أحيان كثيرة ~~لا يسمح لها بذلك) بتغطيتها بالدرجة نفسها. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، تتعرض تلك الظواهر ~~التي تجد سبيلها إلى التغطية إلى عدد من التشويهات والتزييفات ما إن تتعهد بها وسائل ~~الإعلام؛ ذلك أن هذه الأخيرة لا تكتفي بتسجيلها، بل لا بد أن تمارس عليها عملا من البناء ~~وإعادة التهيئة يعتمد في درجته ومداه على المصالح الخاصة بهذا القطاع من الأنشطة (قطاع ~~الإعلام الذي تظل له مصالحه الخاصة واستراتيجياته التي يمليها عامل المنافسة التجارية بين ~~مختلف قنواته من جهة، وانخراط هذه القناة أو تلك في هذه الأيديولوجية المهيمنة أو تلك من ~~جهة أخرى. إن وسائل الإعلام تعالج على الفور، والحدث لا يزال بعد في مهده، لتقدم عنه تمثلا ~~اجتماعيا يظل يفرض نفسه رغم التكذيبات اللاحقة التي يقدمها أحيانا سياق الحدث نفسه، نتائجه، ~~أو النظرة الملقاة عليه بأناة؛ ذلك أن هذا التمثيل، مهما كان بعده عن الواقع، لا يقوم في ~~الغالب إلا بتدعيم تأويلات جاهزة ومعدة سلفا وتقوية الأحكام المسبقة ومضاعفتها. وفي ظل هذا ~~الوضع يتم التلاعب بكافة الأحداث: تحويل تظاهرة صغيرة إلى حدث كاسح، أو تهميش حدث جدير ~~بالاعتبار واختزاله إلى حدث عديم القيمة وغير ذي بال ms195. # في سياق مشابه يقدم لنا عالم الاجتماع والسياسة جاك إيلول # J. Elul ~~(1912-1994م) # 256 # تحليلا نقديا للسياسة ~~والرأي العام في عصر الإعلام، يتبين منه الدور الأيديولوجي الجديد لوسائل الإعلام. فإذا كان ~~للرأي العام دور أساسي وكبير في تشكيل السياسات، فيجب علينا في البداية تحليل العناصر التي ~~تشكله؛ أي الوقائع والمعلومات. يذهب إيلول إلى أن الوقائع المشكلة للرأي العام لا تتمتع ~~بالحياد والنقاء المفترض فيها، فالوقائع لا تصبح وقائع إلا بعد عملية معالجة من قبل وسائل ~~الإعلام، ولا يتقبل الرأي العام شيئا على أنه واقعة إلا إذا اتفقت مع ما يفهمه من الواقعة؛ ~~أي مع ما لديه من نماذج Patterns # وأنماط جاهزة # Stereotypes # صنعها الإعلام نفسه. ومن هنا تكون الوقائع ~~التي صنعها ونقلها الإعلام هي نفسها العناصر والخيوط المكونة لشبكة الأيديولوجيا. ~~فالأيديولوجيا لا تزيف وقائع ومعلومات، بل تعمل على تشكيلهما منذ البداية. # يقارن إيلول بين الوقائع والمعلومات في المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث. فالرجل الذي ~~ينقل إلى قبيلته أخبارا من القبائل الأخرى أو عن المناطق التي زارها، أو التجار الذين ~~ينقلون لمجتمعهم أخبارا عن مجتمعات أخرى لا يؤثرون في فهم ورؤية مجتمعهم لنفسه؛ فهذه ~~الأخبار مجرد شذرات منفصلة عنهم ولا تشكل جزءا من عالمهم الاجتماعي، ويظل الاحتكاك المباشر ~~بالمجتمع هو الوسيلة الأساسية لمعرفته. أما في المجتمع الحديث ونتيجة لتقدم وسائل الإعلام ~~فإن ما يتلقاه المرء من أخبار ومعلومات هو الذي يشكل رؤيته للعالم ولمجتمعه الذي يعيش فيه. ~~وعلى الرغم من أن المرء يذهب ويجيء ويتحرك عبر العالم كله إلا أنه يخبره بطريقة غير مباشرة، ~~فهو يعيش في عالم تمت إعادة ترجمته وتحريره، وبالتالي لم تعد لديه صلة مباشرة بالعالم ~~الحقيقي؛ وحتى الوقائع والأحداث التي عاشها بنفسه وشاهدها تحدث أمام عينيه سوف يرى أنها ~~تنقل إليه عن طريق وسائط إعلامية: الصحف، الإذاعة، التليفزيون، الإنترنت. وسوف يرى وصفا ~~وتعليقا وتفسيرا وتحليلا لما عاشه بالفعل، وغالبا ما سيؤثر عليه الحدث الذي تم توصيله بهذه ~~الطريقة أكثر من تأثره بخبرته الشخصية، فهذه الأخيرة لن تصمد أمام الصورة التي ينقلها ~~الإعلام. وعلى ms196 عكس الاعتقاد الشائع يذهب إيلول إلى أن توافر المعلومات الصحيحة لا يؤدي ~~بالضرورة إلى تشكيل واقعة سياسية وبالتالي إلى رأي عام، فهناك حالات كثيرة توافرت للناس ~~فيها المعلومات الصحيحة والكافية لكنها لم تؤد إلى ظهور رأي عام. إن تشكيل الرأي العام ~~مسألة دعاية (أو بروباجندا)؛ فيجب أن تحمل المعلومات بعناصر عاطفية وانفعالية ورمزية ~~حتى يتشكل الرأي العام. # ليست الوقائع هي الأحداث الفعلية، بل ما تمت ترجمته إلى كلمات وصور. ويضرب إيلول مثلا على ~~ذلك بغزو جيش لدولة أخرى؛ فرجل الشارع البسيط الذي رأى الحدث أمامه لم يشاهد إلا جيشا دخل ~~مدينته، وهو لا يدرك أن ما رآه غزو أجنبي لبلاده إلا عن طريق الإعلام. فالرجل لم يشاهد ~~واقعة بل حدثا، ولا يتحول هذا الحدث إلى واقعة حقيقية قائمة إلا عن طريق الإعلام. فالواقعة ~~هي ما تمت معالجته لإضفاء طابع العمومية عليه كي يتمكن المرء من إدراكه مباشرة؛ لأن الإدراك ~~يكون عن طريق العموميات والكليات لا الجزئيات كما تذهب نظرية الجشطالت في علم النفس؛ وهي ~~أيضا ما تم نقله لأناس كثيرين عن طريق وسيلة اتصال جماهيرية. ومعنى هذا أن الواقعة هي ما ~~أضفيت عليها تلوينا خاصا غير حاضر في أعين من شاهدوا الحدث، وهي ما ألحقت بها تحليلات وحملت ~~بمعان ومشاعر حتى تكون مادة للجمهور؛ وإذا لم تترجم الأحداث المبعثرة والمشتتة بهذه الطرق ~~والوسائل وأضفي عليها هذه الخصائص لن تصبح وقائع، ولن تكون عناصر لتشكيل وبناء رأي عام. إن ~~استقبال المرء للوقائع وفهمها وتفسيرها يعتمد على ما لديه من أنماط جاهزة # Stereotypes # صنعها ~~الإعلام، بحيث أنه لن يصدق الوقائع التي لا تتفق مع هذه الأنماط أو تعارضها، بل إن تلك ~~الأحداث التي تتعارض مع أنماط فهمه واستقباله لن يكون لها تأثير يذكر عليه وسوف ينساها ~~بسرعة. # في كتابه المتلاعبون بالعقول # Mind Managers # يرى هربرت شيللر # Herbert Schiller ~~(1919-2000م) أن وسائل التضليل مرتبطة ارتباطا رئيسا بامتلاك رأس المال. فتتم السيطرة على أجهزة ~~المعلومات وفق قاعدة بسيطة من قواعد السوق، فامتلاك وسائل الإعلام والسيطرة عليها، شأنه شأن ~~الملكية ms197 الأخرى، متاح لمن يملكون رأس المال، والنتيجة الحتمية لذلك أن تصبح محطات الإذاعة ~~وشبكات التليفزيون والصحف والمجلات وصناعة السينما ودور النشر مملوكة جميعها لمجموعة من ~~المؤسسات المشتركة والتكتلات الإعلامية، ويصبح الجهاز الإعلامي جاهزا للاضطلاع بدور فعال ~~وحاسم في عملية التضليل. وتحت غطاء حماية الملكية الخاصة وحراسة رفاه الفرد وحقوقه يتم بناء ~~مؤسسات كاملة للتضليل الإعلامي. ولكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفعالية أكبر لا بد من ~~إخفاء شواهد وجوده؛ أي أن التضليل يكون ناجحا عندما يشعر المضللون بأن الأشياء هي على ما هي ~~عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية، أو بعبارة أخرى: إن التضليل الإعلامي يقتضي واقعا زائفا ~~هو الإنكار المستمر لوجوده أصلا. ويبدو في الظاهر أن ثمة تنوعا كبيرا في البث الإعلامي مستمدا ~~من العدد الكبير للصحف ومحطات الإذاعة والتليفزيون، ولكن النتيجة كما لو كان ثمة مصدر واحد؛ ~~فالمادة الترفيهية والأخبار والمعلومات العامة والتوجهات والأفكار يجري انتقاؤها جميعا من ~~الإطار المرجعي الإعلامي نفسه من جانب «حراس» للبوابة الإعلامية تحركهم دواع تجارية لا يمكن ~~التخلي عنها، وقد يختلف الأسلوب والتعبير المجازي لكن الجوهر واحد؛ فقد تبين أن من بين ~~الأساطير الشائعة عن التليفزيون الأمريكي أنه يعمل بوصفه ديمقراطية ثقافية تستجيب كلية ~~لإرادة أغلبية المشاهدين فيما يتعلق باستمرار برامج معينة واختفاء أخرى، والأدق أن يقال أنه ~~يمثل رغبة واتجاه المعلنين، وأن المصمم الحقيقي للبرامج هو صناع المواد الغذائية والأدوات ~~المنزلية ومستحضرات التجميل والسيارات والأدوية. والواقع أن برامج كثيرة اختفت برغم شعبيتها ~~والإقبال عليها، ولكنها لم تجذب اهتمام المعلنين. وهكذا يظل الجمهور في دوامة من الأحداث ~~والتدفق والاستحواذ، ولا يجد فسحة للتأمل والتفكير والتحليل، ويقدم إليه الوعي جاهزا، ~~ولكنه وعي مبرمج ومعد مسبقا باتجاه واحد مرسوم بدقة. وعندما يجد البعض فرصة للتساؤل والشك ~~فإنهم يتحولون إلى أقلية تفكر عكس التيار، وتخالف المجموع العام، وتسعى لهدم النظام. وقد ~~يضطرون (وهذا ما يحدث غالبا) إلى إخفاء تساؤلاتهم وقناعاتهم، ويتظاهرون بأنهم مثل كل الناس، ~~ويقتلون بالتدريج ملكة التساؤل والنقد. # 257 # وبالعودة إلى بودريار سنجده ينظر إلى الإنسان المعاصر ms198 وكأنه سيزيف المحكوم عليه بالوقوع ~~في دائرة التكرار اللانهائي عديم الجدوى. فكل ما يحيط به وسائط ووسائل تحيل إلى الواقع لا ~~الواقع ذاته حتى أصبح «يعيش في نمط إحالي من الوجود # referential ~~.» لم يعد أحد يعيش في ~~الواقع الحقيقي بل في عالم يشير إلى الواقع الحقيقي فقط. «والحقيقة أن الإنسان المعاصر قد ~~رضي بأن يستعيض بالنسخة عن الأصل وبما يحاكي الواقع عن الواقع الحقيقي.» # 258 # وإذا كان الحال كذلك، فما طبيعة العلاقات الإنسانية في ظل الواقع الفائق؟ ما طبيعة ~~العلاقة التي تربط الأنا بالآخر؟ يتناول بودريار هذا الموضوع في أماكن متفرقة من أعماله، ~~وهو يقوم بالتمييز بين الإنسان المرآة والإنسان الشاشة. # 259 # الإنسان المرآة هو الذي ينعكس في الآخر من خلال التفاعل والتواصل المتبادل، ~~أما الإنسان الشاشة فهو العارض لموضات وتقاليع والكاشف في سلوكه عن ثقافة الاستهلاك، فهو ~~شاشة عرض لهذه الثقافة. شهد القرن العشرون تحول الإنسان من كونه إنسان مرآة إلى إنسان شاشة. ~~والفرق بينهما أن الإنسان قبل عصر الإعلام كان مرآة لأخيه الإنسان، وكي يكون الإنسان مرآة ~~للآخر يجب أن يكون هذا الآخر حاضرا في مواجهة الأنا في علاقة تفاعل متبادل؛ حيث تنعكس أفعال ~~الأنا على الآخر والعكس. أما مع الإنسان الشاشة فتغيب العلاقة التفاعلية المباشرة ويتحول ~~الإنسان نفسه إلى النموذج الأساسي لعصر الإعلام وهو الشاشة؛ حيث يصبح عارضا لموضات أزياء ~~ولأنماط من الحياة أعدها له المجتمع الاستهلاكي سلفا. وهنا تختفي العلاقة المرآوية ~~الانعكاسية التي تتضمن التفاعل بين الأنا والآخر، ولا يبقى إلا ذلك الإنسان العارض والمؤدي ~~لأدوار # role performer # محددة سلفا، لا القائم بممارسة # praxis # أو فعل # action ~~، يقول ~~بودريار: «بطريقة أو بأخرى ليست هناك شاشات ومحطات فقط بالمعنى التقني، لكننا أنفسنا، مستمعي ~~ومشاهدي التليفزيون، نصبح محطات لكل هذه الشبكة من الاتصالات. نحن أنفسنا شاشات. لم يعد ~~المتحاورون كائنات بشرية، ويبدو أن هذا أمر مخز، لكنه كما اللعبة استقرت من شاشة لأخرى. ~~إنه في الغالب حوارات بين المحطات أو الدوائر، أو بين وسائل الإعلام المختلفة. هو بطريقة ما ~~حوار معكوس، وسيط مع نفسه، إنه ms199 هذا التناول المكثف، ذلك النوع من المرجعية الآلية للإعلام ~~الذي يشملنا في شبكته. وفي الوقت الحاضر فإن الاختلاف بين الإنسان والآلة من الصعب جدا تحديده.» # 260 # أحد أعمال بودريار الفوتوغرافية التي تشير إلى التكرار المنتظم للشيء ذاته. # Jean Baudrillard La Bocca, 1998 ~~. # كانت الثقافة الأمريكية بالنسبة لبودريار نموذجا مثاليا متحققا للواقع الفائق. ولهذا السبب ~~خصص بودريار أحد مؤلفاته أمريكا # L’Amérique # لتتبع مظاهر هذا الواقع بغية تحليلها. يذهب ~~بودريار إلى أن حقيقة الولايات المتحدة إنما تتشكل كشاشة عملاقة ... شاشات العرض في كل مكان، ~~وأغلبها في المدينة، أفلام وسيناريوهات رائعة تصور المواقع بطريقة خاصة، خصوصا إذا كانت ~~تمتلك القدرة على جذب السياح، ويتم «إلباسها» صورا خيالية مطلوبة «فالقلاع التاريخية التي ~~تعود إلى العصر الوسيط تقدم إقامة نهاية أسبوع تامة (طعام، أزياء) لكن من دون حرارة الأصل ~~طبعا.» والاشتراك الزائف في هذه العوالم المتعددة له آثار فعلية في الطرائق التي تنتظم بها ~~هذه العوالم. وبحسب المروجين الأمريكيين، فقد بات ممكنا «أن تعيش العالم القديم في يوم ~~واحد وبدون الاضطرار إلى الذهاب إلى هناك.» فالجغرافيا نفسها تحولت إلى مجموعة من الصور ~~تشاهد على شاشات العرض. ونسخ هذه الصور الزائفة في حياتنا اليومية يجلب معا عوالم مختلفة ~~في المكان والزمان. هذه العوالم يتم في الغالب محاكاتها على أرض الواقع بصورة مجزأة ~~ومختزلة، بحيث يصبح الواقع ذاته حشدا من الصور المتراصة التي لا علاقة لها ببعضها. شيء شبيه ~~بتقنية الكولاج # Collage # في فن التصوير المعاصر «تبدو المدينة الأمريكية كأنها خرجت للتو من ~~الأفلام. ولكي تكتشف سرها، لا ينبغي أن تبدأ من المدينة وتتحرك قدما إلى الداخل نحو الشاشة، ~~بل ينبغي أن تبدأ من الشاشة وتتحرك إلى الخارج صوب المدينة. ذلك هو المكان الذي لا تتخذ فيه ~~السينما أي شكل استثنائي، بل تكتفي بأن تخلع على الشوارع والبلدة بأكملها جوا أسطوريا.» # 261 ~~(4-9) الواقع الفائق في المجال السياسي # كان المجال السياسي حاضرا بقوة في تحليلات بودريار من حرب الخليج الأولى إلى أحداث الحادي ~~عشر من سبتمبر. وربما شهرة بودريار الكبرى قد جاءت في أوائل التسعينيات عندما نشر ms200 مقالاته ~~عن حرب الخليج؛ فقد استرعت هذه المقالات انتباه العديد من المثقفين والمفكرين نظرا لغرابة ~~الطرح الذي قدمه. وقد بدت أطروحة بودريار للوهلة الأولى سطحية؛ لذا لاقت استهجانا كبيرا من ~~قبل البعض # 262 # الذين رأوا فيها تسفيها لحدث كان ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد. فبعد حوالي ما ~~يزيد عن عشر سنوات من العمل حول مفهوم المحاكاة والصور الزائفة، وبالتحديد في العام 1995م ~~عنون بودريار أحد مؤلفاته ب «حرب الخليج: لم تقع». # 263 # نشر الكتاب في البداية بصورة مجزأة على شكل مقالات في جريدة ليبراسيون ~~الفرنسية، إبان فترة حرب الخليج الأولى (حرب تحرير الكويت). وهو يتألف من ثلاث مقالات: «حرب ~~الخليج لن تقع»، «حرب الخليج: هل هي واقعة حقا؟» و«حرب الخليج لم تقع». ويتلخص سجال ~~بودريار، في جوهره، في أن منفذنا الوحيد إلى حقيقة الحرب هو الإعلام. والحرب، مثل أي شيء ~~آخر، هي قطعة من الخطاب الإعلامي الذي يخلق لنا باستمرار عالما لا واقعيا. لذا فحملة حرب ~~الخليج كلها لا تعدو كونها تطويرا للعبة من ألعاب الفيديو، فهي سيناريو فوق واقعي. وحتى ~~الذين هم في السلطة من صناع القرار، كانوا يتابعون الحرب من على شاشة ال «سي. إن. إن». ~~فالتغطية الإعلامية والصور التي تنقلها هي التي تصنع الحرب، بل إنها هي الحرب. ذلك أن ~~الانطباعات التي تخلفها لا تؤثر على جماهير المشاهدين وحدهم، بل أيضا على مدبري ~~الحرب. # لقد ذهب بودريار إلى أن الهدف من حرب الخليج لم يكن هدفا سياسيا كما كان الحال مع الحروب ~~السابقة، بل كان هدفا استعراضيا في المقام الأول. تضخيم الحدث بصورة تتجاوز واقعيته حتى ~~يحدث التأثير النفسي المطلوب، «لقد غدا الهدف مكانة الحرب ومستقبلها عوضا عن واقعيتها، إثبات ~~وجودها المفرط وترسيخ هذا الوجود في العقول أكبر وقت ممكن، وفي الواقع فإن تلك المهمة قد ~~افتقدت إلى الكثير من المصداقية.» # 264 # من هنا وفقا لبودريار يظل التساؤل قائما: هل كنا نشاهد الحرب كما هي فعلا على ~~شاشات الأخبار؟ أم كان المشاهدون يشاهدون واقعا افتراضيا للحرب؟ # صورة واحدة ms201 بمدلولات مختلفة ... يتوقف المعنى فقط على طريقة العرض. # ثمة أمثلة عديدة أخرى قدمها بودريار مشابهة في مضمونها للمثال السابق. غير أننا من الممكن ~~أن نوظف مفهوم بودريار للواقع الفائق في تحليل بعض الظواهر داخل مجال السياسي: ~~(1) # اعتادت الولايات المتحدة الأمريكية منذ تولي جورج واشنطن رئاسة البلاد أن يتم تنصيب ~~الرئيس الجديد بمراسم احتفالية، حافظت عليها الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1789م ~~حتى الآن. وتصاحب هذه الاحتفالية مجموعة من الطقوس والبروتوكولات الغرض منها أن يتحول يوم ~~التنصيب إلى يوم عظيم بالفعل في أذهان الشعب الأمريكي حتى لا ينساه التاريخ. والاختلاف الذي ~~طرأ على هذه المراسم، منذ بدايتها حتى الآن، اختلاف يتعلق بمدى تطور الميديا فقط. وهنا يمكن ~~أن نشير إلى ظاهرتين طاغيتين تكشفان عن طبيعة الحياة الأمريكية والمنطق الثقافي الذي يحكمها ~~حاليا. هاتان الظاهرتان هما: طغيان قيم السوق، وطغيان الروح الاستعراضية، بالمعنى الذي يحدده ~~بودريار. فعندما نتأمل المناظرات الانتخابية التي تجري على شاشات التلفاز ويتابعها الشعب ~~الأمريكي والعالم كله تقريبا. أولا، يتبدى الاستعراض على النحو الآتي: يقف المرشحان وسط ~~ديكور تليفزيوني دقيق التصميم، وظيفته الأساسية تحقيق الإبهار الذي يجعل الصورة مركزا يدور ~~حوله كل شيء. ويرتدي أحد المرشحين ربطة عنق حمراء، أما الآخر فيرتدي ربطة زرقاء. ومن خلال ~~متابعة المناظرة نكتشف أن كل مرشح يقوم بدور الممثل الذي يجتهد في توظيف طاقاته الأدائية ~~وملكاته الشخصية حتى يجذب الانتباه. وكلا المرشحين يتصرفان بحسب سيناريو جاهز سلفا، أعده ~~فريق من الباحثين والمفكرين والمخرجين البارعين. وعلى نحو ما يحدث في جوائز الأوسكار، سوف ~~يئول كرسي البيت الأبيض في النهاية إلى أفضل ممثل وأفضل سيناريو وإخراج. # 265 ~~(2) # المثال الثاني هو ما يمكن أن نطلق عليه وهم الديمقراطية عبر عملية الاقتراع، وهو ما ~~يمكن أن نصوغه في التساؤلات الآتية: هل الديمقراطية تتمثل فقط في عملية الاقتراع؟ هل ~~تمثل عملية الاقتراع تجسيدا حقيقيا للديمقراطية؟ أم أن الناخب يجد نفسه في النهاية محصورا ~~بين خيارات، في الغالب خيارين فقط، محدودة للغاية، وينبغي عليه أن يختار من بينها؟ ما يحدث ms202 ~~في الحملات الانتخابية، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، أن بعض الشركات الرأسمالية ~~الكبرى تتبنى مرشحا ما، إما أن يكون من الحزب الجمهوري أو من الحزب الديمقراطي، وفقا لمصالح ~~تلك الشركات مع السياسة الاقتصادية التي يتبناها أي من الحزبين. وتتسابق تلك الشركات في ~~إنفاق المليارات من أجل توجيه الرأي العام لصالح المرشح الذي تتبناه. من هنا يجد الناخب ~~نفسه، في حقيقة الأمر، مدفوعا للاختيار كرد فعل طبيعي للحملات الدعائية الهائلة التي ~~تتبناها تلك الشركات، ولا يكون اختياره، في معظم الأحوال، نابعا عن قناعة حقيقية بالبرامج ~~الانتخابية للمرشحين، الأمر الذي يشكك في الطبيعة الديمقراطية لعملية الانتخاب برمتها، فهي ~~في النهاية لا تعدو كونها تجليا لواقع إعلامي دعائي غير متحقق. ~~(3) # ربما كان التوظيف السياسي لفن السينما أحد أبرز الأمثلة التي تكشف لنا كيف يكون مفهوم ~~الواقع الفائق فاعلا في السينما، وفاعلا أيضا في تشكيل وعي الجمهور وسلوكه في العالم. وقد ~~كانت - ولا تزال - السينما هي الوسيلة الكبرى التي تعتمدها الولايات المتحدة الأمريكية في نشر ~~المشروع الأمريكي حول العالم. إذ تمتلك الولايات المتحدة أكبر كيان سينمائي صناعي على مستوى ~~العالم، هوليوود. فمن خلالها يتم تصدير كل القيم التي من المفترض أن يتلقاها المشاهد في ~~الدول الأخرى على أنها قيم أمريكية أصيلة، مثل: الجسارة والبطولة والسيطرة على العالم ~~والتفرد، وغيرها من القيم التي تكرس جلوس الأمريكي على قمة العالم. على أن السينما ~~الأمريكية لا تكتفي بهذا الدور فقط، بل تقوم أيضا بإنتاج الصور النمطية عن الآخر وتصديرها ~~للعالم بأسره (على سبيل المثال الصورة النمطية للعرب والمسلمين في السينما الأمريكية). # 266 # ويؤدي التنميط إلى خلق صورة زائفة عن أشخاص أو مجتمعات بعينها، وبمرور الوقت ~~تترسخ تلك الصورة في المخيلة الجمعية، بل والأكثر من ذلك أنها تترسخ في ذهن الآخر الذي ~~تنمطه، بحيث تغدو رؤيته لنفسه انعكاسا لتلك الصورة النمطية، التي يحاول طوال الوقت الخروج ~~منها، حتى لو كان ذلك عبر تخليه عن ثوابته وهويته. # 267 ~~(4) # مع العاصفة الأخيرة لتسريبات «ويكيليكس»، وقع المشهد العالمي في قبضة الواقع الفائق ~~للأزمنة ms203 المعاصرة؛ فقد كشفت وثائق الويكليكس عن عالم آخر غير العالم الذي نعيش فيه ونتعامل ~~مع ظواهره بوصفها ظواهر حقيقية. وبالتالي لم يعد الواقع الذي نعيشه فعليا سوى مزيج من ~~افتراضية الإنترنت (نموذجها تسريبات ويكيليكس) والواقع المادي الملموس في عوالم السياسة ~~والاقتصاد والاستراتيجية والأمن والتسلح والدبلوماسية والقوانين، بل حتى الثقافة والأخلاق. ~~صار الواقع مزيجا قويا وغير مسبوق تاريخيا، من افتراضية الكومبيوتر والشبكات الرقمية ~~والفضاء الإلكتروني للإنترنت، وبين الحياة الملموسة المعيشة. إنه مشهد غير مألوف، يظهر منحى ~~معاصر وما بعد حداثي بامتياز في المجتمعات المعاصرة، وذلك أشد الأمثلة قوة على مفهوم الواقع ~~الفائق. الأرجح أن تظل هذه السابقة في الأذهان طويلا، وأن تنال تحليلات كثيرة ومتشعبة. ~~لقد أضيف بعد آخر الى العيش، امتدت حدوده وصارت تصل إلى خارجه وتلامس مساحة غير مادية ولا ~~ملموسة ولا تقاس بحواس البشر ولا بمدركاتهم المجردة. ثمة شيء آخر (هو الافتراضي) تداخل ~~مع كل ما يحيط به كلمات، مثل: حياة، عيش، عالم، وجود، وواقع. وكذلك لم يبق الافتراضي حبيسا ~~في فضاء الإنترنت والشبكات والأجهزة والشاشات؛ إذ تلاعبت حدوده طويلا مع الواقع الفعلي. ~~لقد انتهت اللعبة. خرج الافتراضي نهائيا من ذلك الفضاء الذي يفكر به كثيرون وكأنه عالم ~~منفصل تصنعه التقنية الرقمية. خرج الافتراضي نهائيا كي يتداخل وينحل ويذوب ويتماهى مع ~~الواقع الفعلي، ما بدل هوية هذا الأخير أيضا. وصار هذا المزيج المتداخل والمتلابس، هو ~~الواقع الفائق الذي تعيشه المجتمعات المعاصرة حاضرا. ~~(5) # إذا أخذنا الواقع المصري وتطوراته المتلاحقة منذ الخامس والعشرين من يناير نموذجا للدور ~~الذي تلعبه الصورة في تطور الأحداث على أرض الواقع، لوجدنا أن الصورة كانت فاعلة بصورة ~~رئيسة في تطور الأحداث، بل في وقوعها أيضا. فالثورة المصرية تستحق أن يطلق عليها وصف «الثورة ~~البصرية» بامتياز، ليس فقط لكون أحداثها نقلت على الهواء مباشرة من ميدان التحرير، ومختلف ~~ميادين مصر، ولكن لأن التحريض عليها جاء بصريا بالدرجة الأولى عبر آلاف الفيديوهات التي تم ~~رفعها على المواقع الاجتماعية خلال الأعوام السابقة عليها. وتنوعت تلك الفيديوهات بين تعذيب ms204 ~~الشرطة للمواطنين وبين فقرات وحلقات كاملة من برامج «التوك شو» التي حاولت مناقشة قضايا ~~تزوير الانتخابات وغيرها. هي ببساطة ثورة إلكترونية، قامت في الواقع الفائق أولا فأسقطت رأس ~~النظام بصورة افتراضية، ومن ثم تم الاتفاق على موعدها في 25 يناير 2011م بقلب ميدان التحرير ~~ومختلف ميادين مصر لتسقطه واقعيا. # وفي حقيقة الأمر كانت الصورة حاضرة وفاعلة بقوة طوال الوقت في الأحداث السياسية الهامة ~~داخل مصر بعد ثورة يناير. وقد كان التلفاز عبر برامجه المختلفة يقوم بدور اللاعب السياسي ~~الأهم والمحرك الأكبر لمعظم الأحداث. وربما كانت أحداث الثلاثين من يونيو مثالا بارزا على ~~الدور الذي مارسته الصورة في صنع الحدث: في يوم الثلاثين من يونيو كتبت مصر فصلا مثيرا في ~~حوليات الواقع الفائق، وقدمت دليلا ناصعا على أن الصورة لم تعد تشكل الإدراك فحسب، وإنما ~~صارت تصنع التاريخ أيضا. ما حدث في الثلاثين من يونيو والتداعيات التي ترتبت عليه قدم دليلا ~~جديدا على قوة وسائل الإعلام وسطوتها؛ إذ حين خرجت الحشود في ذلك اليوم ملبية نداء حركة ~~«تمرد» الذي اصطفت حوله المعارضة، وتولت تسويقه القنوات الفضائية طوال الأسابيع التي سبقت ~~ذلك التاريخ، فإن الكاميرات تابعت الحشود وحرصت على تصوير مسيراتها، تحت الاستعانة بطائرات ~~القوات المسلحة لالتقاط الصور من الجو. وتعددت الروايات التي قدرت أعداد الخارجين بنحو 14 ~~مليونا مرة، و20 مليونا مرة ثانية. وبلغ الرقم مع البعض إلى أكثر من ثلاثين مليونا. وهذه ~~التقديرات المستندة إلى كثافة الحشود سوغت لكثيرين أن يقولوا إن مصر كلها خرجت مطالبة برحيل ~~الدكتور محمد مرسي. تحدثت بعض التقارير الصحفية عن أن ما شهدته مصر يومئذ كان الاحتجاجات ~~الأكبر في تاريخ البشرية. وحين دخلت القوات المسلحة على الخط فإن البيان الذي أصدرته اتكأ ~~على هذه الخلفية، وقال «إن شعب مصر نادى بصوته الجهوري وملايينه التي خرجت إلى الشوارع، وإن ~~كل ما فعلته تلك القوات أنها لبت النداء؛ حيث ما كان للجيش أن يخذل الشعب.» وعندما تعالت ~~بعض الأصوات في الداخل والخارج أن تدخل الجيش في إزاحة الرئيس المنتخب ms205 هو بمثابة انقلاب ~~عسكري، كانت الحجة المضادة للرد على هذا التشكيك تتمثل في كم الحشود التي نزلت في ذلك ~~اليوم، كم الحشود التي التقطتها الصور الثابتة والمتحركة. وإذا ما تأملنا في تداعيات هذا ~~الواقع ونتائجه القريبة والبعيدة لأدركنا الدور الذي باتت تمارسه الصورة في الوقت الراهن. ~~وقد استمر الدور الذي تمارسه الصورة حاضرا وفاعلا بصورة كبيرة داخل المشهد. ففي الخطاب الذي ~~أطلق عليه إعلاميا «خطاب التفويض» وهو الذي طلب فيه وزير الدفاع المصري آنذاك من الشعب ~~الاحتشاد في ميدان التحرير من أجل منحه تفويضا للقضاء على الإرهاب «المحتمل»، كان الهدف ~~تصوير الحشود كيما يتم اتخاذ القرار، ومن ثم تبريره بعد ذلك (الصورة سبقت الحدث ومنحته ~~المشروعية). وقد صرح وزير الدفاع آنذاك في أحد الحوارات التي أجريت معه أنه كان في غاية ~~القلق من أن يكون الحشد المصور غير كاف لاتخاذ القرار. وقد تكرر ذلك الأمر في أحداث كثيرة ~~لاحقة على نحو يمكن وصفه بأنه محاولة لاكتساب المشروعية من خلال الصورة. ~~(4-10) الواقع الفائق ومجتمع الاستهلاك # كان موضوع الاستهلاك من الموضوعات التي لاقت اهتماما كبيرا لدى بودريار منذ مؤلفاته ~~المبكرة. وقد خصص بودريار مؤلفه الأول نظام الأشياء # Le Système des objets ~~(1968م) لمناقشته، ~~ثم ظل حاضرا في مؤلفاته اللاحقة: مجتمع الاستهلاك # La Société de Consommation ~~(1970م)، نحو ~~نقد الاقتصاد السياسي للرمز Pour une Critique de l’économie Politique du Signe ~~(1972م)، ~~مرآة الإنتاج # Le Miroir de la Production ~~(1973م)، التبادل الرمزي والموت # L’Échange ~~symbolique et la mort ~~(1976م)، في الإغواء # De la seduction ~~(1979م)، ~~وأخيرا في كتابه التبادل ~~المستحيل # L’Échange impossible ~~(1999م). على أن ما يهمنا في سياقنا هذا علاقة مفهوم ~~الاستهلاك بمفهومي الصورة والواقع الفائق، وهو ما سينصب عليه تحليلنا. # يبدأ بودريار كتابه «نظام الأشياء» # 268 # بتقديم وصف لمنزل برجوازي نموذجي، بأثاثه، ولا سيما المرايا والخشب والإنارة، ~~و... إلخ. ليصل في النهاية إلى أن المجتمع سيطرت عليه أسطورة الاستهلاك المفرط إلى حد ~~اقتناء ما ليست هناك حاجة إليه. وفي القسم الثاني من الكتاب يحلل بودريار «النظام ~~الاجتماعي-الأيديولوجي للاستهلاك وموضوعاته»، وهو يرى أن «مواضيع الاستهلاك صارت اليوم أكثر ~~تعقيدا من سلوك الناس المتعلق بها.» # 269 # فقيمة الأشياء لم تعد تتوقف فقط على منفعتها، بل دخلت ms206 متغيرات أخرى إلى معادلة ~~استهلاك الأشياء، وأصبحت هي المتحكم الفعلي في فعل الشراء؛ فالسيارة التي يرغب الجميع في ~~اقتنائها هي السيارة الأفخم والأجمل والأقوى، ولم يعد الأمر متوقفا فقط على الوظيفة ~~التقليدية للسيارة المتمثلة في كونها وسيلة انتقال «لقد تغيرت طبيعة الأشياء، بحيث صار ~~اقتناؤها منزوعا من غائيته الأصلية ليدخل في مدار آخر مختلف، وقد انعكس ذلك على مضمون ~~السلعة ذاتها وعلى سلوك المستهلك.» # 270 # لطالما استخدمت الصور للترويج للمنتجات الاستهلاكية بوصفها أداة جذب تنقل المنتج من مدار ~~الواقع إلى مدار الإغواء. وقد أكد رولان بارت في سياق تحليله لنسق الأزياء على هذا المعنى ~~«فكيما يتم تعطيل القدرة الحسابية للمشتري يجب أن يقام حجاب حول السلعة - حجاب من الصور. ~~ويجب أن تخلق محاكاة زائفة للموضوع الحقيقي ، مستبدلة زمنا سريعا من الموضات المتغيرة بالزمن ~~البطيء (الذي تستهلك فيه الملابس).» # 271 # إن فعل الشراء يرتبط ارتباطا شرطيا بصورة المنتج، وطريقة عرضه والطريقة التي تتم الدعاية ~~له بها. فالصورة تختصر المسافة الوقتية بين فعلي الإنتاج والاستهلاك، وفي الغالب يتوقف نجاح ~~فعل الشراء على قدرة الصورة وبراعتها في جذب المستهلك للمنتج. لقد أصبحت الصورة هي الوسيط ~~بين السلعة والمستهلك، كما أصبحت القدرة على تقديم السلعة في صورة من بين مقومات الاقتصاد ~~الاستهلاكي. فالسلعة القوية التي تنتجها شركة كبيرة هي القادرة على الإعلان عن نفسها، ~~القادرة على أن تظهر في صورة. # ويحلل بودريار دور الصورة في مجتمع الاستهلاك بتناوله لفاترينة المحل. ففاترينة العرض ~~تكشف عن وظيفة أكثر عمقا من مجرد كونها وسيلة لعرض السلع، فهي في ظاهرها تعبير عن الشفافية ~~التي يدعيها المجتمع الرأسمالي عن نفسه، فما هو موجود معروض. لقد أصبح ظهور الشيء أمام ~~المشاهد دليلا على وجوده، فأن ترى هو أن تؤمن # seeing is believing ~~. هذا بالإضافة إلى أن ~~الفاترينة تعبر عن وضع سوسيولوجي من نوع خاص؛ إذ تحتل مكانا وسطا، فلا هي في داخل المحل ولا ~~هي خارجه، لا هي منتمية إلى المجال الخاص للمحل ولا إلى المجال العام للمحيط الخارجي، إنها ~~ذلك الوسط الذي يلتقي فيه ms207 العام والخاص. ويعيد بودريار تفعيل مقولة ماكلوهان # MacLohan # الشهيرة من أن الوسيط أصبح هو الرسالة، فيذهب إلى أن الفاترينة ليست مجرد وسيط بين السلعة ~~والمستهلك، بل هي بمثابة قطب مغناطيسي يعمل على تجميع الرغبات المتناثرة واستقطابها وصبها في ~~منطق مجتمعه الاستهلاك، بالإضافة إلى أنها تخلق الرغبات منذ البداية حتى قبل أن تستقطبها. # 272 # وهذا ما دفع البعض كفريدرك جيمسون # F. Jamson # للحديث عما أطلق عليه «سحر ~~المول» # Charm of Mall ~~، ويعرفه بأنه حالة الجذب - الشبيهة بالجذب الصوفي - التي تصيب الإنسان ~~ما إن تطأ قدمه أرض المول أو المركز التجاري، فيتخلى عن ذاتيته الخاصة، ليصبح ذاتا موزعة ~~على فاترينات العرض المحيطة به، ذاتا مستلبة ومستقطبة من قبل المنتجات المعروضة. # 273 # كما يحلل بودريار ما أطلق عليه ميتافيزيقا المظهر الخارجي للأزياء والموضة، على أساس أنه ~~شكل من أشكال الإغواء المعتمدة على فن الإعلان، بما هو نموذج لحظي وعابر ليس له عمق، بل هو ~~يعتمد في المقام الأول على تفوق الأشكال السطحية المهيمنة على كافة أشكال الدلالة، وبالتالي ~~يصبح بمثابة «الشكل المعاصر الذي يمتص أو يستدمج بداخله كل أشكال التعبير». بمعنى أن ~~اللافتة الإعلانية التي تتموضع في مرمى بصر المشتري، وإن كانت لا تمتلك صفة الفن الخالد، أو ~~القابل للخلود، إلا أنها تحقق رسالتها الفنية كمعادل لليومي والهامشي والعرضي، كما يتبين ~~حتى في الإعلانات التي تحمل مواد إلكترونية وتلفازية تومض باستمرار كدلالة على حدوث الحياة ~~وراهنية اللحظة أو فوريتها. # 274 # ومن الطبيعي والحال هكذا أن تصبح الرغبة هي المتحكمة في فعل الشراء، رغبة الامتلاك ~~والتميز التي تتجسد في فعل الشراء، وأن يتحول العقل إلى أداة للتبرير والتماس الحجج لتحقيق ~~الرغبة، فيبدأ العقل في تقديم المسوغات التي تبرر فعل الشراء (وفي الغالب لا يكون المشتري ~~في حاجة فعلية للمنتج)، ما يضفي على الرغبة سمتا عقلانيا بارزا، لكنه في الواقع غير حقيقي، ~~فالرغبة هي الأساس في فعل الشراء لا العقل. # كان نقد بودريار وتحليله لمجتمع الاستهلاك في جانب كبير منه امتدادا وتوظيفا لبعض ~~المفاهيم الماركسية. وقد كان مفهوم الفيتيشية (أو الصنمية) السلعية # Commodity Fetishism # من ~~بين ms208 تلك المفاهيم التي استثمرها بودريار في تحليله. تتضح الطبيعة الصنمية للصورة لدى ~~بودريار من تحليله للأصول الاشتقاقية لكلمة صنم # fetish ~~؛ فالأصل اللاتيني لها # facio # يعني ~~شيئا مصنوعا أو مصطنعا # fabricated ~~، وتعني محاكاة ما هو طبيعي بما هو صناعي، كما تعني ~~مشتقاتها في الإسبانية والبرتغالية التزيين والتجميل. وانتقل المصطلح إلى الدراسات ~~الأنثربولوجية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واستخدم لوصف عبادة القبائل البدائية ~~للأصنام والأشياء التي يتخذونها كرموز لقوى الطبيعة، وأصبح المصطلح يعني في هذه الدراسات ~~اتخاذ الفرع كبديل عن الأصل. # 275 # أما ماركس # Marx # فقد استخدم الفيتيشية السلعية في مؤلفه رأس المال # Capital # ليشير ~~به إلى «الأشياء التي تمتلك حياة خاصة بها وتتحكم في حيوات صانعيها.» # 276 # بحيث تتحول بمرور الوقت إلى «أوثان» يعبدها الإنسان، ويغدو بمرور الوقت غير ~~مدرك أنه هو الذي أنتجها. وبالتالي تكتسب السلعة قيمة أكبر من قيمة من قام بإنتاجها، إنها ~~قيمة افتراضية غير واقعية، وبتعبير بودريار قيمة فائقة. # ويذهب بودريار إلى أن صنمية الصورة طغت على صنمية السلع، ذلك لأن الصور أصبحت هي وسيلتنا ~~في معرفة السلع ذاتها «إذ لم يعد هناك اتصال مباشر بيننا وبين العالم أو بيننا وبين أنفسنا؛ ~~وكون كل أنواع الاتصال تحدث عن طريق الصور يعني أن الوسيط طغى على أطراف الاتصال، وطغيان ~~الوسيط أو الدال على المدلول هو الصنمية بعينها.» # 277 # وفي كتابه الإغواء # 278 # يناقش بودريار مجتمع الاستهلاك من خلال ثلاثة محددات رئيسة؛ أولا: ما أفرزه هذا ~~الأخير من أنشطة استهلاكية متزايدة تسهم أيضا في زيادة أوقات الفراغ وفي التلاعب ~~الأيديولوجي بوعي الناس عبر إغوائهم، وذلك على حساب تطوير العلاقات الاجتماعية. ثانيا: ~~تكريس المجتمع الاستهلاكي للتمايزات الاجتماعية، بحيث يصبح نمط الاستهلاك أو أساليب الحياة ~~المرتبطة به معيارا لتصنيف الناس. ثالثا: المتع الانفعالية الناجمة عن الاستهلاك. # ربما استطاع عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي بيير بورديو أن يؤكد على هذا المعنى في ~~كتابه «الرمز والسلطة» من خلال ما أطلق عليه الرأسمال الرمزي # symbolic capital ~~، وربما يحتاج ~~هذا إلى بعض التوضيح خاصة أنه على علاقة وثيقة بفكرة بودريار السابقة عن القوة المضاعفة. ~~يفرق بورديو ms209 في تقسيمه للطبقات بين نوعين من الخصائص: فمن جهة هناك الخصائص المادية، وهي، ~~ابتداء من الجسم، قابلة للإحصاء الكمي والحصر والقياس، شأن أي موضوع من موضوعات الطبيعة. ثم ~~هناك من جهة أخرى، الخصائص الرمزية التي تنتج عن علاقتهم مع ذوات قادرة على إدراكهم وتقدير ~~قيمتهم تتطلب هي كذلك أن ينظر إليها من خلال منطقها الخاص. ولتوضيح هذا الفرق بين مستويي ~~التصنيف يستدعي بورديو نصا للمؤرخ الفرنسي جورج دوبي # Georges Duby ~~(1919-1996م) يقول فيه: «أن ~~تكون نبيلا معناه أن تفرط في الإنفاق، وأن تكون مرغما على التظاهر، وأن يكون محكوما عليك ~~بالرفه والبذخ، بل إني أذهب إلى التأكيد بأن هذا الميل إلى البذخ احتد عند بداية القرن ~~الثالث عشر، وجاء كرد على الارتقاء الاجتماعي للأثرياء الجدد. فالتميز عند الفلاحين كان ~~يقتضي التفوق عليهم طبقيا، وذلك بالتظاهر بالتفوق عليهم في الكرم والسخاء. هذا ما يبرزه أدب ~~العصر. فما الذي يميز الفارس الأصيل عن حديث العهد بالنعمة؟ ذلك أن الثاني بخيل، أما الأول ~~فهو نبيل لأنه يصرف كل ما لديه حتى لو كان مثقلا بالديون.» # 279 # إذا ليس المعيار هنا وفقا لبورديو ما يملكه الفرد، بل ما ينفقه على مظهره، وهو ~~يكتسب مكانته وحظوته في المجتمع بالقدر الذي يبدو عليه هذا المظهر. # وإذا عدنا إلى بودريار وإعادة توظيفه لمفهوم العلامة عند دي سوسير، لوجدنا أنه في كتابه ~~«التبادل المستحيل» # 280 # يقدم تنويعا ماركسيا على هذا المفهوم، فيذهب إلى أن العلامة الاستهلاكية تحررت من ~~مدلولها وتحولت إلى علامة دالة على المكانة الاجتماعية للفرد في المجتمع. من هنا فإن مفهوم ~~الاستهلاك نفسه قد تغير من استهلاك المنتج المادي إلى استهلاك العلامة التي تشير إلى ~~المنتج. وبمعنى آخر يرى بودريار أن المجتمع الاستهلاكي يهتم بالوظيفة التضمينية للأشياء أو ~~السلع أكثر من وظائفها الدلالية المباشرة؛ فالمنتج الاستهلاكي (جهاز التبريد أو الهاتف ~~النقال أو السيارة أو الساعة) يكتسب قيمته الآن من الشعار أو الرمز الذي يحمله، بصرف النظر ~~عن جودته أو القيمة الحقيقية له. وامتلاك هذا الشعار أو الرمز أصبح هدفا في ms210 حد ذاته بالنسبة ~~لمجتمع الاستهلاك؛ فهو دال على المكانة الاجتماعية والطبقية للمستهلك. # 281 # لقد كانت الرموز الدالة على الثروة، والمكانة، والشهرة والسلطة، وكذلك الطبقة، على ~~الدوام، مهمة في المجتمع البرجوازي، إلا أنها لم تكن يوما باتساع وأهمية ما هي عليه اليوم. ~~ومع توفر إمكانية إنتاج الصور كما السلع بحسب ما نريد تقريبا، غدا أكثر يسرا للتراكم ~~الرأسمالي أن يتطور جزئيا، على الأقل، على قاعدة إنتاج الصور وتسويقها. وعليه فعالم الصور ~~هذا يمكن تفسيره، جزئيا، باعتباره صراعا من طرف الجماعات المقهورة من كل نوع لتأسيس هويات ~~خاصة بها، ثم الاندفاع الرأسمالي بعد ذلك للإفادة من ذلك عبر تسويقه تجاريا. كان المطلوب أن ~~يكون الأمر كما لو أننا نعيش في عالم من الصور المبتكرة المتغيرة باستمرار. وكان طبيعيا أن ~~يكون الوقع السيكولوجي لذلك طاغيا، وأن يوضع موضع التنفيذ في قوة مضاعفة. ~~(4-11) رؤية بودريار بين النقد والعدمية # سبق لنا القول في بداية حديثنا عن بودريار أن فرضية بودريار تعتمد على تصورين رئيسين ~~يتمثلان في ضياع مفهوم الحقيقة، وضعف قدرة الإنسان المعاصر على التحليل النقدي لما يعرض ~~عليه. والواقع أن أطروحة بودريار، فضلا عن هذين التصورين، قد أثارت جدلا عنيفا على مستويات ~~عدة؛ فالبعض قد رأى في أطروحته ترسيخا لعدمية الرؤية ما بعد الحداثية للواقع. # 282 # والبعض الآخر رآها خالية من العمق ومفتقدة للمنهج. # 283 # وفي المقابل لاقت أطروحته ترحيبا كبيرا في الأوساط الأمريكية. # 284 # فوصفها ريتشارد لأن «بأن تأثيرها كان طاغيا على العديد من الحقول المعرفية الأخرى.» # 285 # كما قال مورلي وروبنز في كتابهما المشترك فضاءات الهوية # Spaces of Identity ~~(1995م): «إننا نأخذ كل ما قاله بودريار على محمل الجد، فقد ساعدنا كثيرا في فهم طبيعة مرحلة ~~ما بعد الفوردية # post-Fordism ~~.» # 286 # ورغم تعدد الآراء حول أطروحته، إلا أن بودريار، في واقع الأمر، كان يعرف حدود ما يقوم به؛ ~~لذا لم يدع أبدا أنه يقدم عملا نقديا للحضارة الغربية. فهو، مثله في ذلك مثل معظم فلاسفة ~~ما بعد الحداثة، يرى أن النقد شيء ينتمي إلى الماضي النخبوي؛ حيث كان المفكر ينظر إلى ذاته ms211 ~~على أنها أكثر تميزا وقدرة على الفهم من الآخرين. إضافة إلى أن الواقع بتشابكاته وفوضاه ~~يستعصي على أي رؤية نقدية تدعي امتلاكه، وقد قال بودريار في أحد الحوارات التي أجريت معه: ~~«أن تكون جذريا في قلبك للأشياء معناه أن تضع النتيجة مكان السبب؛ أي أن تقلب الوضع الطبيعي ~~للأشياء. أن تكون عدميا - شكيا معناه أن تبرز غياب السببية لصالح فوضى العلاقات والترابطات، ~~وهذا هو تصوري للفكر الجذري الذي ليس بالعقلاني ولا بالنقدي: إنه فكر خلخلة النقد ~~والامتلاء. هل أنا فعلا عدمي - شكي؟ أعتقد أن الأمر يتعلق برغبة وبحلم إلى حد ما ... باستراتيجية ~~منظمة لقلب الأشياء وتمديد المتواليات إلى ما لا نهاية، إلى حين حصول الكارثة؛ على الأقل ~~الافتراضية منها.» # 287 # إن تسليم بودريار بموت الواقع، وبالتالي الغياب الكامل للحقيقة، يحمل بداخله الفرق الرئيس ~~بين مجتمع المشهد ومجتمع الواقع الفائق، «ما يميز المجتمع المشهدي عن فوق الواقع، برأي ~~بودريار، هو أن الأول قد ينطوي في داخله على إمكان النظرة النقدية. ففي المجتمع المشهدي ~~هناك وعي لوجوده، وبالتالي وجود مسافة بين هذا المجتمع والواقع. في حين أن ما يميز فوق-الواقع، وهو المخيف أيضا، استحالة النظرة النقدية، وبالتالي استحالة وجود مسافة بين المشاهد ~~وما يشاهده.» # 288 # وقد كان بودريار مدركا جيدا لهذا الفرق؛ فهو قد قرأ أعمال جي ديبور النقدية، ~~وأشهرها مجتمع الاستعراض، وقد أوضح ذلك الفرق بقوله: «إن آخر التحليلات وأكثرها راديكالية ~~لهذه الإشكالية أنجزها جي ديبور # Guy Debord # و # Situationists # المدرسة الظرفية، بتصورهم عن ~~«المشهد والاغتراب المشهدي». وبالنسبة لديبور فإنه لا تزال هناك فرصة للاغتراب، فرصة للذات ~~في أن تستعيد استقلالها أو سموها. لكن الآن انتهى هذا النقد الراديكالي ولم يعد له مبرر للوجود.» # 289 # في الواقع يمكن النظر إلى أطروحة بودريار بوصفها صرخة مدوية في عالم تسيطر عليه المحاكاة ~~غير ذات الأصل والصور الزائفة، لكنها صرخة لا نقدية إن صح التعبير؛ أي أنها تخلو من كل طابع ~~نقدي، فبودريار لا يقدم أي وسيلة يمكن من خلالها التغلب على هذا العالم الزائف الذي يفترض ~~وجوده، لا ms212 يوجد حل أو مهرب، وكل محاولة ستفضي إلى الفشل «لا شيء بمقدوره إصلاح هذه ~~الوضعية ... وليس هناك خطأ أفدح من النظر إلى الواقع بوصفه واقعي # 290 # الفكر الجذري.» وكما يقول آلن هاو عن بودريار: «ما يقدمه بودريار بطرائق شتى هو ~~أشبه ما يكون بحكاية هي هكذا؛ فليس ثمة إمكانية خفية، ولا ذات غير مغتربة بطبيعتها تقبع خلف ~~المظاهر وتحاول أن تخرج إلى العلن. فالعالم ما بعد الحديث هو عالم «بلا عمق»، وذلك هو حال ~~الأشياء لا أكثر ولا أقل. وهو يصف العالم دون أن يشير ما الذي يجعله كذلك، أو ما يفترض أن ~~تكون عليه الذات من أجل مواجهة ذلك.» # 291 # والواقع أن بودريار نفسه لم يقدم نظريته بوصفها مناهضة للخطاب البصري المهيمن، ~~كما أنه لم يدع كونه ناقدا ، بل هو يقول عن نفسه: «لا أعتبر نفسي فيلسوفا، كما أنني لا أقدم ~~خطابا ناقدا.» # 292 # يدعي بودريار أننا لسنا في حاجة إلى فكر يقوض الواقع أو حتى ينقده، بل هو يرى أن مهمته ~~تتعارض تماما مع هذا التوجه: «مهمتنا واضحة: لا بد أن نجعل هذا العالم أكثر لا عقلانية، بل ~~أكثر غموضا.» # 293 # إننا لسنا في حاجة إلى تأسيس حلول جديدة لأزمة الواقع ومأزق المعنى؛ فالواقع قد ~~انتهى بالفعل وتحلل ومارس على ذاته تدميرا استراتيجيا لا رجعة فيه، وأي محاولة لاستعادته ~~مقضي عليها بالفشل. وتصبح مهمة الفكر فقط متمثلة في تتبع الكيفية التي من خلالها دخل الواقع ~~مرحلة الانهيار والتحلل الذاتي، والكشف عن مسارات هذا التحلل وأشكال الانهيار. وربما كان ~~السؤال الذي لم يتوقف عنده بودريار هنا، رغم محوريته، يتمثل في موقع تلك الذات التي من ~~المفترض أن تقوم بعملية الكشف عن تحلل هذا الواقع، هل هي جزء من هذا التحلل أم لا بد أن تخلق ~~لنفسها واقعا جديدا يعلو على الواقع الذي يصفه بودريار بأنه ذهب بلا رجعة؟ في أي فضاء توجد ~~تلك الذات القادرة على الكشف والتحليل؟ لم تثر نصوص بودريار أي أسئلة من هذا القبيل، كما لا ~~تقدم لنا تفسيرا لموقع ms213 الذات في تلك العملية، وإنما انخرطت في فضاء من العدمية والتسليم ~~المطلق باللاجدوى. وإذا كان بودريار قد رأى أن مسار الإنسان في هذا العالم يماثل المسار ~~العبثي لسيزيف، كما عبر عنه ألبير كامو # Albert Camus ~~، فإن هذا المسار في حقيقة الأمر هو ~~ذاته الذي يحكم رؤية بودريار في تحليله للواقع. # إننا إذا قارنا بين تحليل بودريار لموقع الذات في عملية التواصل، وبين التحليل الذي قدمه ~~فلاسفة النظرية النقدية، لأدركنا على الفور الفارق بين الرؤية الوصفية المحايدة التي تميز ~~ثقافة ما بعد الحداثة ومفكريها، وبين الرؤية النقدية التي ما زالت تراهن على تماسك الذات ~~الإنسانية وقدرتها على المقاومة. إن السبب الرئيس في غياب روح النقد عن تحليل بودريار ~~للصورة هو سيطرة فكرة «موت الذات»، وهي الفكرة التي يعتبرها ما بعد الحداثيين تبصرا أساسيا، ~~وهو في ذات الوقت ما انتقدته النظرية النقدية بقوة. فنقد مركزية الذات ينبغي ألا يفضي في ~~النهاية إلى القول بموت الذات، وعدم قدرتها على تكوين المعنى، ووقوعها أثيرة للفصامات ~~والأوهام النفسية. فعند بودريار تغدو الذات برمتها نتاجا لنظام من التدليل، وليست حاجاتها ~~سوى نتاج للنظام ذاته الذي أنتجها. وهكذا لا يعود مهما مدى فقرك أو غناك؛ ففي النظام متسع ~~لك ولحاجاتك. ولدى وسائل الإعلام مئونة لا تنفد من الصور «تلائم» أنماط المستهلكين جميعا. ~~وعلى سبيل المثال يقدم بودريار في كتابه «أمريكا» وصفا باردا لرحلاته في الولايات المتحدة ~~فيقول: «الصحراء التي تعبرها مثل منظر في فيلم من أفلام الويسترن، والمدينة شاشة من الدوال ~~والصيغ ... تبدو المدينة الأمريكية كأنها خرجت للتو من الأفلام. ولكي تلتقط سرها، لا ينبغي ~~أن تبدأ من المدينة وتتحرك قدما إلى الداخل نحو الشاشة، بل ينبغي أن تبدأ من الشاشة وتتحرك ~~إلى الخارج صوب المدينة. ذلك هو المكان الذي لا تتخذ فيه السينما أي شكل استثنائي، بل تكتفي ~~بأن تخلع على الشوارع والبلدة بأكملها جوا أسطوريا. ذلك هو المكان الذي تكون فيه خلابة ~~آسرة. وهذا هو السبب في أن عبادة نجوم السينما ليست بالظاهرة الثانوية، بل الشكل الأرفع ms214 ~~للسينما. وتجليها الأسطوري، آخر الأساطير العظيمة في الحداثة.» # 294 # إن هذا الوصف المحايد، الذي لا يخلو من نبرة إعجاب، هو مثال جيد على كيفية ~~صياغة المشكلة، والتعبير عن المأزق دون أي محاولة لتقديم حلول من أي نوع. # ثمة مسألة أخرى لم تجد، على أهميتها، أي اهتمام يذكر لدى بودريار، بل ربما كانت نصوصه، في ~~سياقات أخرى، تعارضها بصورة كبيرة، ويمكن صياغة هذه المسألة في السؤال الآتي: هل ثمة ~~أيديولوجيا ما تتحكم في وسائل الإعلام، أم أن وسائل الإعلام أصبحت مكتفية بذاتها وتعمل بصورة ~~مستقلة؟ في الواقع تنحو نصوص بودريار إلى الافتراض الثاني المتمثل في استقلال وسائل ~~الإعلام وتشكيلها لفضائها الخاص (بمعنى أدق أصبحت ذاتية الفعل)، كما أن نصوصه الأخرى تفترض ~~ما يفترضه معظم مفكري ما بعد الحداثة من موت للأيديولوجيا في ظل النظام العالمي الجديد. # 295 # | ملحق ختامي # ترجمة لمقال إيهاب حسن: سؤال ما بعد الحداثة ~~(1) سؤال ما بعد الحداثة # 1 # إنها مسألة متعددة الجوانب، ولعل هذه الأسئلة تلقي بعضا من الضوء عليها: هل ثمة ظاهرة ~~جديدة في الثقافة المعاصرة عموما، وفي الأدب المعاصر بشكل خاص، تستدعي أن نطلق عليها ~~اسما جديدا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يفيدنا هنا اسم مبدئي من قبيل «ما بعد الحداثة» Post Modernism ~~؟ وكيف يمكن لهذه الظاهرة، ~~دعونا نتوافق على تسميتها الآن بما بعد الحداثة، أن تتواصل مع مفاهيم أخرى، مثل ~~الحداثة أو الطليعة # avant-garde ~~؟ وهل ثمة إشكاليات ~~نظرية وتاريخية تخفيها تلك الظاهرة؟ # لقد جاءت معظم الاجتهادات التي سعت لتعريف ما بعد الحداثة مضطربة؛ وتبدو في أحسن الأحوال ~~نوعا من التكرار الذي لا يفيد، فتخبرنا بما نحن متأكدون من معرفته بالفعل. إذا، ما الذي ~~سنجنيه من هذا المسار الاستفهامي ~~الذي بدأناه؟ إذا لم يكن ثمة ما نجنيه سوى إلقاء بعض الضوء ~~على هذا الالتباس المعقد فربما يسهم ذلك في فهم بعض من جوانب اللحظة الثقافية التي نمر بها ~~الآن. # دعونا نبدأ إذا. ~~(1-1) تاريخ المصطلح # لست متأكدا أين ومتى كانت المرة الأولى التي تم فيها استحداث هذا المصطلح، خاصة إذا ~~سلمنا أن ms215 المصطلحات تتوالد تاريخيا عن بعضها البعض. ولكن فيما يأتي محاولة لعرض جل ما نعرفه ~~عنه: # استخدم فيديريكو دي أونيس # Federico De Onis # كلمة # postmodernismo # في كتابه مختارات من ~~الشعر الإسباني والإسباني الأمريكي # Antologia de la poesia espanola e hispanoamericana ~~(1882-1932م)، والذي نشر في مدريد عام 1934م، وأعاد دودلي فتس # Dudley Fitts # استخدامه من ~~جديد 1942م في مختارات من شعر أمريكا اللاتينية المعاصر للعام # Anthology of Contemporary ~~Latin-American Poetry of ~~(1942م). # 2 # وقد أراد كلاهما الإشارة إلى رد فعل تجاه الحداثة كان كامنا داخلها، لكنه كان ~~ثانويا أو محدود الأثر. كما ظهر المصطلح في موجز سمورفيل # Somervell # لكتاب ~~أرنولد توينبي # A. Toynbee # دراسة التاريخ # A Study of History as early as D.C. # في العام 1947م. فقد اعتبر ~~توينبي أن «ما بعد الحداثة» مصطلح يصف دورة تاريخية جديدة تمر بها الحضارة الغربية، بدأت ~~حوالي العام 1875م، وأننا بدأنا بالكاد نستطلع ملامحها. وبعد ذلك بقليل، خلال الخمسينيات، ~~يحدثنا تشارلز أولسون # Charles Olson # عن ما بعد الحداثة بوصفها ثقافة غدت طاغية أكثر منها ~~تعريفا له ملامح محددة. # لكن المنظرون الأدبيون ليسوا مثل الأنبياء والشعراء في إحساسهم بوفرة الوقت. # 3 # ففي عامي 1959م و1960م، كتب إيرفينج هوي # Irving Howe # وهاري ليفين # Harry Levin # عن ~~ما بعد الحداثة بوصفها نكوصا عن الحركة الحداثية العظيمة. وخلال عقد الستينيات تم استخدام ~~المصطلح من قبل ليزلي فيدلر # Leslie Fiedler # ومن قبلي أنا، ومن قبل آخرين أيضا، باندفاع لا ~~يتسم بالنضج، بل وكذلك بلمسة من التهور. فقد أرادت فيدلر من خلال البوب Pop # الطعن في نخبوية ~~التقاليد الحداثية العالية. وأردت أنا استكشاف الدافع وراء التفكك الذاتي # Self-unmaking # الذي هو جزء من تقاليد الصمت الأدبية. # 4 # فالبوب والصمت، أو الثقافة الجماهيرية والتفكيك، أو - كما سأقول لاحقا - ~~المحايثة واللاتعين، قد تكون جميعها مظاهر لثقافة ما بعد الحداثة. ولكن يتوجب عليها انتظار ~~القيام بتحليل متأن لكل هذا. # إنني أدرك أن تلك الملاحظات لا يمكن أن تعطي تاريخ هذا الموضوع حقه. لكنني آمل أن تكون ~~قد قامت بمهمتها بغير تحريف أو تشويه. ثمة شيء واحد مؤكد بالنسبة لي: إن مسمى «ما بعد ~~الحداثة» قد اكتسب الآن استخداما واسع النطاق، إن لم يكن استخداما مضطربا. فقد ارتبط بالفن ~~والموسيقى والأدب والرقص والعمارة والتخطيط العمراني والاتجاهات الثقافية من كل ms216 نوع، بل إن ~~أحد الأشخاص، ممن حضروا محاضرة لي في اليابان عن ما بعد الحداثة، استخدم المصطلح بصورة ~~مبتكرة لوصف نوع جديد من السياسة. ~~(1-2) الإشكاليات المفاهيمية لما بعد الحداثة # بالإضافة إلى ما سبق، أجد أنني لم أذكر سوى القليل عن معضلة الإشكاليات المفاهيمية التي ~~تنبني عليها ظاهرة ما بعد الحداثة. ودعوني أحاول الآن تحديد تسع من تلك الإشكاليات، بادئا ~~بأكثرها وضوحا ووصولا إلى أشدها عسرا وتعقيدا. ~~(1) # ليست كلمة ما بعد الحداثة صعبة وغير مألوفة فحسب؛ بل هي تستحضر كذلك ما ترغب في تجاوزه ~~أو قمعه؛ أي الحداثة نفسها. وهكذا يحوي المصطلح عدوه داخله، على عكس مصطلحات مثل ~~الرومانسية # romanticism # والكلاسيكية # classicism # والباروك # baroque # والروكوكو # rococo ~~. وعلاوة على ذلك، ~~فإنه يوحي بالتواصل الزمني وفي نفس بالوقت بالتأخر والتدهور الذي لا يمكن أن يعترف به أي ~~منتم لتيار ما بعد الحداثة . ولكن ما هو الاسم الذي يصلح لهذا العصر الغريب الذي نحياه؟ عصر ~~الذرة أو الفضاء أو التليفزيون أو السيميائية أو التفكيكية؟ أم عصر اللاتعين، كما اقترحت ~~(اللاتعين في مقابل المحايث)؟ # 5 # أم هل يكون من الأفضل ألا نشغل أنفسنا بأمر تلك التسمية، وأن نتركها لمن ~~سيأتون بعدنا؟ ~~(2) # مثله مثل العديد من المصطلحات التصنيفية - من قبيل ما بعد البنيوية أو الكلاسيكية ~~والرومانسية - فإن مصطلح ما بعد الحداثة يعاني بعضا من اللااستقرار الدلالي: بمعنى أن ~~المفكرين لم يجمعوا على معناه. ومما يضاعف من صعوبة الأمر وجود عاملين؛ أنه مصطلح جديد ~~نسبيا، لم يبلغ الرشد بعد، وصلته الدلالية الوثيقة بالعديد من المصطلحات الجديدة غير ~~المستقرة أيضا. وهكذا يعني بعض النقاد بما بعد الحداثة ما يقصد به الآخرون ~~النزعة الطليعية # avant-gardism ~~، بينما لا يزال البعض الآخر يسميها ببساطة بالحداثة. وهو الأمر الذي يستدعي نقاشا. # 6 ~~(3) # يرتبط بذلك صعوبة أخرى تتعلق بعدم الاستقرار التاريخي للعديد من المفاهيم الأدبية، ~~وقابليتها المستمرة للتغيير. ~~فمن هذا الذي يجرؤ، في عصرنا هذا الذي يستشري فيه سوء الفهم، ~~على الزعم بأن كلا من كولريدج # Coleridge # وباتر Pater # ولفجوي # Lovejoy # وأبرامز # Abrams # ووبيكهام Peckham # وبلوم # Bloom # فهموا الرومانسية بالطريقة نفسها؟ هناك بالفعل بعض الأدلة - في ms217 ~~مقالاتي بشأن هذا الموضوع مثلا # 7 # على صعوبة الفصل بين ما بعد الحداثة والحداثة، بما يهدد إمكانية التمييز ~~بينهما. ولكن ربما قد تفيد هذه الظاهرة، التي هي قريبة الشبه بظاهرة «الانزياح الأحمر» # red shift # 8 # كما أسماها هابل # Hubble # في علم الفلك، في يوم من الأيام لقياس السرعة ~~التاريخية للمفاهيم الأدبية. ~~(4) # ليس ثمة ستار حديدي أو سور كسور الصين يفصل بين الحداثة وما بعد الحداثة؛ فالتاريخ ~~يتضمن طبقات متعددة من المعنى والتفاصيل، والثقافة تخترق الماضي والحاضر والمستقبل. إنني ~~أشك في أننا جميعا نجمع بين شيء من الفيكتورية والحداثة وما بعد الحداثة في آن واحد. ويمكن ~~بسهولة أن يكتب المؤلف الواحد عملا حداثيا وآخر ما بعد حداثي (التباين الواضح بين عملي جويس # Joyce # صورة الفنان في شبابه Portrait of the Artist as a Young Man # ويقظة فينيجان # Finnegans Wake ~~). وبصورة أعم، وعلى مستوى أعلى من التجريد السردي، ربما تكون الحداثة نفسها، ~~قادرة بالفعل على استيعاب الرومانسية، وأن ترتبط الرومانسية بالتنوير، وأن يرتبط التنوير ~~بعصر النهضة، وهكذا حتى تكتمل الدائرة، وصولا إلى اليونان القديمة. ~~(5) # هذا يعني أنه يتوجب علينا أن ننظر إلى أي مرحلة زمنية وفقا لآليتي التواصل والانقطاع؛ ~~حيث إن كلا الآليتين يكمل كل منهما الأخرى. الرؤية الأبولونية، المجردة الشاملة، لا تدرك ~~سوى التواصل التاريخي. والشعور الديونيسي، الحسي شبه المتبلد، لا يلمس سوى اللحظة المنفصلة. # 9 # وبالتالي تتطلب ما بعد الحداثة، من خلال الوجهين السابقين، النظر إليها دائما ~~بطريقة مزدوجة. فلا بد أن نضع في اعتبارنا، إذا أردنا أن نفهم التاريخ، ونستوعب (ندرك، نفهم) ~~التغيير، التشابه والاختلاف، الوحدة والتمزق، الخضوع والتمرد. ~~(6) # ولكن «الفترة الزمنية» لا يمكن النظر إليها على أنها مجرد فترة بإطلاق؛ بل هي بناء ~~تزامني وتعاقبي في آن واحد. وما بعد الحداثة ليست استثناء، مثلها في ذلك مثل الكلاسيكية أو ~~الرومانسية كما سبق القول؛ فهي تتطلب تعريفا زمنيا وتصنيفيا، تاريخيا ونظريا. وليس في ~~وسعنا أن نزعم على نحو فعلي وجود تاريخ محدد لها، وبالتالي لن نتمكن من تحديد «تاريخ» لها ~~على النحو الذي حددت به فيرجينيا وولف تاريخا للحداثة، عندما قالت: «في أو حوالي شهر ~~ديسمبر ms218 1910م.» وهكذا أيضا نكتشف باستمرار «أسلافا» عديدين لما بعد الحداثة لدى شتيرن ودوساد ~~وبليك ولوتريمون ورامبو وجاري وتزارا وهوفمنشتال وجيرترود شتاين، وجويس في أعماله المتأخرة، ~~وكذلك باوند في أعماله المتأخرة، ودوشامب، وأرتو، وروسي وباتاي وبورخ وكوينيو وكافكا. ما ~~يعنيه هذا هو أننا قد صنعنا في أذهاننا أنموذجا لما بعد الحداثة، ورموزا خاصة معينة للثقافة ~~والخيال، وانتقلنا بعدئذ من أجل «إعادة اكتشاف» صلات القربى بين مختلف المؤلفين ومختلف ~~العهود، استنادا إلى ذلك الأنموذج. بمعنى آخر، لقد أعدنا اختراع أسلافنا، ولسوف نفعل ذلك ~~دوما. ووفقا لذلك يمكن للكتاب الأقدم أن يكونوا ما بعد حداثيين: بيكيت وبورخيس ونابوكوف ~~وجومبروفيتس؛ كما يمكن ألا يكون الكتاب الأحدث منهم كذلك: مثل ستيرون وأبدايك وجاردنر. ~~(7) # كما رأينا، فإن أي تعريف لما بعد الحداثة يدعو إلى رؤية رباعية متكاملة الأطراف، تحوي ~~التواصل والانقطاع، والتعاقب والتزامن. ولكن أي تعريف للمفهوم يتطلب أيضا رؤية ديالكتيكية؛ ~~لأن الصفات التعريفية غالبا ما تكون متناقضة، وإهمال ذلك والانخراط في الواقعية التاريخية ~~يفضي إلى الوقوع في الرؤية الأحادية. والصفات المحددة جدلية ومتعددة في آن واحد؛ فانتقاء ~~سمة واحدة لتكون معيارا مطلقا لما بعد الحداثة يعني وضع بقية الكتاب الآخرين في غياهب ~~الماضي؛ وبالتالي لا يمكننا ببساطة أن نركن، كما سبق لي أن فعلت في بعض الأحيان، إلى القول ~~بأن ما بعد الحداثة تستعصي على التحديد أو أنها فوضوية أو تخلو من الإبداع؛ فمع أنها تتضمن ~~في الواقع كل هذا، إلا أنها تحتوي أيضا على ما يستدعي البحث عن «حساسية وحدوية» # unitary sensibility ~~(سونتاج)، وإلى «عبور الحدود وردم الهوة» (فيدلر)، وبلوغ محايثة الخطاب، كما ~~اقترحت أنا، والغنوصية الجديدة وراهنية العقل. # 10 ~~(8) # يقودنا كل هذا إلى مشكلة تحديد الفترة نفسها، وهي أيضا مشكلة التاريخ الأدبي في حال ~~التعامل معه كإدراك واع للتغيير. وفي الواقع، فإن مفهوم ما بعد الحداثة يفترض وجود نظرية ~~جديدة أو تغيير ثقافي ما. فأية نظرية يا ترى تكون الفيكونية # Viconian ~~؟ الماركسية؟ ~~الفرويدية؟ الدريدية؟ السيميائية؟ الكوهينية أم الانتقائية؟ هل توجب علينا بالتالي أن نترك ~~ما بعد الحداثة ms219 - الآن على الأقل - دون تعريف أو مفهوم محددين، والاكتفاء بالتعامل معها الآن ~~كنوع من «الاختلاف» الفني أو «الأثر» الثقافي؟ # 11 ~~(9) # آخر تلك المعضلات، وربما أكثرها وضوحا، هي قابلية ما بعد الحداثة للتوسع غير المحدد: ~~فهل ما بعد الحداثة مجرد نزعة أدبية، أم هي بالأحرى ظاهرة ثقافية، أو ربما لحظة تحول حقيقية ~~في الإنسانية الغربية بكافة جوانبها؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف لتلك الجوانب المختلفة لهذه ~~الظاهرة - النفسية والفلسفية والاقتصادية والسياسية - أن تلتقي وتتفرق؟ باختصار، هل يمكننا أن ~~نفهم ما بعد الحداثة في الأدب من دون بعض محاولات إدراك ملامح المجتمع ما بعد الحديث، ما ~~بعد الحديث كما تصوره توينبي؛ حيث يكون الاتجاه الأدبي الذي أناقشه هنا مجرد ضرب وحيد نخبوي منه؟ # 12 # ولا شك أن هناك مشاكل مفاهيمية أخرى أجد نفسي مترددا تجاه تناولها (هناك في الوقت الحاضر ~~جمع غفير من الأمور الاصطلاحية والمنهجية والأنطولوجية والإبستمولوجية، فمن يمكن أن يلوم أي ~~شخص على هذا التردد؟) لكنني أعترف أن ذلك قصور واضح يجعلني أقرب إلى الهواة. ~~(1-3) الاختلافات # يهدف الجدول التالي إلى تقديم بعض خصائص ما بعد الحداثة في مقابل الحداثة: # الحداثة # ما بعد الحداثة # الرومانسية/الرمزية # ما بعد الطبيعة/الدادئية # الشكل (متصل ومغلق) # اللاشكل (متقطع ومفتوح) # قصد # لعب # تخطيط # مصادفة # تراتبية # فوضى # قوة/لوغوس # ضعف/صمت # موضوع الفن/عمل منته # عملية/أداء/حدث # مسافة # مشاركة # إبداع/شمولية # هدم/تفكيك # تركيب # تفكك # حضور # غياب # تمركز # تشتت # نوع/حدود # نص/تداخل النصوص # نموذج معياري # سياق # ترتيب بواسطة روابط # ترتيب بدون روابط # استعارة # كناية # انتقاء # مزج # جذر/عمق # جذمور/سطح # تفسير/قراءة # ضد التفسير/قراءة محرفة # مدلول # دال # المقروء # المكتوب # السرد # ضد السرد # الآب الرب # الروح القدس # سمة # رغبة # تناسلي/ذكوري # متعدد الأشكال/مخنث # جنون العظمة # الفصام # الأصل/السبب # الاختلاف/الأثر # ميتافيزيقا # سخرية # حتمية # لا حتمية # محايثة # مفارقة # يعتمد الجدول السابق على أفكار مختلفة من حقول معرفية عديدة؛ البلاغة واللغويات ونظرية ~~الأدب والفلسفة والأنثروبولوجيا والتحليل النفسي والعلوم السياسية، وحتى اللاهوت؛ كما يعتمد ~~على العديد من الكتاب ms220: دي سوسير وياكوبسون وليفي شتراوس وروب جرييه ولاكان ودريدا وفوكو ~~ودولوز وبارت وكريستيفا، فضلا عن أورباخ ودي مان وكيج وكابرو وبراون وشتاينر وبارت وبلوم ~~وسونتاج وروزنبرج؛ وكتاب آخرين أنا واحد منهم. غير أن هذه القائمة ~~خادعة؛ لأن تلك ~~الاختلافات دائمة التبدل والإرجاء، بل إنها تتلاشى أحيانا؛ بالإضافة إلى أن المفاهيم في كلا ~~العمودين ليست متناظرة؛ وهي مليئة بالتقابلات والاستثناءات العديدة. ومع هذا، يظهر النزوع ~~نحو «اللاتحدد» في العمود الثاني، الذي يشير إلى ما بعد الحداثة، بصورة أكبر مما هو موجود ~~في العمود الأيسر - غير أن هذا لا يضفي مزية معينة إلى العمود الثاني. # على كل، هناك خمسة افتراضات تشكل وسائل مساعدة قد تعيننا على فهم ثقافة ما بعد الحداثة. ~~فهل يمكننا أن نتجاوز الآن الجدول السابق، إلى الحديث عن مفهوم ثقافي لما بعد الحداثة؟ لم ~~يتبق لي كثير من المساحة هنا، وسأكتفي بعرض هذه الافتراضات، التي أجد في إيجازها حيلة ~~للهروب من النقد: ~~(1) # تعتمد ما بعد الحداثة على التحول الأنسني الصارخ الذي حدث على كوكب الأرض؛ حيث الإرهاب ~~والاستبداد، الجزئيات والكليات، الفقر والسلطة، كل منها الآخر. قد تكون النهاية كارثية و/أو ~~بداية حقيقية لهذا الكوكب؛ عهدا جديدا «للواحد والكثرة»، كما اعتاد أن يردد الفلاسفة السابقون ~~على سقراط. # 13 ~~(2) # تستند ما بعد الحداثة على المد التكنولوجي للوعي، وهو شكل من أشكال غنوصية القرن العشرين، # 14 # يسهم فيه الكمبيوتر وجميع وسائل إعلامنا المختلفة (بما في ذلك الوسيط العجيب ~~الذي نسميه تليفزيون). والنتيجة هي وجهة نظر مفارقة تنظر إلى الوعي كما لو كان مجرد معلومة، ~~وتنظر إلى التاريخ كما لو كان مجرد حدث. ~~(3) # تكشف ما بعد الحداثة، في ذات الوقت، عن نفسها في تشتت لغة الإنسان في كل مكان. «عودة» ~~إلى لحظة الخلق الأصلية (الانفجار الكبير # Big Bang ~~)، «نزوحا» إلى حافة الانحسار في الكون ~~(النجوم الزائفة # quasars ~~)، «داخل» الثقوب السوداء # black holes # في الفضاء أو اللاوعي ~~(لاكان) - بديلا عن محايثة العقل والخطاب في المرحلة الحداثية. وربما يكون هذا هو الجانب ~~الأكثر وضوحا من الغنوصية الجديدة. ~~(4) # كما يمكن الحديث عن ms221 ما بعد الحداثة، بوصفها شكلا من أشكال التحول الأدبي، الذي يمكن ~~تمييزه عن الأشكال التقليدية للتيارات الطليعية (التكعيبية والمستقبلية والدادائية ~~والسريالية، وما إلى ذلك) فضلا عن الحداثة. ولأنها ليست منعزلة أو مفارقة مثل الأخيرة (أي ~~الحداثة) ولا هي بوهيمية ومنقسمة مثل الأولى (التيارات الطليعية)، فإن ما بعد الحداثة تؤسس ~~ذاتها في منطقة مختلفة تقع بين الفن والمجتمع. وهذا ما يقودني إلى النقطة النهائية. ~~(5) # بوصفها ظاهرة فنية فلسفية إيروتيكية اجتماعية، تميل ما بعد الحداثة إلى القوالب أو ~~الأشكال المنفتحة ... اللعوب ... الانتقائية ... المتقطعة ... غير المحددة، خطاب تشظ، وأيديولوجية ~~تجزئة، وإرادة «اللافعل»، واحتجاج الصموتيين على كل هذا - ومع هذا فهي تضمر ما في كل هذا من ~~أضداد وواقع متناقض. وكأن «في انتظار جودو» وجدت صدى، إن لم يكن إجابة، في «السوبرمان». # 15 # لا يسع المرء في النهاية إلا أن يتساءل : هل تصبح بعض التحولات المعرفية والاجتماعية - تلك ~~التي تشمل الفنون والعلوم، والثقافة العليا والدنيا، والمبادئ الذكورية والأنثوية، والأجزاء ~~والكليات - فاعلة بيننا على كافة المستويات؟ بوسعنا أن نخمن ونخمن: فلن تصبح تلك الكتابة غير ~~المرئية، «حبر الزمن»، مقروءة إلا بوصفها تاريخا. ms222